الردّ على دعوى التحريف
قديماً قيل: لو عُرف السبب بطل العجب. فجدير بنا هنا أن نأتي على ذكر الأسباب التي تدفع عامة المسلمين إلى اتهام الكتاب المقدس بالتحريف. والذي نراه دافعاً لهذا أسباب أربعة:
(1) لفظ التحريف الذي ذكره القرآن.
(2) فكرة المسلمين عن الوحي الإلهي والإنجيل.
(3) ذكر حوادث الصلب والدفن والقيامة ضمن نصوص الكتاب المقدس.
(4) عدم ذكر اسم محمد فيه.
السبب الأول: التحريف
يدّعي إخوتنا المسلمون أنّ الكتاب قد حُرّف لأنّ القرآن اتّهم ضمن آياته أهل الكتاب بتحريف كتابهم. ولنأت بهذه الآيات ثم نعقب بردِّنا عليها:
جاء في سورة البقرة 2: 42: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
قال الرازي في تفسير هذه الآية: ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، لأنّ النصوص الواردة في التوراة والإنجيل بخصوص محمد كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال. ثم أنّهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات، فهذا هو المقصود بقوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل. وقال البيضاوي في تفسيره: ... واللبس الخفاء، وقد يلزمه جهل الشيء مشتبهاً بغيره، والمعنى: لا تخلطوا الحق المنزل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما، أو: ولا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتمونه في خلاله، أو تذكرونه في تأويله ... وتكتموا الحق ... نهوا عن الإخلال بالتلبس على من سمع الحق، والإخفاء على من لم يسمعه. وحاصل هذا التفسير أنّ الغرض من اللبس ليس التحريف بل التأويل والإخفاء، وهذا حجة على أنّ أهل الكتاب حافظوا على كتابهم.
وقال أيضاً في البقرة 2: 75: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال البيضاوي: فريق منهم طائفة من أسلافهم أي اليهود يسمعون كلام الله يعني التوراة ثم يحرفونه كنعت محمد وآية الرجم، أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون. من بعد ما عقلوه أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه شك. فظاهر أنّ المقصود بالتحريف هنا أيضاً التأويل الفاسد والإخفاء.
وقال أيضاً في البقرة 2: 101وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
قال الرازي في تفسير هذه الآية ما ملخصه: إنّ الذي نبذه أهل الكتاب هو التوراة بعدولهم عنه عن علم ومعرفة. وقال البيضاوي: وأعلم أنّ الله دلّ بالآيتين على أنّ جيل اليهود أربع فرق: فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون ... وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمرداً وفسوقاً، وهم المعنيون بقوله: نبذ فريق منهم. وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم، وهم الأكثرون. وفرقة تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خفية عالمين بالحال بغياً وعناداً، وهم المتجاهلون. وحاصل هذه الآية وتفسيرها الإقرار ببقاء التوراة دون تحريف. وما كان تلاعب اليهود فيها إلا بالإخفاء وفساد التأويل.
وقال أيضاً في البقرة 2: 174 : إِنَّ الّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ الّا النَّارَ وَلَا يُكَلّمهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
وفسّر الرازي هذه الآية بما ملخصه: إنّ أهل الكتاب كانوا يكتمون صفة محمد ونعته والبشارة به، وهو قول ابن عباس وقتادة والأصم وابن مسلم، وقد اختلفوا في كيفية الكتمان. فالمروي عن ابن عباس أنّهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل. وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنّهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما, بل كانوا يكتمون التأويل، لأنّه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوَّة محمد، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة عن محاملها الصحيحة. فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إنّ الذين يكتمون معاني ما أنزل الله .
ومن هذا التفسير نستخلص:
(1) لا يصح أن تُتخذ الآية دليلاً على تحريف الكتاب.
(2) التحريف المقصود هو الكتمان وفساد التفسير.
(3) تحريف أهل الكتاب كتابهم مستحيل حسب إقرار الإمام الرازي.
وقال في سورة آل عمران 3: 70يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .
فسرها الرازي بأن المقصود بآيات الله الآيات الواردة في التوراة والإنجيل المبشِّرة بمحمد، وأنّ أهل الكتاب كانوا ينكرون وجود هذه الآيات أمام المسلمين وعوامهم، فإذا خلوا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها.
وفي الإشارة إلى شهاداتهم بصحتها دليل على أنَّ التحريف كان بالكتمان وفساد التأويل.
كما جاء في آل عمران 3: 78: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
وقد تساءل الرازي: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟ وأجاب أن هذا العمل ربما يكون قد صدر عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ، والأصوب عندي أن الآيات الدالة على نبوّة محمد كانت تحتاج إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والإعتراضات المظلمة فتصبح هذه الآيات غامضة على السامعين، واليهود كانوا يقولون مراد الله من الآيات ما ذكرنا لا ما ذكرتم، فهذا هو المراد بالتحريف ولوي الألسنة .
ويتضح لنا من هذه الآية وتفسيرها:
(1) الشعور بصعوبة القول بتحريف الكتاب.
(2) الضعف في تعليل ذلك التحريف المزعوم.
(3) استصوب الرازي الرأي القائل إن معنى التحريف هو التأويل الفاسد والتعمية في التفسير.
وجاء أيضاً في آل عمران 3: 187 وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيَثاقَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ .
وفسّر الرازي والبيضاوي والجلالان وغيرهم من المفسرين هذه الآية بما لا يخرج عن معنى التفسير المذكور في الآية السابقة.
وجاء في النساء 4: 46: مِنَ الّذينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ... .
ويقول الرازي في تفسيره ما ملخصه: إنّهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر، فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ قلنا: لعل القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب غاية في القلة فقدروا على هذا التحريف.
ثم أتى الرازي برأي آخر قائلاً: إنّ المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة بالآيات المخالفة لمذهبهم، وهذا هو الأصح.
وخلاصة هذا التفسير:
(1) ضعف تعليل وقوع التحريف.
(2) الأصح في المراد بالتحريف هو التفسير الفاسد.
(3) إنّ هذا عينه كان يجريه أصحاب المذاهب المبتدعة الإسلامية في القرآن المسلّم بأنه لم يحرَّف.
وجاء في المائدة 5: 41 : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ويفسرها البيضاوي بقوله: من بعد مواضعه أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها... رُوي أنّ شريفاً من خيبر زنى بشريفة، وكانا مُحْصَنَين، فكره اليهود رجمهما، فأرسلوهما مع رهط إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله عنهما، وقالوا إنْ أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا. فأمرهم بالرجم فأبوا عنه. فجعل ابن صوريا حكماً بينه وبينهم وقال له: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فرق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه حلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن... قال: نعم. فوثبوا عليه. فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. وقال الرازي: من بعد مواضعه أي بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه، وأحل حلاله وحرم حرامه. وهنا المقصود بقوله إنهم وضعوا الجَلْد مكان الرجْم في حادثة زنى اثنين من أشراف قريش. وقد ذُكرت هذه الحادثة في كتاب (أسباب التنزيل) مما يدل على أن المقصود بالتحريف ليس هو التغيير اللفظي، بل الإخفاء وفساد التفسير، كما تبين في تفاسير الآيات السابقة، وفي هذا دفع لادّعاء التحريف المزعوم.
نستنبط من كل ما سبق من الآيات القرآنية وتفاسيرها عن دعوى تحريف الكتاب المقدس قبل عصر الإسلام:
1 - التحريف لغة هو صرف أو إمالة الشيء عن أصله. وقال أكثر المفسرين إنّ تحريف الكتب المقدسة معناه الصرف الفاسد. ومن قال منهم بغير ذلك لم يحكم جازماً بوقوع التحريف اللفظي، بل كان يصرح باحتمال الوجهين، ثم يرجحون القول بالتحريف المعنوي.
2 - المعقول هو حمل كلمة التحريف على معنى التحريف المعنوي، لصعوبة التحريف اللفظي، كما أقر بذلك أكثر المفسرين. وقد قال الرازي عند تفسيره المائدة 5: 41 : التحريف يحتمل التأويل الباطل لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتّى فيه تغيير اللفظ .
3 - على فرض حصول التحريف يكون قد حدث في التوراة دون مساس بالإنجيل، لأن آيات القرآن التي ذكر فيها التحريف نزلت في اليهود، ولا تشير قط إلى النصارى. وإذاً نستطيع أن نجزم بأنه لا برهان من القرآن على تحريف الإنجيل مطلقاً.
4 - لم يرمِ القرآن كل اليهود بتحريف التوراة (على فرض أن المقصود به تحريف لفظي) إنما وقع من بعض اليهود, وعلى ذلك فأكثر نسخ التوراة عند بقية اليهود لم يمسها التحريف.
5 - لم يرمِ القرآن اليهود بتحريف جميع التوراة، بل بتحريف بعض آياتها.
6 - لم يرد من آيات التحريف شيء في السّور المكية، بل أنّ ما ورد في السّور المكية عن التوراة والإنجيل كان مدحاً وتعظيماً. ومعلوم أن السّور المكية سبقت السّور المدنية، فلو كان هناك تحريف في الكتاب لأُشير إليه منذ البداءة عوض المدح والإطراء.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير: التحريف والتغيير والتبديل هو إمالة الشيء عن حقه، وهذا هو معنى التحريف في اللغة. ومتى نُسب إلى الكتب السماوية كان القصود به إمالة كلام الله عن مقصده الإلهي، ومعناه الحقيقي. ويشترط في حصول التحريف شروط ثلاثة: (1) إنّ التحريف يصير بمعرفة صانعه. (2) أن يصنعه الفاعل عمداً وبقصد. (3) أنّه لا يحصل ولا يقوم إلا بإفساد النص الحقيقي .
ثم قال الرازي: وقد بدأت بذكر الشرط الأول لأنه بحسب قرآننا الشريف هو الذنب الثقيل الذي ليس له مثيل, ولكن إن حدث بدون معرفة الفاعل أي بجهل فلا يكون ذنباً. والنتيجة أن القرآن حين يذكر تحريفاً ما، يريد التحريف الحاصل بمعرفة فاعله. دليل ذلك الآيات المذكور فيها أن الناس يحرفون الكتب السماوية وهم يعلمون. وقد ثنيت بالشرط الثاني، لأن تحريف أيّ كتاب هو فعل شنيع وتجاسر فظيع ارتكبه الفاعل. وكل فعل شنيع هو جرم وذنب. ولا بد أن يكون الجرم مرتكباً عمداً ومفعولاً قصداً. ثم ختمت بالشرط الثالث، وهو أن التحريف يقوم في إفساد معنى النص الحقيقي، لأن هذا هو أصل كلمة تحريف - أعني إمالة الشيء عن حقه، فإن لم تحصل الإمالة لم يحصل التحريف .
ثم قال الرازي: واعلم أنه يمكن تبديل وتحريف الكتب المقدسة بطرق شتى منها:
1 - زيادة كلمات أو عبارات لم تكن في النص الأصلي.
2 - حذف كلمات أو عبارات كانت في الأصل.
3 - تبديل الكلمات أو العبارات وتعويضها بما ينافيها لفظاً ومعنى.
4 - تغيير بعض الألفاظ عند إلقائها على السامعين كي لا يستفيدوا ولا يعرفوا الحق المبين.
5 - الضرب صفحاً عن بعض النصوص في القراءة.
6 - تعليم العامة تعليماً مبايناً لتعليم الله في كتابه، وخداعهم بأن هذا التعليم المحرَّف هو المستفاد منه.
7 - تأويل بعض كلمات مجازية تأويلاً كاذباً ومغايراً للمعنى المقصود.
8 - تفسير بعض الآيات الغامضة المعنى تفسيراً محرَّفاً.
وقد زاد البعض على ذلك طريقة أخرى، وهي تأليف كتب كاذبة وادّعاء مؤلفيها أنها موحاة من لدن العلي الأعلى، ولكن هذا الفعل ليس من باب التحريف في شيء، لأن التحريف هو تغيير كلام الله أو إمالته عن حقه. فالنتيجة أن إذاعة كتب كاذبة، والادعاء بأنها موحى بها من الله، ليس من باب التحريف بل من باب الكذب.
ثم أن أنواع التحريف الثمانية المذكورة تنقسم قسمين: ظاهر ومقدَّر. فالتحريف الظاهر هو الثلاثة المذكورة أولاً. والتحريف المقدر هو الخمسة الأخيرة .
ويحق لنا هنا أن نسأل: هل هذا التحريف المزعوم لفظي أو تقديري؟ فإن كان تحريفاً لفظياً فهل حدث يا ترى بمعرفة وقصد؟ أم وقع سهواً وبدون معرفة؟ وإن كان لفظياً وبمعرفة وقصد. فليقولوا لنا في أيّ قسم من قسمي الكتاب وقع؟ هل أصاب العهد القديم (التوراة) أم وقع في العهد الجديد (الإنجيل) ؟
إن قالوا: إنه قد وقع في التوراة فليقولوا: من الذي فعله؟ وهل الفاعل من اليهود أم من النصارى؟ وإن كان قد وقع من اليهود، فهل حدث قبل المسيح ورسله أم بعدهم؟
إن قالوا إنه وقع قبلهم فهذا قول مردود، لأن المسيح حثَّ اليهود على تفتيش التوراة، ووبَّخ الصدوقيين على عدم معرفتها قائلاً لهم: فَتِّشُوا الْكُتُبَ لِأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الّتِي تَشْهَدُ لِي (يوحنا 5: 39) كما قال: تَضِلّونَ إِذْ لَا تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلَا قُوَّةَ اللّهِ (متى 22: 29) كما أن المسيح ورسله اقتبسوا عدة اقتباسات وشواهد من التوراة لا تخالف النصوص التي كانت بأيدي اليهود إذ ذاك ولا تزال بأيديهم إلى اليوم. وليس من المعقول أن يستشهد المسيح كلمة الله وروحه بآيات محرَّفة. وليس من المعقول أيضاً أن يستند تلاميذه وهم الحواريون أنصار الله على كتب تحرفت، ويثبتون تعاليمهم من نصوصها.
فإن قالوا إنّ التحريف قد وقع بعد المسيح ورسله فإن هذا أيضاً زعم باطل، لأن التوراة من زمن المسيح إلى اليوم موجودة لدى المسيحيين كما هي موجودة لدى اليهود، فلن يتجاسر اليهود على تحريفها وهم يعلمون بوجودها بين أيدي النصارى، مخافة إقامة الحجة عليهم.
وإن قالوا إنّ التحريف قد وقع من النصارى، فإنهم أيضاً يخشون ذلك كما يخشى اليهود، لأنهم لا يستطيعون تحريفاً مع علمهم بوجودها لدى خصومهم اليهود، الذين لا يمكنهم السكوت على هذا العمل الشائن المعيب. والتوراة لا زالت باقية لدى الطرفين إلى الآن بذات اللغة العبرية التي كُتبت بها. ولقد صارت مقارنة ما بيد اليهود بما بيد النصارى، فوُجدت النسختان في غاية الاتفاق. وعلى المعترض أن يمتحن الأمر بنفسه، فإذا وجد زيادة أو نقصاً أو تبديلاً في أحدهما، فيحق له إذ ذاك الاعتراض. ولكن إن وجد النسختين متفقتين كما وجدهما غيره فماذا يكون حكمه؟ هل يا ترى يقول إن النصارى واليهود اتفقوا على تحريفها سوياً؟
انّ هذا كما قلنا غير معقول، لأنه لا يُعقل أن يتفق اليهود وهم منكرو المسيح مع النصارى على تحريف التوراة، وخاصة في تلك الأقوال الواردة فيها التي توضح لاهوت المسيح وناسوته المذكورة في مواضع عدة من العهد القديم. فهل ينتظر أن يتفق اليهود والنصارى على إضافة النبوّات الخاصة بلاهوت المسيح وصلبه ودفنه وقيامته، مع أنهم يعارضون المسيح في تصريحه بلاهوته، ويضطهدون رسله لأنهم كانوا يكرزون بأنه ابن الله الحي؟
أضف إلى ما ذكرنا أنه في عصر الحواريين، وبعده بقليل، كتب كثير من العلماء الأتقياء، وآباء الكنيسة مثل: أكليمندس الروماني، وأغناطيوس ويوستينوس الشهيد وأكليمندس الاسكندري وإيريناوس الذين الّفوا كتبهم في القرنين الأول والثاني للمسيح، وكأوريجانس وكبريانوس وأوسابيوس وأمبرسيوس ويوحنا فم الذهب وباسيليوس وأغسطينوس الذين كتبوا كتبهم في القرنين الثالث والرابع، ومؤلفاتهم لا تزال موجودة لدى الطوائف المسيحية إلى الآن مفعمة بالاقتباسات من آيات الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، فإذا قارنّا ما كتبه الأولون مع ما لدى النصارى اليوم لما وجدنا فرقاً. فوجود الاتفاق الكلي بين اقتباسات هؤلاء العلماء المختلفة من التوراة والإنجيل اللذين كانا بأيديهم في أزمانهم البعيدة، قبل ظهور الإسلام، وبين النصوص ذاتها في الكتب المتداولة اليوم دليل ساطع على عدم وقوع أيّ تحريف في كتب الله المقدسة.
السبب الثاني:
فكرة المسلمين عن الوحي والإنجيل:
أما السبب الثاني فيرجع إلى نظريتهم فيما يتعلق بالوحي الإلهي والإنجيل، تلك النظرية التي تقول إن الكتب الإلهية يوحيها الله لفظاً ومعنى وإنها كائنة منذ الأزل، مدوّنة في لوح محفوظ وإن الإنجيل كتاب سماوي أُوحي إلى المسيح من السماء.
نظرية الوحي:
يؤمن معظم علماء المسلمين أن الله هو نفسه الذي كتب الكتب الإلهية التي أوحاها إلى أنبيائه ورسله الكرام، ويعتقدون أنه منذ الأزل أمر القلم فخطّ في اللوح المحفوظ نص العبارات والجمل التي أُوحيت إلى الأنبياء والرسل. ثم أنه اختار أناساً، سبق فعيّنهم ليكونوا رسله في تبليغ الأسفار المقدسة للبشر.
وبناء على هذه المعتقدات نراهم يقولون إن كل كلمة،وكل حرف، أُوحي من السماء، وبُلّغ بواسطتهم إلى العالم بطريقة آلية ميكانيكية .
فالنظر إلى الوحي الإلهي، من الناحية الإسلامية العامة، يخالف النظر إليه من الناحية المسيحية. فنحن المسيحيين (نؤمن كما يؤمن معنا أعلام فلاسفة المسلمين وحكمائهم كابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم) أن ليس عند الله لغات ولا حروف، فليس عنده إذاً إنزال آلي. فالاعتقاد المسيحي عن الوحي هو: تَكَلّم أُنَاسُ اللّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (2 بطرس 1: 21)
فمعنى الوحي عندنا هو إظهار حقائق غير ممكن لنا معرفتها بقوانا الطبيعية: كسرّ الثالوث الأقدس والتجسّد. وأما ما يمكن للعقل أن يصل إليه، ولكن تحت خطر الضلال، فيُسمّى إلهاماً. والوحي والإلهام أمر واحد بالنسبة لله تعالى، وأمران متميّزان بالنسبة للعقل البشري. وهما لا يعنيان أن الله لقّن الكتبة الذين كتبوا الأسفار المقدسة ما سطروه حرفاً حرفاً من تعاليم وتواريخ، بل إنّه حرّكهم للكتابة، وأنار عقولهم بالمعرفة، وحفظهم من الزلل. وليس في هذه الدرجات الثلاث ما يستحيل على الله تعالى، أو ينافي شيئاً من صفاته، كما أنّه ليس فيها ما ينزع عن الإنسان حريته ونبوغه الذاتي.
فإذا قلنا إنّ الأسفار المقدسة في العهدين القديم والجديد هي كلام الله، أو أسفار إلهية موحى بها من الله، أو منزلة من عند الله، لا نريد بذلك أنّ الله أنزلها آية آية، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، فكتبها الكاتب كما سمعها من فم الله أو ملائكته بحروفها الأصلية. لكننا نريد أنّ الله عز وجل إذا قصد بسمو لطفه وحكمته أن يُبلغ البشر شيئاً من أسراره حرّك باطنياً كاتباً يختاره فيبعثه على كتابة السفر المقصود، ثم يمده بتأييده الخاص ونعمته الممتازة، ويلهمه اختيار الحوادث والظروف والأعمال والأقوال التي شاء سبحانه كتابتها لفائدة عباده، وكان له رقيباً ومرشداً، وعصمه من الخطأ في نقلها وتسطيرها، فلا ينقل إلا ما ألهمه الله إيّاه، فيكون الرسول إذ ذاك ككاتب مطيع، في حوزة الكاتب الأسمى، وطوع إرادته.
وربما كانت بعض الحوادث والظروف مجهولة من الكاتب، فلا يصل إليها إلا إذا أوحاها الله إليه مباشرة، أو تكون معلومة لديه، أو مما يستطيع معرفته: باستطلاع الأخبار، وسؤال الشهود، والتنقيب والاستقراء، فلا حاجة عندئذ إلى تنزيلها عليه لعدم فائدة ذلك، إنما يلهمه الله كتابتها ويصونه في إيرادها عن الضلال، وهذا كافٍ لأن يُعزَى الكتاب إلى الله، فيُقال: كتاب الله، والكتاب الموحى به من الله، لأن الله هو المؤلف السامي له باختياره مواضيعه ومعانيه، وإلهام ناقليها، وتحريكهم على كتابتها بالنوع الذي أراده، وعصمته إيّاهم عن الخطأ في غضون تسطيرها من أولها إلى ختامها.
وعمل الله هذا لا يبطل صفات الكاتب الطبيعية: من ذكاء وأهلية، ومعارف لغوية، وفصاحة بديهية، ولا يخلقها فيه إذا كان ممن لم يحظ بها، لأن الله يختار من يشاء، وليس هو بحاجة إلى النُّحاة والبُلغاء ليلقي إليهم وحيه، ومن ثم لا يستلزم وحي الكتب المقدسة تنزيل الألفاظ، وتنسيق التراكيب، لكن يقتصر فيه عادة على الحكم والمعاني، فينقلها هذا في قالب مفهوم، وعبارة صحيحة واضحة، وذاك في تركيب لا يقصد به إلا إلى إيصال المعاني تامة إلى الأذهان، ولا يختلف المعنى في كلا النقلين. فشتان مثلاً بين فصاحة الشاعر البليغ كالنبي إشعياء، وبين أسلوب النبي عاموس، وكلاهما نبي ينقل آيات الله. كما أننا لا ننكر ما يمتاز به إنشاء الطبيب الأديب لوقا الإنجيلي من رقة التعبير، وانسجام العبارة اليونانية، عن إنشاء غيره من كتبة العهد الجديد، الذين الّفوا مثله باليونانية، ولكنهم يفكرون بلغة صباهم، فيُلبسون الصورة العبرانية ثوباً أجنبياً، يستشفّها القارئ من ورائه.
ولا عجب في ذلك، فإن الله إذا أوحى لنا كلامه يريد جوهر الدين ولب الآداب، ويقصد خلاص النفوس، لا قشور الحقائق وأعراضها.
فنظرة عامة المسلمين إلى الوحي الإلهي تدفعهم إلى أن يظنوا بالكتاب المقدس الظنون، وتجعلهم يعتقدون في تنزيله اعتقادهم في تنزيل القرآن من أنه رسالة أُوحيت من السماء إلى السيد المسيح، ولهذا فهم يقولون إنه لا موجب لوجود أربعة أناجيل تُنسب إلى المسيح، لا سيما وأنّ القرآن لم يذكر إلا إنجيلاً واحداً، زاعمين أنّ الإنجيل الذي بين أيدينا باعتباره أربع بشائر مختلف في بعض النصوص اختلافاً يجعل أمر تصديقها، والإيمان بعدم تحريفها متعذراً، ذاكرين في هذا الصدد ما كتبه البشيران متى ولوقا عن نسب المسيح، وما بين جدوليهما من اختلاف. مع أن المسلّم به عند الجميع أنّ المسيح وُلد من عذراء لم يمسسها بشر. ونحن لا نريد أن نترك هذا البحث دون بيان.
الأناجيل الأربعة:
الإنجيل (افنجليون) كلمة يونانية، معناها بشارة مفرحة، أو خبر سار، سمَّى بها المخلص بشارته الخلاصية، لأنها الحقيقة المفرحة التي طالما تاق الآباء إلى معرفتها، وأصبحت مرادفة تارة لتعليمه، وتارة لسيرته. وعن المخلص أخذها الرسل والإنجيليون، فقد كررها بولس وحده 58 مرة في رسائله، وردّدها مراراً الإنجيليون الأربعة، وغيرهم من كَتَبة العهد الجديد. وقد تأتي مضافة إلى الله، كما دعا بولس ذاته الرسول الْمُفْرَزُ لِإِنْجِيلِ اللّهِ، الّذي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ (رومية 1: 1 - 3) ،ويعني بكلمة إنجيل هنا البشارة بالخلاص الموعود به في الأنبياء. وتأتي مضافة إلى المسيح (رومية 15: 19 و2كورنثوس 2: 12 الخ) ويراد بها البشرى التي أفرحنا بها المخلص بخلاصنا، أو ملخص تعليمه وأعماله. قال الرب: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الْإِنْجِيلِ فِي كُلّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَاراً لَهَا (متى 26: 13) وقال القديس بولس عن قوم: لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الْإِنْجِيلَ (رومية 10: 16) .ودُعي أيضاً ,,, بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ (متى 24: 14) و,,, إِنْجِيلَ خَلَاصِكُمُ (أفسس 1: 13) و,,, إِنْجِيلِ السَّلَامِ (أفسس 6: 15) و,,, إِنْجِيلِ مَجْدِ اللّهِ الْمُبَارَكِ (1 تيموثاوس 1: 11) و,,, إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الّذي هُوَ صُورَةُ اللّهِ (2 كورنثوس 4: 4)
وقال بولس الرسول: يَدِينُ اللّهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ (رومية 2: 16) أي بشارتي بتعليم المسيح، ونقلي لهذا التعليم. وقال أيضاً: إنه أؤتمن على إنجيل الغرلة كما بطرس على إنجيل الختان (غلاطية 2: 7) أي البشارة للأمم كما بشّر بطرس لأهل الختان (اليهود) ومن هذا كله نرى أن مرجع المعنى واحد وهو البشرى، وإنْ تميّز بالإضافة.
ولم يلبث أن انتقل اللفظ من المعنى المضمون إلى معنى المتضمَّن، أي من معنى البشرى والتعليم الخلاصي إلى الكتاب الحاوي لتلك البشرى وذلك التعليم، فنرى في كتبة أواخر القرن الأول وأوائل الثاني كلمة إنجيل تعني سفراً أو كتاباً يتضمن تعليم المسيح وأعماله، وقد وردت عن ذلك تصريحات كثيرة في الكتب التي وُضعت في القرون الأولى للمسيحية، وهكذا فهِمَ القديسون يوستينوس وإيريناوس وأكليمندس وغيرهم من الآباء الأولين.
والآن عندما يقول المسيحيون كلمة إنجيل هم يقصدون بها: ترجمة حياة السيد المسيح كما كتبها كلّمن متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، كلّ بمفرده,,, أو عن ما كتبه هؤلاء الأربعة جملة واحدة,,, أو عن كل أسفار العهد الجديد، أي ما كُتب بعد ميلاد المسيح.
وربما استُعملت كلمة إنجيل إشارة إلى بشارة الملائكة عند مولد المسيح، حيث قيل بلسان ملاك منهم: هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ (لوقا 2: 10 ، 11)
فليس الإنجيل كما يعتقد المسلمون كتاباً أُوحي إلى المسيح من السماء، وإنما هو رسالة أعدَّها المسيح للعالم ووعظ بها وأنذر بها بفمه الطاهر وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللّهِ (مرقس 1: 14). فالمسيح لم يأخذ هذه الرسالة مكتوبة، كما أنّه لم يكتبها، وإنما علّمها شفوياً لتلاميذ مختارين، ثم أرسلهم إلى جهات مختلفة ليبشروا بها هم أيضاً، وليعلّموا آخرين غيرهم. ولذلك عُدُّوا رسلاً. وقد وعدهم المسيح، قبل صعوده أنه لن يتركهم كاليتامى، وإنما سيرسل لهم الروح القدس ليعلّمهم كل شيء, ويذكّرهم بما قاله لهم, وقد تمّ هذا الوعد بحلول الروح القدس عليهم يوم الخمسين، فأخذوا منذ ذلك اليوم يبشرون الجميع بالإنجيل.
وكان من الضروري على التلاميذ الحواريين في تبشيرهم أن يعلّموا عن المسيح حسبما يلائم عادات ولغات العالم، فكانت الرسالة في مادتها من حيث أنّها بشارة المسيح، بشارة الخلاص - واحدة، وإن تنوعت مظاهرها. فكتب البشيرون الأربعة البشائر الأربع في أزمان قريبة، وقد نحا كلّمنهم في كتابته منحى خاصاً. فليس إذاً وجود أربع بشائر يعني وجود أربعة أناجيل، كما ظن المسلمون، بل هو إنجيل واحد ذو مناظر أربعة، كتبه البشيرون متّى ومرقس ولوقا ويوحنا بوحي الروح القدس لتكون الشهادة قوية متينة.
(1) فمتّى وهو اليهودي كتب بشارته لليهود أهل الدين المُنزل، فتكلم عن المسيح كملك إسرائيل الموعود الذي تمّت فيه نبوّات وإشارات ورموز العهد القديم, ولذلك أكثر من الاستشهاد بما جاء في العهد القديم من النبوّات عن المسيح، فيذكر أنّ المسيح ابن داود، ويرجع بأصله إلى صُلب إبراهيم أبي الآباء عند اليهود, ويتخطى في نسب المسيح ذكر مريم، ويذكر هالي الذي هو جد المسيح حسب الجسد، لأن العادات اليهودية القديمة كانت تقف حائلاً دون ذكر انتساب الإنسان إلى أمه.
(2) ومرقس كتب بعد متّى فخصّ الشعب الروماني الوثني صاحب السيادة، فأهمل أصل يسوع تماماً، وابتدأ بخدمته، وتكلم عنه كعظيم حاز كمال الحياة، وأوقف نفسه على فعل الخير دائماً وكرّسها لإنقاذ الإنسان.
(3) ولوقا كتب بعدهما، للمتديّنين والمتعلّمين والمفكرين، وخصّ بشارته بأهل العلم من اليونان كما يُرى من مقدمة بشارته، فتتبع نسب يسوع إلى آدم أب البشرية جمعاء، وتكلم عن المسيح وكهنوته الكامل، وعن شفاعته، وقدّمه للعالم باعتباره الإنسان القدوس دون سواه. يقول رينان - ألدّ أعداء المسيحيّة - عن بشارة لوقا: إنها أجمل كتاب في سجل اللغات ولا عجب، فقد كان لوقا طبيباً رومانياً، رجل علم وعمل. مدققاً محققاً. ومهنته وحدها تلقي نوراً ساطعاً على حياته، لأن الرومان كانوا لا يسمحون لأحد منهم بمزاولة الطب إلا إذا جاز امتحانات عدة على جانب عظيم من الصعوبة والخطورة.
(4) أما يوحنا فقد كتب بشارته بعد زملائه الثلاثة بعشرين أو ثلاثين سنة، وكان اليقين بتجسّد المسيح قد رسخ في أفكار المؤمنين، وزال الخوف من أن يتزعزع. فخصّ في كتابته المتأخرة أهل الإيمان إجمالاً على اختلاف جنسياتهم وصفاتهم السابقة. ولأنه كتب لهؤلاء جميعاً لم يكتب بما سبق وكتبه زملاؤه، بل قصد أن يحقق لهم في بشارته أصل المسيح ليس فقط قبل إبراهيم، أو قبل آدم، بل منذ أعماق البدء، فتراه يذكر في بشارته كلمة من أفخم أقوال الإنجيل وأشهرها، ولها وقْع عظيم في نفس كل مؤمن، ففيه يذكرنا ببدء الخليقة وبفاتحة الوحي في العهد القديم: في البدء خلق الله السماوات والأرض فيصّور لنا بدء البدء بقوله: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللّهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللّهِ. كُلّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ (يوحنا 1: 1 - 3)
فجميع ما كتبه البشيرون الأربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، رسالة واحدة هي الإنجيل الذي قدمه المسيح وبشَّر به، وأعاده الروح القدس إلى أذهان هؤلاء البشيرين. وكل كاتب منهم يمثل بوحي الله تعليم الإنجيل المعطى شفوياً من المسيح تمثيلاً صادقاً، وكل بشارة منها تؤدي رسالة خاصة مكملة للأخرى.
فالمسيح واحد لا أربعة. والإنجيل واحد لا أربعة. ولتوضيح هذا نأتي بمثل تقريبي:
هب أن أربعة أجانب زاروا القطر المصري. أولهم ضابط، وثانيهم إمام مسلم وثالثهم فنان، ورابعهم كاهن مسيحي، ثم عادوا بعد زيارتهم إلى بلادهم، وابتدأ كل واحد منهم يكتب عن القطر المصري كما رآه.
فكما أن هؤلاء الزائرين الأربعة لم يصفوا (فيما كتبوا) أربع بلاد بل تكلموا عن بلد واحد، ولم يكونوا كاذبين، بل كان كل واحد منهم صادقاً فيما عبّر وكتب، فكذلك البشيرون الأربعة لم يكتبوا إلا عن مسيح واحد، وإنما اختلف لون منظار كل منهم، ووجهة نظره، فكانت البشائر الأربع. والإنجيل هو كل هذه البشائر المستقلة، وما تبعها من رسائل لزيادة الإيضاح والبيان.
جدول نسب المسيح
أما ما يراه بعضهم من الخلاف بين جدولي نسب المسيح في متّى ولوقا فأمر سهل الفهم، لو تمعّنوا فيه قليلاً. فالجدولان يتفقان في أن يوسف - رجل مريم أم يسوع - هو الحلقة الأخيرة فيهما، ويتفقان في حلقات النسب بين إبراهيم وداود، وفي اسمي شألتئيل وزربابل في وقت السبي، ولكنهما يختلفان في أنّ متّى يقدم لنا أسماء الأجيال إلى إبراهيم، بينما لوقا يمدّها إلى آدم. ويختلفان في أنّ متّى يتبع في كتابته سلسلة سليمان بن داود، بينما يتبع لوقا سلسلة ناثان بن داود. ويختلفان في أنّ متّى يجعل يوسف رجل مريم ابن يعقوب، وفقاً للشرع الأصلي، بينما لوقا يجعله ابن هالي وفقاً للشرع الاصطلاحي.
فإذاً، ما يظهر بين الجدولين من تناقض وخلاف، هو خلاف سطحي لا يمس الجوهر في قليل أو كثير, ولو كان هذا الخلاف جوهرياً لكان أعداء المسيحية من اليهود في عصر الرسل احتجوا على هذين الجدولين، لأن الوسائط كانت ميسرة لديهم أكثر من أي قوم آخرين ودون أيّ عصر آخر. فسكوتهم دليل على صحة ما جاء في الجدولين، ودليل على أنّ هذه النسبة كانت مفهومة ومقبولة وصحيحة.
بل إن هذا الخلاف الظاهري ينمّ عن اتفاق جوهري غير مقصود. وكل الفرق بين السلسلتين ناتج من كون متّى البشير سجل لنا نسب السيد المسيح من جانب يوسف رجل مريم، ولوقا سجل لنا نسبه من ناحية أمه العذراء القديسة مريم.
وقد أفرد التلمود اليهودي وهو عند اليهود كالحديث عند المسلمين على كرهٍ منه إحدى صفحاته للعذراء، ومما جاء في تلك الصفحة أن مريم هي ابنة هالي، وهذه الحقيقة تتجلى واضحة لمن يطالع الإنجيل اليوناني الذي كُتبت به السلسلة النسبية في لوقا حيث يقرأ: يسوع .. على ما كان يُظنّ ابن يوسف، وهو بالحقيقة ابن هالي. وكلمة ابن في التعبير العبري ليست قاصرة على الابن المباشر، بل تتناول أيضاً الحفيد أو المتناسل أباً عن جد.
وهذا التناقض السطحي الذي يتمسك به أعداء المسيحية هو حجة لنا لا علينا في إثبات صحة الكتاب المقدس، لأنه لو أراد المسيحيون تغييره لكان عليهم أن يغيروا اسم يوسف ويبدلوه باسم مريم في السلسلة النسبية المذكورة في لوقا، ولكن عدم إقدامهم على تغيير شيء يدل على أن فهم هذه الحقيقة لم يكن من الأمور العسيرة على المسيحيين الأولين الذين عرفوا جميع الظروف والأحوال, كما يدل على ان المسيحيين المتأخرين يحترمون الكلمة المكتوبة ويقدسونها، فمن المستحيل أن تمتد إليها أيدي العبث والتبديل، لتغيّر أو لتزيل ما بها من معضلات، وقد ذُكر يوسف طبقاً لأحكام الشريعة اليهودية، التي تفرض على كل إنسان أن يكون له أب شرعي أو أب بالتبنّي، فكان يوسف من هذه الناحية الشرعية محسوباً في حكم الأب.
وذلك مَثل لما يظهر لأول وهلة من تناقض بين البشائر الأربع، وكلها كهذا لا تستند على أساس، بل إنها تنهار سريعاً أمام التمعّن والدرس.
السبب الثالث:
الصلب في الكتاب المقدس
أما عن السبب الثالث (وهو ذكر حوادث الصلب والدفن والقيامة ضمن نصوص الكتاب المقدس) فأية غاية للنصارى منه؟ هل يرى النصارى في انتسابهم إلى مصلوب مُهان، هو رمز الذل والعار، شرفاً لهم، وهم بشر امتلأت نفوسهم حباً في الانتساب إلى الشرف العالي الرفيع، حتى يصلبوا ربهم ويدفنوه ثم يقيمونه، لينالوا هذا الشرف؟
أيّ عقل هذا الذي يعقل تلك الدعوى الجريئة؟
على أن النصارى لو أرادوا الشرف حقيقة لأتوه من الباب الذي ينكر الصلب وما فيه من مذلة ومهانة وخزي وعار، ولحذفوا حوادثه من كتابهم وتخلصوا من خطة الإنتساب إلى مخلص مهان مصلوب. أما والأمر على العكس من ذلك، وأصبح الصليب موضع فخر المسيحيين جميعاً، وفيهم كل كريم العرق، حتى إنّ بولس الرسول يقول: حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ (غلاطية 6: 14) ومع أنه كان حائزاً لكل موجبات الشرف العالمي والكرامة الدنيوية من علم وأصل وجاه وشدة وبأس، ولكنه يطوي كل هذا ويقول: لِأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلّا يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً (1 كورنثوس 2: 2). فيستحيل على العاقل أن يصدق القول بتحريف الكتاب المقدس لهذا السبب، بل إن في ذكر الكتاب حوادث الصلب والدفن والقيامة دليل ساطع وبرهان قاطع على صحته وسلامته من التحريف والحذف والزيادة، لأنه إذا كان الكتاب قد تحرّف حقيقة قبل الإسلام، فليس من المعقول كما ذكرنا أن يحرفه أهله ليذكروا فيه ما يعتبره الناس داعياً إلى خزيهم وعارهم واحتقارهم. وإن كان قد تحرّف بعد الإسلام، فإن في ذكر القرآن حوادث الصلب وهي جوهر المسيحية دليلاً على وجودها قبله كوجودها بعده.
ونكتفي بهذا الآن. أما الكلام عن حقيقة الصلب والفداء فسيجيء عند الكلام عن الكفارة في الباب الخامس، مؤيَّداً بأقوال القرآن وتصريحات الإسلام.
السبب الرابع:
اسم محمد
أما السبب الرابع لإقامة دعوى التحريف، وهو ما يذهب إليه عامة المسلمين من أن اليهود والنصارى قد حرّفوا الكتاب بحذف اسم محمد منه، فهو سبب ضعيف كسابقيه، لا ينهض بجانبه برهان ولا يقوم عليه دليل، لأنه إذا كان اسم محمد قد ذُكر في الكتاب المقدس وحُذف مثلاً من التوراة، لظل الإنجيل شاهداً على هذا التحريف. وليس من المعقول أن يكون اسمه قد ذُكر في كليهما وحُذف منهما سوياً، لأنه لا يُحتمل أن تتواطأ أُمّتان مختلفتان على هذا الحذف، مع ما بينهما من جفوة ونفور.
إذا استطعنا أن نلغي عقولنا ونصدق أن اسم محمد قد ورد في الإنجيل ثم حذفه النصارى منه وحرّفوا كتابهم لهذا الغرض، فإننا لا نستطيع أن نخلق لنا عقولاً جديدة تعقل أن اليهود قد حذفوه من التوراة أيضاً, فاليهود لما أرادوا مقاومة المسيح لم يحذفوا اسمه من الكتاب، ولم يغيّروا النبوّات التي وردت عنه فيه، بل أنكروا فقط حقيقة رسالته، وشكّوا في أن يكون هو المسيا المنتظر المتنبَّأ عنه.
الخلاصة
من كل ما سبق نقول إنّ تحريف الكتاب المقدس بمعرفة وقصد، أمر غير ممكن، بل ومستحيل. وإنه لم يقع شيء من هذا قبل الإسلام ولا بعده. وتوجد إلى اليوم نسخ من الكتاب المقدس من قبل ظهور الإسلام وبعده، لا تختلف عن المتداولة اليوم اختلافاً ما. ومن هذه النسخ العديدة المسماة الفاتيكانية لوجودها بقصر الفاتيكان بروما وترجع إلى ما قبل الهجرة بمائتين وخمسين سنة. والنسخة السينائية التي عُثر عليها في طور سيناء، وهي تشمل التوراة والإنجيل وترجع إلى ما قبل الهجرة بمائتي سنة. والنسخة الاسكندرية التي توجد الآن في المتحف البريطاني بلندن، وترجع إلى ما قبل الهجرة أيضاً بمائتي سنة، والنسخة الإفرامية، وقد كُتبت في القرن الخامس للمسيح. وكل هذه النسخ مكتوبة في رقوق من الجلد أو غيره مما لا يُستعمل الآن. وقد قارنها الباحثون ببعضها وبالكتب التي ظهرت بعد الإسلام، والتي يتداولها اليوم اليهود والنصارى على السواء، فوجدوها لا تختلف البتة في عقيدة من العقائد، أو واجب من الواجبات. وفي كل هذا برهان قاطع على بطلان دعوى التحريف.
الكتاب صحيح تاريخياً:
فالكتاب لم يلحقه تحريف قط, ولنطّلع على شهادة المؤلفين الأوّلين من المسيحيين وغير المسيحيين، فإن لكتاباتهم أهمية عظمى، إذ يشهدون بصحة الوقائع التي ذُكرت في الإنجيل في مدة الثلاثة القرون الأولى. وقد تواترت هذه الحوادث تواتراً عظيماً بواسطة هؤلاء الكتّاب، مما جعل من اليسير الهيّن على كل باحث أن يتناولها من مؤلفاتهم ويقارن بينها وبين المواضع التي ذُكرت فيها حسب نص الإنجيل.
ولا شك في أن شهادة المؤلفين الوثنيين تفوق في أهميتها شهادة المؤلفين الآخرين، لأنهم اعترفوا بكل حقائق الإنجيل وحوادثه دون قصد لأنهم خالون من الأغراض لعدم إيمانهم بأيّ دين إلهي، أو تحبيذهم لأيّ كتاب سماوي، وإنما ذكروا أخبار الإنجيل كمجرد وقائع، فشهدوا له وهم لا يعلمون. ومن هنا كان على كل من ينكر مثلاً صلب المسيح وقيامته وصعوده أن يكذّب قبل كل شيء تاريخ سيتونيوس وتقويم تاسيتوس ومطابقات بلني، فإذا فعل ذلك فإنه يصبح غير مُكذِّب للإنجيل فقط، بل ولهؤلاء العلماء الوثنيين أيضاً الذين دفعهم تدقيقهم على تقرير الحقائق التاريخية الواضحة مع عدائهم الخاص للمسيحيين أن يشهدوا لصحة الوقائع التي رواها الإنجيل، فجاءت شهادتهم طبيعية غير ملفَّقة.
أضف إلى هذا أن الإنجيل نفسه قد حوى تاريخاً وتراجم وصفات مختلفة، وكلها ذُكرت دون أن يكون للبشيرين قصد رئيسي في ذكرها. ففي الإنجيل نجد ذكر الأباطرة الرومانيين كأوغسطس وطيباريوس وكلوديوس، كما نجد فيه أيضاً ذكر الحكام الرومانيين كبيلاطس البنطي وكيرينيوس وفيلكس وفستوس وسرجيوس بولس وغاليون، كذلك نجد فيه ذكر ملوك اليهود كهيرودس الكبير وأرخيلاوس وأنتيباس وأغريباس. فذِكْر هؤلاء جميعاً في الإنجيل ووصفهم بما لا يقل عما وصفهم به المؤرخون الوثنيون واليهود من الدقة يدل دلالة واضحة على صحة الكتاب، لأن التاريخ المعتبر والمسلّم به ذكر كل هؤلاء الأشخاص وأجمع على وجودهم في ذات الزمان المعيّن في الإنجيل.
وزيادة على هذا فقد ذكر الإنجيل أماكن مختلفة مثل أنطاكية وإيقونية وتسالونيكي وقبرص وفيلبي وكورنثوس وروما وإسكندرية وغيرها من المدن المتفرقة حينئذ، وذكر مراكز الشيوخ والمقاطعات الملكية للنواب الرومانيين والسياسيين اليونانيين والوثنيين والأسيويين، وذكر جنود الحرس الامبراطوري وأعضاء البلاط القيصري، وذكر الآلهة المشهورة مثل أرطاميس، وذكر وظائف يونانية كثيرة لم توجد إلا في تلك الأيام. كل هذا يؤيده يوسيفوس اليهودي وتاسيتوس وسيتونيوس، كما تؤيده جميع الاكتشافات الحديثة في فلسطين وتركيا وقبرص واليونان وروما.
وكل هذا يشهد شهادات ناطقة بصحة الإنجيل وحوادثه تاريخياً وعلمياً.