شرط اول : الحوار جدال (( بالتى هى
أحسن ))
لقد حدد القرآن الحوار الصحيح تحديدا وافيا :
انه جدال بالتى هى أحسن ( العنكبوت 46 ) -
ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ( النحل 125 ) . وهذا الحوار ليس خصاما ولا
كبتا للحرية الدينية فى التعبير والتفكير .
والجدال الذى هو خصومة مذموم , يضر ولا ينفع . وقد فصل الغزالى ( احياء علوم الدين
1: 83 ) ذ م الجدل وحمل على عزل الناس عنه : (( وينبغى
ان يتحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة : لان
ما يشوشه الجدل اكثر مما يمهده , وما يفسده اكثر
مما يصلحه )) .
شرط ثان : الحوار عرض لاتبشير .
والحوار
عرض سمح لموقف المتحاورين : ((وادع الى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة , وجادلهم بالتى هى احسن )) النحل 125 .فليس
الحوار تبشيرا لاصطياد الخصم , والتبشير هو نشر العقيدة بكل وسيلة لاقتناص
المؤمنين .
انما
الحوار الصحيح
عرض ودود لعقيدة الفريقين للتعارف والتفاهم
, ومن ثم للتقارب والاتحاد فى سبيل الله .
شرط ثالث :الحوار الصحيح تعارف لا تجاف
ومناظرة لا مهاترة .
ان
الحوار الحق اطلاع
موضوعى ودى على تعليم الفريقين-
يفترض التسامح والتفاهم
والاحترام والتقدير بين المتحاورين .
فالبحث الموضوعى الرصين النزيه يقوم على العرض الكامل المكشوف لمواقف المتباحثين .
ولايكون ذلك مناظرة أخوية الا بالتقدير لعقيدة الاخرين , لا مهاترة بين متخاصمين .
شرط رابع : الحوار حديث مودة -
لا حديث بغضاء .
ان
شرعة اللاعنف التى نادى بها الزعيم غاندى فى
السياسة انما هى شرعة الحوار الصحيح فى الحقيقة
الدينية . وما هى الا شرعة الانجيل والقرآن : (( لا اكراه
فى الدين )) !
يجب احترام المحاور مهما كان راينا فيه . ويجب تقدير
عقيدته الدينية لا تكفيرها , وان كنا لا
ناخذ بها . بدون ذلك يعد الحوار حربا باردة كما يقولون فى لغة السياسة . بينما
الحوار فى حد ذاته حديث مودة لا حديث بغضاء .
شرط خامس : الحوار حديث ايمان
لا حديث تكفير .
لقد علمنا الخطيب الشهير لاكوردير قاعدة الحوار الذهبية : (( انى لا افصد بالحوار
افهام محاورى بالخطأ -
انما أبغى الاتصال به فى سبيل حقيقة آ سمى )) .
ان الايمان يدفع الى الغيرة والدعوة
_ لكنه
يبنى على المحبة والوداعة
لا على التحقير والتكفير. فما اسهل شتم
الاخرين !
وما اسرع تكفيرهم !
لكن ذلك يهدم ولا يبنى . فالحوار حديث مودة
لا حديث تكفير .
شرط سادس : الحوار الصحيح يقتضى فهم الغير قبل الحكم عليه
.
شرط كل حوار صحيح ان نفهم غيرنا كما نريد ان يفهمنا غيرنا و لا نتسرع فى الحكم عليه
, فالحوار الصحيح ينطلب فهم الغير قبل الحكم عليه .
ولا يصح ان نصدر حكمنا على محاورنا بالاستناد الى ما عند
نا وحده , فقد يكون ما عنده صحيح كما نعتقد بصحة ما عندنا .
والحقيقة تنشد الحقيقة
.
لابد من اختلاف وجهات النظر بين الاديان عند بنى الانسان . والحوار الصحيح يقضى
بفهم وجهات النظر المختلفة فى سبيل التقارب بينها _
للوصول الى الاصول المشتركة فىما بينها لان الحق واحد , والحقيقة منه واليه واحدة ,
مهما اختلفت السبل والو سائل . فشرعة فهم الغير سبيل الى التفاهم معه .
شرط سابع : الحوار الصحيح يجمع ولا يفرق , ييسر ولا يعسر , بدون خيانة للحقيقة .
ان صحت هذه القاعدة فى كل حوار ,
فهى اصح ما تكون
بين الاسلام والمسيحية
, لان الجامع الاساسى بينهما هو الايمان بالتوحيد المنزل
. مهما تباين فيه التأويل _
فالقرآن انما هو (( تفصيل الكتاب )) -يونس 37 -
والكتاب (( امام )) القرآن فى الهدى
والبيان -
هود 17 , الاحقاف 12 -
والقرآن يجادل بهدى وعلم الكتاب المنير اى الانجيل -
لقمان 20
, الحج 8 – (( وقد شهد شاهد من بنى اسرائيل (النصارى)
على مثله ))
الاحقاف 10
.
فعلى المسلمين والمسيحيين ان يتحاوروا عن (( علم وهدى وكتاب منير )) _
فالحوار فيما بينهم من دون خيانة للحقيقة , يجب ان يجمع ولا يفرق , وان ييسر
ولا يعسر . فقد (( كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , وانزل
معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ))البقرة 312 .
هذا هو (( كتاب الله ))
2: 101 _ 3: 33
_ 5: 47
_ 8: 75 _
9: 37 _ 30 : 56 _
33 : 6 وهو الحكم بين
الناس فى كل حوار صحيح : (( قل: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه , ان
كنتم صادقين ))
القصص 49
.
تلك هى بعض الشروط التى يجب توافرها للحوار الصحيح بين المسيحية والاسلام .
فصل الخطاب : مثال الحوار الصحيح فى ( رسالة الهاشمى الى الكندى) .
تلك هى اسس الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين . وقد
فشل كل حوار فيما
بينهم حتى اليوم لانه لم يبن عليها
. ونفتح
صفحة جديدة فى التاريخ ببناء الحوار الودى على تلك
الاسس الصحيحة .
ولنا فى الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين مثالا رائعا فى
(( رسالة الهاشمى الى الكندى )) والهاشمى هو ابن
عم الخليفة الاموى . قال فى صفة الحوار المطلوب
مع المسيحيين :
(( ورأيت أيضا مطارنة واساقفة مذكورين بحسن المعرفة وكثرة العلم , مشهورين بشدة
الاغراق فى الديانة النصرانية , مظهرين غاية الزهد فى الد نيا فناظرتهم مناظرة
ناصفة , طالبا للحق مسقطا بينى وبينهم اللجاج والمراء والمكابرة بالسلطة ,والصلف
والبذخ بالحسب . وأوسعتهم أمنا أن يقولوا بحجتهم , ويتكلموا بجميع ما يريدونه غير
مؤاخذ لهم بذلك ولا متعنت بشئ
كمناظرة الرعاع والجهال والسقاط والعوام والسفهاء من أهل ديانتنا الذين لا
اصل لهم ينتهون اليه , ولا عقل فيهم يعولون عليه , ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء
الادب و وانما كلامهم العنف والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة , بغير علم ولا حجة
)) ,
ثم
يطلب الامير الهاشمى من الكندى المسيحى : فأكتب
بما عندك من أمر دينك والذى صح منه فى يدك , وما قامت به الحجة عندك منا مطمئنا ,
وغير مقصر فى حجتك , ولا مكاتم لما
انت معتقده ولا فرق ولا وجل . فليس عندى الا الاستماع للحجة منك والصبر والاقرار
بما يلزمنى منه , طائعا غير منكر ولا
جاحد ولا هائب حتى نقيس ما تأتينا به
وتتلوه علينا ونجمعه الى ما فى ايدينا ثم نخبرك بعد ذلك , على ان تشرح لنا علته
وتدعى الاعتلال علينا بقولك : ان الفزع حجبك وقطعك عن بلوغ الحجة
واحتجت ان تقبض لسانك
ولا تبسطه لنا ببيان الحجة . فقد اطلقناك وحجتك , لئلا تنسبنا الى الكبرياء
, وتدعى علينا الجور والحيف . فان ذلك غير شبيه بنا فاحتج
عافاك الله بما شئت وتكلم بما احببت
وانبسط فى كل ما تظن انه يؤيدك الى وثيق حجتك ,
إنك فى اوسع الامان .
ولنا عليك اصلحك الله اذ اطلقناك هذا الاطلاق ويسطنا لسانك هذا البسط , ان تجعل
بيننا وبينك حكما عادلا لا يجور ولا يحيف فى حكمه
وفضائه , ولايميل الى غير الحق , اذا ما تجنب دولة
الاهواء ,
وهو العقل الذى يأخذ به الله عز وجل و يعطى .
فاننا قد انصفناك فى القول واوسعناك فى الامان . ونحن راضون بما حكم به العقل لنا
وعلينا
اذ لا اكراه فى الدين
على مثل هذا الانصاف والتحكيم يقوم الحوار الصحيح الحكيم بين الانجيل والقرآن
والمسيحية والاسلام .
وقد اعطى اغسطين احد قادة الفكر فى الانسانية القاعدة المثلى للحوار : ان قارئى اذا شاطرنى عقائدى فليماشنى , واذا شاطرنى شكوكى فليبحث معى , واذا وجد نفسه على خطأ فليرجع عنه معى , واذا وجد نى ا نا نفسى على خطأ فليردنى عنه