الحرية واحترام العقل
لا يمكن لعقيدة تحترم عقل الانسان , ان لا تحترم حريته , فالعقل من دون حرية هو عقل ملغى ومعطل, ومقولة ان هذا الدين او ذاك هو دين عقل تبقى مقولة باطلة وجوفاء ما دامت ايديولوجية هذا الدين معادية لحرية الانسان وحرية تفكيره وعقله
واذا اردنا ان نبحث في نظرة الاسلام او المسيحية الى العقل وحريته , علينا ان نبحث او نتوقف على الحرية الأنسانية في مبدأها ومنطلقها ....اي حرية الأنسان بإزاء المطلق وان نرى الاختلاف الجوهري فيما بين الاسلام والمسيحية حولها .
هذا الاختلاف يعود , في اساسه , الى مدى تدخل الله في حياة الانسان , اي الى مفهوم الوحي عند الطرفين , ونشير للحال ونقول : ان حرية الانسان المسلم , بإزاء المطلق , هي حرية مرتهنة ب"شريعة منزلة من فوق ,
فيما حرية المسيحي منوطة بالوضع البشري المتحرك الخاضع لتغيرات هذا الكون , ولا تجمده شريعة منزلة من فوق , كما لا تملى عليه احكام يصوغها المطلق.
على
هذا الاختلاف ,
في موضوع الحرية
الانسانية
, تتوقف نتائج
جسيمة على العقل , وحرية العقل ,على حرية الانسان وكرامة
الانسان وسنعين
بعض ما يجب علينا من هذه الاختلافات للتوضيح لا للحصر:
ان
الحرية
التي نتكلم
عليها الآن هي حرية الأنسان بإزاء الله ذاته ,
لأن
المشكلة
الأساسية
للحرية الحقيقة
هي ’ في الواقع , مع الله
:في الوقوف أمام
وجهه , في
التعامل
معه , في التكيف
مع علمه للغيب وللمستقبلات , في التحرر من قيود النواميس
الكونية
التي وضعها , في
الخروج من محدودية المكان والزمان , في تحدي المصير, في
التفلت
من ضغط المطلق
وهيمنته الكلية على البشر...
هذا
يعني ان حرية
الانسان
بإزاء
الله يحددها
موقفان : موقف بإزاء القوانين الطبيعية التي يخضع لها الانسان من
ذات
طبعه , وموقف
بإزاء الشريعة الالهية الموحاة , اي الناموس المنزل في كتاب , هذا
يأخذ
به اليهود
والمسلمون ويقدسونه , اما المسيحيون فلا ناموس عليهم , فهم محررون.
هذا
يعني أيضا أن
الانسان الذي يخضع لشريعة بشرية وضعية يسهل عليه هذا الخضوع ,
أكثر
من الخضوع
لشريعة فوقانية لا تعير لمتغيرات الكون بالا , قد يأتي يوم يتحرر
فيه
الانسان من كل
شريعة بشرية وضعية , ولكن لن يأتي ذلك اليوم اطلاقا لأن يتحرر
فيه
من شريعة سماوية
منزلة من فوق
.فأول
طعنة في حرية الأنسان إذا تأتي من تصور
الأنسان
لله مشترعا
وواضع قوانين أزلية ثابتة , منزلة على الانسان تنزيلا .
في
الاسلام هذا
التصور :لقد انزل الله على الانسان شريعة من فوق , صيرها في
"كتاب منزل" لا
يخضع لمتغيرات الكون , وجمدها في "حرف" لا يرحم , وبسبب هذا الانزال
العجيب
تبدو الحرية
الانسانية , بنظر الاسلام , مقيدة بأحكام شريعة سماوية , منزلة
, جامدة , صامدة
بصمدانية "الله الصمد"... وشعور المسلم بان الله يقيده يقيده
باحكامه
"المنزلة" هو
شعور يلفه الكثير من اليأس الكياني , كانت إحدى نتائجه
العملية
الأستسلام
للقضاء والقدر, وهي مسالة ايمانية مفروضة على المسلم كركن من
اركاتن
دينه.
ومقولة
الشريعة المنزلة
من فوق , من السماء السابعة , مقولة لا
نتيجة
لها سوى القضاء
على العقل وتغييبه ,
القول
بالكتاب المنزل
والشريعة
المنزلة
, يصيب العقل في
صميمه , ويطعن بحرية الانسان , الكتاب والشريعة معصومون
عصمة
الله نفسه ,
كتاب فيه الحق كله , والعلم كله , واليقين كله ......بيد ان
الانسان
يتطور , والزمن
يتغير , والمجتمع يتبدل , وكل شيء في الكون كأنه مزعزع على
اكتاف
الجن والعفاريت
....فلا يبق في الحالة هذه الا ان يتخلف العقل بتخلف الكتاب
والشريعة
التي يعمل بها ,
عن الانسان السابح بحريته في ارجاء الكون......وهذه
الحرية
بحسب المفهوم
المسيحي هي من الله.......وقد يكون هذا اهم سبب لتخلف الشعوب
المسلمة
هكذا
الغى الاسلام
العقل, فترى الاسلاميين يستعملون كلاما من فوق
, يسقطون
بأستمرار آيات من السماء , تقضي على ما تبقى من وجود لهذا العقل, فما نفع
العقل
وهم المنتصرون
مسبقا لا محالة : الحقيقة بقبضة ايديهم , الأدلة عليها دامغة ,
الموقف
منها على
اطمئنان تام , البراهين عليها في ملفات جاهزة , المعرفة حسابية
علمية
, الكون
وقوانينه كلها في الكتاب , والشريعة قوانين الهية ازلية أبدية لا
تتزحزح
, نظم الكون
والحياة محددة , حركات العالم والكائنات معينة , العلوم كلها
نستنبشها
من آيات الكتاب
المعصوم , فلا حاجة للعقل لبشري ولا حاجة لوجوده.
ومن
نتائج الغاء
حرية العقل , هي الغاء كرامة الانسان وحريته
,
فبسبب
هذه الشريعة
المنزلة لا يرى المسلم محيدا عن قتال اي انسان غير مسلم لا يسير
بموجب
هذه الشريعة ,
اي ان كرامة الانسان وحريته , بإزاء هذه الشريعة, ليستا هما
شيئا
يذكر , قد يقتل
غير المسلم في سبيل الله , ويقهر وتؤسر حريته , او يدفع الجزية
وهو
صاغر, او يخضع
لقضايا كثيرة حرمت عليه باسم الله .
الحرية
إزاء المطلق هي
التي
تميز العقل في
المسيحية عنه في الاسلام , وحرية هذا العقل هي حرية الانسان
:"ان
الحرية الحقيقية هي في الانسان علامة مميزة عن صورة الله فيه , لأن الله
اراد
ان يتركه الى
مشورته الخاصة, حتى يتمكن بذاته من أن يبحث عن خالقه , ويلتحق به
بحرية
, ويبلغ هكذا
الى تمام سعادته الكاملة "(نص مجمعي :سيراخ 15/14)
الانسان
في المسيحية اذا
, كائن حر , خلقه الله كذلك , حريته من الله ,
وبقدر
ما يحقق حريته
بقدر ما يحقق صورة الله فيه .
وقد
تكمن العلامة
الكبرى
لحرية
الأنسان بإزاء
الله في المسيحية في أن الله اراد أن يترك الانسان لذاته , حتى
يتمكن
بذاته , من
البحث عن الله ذاته , نفهم من هذا الكلام :"
ان
الله لم يفرض
على
الانسان شريعة ,
حفظا منه على حرية العقل والحرية الانسانية المطلقة, بل ان
الله
لم يقدم للأنسان
دليلا على وجوده , وذلك ايضا حتى لا يكون الانسان اسير هذا
الدليل
, "فالبحث عن
الله " كما تعلم المسيحية , هو رائد الحرية الانسانية الحقة ,
وبالتالي
رائد حرية العقل
الحقة , وعلى هذا المستوى اللاهوتي الواسع والغني تعالج
مسالة
الحرية
الانسانية.
من
هذا المستوى ,
حرية العقل في المسيحية تبدو
وكأنها
مطلقة , كونها
تضع الانسان بحريته بإزاء الله نفسه , وجها لوجه : بها نستطيع
ان
نقول لله نعم او
لا , وبها يبحث عقله عن خالقه , ومن دون حرية العقل لا بحث ولا
تفكير,
بل استسلام
واطمئنان وتخدير للعقل .
وفي مفهوم المسيحيين ايضا ان الله نفسه يسعى , شأنه شأن المربي الحكيم مع ربيبه , الى رفع القيود عن الانسان وعقله , وذلك بقدر ما يرى في الانسان الذي يتولى تربيته نموا ورقيا , فقد لا يسعى الانسان , اذا ما ترك لذاته , نظرا لمحدوديته , الى مثل تلك الحرية التي يوليها له الله , ففي مجال اكتساب الحرية , يبدو الله اكثر سخاء من الانسان نفسه , اذ انه قد يسيء الانسان المحدود الرؤية الى حريته , فيبحث عنها في الامور النسبية العابرة , بينما تكون كرامة الانسان بكل كيانه البشري العظيم بتعامله مع "المطلق"
هذا الترابط بين حرية الانسان(اي حرية عقله ) ومشيئة الله , نراه في مذكرة مجمع العقيدة والايمان , جاء فيها :" ولا تلغى ابدا مقدرة الانسان على تحقيق ذاته من خلال تبعيته لله ........كما لو كان اثبات الله يعني نفي الانسان , او لو كما كانت مداخلته تعالى في التاريخ تعطل مساعي الانسان , في الحقيقة , لا تستمد الحرية البشرية معناها وقوامها الا من الله وبالنسبة اليه "
وفي الختام نريد ان ننبه الى هذا الفارق الاساسي في موضوع الحرية فيما بين المسيحية والاسلام : في ممارسة الحرية يصطدم المسيحي بحريات الآخرين , لا بالله , اما في الاسلام فيصطدم المسلم بالله , والانسان الحر في المسيحية , حفاظا على حريته بترك غيره يمارس حريته باوسع نطاق ممكن , بهذا تنمو الحرية الانسانية الحقة و ويترك للعقل يمارس دوره