الفصل الثالث: تنزيه التوحيد المسيحي عن الشرك
في القرآن آيات كثيرة تدل على أن الإسلام نظر إلى المسيحية نظرة خالية من الاعتقاد فيها بتعليم الإشراك. فقد جاء في سورة المائدة 5: 69 : إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَالّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
فلو قيل إن الإسلام يعتقد أن النصارى آمنوا بالله في غير توحيد، وإن إيمانهم إيمان تعدد وإشراك، لما صرح أن لهم أجرهم عند ربهم، وأنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، لأنه يكون بتصريحه هذا قد وعد المشركين بالأجر والثواب، وهذا باطل. إذ أن المعقول والمنقول أن الإسلام قد حارب الشرك والمشركين وأنذرهم عذاباً أليماً من بين أيديهم ومن خلفهم, فهذه الآية قد دلت على أن الإسلام ميّز بين النصارى والمشركين، ولم ينظر إلى المسيحية كدين تعدد وإشراك.
ثم أن الإسلام حرم على المسلمين أن يتزوجوا بالمشركات، دون أن يتخذن الإسلام لهن ديناً. في حين أنه ساوى بين المسيحية والمسلمة في هذا، أباح للمسلم أن يتزوج من المسيحية دون أن يُشترط الإسلام لتمام هذا الزواج وصحته، فقال: أُحِلّ لَكُمُ الطَّيِبَاتُ وَطَعَامُ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (سورة المائدة 5: 5فهذه الآية أجازت للمسلم التزوج من النصرانية، مع الحرص على حقها أن لا يُهضم، جاعلاً إياها في مرتبة المرأة المسلمة. فلو كان الإسلام اعتبر المسيحية مشركة لحظر الزواج بها، ولحرمه تحريماً، أو على الأقل لجعل الإسلام شرطاً ضرورياً لتمام هذا الزواج، كما فعل مع المشركات اللاتي قال في حقهنّ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (سورة البقرة 2: 221) فهذه الآية قد حرمت على المسلم الزواج من المشركة وهي باقية على شركها، وأجازه له بعد إسلامها.
فالقول بأن الإسلام اعتقد في المسيحيين الشرك، يدعو إلى التناقض بين هاتين الآيتين. وإذاً تكون النتيجة اللازمة لهذا هي أن الإسلام نزَّه المسيحية عن الشرك، وفرَّق بين النصارى والمشركين.
وهناك الآية التي تنطق بوضوح بنظر الإسلام إلى المسيحية كالدين البعيد عن الإشراك والتعدد وهي: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (سورة المائدة 5: 82) فهذه الآية تفصل بين النصارى والمشركين، وتشير إليهم كطائفتين متغايرتين، وهي بذلك تنزّه المسيحية عن تعليم الإشراك وتثليث التعدد.
وهناك أيضاً الآية التي تكلم فيها القرآن عن المسيحيين كمؤمنين بالله، تقاة ساجدين، آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، مسارعين في الخيرات، ومن الصالحين، والتي أشار أولاً فيها إلى اليهود وهي: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ, يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة آل عمران 3: 113 ، 114). فهل يُعقل أن يشهد القرآن مثل هذه الشهادات، وينعت بكل هذه الصفات قوماً مشركين؟
أضِف إلى هذا أن الإسلام قد أباح دماء المشركين، فقال: وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّمرْصَدٍ (سورة التوبة 9: 5) فهذه الآية قد أهدرت دم المشركين وحضت على التربص بهم، فميّزت بينهم وبين النصارى الذين حقن الإسلام دماءهم، إذا هم دفعوا الجزية (التوبة 9: 29) وقد سبق لنا القول إن هذه الجزية لا تؤخذ عوض البقاء على الكفر وبدل الاستمرار على الشرك بالله، وإلا كان آخذوها وهم المسلمون شركاء في هذا الكفر، لما يكون في علمهم من التجاوز عما لا يجوز التجاوز فيه من حرام ومحظور.
الخلاصة
لا شك بعد هذا في أن الإسلام قد اعتقد في المسيحية الإيمان الصحيح بالله تعالى، الإيمان البعيد عن خطل الشرك ووزر التعدد، وأنه نظر إلى المسيحيين وتكلم عنهم كقوم موحدين لا تشوب عقيدتهم شائبة.