الفصل الرابع:
قدرات المسيح الفائقة
1 - العلم بالغيب
جاء على لسان المسيح: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (سورة آل عمران 3: 49) .وفي تفسير الجلالين لهذه الآية أنّه كان يخبرهم بما لم يعاينه فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد. فالنص والتفسير صريحان في أن المسيح كان يعلم الغيب وينبئ بما في الصدور.
وبينما نرى القرآن يقرّ هنا للمسيح بهذه القدرة، نراه في نصوص أخرى عديدة ينكرها على البشر أجمعين بما فيهم الرسل والأنبياء، بلا فارق أو استثناء، كما نراه في نصوص أخرى يثبت أن علم الغيب صفة خاصة به تعالى، وأن هذه القدرة محصورة فيه وحده جل شأنه. وإليك بعض هذه الآيات التي أنكر فيها على الأنبياء والرسل والبشر جميعاً القدرة على علم الغيب وحصرها في الله وحده: يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ (سورة المائدة 5: 109) و وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (سورة الأنعام 6: 3) ومَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ الّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ,,, قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ (سورة الأنعام 6: 48-50
فإذا كان الإسلام قد أقرّ أن علم الغيب خاص بالله وحده، وأقرّ أن المسيح كانت له هذه القدرة. فمعنى هذا أن الإسلام يرفع المسيح عن مرتبة البشر، وفي هذا إقرار منه بلاهوت المسيح. وتلك هي النتيجة المنطقية لتصريحات الإسلام.
2 - قوة الخلق
جاء على لسان المسيح: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (سورة آل عمران 3: 49) ..
ففي هاتين الآيتين شهادة صريحة واعتراف جلي بإتيان المسيح المعجزات الباهرة، والقيام بالأعمال الخارقة للطبيعة، حتى إنّ الذين كفروا ممن شاهدوا هذه المعجزات قالوا: إنْ هذا إلا سحر مبين.
ومن بين تلك العجائب التي ذكرها القرآن عن المسيح قدرته على أن يخلق من الطين طيراً بنفخه فيه. وأنّ الباحث المنصف لا يستطيع أن يواجه شهادة كهذه جاء بها القرآن عن المسيح دون أن يرى فيها إقراراً صريحاً بسمو شخصية المسيح عن طبقة البشر. وعندما نواجه هذه الشهادة بآيات أخرى جاء بها القرآن في نفس الموضوع نجد أنها لا تقف عند حد إثبات امتياز المسيح عن البشر وحسب، ولكنها أيضاً تثبت لاهوته الممجَّد. فالقرآن صرح بأن قوة الخلق هي لله وحده دون سواه. فقال: قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (سورة يونس 10: 34) .وأَوَ لَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ,,, أَوَ لَيْسَ الّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (سورة يس 36: 77-81)
فهذه الآيات وما يماثلها أسندت القدرة على الخلْق إلى الله وحده، واتخذت هذه القدرة دليلاً على ألوهيته. فإذا كانت قوة الخلق خاصة من خواص اللاهوت، وآية من آياته، وكان القرآن قد أقرّ للمسيح بهذه القوة والقدرة، فإن النتيجة المنطقية اللازمة هي أن القرآن قد شهد صراحة بلاهوت المسيح.
وقد أيّد القرآن هذا القول بدليل آخر، فهو لم يسجل للمسيح قدرته على الخلق وقوته الإلهية في هذا فقط، ولكنه أقرّ له بالخلق بنفس الطريقة التي خلق بها الإنسان، بقوله في آيتي سورتي المائدة 110 وآل عمران 49 إن المسيح يخلق من الطين، وينفخ فيه فيكون طيراً. وهذا عين ما أعلنه القرآن عن الله في خلقه بقوله: هُوَ الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (سورة الأنعام 6: 2) وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (سورة الأعراف 7: 11 ، 12
فالله في هذه الآيات يخلق الإنسان من طين، وينفخ فيه من روحه فيكون بشراً سوياً, والمسيح يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً حياً. فمن يكون المسيح إذاً؟ لا مرية بعد إذ أنه الإله القدير العظيم.
والخلاصة إن الإسلام قد رأى في قوة الخلق، برهان الألوهية والدليل الأكبر الذي يفرّق بين الإله الحقيقي الأزلي والآلهة المنحوتة.
فإذا كان الإسلام بجانب هذا القرار الصريح قد أثبت للمسيح قدرته على الخلق، فليس هناك معنى لهذا الإثبات إلا اعتراف القرآن للمسيح بلاهوته المجيد. وما كان الإسلام في هذا الاعتراف إلا مصدقاً لما ذكره الوحي الإلهي عن المسيح إذ قال: فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ : مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى,,, الْكُلّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ (كولوسي 1: 16)
3 - قوة الإحياء من الموت:
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ (سورة آل عمران 3: 49) وإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي,,, وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي (سورة المائدة 5: 110)
لقد أقام المسيح كثيرين من الأموات، فأحيا لعازر (يوحنا 11) ، وأقام ابن أرملة نايين (لوقا 7) ، وأقام ابنة يايرس رئيس المجمع (مرقس 5). وقد قال الجلالان في تفسيرهما: فأحيا عازر صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العاشر، فعاشوا ووُلد لهم .
ولا ريب في أن الاعتراف للمسيح بقوة إحياء الموتى إقرار ضمني بلاهوته، لأن قوة الإحياء والإقامة من الموتى خاصة من خواص الله تعالى، وليس له فيها شريك أو قرين، فقد قال: وَهُوَ الّذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (سورة الحج 22: 66). وهُوَ الّذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (سورة المؤمنون 23: 80) وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (سورة يس 36: 78-79) .
تلك تصريحات واضحة بينة على أن إحياء الموتى إنما هو لله وحده دون سواه. فلا يحيي العظام إلا هو جل شأنه. ولقد رأينا أن القرآن أقرَّ للمسيح بأنه أحيا العظام وهي رميم، فمن يكون المسيح إذاً؟ إنّه الله الحي القيوم، المحيي المميت، المبدي المعيد.
ولقد قال المسيح: لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْآبَ يُقِيمُ الْأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الِابْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ.,, اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الْآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الْأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللّهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الِابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ (يوحنا 5: 21 ، 25 ، 26) .وكان المسيح في خطابه هذا يقدم برهاناً على لاهوته.
فنحن إذا قلنا إن الإسلام يقر لنا بلاهوت المسيح لا نكون مفترين، بل إنما نجاهر بالحق.
الخلاصة
نستخلص مما سبق أن الإسلام أيّد العقيدة المسيحية في لاهوت المسيح بما شهد له به عن قدرته الفائقة الطبيعة، فقد نسب له ما لله من العلم بالغيب، وقوة الإحياء من الموت، مما لا تصح نسبته إلا لله وحده. وفي هذا إقرار من الإسلام بلاهوت المسيح.