رابعاً - مشاهد حول حادثة القيامة

 

1 - المسيح مات:

يسجل مرقس ما يلي بعد محاكمة المسيح:

فَبِيلَاطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ بَعْدَمَا جَلَدَهُ لِيُصْلَبَ. a>فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ الّتِي هِيَ دَارُ الْوِلَايَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلَامُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. وَبَعْدَمَا استَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الْأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ (مرقس 15: 15 - 20).

ولكي يُجلد المجرم كانوا يجرّدونه من ثيابه ويربطونه إلى عامود، ثم تنهال عليه الضربات الوحشية من عساكر متخصّصين. ومع أن اليهود كانوا يحددون عدد الجلدات بأربعين، إلا أن الرومان لم يجعلوا للجلدات حدوداً، فكان المجلود تحت رحمة جلاَّديه. وكان سوط الجلد ذا نهايات بها قطع معدنية تمزق بدن المجلود. وقد وصف الأسقف يوسابيوس القيصري (ومؤرخ الكنيسة من القرن الثالث الميلادي) آثار الجَلْد بقوله إن عضلات وأعصاب وأحشاء المجلود كانت تبرز من مكانها.

وبعد أن احتمل المسيح آلام الجلد، كان عليه أن يحمل صليبه إلى الجلجثة مكان الصلب..

1 - ولا بد أن التجهيز لهذه المسيرة كان سبب ألم شديد للمسيح، فيقول متى: وَبَعْدَ مَا استَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ (متى 27: 31). ولا شك أن نزع الرداء وإلباسه ثيابه على الجروح سبَّبت الألم الكثير.

2 - إن عبارة مرقس وجاءوا به إلى موضع جلجثة (مرقس 15: 22) تعني أن يسوع عجز عن السير، فحملوه قسراً إلى موضع الصلب! وهكذا انتهت آلام التجهيز للصلب، لتبدأ عذابات الصلب نفسه (8)!.

ويسجل مرقس قصة الصلب، فيقول:

وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ جُلْجُثَةَ الّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ جُمْجُمَةٍ . وَأَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ فَلَمْ يَقْبَلْ. وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوباً مَلِكُ الْيَهُودِ . وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ . وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُّزُونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ! خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ! وَكَذ لِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ قَالُوا: خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. لِيَنْزِلِ الْآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ . وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ.

وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟ (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِل هِي إِل هِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا . فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلَأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً: اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ! a>فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ: حَقّاً كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللّهِ! (مرقس 15: 22 - 39).

إن أهوال الصليب أرهب من كل تصّوُر، حتى أن شيشرون خطيب روما الشهير يقول: يجب ألا ترِدَ كلمة الصليب على شفاه مواطني روما، بل يجب ألاَّ تخطر على بالهم أو تمرّ أمام عيون خيالهم أو تطرق مسامعهم .

بعد أن قضى يسوع ليلة بلا نوم، لم يُعطَ خلالها أي طعام، واحتمل السخرية في محاكمتين، وجُلد بفظاعة، حملوه إلى مكان الصلب، أشنع وسيلة للإعدام، فيه كانت كل خلايا جسد المصلوب تصرخ من الألم.

كان موت الصليب يحمل العذاب كله: الدوخة، التوتر، العطش، الجوع، عدم النوم، الحمى، التسمُّم، الخزي والعار، استمرار التعذيب، الموت البطيء من الجروح... آلام رهيبة خالية من أي أثر للرحمة ولكنها دون حد الإغماء فلا يمكن للمصلوب أن يستريح ولو قليلاً من آلامه.

وكان وضع المصلوب عذاباً، فكل جسمه مشدود، وجروحه معرَّضة للجّو والحشرات.. وتحتقن رأسه ورئتاه بالدماء، ويزيد العطش الشديد المستمر آلامه.. كل هذه الآلام تجعل من لحظة الموت رحمة!

وقد استغرب بيلاطس لما عرف بسرعة موت المسيح، فسأل قائد المئة الذي قال إنه مات فعلاً. وكان الجنود الرومان يعرفون ما هو الموت، بعد أن مارسوه في كل مكان. وكانت العادة أن يفحص المصلوب أربعة من جلاديه ليعطوا شهادة بوفاته. ولا بد أن الأربعة فحصوا جسد يسوع وتأكدوا تماماً من موته، قبل أن يسمح بيلاطس ليوسف الرامي أن يأخذه (6).

وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ: حَقّاً كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللّهِ,,, فَتَعَجَّبَ بِيلَاطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟ وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ (مرقس 15: 39 و44 و45).

ولا شك أن الجنود الذين أنزلوا الجسد تأكدوا أن صاحبه قد مات.

ويقول البشير يوحنا إن العسكر لَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. ل كِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ (يوحنا 19: 33 ، 34).

ويقول الدكتور صموئيل هفتن أستاذ الفسيولوجيا من جامعة دبلن، التعليقات التالية على موت المسيح:

عندما طعن الجندي جنب المسيح كان قد مات، وخروج الدم والماء قد يكون ظاهرة طبيعية قابلة للتفسير، أو أنه معجزة. ويبدو من رواية يوحنا أنه لو لم تكن هذه معجزة فإنها على الأقل ليست ظاهرة عادية، ويظهر هذا من تعليق يوحنا على هذا بأنه كان شاهد عيان صادق للرواية.

ومن ملاحظاتي على الإنسان والحيوان في معمل التجارب وجدت النتائج التالية: عندما يُطعن الجسد في الجانب الأيسر، بعد الوفاة، بسكين كبيرة تساوي في الحجم حربة الجندي الروماني، فإن النتائج التالية يمكن أن تحدث:

1 - لا يخرج شيء إلا قطرات قليلة من الدم.

2 - يخرج سيل من الدم فقط من الجرح.

3 - دفق من الماء فقط تتبعه قطرات قليلة من الدم.

وفي هذه الحالات الثلاث تغلب الحالة الأولى. أما الحالة الثانية فتحدث في حالات الموت غرقاً أو بتسمّم الاستركنين. وقد تحدث في الحيوان الذي يموت بهذا السم، ويمكن البرهنة على أنها الحالة العادية للشخص المصلوب. أما الحالة الثالثة فتحدث في حالة الموت بذات الجنب أو التهاب التامور أو تمزق القلب.

وهناك حالتان لم تُسجلا في كتب (إلا في إنجيل يوحنا) ولم يكن من حظي أن ألتقي بهما:

4 - سيل غزير من الماء يتبعه سيل غزير من الدم، عند الجرح.

5 - سيل غزير من الدم يتبعه سيل غزير من الماء، عند الجرح.

ويُحدث الصَّلب احتقان الرئتين بالدم كما في حالة الغرق أو التسمم بالاستركنين. وتحدث الحالة الرابعة للمصلوب الذي يعاني قبل الصلب من حالة انسكاب رئوي. أما الحالة الخامسة فتظهر في المصلوب الذي يموت على الصليب نتيجة انفجار أو تمزق في القلب. ودراسة تاريخ الأيام الأخيرة من حياة المسيح، تظهر أنه لم يكن مصاباً بحالة انسكاب رئوي قبل الصلب. وعلى هذا لا يبقى أمامنا إلا احتمال خروج الدم والماء من جنب المسيح بسبب الصلب وتمزق القلب أو انفجاره. وأعتقد أن هذا الفرض الأخير هو الصحيح، ويتفق معي فيه الدكتور وليم ستراود ِStroud (9).

ويمضي الدكتور هفتن فيقول إن يوحنا لم يكن في إمكانه أن يخترع قصة خروج الدم والماء، فإن روايته رواية شاهد عيان يتعجب مما يراه، ويعتبر أن معجزة قد صاحبت الصلب (9).

مع أن هذه الطعنة في جنب المسيح، لو جاءته وهو حي لتدفَّق دم فقط مع كل نبضة من قلبه، لكن هذه الرواية الإنجيلية من البشير الذي لم يدرس الباثولوجي تبرهن لنا أن المسيح قد مات فعلاً (6).

وأخذ يوسف جسد يسوع بعد أن تأكد بيلاطس من قائد المئة أن يسوع قد مات، ولفَّه بالأكفان مع الأطياب، وهذا برهان على موت يسوع، فإن رائحة الأطياب النفاذة كانت تعيد إليه صوابه لو أنه كان مغمى عليه. إن لف جسده بثوب كتاني وتغطية وجهه بمنديل كما لليهود عادة أن يُكفّنوا برهان على موت المسيح.

ولو أن المسيح كان حياً ووُضع في القبر المنحوت في الصخر لمات فيه، لأنه عندها سيحتاج إلى الهواء الطلق، كما أن رائحة الأطياب كانت ستؤثر عليه تأثيراً مميتاً.

لقد مات يسوع مصلوباً وَالذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ (يوحنا 19: 35).

2 - القبر:

يذكر البشيرون الأربعة القبر 32 مرة وهم يروون قصة القيامة، لأن القبر الفارغ كان موضع اهتمامهم البالغ.

لم يكن الرومان يهتمون بدفن المصلوب، بل كانوا يتركون جثته للطيور. لكن اليهود كانوا يهتمون بدفن الميت. صحيح أنه كانت هناك استثناءات لهذه القاعدة، لكن العادة المتَّبعة كانت دفن المصلوب. وكان أفراد العائلة يتقدمون لدفن الجسد، أما في حالة المسيح فقد تقدم يوسف الرامي ليدفن الجسد.

وقد وصف يوسابيوس القيصري - أبو التاريخ الكنسي - قبر المسيح الذي اكتشفته الامبراطورة هيلانة، قال: أما القبر نفسه فكهف محفور في الصخر، لم يحدث أن دُفن فيه أحد آخر. ومن المدهش أن ترى هذه الصخرة قائمة وحدها على أرض مستوية بها كهف واحد. ولو كان هناك أكثر من كهف لصارت معجزة قيامته غامضة .

وقال رجل الحفريات ويليس الأستاذ بجامعة كامبريدج وصفاً لقبور ذلك الزمن: هناك حفر مجّوَف بعمق بوصة أو بوصتين ليوسَّد فيه الجسد، ومكان مرتفع كالوسادة لتُوضع عليه الرأس. وتوجد فتحة مستطيلة الشكل في واجهة القبر، عتبتها السفلى أعلى من أرضية القبر، ويسمح اتساعها بمرور الجسد إلى الداخل وأعلاها مقّوَس (10).

ويقول الأستاذ جوينبر في كتابه يسوع صفحة 500 العبارة التالية: الحق أننا لا نعرف، وغالباً لم يكن التلاميذ أنفسهم يعرفون أين أُلقي جسد يسوع بعد إنزاله من على الصليب بواسطة جلاديه على الأرجح. والأغلب أنه أُلقي في حفرة المصلوبين، أكثر من أنه قد وُضع في قبر جديد (3).

1 - وهذا الأستاذ لا يقدم أي برهان على صِدْق نظريته.

2 - كما أنه يغفل شهادة شهود الأحداث الموجودة في الكتابات الدنيوية والكنسية من القرون الثلاثة الأولى.

3 - وهو يغفل قصة الأناجيل الواضحة.

(ا) لماذا نجد الحقائق التالية، إن لم يكن يوسف الرامي قد أخذ الجسد فعلاً؟

وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. فَهذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلَاطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ (متى 27: 57 ، 58).

وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ الِا سْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ - جَاءَ يُوسُفُ الّذِي مِنَ الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللّهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَتَعَجَّبَ بِيلَاطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟ وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَو (مرقس 15: 42 - 45).

وَإِذَا رَجُلٌ اسمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً - هذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللّهِ. هذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ (لوقا 23: 50 - 52).

ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَل كِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، سَأَلَ بِيلَاطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ بِيلَاطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ (يوحنا 19: 38).

إن هذه الروايات واضحة. لم يحدث أن أُلقي جسد يسوع في حفرة.

(ب) ثم ماذا عن تجهيز يسوع للدفن؟

فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ (متى 27: 59).

فَا شْتَرَى كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِا لْكَتَّانِ (مرقس 15: 46).

وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ (مرقس 16: 1).

َتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً (لوقا 23: 55 ، 56).

ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَنِيقُودِيمُوسُ، لَّذِي أَتَى أَّوَلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الْأَطْيَابِ، كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا (يوحنا 19: 38 - 40).

لماذا تُسجَّل هذه الحقائق إن لم تكن الاستعدادات للدفن قد جرت فعلاً؟

(ج) وماذا عن النسوة اللاتي راقبن يوسف الرامي ونيقوديموس يكفّنان الجسد ويضعانه في القبر؟

وَتَبِعَتْهُ,,, وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُوتبعنه.. ونظرن القبر وكيف وُضع جسده (لوقا 23: 55).

وَكَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الْأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ الْقَبْرِ (متى 27: 61).

وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ (مرقس 15: 47).

لقد عرفت النسوة مكان القبر. هذا واضح من القصة.

(د) وكيف نتجاهل المعلومات التي وردت عن القبر؟

وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ وَمَضَى (متى 27: 60).

وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ (مرقس 15: 46).

وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ (لوقا 23: 53).

وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ (يوحنا 19: 41).

ونلاحظ ما يأتي:

متى يقول إن القبر كان خاصاً بيوسف. يوحنا يقول إنه في بستان في الموضع الذي صُلب فيه يسوع. وكلهم ما عدا مرقس يقولون إن القبر كان جديداً. ولكن يوحنا لا يذكر أن القبر كان ملكاً ليوسف.

أما السبب الذي جعل يوسف يطلب الجسد فهو قُرب قبره من مكان الصلب، وكان الاستعداد للسبت يستوجب السرعة.

لقد كان القبر محفوراً في صخر ولم يكن كهفاً طبيعياً، ولم يكن محفوراً إلى أسفل، بل أفقياً في الصخر.

(ه ) لماذا طلب اليهود من بيلاطس أن يضع حرَّاساً على القبر، إن لم يكن هناك قبر؟

وَفِي الْغَدِ الّذِي بَعْدَ الِا سْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلَاطُسَ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذ لِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلَّا يَأْتِيَ تَلَامِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلَالَةُ الْأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الْأُولَى! فَقَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ . فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِا لْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ (متى 27: 62 - 66).

ولو أن جسد المسيح أُلقي في حفرة المجرمين ما كان هناك داعٍ لحراسة القبر.

(و) ثم ماذا عن زيارة النسوة، للقبر صباح الأحد؟

وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَّوَلِ الْأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الْأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ (متى 28: 1).

وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَّوَلِ الْأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ (مرقس 16: 2).

ثُمَّ فِي أَّوَلِ الْأُسْبُوعِ، أَّوَلَ الْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلَاتٍ الْحَنُوطَ الّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ (لوقا 24: 1).

وَفِي أَّوَلِ الْأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظَّلَامُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ (يوحنا 20: 1).

لو أن يسوع لم يُدفن في قبر يوسف الرامي، ما كانت هناك حاجة لمجيء النسوة.

(ز) ثم ماذا نقول عن زيارة بطرس ويوحنا للقبر بعد أن سمعا أخبار النسوة؟

فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ، فَا نْحَنَى وَنَظَرَ الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ (لوقا 24: 12).

فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الْآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. وَكَانَ الِا ثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الْآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَّوَلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَانْحَنَى فَنَظَرَ الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَل كِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَالْمِنْدِيلَ الّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الْأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الْآخَرُ الّذِي جَاءَ أَّوَلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ (يوحنا 20: 3 - 8).

(ح) إن جوينبر ينكر ما تذكره الأناجيل الأربعة بوضوح من أن جسد يسوع وُضع في قبر يوسف الرامي، ولكنه لا يورد أدلة على إنكاره، ويجيء بكلمات من خياله، نابعة من تفكيره وفلسفته لا من التاريخ، ذلك لأنه ينكر حدوث المعجزات (3).

3 - الدفن:

المعلومات التي عندنا عن دفن المسيح في قبر يوسف الرامي تفوق في تفصيلاتها أي معلومات تاريخية عندنا عن دفن أي شخص آخر، سواء من العهد القديم، أو ملوك بابل، أو فراعنة مصر، أو فلاسفة الأغريق، أو قياصرة الرومان. إننا نعرف من أخذ جسده من على الصليب، ونعلم شيئاً عن تعطير جسده بالأطياب وعن أكفانه، ونعرف القبر الذي دُفن فيه واسم صاحبه، يوسف الرامي، ونعرف أن موضع القبر كان في بستان قريب من مكان الصلب، خارج أسوار المدينة. وعندنا أربعة سجلات تاريخية عن الدفن، تتوافق كلها، واحد منهم هو متى تلميذ المسيح الذي حضر حادثة الصلب. والثاني مرقس الذي كتب قصته بعد صعود المسيح بأقل من عشر سنوات. والثالث لوقا رفيق بولس والمؤرخ العظيم. والرابع يوحنا آخِر من غادر مكان الصلْب، وكان مع بطرس، أول التلاميذ الاثني عشر، اللذين رأيا القبر الفارغ (3).

ويقول المؤرخ ألفرد إدرشايم: لم يكن الأغنياء وحدهم هم الذين يملكون قبوراً خاصة، بل كان متوسِّطو الحال يفعلون ذلك، كانوا يجهزون القبر قبل الحاجة إليه بوقت طويل. وكانوا يحفرون القبور في الصخور ويضعون فيها الجسد بعد تعطيره بالأطياب والحنوط وماء الورد وزيته. وكانوا يلفّون الجسد بالأكفان، وفي أقمشة قديمة تكون غالباً قد سبق أن لُفَّت بها كتب الشريعة. وكانت القبور أحياناً كهوفاً طبيعية (11).

ويقول إدرشايم عن دفن المسيح: لعله بسبب اقتراب السبت وضرورة الاستعجال، أن يوسف الرامي اقترح دفن المسيح في قبره الجديد الذي لم يسبق لأحد أن وُضع فيه. وأُنزل الصليب إلى مستوى الأرض، وجُذبت منه المسامير الخشنة. ولفَّ يوسف الرامي ومن معه الجسد بقماش من الكتان النقي، وأسرع به إلى قبره المنحوت في الصخر في بستان قريب، حيث يلائم النحت وضع جسد الميت. وكانوا عادة يلحقون بالقبر غرفة نحو تسعة أقدام مربعة يضعون فيها التابوت، وفيها يتمكن حاملو الميت من القيام بآخر الواجبات من نحو الجثة . (11).

ولقد تمَّ تطييب الجسد في تلك الغرفة الملحقة بالقبر. وكانوا عادة يستخدمون كمية كبيرة من المرّ والعود على جسد ذي المكانة الخاصة (11). ويخبرنا إنجيل يوحنا أن نيقوديموس أحضر نحو مئة مناً (نحو سبعين رطلاً) من الأطياب لتكفين جسد يسوع.

ولا بد أن يوسف الرامي أراد أن يعّوض جُبْنه من نحو المسيح، فاشترى الكثير من الأطياب كما أنه كان غنياً. ولم تكن كمية الأطياب - مع ضخامتها - غير عادية، فقد طيَّبوا جسد غمالائيل (معاصر يسوع) بنحو ثمانين رطلاً من الأطياب.

ويصف يوسيفوس، المؤرخ اليهودي في القرن الأول الميلادي، جنازة أرستوبولوس الذي قُتل وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان رئيساً للكهنة لمدة سنة واحدة فقط، قال إن الملك هيرودس بذل عناية خاصة لتجهيز القبر الذي يُوضع فيه الجسد، وزّوَده بكمية كبيرة من الأطياب، ودفن معه بعض أدوات الزينة (6).

ولقد كان المرّ دواء يلصق بالجسد ويلتحم به حتى يصعب نزع الأكفان عن بدن الميت. وكانت عادة اليهود في التكفين أن يغسلوا الجسد، ويسّووه، ثم يلفّونه من الإِبطين إلى الكعبين بقماش كتاني بعرض قدم (30 سم). وكانوا يضعون الأطياب بين طيات الأكفان لحفظ الجسد وللصق الكتان. وتعبير يوحنا تعبير دقيق لفاه بأكفان مع الأطياب .

وفي صباح اليوم الأول بعد الدفن اختفى جسد يسوع، لكن بقيت الأكفان!

ولقد اتبع يوسف الرامي الوصية القائلة: فَلَا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذ لِكَ الْيَوْمِ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللّهِ. فَلَا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ الّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِل هُكَ نَصِيباً (تثنية 21: 23). ويعلّق بولس على هذا قائلاً: اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ (غلاطية 3: 13).

ولا زالت عادات الدفن قائمة حتى اليوم في الشرق، فالجثة تُغسَّل، وتُلف بالأكفان، وتُطيَّب بالأطياب، ويُغطى الوجه بمنديل (يوحنا 11: 44).

4 - الحجر:

كان اليهود عادة يضعون حجراً على باب القبر ليحفظ جسد الميت من عَبَث الناس والحيوانات. وكان الحجر عادة ثقيلاً يحتاج لبضعة رجال ليزحزحوه. ولما كان قبر المسيح مهدداً باحتمال سرقة التلاميذ له، فقد اختاروا له حجراً ضخماً أكبر من المعتاد. وقد وُجد في نسخة قديمة (نسخة بيزا) من القرن الثاني لإنجيل مرقس تعليق بين قوسين على مرقس 16: 4 : فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لِأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّ (لا يستطيع عشرون رجلاً أن يزحزحوه) . وكانت العادة أن يكتب القرَّاء ملاحظاتهم على هامش الإنجيل. لكن كتابة هذه العبارة بين قوسين وسط النص يعني أن هذه ملاحظة قديمة، لعل شخصاً معاصراً شاهد عيان كتبها تعليقاً على ضخامة الحجر، وكانت ضخامة الحجر قد أدهشته (12).

وتوضح القصة الكتابية أن الحجر كان ضخماً، حتى أن النسوة لم يكنَّ قادرات على دحرجته. ويقول المؤرخ إدرشايم، اليهودي الأصل: وهكذا وضعوا جسده داخل القبر الجديد المنحوت في الصخر، وعند خروجهم دحرجوا حجراً عظيماً جداً على الباب، حسب عادة اليهود، اسمه جوليل . ولعلهم سندوا الحجر الكبير بحجر آخر صغير يسمونه دوفج . والأغلب أن السلطات وضعت الختم عند اتصال الحجرين حتى يظهر أقل تغيُّر يطرأ عليهما (11).

ويقدم المحامي فرنك موريسون في كتابه من دحرج الحجر؟ تعليقاً على زيارة مريم وصديقاتها لقبر يسوع باكراً صباح الأحد فيقول: لا بد أن مسألة دحرجة الحجر شكَّلت حيرة ملحوظة للنسوة، فقد رأت اثنتان منهن على الأقل المنظر من قبل وعرفتا الموقف. وكان الحجر الكبير على الباب محل حيرتهن. وتقول أقدم الروايات الإنجيلية، وهي رواية مرقس وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ (مرقس 16: 3) وهذا يُرينا أن مشكلة الحجر لم تكن مشكلة نفسية وحسب، لكنها كانت عنصراً تاريخياً في الموقف كله إلى أن وصلن إلى القبر (13).

ويدعو موريسون الحجر الشاهد الصامت الذي لا يخطئ ويقول إن هناك حقائق تستدعي الدراسة الدقيقة والبحث في مسألة الحجر: أولاً حجمه وصفاته. لا شك أنه كان كبيراً ثقيل الوزن، حتى يقول مرقس: كان عظيماً جداً . ويقول متى: دحرج حجراً كبيراً على باب القبر . وقد حارت النسوة في تحريكه. ولو لم يكن ثقيلاً ما تحيَّرت ثلاث نسوة في مشكلة دحرجته، فلا بد أنه كان أثقل مما يستطعن زحزحته (13).

5 - الختم:

يقول متى: فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِا لْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ (متى 27: 66) وكانت إحدى طرق الختم أن يشدّوا حبلاً على الحجر يثبتونه من طرفيه بصلصال لاصق، كما قيل في دانيال 6: 17 وَأُتِيَ بِحَجَرٍ وَوُضِعَ عَلَى فَمِ الْجُبِّ وَخَتَمَهُ الْمَلِكُ بِخَاتِمِهِ وَخَاتِمِ عُظَمَائِهِ، لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ الْقَصْدُ فِي دَانِيآلَ . ولقد تمَّ الختم في حضور عسكر الرومان الذين بقوا لحراسة القبر ليمنعوا السرقة أو القيامة، لكنهم أصبحوا شاهداً جديداً على القيامة!

وكان الرومان يضعون الأختام ليبرهنوا على صحة الأمر وصدقه، كما كانوا يضعونه على الوصايا والوثائق الهامة، ليحل محل التوقيع والإمضاء. وكان الختم ضماناً للسرية، إذ لا بد من فض الختم قبل الاطلاع على محتويات الوثائق.

كان الختم على الحجر إذاً ضماناً لعدم زحزحته عن باب القبر، إذ أن أي تحريك له يكسر الأختام. وهو كما ذكرنا يكون بشدّ حبل على الحجر يثبتونه من طرفيه بصلصال لاصق ثم يختم على الصلصال، أو بوَضْع عارضتي خشب بهيئة صليب، فوق الحجر، يختمون أطرافها الأربعة إلى باب القبر. وقد تم كل هذا أمام الحراس لضمان سلامة الختم الذي كان يمثّل كرامة الامبراطورية الرومانية، وكل من يتعدى عليه، فإنه يتعدى على شرف الامبراطورية.

قال القديس يوحنا فم الذهب، أسقف القسطنطينية في القرن الرابع، عن إجراءات الأمن التي اتُّخذت عند قبر المسيح:

ذهب قادة اليهود إلى بيلاطس قائلين: يا سيد، قد تذكَّرنا أن ذلك المضلّ قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات . وعلى هذا فقد وجب أن يُختَم الحجر على باب القبر. وهذا الختم، وهذه الحراسة المشددة دليل واضح على عدم وجود خداع في قيامة المسيح. ولما كانت هذه الإجراءات قد اتُّخذت فإن وجود القبر خالياً برهان قاطع على أنه قام. هل ترى إذاً كيف قدموا البرهان على صدق حقيقة القيامة، دون قصد؟ (14).

6 - الحراس عند القبر:

ذهبت جماعة من رؤساء اليهود، بقيادة رئيس الكهنة إلى بيلاطس الوالي مطالبين بختم القبر وحراسته تحت إشراف عسكر الرومان. وكانت الحجَّة التي ساقوها هي أن يحموا القبر من سطو تلاميذ المسيح ليلاً، حتى لا يدَّعوا أن المسيح قام. وقال بيلاطس: عندكم حراس. إذهبوا واضبطوه كما تعلمون . ولا بد أن عدداً (عادة ما بين عشرة وثلاثين جندياً) من عسكر الرومان مضى معهم تحت إشرافهم لختم الحجر على القبر المملوك ليوسف الرامي، بختم النسر الروماني، مع ختم الوالي الروماني. وكان فضُّ مثل هذا الختم جريمة كبرى ضد الدولة. وكان هذا الإجراء أكبر برهان يدحض الاتهام الذي وجَّهه اليهود فيما بعد لتلاميذ المسيح من أنهم جاءوا ليلاً وسرقوا جسد يسوع. ولا بد أن قائد العسكر الروماني كان برتبة قائد مئة، ومحل ثقة عند بيلاطس، وقد حفظ التقليد لنا أن اسمه بترونيوس.

وقد قام عسكر الرومان بواجبهم في حراسة القبر، كما سبق وقاموا بواجبهم في تنفيذ حكم الصلب، فقد كان عسكر الرومان يؤدّون واجبهم دوماً بأمانة وانضباط. وكان الختم الذي يحمل النسر الروماني أكثر قداسة عندهم من كل فلسفات إسرائيل وعقائدها القديمة.. ولا عجب فإن الجنود الذين يقترعون على رداء مصلوب دون اهتمام بآلامه، لا يمكن أن يخدعهم جليليون ضعفاء، أو أن يناموا في أثناء نوبة حراستهم فيعرضّون نفوسهم للموت.

ولقد جرى جدال كثير حول قول بيلاطس: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ (متى 27: 65) فجاء السؤال: هل كان الحراس جنوداً رومانيين، أم كانوا من حرس الهيكل؟ ذلك أن قول بيلاطس: عندكم حراس قد تعني (1) أن عندهم حرس الهيكل أو (2) خذوا حراساً من الجند الروماني.

ولكننا نرى أن الحراس كانوا من الرومان. فلماذا يذهب اليهود لبيلاطس لطلب حراس وعندهم الحراس؟ ولماذا قالوا للحراس بعد اكتشاف القبر الفارغ: وَإِذَا سُمِعَ ذ لِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ (متى 28: 14). لا شك أنهم جنود الوالي وهم يستعطفون لهم الوالي. ثم أن قول بيلاطس عندكم حراس تحمل معنى الأمر، أي خذوا حراساً . كما أن كلمة حراس في اللغة الأصلية تطلق عادة على الحرس الروماني، وقد وُجدت وصفاً للعسكر الرومان في بردية ترجع إلى عام 22 م كما أن رؤساء الكهنة طلبوا من بيلاطس أن يأمر بضبط القبر (متى 27: 64).

وسياق القصة كلها في أصحاحي 27 و 28 من إنجيل متى يظهر أن الحرس كان رومانياً، فإن اليهود يمكن أن يسامحوا الحرس اليهودي إذا نام، لكن الوالي الروماني هو الذي يسامح الحرس الروماني إذا نام! (راجع متى 28: 11 ، 14). لقد أخبر الحراس رؤساء الكهنة بقصة القبر الفارغ، ليتدبَّروا الأمر معهم، ولو أنهم أخبروا بيلاطس لوقع عليهم العقاب بالموت.

لقد طلب قادة اليهود حرساً رومانياً، فأعطاهم الوالي الحرس. ولما كان العقاب واجباً على الحرس فقد استعطف قادة اليهود الوالي حتى لا يوقّع العقاب على حرسه. وقد كان انضباط الجندي الروماني مذهلاً، وكانت عقوبة الموت تُوقّع على الجندي في الأحوال الآتية، حسبما وردت في قوانين جستنيان:

البقاء مع الأعداء - الهروب - قطع عضو من الجسد للهروب من الخدمة - العصيان زمن الحرب - صعود سور أو متراس - بدء تمرد - رفض حماية القائد - التهرب من الخدمة - القتل - مدّ اليد على رتبة أعلى أو شتم قائد - الهروب الذي يجعل آخرين يهربون - إفشاء السر للأعداء - ترك مكان الخدمة - جرح زميل بسيف - ترك الحراسة الليلية - كسر عصا قائد المئة عند تنفيذه التأديب - الهروب من السجن - تعكير السلام (15).

وكانت العقوبة تتم بالقتل بالسيف، أو بالرمي من جبل عال. ولقد كان العقاب قديماً قاسياً للغاية بمقارنته بالعقاب الذي يوقَّع اليوم على الجندي المقصِّر. وبهذا انتصرت روما في حروبها الكثيرة (15).

وكانت فرقة الحراسة الرومانية تتكون من عدد يتراوح بين 60 و 120 جندياً، ينقسمون إلى فرق صغيرة من أربعة جنود. أربعة يحرسون الخيمة من الأمام وأربعة يحرسونها من الخلف وسط الخيول. وكان أحد الأربعة يقف وقفة انتباه بينما يستريح زملاؤه الثلاثة بعض الشيء! ولكنهم جميعاً يكونون متنبهين لأي إنذار. ولقد كان هناك أربعة عساكر عند الصليب (يوحنا 19: 23).

أما حرس الهيكل فقد كانوا ينتشرون ليلاً في 24 مكاناً عند الأبواب وفي الأفنية، 21 منهم من اللاويين فقط، وثلاثة من الكهنة معاً. وكانت كل فرقة منهم تتكّوَن من عشرة رجال، وهكذا نجد أن هناك 240 لاوياً و 30 كاهناً يعملون في الحراسة كل ليلة. وكان حرس الهيكل يستريحون نهاراً ويعملون ليلاً. وكان الرومان يقسمون حراسة الليل إلى أربع حراسات لكن اليهود كانوا يقسمونه على الأرجح إلى ثلاث. وكان هناك قائد عام لحرس الهيكل ليحفظ النظام في الهيكل. وليفتش على الحرس ليلاً. وكان الرؤساء والولاة يعيّنون القائد العام للحرس (16).

وعندما كان القائد العام يصل إلى حرس الهيكل كانوا يقومون لتحيته. وكان الحارس النائم يُضرب أو تُحرق ثيابه عقاباً له. ومن هذا نفهم معنى قول الرؤيا 16: 15 طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً (16).

وتقول المشنا إن حارساً كان يسير أمام القائد العام لحرس الهيكل يحمل مشعلاً. وكان كل جندي يقف ليقول للقائد: يا قائد حرس الهيكل، سلام لك وما لم يقف بهذه التحية فمعنى ذلك أنه كان نائماً، ويستحق ضرب العصا أو إحراق ثيابه. وعندما يسأل زملاؤه عن سبب الضوضاء في الهيكل كانوا يسمعون: وجدنا فلاناً نائماً في نوبة حراسته وهم يضربونه ويحرقون ثيابه! . بل إنهم أحياناً كانوا يحرقون قميص النائم على جسده، ليكون عبرة لغيره!

فلو أن حراس القبر كانوا من الرومان أو من اليهود، فإن حراستهم كانت دقيقة. ولم يحدث أن لقي قبر كل هذه العناية..

7 - التلاميذ الهاربون

يشرح لنا متى جُبْن التلاميذ بقوله: حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلَامِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا (متى 26: 56) وهكذا يقول مرقس: فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا (مرقس 14: 50).

ومن الواضح أن التلاميذ لم يكونوا شجعاناً بواسل ولا متسعي الفكر، ولذلك فإنهم هربوا جميعاً تاركين معلّمهم للذين قبضوا عليه. بل أن بطرس لعن وحلف أنه لا يعرف هذا الرجل ! وذلك أمام جارية!

ولقد ملأ الرعب قلب بطرس فأنكر المعلم الذي أحبه والذي دعاه ليترك الشِباك ويصيد الناس.

لقد كان التلاميذ صيّادين لا يعرفون حياة المدن، ولكنهم تبعوا المعلم الجليلي بأمانة وإخلاص، حتى جاءت الساعة الفاصلة عندما قُبض عليه في البستان، فأرعبتهم أضواء مشاعل الجند، فهربوا جميعاً! وظل التلاميذ مختفين حتى جاءتهم مريم المجدلية بأخبار القيامة في اليوم الثالث. ولقد ظنوا أن المرأة تهذي، فإن معلمهم قد مات وانتهى! ولم يكونوا بعد يعرفون الكتب أن مخلّصهم ينبغي أن يقوم من الأموات!

الصفحة الرئيسية