الباب الخامس: الكفارة

الفصل الأول: عقيدة الكفارة في المسيحيّة

تتلخص العقيدة المسيحية عن كفارة المسيح فيما يأتي:

(1) إنّ الإنسان الأول سقط في العصيان، وبسقوطه هذا وقع تحت حكم الموت، الذي أنذره به الله عندما وضعه في جنة عدن، وقضى به عليه، كما أنه قد خسر حالة الكمال الأخلاقي التي خلقه الله عليها، وأصبح خاضعاً لناموس الفساد وسلطان الخطية.

ولما كان الشوك لا يثمر تيناً فقد صار جميع نسل هذا الإنسان الأول فاسداً كفساده، واقعاً مثله تحت حكم الموت.

(2) إنّ الله وإن كان غير خاضع لناموس خارج عنه، إلا أنه مرتبط بناموس كماله الأخلاقي، فهو وإن كان على كل شيء قدير، إلا أن كماله الأخلاقي لا يسمح له بأن يأتي ما يناقض طبيعته الخيِّرة والقدوسة. فالله لا يمكن أن يكذب، وليس هذا لأنه خاضع لقانون يحاسبه، بل لأن الصدق من صفات كماله الأخلاقي. فهو وإن لم يكن مرتبطاً بقانون خارجي، إلا أنه مرتبط بقانون طبيعته الأخلاقية الكاملة، وهذا يجعله لا يفعل ما يخلّ بأيّ صفة من صفاته أو ما يمسها.

ومن صفاته تعالى رحمته المتناهية وعدله الكامل. وقياساً على ما ذكرنا من ارتباط الله بكمال صفاته، نقول إنّه من المستحيل أن يتصرف الله تصرفاً تدعو إليه رحمته ويكون مناقضاً لعدله، أو يفعل ما يتطلبه عدله ويناقض رحمته. فارتباط الله بقانونه الذاتي يجعله لا يصنع رحمة تمس عدله، ولا ينفذ عدلاً يتناقض مع رحمته.

(3) إنّ الإنسان لما سقط، تنازعه مطلبان: العدل يطلب تنفيذ الحكم عليه كاملاً لا تساهل فيه ولا تفريط. والرحمة تطلب من جانبها الصفح عنه صفحاً تاماً لاحساب فيه ولا عتاب. والمطلبان متناقضان.

ونشأت عن هذا الموقف مشكلة، اقتضت حلاً يجمع بين المطلبين المتناقضين ويوفق بينهما، بتقديم فدية ينال بها الإنسان الصفح والغفران، ويستوفي بها العدل الإلهي حقوقه كاملة.

(4) لم تكن هناك فدية تتمم مطالب العدل والرحمة إلا الفدية من جانب الله نفسه، لأن الفدية يجب أن تكون طاهرة من كل عيب ودنس، مقدسة بلا لوم. وليس في كائنات العالم بأسرها من هو طاهر وقدوس وبلا عيب سوى الله جل جلاله. ويجب أن تكون ايضاً عظيمة القدر توازي قدر نفس البشر التي خُلقت على صورة الله ومثاله، وليس في العالم بأسره من له هذه القيمة التي توازي ثمن العالم بأجمعه سوى الله.

وهنا نشأت مشكلة أخرى، هي أن الله لا جسد له يقدمه فدية عن العالم، فلم يكن بد من أن يتخذ الله جسداً، فيه يتحد اللاهوت والناسوت. وهذا ما تم في السيد المسيح، باعتباره الله الذي ظهر في الجسد. ففي المسيح كمال مطلبي العدل والرحمة. فالعدل أخذ حقوقه كاملة، إذ قدم المسيح ذاته ذبيحة مقدسة كريمة لأنها ذبيحة الناسوت المتحد باللاهوت ذي الجلال والعظمة والقداسة الكاملة. والرحمة استوفت مطلبها كاملاً إذ نال الإنسان الصفح والغفران، ومزق صك الدينونة التي كانت كالسيف فوق رأسه.

وذبيحة المسيح كما أعلنت رحمة الله، وظهر فيها عدله الكامل كشفت للعالم عن جميع صفات الله الأخرى. ففيها ظهرت محبته العميقة الكاملة للبشر، التي جعلته يفديهم بذاته القدوسة. وفيها ظهرت قداسته في بغضه للخطية حتى صُلب ليمحو سلطانها. وظهرت حكمته في الجمع بين مطلبي الرحمة والعدل المتناقضين.

(5) إنّ المسيح ككفارة قد مات، وكابن الله قد قام من الأموات وصعد حياً إلى السموات.

الخلاصة

تعلم المسيحية أن الله أسكن آدم وزوجه الجنة، وأمرهما بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وإلا ماتا وتعرّضا لعقاب الله ودينونته العادلة. فخالفاه وأكلا، فسقطا واستحقا القصاص الإلهي، وكانا في سقوطهما نائبين عن الجنس البشري بأجمعه. وهذا السقوط قد أنتج فساد الطبيعة البشرية، وحرمها ما منحها الله من كمال، كما أنه أوقف الإنسان بين مطلبي العدل والرحمة الإلهيين، وهما مطلبان متناقضان. فلما جاء ملء الزمان ظهر الله في الجسد لمحبته الفائقة لخليقته، وجال يفعل خيراً، ثم مات على الصليب فداءً عنا وإتماماً لمطالب عدله ورحمته، ثم قُبر وقام وصعد إلى السموات.

الصفحة الرئيسية