3 - المسيح
جاء في سورة آل عمران 3: 45، 46إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلّم النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ولنلاحظ أولاً أن القرآن هنا قد قال: اسمه المسيح ولم يقل يسمونه، مشيراً بذلك إلى تقرير تلك التسمية من الله دون علاقة البشر بها. ويحق لنا أن نتساءل: هل أخذ القرآن الاسم ممن سبقوه، أم أنه ذكره من قبيل الإلهام؟ إنّ القرآن لا يشير إلى شيء من ذلك، كما أنه لا يوضح معنى هذا اللقب العجيب. وقد خلط المفسرون في شرحهم إياه، وذهبوا فيه مذاهب شتى.
وإتماماً للفائدة نبيّن بعض معاني هذا اللقب لغة:
جاء في المعاجم أن هذا الاسم يطلق على القطعة من القصة، والعرق والصديق، والدرهم الأملس الذي لا نقش عليه، والكثير السماحة، والممسوح بمثل الدهن وبالبركة، ولُقب به عيسى ابن مريم لأن الله مسحه كاهناً ونبياً وملكاً. وجَمْعه مسحاء ومسحى.
وهو في العبرانية مشيخ وفي السريانية مشيخو وفي اليونانية خرستس .
ولسنا بحاجة إلى القول إن هذا اللقب انفرد به المسيح وحده في القرآن دون بقية الأنبياء والمرسلين، فلم يُمنح هذا اللقب السامي نبي سواه، مما يدل على امتياز المسيح الخاص، واعتراف الإسلام له بهذا الامتياز، ويدل أيضاً على أنه نُدب للقيام بعمل أهم من أعمال الأنبياء والمرسلين يميزه عنهم أجمعين. ومن يمتاز عن البشر كلهم بمن فيهم الأنبياء والرسل بأسرهم يجب أن يكون قد ارتفع عن طبقة البشر، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم. وليس هناك إلا كائن واحد لاسواه يسمو على جميع البشر وهو الله سبحانه وتعالى، الذي له الكرامة والمجد والسلطان.
وإن في إقرار الإسلام للمسيح بهذا اللقب وانفراده به لدليل على مقامه الممتاز عن البشر، وسائر الأنبياء والرسل، واعتراف منه له بلاهوته ذي الجلال والإكرام.
وإنّا لنرى أن القرآن لم يوضح معنى هذا اللقب إعتماداً منه على ما ورد عنه في الإنجيل الشريف، والذي يأمر في أكثر من محل إلى مطالعته والعمل بما فيه.
ولكننا نلاحظ في أقوال المفسرين شعورهم الملموس بصعوبة إدراك المعنى العظيم الذي ينطوي عليه لقب المسيح. وهذه الصعوبة بادية في كثرة التفسير والذهاب به مذاهب عديدة. ولو كان المعنى ظاهراً أمامهم لتوجَّهوا إليه رأساً، ولكن لا عجب في أن يشعر المفسرون بصعوبة التأويل، وهم يرون أن هذا اللقب السامي يشير إلى مقام المسيح الجليل، ويرفعه عن طبقة البشر، في حين أنهم لا يريدون أن يقرّوا لنا بهذا صراحة، وإن كانوا قد أقروا ضمناً. فهذا الإمام الرازي وان كان لم يذكر تأويل هذا اللقب صريحاً كما يدل عليه. وكما هو معروف لدى أتباع المسيح لا تخلو تفاسيره من إقراره للحقيقة التي تنادي بها المسيحية إزاء هذا اللقب الممتاز. فهو في تفسيرين من تأويلاته اعترف للمسيح بشخصية معصومة بريئة من الذنوب والآثام. وفي التفسيرين الآخرين اعترف له بمسحته الخاصة التي بناءً عليها سُمِّيَ مسيحاً. فقال أولاً إنه سُمّي المسيح لأنه مُسح من الأوزار والآثام، ولأن جبريل مسحه بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان. فهنا اعترف الرازي أن المسيح قد أُعطي هذا اللقب لأنه كان معصوماً من الأوزار والآثام، ولأنه كان مصوناً من مسّ الشيطان له بشيء ما من الخطايا أو الهفوات.
وعندما نقارن هذا الاعتراف بتصريحات القرآن المتعددة، التي قضت على البشر جميعاً بسقوطهم في الخطية وباقترافهم الآثام، نرى أن الإسلام قد رفع المسيح عن طبقة البشر، إذ حكم له وحده بالعصمة والصون من الدنايا، بينما هو يصرح أن العصمة ليست لبشري كائن من كان, وليس هنا مجال للكلام عن حكم الإسلام على البشرية جمعاء بالسقوط في الخطية وارتكاب الإثم، واستثناء المسيح وحده دون سواه. فهذا سيأتي في الفصل الثالث من الباب الرابع في هذا الكتاب. ولكننا نذكر فقط شيئاً قليلاً يشير إلى هذه الحقيقة، فقد جاء في سورة مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا(أي جهنم) كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (مريم 19: 71 فهذه الآية حكمت على جميع البشر بورود جهنم. ومعلوم أن العقاب لا يكون إلا لذنب وإلا كان ظلماً، وما ربك بظلاّم للعبيد. فهذه الآية تدل على أن البشر جميعاً معرَّضون للوقوع في أسْر الشهوات والخطايا.
لنقرأ هذه الآية مرة أخرى، ثم لنقرأ بعدها آية سورة آل عمران 3: 36وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا(أي المسيح) مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثم نقرأ بعد هذا الحديث الذي تضمن هاتين الحقيقتين معاً سقوط البشر جميعاً، وعصمة المسيح دون سواه. وهو كما أورده البخاري كل ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبه بأصبعيه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب ليطعنه فطعن في الحجاب .
فإقرار الإسلام بأن البشر جميعاً قد زاغوا وفسدوا، وأنهم مجردون عن العصمة، معرضون لاقتراف الخطايا والآثام، بجانب إقراره للمسيح وحده بالعصمة، وأنه مصون عن مس الشيطان، يرفع المسيح عن طبقة البشر، وبالتالي يقرّ له بلاهوته الممجد.
أما عن التفسيرين الآخرين من تأويلات الرازي فإننا نرى فيهما اعترافاً صريحاً، قد أصاب فيه المفسر وأحسن المقال. فهو يقول في واحد منهما: إنّ اللقب يشير إلى مسحه بالدهن، وفي الآخر إنّه يشير إلى أن تلك المسحة قد حدثت عند خروجه من بطن أمه. وخلاصة القولين ترديد لصدى العقيدة المسيحية، ومطابقة لأقوالها في المسيح الإله، فهذه أقوال الوحي الإلهي عن ذلك: وَأَمَّا عَنْ الِابْنِ: (فيقول) كُرْسِيُّكَ يَا اللّهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذ لِكَ مَسَحَكَ اللّهُ إِلهُكَ بِزَيْتِ الِابْتِهَاجِ (عبرانيين 1: 8 ، 9) ويفسر الكتاب زيت الابتهاج في موضع آخر فيقول: يَسُوعُ الّذي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللّهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ (أعمال 10: 38) فهل نغالي إذا قلنا إنّ نص القرآن وتفسيره لا يخرجان عن ترديد العقيدة المسيحية في لاهوت المسيح بعد الذي رأينا من المطابقة بين النص والتفسير، وبين تصريحات الوحي الإلهي في هذا الشأن؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن لاهوت المسيح حقيقة يشهد بها الإسلام ويؤيدها؟
الخلاصة
بهذا ينتهي بنا الكلام عن إثبات لاهوت المسيح من الإسلام بما أثبته له من ألقاب لا يصح إطلاقها على غير ذات الله تعالى، إذ دعاه كلمة الله وروح منه. وكلمة الله وروحه لا بد أن يكونا من جوهره، وأزليين بأزليته. وبما أنه لا تعدد في ذاته تعالى ولا تجزئة، لزم القول بأن كلمة الله وروحه هما ذاته جل شأنه.