الفصل الخامس:
نسبة الحقوق الإلهية للمسيح
1 - الشفاعة
جاء في سورة آل عمران 3: 45 : إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ .وقد فسر الرازي هذه الآية بقوله: وجيهاً في الدنيا بسبب النبوّة، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى. بسبب أنه يجعله شفيع أمته، ويقبل شفاعته فيهم وفي تفسير الجلالين: وجيهاً ذا جاه في الدنيا بسبب النبوّة والآخرة بالشفاعة والدرجات العلا. وفي تفسير البيضاوي: الوجاهة في الدنيا النبوّة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة .
وقال الزمخشري في كشافه: الوجاهة في الدنيا النبوّة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة .
أجمع هؤلاء المفسرون على تفسير كلمة وجيه الواردة في الآية بالشفاعة. وبينما نرى الإسلام قد أثبت للمسيح هذا الإختصاص نراه أولاً قد أنكر هذا الحق على كل من عداه من البشر بما فيهم الأنبياء والرسل وثانياً نراه في الوقت نفسه يصرح بأن الشفاعة حق من حقوق الله جل شأنه.
أما عن الأمر الأول فنذكر سورة التوبة 9: 80 اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وقد جاء تفسير الجلالين لهذه الآية ما نصه: استغفر يا محمد أو لا تستغفر لهم تخيير في الاستغفار وتركه. وقال البيضاوي في تفسيره: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .
وجاء في سورة الفتح 48: 11: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً .ويقول تفسير الجلالين لهذه الآية: قل فمن إستفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يملك لكم من الله شيئاً إنْ أراد بكم ضراً. وفسرها البيضاوي: قل فمن يملك لكم من الله شيئاً فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه إنْ أراد بكم ضراً ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل عقوبة على التخلف .
والنتيجة التي لا يمكن استنباط غيرها من هاتين الآيتين وتفسيرهما هي ان الشفاعة من البشر باطلة لا تنفع ولا تُقبل، فمن ذا الذي يشفع عنده، وهو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم؟
هذا عن الأمر الأول، وهو إنكار الإسلام الشفاعة لغير المسيح. أما عن الأمر الثاني، وهو تصريح الإسلام بأن الشفاعة حق محصور في الله وحده دون سواه، فقد جاء في سورة السجدة 32: 4 : اللّهُ الّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ؟ .وفي تفسير الجلالين لهذه الآية: ما لكم يا كفار مكة من دونه أي غيره من ولي اسم ما، بزيادة من أيّ ناصر ولا شفيع يدفع عذابه عنكم أفلا تتذكرون هذا فتؤمنون .
وجاء في سورة الزمر 39: 44 قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .وصراحة هذه الآية لا تحتاج إلى تفسير أو تعليق. فإذا كان الإسلام قد صرح بأن لا شفاعة للبشر، وأن هذه الشفاعة من حقوق الله جل شأنه، في الوقت الذي أثبتها فيه للمسيح، كانت النتيجة المنطقية لهذا هي إقرار الإسلام بلاهوت المسيح. ولم يكن الإسلام في هذا إلا مصادقاً على صحة العقيدة المسيحية التي تعلّم أن المسيح هو شفيعنا لدى الآب السماوي العادل الرحيم، وأنه لا شفيع سواه نرجوه، إذ قدم ذاته كفارة عن خطايا العالم أجمع بذبيحة نفسه. قال الرسول يوحنا : إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الْآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كل العالم أَيْضاً (1 يوحنا 2: 1 ، 2) وقال بولس الرسول: فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الّذينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللّهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ (عبرانيين 7: 25) فشكراً لله لأجل المسيح الشفيع العظيم الذي بشفاعة ذبيحته المقدسة يستطيع كل خاطئ أثيم، يرجع إلى الله ويؤمن به من كل قلبه، أن ينال تطهير خطاياه ويربح الحياة الأبدية، ويحصل على الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل.
2 - المسيح الديّان
روى البخاري: لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً (صحيح البخاري جزء 3 صفحة 107). فهذا الحديث ناطق بأن المسيح سيأتي ديّاناً عادلاً، وهذا ما يعلنه الوحي الإلهي في الإنجيل المقدس حيث قال المسيح: لِأَنَّ الْآبَ لَا يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلّ الدَّيْنُونَةِ لِلِابْنِ (يوحنا 5: 22) وفي ختام سفر الرؤيا: وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لِأُجَازِيَ كُلّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ (رؤيا 22: 12)
فالإسلام - كما يُرى في الحديث السابق تكلم عن المسيح كديّان عادل، فصادق بذلك على صحة المعتقد المسيحي فيه، وافق قول الإنجيل الطاهر. ولا ريب في أن الدينونة هي عمل داخل دائرة سلطان الله، ولن يستطيع إنسان مهما سما قدره أن يتجرأ على أن يشارك الله تعالى هذا السلطان الخاص به. فإذا كان الإسلام قد نسب للمسيح هذا الحق، فما هو إلا شهادة منه على صدق العقيدة المسيحية عن لاهوت المسيح.
3 - المسيح مصدر الحياة
مرّ بنا عند الكلام عن ألقاب المسيح في القرآن أن الرازي فسر لقب روح منه بأنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم، وأن البيضاوي قال: سُمّي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب. إذاً فالمسيح بحسب إقرار هذين الإمامين لم يكن سلطانه للإحياء مقصوراً على إقامة الموتى بالجسد، ولكنه أيضاً كان كما هو كائن وسيكون إلى الأبد ذا سلطان لإحياء القلوب، ومنح النفوس سر الحياة الداخلية.
وهذا بعينه ما أعلنه عن نفسه بقوله: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا (يوحنا 11: 25) وقوله: وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ (يوحنا 10: 10). وهذا أيضاً ما أعلنه الرسول بولس بقوله: صَارَ آدَمُ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً، وَآدَمُ الْأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً (1 كورنثوس 15: 45) فالإسلام يصدّق على ما جاء به الإنجيل عن المسيح كواهب الحياة ومصدرها. ومن الأمور البديهية أن سلطان إحياء القلوب حق من حقوق الله تعالى، وأن الضمير النقي لا يسمح بأن يُنسب لبشرى هذا السلطان. ولذلك فإن شهادة الإسلام للمسيح بأنه الحياة تأييد منه للعقيدة المسيحية عن لاهوت المسيح.
خلاصة الباب الرابع
رأينا في هذا الباب أن الإسلام أقرّ بلاهوت المسيح بما أثبته له من الألقاب التي لقَّبه بها، ومن الحقائق الخاصة التي صرح بها عن حياته في ذاتها، وبما شهد له به من الكمال الأخلاقي، وبما قرره له من القدرة الفائقة الطبيعة، ثم من الإختصاصات والوظائف التي هي من حقوق الله وحده، لما له من مركز ممتاز. وكفى بذلك دليلاً على لاهوت المسيح، له المجد إلى أبد الدهر. آمين.