سادساً - لو أن اللّه صار إنساناً
لكان تأثيره شاملاً ودائماً
لا تزال شخصية المسيح - بعد ألفي سنة - تترك تأثيرها على البشر، ففي كل يوم يختبر بعض الناس اختبارات ثورية مع يسوع!
ويقول كنث لاتوريت المؤرخ العظيم: الفهم المسيحي للتاريخ لا ينكر التقدم.. وكلما مضت القرون تجمَّعت الأدلة - من تأثير المسيح في التاريخ - على أن يسوع هو أعظم من عاشوا تأثيراً على الناس، ويبدو أن هذا التأثير يتزايد (30).
ويضيف فيليب شاف: بدون مال أو أسلحة هزم يسوع الناصري ملايين أكثر من الاسكندر وقيصر ونابليون. وبدون علوم أفاض نوراً على الأمور الزمنية والأمور السماوية أكثر من كل الفلاسفة والعلماء مجتمعين، وبدون دخول مدرسة بلاغة تحدث بكلمات الحياة كما لم يتحدث أحد من قبل، وأثَّر في سامعيه كما لم يؤثر شاعر أو خطيب، وبدون أن يكتب سطراً واحداً دفع أقلاماً كثيرة لتكتب، وقدَّم أفكار عظات وخطب ومناقشات ومجلدات وأعمال فنية وترانيم وتسابيح أكثر من كل الأبطال والعظماء عبر العصور القديمة والحديثة (6) ويقول مارتن سكوت: إن تأثير يسوع على الناس اليوم قوي كما كان قوياً وقت أن كان على الأرض (9).
لقد صرف على الأرض ثلاث سنوات فيها تتركَّز أعمق معاني التاريخ والدين، ولم تمضِ حياةٌ بمثل هذه السرعة والهدوء والتواضع، ولكنها أثارت اهتمام الفكر الإنساني بصورة شاملة (7).
وعندما ترك يسوع الأرض قال لتلاميذه إنهم سيعملون أعمالاً أعظم من تلك التي عملها هو. وقد حقّقت القرون صدق هذا القول! ولا يزال يسوع يعمل اليوم في عالمنا (أشياء أعجب مما فعل وهو على الأرض)، من خلال أتباعه. فهو يفتدي الناس ويغيّر حياتهم للأفضل، متقدماً بهم إلى كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر لخير البشر في مختلف الميادين.
ولنا كل الحق أن نشير إلى تأثير يسوع العظيم، لا كمسألة في الماضي، بل كأمر يلمس الحياة في كل جوانبها، اليوم è(29).
ويقول وليم ليكي: حضّ الأفلاطونيون الناس على الاقتداء باللّه، وحضّهم الرواقيون على اتّباع العقل، وحضَّهم المسيحيون على حب المسيح. أما الرواقيون المتأخرون فقد جمعوا الصفات الممتازة في حكيم نموذجي. وحض أبكتيتوس تلاميذه أن يتمثّلوا أمامهم شخصاً عظيماً يتخيلونه قريباً منهم. على أن حكيم الرواقيين النموذجي كان شخصاً يحاولون محاكاته، دون أن يتحول إعجابهم به إلى حب. لكن المسيحية وحدها قدمت للعالم الشخصية النموذجية، التي - بالرغم من تغيُّرات ثمانية عشر قرناً - ألهمت قلوب الناس بالحب الصادق، وعملت في كل العصور والأمم والأمزجة والظروف. فهي لم تقدم أسمى نماذج الفضيلة فحسب، بل وأعظم الدوافع على ممارستها.
صرفت هذه الشخصية ثلاث سنوات قصيرة عامرة بالنشاط أثَّرت في تجديد البشر وتهذيبهم أكثر مما فعلت كل بحوث الفلاسفة ومواعظ رجال الأخلاق، وكانت هذه الشخصية هي نبع أفضل ما في الحياة المسيحية. وفي وسط الخطايا والسقطات والشعوذات والاضطهادات والتعصُّبات التي شّوَهت الكنيسة، حفظت في شخص مؤسّسها ومثاله، القوة الدائمة الفعالة في التجديد (23).
إن الآلاف والملايين اليوم. كما في كل العصور، يشهدون لقوة المسيحية ومجدها في معالجتها للخطية والشر. وهذه الحقائق تقف قوية لتُقنع كل من يريد أن يتعلم.. إن إنجيلاً خامساً يُكتب الآن، هو عمل يسوع المسيح في حيوات وقلوب الناس والأمم (29).
وقال نابليون: يسوع وحده نجح في السمو بفكر الناس إلى غير المنظور فوق حدود الزمن والمسافات. إنه يطلب ما يصعب عمله، وما لا تقدر الفلسفة على الوصول إليه، وما يفشل الصديق في الحصول عليه من صديقه، والأب من أولاده، والعريس من عروسه، والرجل من أخيه! إنه يطلب القلب البشري كله بدون قيد ولا شرط ليكون قوة في مملكة المسيح. وكل من يؤمنون به بإخلاص يختبرون حباً فوق الطبيعي له، وهي ظاهرة تفوق خيال البشر. ولا يقدر الزمن بكل تأثيره الهدَّام أن يستنزف قوة هذه المحبة أو يضع حداً لها (2).
لكن: هل تناسب المسيحية كل الناس في كل العصور وكل الشعوب؟ هل تناسب المتعلّم والجاهل؟ هل يستطيع جميع الناس في كل مكان أن يستوعبوا مبادئها؟
الحقيقة أنه حيثما يكون المسيح فهو السيد، يطالب الناس بالتضحية فيضحّون. إن دعوته خالية من التعصّب، تقود الناس إلى كل عمل صالح وعظيم، مهما تضمَّن من تضحية. قال نابليون: طبيعة المسيح مملوءة بالأسرار، لكنها أسرار تقابل احتياجات الناس. ولو رفضْتَ المسيح لصار العالم لغزاً لا يُفهم، ولو آمنت به لوضح لك تاريخ جنسنا البشري بدرجة كافية (22).
ومنذ وقت المسيح لم يقدّم أحد - رغم كل ما بلغه الفكر الإنساني من تقدّم - فكراً واحداً أخلاقياً جديداً للعالم! ولا عجب فإن رسالة المسيح تتميَّز بثلاثة أشياء عظيمة، هي: التوبة والثقة والمحبة، وهذه الثلاثة تجعل الرسالة مناسبة لكل عصر ومكان وعمر. ولقد جذبت المسيحية الملايين من أفضل مفكري الجنس البشري، ولم يمنع تقدّمُها تيارَ تقدّم البشرية (29) وقد ظل شخص مؤسسها العامل المستمر في انتشارها وتقدمها. وكان ولاء أتباعه له وتعبّدهم لشخصه هما العامل القوي في وحدتهم رغم كل الظروف واختلاف الآراء. ولا عجب أن يقول دافيد ستراوس: سيبقى المسيح أعلى نموذج للديانة يمكن أن يصل إليه فكرنا، ولا يمكن أن يصل إنسان إلى التقوى بدون وجود المسيح في قلبه (6).
ويقول وليم تشاننج: إن حكماء التاريخ وأبطاله يخفت ضوؤهم شيئاً فشيئاً، وبمرور الزمن يتصاغر الحيّز الذي يشغلونه من التاريخ. أما يسوع المسيح فليس لمرور الزمن من أثر على اسمه أو أفعاله أو أقواله .
وقال عنه أرنست رينان: يسوع هو أعظم عبقري ديني عاش على الأرض. جماله خالد ومُلْكه لن ينتهي. إنه فريد من كل جهة، ولا يمكن مقارنته بشيء .. وكل التاريخ غير قابل للفهم بدون المسيح (22).
وقال رام: أن يقول النجار الجليلي إنه نور العالم، وأن يبقى هذا القول معتَرفاً به بعد هذه القرون الكثيرة، أمرٌ لا يمكن تفسيره إلا على أساس ألوهيته (26) .
وإليك مقالتين مشهورتين كُتبتا فيه:
المقالة الأولى عنوانها: حياة واحدة فريدة تقول:
هنا رجل وُلد في قرية مغمورة لأم ريفية، ونشأ في قرية أخرى، وعمل في دكان نجار حتى بلغ الثلاثين من العمر، ثم ظل ثلاث سنوات يتجّوَل كارزاً. لم يمتلك في حياته بيتاً، ولم يكتب كتاباً، ولم يشغل وظيفة، ولم يكّوِن أسرة، ولم يدرس في جامعة، ولم يضع قدميه في مدينة كبيرة، ولم يسافر بعيداً عن مسقط رأسه بأكثر من مائتي ميل، ولم يعمل عملاً واحداً من تلك التي تواكب العظمة حسب مألوف العالم، ولم تكن له أوراق اعتماد إلا نفسه! عندما كان شاباً وقف ضده الرأي العام، وهرب أصحابه منه، وأنكره واحد منهم، وأسلمه لأعدائه، فدخل في مهزلة المحاكمة، وسمَّروه على صليب بين لصَّين. وبينما كان يموت قامر جلاّدوه على الشيء الوحيد الذي كان يملكه على الأرض: على ردائه! وعندما مات أنزلوه ليدفنوه في قبر مُستعار قدَّمه صديق له من باب الشفقة!
وقد جاءت تسعة عشر قرناً طويلة ومضت، وهو لا يزال مركز الجنس البشري، وقائد تقدُّمه. إن كل الجيوش التي سارت، وكل الأساطيل التي بُنيت، وكل البرلمانات التي انعقدت، وكل الملوك الذين حكموا، كل هؤلاء مجتمعين معاً، لم يؤثروا في حياة الناس بالقوة التي أثرت بها فيهم هذه الحياة الواحدة الفريدة .
أما المقالة الثانية فعنوانها المسيح الذي لا نظير له وهي تقول:
منذ تسعة عشر قرناً مضت وُلد إنسان على خلاف قوانين الحياة، عاش في فقر ونشأ مغموراً. لم يسافر بعيداً، ولم يعبر حدود البلاد التي وُلد فيها إلا كطفل طريد.
لم يملك ثروة ولا نفوذاً، وكان أهله مغمورين. لم يتلقَّ تعليماً رسمياً ولا تدريباً، غير أنه في طفولته أرعب ملكاً، وفي صبّوته أدهش العلماء، وفي رجولته سيطر على زمام الطبيعة، وسار على الأمواج كأنها طريق معبَّد، وسكَّت البحر فهدأ. شفى الجماهير بدون دواء، ولم يتقاضَ مقابلاً لخدماته.
لم يكتب كتاباً، ولكن كل مكتبات الدولة لا تقدر أن تسع الكتب التي كُتبت عنه، ولم يؤلف ترنيمة، ولكنه أوحى بأفكار الترانيم أكثر مما فعل كل كتّاب الأغاني مجتمعين! ولم يؤسس كلية، لكن كل المدارس مجتمعة معاً ليس بها من التلاميذ مثل ما له.
لم يسيّر جيشاً، ولم يجنّد جندياً، ولم يطلق بندقية، ولكن لم يكن لقائد غيره جنود متطوعون تحت إمرته مثلما له، حتى أن العصاة المتمردين ألقوا بأسلحتهم دون أن يطلقوا طلقة واحدة.
لم يمارس الطب النفسي، ولكنه شفى من القلوب الكسيرة أكثر ممن شفاهم كل الأطباء في كل العالم. وتتوقف عجلة التجارة مرة كل أسبوع لتتمكن الجماهير من أن تجد طريقها لمحال عبادته، لتقدم له الخشوع والإكرام.
لقد ظهرت أسماء رجال الدول المشهورين في اليونان وروما واندثرت، وظهرت أسماء علماء وفلاسفة ولاهوتيين واختفت، ولكن اسم هذا الإنسان في تعاظم مستمر. ومع أنه قد مضت تسعة عشر قرناً منذ صلبه، إلا أنه لا يزال يحيا. لم يستطع هيرودس أن يحطمه، ولم يقدر القبر أن يمسكه!
إنه يقف على أعلى قمة المجد السماوي، بإعلان واضح من اللّه، تعترف به الملائكة، ويتعبد له القديسون، وتخافه الأبالسة، لأن يسوع المسيح الحي هو الربّ والمخلِّص .