الباب الأول:
هل شهد القرآن بصحة العقيدة المسيحيّة؟
أولاً: شهد القرآن للنصارى بالتوحيد والإيمان الحق. ففي المائدة 5: 69إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَالّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .ويقول البيضاوي: من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ (سنتكلم عن النسخ في الباب الثاني) مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه .
وبحكم هذه الآية وتفسيرها يكون المسيحيون - في نظر الإسلام - موحّدين غير مشركين، محقين في إيمانهم غير ضالين، مؤمنين غير كافرين، لأنّ لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. إنّ الآية بخروجها من التخصيص: الذين آمنوا والذين هادوا...الخ إلى التعميم: من آمن بالله واليوم الآخر قد شملت بالأجر والثواب كل من عمل صالحاً من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر دون شرط الإيمان بالإسلام ورسالته,
وفي القرآن آيات عديدة تحمل تصريحاً قاطعاً بالتفريق بين المسيحية والوثنية، وفيها يفصل الإسلام بين المسيحيين والمشركين. وسيأتي ذكر هذه الآيات تفصيلاً مع ما يتبعها من شرح وتعليق في الكلام عن التثليث. ولكن نأتي هنا - على سبيل المثال - بواحدة منها وهي التوبة 9: 5فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّمرْصَدٍ فإذا تأملنا هذه الآية تأكد لدينا - ولدى كل مفكر - أنّ النصارى هم غير المشركين الذين أمر الإسلام بقتلهم، لأنّ الإسلام حقن دماء أهل الكتاب، ومنهم النصارى، إذا هم دفعوا الجزية (سورة التوبة 9: 29). ومن غير المعقول أنّ هذه الجزية تؤخذ عوض البقاء على الكفر، وبدل الإستمرار على الشرك، وإلا أضحى آخذوها - وهم المسلمون - شركاء في هذا الكفر والإشراك بالله، لما يكون في عملهم هذا من التجاوز عما لا يجوز فيه من حرام ومحظور. والكفر لا يُشرى والإيمان لا يُباع.
فإذا أضفنا هذا النص وأمثاله إلى ما تقدم خرجنا بنتيجة لا شك فيها هي أنّ الإسلام تكلم عن المسيحيين كقوم موحّدين، مفرّقاً بين عقيدتهم وعقيدة المشركين.
لقد نشأ الإسلام يحارب الوثنية ويجاهد اليهودية ويؤاخذ المسيحية، في مذاهبها المبتدعة التي كانت تتنافى تعاليمها مع العقيدة الصحيحة في الله تعالى، منكراً عليها ما كان يثير الجدل والنقاش حولها.
هاتان هما الحقيقتان اللتان جعلنا هذا الكتاب موضوعاً لبحثهما والكشف عنهما، وغايتنا التي نتوخاها من هذا البحث هي التوفيق لا الجدل والتفريق، راجين أن يتقبل إخوتنا المسلمون رسالتنا هذه كرسالة محبة وإخلاص. وفقنا الله جميعاً إلى سواء السبيل.
ثانياً: شهد القرآن للنصارى بحسن الأخلاق، مما يدل على تأثير المسيحية في أخلاق تابعيها. فقد جاء في المائدة 5: 82: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ كما جاء في الحديد 57: 27ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً. كما جاء في آل عمران 3: 113 ، 114لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ .
فهذه الآيات - وغيرها كثير يشبهها - شهدت للمسيحيين بالمودة والوداعة والرأفة والرحمة والحياة التقية الصالحة والعبادة وخشية الله، ووصفتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في عمل الخير، وآثرتهم على غيرهم من أهل الكتاب وفضّلتهم على سواهم من أصحاب الشرائع والمِلل الأخرى وحضّت على الركون إلى محبتهم، بما يجلي الريب عن عقيدتهم، فقد صرحت بأنهم غير المشركين، وأنهم أقرب الناس مودة نحو المسلمين، عكس الكافر والمشرك فانهما عدوّان لدودان للمؤمن دائماً أبداً.
ثالثاً: شهد القرآن برفعة المسيحيين على الكافرين بالمسيحية، فقد جاء في آل عمران 3: 55: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الّذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الّذينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الّذينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
رابعاً: حكم الإسلام بالفسق على من لم يُقِم أحكام الإنجيل. فقد جاء في المائدة 5: 47وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وقد ذكر البيضاوي في تفسيره: فأولئك هم الفاسقون عن حكمه أو عن الإيمان إن كان مستهيناً به ... والآية تدل على أنّ الإنجيل مشتمل على الأحكام وأنّ اليهودية منسوخة ببعثة عيسى.
خامساً: أقرَّ الإسلام بحقيقة تعاليم المسيحية، وحضَّ على الإيمان بها، فقد جاء في العنكبوت 29: 46وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالّذي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
سادساً: دعا إلى الإيمان بالتعاليم الواردة في التوراة والإنجيل، فقد جاء في النساء 4: 136يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلَالاً بَعِيداً وأيضاً آل عمران 3: 84: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ,
هذه بعض تصريحات القرآن عن المسيحية والمسيحيين, والذي يطالع القرآن بإمعان في غير تعصّب ولا محاباة يكتشف شهادات صريحة في بهاء التي ذكرناها وجلالها. ألم تر كيف جعل القرآن النصارى والمسلمين في كفتي ميزان واحد، تعدل كل منهما الأخرى، دون نقص أو زيادة؟ اقرأ الحج 22: 40وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً. هذه الآية ساوت بين الصوامع والبيع الخاصة بعبادة النصارى، والمساجد الخاصة بعبادة المسلمين، وأقرَّت الفريقين بعبادة الله على السواء.
الخلاصة
يتضح جلياً مما سبق أنّ القرآن يشهد بصحة العقيدة المسيحية، وصدق الإيمان بها. ويعلن أنّ النصارى قوم موحِّدون لا تشوب عقيدتهم شائبة شِرك، ولا يعلق بإيمانهم نقص أو عيب. كما شهد للمسيحية بحُسن تأثيرها في القلوب، وتقويم اعوجاج النفوس.