الفصل الأول: التثليث الذي حاربه الإسلام
تعتقد المسيحية أن الله واحد الذات، مثلث الأقانيم. وهي بذلك لا تنافي الوحدانية، لأنها لا تُعلّم بتعدد أو ولادة تناسلية، كما ينعتها مناوئوها. فالقول بأن الإسلام قد حارب المسيحية في هذا المعتقد قول مردود، فهو لم يحارب ثالوث المسيحية الصحيحة، وإنما حارب تعليماً يقول بالتعدد والإشراك والولادة التناسلية. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
أمّا ثالوث المسيحية الأقدس فقد تكلم عنه القرآن بكل تقديس وتبجيل، مما يؤيد القول بأنه حارب معتقداً غير المعتقد الذي ندين به، وتعلمنا إيّاه المسيحية الحقة، يثبت ذلك من:
1 - التثليث الذي حاربه القرآن هو تثليث التعدد والإشراك:
قلنا إنّ المسيحية تعلم بتثليث لا ينقض الوحدانية أو ينافيها، فهي تؤمن بالآب والابن والروح القدس إله واحد في جوهره. وهي لا تعلّم قط بتعدد الآلهة، بل تنكر هذا التعليم إنكاراً كلياً. وقانون إيماننا يبدأ بالقول: نؤمن بإله واحد. ولو كانت المسيحية تقصد بالتثليث التعدد والإشراك لما صرحت بأن هذا التعليم فوق الإدراك، وهي لم تصرح بذلك إلا لما تعتقده من عدم مناقضته لوحدانية الله. والثابت المقرر أن الإسلام حارب تعليماً يشير إلى تعدد الآلهة أو الإشراك بالله.
قال في سورة النساء 4: 171 : وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ولَقَدْ كَفَرَ الّذينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ,,, إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الّذينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ الّا إِلَهٌ وَاحِدٌ (سورة المائدة 5: 72 ، 73) واتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (سورة التوبة 9: 31) وإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ؟ (سورة المائدة 5: 116)
فواضح من هذه الآيات أنها تحارب تعليماً يحمل معنى الإشراك بالله وتعدد الآلهة، وأنها تدعو إلى الإيمان بوحدانية الله. وبما أن المسيحية لا تعلّم بإشراك ولا بتعدد بل تؤمن بإله واحد، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فيثبت إذاً أن الإسلام إنما حارب تثليثاً غير ثالوث المسيحية، وتعليمها، وعقيدتها...
والذي يؤيد هذه الحقيقة الآية الأخيرة، على نوع خاص، إذ أشار فيها إلى اعتبار العذراء القديسة مريم ركناً من الأركان الثلاثة حيث تقول: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ والحق أن المسيحية لم تعتقد يوماً ما بتأليه العذراء أو باعتبارها ركناً من أركان الثالوث الأقدس في الإله الواحد.
وإذاً فقد تقرر أن هذا التعليم الذي أراد الإسلام أن يحاربه كان تعليماً منافياً لتعليم المسيحية، بعيداً عن معتقدها البعد كله.
ويظهر أن حملات الإسلام على هذا التعليم كانت موجَّهة ضد بدعة كانت قد ظهرت ونادت بتأليه العذراء القديسة مريم. وهذه البدعة لم يتجند لحربها الإسلام وحده، بل لقد حاربتها المسيحية حرباً لا هوادة فيها حتى قضت عليها. فالإسلام في حملاته هذه إنما كان متجنداً مع المسيحية جنباً لجنب لمحاربة بدعة أبغضتها الكنيسة وقاومتها.
وفي آية بحثنا دليل آخر على هذه الحقيقة حيث تقول: إلهين من دون الله. وتعليم المسيحية عن الثالوث لا ينطبق عليه هذا القول، فهي لا تعلّم بالمسيح إلهاً من دون الله، ولكنها تعلم أن المسيح والآب واحد بلا تعدد ولا افتراق. وقد أشار المسيح إلى ذلك في قوله: أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ (يوحنا 10: 30)
فمن كل هذه الوجوه يثبت أن تعليم التثليث الذي قاومه الإسلام لم يكن تعليم المسيحية عنه. وإنما كانت حربه موجهة ضد طوائف لا صلة بينها وبين المسيحية، ولا وجه للشبه بين عقيدتها وعقيدتهم.
وأما الآية التي تقول: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ويستند إليها البعض خطأ زاعمين أن الثلاثة الذين ذُكروا فيها هم ثالوث المسيحية الأقدس، فتلك آية قيلت في حق طائفة المرقونية الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت أتباعهم، لأنهم كانوا يقولون بتثليث باطل، ويؤمنون بثلاثة آلهة: عادل أنزل التوراة، وصالح نسخها بالإنجيل، وشرير هو إبليس.
كما حارب الإسلام طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولان بإلهين اثنين: أحدهما للخير وهو جوهر النور والثاني للشر، وهو جوهر الظلمة فقال في حقهم: ولا تتخذوا إلهين اثنين .
لقد كانت هذه الطوائف وأشباهها شر ما مُنيت به المسيحية قبل الإسلام وبعده ولا يزال حكمهم في الكنيسة حكم المذاهب الخارجة في الإسلام، الذين عَدَلوا عن الكتاب والسنّة، كطائفة النصيرية القائلة بأن الله جل شأنه حلّ في جسد علي بن أبي طالب وتكلم في لسانه.
وإذا فالإسلام لم يحارب تثليث المسيحية الصحيحة كما يظن البعض, والمسيحية لا تعتبر مقاومته تلك التعاليم المنافية لتعاليمها مقاومة لها.