الفصل السادس:
المسيح الإنسان
أفاض القرآن في الكلام عن المسيح كرسول بعثه الله إلى العالم، فقد جاء في سورة النساء 4: 1إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ .واتخذ البعض تصريح القرآن بأن المسيح رسول الله دليلاً ينفي الألوهية عنه. ولكننا لا نرى فيه أيّ إنكار أو مساس بالعقيدة المسيحية الصحيحة عن المسيح، فالمسيحية أيضاً تتكلم عن المسيح كرسول، وهي في هذا تنطق بما صرح به المسيح عن ذاته القدوسة. ففي مواضع كثيرة تكلم عن رسالته إلى العالم من قِبَل الآب، ومن ذلك قوله لتلاميذه: طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الّذي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ (يوحنا 4: 34). وقوله: يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الّذي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ (يوحنا 9: 4)
ولرسالة المسيح معنى خاص غير معنى رسالة الرسل الآخرين. فهي رسالة تؤيد لاهوته، وتعلن غاية مجيئه في الجسد. هي رسالة معناها إتيان الأقنوم الثاني إلى العالم متحداً بالناسوت الذي أخذه من العذراء مريم. هي رسالة خاصة به تختلف اختلافاً كلياً عن رسالة البشر المبعوثين.
وكان القصد الجوهري من هذه الرسالة هو إعلان الله للعالم إعلاناً تاماً وحقيقياً، عجز الرسل والأنبياء عن إبلاغه للبشر بصورته التامة. ففي المسيح الإله المتجسد رأينا قداسة الله الكاملة، وبغضه للخطية. وفيه رأينا عدله وحكمته ورحمته الفائقة الوصف، ومحبته لخليقته في صورتها اللانهائية. رأينا هذا كله في حياة المسيح التي فيها قدم المثل الأعلى للحياة الأخلاقية الكاملة، ورأيناه بصورة عملية في موته على الصليب.
ففي ذبيحة المسيح رأينا قداسة الله وبغضه للخطية حتى قدم نفسه فداءً يمحو سلطانها، ويمنح البشر قوة الغلبة عليها. وفيها رأينا عدله الكامل الذي جعله يوفي حقوق ذلك العدل التي كانت مطلوبة منا كاملة في شخصه، تقديساً لتلك الحقوق وإيفاءً لها. وفيها رأينا رحمته التي جعلته يستوفي حقوق عدله المطلوبة منا في شخصه، ويموت هو لكي نحيا نحن، ويتألم هو لكي نستريح بآلامه. وفيها رأينا حكمته التي ظهرت في الجمع بين مطلبي الرحمة والعدل المتغايرين، عن طريق التجسّد والفداء. وفيها رأينا محبته الفائقة الوصف، فليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع الإنسان نفسه لأجل أحبائه، كما قال هو لتلاميذه الحواريين (يوحنا 15: 13) .
كان تجسد المسيح لأغراض كثيرة. وكان مجيئه كرسول، ليعلن الله للعالم إعلاناً صحيحاً واحداً من تلك الأغراض الكثيرة. وكان تجسُّد المسيح هو الطريق الوحيد لتحقيق تلك الأغراض جميعها، كما أنه كان الطريق الوحيد لتأدية الرسالة لإعلان الله على الوجه الأكمل.
إنه سر عميق، وعمقه يضاعف جلاله، ويزيد في الإحساس بمحبة الله التي تجلّت في مجيئه بالجسد.
أما أن المسيح جاء رسولاً ليعلن الله للعالم فهذا ما يخبرنا به الوحي الإلهي في قوله: وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.,, اللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الّذي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنا 1: 14 ، 18)
وأما أنّه أدى هذه الرسالة على وجهها الأكمل، فهذا ما أعلنه المسيح في قوله لفيلبس تلميذه: الّذي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ (يوحنا 14: 9) وكذلك في حديثه مع اليهود حيث قال: الّذِي يَرَانِي يَرَى الّذي أَرْسَلَنِي (يوحنا 12: 45)
وقد وقف قائد المائة تحت الصليب، ولم يستطع أمام صورة المحبة التي رآها في المسيح إلا أن يشعر بأن المصلوب لم يكن إنساناً عادياً، وأن المحبة التي تمثلت في تلك التضحية لم تكن محبة بشرية، لكنها كانت محبة إلهية. وفي المسيح المصلوب رأى قائد المائة الله الذي لا يُرى، فصرخ لوقته: حَقّاً كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللّهِ (مرقس 15: 39)
لقد كان المسيح رسولاً، وكان لرسالته معنى خاص امتازت به عن رسالة الأنبياء والرسل، فرسالته كانت لإعلان الله للبشر في شخصه الممجد, وفي هذا يقول الرسول بولس: اللّهُ، بَعْدَ مَا كَلّم الْآبَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلّمنَا فِي هذِهِ الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ (عبرانيين 1: 1، 2)
وهذه الرسالة بمعناها الخاص لا تطعن في لاهوت المسيح، بل على العكس هي تفسر مجيء الله بالجسد إلى العالم. والإسلام في كلامه عن المسيح كرسول لم يناقض المسيحية في شيء، فالمسيحية تقول: والكلمة صار جسداً وحل بيننا والإسلام يقول: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم. وكلا القولين يفيد معنى واحداً هو أن الله قد اتخذ جسداً من العذراء مريم وجاء إلى العالم ليمنحه فداء وحياة أفضل.
والكلام عن المسيح كرسول معناه الكلام عنه كإنسان، فكيف يكون المسيح إلهاً وإنساناً معاً؟
يظن البعض أن هذا القول ينفي لاهوت المسيح ويناقض العقيدة المسيحية في ذاته القدوسة، ولكن هذا قول مردود، لأن المسيحية لا تعلّم أن المسيح إله وحسب، أو إنسان مجرد، بل إنه إله حق وإنسان حق، وأن اللاهوت فيه قد اتحد بالناسوت، اتحاداً لا اختلاط فيه ولا امتزاج، ولا فناء، وذلك بسرٍّ يفوق الإدراك البشري ويسمو فوق مستوى العقول.
ولقد تكلم الإنجيل عن المسيح كإله وكإنسان، بل إنّ المسيح نفسه قرّر هذا عن شخصه الممجد، فأعلن أنه والآب واحد (يوحنا 10: 30). كما أعلن أنه ابن الإنسان (لوقا 19: 10). واستعمل التعابير التي تنبئ بلاهوته واتحاده الكامل بالله الآب ومساواته له (يوحنا 17: 14). كما استعمل التعابير التي تشير إلى ناسوته، كقوله لمريم المجدلية: وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ (يوحنا 20: 17)
ولو أن المسيحية علّمت باختلاط أو امتزاج بين طبيعتي اللاهوت والناسوت في المسيح، لكان هناك محل لاتخاذ التعابير التي تشير إلى ناسوته برهاناً على ضلال التعاليم المسيحية وبطلانها. أما والمسيحية تعلّم بأن كلتا الطبيعتين ومع اتحادهما التام في ذات المسيح قد حفظتا كيانهما وخواصهما، فلم يبق مجال للإعتراض على هذا التعليم إستناداً إلى التصريحات الإنجيلية والقرآنية التي تشير إلى ناسوته له المجد.
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن كفارة المسيح لم تُبْنَ إلا على أساس التعليم باتحاد الطبيعتين فيه، مع احتفاظ كل منهما بكيانها وخواصها، لأن الكفارة كانت تستلزم ذبيحة دموية حقيقية، وهذه الذبيحة تستلزم جسداً حقيقياً تماماً، وهذا الجسد هو جسد ابن البشر. لأن الكفارة كانت تستلزم أن يكون في هذا الجسد، المقدم فدية عنا جسداً فوق الطبيعة البشرية، لتكون له القيمة التي توفي مطالب العدل الإلهي كاملة، ولتجتمع فيه الرحمة والعدل معاً, ولهذا شاءت محبته تعالى أن يحل اللاهوت في جسد ابن الإنسان، لتكون الكفارة كفارة إلهية، يستوفي بها العدل الإلهي جميع حقوقه كاملة. وهذا ما اجتمع في المسيح الإله والإنسان، ولهذا لا يمكن أن يُعتبر الكلام عن ناسوت المسيح ناقضاً لحقيقة لاهوته، ولا يمكن اتخاذه برهاناً ضد صدق تعليم المسيحية عن لاهوت المسيح.
الخلاصة
نرى مما سبق أنه من الخطأ أن يعتبر ما أثبته الإسلام عن ناسوت المسيح سواء في الكلام عنه كرسول، أو فيما ذكره من التصريحات الأخرى تهجُّماً على العقيدة المسيحية، أو إنكاراً لها. والذي يطالع سورة النساء 171 يرى أن القرآن ذكر أن المسيح كلمة الله وروح منه في ذات العبارة التي تكلم فيها عنه كرسول، فيعلم أن الإسلام قد أثبت للمسيح لاهوته وناسوته معاً. وهذا هو ما تعلم به المسيحية.