بحث رابع

 

لكن للحوار الصحيح بين المسيحية والاسلام شروطا

 

شرط اول : الحوار جدال  (( بالتى هى أحسن ))

 

لقد حدد القرآن الحوار الصحيح تحديدا وافيا : انه جدال بالتى هى أحسن ( العنكبوت 46 ) -  ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ( النحل 125 ) . وهذا الحوار ليس خصاما ولا كبتا للحرية الدينية فى التعبير والتفكير .

 

والجدال الذى هو خصومة مذموم , يضر ولا ينفع . وقد فصل الغزالى ( احياء علوم الدين  1: 83 ) ذ م الجدل وحمل على عزل الناس عنه : (( وينبغى  ان يتحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة : لان ما يشوشه الجدل اكثر مما يمهده , وما يفسده اكثر مما يصلحه ))  .

 

شرط ثان : الحوار عرض لاتبشير .

 

والحوار عرض سمح لموقف المتحاورين : ((وادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة , وجادلهم بالتى هى احسن )) النحل 125 .فليس الحوار تبشيرا لاصطياد الخصم , والتبشير هو نشر العقيدة بكل وسيلة لاقتناص المؤمنين .

 

انما الحوار الصحيح  عرض ودود لعقيدة الفريقين للتعارف والتفاهم , ومن ثم للتقارب والاتحاد فى سبيل الله .

 

شرط ثالث :الحوار الصحيح تعارف لا تجاف  ومناظرة لا مهاترة .

 

ان الحوار الحق اطلاع موضوعى ودى على تعليم الفريقين-  يفترض التسامح والتفاهم  والاحترام والتقدير بين المتحاورين .

 

فالبحث الموضوعى الرصين النزيه يقوم على العرض الكامل المكشوف لمواقف المتباحثين . ولايكون ذلك مناظرة أخوية الا بالتقدير لعقيدة الاخرين , لا مهاترة بين متخاصمين .

 

شرط رابع : الحوار حديث مودة -  لا حديث بغضاء .

 

ان شرعة اللاعنف التى نادى بها الزعيم غاندى فى السياسة انما هى شرعة الحوار الصحيح فى الحقيقة الدينية . وما هى الا شرعة الانجيل والقرآن : (( لا اكراه فى الدين )) !

 

يجب احترام المحاور مهما كان راينا فيه . ويجب تقدير عقيدته الدينية لا تكفيرها , وان كنا لا ناخذ بها . بدون ذلك يعد الحوار حربا باردة كما يقولون فى لغة السياسة . بينما الحوار فى حد ذاته حديث مودة لا حديث بغضاء .

 

شرط خامس : الحوار حديث ايمان  لا  حديث تكفير .

 

لقد علمنا الخطيب الشهير لاكوردير قاعدة الحوار الذهبية : (( انى لا افصد بالحوار افهام محاورى بالخطأ -  انما أبغى الاتصال به فى سبيل حقيقة آ سمى )) .

 

  ان الايمان يدفع الى الغيرة والدعوة  _  لكنه يبنى على المحبة والوداعة  لا على التحقير والتكفير. فما اسهل شتم الاخرين !  وما اسرع تكفيرهم !  لكن ذلك يهدم ولا يبنى . فالحوار حديث مودة  لا حديث تكفير .

 

شرط سادس : الحوار الصحيح يقتضى فهم الغير قبل الحكم عليه  .

 

شرط كل حوار صحيح ان نفهم غيرنا كما نريد ان يفهمنا غيرنا و لا نتسرع فى الحكم عليه , فالحوار الصحيح ينطلب فهم الغير قبل الحكم عليه .

 

ولا يصح ان نصدر حكمنا على محاورنا بالاستناد الى ما عند نا وحده , فقد يكون ما عنده صحيح كما نعتقد بصحة ما عندنا . والحقيقة تنشد الحقيقة .

 

لابد من اختلاف وجهات النظر بين الاديان عند بنى الانسان . والحوار الصحيح يقضى بفهم وجهات النظر المختلفة فى سبيل التقارب بينها _  للوصول الى الاصول المشتركة فىما بينها لان الحق واحد , والحقيقة منه واليه واحدة , مهما اختلفت السبل والو سائل . فشرعة فهم الغير سبيل الى التفاهم معه .

 

شرط سابع : الحوار الصحيح يجمع ولا يفرق , ييسر ولا يعسر , بدون خيانة للحقيقة .

 

ان صحت هذه القاعدة فى كل حوار , فهى اصح ما تكون  بين الاسلام والمسيحية , لان الجامع الاساسى بينهما هو الايمان بالتوحيد المنزل . مهما تباين فيه التأويل _  فالقرآن انما هو (( تفصيل الكتاب )) -يونس 37 -  والكتاب (( امام ))  القرآن فى الهدى والبيان -  هود 17 , الاحقاف 12 -  والقرآن يجادل بهدى وعلم الكتاب المنير اى الانجيل -  لقمان 20  , الحج 8 – (( وقد شهد شاهد من بنى اسرائيل (النصارى)  على مثله ))  الاحقاف 10  .

 

فعلى المسلمين والمسيحيين ان يتحاوروا عن (( علم وهدى وكتاب منير )) _  فالحوار فيما بينهم من دون خيانة للحقيقة , يجب ان يجمع ولا يفرق , وان ييسر ولا يعسر . فقد (( كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ))البقرة 312  .

هذا هو (( كتاب الله ))  2: 101 _  3: 33  _  5: 47  _  8: 75 _  9: 37 _  30 : 56 _  33 : 6   وهو الحكم بين الناس فى كل حوار صحيح : (( قل: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه , ان كنتم صادقين ))  القصص 49  .

تلك هى بعض الشروط التى يجب توافرها للحوار الصحيح بين المسيحية والاسلام .

 

 

فصل الخطاب : مثال الحوار الصحيح فى ( رسالة الهاشمى الى الكندى) .

 

تلك هى اسس الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين . وقد فشل كل حوار فيما  بينهم حتى اليوم لانه لم يبن عليها  .  ونفتح صفحة جديدة فى التاريخ ببناء الحوار الودى على تلك الاسس الصحيحة .

 

ولنا فى الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين مثالا رائعا فى (( رسالة الهاشمى الى الكندى )) والهاشمى هو ابن عم الخليفة الاموى . قال فى صفة الحوار المطلوب مع المسيحيين :

 

(( ورأيت أيضا مطارنة واساقفة مذكورين بحسن المعرفة وكثرة العلم , مشهورين بشدة الاغراق فى الديانة النصرانية , مظهرين غاية الزهد فى الد نيا فناظرتهم مناظرة ناصفة , طالبا للحق مسقطا بينى وبينهم اللجاج والمراء والمكابرة بالسلطة ,والصلف والبذخ بالحسب . وأوسعتهم أمنا أن يقولوا بحجتهم , ويتكلموا بجميع ما يريدونه غير مؤاخذ لهم بذلك ولا متعنت بشئ  كمناظرة الرعاع والجهال والسقاط والعوام والسفهاء من أهل ديانتنا الذين لا اصل لهم ينتهون اليه , ولا عقل فيهم يعولون عليه , ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء الادب و وانما كلامهم العنف والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة , بغير علم ولا حجة  ))  ,

 

ثم يطلب الامير الهاشمى من الكندى المسيحى : فأكتب بما عندك من أمر دينك والذى صح منه فى يدك , وما قامت به الحجة عندك منا مطمئنا , وغير مقصر فى حجتك  , ولا مكاتم لما انت معتقده ولا فرق ولا وجل . فليس عندى الا الاستماع للحجة منك والصبر والاقرار بما يلزمنى منه , طائعا غير منكر  ولا جاحد  ولا هائب حتى نقيس ما تأتينا به وتتلوه علينا ونجمعه الى ما فى ايدينا ثم نخبرك بعد ذلك , على ان تشرح لنا علته  وتدعى الاعتلال علينا بقولك : ان الفزع حجبك وقطعك عن بلوغ الحجة  واحتجت ان تقبض لسانك  ولا تبسطه لنا ببيان الحجة . فقد اطلقناك وحجتك , لئلا تنسبنا الى الكبرياء , وتدعى علينا الجور والحيف . فان ذلك غير شبيه بنا فاحتج عافاك الله بما شئت وتكلم بما احببت  وانبسط فى كل ما تظن انه يؤيدك الى وثيق حجتك , إنك فى اوسع الامان .

 

ولنا عليك اصلحك الله اذ اطلقناك هذا الاطلاق ويسطنا لسانك هذا البسط , ان تجعل بيننا وبينك حكما عادلا لا يجور ولا يحيف فى حكمه وفضائه , ولايميل الى غير الحق , اذا ما تجنب دولة الاهواء , وهو العقل الذى يأخذ به الله عز وجل و يعطى . فاننا قد انصفناك فى القول واوسعناك فى الامان . ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا  اذ لا اكراه فى الدين 

 

على مثل هذا الانصاف والتحكيم يقوم الحوار الصحيح الحكيم بين الانجيل والقرآن والمسيحية والاسلام .

 

وقد اعطى اغسطين احد  قادة الفكر  فى  الانسانية  القاعدة المثلى للحوار :  ان قارئى اذا شاطرنى عقائدى  فليماشنى , واذا شاطرنى شكوكى  فليبحث معى , واذا وجد نفسه على خطأ فليرجع عنه معى , واذا وجد نى  ا نا نفسى على خطأ  فليردنى عنه 

الصفحة الرئيسية