ثانياً - لو أن اللّه صار إنساناً
فلا بد أن يكون خالياً من الخطأ
ولنطالع أولاً شهادة المسيح عن نفسه. إنه يسأل: مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ (يوحنا 8: 46). ولم يجاوبه أحد من أعدائه. ولو أنه كان خاطئاً لما استطاع أن يوجّه مثل هذا السؤال.
وقال أيضاً: لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ (يوحنا 8: 29) فقد كانت علاقته باللّه كاملة على الدوام، وإحساسه بالطهارة الكاملة مذهل. وكل مؤمن باللّه يعلم أنه كلما زاد قرباً من اللّه زاد شعوره بخطئه، ولكن هذه لم تكن الحالة مع المسيح، فقد عاش حياة القرب الكامل من اللّه بدون شائبة.
يخبرنا الإنجيل أن الشيطان جرب المسيح (لوقا 4) لكنه لا يقول إنه أخطأ! لم نسمعه يعترف أو يطلب غفران اللّه، مع أنه علَّم تلاميذه الاعتراف وطلب المغفرة. ومن الواضح أنه لم يكن لديه أي شعور بالذنب الملازم للطبيعة الساقطة.
1 - أصدقاؤه يشهدون لكماله:
لم يقدم الكتاب المقدس أياً من أبطاله بدون عيب، فقد سجَّل أخطاء الجميع بمن فيهم موسى وداود، وفي كل سفر من العهد الجديد نرى نقائص الرسل، ولكنهم لا يذكرون نقصاً واحداً في المسيح. ولشهادة الرسل أهميتها لأنهم عاشوا في قرب قريب من يسوع نحو ثلاث سنوات، وكانوا يهوداً يدركون التعليم اليهودي عن الطبيعة الإنسانية الخاطئة، ولكنهم شهدوا لكماله بطريقة غير مباشرة، فلم يحاولوا برهنة كماله، لكنهم أوضحوها عندما ذكروا ما عرفوه عن حياته. لم يروا خطية واحدة فيه مع أنهم رأوا خطايا أنفسهم. لقد جادلوا وتذمَّروا، لكنهم لم يروا يسوع يفعل شيئاً من هذا. ونتيجة لهذا يقول بطرس: بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلَا عَيْبٍ وَلَا دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِب (1 بطرس 1: 19)، ويقول: الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلَا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ (1 بطرس 2: 22)، ويقول يوحنا: وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ (1 يوحنا 3: 5) (راجع 1 يوحنا 1: 8 - 10). يقول يوحنا إن البشر إن قالوا إنه ليس لهم خطية يُضلّون أنفسهم وليس الحق فيهم، لكنه يقول إن المسيح ليس فيه خطية!
حتى يهوذا، التلميذ الخائن رأى براءة المسيح فقال قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً (متى 27: 3 ، 4).
ويشهد بولس الرسول أن المسيح كان بلا خطية (2 كورنثوس 5: 21).
2 - أعداؤه يشهدون لكماله:
شهد أحد من اللصين المصلوبين معه لكماله بالقول: أَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ (لوقا 23: 41).
وبيلاطس يشهد لكماله: إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ (لوقا 23: 22).
وقائد المئة يقول: بِا لْحَقِيقَةِ كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ بَارّاً (لوقا 23: 47).
وقد حاول أعداؤه الشكوى ضده، فلم يجدوا فيه عيباً (مرقس 14: 55 ، 56). ويلخّص مرقس الشكاوَى التي وُجِّهت ضده، فيقول أولاً إنهم اتهموه بالتجديف لأنه غفر خطايا الناس، مع أن اللّه وحده هو الذي يغفر. وثانياً اتهموه أنه كان يخالط الخطاة والسكيرين والزواني، الأمر الذي كان رجال الدين اليهودي يتحاشونه، وكان ردُّه على ذلك أنه طبيب الخطاة (مرقس 2: 17). واتهموه ثالثاً أنه لم يصُمْ كالفريسيين، ولو أنه كان يتمسك بدينه. وأخيراً كانوا متضايقين لأنه نقض شريعة السبت اليهودية، إذ شفى المرضى في يوم السبت. ولكنهم لم ينكروا عليه أنه كان مطيعاً لناموس اللّه. والحق أنه رب السبت فاختار أن يكسر التقاليد اليهودية في تفسير شريعة اللّه عن يوم السبت، دون أن يكسر الوصية نفسها.
3 - التاريخ يشهد لكماله:
في سورة مريم في القرآن يقول الملاك لمريم: أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (آية 19) (والزكي هو الطاهر الذي لا عيب فيه) ويقول في سورة آل عمران: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ (مريم) وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (آية 36). وفي الحديث: ما من مولود يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخاً، إلا مريم وابنها . رواه الشيخان.
ويقول المؤرخ فيليب شاف: هنا قدس الأقداس البشرية. لم يعش أحد كما عاش المسيح الذي لم يؤذ أحداً ولم يستغل أحداً، ولم ينطق بكلمة عاطلة، ولم يرتكب عملاً خاطئاً. والانطباع الأول الذي يسود علينا عن حياة المسيح هو البراءة الكاملة والعصمة من الخطية وسط عالم فاسد. فهو وحده - لا سواه - كان بلا عيب في طفولته وشبابه ورجولته، ولذلك فالحمل والحمامة رمزان مناسبان لطهارته. وبعبارة موجزة هو الكمال المطلق الذي يرفع شخصيته فوق مستوى البشر ويجعله معجزة العالم الأخلاقية، وهو التجسد الحي للفضائل والقداسة، وأسمى مثال لكل صلاح ونقاء ونُبْل في نظر اللّه والناس. هذا هو يسوع الناصري الإنسان الكامل في جسده ونفسه وروحه، ولكنه يختلف عن البشر جميعاً. هو الفريد من طفولته إلى رجولته، الذي عاش في اتحاد دائم باللّه، تفيض محبته على الناس، خالٍ من كل عيب وشر، مكرَّس لأقدس الأهداف. كانت تعاليمه وحياته في توافق تام، وختم أطهر حياة بأسمى موت. إنه النموذج الوحيد الكامل للصلاح والقداسة (مرجعا 6 ، 7).
ويقول جون سكوت: إن نسيان النفس في خدمة اللّه والناس هو ما يدعوه الكتاب المقدس بالمحبة. المحبة لا تهتم بما لنفسها، بل تبذل نفسها. وقد كان يسوع بلا خطية لأنه لم يكن أنانياً يطلب ما لنفسه. وهذه هي المحبة واللّه محبة (19).
ويقول ولبر سمث: كانت أبرز صفات يسوع في حياته الأرضية هي ما نفشل جميعاً فيها، ومع ذلك نعترف أنها أعظم الصفات جميعاً. إنها صفة الصلاح المطلق، أي الطهارة الكاملة، والقداسة الحقيقية. وفي هذا كان يسوع معصوماً من الخطأ (10).
ويقول جفرسون: إن أعظم برهان على كمال المسيح هو أنه جعل المحيطين به يعترفون بكماله. فلم يصدر عنه في كل أحاديثه أي شيء من الندم أو الحزن على تقصير أو خطإٍ صدرا منه. لقد علَّمهم أنهم خطاة وأن القلب البشري شرير، وأنهم يجب أن يطلبوا الغفران كلما يصلّون. ولكنه لم يطلب مطلقاً الغفران لنفسه، فلم يفعل إلا كل ما يرضي اللّه (20).
ويقول كنث لاتوريت المؤرخ الشهير: لا يوجد أي أثر لإِحساس المسيح بارتكاب خطإ. وشخص في مثل سمو المسيح يقدّم لأتباعه أعلى المبادئ ويعلّمهم ضرورة الاعتراف بالخطية وطلب المغفرة لها، دون أن يحتاج هو نفسه لذلك، لا بد أن يكون كاملاً. لقد كتب مبادئ الموعظة على الجبل بحياته، ولم تكن الموعظة إلا ترجمة لحياته (21).
ونختتم هذا الموضوع باقتباس آخر من المؤرخ المسيحي فيليب شاف: كلما زادت قداسة الإنسان، زاد إحساسه بالحاجة إلى الغفران، وشعوره بنقصه عن المستوى الروحي المطلوب. ولكن يسوع الذي جاء في صورة جسدنا، وتجرَّب مثلنا، لم يستسلم للتجربة، ولم يكن لديه ما يدعو للندم أو للاستغفار، سواء عن فعل أو قول أو فكر. لم يكن محتاجاً إلى غفران أو تغيير أو إصلاح، ولم يفقد - ولو للحظة واحدة - توافقه مع الآب. وكانت حياته سلسلة متصلة من التكريس لمجد اللّه ولخير الناس الأبدي (7).
4 - المتشدّدون يشهدون لكماله:
يقول روسو: عندما يصف أفلاطون الإنسان الخيالي الكامل، الذي يتحمَّل عقاب الذنوب كلها، لكنه يستحق أفضل جوائز الفضيلة، فإنه يصف بالضبط شخصية يسوع المسيح (6).
ويقول الكاتب المشهور جون ستيوارت ميل: مَنْ من بين تلاميذه أو الذين آمنوا به كان يستطيع أن يقول كلمات مثل التي قالها يسوع، أو كان يقدر أن يتخيَّل حياةً تشابه تلك الحياة التي تحدَّثت عنها الأناجيل؟ (6).
ويقول رالف والدو إمرسون: يسوع أعظم كمالاً من كل الناس الذين ظهروا في العالم (22).
ويقول المؤرخ وليم ليكي: إنه ليس فقط النموذج الأسمى للفضيلة، لكنه أقوى باعث على ممارستها (23).
وحتى دافيد ستراوس أشد من هاجم ما هو معجزي في الأناجيل، والذي حاول - أكثر من أي كاتب آخر - أن يحطم الإيمان بالمسيح - حتى ستراوس هذا، بكل قواه العقلية الفذة وطاقاته الذهنية التي سخَّرها جميعاً في نقد الكتاب المقدس والإِنكار الكلي لكل ما هو معجزي، اضطر في أواخر حياته أن يعترف بأن في المسيح الكمال الأخلاقي، وقال: هذا المسيح شخص تاريخي وليس أسطورياً، وهو شخص وليس مجرد رمز.. أنه يظل على الدوام أعلى نموذج للدِّين يمكن أن يصل إليه فكرنا، ولا يمكن أن يصل إنسان إلى التقوى بدون حضوره في القلب (6).
وختاماً نقتبس قول برنارد رام: إن ما نتوقع أن نراه في اللّه متجسداً، هو الكمال الخالي من الخطية، والخلو المطلق من الخطية، وهذا ما نجده في يسوع المسيح حقيقة جلية .