بحث أولهل إنباء المستقبل فى القرآن نبوءة من علم الغيب ؟لقد جمع أهل ( اعجلز القرآن ) على أن الإخبار بالغيوب – و هو ما يسمى النبوءات حصرا – هو أحد وجوه الاعجاز الثلاثة فى القرآن ، كما قال الباقلانى : " أحدها يتضمن الاخبار عن الغيوب ، و ذلك مما لا يقدر عليه البشر و لا سبيل لهم إليه . فمن ذلك: 1 ) ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان ، بقوله عز و جل : ( هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون ) ، ففعل ذلك ... 2 ) و قال اله عز و جل : ( قل للذين كفروا : ستغلبون و تحشرون الى جهنم و بئس المهاد ) فصدق فيه . 3 ) و قال فى أهل بدر : ( و اذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم ) ووفى لهم بما وعد " . و أضاف الباقلانى فصلا آخر " فى شرح ما بينا من وجوه الاعجاز " . فأما الفصل الذى بدأنا به من الاخبار عن الغيوب و الصدق و الإصابة فى ذلك كله ، فهو كقوله : 1 ) " قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " فأغزاهم أبو بكر و عمر رضى الله عنهما الى قتال العرب و الفرس و الروم . 2 ) و كقوله : " آلم . غلبت الروم فى أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين " و راهن أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى ذلك . و صدق الله وعده . 3 ) و كقوله فى قصة أهل بدر : " سيهزم الجمع و يولون الدبر " . 4 ) و كقوله : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم و مقصرين لا تخافون " . 5 ) و كقوله : " و اذ يعدكم الله احدى الطائفتين أنها لكم " . 6 ) و كقوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، و ليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " و صدق الله تعالى وعده فى ذلك . 7 ) و قال فى قصة المتخلفين عنه فى غزوته : " لن تخرجوا معى أبدا ، و لن تقاتلوا معى عدوا " فحق ذلك كله و صدق و لم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد . 8 ) و كقوله : " قل : تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم ، و أنفسنا و أنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " ، فامتنعوا عن المباهلة ، و لو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا ، على ما ذكر فى الخبر . 9 ) و كقوله : " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت ، إن كنتم صادقين . و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم " . و لو تمنوه لوقع بهم . فهذا و ما أشبه " . نستغرب ان يجعل الباقلانى و أمثاله تحدى نصارى نجران بالمباهلة ، من أنباء الغيب ، و تحدى يهود المدينة بتمنى الموت ، من النبوءة الغيبية . انهما عمل ظاهر حاضر . فهناك ، على زعم الباقلانى ثمانى نبوءات غيبية فى القرآن . أولا : نبوءة ظهور الاسلام على الدين كله جاء الوعد بظهور الاسلام " على الدين كله و لو كره المشركون " فى ( الفتح 18 ، الصف 9 ، التوبة 34 ) . فهل فى هذا الوعد نبوءة من علم الغيب ، أم انه اسلوب بيانى ؟ من يرى فى هذا الوعد نبوءة من علم الغيب يصطدم بالتاريخ و بواقع حال العرب و المسلمين . إنى عربى و يؤلمنى ما أقول ، لكن الحقيقة أن يعرف الانسان نفسه . فإلى اليوم لم يتغلب الاسلام على المسيحية ، و لا على الهندوكية ، و لا على البوذية . إن الواقع البشرى فى الاديان مائل للعيان : فليس فى وعد القرآن من نبوءة ! و من أصر على أنها نبوءة جعل الواقع يكذبها . و ليس فى قوله " ليظهره على الدين كله " وعدا للمستقبل . بل هو أسلوب بيانى من باب التعميم فى معرض التخصيص . و هذا التخصيص ظاهر من قرينة " و لو كره المشركون " ، هو اصطلاح فيه للعرب الذين يخاطبهم . و نعرف من ( اسباب النزول ) ان حقيقة الوعد تسجيل لواقع يتحقق فى الجزيرة العربية . و جاء هذا التسجيل بعد انتصار جماعة محمد على اليهودية فى شمال الحجاز ( الفتح 18 ) ، و على المشركين فى مكة ( الصف 9 ) ، و على المسيحية العربية فى مشارف الشام ( التوبة 33 ) . و لا ننس ابدا أن الآيات القرآنية كانت تنزل بعد الاحداث لتسجيلها و استخلاص عبرها . فالوعد بظهور الاسلام " على الدين كله " مقصور على الجزيرة العربية . و هو حادث مشهود ، لا غيب موعود . و ليس فيه من عناصر النبوءة المعجزة شىء : فليس خارقا للعادة فى نشأة الاديان و انتشارها ، و لا تحدى فيه لغير العرب المشركين ، و لا هو سالم عن المعارضة بسيطرة غيره من الأديان على العالم . فالوعد تسجيل واقع مشهود فى الجزيرة العربية . ثانيا : استخلاف المسلمين فى الأرض جاء فى قوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ، ليسخلفنهم فى الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، و ليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " ( النور 55 ) . فهل هذا الوعد نبوءة للمستقبل من علم الغيب ؟ أم أنه حادث مشهود يتم فى جزيرة العرب ؟ تلك الآية من سورة ( النور 55 ) نزلت فى غزوة بنى المصطلق ، فى شعبان سنة ست ه ، أى فى مطلع العام 628 م . و كانت تلك الغزوة بعد هزيمة احزاب قريش فى غزوة الخندق ، شوال سنة خمس ه أى فى آذار عام 627 م ، و بين صلح الحديبية فى آخر السنة السادسة ه ، أى فى آذار عام 628 م . لقد ذهب الخوف على المصير فى فشل مشركى قريش بغزوة الخندق . و ساد الأمن المسلمين الذين يجهزون لحملة الحديبية ، فى غزوة سلمية لمكة بحجة الحج . و هذا التصميم على اقتحام مكة ، و الرضى بصلح الحديبية مع صناديد قريش ، دليلان على تصاعد سلطان المسلمين فى الحجاز ، حتى سمى القرآن صلح الحديبية " فتحا مبينا " ( الفتح 1 ) . فتلك الظروف التاريخية لا تجعل الوعد بالاستخلاف " فى الأرض " – أى فى الحجاز – نبوءة غيبية عن مصير مجهول لا يعلمه إلا الله . إنها تسجيل واقع ببلوغ المسلمين قوة النصارى و اليهود فى الحجاز . فمن يقتحم مكة ، و يرضى منها مرغمة بالصلح ، لا يجهل سلطان جماعته و مصيرهم الآخذ فى السيطرة على الحجاز . و كل قائد يأتى بمثل هذا التحريض فى أحرج الأوقات على جماعته . فاستخلافهم فى الحجاز كاستخلاف أهل الكتاب فيه ، أمر مشهود يتم أمام عيونهم . فليس هذا الوعد ، فى واقع الحال ، نبوءة غيبية . و لا يصح ذلك لأنه ليس أمرا خارقا للعادة ، مقرونا بالتحدى ، سالما عن المعارضة . فاستخلاف المسلمين فى أرض الحجاز ، مثل النصارى و اليهود ، واقع مشهود بعد اندحار المشركين فى غزوة الخندق ، و رضوخهم الى الصلح فى معاهدة الحديبية . إن أسلوب التعميم و التجريد فى التعبير ، بعيدا عن ( أسباب النزول ) يوهم الخطأ فى تحميل القرآن ما لا يحمله من علم الغيب . ثالثا : النبوءة بنصر بدر قيل : فيها نصان . النص الأول : " أم يقولون : نحن جمع منتصر ! سيهزم الجمع و يولون الدبر ! بل الساعة موعدهم ، و الساعة أدهى و أمر " ( ال قم ر 44 – 46 ) . لا شىء فى ( أسباب النزول ) و لا فى النص ، يجعل من الوعد نبوءة غيبية . " و لما قال أبو جهل يوم بدر " إنا جمع منتصر " ، نزل : " سيهزم الجمع و يولون الدبر " ، فهزموا ببدر ، و نصر رسول الله صلعم عليهم " ( الجلالان ) . بحسب هذا التحليل ، الوعد تسجيل واقع . لكن الآية من مكة ، و لم ينزل بعد الأمر بالجهاد و القتال : فلا تمت الآية فى واقع الحال إلى نبوءة عن نصر حربى . و فاتهم جميعا الوعد المضروب للهزيمة : " بل الساعة موعدهم " . فالنصر الموعود هو فى يوم الدين ، حيث تكون الهزيمة فى " سقر " ( 48 ) . النص الثانى : " و إذا يعدكم احدى الطائفتين أنها لكم " ( الانفال 7 ) . و قد وفى لهم بما وعد . فهل فى هذا القول علم بالغيب ؟ قال الجلالان : " شاور النبى صلعم أصحابه و قال : إن الله وعدنى إحدى الطائفتين . فوافقوه على قتال النفير ، و كره بعضهم ذلك و قالوا : لم نستعد له " . نص الوعد لا يحمل معنى " النبوءة " أى علم الغيب : فهو مجهول القصد ، العير أم النفير . وواقع الحال لم يكن يتجه إلى قتال النفير فى بدر ، كما يظهر من قصة الغزوة فى القرآن و السيرة . كان هدف الغزوة قطع الطريق على قافلة أبى سفيان العائدة من الشام مثقلة بالمال و المتاع . لكن نفير قريش تصدى لهم فنازلهم فنازلوه . و الوعد " بإحدى الطائفتين " ليس فيه معنى المعجزة ليصح نبوءة : فليس خارقا للعادة ، لأنه مجهول الهدف ، و ليس سالما عن المعارضة ، فلم يحمل المسلمون القول محمل العلم بالغيب ، فهم يجادلون فيه حتى بعد النصر : " يجادلونك فى الحق بعد ما تبين " ( الانفال 6 ) . فلو كان فى الوعد معنى التحدى لما تلكأ المسلمون عن الخروج الى المعركة : " و ان فريقا من المؤمنين لكارهون " ( 5 ) ، و من شدة خوفهم كانوا ربهم يستغيثون ( 9 ) . فلم يكن الوعد مقطوعا كمعجزة للتحدى . و القرآن نفسه لا يرى فى ذلك الوعد غيبا مكشوفا ، بل بشرى للاطمئنان : " و ما جعله إلا بشرى ، و لتطمئن به قلوبكم ، و ما النصر إلا من عند الله " ( 10 ) . و قد استغل القرآن الحدث كنصر من الله يؤيده ، لا كمعجزة غيبية تشهد له . فالنص و القرائن كلها ، دلائل على أن ذلك الوعد كان وعد قائد حكيم ، لا نبوءة غيبية معجزة . فليس فى القرآن من نبوءة بنصر بدر . رابعا : النبوءة بفتح مكة جاء بعد فتح الحديبية : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، محلقين رؤوسكم و مقصرين ، لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " ( الفتح 27 ) هو معاهدة الحديبية . التفسير الصحيح ، و ( أسباب النزول ) تمنع أن يكون فى الآية نبوءة غيبية . قال الجلالان : " رأى رسول الله صلعم فى النوم ، عام الحديبية ، قبل خروجه ، أنه يدخل مكة هو و أصحابه و يحلقون و يقصرون . فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا . فلما خرجوا معه ، و صدهم الكفار بالحديبية و رجعوا ، و شق عليهم ذلك ، و راب بعض المنافقين ، نزلت " . و يقول السيوطى فى ( أسباب النزول ) : " أخرج الغريابى و عبد بن حميد و البيهقى ، أنه يدخل مكة و أصحابه آمنين محلقين رؤوسهم و مقصرين . فلما نحر الهدى بالحديبية ، قال أصحابه : أين رؤياك ، يا رسول الله ؟ فنزلت " . فأصحاب محمد يشهدون بأن الوعد لم يتم . فليس فيه من نبوءة غيبية . قيل : لقد تحقق الوعد فى العام القابل . و لكن فى العام القابل ، دخلوا مكة بناء على معاهدة الحديبية ، لا بناء على وعد نبوى . و قد تخاذل صناديد قريش أمام قوة المسلمين الزاحفة . فليس فى الوعد معنى كشف الغيب ، إنما هو بنص القرآن القاطع " رؤيا " فى منام . و النبوءة الغيبية ، الخارقة للعادة ، السالمة عن المعارضة ، التى يتحدى بها كمعجزة له ، لا تكون " رؤيا " فى منام ! . و ظروف الحال تمنع الاعجاز ، فزمن النبوءة مجهول : فهو تارة قبل الخروج إلى الحديبية ، و تارة فى الحديبية ، و السورة التى تذكره من بعد الحديبية . و النبوءة المعجزة لا تكون مجهولة الزمان و المكان ، مجهولة المصير ، يجرى التاريخ بخلافها . فقد " قال أصحابه : أين رؤياك ، يا رسول الله " ؟ فكل القرائن القرآنية و التاريخية تمنع من أن نرى فى " رؤيا " المنام نبوءة غيبية . و لو رأى القرآن نفسه فيها أمرا خارقا للعادة ، لتحداهم به ، كلما تحدوه بمعجزة ! فهذه " الرؤيا " ، مثل " الوعد " بنصر بدر ، كلها أساليب تحريض على الجهاد ، لا أسلوب نبوءة من علم الغيب . خامسا : الوعيد بهلاك كفار مكة هذا نصه : " قل للذين كفروا : ستغلبون و تحشرون الى جهنم ، و بئس المهاد ! قد كان لكم آية فى فئتين التقتا ، فئة تقاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأى العين . و الله يؤيد بنصره من يشاء . إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار " ( آل عمران 12 – 13 ) . هذا وعيد بهلاك كفار مكة ، فهل فى ظروف الحال ، أم فى تحقيقه ، ما يجعله نبوءة غيبية ؟ الوعيد من بعد نصر بدر الذى تذكره سورة ( الأنفال ) . و القرآن يعطى على صحة الوعيد برهانا " العبرة " بنصر بدر . فليس الهلاك المذكور هو موقعة بدر ، انما هو بنصه القاطع حشر كفار مكة فى جهنم . و هذا لا يقدر أن يتحققه المسلمون على الأرض ، فليس فيه معنى التحدى بالاعجاز ، ليكون نبوءة غيبية . و العبرة بنصر بدر أسقطتها هزيمة أحد من بعدها . ووعيد كفار مكة بجهنم سقط بإسلام أهل مكة . و النبوءة الغيبية لكى تكون كذلك ، يجب أن تقترن بالتحقيق . جاء فى التوراة عن صحة النبوءة الغيبية : " فإن تكلم النبى باسم الله ، و لم يتم كلامه ، و لم يقع ، فذلك الكلام لم يتكلم به الله " ( التثنية 18 : 22 ) . و نبأ لا يتم ، و يعترض ما يمنع تحقيقه ، لا يكون نبوءة غيبية ، انما هو وعيد من باب الترهيب ، لا من باب علم الغيب سادسا : دعوة المسلمون الى قتال الفرس و الروم جاء قوله : " ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) . هل فى هذا النص خبر عن قتال موعود للفرس و الروم ، و الانتصار عليهم ؟ إنه يأتى فى سورة ( الفتح 16 ) تحريضا على غزوة خيبر و معاقل اليهود فى الشمال ، كما يتضح من سياق النص ( الفتح 15 – 19 ) . فظاهر النص أن " القوم أولى البأس الشديد " هم يهود الشمال فى معاقلهم . فليس هو نبوءة غيبية ، بل تسجيل واقع الحال . و قد تكون الآية ( الفتح 16 ) من زمن غزوة تبوك ، كما يدل عليه مضمونها و مضمون سورة التوبة ( 90 – 106 ) . دعاهم إلى تأديب النصارى العرب الموالين للروم فى مشارف الشام . فكانت غزوة مؤتة الفاشلة ، ثم غزوة تبوك المتعسرة التى انتهت بصلح مشروط . و لو كان فى التحريض على قتال العرب النصارى فى مشارف الشام معنى النبوءة الغيبية ، لما تقاعس الاعراب أهل الغزو عن المسيرة ، فنزل فيهم : " و الاعراب أشد كفرا و نفاقا ، و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، و الله عليم حكيم " ( التوبة 97 ) . فالنبأ أمر مشهود فى غزوة تبوك ، لا أمر موعود من علم الغيب . فليس فى الآية . و لا فى قرائنها ، معنى دعوة المسلمين الى قتال الفرس و الروم ، و الانتصار عليهم . إنهم يحملون النص ما لا يحمله ، ليجدوا فيه نبوءة غيبية . سابعا : تهديد المتخلفين عن غزوة تبوك يرون نبوءة غيبية فى قوله : " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ... فإن رجعك الله الى طائفة منهم ، فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معى أبدا ، و لن تقاتلوا معى عدوا ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين " أى المتخلفين عن الغزو ( التوبة 81 و 83 ) . قال الباقلانى : " فحق ذلك كله و صدق ، و لم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد " . لكن فات الباقلانى و أمثاله أن الرسول نفسه لم يخرج الى غزوة البتة بعد تبوك ، فهى آخر غزوات النبى ، انتقل بعدها الى الرفيق الأعلى . هذا الواقع ينقض معنى النبوءة الغيبية فى الآية ، و يدل على ان محمدا لم يكن يرى فيها كشفا للغيب ، يجهل معه موته القريب . إن النبأ لا يكون نبوءة إلا متى اقترن بالتحقيق ، و هنا يحول موت النبى دون التحقيق . و النبوءة الغيبية لا تكون مشروطة . و هنا النبوءة مشروطة برجوعه سالما من غزوة تبوك : " فإن رجعك الله الى طائفة منهم " ( 83 ) . و هذا الشرط يرفع معنى النبوءة فى الآية . فلو أمهل الله محمدا فغرا بعد تبوك ، فذلك تنفيذ أمر عسكرى ، لا تحقيق نبإ غيبى . و هذا أيضا لم يحصل . إن النبأ الغيبى تحقيقه محتوم ، و غير مشروط . قل : انها أوامر عسكرية ، قد تقتضى الظروف تبديلها ، فليس فيها من نبوءات غيبية ، كما يتوهمون . ثامنا : قصة الروم يرون نبوءة تاريخية كبرى فى قوله : " غلبت الروم فى أدنى الأرض ، و هم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين ، لله الأمر من قبل و من بعد ، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم ، وعد الله ، لا يخلف اله وعده ، و لكن أكثر الناس لا يعلمون " ( الروم 2 – 6 ) . قصة الروم هذه لا تمت الى السورة التى تستفتحها بصلة . فلا يعرف زمانها . ثم ان لها قراءتين على المعلوم ( غلبت ) و على المجهول ( غلبت ) . و بحسب اختلاف القراءة قد تعنى الروم و الفرس ، أو الروم و العرب . و آية مجهولة المعنى لا تكون نبأ غيبيا . و ( أسباب النزول ) تؤيد ذلك ، قال السيوطى : " أخرج الترمذى عن أبى سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت ( آلم غلبت الروم ) الى قوله ( بنصر الله ) يعنى بفتح العين . و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه " – فعلى القراءة بالمعلوم ان الآية تسجيل واقع تاريخى مشهود ، يتوسم فيه المسلمون خيرا لهم تجاه المشركين . " و أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين و هم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلعم فيقولون : الروم يشهدون أنهم أهل كتاب ، و قد غلبتهم المجوس ، و أنتم تزعمون أنكم ستغلبونا بالكتاب الذى أنزل على نبيكم . فكيف غلبت المجوس الروم و هم أهل كتاب ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم . فأنزل الله ( آلم غلبت الروم ) . و أخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة و يحيى بن يعمر " – واقع الحال قبل الهجرة لا يسمح بمثل هذا الحوار ، فقد ظل المسلمون مغلوبين على أمرهم فى مكة حتى اضطروا إلى الهجرة الى يثرب . مع ذلك يستنتج السيوطى : " و قتادة فى الرواية الأولى على قراءة ( غلبت ) بالفتح لأنها نزلت يوم غلبهم يوم بدر . و الثانية على قراءة الضم ( غلبت ) فيكون معناه ، و هم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصح معنى الكلام ، و إلا لم يكن له كبير معنى " – فكبير المعنى عنده ان المسلمين سيغلبون الروم بعد انتصارهم على الفرس . و هذه نظرية ثالثة فى معنى الآية . و نبأ له ثلاثة معان ليس بنبوءة غيبية . و قد تكون القراءة على المجهول ، أى انتصار الروم على الفرس بعد هزيمة الروم ، هى الفضلى ، فى شبه اجماع . لكن على هذه الحال ، ليس فى الخبرمعنى النبوءة الغيبية ، " لأنها نزلت يوم غلبهم ، يوم بدر " ، انها تسجيل حدث مشهود عام 624 م فرح به المسلمون لنصر الإيمان ، كما فرحوا بنص بدر على مشركى العرب . و التاريخ خير شاهد : فقد بدأت حملة الفرس الظافرة عام 612 م فاحتلوا سورية سنة 622 م ، و فلسطين 614 م و مصر 618 م . و ظهر هرقل فسار بحملة الثأر الظافرة سنة 622 م ، و سنة 624 م كان طرد الفرس من سوريا ، يوم نصر بدر . و ظل هرقل زاحفا حتى احتل عاصمة فارس ، و استرجع منها ذخيرة الصليب . فما يسمونه نبوءة فى آية الروم ليس سوى واقع تاريخى مشهود . و هناك نحو اثنين و عشرين خبرا من تلك النبوءات المزعومة ، اقتصرنا على أشهرها . و أنت ترى تهافت التحليل لرؤية نبوءة غيبية حيث لا شىء من ذلك . و القول الفصل ، فى باب الإخبار بالغيوب ، أن علم الغيب المجهول
معجزة إلهية ، و القرآن ينفى عن محمد كل معجزة منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء
59 ) و منعا فعليا قاطعا ( الانعام 35 ) . 1 سيرة الرسول 1 : 229 – 231 . نصوصها و روحها لا تدخل فى عداد معجزات التحدى . و بالتالى فإنها ليس من شأنها نقض الموقف السلبى العام الذى تمثله الآيات القرآنية " . و فاتهم أيضا الاسلوب البيانى و الصوفى فى القرآن : فهو يأتى بالتعميم فى موطن التخصيص ، فيأخذ الواقع باطلاق التعبير مداه الحقيقى ! و هو ينسب العلل و العوامل فى المخلوقات الى العلة الأولى فى الوجود ، فينظر من تلك الزاوية الى الحياة الدنيا نظرة صوفية ، لا نظرة واقعية تاريخية . و هذا الاسلوب القرآنى المزدوج هو الذى يعطى " تلك التأييدات و الإلهامات الربانية " ، فى أسلوب عرضها ، صيغة النبوة الغيبية ، مع انها ليست من علم الغيب فى شىء . فلو فطنوا لاسلوب القرآن لما وهموا . و كيف فات القوم تصريح القرآن القاطع : " و ما أعلم الغيب " ( الانعام 50 ) . و لم يكشف له الله الغيب ، فهو يشهد على نفسه : " لو كنت أعلم الغيب ، لاستكثرت من الخير ، و ما مسنى السوء " ( الاعراف 188 ) . بعد هذا الاعلان القرآنى الصريح القاطع ، كيف يجوز لهم أن يروا فى القرآن نبوءات من علم الغيب ؟ ! إنهم يكابرون و ينقضون صريح القرآن . فليست أنباء المستقبل فى القرآن نبوءات من علم الغيب . ينقض ذلك نقضا مبرما " الموقف القرآنى السلبى من كل معجزة " . إنما هى من " متشابه " القرآن فى أسلوبه البيانى و الصوفى . |