بحث رابع
شبهات على الإعجاز من الواقع القرآنى
فى القرآن اعجاز فى الهدى، وفى النظم والبيان؛ لكن القرآن لا يعتبره معجزة له، كما يبدو من بعض المبادئ والمشاهد والمواقف. لذلك كان المعتزله يقولون: ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة.
والواقع القرآنى غارق أيضاَ فى الشبهات على الاعجاز كمعجزة.
أولاً: شهادة القرآن لإعجازه متعارضة
ننقل هنا لمحة خاطفة مجملة فى الاعجاز القرآنى، عن أحمد الرازى فى كتابه (حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان) : " حجة مَن قال، القرآن كله محكم : " كتاب أُحكمت آياته" (فى هود)؛ "حجة من قال، القرآن كله متشابه: " نزّل أحسن الحديث،
كتاباً متشابهاً" (فى الزمر)؛ " حجة من قال، بعضه محكم وبعضه متشابه: "منه آيات محكمات ... وأُخر متشابهات" (فى آل عمران).
نعرف ان بعضهم يحاول تفسير آية (الزمر) تفسيرا" يرفع التعارض؛ لكن آية (آل عمران) تقضى بالتفسير الحق: فمن جهة بعضه محكم وبعضه متشابه؛ ومن جهة اخرى كله محكم وكله متشابه. فشهادة القرآن لنفسه هى على العموم متعارضة. فهى مشبوهة لا يصح الاعتماد عليها لإقامة دعوى الاعجاز. إن الواقع القرآنى ينقض هذه الدعوى موضوعاً، كما رأينا فى البحث السابق، وشكلاً كما نرى هنا. فالمقالة بالاعجاز معجزة أمر طارئ على القرآن. فإن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة.
(1) نشر أحمد عمر المحمصانى، ص 75
ثانياً: شهادة القرآن لإعجازه منسوخة
لقد نسخ القرآن، كما رأينا، اعجازه فى الأحكام والشريعة، بآية النسخ (البقرة 106). ونسخ اعجازه فى الأوصاف والأخبار، وهى أكثر القرآن، بآية المتشابه (آل عمران 7). والقضاء القرآنى المبرم على دعوى الاعجاز هى قوله: " وما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون فى العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7). وكلام لا يعلم تأويله إلاّ الله، ليس بمعجز للخلق؛ وحاشا للرحمان الرحيم أن يكلّف النفس إلاّ وسعها (البقرة 286).
وحاول بعضهم مداورة هذا الحكم المبرم على الاعجاز بقراءَة تختلف عن قراءَة الجمهور. فقرأوا: "وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون فى العلم" على العطف، لا على الاستئناف. وهذه قراءَة ضعيفة، وينقضها نص الآية كله. قال السيوطى فى (الاتقان 2: 2 – 4): " اختّلف هل المتشابه ممّا يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ الله، على قولين، منشؤهما الاختلاف فى قوله (والراسخون فى العلم) هل هو معطوف و(يقولون) حال؛ أو مبتدأ خبرُه (يقولون) و (الواو) للاستئناف. وعلى الأول طائفة يسيرة ... وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومَن بعدهم، خصوصاً أهل السنة، فذهبوا الى الثانى (على الاستئناف)، وهو أصح الروايات عن ابن عباس. ويدل لصحة مذهب الأكثرين قراءَة ابن عباس، وأُبَى بن كعب: (وما يعلم تأويله إلاّ الله؛ ويقول الراسخون
فى العلم: آمنا به)؛ وقراءَة ابن مسعود: "وإنْ تأويله إلاّ عند الله؛ والراسخون فى العلم يقولون: آمنا به" ؛ وهناك أحاديث كثيرة تدل على صحة الاستئناف ... فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلاّ الله، وأن الخوض فيه مذموم" .
وهب ان قراءَة البعض على العطف صحيحة، فلا ترفع القضاء المبرم على دعوى الاعجاز، لأن الكلام الذى "لا يعلم تأويله الاّ الله والراسخون فى العلم" ، لا يكون معجزاً لسائر الناس كما هى حال المعجزة. فالمكلفون بالايمان بكلام، لا يصح تكليفهم به إلاّ إذا عقلوه، ولا تساق البشرية سوق السوائم؛ "ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها" (البقرة 286).
وفات هذا البعض معنى الاصطلاح القرآنى؛ "الراسخون فى العلم" . فهم يفهمون التعبير لغوياً، وهو اصطلاح متواتر فى القرآن يعنى اهل العلم المقسطين أى النصارى من بنى اسرائيل. فإذا فهم هؤلاء معنى المتشابه فى القرآن، وهو أكثره، فيكون الله خاطب العرب، ومن ورائهم سائر البشرية كلاماً يستحيل عليهم فهمه، إذ قد استأثر الله بفهمه. وحاشا للرحمان الرحيم أن يخاطب الناس بما لا يفهمون، وأن يطالبهم بالايمان بما لا يفقهون، وأن يكلّفهم ما لا يعقلون. والمتشابه فى القرآن هو كل القرآن. ما عدا "الآيات المحكمات" ؛ وهى قلائل.
وقد يقول بعضهم أيضاً: ان غاية الدعوة القرآنية هى الشريعة ، وهى فى " الآيات المحكمات" . لكن فات هؤلاء حقيقة التحدّى بالاعجاز، وموضوع هذه "الآيات المحكمات".
نقل السيوطى فى (الاتقان 2 : 2) ان "الآيات المحكمات" هى " عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً ... وعن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه؛ وما يؤمن به ويعمل به؛ والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به ... وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال ... وعن الربيع قال: المحكمات هى أوامره الزاجرة ... وقد روى عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذى يعمل به، والمتشابه الذى يؤمن به ولا يعمل به".
فالآيات المحكمات هى أوامره الزاجرة، وهى أحكام القرآن النواهى. والواقع ان أحكام القرآن الآمرة والناهية من دون الخمسماية آية. فقد قال السيوطى أيضاَ فى (الاتقان 2 : 130): "قال الغزالى وغيره: آيات الاحكام خمسماية. وقال بعضهم ماية وخمسون" . فالآيات المحكمات هى على الأكثر خمسماية من أصل 6236 آية. والآيات المتشابهات هى اذن 5736، أى القرآن كله تقريباً. وكتاب متشابه فى مجمله كيف يكون معجزاً؟
وهكذا فالأحكام المحكمة فى "الآيات المحكمات" قليلة جداً، إذ هى ممّا لا خلاف فيه" أوامره الزاجرة" ؛ وهذه قد تقتصر أيضاَ على أمر واحد، الشرك : " إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" . وهكذا يكون الأمر الزاجر، والحكم المحكم واحداً. فماذا يبقى اذن من "الآيات المحكمات" التى لا شبهة عليها؟ وعلى اعجازها؟
وكتاب فى جملته متشابه، كيف يصح القول بإعجازه؟ وكيف يجوز لهم اعتبار هذا الاعجاز المشبوه معجزة له؟ إنها مقالة خرجوا بها عن الواقع القرآنى، وأخرجوها ليستروا بها عجز القرآن عن معجزة "كالأنبياء الأولين". فبهذه الشهادة لنفسه: " وما يعلم تأويله إلا الله" - إذ لا يُعتدّ بالقليل القليل من محكمه - قد نسخ القرآن دعوى اعجازه، وأبطل هو نفسه القول بمعجزة اعجازه. وهذا هو القول الفصل، فى هذا الفصل. وبآية النسخ فى أحكامه (البقرة 106) نسخ أيضاَ صفة الاعجاز عن أحكامه فى "الآيات المحكمات" . فكان القرآن كله معجزة مشبوهة شكلاً وموضوعاً.
فقد صح ما قال المعتزله، وهم أول القائلين بالاعجاز القرآنى: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة.
ثالثاً: صفات التبديل والمحو والإسقاط والنسيان تنقض الاعجاز
إن النسخ فى القرآن (البقرة 106) قضية مبدأ وقضية أمر واقع فيه؛ والمتشابه فى آيه (آل عمران) قضية مبدأ وقضية أمر واقع فيه. وقضايا التبديل والمحو والاسقاط والنسيان هى أيضاً قضايا مبدأ وقضايا أمر واقع فيه. وكلها صفات تنقض دعوى الاعجاز فى القرآن.
1 — ضية التبديل فى آى القرآن
يصرح القرآن مراراً: " لا تبديل لكلمات الله" (يونس 64)؛ " ولا مبدّل لكلمات الله" (الانعام 34)؛ " لا مبدّل لكلماته" (الانعام 115؛ الكهف 27). وقد يتحدونه بتبديل القرآن: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين لا يرجون لقاءَنا: أيت بقرآن غير هذا، أو بدّله - قلْ: ما يكون لى أن أبدّله من تلقاء نفسى؛ إنْ أتّبع إلاّ ما يوحى إلىّ! إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم" (يونس 15). وها إن القرآن نفسه يصرح بمبدأ التبديل فى آيه ويصرح بواقعه: " وإذا بدّّلنا آية مكان آية - والله أعلم بما ينزّل - قالوا: إنما أنت مفتر! - بل أكثرهم لا يعلمون! قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 101 – 102).
فالنص القرآنى يقطع بواقع التبديل فى آى القرآن. وهو يبرّره باسناده إلى الله نفسه: "والله أعلم بما ينّزل" ؛ " قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق" ! - لكن هل يصح أن يبدّل الله آية مكان آية؟ قد تتبدّل الأحوال الطارئة فتنوّع الآيات المنزلة، لكنها لا تزول من التنزيل. وزوالها من التنزيل القرآنى شبهة عليه، وسند صحيح لرفع الاعجاز فى التنزيل؛ فيكون هذا التبديل فى آى القرآن مثار أزمات وشبهات لا تنتهى.
فقد أثار هذا التبديل صيحة المشركين: "إنما أنت مفترٍ" ! لأن التبديل شبهة على صحة التنزيل. وقد سبّب هذا التبديل ردّة بين جماعة محمد وصفها القرآن بعنف: "مَن كفر بالله، من بعد إيمانه - إلاّ منَ أكره وقلبه مطمئن بالايمان - ولكن منَ شرح بالكفر صدراً: فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم" (النحل 106). علّق على هذه الحادثة الأستاذ دروزة بقوله: "روح الآيات ومضمونها... يُلهم أنه أوحى للنبى صلعم ببعض الآيات لتكون مكان بعض آيات أخرى. فلما تلى الجديدة وأهمل الأولى، استغلّ زعماء الكفار ذلك، فأخذوا يشنعون عليها ويهاجمون دعواه كون القرآن وحياً إلهيا، وينسبون اليه الافتراء، والتعّلم من الشخص الأجنبى المعين. ولعلهم قالوا: إن الشيطان هو الذى يوسوس له، ويلقى عليه، لا الملك، وأن التبديل دليل على ذلك ؛ فالشيطان محل خطأ، والملاك لا يصح أن يخطئ، واستغلوا الحادث فى الصد والتأثير فى بعض المسلمين. وتوسلوا بالإغراء، إلى جانب الاستغلال والتشويش. وكان من نتيجة ذلك أن ارتدّ
بعضهم، استجابة لهذه الدعاية، واستحباباً لمنافع الدنيا معاً" . فهذه الردة بين الجماعة، بعد تكفير المشركين، برهان واقعى على فساد حكمة التبديل فى التنزيل.
ويقرن القرآن واقع التبديل فى آى القرآن، بالأمر بالاستعاذة من الشيطان: " فإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" (النحل 98)، كأن للشيطان ضلعاً فى تبديل القرآن، كما له ضلع فى الإلقاء عند تلاوته: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى، إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان فى أمنيته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ثم يحكم الله آياته" (الحج 52). وهذا الواقع يجعل قرينة الاستعاذة عند القراءة، مجالاً للشك فى نسبة التبديل الى الله: فقد يكون من الله، وقد يكون من غيره.
والقرينة الثانية بين التبديل، والتعلّم من شخص أجنبى: " ولقد نعلم أنهم يقولون: انما يعلمه بشر! - لسان الذى يُلحدون اليه أعجمى، وهذا لسان عربى مبين" (النحل 103)، يثير الشبهة أن
التبديل من التعلّم. ويزيد الشبهة رسوخاً أنّ المعلم المزعوم أجنبى اللسان، لا يفصح إلاّ بعد تبديل. انه يقول: " وهذا لسان عربى مبين" أى القرآن؛ فكيف يكون أكثره من المتشابه الذى لا يُبين؟!
ونلاحظ أخيراً الفرق بين الذين آمنوا والمسلمين فى قوله: " نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 102). فإن (الواو) فى (وهدى وبشرى) للزيادة، لا عطف بيان. يؤيد قولنا أنه لا يعطف اسماً على جملة؛ واختلاف الغاية بين الفريقين: تثبيت " الذين آمنوا" ؛ وهدى وبشرى للمسلمين؛ و" الذين آمنوا" كناية متواترة عن جماعة محمد، مثل صفة " المتقين" ؛ بينما " المسلمون" فى القرآن اسم متواتر لغير جماعته ؛ حيث القرآن لهم بمثابة التوراة التى يكنى عنها بالهدى، وبمثابة الانجيل الذى يعربه حرفياً "البشرى" . وهذه الجماعة الأخرى التى يقيم معها التوراة والانجيل للمسلمين" قرينة على أن الشخص الاجنبى الذى زعموا تلمذة محمد له، هو من يشير اليه بتواتر: "وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10)؛ " قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43). فزعمهم اذن ليس بباطل، مع لسانه الأعجمى.
فتبديل آية مكان آية أمر واقع فى القرآن، وقضية مبدأ فيه. والتبديل فى آى القرآن شبهة قائمة على اعجازه: فالتنزيل المحكم المعجز، من الحكيم العليم جلّ جلاله، لا يطرأ عليه التبديل، وإلاّ كان مثل كلام البشر.
(1) سيرة الرسول 1: 234 – 244
2 - قضية " المحو" فى " أم الكتاب"
هنا المحو والاثبات فى التنزيل يلحق الأصل السماوى نفسه للقرآن: "لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب" (الرعد 38 - 39).
فسّره البيضاوى: " لكل وقت وأمد حكم يُكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم. يمحو الله ما يشاء، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت ما تقتضيه حكمته ... وقيل: يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء، ويترك غيره مثبتاً؛ أو يثبت ما رآه وحده فى صميم قلبه. وقيل: يمحو قرناً ويثبت آخر. وقيل: يمحو الفاسدات، ويثبت الكائنات. (وعنده أمّ الكتاب) أى أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ، اذ ما من كائن إلاّ وهو مكتوب فيه" .
وفسره الجلالان: " لكل أجل، مدة، كتاب مكتوب فيه تحديده (يمحو الله ما يشاء) من الأحكام وغيرها. (وعنده أم الكتاب) أصله الذى لا يتغيّر منه شىء، وهو ما كتبه فى الأزل".
انهم يردّون معنى الآية الى التبديل فى قضاء الله وقدره. والمعنى الأقرب الى الصواب هو التبديل فى التنزيل ، الذى يجرى بحسب المكتوب فى " أم الكتاب" اى اللوح المحفوظ الذى كتبه فى الأزل. وهنا الطامة الكبرى، سواء كان " المحو" فى التنزيل أم فى قضاء الله وقدره.
وبما أن التنزيل أم تقدير الله لعباده مكتوب منذ الأزل فى "أمّ الكتاب" - فكيف يجرى " المحو" فى اللوح المحفوظ؟ أم كيف يكون تنزيل بغير المكتوب فى " أم الكتاب" يحتاج الى محو وتصحيح؟ أو تغيير فى تقدير القدير على عباده؟ فالتغيير فى "أمّ الكتاب" أم فى التنزيل عن " أم الكتاب" شبهة لا مردّ لها على التنزيل وعلى اعجازه. والشبهة هنا أخطر من سابقتها، فقد يقع تنزيل بغير ما فى " أمّ الكتاب" ، يقوّمه روح القدس بحسب ما فى " أمّ الكتاب" ، ويحكم الله آياته. والتنزيل الذى قد يختلف عن أصله السماوى، أو يعتريه محو فى أصله السماوى، وإن أحكم الله آياته بعد المحو، ليس معجزاً فى ذاته. فقضية المحو فى "أمّ الكتاب" ، أو فى التنزيل عن "أمّ الكتاب" شبهة قائمة دائمة على اعجاز القرآن، ونقض لاعتبار هذا الاعجاز معجزة.
3 - قضية الرفع والإسقاط من القرآن
هذه القضية تمت على عهدين: مع النبى نفسه؛ وعند جمع القرآن.
1) على عهد النبى نفسه
من الثابت، فى الحديث المتواتر، أنه " نزل عليه قرآن ورُفعت تلاوته" . ومن الثابت أيضاً أنه " نزل عليه قرآن ونُسخ" . والنسخ فى القرآن، والمحو، والتبديل، ظواهر يشهد بها القرآن نفسه (البقرة 106 ؛ الرعد 39 ؛ النحل 101).
قال الباقلانى: " والذى نذهب اليه أن جميع القرآن الذى أنزل الله وأمر بإثباته ورسمه - ولم ينسخه، ولم يرفع تلاوته بعد نزوله - هو الذى بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان" . نقول: إن إسقاط الأحرف الستة من الأحرف السبعة التى نزل عليها القرآن، وحرق المصاحف ما عدا مصحف عثمان ، تكذيب لمثل ذاك الادعاء.
إن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، "باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى"، كما بيّنه الطبرى فى تفسيره الكبير؛ وبقاء القرآن فى المصحف العثمانى على حرف واحد، شاهد تاريخى قائم على أنّ محمداً والصحابة أسقطوا من القرآن ستة أحرف؛ ولم يسلم لنا سوى الحرف العثمانى. فهل الأحرف الستة التى سقطت غير معجزة فأسقطوها؟
والحديث الآخر فى معارضة جبريل مع محمد للقرآن، كل سنة، فى شهر رمضان؛ وحديث معارضته فى السنة الأخيرة مرتين؛ وحديث إشهاد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة مع النبى التى بيّن فيها جبريل ما نُسخ من القرآن وما بقى ؛ كلها تلقى شبهة ضخمة على إعجاز القرآن فى تنزيله ذاته؛ فإن معنى هذه العرضة السنوية تنقيح القرآن المنزل. وما هو بحاجة الى تنقيح لا يكون معجزاً.
2) على عهد جمع القرآن
قد أسقطوا من القرآن كثيراً عند جمعه، على حسب ما نقلت الروايات الثابتة.
قالوا: إنّ عليّاً كتب فى مصحفه الناسخ والمنسوخ؛ وأن عثمان رفع المنسوخ من مصحفه . ومع ذلك يكتبون إلى اليوم فى الناسخ والمنسوخ الذى أفلت من رقابة عثمان. فهل كان المنسوخ الذى أسقطوه محكماً معجزاً؟ أم غير معجز حتى أسقطوه؟
(1) دروزة: القرآن المجيد ص 63
(2) دروزة: القرآن المجيد ص 90
(3) دروزة: القرآن المجيد ص 73
(4) قابل السيوطى فى الإتقان 1: 46 "المسألة الثالثة: فى الأحرف السبعة التى نزل القرآن عليها"
(5) دروزة: القرآن المجيد ص 55
(1) عن دروزة: القرآن المجيد ص 60
وهناك سُوَر أسقطت برمتها: "روى عن أبى موسى الأشعرى: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ممّا نسيناها". وروى مسلم هذا الحديث الآخر بقوله: " إن أبا موسى الأشعرى قال مرة لخمسماية من القراء بالبصرة: إنا كنا نقرأ سورة بطول السهم وحدها؛ أمّا الآن فقد نسيتها ما عدا بعض الآيات" . وعنه أيضاً: "نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت" ومشهور أمر سورة "النورين" فى علىّ، التى قيل إن عثمان أسقطها من مصحفه . وكان مصحف أُبَى قد أثبت سورتى "الحفد" و "الخلع" فأسقطهما عثمان. فهل إسقاط مثل تلك السور من دلائل إعجازها أم عدمه؟
وهناك قسم أُسقِط من بعض السور. لقد نقل السيوطى عن عائشة: "إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ فى زمن النبىّ مئتى آية. فلما كتب عثمان المصاحف، لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن". وعن أُبَى: "إنْ كانت لتعدل سورة البقرة ، وإنْ كنّا لنقرأ فيها آية الرجم" . وسورة الأحزاب فى أحداث بيت النبى.
وقريب من ذلك الأحاديث عن سورة البيّنة: كانت من الطوال، فصارت من القصار. فهل أسقطت تلك الاقسام لأنها لم تكن من الاعجاز القرآنى؟
وهناك بعض من آيات أسقط. "روى عن حميدة بنت أبى أوس قالت: قرأ علىّ أبى وهو ابن ثمانين سنة، فى مصحف عائشة: (إن الله وملائكته يصلون على النبى! يا أيها الذين آمنوا، صلوا عليه وسلموا تسليماً - وعلى الذين يُصلّون فى الصفوف الأولى). وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف".
إن عائشة تتهم عثمان بتغيير المصاحف: فهل هذا التغيير كان من اعجاز القرآن، أم لا؟
وجاءَ فى موطأ الامام مالك، انه كان فى مصحف عائشة، ومصحف حفصة، ختام الآية على هذه الصورة: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وصلاة العصر". فأسقط عثمان الختام.
(2) عن دروزة: القرآن المجيد ص 90
(3) عن دروزة: القرآن المجيد ص 55
(4) عن دروزة: القرآن المجيد ص 57
(5) عن دروزة: القرآن المجيد ص 61
أخرج الحاكم فى (مستدركه) أنهم أسقطوا فى مصحف عثمان آية "وادٍ من المال" ، كانت فى مصحف أُبى. وكذلك هذه الآية: " إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من مصحف أُبى .
"وروى عن ابن عباس أنه كان يقرأ آية الكهف هكذا: (وكان وراءَهم ملاك يأخد كل سفينة - غصباً). وآية البقرة هكذا: (لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم - فى المواسم). وروى عن ابن الزبير أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر - ويستعينون بالله على ما أصابهم). وروى عن ابن مسعود انه كان يقرأ آية آل عمران هكذا: (وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله - من أجل ما جئتكم به). ويقرأ آية النساء هكذا: (فما استمتعتم به منهنّ - إلى أجل مسمّى). ويقرأ آية الاحزاب هكذا: (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم - وهو أب لهم). ويقرأ آية المجادلة هكذا: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ... - إذا أخذوا فى التناجى" .
فهذه التعديلات، عند جمع القرآن بواسطة عثمان، تدل على نية فى تنقيح نص القرآن. فهل تدل على اعجاز فى الأصل؟
" وروى عن عدى بن عدى، عن عمر قال: " كنّا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم). ثم قال لزيد بن ثابت: (أكذلك؟ - قال: نعم)! فهذه شهادة من عمر. ومن كاتب الوحى وجامع القرآن زيد بن ثابت، أنه أُسقط من القرآن فى جمع عثمان.
والشهادة بالاسقاط من القرآن فى الجمع العثمانى متواترة: " روى المسوّر بن محزمة ان عبد الرحمان بن عوف قال: ألم نجد فيما أُنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) ، فإنا لا نجدها. قال: أُسقطت فيما أسقط من القرآن" . إنه اقرار ضخم لا يحتاج الى تعليق.
فهل أسقطوا من القرآن لتنقيحه أم لإعجازه؟
(1) عن دروزة: القرآن المجيد ص 61
(2) عن دروزة: القرآن المجيد ص 61
(1) عن دروزة: القرآن المجيد ص 59
"وهناك روايات عديدة تفيد أن بعض الصحابة كانوا يقرأون كلمات بدل كلمات". ويعطون على ذلك اثنى عشر مثلاً . فهذه شهادة على أن نص القرآن لم يكن ثابتاً قبل الجمع العثمانى. وهذه شبهة أخرى على اعجازه.
ونقلوا عن عثمان نفسه، لمّا عُرض عليه النص الموحد المنقح: "أرى فى القرآن لَحَناً وستقيمه العرب بألسنتها"! وعن عكرمة أنه لمّا كتب المصاحف عُرضت عليه فقال: " لا تغيّروها، فإن العرب ستغيّرها (ستعربها) بألسنتها"!
وهذه شهادة بأن النص القرآنى قد أصقلته العرب فى تلاوتها. يؤيد ذلك قول الجاحظ، لمّا عارض القرآن فى (الفصول والغايات)، فقيل له: اين هذا من القرآن؟ فقال: دعوا الألسن تصقله فى المحاريب، وترون بعد ذلك ما سيكون!
وهكذا يحق لنا، بعد هذه الشهادات، ان نرى فى اعجاز القرآن الباقى اعجاز أمّة أكثرمنه اعجاز فرد. فلا يصح أن يكون هذا الاعجاز معجزة إلهية بشهد للقرآن والنبى. والقول الفصل ما " روى عن ابن عمر: لا يقولن أحدكم: أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله؛ قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقل! قد أخذت منه ما ظهر"
فهذا القرآن الذى ذهب وأسقطوه، أكان معجزاً أم غير معجز، لا يدل اسقاطه على اعجازه. وما ظهر من القرآن قد نقحوه وأصقلته الألسن فى التلاوة، فليس اعجازه معجزة إلهية.
(2) ابن الخطيب: الفرقان ص 90
(3) عن دروزة: القرآن المجيد ص 59
4 - النسيان من القرآن
هذه ظاهرة قرآنية أخرى تمس الاعجاز كظاهرة الزيادة والنقصان فى القرآن. ينعى القرآن على أهل الكتاب أنهم " نسوا حظاً مما ذُكّروا به" (المائدة 13 و 14)؛ " فلما نسوا ما ذُكّروا به" لم يرض الله (الانعام 44 ؛ الأعراف 165). وها إن النبى نفسه كان ينسى من القرآن، فيُقال له: " سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله" (الأعلى 6 – 7). فقد يشاء الله أن ينسى النبى من القرآن. ويجعل القرآن مسأله النسيان منه مثل مسألة النسخ: قضية أمر واقع وقضية مبدأ، فى قوله: " ما ننسخ من آية – أو ننسها - نأت بخير منها أو مثلها" (البقرة 106). فالله نفسه يُنسى نبيه بعض القرآن. فالنسيان من القرآن، مثل النسخ، شبهة على اعجازه.
ونجد فى القرآن المكى والمدنى معاً الاقرأر المتواتر بنسيان القرآن. على قوله: " سنقرئك فلا تنسى، إلاّ ما شاء الله" علّق الطبرى: " أخبر أنه يُنسى نبيّه منه ما شاء. فالذى ذهب منه هو الذى استثناه الله".
وعلى قوله: " واذكر ربك اذا نسيت، وقلْ: عسى أن يهدينى ربى لأقرب من هذا رَشَداً" (الكهف 24)، علّق البيضاوى: " اذا فرط منك نسيان لذلك ... واذكر ربك وعقابه اذا تركت بعض ما أمرك به، ليبعثك على التدارك؛ واذكره اذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسى".
والغرابة كل الغرابة فى قوله: " أو نُنسها" (البقرة 106): فالله ينسى نبيّه القرآن! قال الطبرى: ان النسيان يعرض للنبى، وقد يفعله الله فيه.
ويأتى الحديث فيبيّن لنا ظاهرة النيسان. نقل الطبرى عن قتادة: " كان ينسخ الآية بالآية بعدها. ويقرأ نبى الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تُنسى وتُرفع"! وعن قتادة أيضاً: " كان الله، تعالى ذكره، ينسى نبيّه ما شاء، وينسخ ما شاء"! وعلى آية البقرة (106) عن مجاهد. كان عبيد الله بن عمر يقول: (نُنسها: نرفعها من عندكم)! وعن الحسن: ان نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه. وعن الربيع: (ننسها: نرفعها) - وكان الله أنزل أموراً من القرآن ثم رفعها".
ويضيف الطبرى: "وما أشبه بذلك من الأخبار التى يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل فى فطرة ذى عقل صحيح، ولا بحجة خبر، أن يُنسى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما كان قد أنزل عليه. فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز"!
(1) تفسير الطبرى - تخريج الأخوين شاكر، نشر دار المعارف بمصر 2 : 474 – 480
واذا نسى النبى، أو أنساه الله، أو أنساه الشيطان، من القرآن؛ فكم بالحرى عرض ذلك للقرّاء وحملة القرآن.
فهل تدل ظاهرة النيسان من القرآن على الاعجاز فى المنسى؟ والمنسى كالباقى؟
فتلك الظواهر القرآنية الأربع، من تبديل ومحو واسقاط ونسيان، لا تدل على اعجاز فى القرآن، وتنقض دعوى الاعجاز فيه. لذلك صح ما قالوا: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة.
رابعاً: إلقاء الشيطان أو الناس فى القرآن
1 - من أغرب الظواهر القرآنية، ظاهرة القاء الشيطان من عنده فى الوحى والتنزيل من دون أن ينتبه النبى لذلك، حتى ينبّهه جبريل ويُحكم الوحى والتنزيل.
قال: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى، إلاّ اذا تمنّى (قرأ) ألقى الشيطان فى أمنيته! فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم: ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وان الظالمين لفى شقاق بعيد … ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه" (الحج 52 – 55).
إن (اسباب النزول) كلها تربط آية (الحج 52) بقصة الغرانيق التى وردت فى سورة (النجم)، بطرق كثيرة، حتى قال الحافظ بن حجر: " كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً".
جاء فى تفسير الجلالين: " وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبى (إلاّ اذا تمنى) قرأ (القى الشيطان فى أمنيته) قراءَته ما ليس من القرآن ممّا يرضاه المرسل اليهم. وقد قرأ النبى صلى الله عليه وسلم فى سورة النجم بمجلس من قريش بعد (أفرأيتم اللاّت العزّى، ومناة الثالثة الأخرى) بإلقاء
الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم به: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لتُرتجى) ففرحوا بذلك. ثم أخبره جبريل بما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك، فحزن، فسُلّى بهذه الآيات. (وان الكافرين لفى شقاق بعيد) خلاف طويل مع النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين، حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم ، ثم أُبطل".
مهما كابر المكابرون فى صحة قصة الغرانيق، فإن المبدأ القرآنى فى آية (الحج 52) صريح، لا مراء فيه: إن الشيطان قد تدخّل فى تنزيل القرآن، من غير علم محمد، لم يشعر بذلك حتى أعلمه جبريل، وأحكم آيات القرآن. ومجرّد التفكير بإمكانية تدخل الشيطان فى الوحى والتنزيل شبهة مؤلمة على هذا الوحى والتنزيل، وعلى دعوى الاعجاز فيه. فبحسب آية (الحج 52) قد ضاهى الشيطان اعجاز القرآن، ولم يشعر محمد من تلقاء نفسه بذلك؛ فليس القرآن إذن بمعجز للثقلين، الانس والجن.
إن هذه الظاهرة الغريبة تنقض معجزة الاعجاز. ولا يقلّل من غرابتها أن ذلك وقع لكل رسول أو نبى. فالكتاب نفسه، وأهل الكتاب لا يعرفون ذلك لكتابهم. بل نرى فى الانجيل سيطرة السيد المسيح على الشياطين، حتى لتفزع منه وتستذل بحضرته. ودليل ذلك ان القرآن يأمر بالاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن، لكن الكتاب ليس فيه شىء من ذلك.
2 - وعقد السيوطى فى (الاتقان 1 : 35) فصلاً: " فيما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة". قال: " والأصل فيه موافقات عمر. وقد أفردها بالتصنيف جماعة.
1) " أخرج الترمذى عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال ابن عمر: وما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، الاّ نزل القرآن على نحو ما قال عمر! وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأى فينزل به القرآن.
" وأخرج البخارى وغيره عن أنس قال: "قال عمر: وافقت ربى فى ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى). وقلت: إن نساءَك يدخل عليهن البَرّ والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهنّ: (عسى ربه إن طلقكنّ، أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) فنزلت كذلك.
"وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربى فى ثلاث: فى الحجاب، وفى اسرى بدر، وفى مقام ابراهيم.
"وأخرج ابن ابى حاتم عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربى، أو وافقنى ربى فى اربع: نزلت هذه الآية (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ...) فلما نزلت قلت أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فنزلت (فتبارك الله أحسن الخالقين).
" وأخرج عن عبد الله بن أبى ليلى ان يهودياً لقى عمر بن الخطاب فقال: ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا! فقال عمر (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل، فإن الله عدو الكافرين). قال: فنزلت على لسان عمر!
2) "وأخرج سنيد فى تفسيره عن سعيد بن جبير، أن سعد بن معاذ، لما سمع ما قيل فى أمر عائشة قال (سبحانك هذا بهتان عظيم) فنزلت كذلك.
"وأخرج ابن أخى ميمى فى (فوائده) عن سعيد بن المسيب قال: كان رجلان من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم اذا سمعا شيئاً من ذلك قالا (سبحانك هذا بهتان عظيم) - وهما زيد بن حارثة وأبو أيوب - فنزلت كذلك.
3) "وأخرج بن نأبى حاتم عن عكرمة قال: لمّا أبطأ على النساء الخبر فى (أُحُد) خرجن يستخبرنَ، فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حى! قالت: فلا أبالى (يتخذ الله من عباده الشهداء) فنزل القرآن على ما قالت (ويتخذ منكم شهداء).
4) " وقال ابن سعد فى (الطبقات): أخبرنا الواقدى: حدثنى ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدرى عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وهو يقول: (وما محمد الاّ رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات، أو قُتل انقلبتم على اعقابكم) ثم قُطعت يده اليسرى فحنى اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول (وما محمد الاّ رسول ...) ثم قُتل، ثم سقط اللواء. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية يومئذٍ حتى نزلت بعد ذلك".
— فى هذا الفصل الوجيز واقع مضاهاة الصحابة للقرآن، وأمثلة من ذلك على لسان بعضهم، خصوصاً على لسان عمر الذى ينقلون عنه خمس آيات؛ والذى كان يرى الرأى
فينزل به القرآن. وهذا شاهد من القرآن والحديث على أن الإنس أيضاً يأتون بمثل القرآن، والقرآن يتمثل بهم، على حدّ قوله: " وافقت ربى! أو وافقنى ربى"!
3 - ويضيف السيوطى: " يقرب من هذا ما ورد فى القرآن على لسان غير الله كالنبى صلى الله عليه وسلم وجبريل والملائكة، غير مصرّح بإضافته اليهم، ولا محكى بالقول، كقوله (قد جاءكم بصائر من ربكم ...) فإن هذا وارد على لسانه صلى الله عليه وسلم لقوله فى آخرها (وما أنا عليكم بحفيظ). وقوله (أفغير الله ابتغى حكما) فإنه وارد أيضاً على لسانه.
" وقوله (وما تتنزّل إلا بأمر ربك) وارد على لسان جبريل. وقوله (وما منّا الاّ له مقام معلوم. وإنا لنحن الصافّون، وإنا لنحن المسبّحون!) وارد على لسان الملائكة.
" وكذا (إياك نعبد، واياك نستعين) وارد على ألسنة العباد.
"إلاّ انه يمكن هنا تقدير القول اى (قولوا)؛ وكذا الآيتان الأوليان يصح ان يقدر فيهما (قل) بخلاف الثالثة والرابعة".
وهذا كثير فى القرآن. ومنه يظهر ان محمداً، وصحابته "والعباد" قد ضاهوا القرآن فى أقوالهم التى نقلها القرآن عنهم. فليس هو بمعجز للثقلين، والجن والانس.
تلك الأمثلة على مضاهاة الانس والجن للقرآن تجعل قول بعض المشركين فى ردّه على تحدّى القرآن العابر "أن يأتوا بمثله" أو "بحديث مثله" ، سائغاً، حيث قال: " سأنزل مثل ما أنزل الله" (الأنفال) فقد نزل القرآن مراراً على ما قال عمر باللفظ والمعنى.
وهكذا فإيحاء الأرواح، وإيحاء البشر واقع فى القرآن. وهذا الواقع دليل على أنه ليس بمعجز على الاطلاق للعالمين. فيصح قولهم: " ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة"!
خامساً: التنزيل بالمعنى يمنع من جعل إعجازه البيانى معجزة له
رأينا ان على أساس القول بإعجاز القرآن معجزة له، ما قاله ابن حزم فى (الفِصَل): "لم يقل أحد ان كلام غير الله تعالى معجز. لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته".
1 - الاختلاف فى معنى الإنزال؛ التنزيل بالمعنى قولان من ثلاثة
وقد عقد السيوطى فى (الاتقان 1 : 44) فصلاً "فى كيفية الإنزال والوحى: اتفق أهل السنة والجماعة على ان كلام الله منزل؛ واختلفوا فى معنى الانزال ... واختلفوا فى المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال: (احدها) أنه اللفظ والمعنى: وان جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (والثانى) إن جبريل انما نزل بالمعانى خاصة. وانه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعانى وعبّر عنها بلغة العرب. (الثالث) ان جبريل ألقى اليه المعنى، وأنه (جبريل) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب".
فقول واحد من ثلاثة ان التنزيل بالمعانى والألفاظ معاً؛ وقولان يحصران الوحى والتنزيل بالمعنى فقط. ولا تكفير، ولا تثريب على مَن يقول بالتنزيل بالمعانى فقط من دون الألفاظ؛ ولهم على صحة قولهم شاهد من حديث الاحرف السبعة، ومن رخصة النبى بقراءَة القرآن بلغات العرب كلها.
2 - التنكّر للتنزيل بالمعنى
إن مقالة التنزيل بالمعنى وحده واردة فى كتب المسلمين قديماً وحديثاً، ولو حاول بعضهم التنكّر لها لأنها تنقض القول بإعجاز القرآن.
علق عليه الشيخ الزرقانى فى كتابه (مناهل العرفان فى علوم القرآن ص 43): " وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم. وإلا كيف يكون القرآن معجزاً واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ أو كيف يصح نسبته الى الله، واللفظ ليس له؟ مع ان الله يقول: "حتى يسمع كلام الله". - أجل يصح نسبة كلام الى الله انه منه تعالى وإن اقتصر التنزيل على المعانى فقط: فالمعانى ارواح، والألفاظ أجساد لها، والعبرة بالروح. ولكن لا يصح ان "يكون القرآن معجزاً، واللفظ لمحمد أو لجبريل"! وهما قولان من ثلاثة.
والتنزيل بالمعنى أقرب الى الواقع النبوى العام والخاص. تختلف الكتب السماوية من التوراة الى الزبور الى النبيين الى الحكمة الى الانجيل الى القرآن لفظاً واسلوباً: فإذا اعتبرناها كلها كلام الله، مع اختلافها اسلوباً وبياناً، وجب ان نقول بالوحى والتنزيل بالمعنى، من دون الألفاظ، إلا فيما ندر. والواقع النبوى القرآنى شاهد عدل على ذلك: يختلف اسلوب
القرآن المكى عن اسلوب القرآن المدنى، والأمر ظاهر: فلا يصح القول بالتنزيل مبنى ولفظاً وتعبيراً.
ويحاول أحمد محمد جمال إثبات حرفية القرآن فى قوله: "احتفظ القرآن بالتعابير الآتية الدالة على حرفيته:
1) " كلمة (قلْ) وأمثالها (نبئ وأنذر وبشر). مثلاً: " قل ما كنت بدعاً من الرسل - قل انما انا بشر مثلكم - قل لا املك لنفسى نفعاً ولا ضراً - قل هذه سبيلى أدعو الى الله على بصيرة - قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ..."
2) " نصوص عتاب الله لرسوله. مثلاً "لِمَ أذنت لهم؟ حتى يتبيّن الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - ما كان لنبى ان يكون له أسرى حتّى يثخن فى الأرض - يا أيها النبى لِمَ تحرّم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك ...".
3) "تعقيبات الله على ما يقصه على رسوله من قصص كقوله: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك - ذلك من انباء القرى نقصه عليك - كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ...".
4) "تعابير خطابية تشير من جهة الى مَنّ الله على رسوله بأخبار الغابرين، وتعنى من جهة اخرى افحام الجاحدين برسالته بأنه انما يتلقى الوحى من لدن حكيم عليم كقوله: وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم - وما كنت ثاوياً فى أهل مدين - وما كنت بجانب الغربى - وما كنت تتلو من قبله من كتاب ...".
5) "تعابير زجرية، موجهة من الله لرسوله بالذات، وان كان قومه معنيين بها بالتبعية، كقوله: " فلا تكونن من الممترين - ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين، فلا تكونن ظهيراً للكافرين - ولا تكونن من المشركين ...". تلك هى دلائله الخمس على حرفية التنزيل".
نجيب إنّ القول بحرفية القرآن أو اى كتاب منزل مسألة عقيدة ايمانية لا يصح القول بها الاّ بتصريح من كتاب الله؛ وليس فى القرآن تصريح صريح بحرفيته فى تنزيله: فليس
القول بها واجب. انما هناك استدلالات؛ وتلك الأمثلة التى عدّدها السيد أحمد محمد جمال تعود كلها الى اسلوب القرآن: لكل كاتب فذّ اسلوب خاص فى التعبيير، وذاك هو اسلوب القرآن فى تعبيره. والدليل على انه اسلوب النبى، لا اسلوب التنزيل ضرورة، ان تلك الأقوال تحكى أقوال محمد لهم: " إنما انا بشر مثلكم - لو شاء الله ما تلوتُه عليكم - لا أملك لنفسى نفعاً ولا ضراً - هذه سبيلى ادعو الى الله على بصيرة" . فالاستفتاح بها بكلمة (قل) ، إنما هو اسلوب فى التعبير لا يجعلها منقولة حرفياً. وعتاب الله لنبيه أو تعابيره الزجرية هى حديث النفس المردّد، أو حديث الضمير المعذّب، ينقلها الوحى ويظهرها بألفاظها وتعابيرها، دون ان يكون الوحى بها بحرفه من التنزيل.
(1) فى كتابه: مع المفسرين والكتاب، ص 174
3 - آيات متشابهات فى التنزيل بالحرف
وقد علّق الاستاذ دروزة على مثل قوله: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك (يوسف 102)؛ تلك من انباء الغيب نوحيها اليك، ما كنت تعلمها انت ولا قومك من قبل هذا" (هود 49) " ولقد يقال إن فى القرآن آيات قررت أن النبى صلى الله عليه وسلم وقومه لم يكونوا يعلمون ما جاءَت به القصص القرآنية - فهناك آيات كثيرة أخرى فيها مؤيدات على ان العرب لم يكونوا غافلين أو جاهلين لكثير مما كانوا يسمعونه من قصص القرآن وأخبار والأنبياء والأمم الغابرة وأحوالهم كما ترى فى الآيات التالية: " واذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا الاّ أساطير الأولين" (الأنفال 31 ؛ الأنبياء 5 ؛ القصص 48 ؛ العنكبوت 47 ؛ الصاقات 37) ... فآيتا هود (49) ويوسف (102) لا تقرّران شمول نفى علم النبى وقومه بكل قصة أو خبر قرآنى قبل نزول القرآن، وانما هما بسبيل قصتى نوح ويوسف ص. اللتين جاءَت الآيتان عقبهما. فمن الجائز ان يكون فى القصتين بعض المعانى أو المواقف الدقيقة التى غفل عنها النبى صلى الله عليه وسلم والسامعون، وأن تكون الآيتان انما عنتا ذلك . لا سيّما أن قصتى نوح ويوسف ص. من القصص الواردة فى التوراة بإسهاب، وقد كانت التوراة متداولة بين أيدى الكتابيين وخاصة اليهود
الذين كان منهم جاليات كبيرة مستقرة فى الحجاز كما هو معروف: وليس مما يصح فرضه أن تكون القصتان برمتهما مجهولتين جهلاً تاماً فى بيئة النبى صلى الله عليه وسلم، دون غيرهما من القصص القرآنية الواردة فى التوراة".
(1) سيرة الرسول 1 : 40 – 41
(2) فى القصص القرآنى بعض المعانى أوالمواقف وردت فى التلمود أو المدارش اليهودى لم تنزل فى التوراة، فعدّها القرآن من الغيب المجهول لدى العرب
فتلك "الآيات المتشابهات" سلباً وايجاباً، انما هى أيضاً من أساليب القرآن فى التعبير لا تقطع بعقيدة، ولا تدل على حرفية التنزيل.
4 - الرخص النبوية الأربع فى قراءَة القرآن تنقض التنزيل بالحرف
وينقض نقضاً مبرماً حرفية التنزيل فى القرآن الرخص النبوية الأربعة فى قراءَة القرآن:
1) نزول القرآن على سبعة أحرف " باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى وكلها شاف كاف، أيها قرأت أصبت" (الطبرى).
2) اباحة القراءات المختلفة المتعددة، "والقراءات اختلاف ألفاظ الوحى المذكور فى كتابة الحروف وكيفيتها" ؛ قال: "فاقرأوا ما تيسّر منه" .
3) الرخصة فى قراءَة القرآن بجميع لغات العرب "حتى انهم قرأوا بسائر لغاتهم على اتساع تلك اللغات. فلما خشى عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصراً على لغة قريش محتجّاً بأنه قد نزل بلغة قريش" .
4) الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى دون اللفظ. وهو مذهب بعض الصحابة كابن عباس ومجاهد وأبى بن كعب؛ وقد أجاز هذه الطريقة الخلفاء الراشدون، وعملوا بها عند الضرورة، حتى الجمع العثمانى.
وهذه الرخص النبوية الأربعة كانت قائمة قبل جمع القرآن، وهى التى حملت عثمان على جمعه على حرف واحد، وقراءَة واحدة، ولغة واحدة، ولفظ واحد. ولكن هل توصلت لجنة عثمان الى الحرف الأصلى بعد العمل بتلك الرخص نحو نصف قرن؟ وهل كانت معصومة؟
فالقول بحرفية النص فى التنزيل يناقض القرآن والتاريخ. فالأصح القول " بمعنوية الوحى فى القرآن" ، كما ذكرت بعض كتب المسلمين. "وكتب المسلمين، هذه التى يشير اليها الشيخ الزرقانى، هى التى استند عليها الشاعر العراقى، معروف الرصافى، بمعنوية الوحى فى القرآن حيث كان يعبّر فى كتابه (رسائل التعليقات) بهذا التعبير: قال محمد فى القرآن" .
وبحسب نظرية نزول القرآن بالمعنى، من دون الحرف واللفظ والنص، - وهو القول الأصح المطابق لتاريخ النبوة وتاريخ القرآن - لا أساس فى القرآن لاعجاز فى النظم والبيان يجعله معجزة النبوة الخالدة.
وهذا أيضاً يؤيد قولهم: "ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة".
(1) ابن الخطيب الفرقان ص 120
(1) احمد محمد الجمال: مع المفسرين والكتاب ص 174
سادساً: خلق القرآن، فى حرفه، شبهة على إعجازه ومعجزته
التنزيل بالمعنى يقودنا الى مقالة " خلق القرآن" ، فى حرفه.
1 - فى قصتها، قال الشيخ محمد أبو زهرة، استاذ الشريعة بجامعة القاهرة : "مسألة خلق القرآن أثيرت فى العصر الأموى، فى جدال المسيحيين. كانوا يقولون: اذا كان كلام الله فى القرآن غير مخلوق، فكم بالأحرى مَن يسميه القرآن " كلمة الله القاها الى مريم وروح منه" ؟ فالمسيح كلمة الله أزلى غير مخلوق. قال الشيخ: "وكان بين المسلمين طائفة قد تصدّت للرد على ما يثيره غير المسلمين للطعن فى الاسلام، فوجدوا أنه من الواجب ان يقولوا: ان القرآن مخلوق، و " كلمة الله" التى عبّر بها عن المسيح هى مخلوقة، باعتبار ان مسمّاها، وهو المسيح، مخلوق ... المأمون يضطهد مَن لا يقول بخلق القرآن ... والمعتصم يجرى على سنة أخيه ... والحق ان المعتزلة لهم وجهة فيما يقولون وليس فيما يقولون كفر ولا زيغ. بل ان الذى دفعهم الى ذلك هو سد الطريق على الذين يحاولون إفساد عقول المسلمين بتأويل بعض العبارات القرآنية تأويلاً باطلاً".
والحق ان الشيخ أبا زهرة يقلب الحقيقة التاريخية: إن المسلمين قالوا بأزلية كلام الله فى القرآن، رداً على قول المسيحيين بأزلية المسيح "كلمة الله" . ولا مجال على الاطلاق بالمقارنة
بين المقالتين: إن "كلمة الله" ذات إلهية فى الله ألقاها الى مريم روحاً منه تعالى؛ وكلام الله المنزل عمل مثل الخلق يعمله الله فى الزمن، فهو محدث. وليس من مقابلة بين كلام الله المنزل لعباده، وكلام الله الذاتى فى نفسه، فجعل كلام الله المنزل أزلياً فى ذات القديم فيه اذن مغالطتان.
وفى قضية أزلية القرآن المواقف ثلاثة: قال المعتزلة، كل شىء غير الله مخلوق، والقول بأزلية القرآن هو القول بقديمين الله والقرآن؛ وقال السلف الصالح من الأمة، كلام الله غير مخلوق سواءُ كان عين كلام الله أو عبارة عنه؛ وقال الأشاعرة بمنزلة بين المنزلتين: معنى القرآن غير مخلوق، وحرفه الذى هو عبارة عنه محدث ، فصارت مقالة أهل السنة والجماعة.
وفى القرآن تعابير استندوا اليها ليقولوا بقدم القرآن، كلام الله عينه؛ لكنها آيات متشابهات لا يصح ان تكون عمدة فى عقيدة. وفيه تعابير تشير بأنه مخلوق. قال أحمد الرازى فى (حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان):
(2) مجلة العربى صفر 1380 = اغسطس 1960 ص 91 – 93
2 - " فى حجج القائلين بخلق القرآن . وهو مشتمل على فصول:
" الفصل الأول: فى الخلق ، وذلك فى خمسة مواضع: (فى الأنعام) وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم. (وفى الرعد) قل الله خالق كل شىء. (وفى الفرقان) وخلق كل شىء فقدره تقديراً. (وفى الزمر) الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل. (وفى حم المؤمن) ذلكم الله ربكم، خالق كل شىء، لا إله الاّ هو.
" الفصل الثانى: فى الجعل ، وذلك فى موضعين: (فى حم فصلت) ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته. (وفى الزخرف) إنا جعلناه قرآنا عربياً، لعلكم تعقلون.
" الفصل الثالث: فى الحدوث ، وذلك فى خمسة مواضع: (فى الكهف) فلعلك باخع نفسك على آثارهم، أن لم يؤمنوا بهذا الحديث، أسفاً. (وفى الزمر) الله نّزل أحسن الحديث. (وفى الطلاق) لعلّ الله يحدث بعد ذلك امراً. (وفى الأنبياء) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الاّ استمعوه وهم يلعبون. (وفى الشعراء) ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث الاّ كانوا عنه معرضين. (وفى هود) كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير - وما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثاً".
فبرهان القائلين بخلق القرآن على نوعين: من العقل، فالقول بأزلية القرآن هو القول بقديمين، وهذا كفر. ومن النقل، بنص القرآ، القاطع، انه " ذكر من ربهم محدث" ، "ذكر من الرحمان محدث" . وما قال أحد من اهل الكتب السماوية ان هذه الكتب تقول بأزليتها.
ومهما كان الأمر فى أزلية معنى القرآن، فالقول بخلق حرف القرآن هو المعقول؛ وهو المنقول عن أكثر الأئمة، والمتواتر فى الأمة؛ ويؤيده ما وصف به القرآن نفسه من جعْل وحدوث. والقول بخلق حرف القرآن ونصه يمنع من جعل اعجازه فى النظم والبيان معجزة له.
وهذا أيضاً يعزّز قولهم: "ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة".
سابعاً: شهادة القرآن لإعجازه محصورة بالعرب ولغتهم
قومية الرسالة، ولغتها، وقومية المرسل إليهم تجعل اعجاز القرآن محصوراً بهم، لا بل بالخاصة منهم. واعجاز محصور محدود لا يكون معجزة للعالمين.
1 - ينص القرآن بمبادئ صريحة على قومية الرسالة المحمدية، واختصاصها بالعرب.
المبدأ القرآنى العام أنه "لكل امة رسول" (يونس 47) و "لكل قوم هاد" (الرعد 7). وهذه القومية تدوم الى يوم الدين: " ويوم نبعث فى كل امة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء" (النحل 89 كذلك النساء 41): فمحمد رسول من العرب والى العرب "لقد مَنّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" (آل عمران 164).
المبدأ الثانى: قومية الرسول تحدد قومية رسالته: " هو الذى بعث فى الاميين رسولاً منهم" (الجمعة 2). فمحمد هو " النبى الأمى" المرسل الى الأمّيين العرب (الأعراف 157).
المبدأ الثالث: لغة الرسول تحدد مدى رسالته: " وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه" (ابراهيم 4) لذلك " وانه لذكر لك ولقومك" (الزخرف 44).
المبدأ الرابع: لغة الوحى تحصر حدود رسالته واعجازها. ففى اثنى عشر موضعاً يصرح بأنه نزل عربياً لكى يفهموه كقوله: " وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى وما حولها" (الشورى 7).
المبدأ الخامس: دعوة القرآن للعرب الى ملة ابراهيم، جدهم بواسطة اسماعيل؛ فهما يصليان يوم بناء الكعبة: "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" (البقرة 129). فهم أولى الناس به (آل عمران 68).
المبدأ السادس: تصريح القرآن المتواتر بأنه ذكر للعرب : "لقد أنزلنا اليكم كتاباً فيه ذكركم" (الأنبياء 10)؛ " وانه لذكر لك ولقومك " (الزخرف 44)؛ " هذا ذكر من معى، وذكر مَن قبلى" (الأنبياء 24) وهذه التصاريح تدل على ان التعميم فى مثل قوله: إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين" (1 : 104 ؛ 38 : 87 ؛ 81 : 27) انما يقصد به التخصيص.
المبدأ السابع: جعل الاسلام العرب امة وسطا بين الموسوية والمسيحية: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة 143).
تلك المبادئ تجعل الرسالة المحمدية قومية عربية، والقرآن قومياً عربياً للعرب، مخصوصاً بهم.
2 - ولغة القرآن ، بحسب مبادئ القرآن: "وما أرسلنا من رسول الاّ بلسان قومه، ليبيّن لهم" تحصره فى اهل لغته. وبما أن الاعجاز هو فى النظم العربى والبيان العربى، فهو لخاصة العرب، لا لعامتهم، وبأولى حجة لعامة البشر. زدْ على ذلك ان أكثره من المتشابه الذى " لا يعلم تأويله الاّ الله" فقد نزل بلغة لا نفهم معناها الراسخون فى العلم أنفسهم، فلا يكون معجزاً لهم ولا لسائر الناس.
والمرسل اليهم محصورن، محدودن فى الزمان والمكان: " لتنذر ام القرى وما حولها" (الشورى 7)؛ " فهو ذكر لك ولقومك " (الزخرف 44)؛ " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151).
فهذه المبادئ القرآنية تجعل رسالة القرآن عربية وقد جاءَت بلغة عربية أكثرها من المتشابه الذى يعجز عنه الراسخون فى العلم، فلا يصح ان يكون القرآن معجزاً لعامة العرب، بل لسائر البشرية. واعجاز متشابه محصور لا يكون معجزة للناس أجمعين.
فقد صح قولهم: "ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة".
ثامناً: القرآن تابع لكتاب " الإمام" ، والتابع لا يكون معجزاً
الاعجاز هو أولا فى الهدى ثم فى البيان والتبيين والنظم المبين.
1 - وما بين القرآن والكتاب انتساب ونسب. والقرآن يستشهد بهذا الانتساب، ويستعلى به على قومه.
وهو انتساب شامل: فى الهدى " بهداهم اقتده" (الأنعام 90) ، وفى الدين الذى شرع الله مع ابراهيم وموسى وعيسى (الشورى 13)، وفى السنن التى يهديهم اليها (النساء 26) وفى البيان والتبيين، فإن الحى القيوم أنزل القرآن كما أنزل التوراة والانجيل فرقاناً للحق (آل عمران 1 – 3).
2 - فالكتاب هو " إمام " القرآن، فى الهدى والبيان: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ... فلاتك فى مرية منه" (هود 17)؛ فليس بينهما سوى اللسان العربى: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً" (الأحقاف 12)، وليس فى هذا اللسان العربى ميزة خاصة به.
3 - وما القرآن سوى بيان للكتاب الذى نزل من قبل: " وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل اليهم" (النحل 44)؛ وتصديق له بين العرب: " والذى أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه" - قبله (فاطر 31)؛ وتفصيل - والتفصيل فى لغة القرآن يعنى الترجمة: " وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الناس، ولكن تصديق الذى بين يديه، وتفصيل الكتاب" (يونس 37)؛ فإسلام القرآن كله من اسلام الكتاب: " وقولوا: آمنا بالذى أنزل الينا وانزل اليكم، والهنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون" (العنكبوت 46) فلا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون (البقرة 136 ؛ آل عمران 84 ؛ النساء 152) فلا يفضلهم محمد بإعجاز خاص فى قرآنه، لأن القرآن " بيّنة ما فى الصحف الأولى" (طه 133).
4 - فالقرآن فى الكتاب وفى صدور أهله: "وان هذا لفى الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى" (الأعلى 18 – 19). أجل "انه لتنزيل رب العالمين، بلسان عربى مبين" ، ولكنه " فى زبر الأولين" (الشعراء 192 – 196)؛ لذلك "فهو آيات بينات فى صدور
الذين أوتوا العلم" من أهل الكتاب (العنكبوت 49)؛ " يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم " (البقرة 146 ، الانعام 20).
5 - فإمامة الكتاب للقرآن مطلقة: " وانه لتنزيل رب العالين ... وإنه لفى زبر الأولين". فتنزيل القرآن نفسه من تنزيل الكتاب، وهو تابع لهذه الإمامة فى كل أطواره وكل احواله. والتابع لا يكون معجزاً أكثر من " إمامه" : فليس اعجاز القرآن ميزة له انفرد بها. لذلك قالوا بحق: "ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوة".
تاسعاً: تبعية القرآن للكتاب
1 - تظهر تبعية القرآن للكتاب الإمام عامة شاملة: فيه شرع لهم من الدين ما وصى به نوحاً وابراهيم وموسى وعيسى (الشورى 13). لذلك " اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الانعام 89 – 90). فالقرآن " تنزيل رب العالين" لكنه " فى زبر الأولين" (الشعراء 196).
2 - ولكن هذه التبعية متطورة جامعة. تتطور من تبعية لإبراهيم: " ثم أوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين" (النحل 123)؛ الى تبعية لموسى: " ومن قبله كتاب موسى إماماً" (هود 17 ؛ الأحقاف 12)؛ الى تبعية للمسيح من حيث هو كلمة الله " قل يا أيها الناس انى رسول الله اليكم جميعاً ... فآمنوا بالله ورسوله، النبى الأمى، الذى يؤمن بالله وكلمته" (الاعراف 157 – 158)؛ الى الاستقلال فى التبعية على أمة وسط بين حنيفية ابراهيم وموسوية الكليم ومسيحية كلمة الله: " وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة 143). واستقر أخيراً على هذه "الأمة الوسط" ورأى فيها " خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران 110).
والتبعية والتطور ليستا من سمات الاعجاز لذلك " فإن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة".
عاشراً: إعجاز القرآن هو فى الهدى لا فى البيان
1 - فى تسلسل السور التاريخى يأتى التحدى للمشركين بالهدى لا بالبيان والنظم والاسلوب: "فلما جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى! - أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل؟ - قالوا: سحران تظاهرا! وقالوا: إنا بكل كافرون! -
قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين" (القصص 48 – 49). يتحداهم بهدى القرآن جواباً على كفرهم؛ وفى هذا التحدى بالهدى يتضامن مع الكتاب "إمامه" . ثم يتواتر التحدى بالاعجاز فى ثلاث سور متتالية، دون توضيح لنوعه؛ ولكن ورود التحدى بالاعجاز مطلقاً، بعد التحدى بالهدى، يعنى انه تحدٍّ بالاعجاز فى الهدى، على ضوء التحدى الصريح الذى به استفتح فترة التحدى بالاعجاز.
2 - ثم يأتى التحدى بالاعجاز على ضوء الاستفتاح. يستفتحه بقوله: "وننّزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة ... قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً" (الاسراء 82 و 84). ثم يقول: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" (الاسراء 88). إنه تحدّ مطلق، لا نعرف هل هو بالهدى أم بالبيان. فيردّونه رداً مطلقاً (الاسراء 90 – 94). فيجيبهم: " قل آمنوا به! أو لا تؤمنوا! إن الذين أوتوا العلم من قبله، اذا يُتلى عليهم ينحرّون للأذقان سجداً" (الاسراء 107). فتصاريح السورة قبل التحدى المباشر بالاعجاز (82 و 107) توضح انه تحدّ بالاعجاز فى الهدى لا بالبيان.
وفى السورة التالية تدل قرائن التحدى بالاعجاز على انه بالهدى لا بالبيان: "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله، ولكن تصديق الذى بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين! أم يقولون: افتراه! - قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" (يونس 37 – 38). فكل القرائن اللفظية والمعنوية: دفع الافتراء، تصديق الكتاب، تفصيله، ثم تحدّى افترائهم باعجازه وعجزهم عن سورة مثله، كلها توضح انه تحدّ بالهدى لا بالبيان. يؤيد ذلك أيضاً آية الشك فى التنزيل، وإحالة محمد الى اساتذته من أهل الكتاب ليرفع الشك من نفسه والتكذيب بما يوحى اليه (يونس 94 – 95) - ليس الافتراء على النظم والبيان بل على الهدى والحق؛ والتصديق والتفصيل يكون للهدى لا للبيان الكتابى؛ والشك والتكذيب فى التنزيل يكون فى الهدى لا فى البيان. فكل القرائن توحى انه تحد بالاعجاز فى الهدى، لا فى الاسلوب والنظم والبيان والتبيين.
وفى السورة التالية أيضاً تدل القرائن اللفظية والمعنوية أن المقصود بالتحدى هو الاعجاز فى الهدى: "فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك، وضائق به صدرك أن يقولوا:
لولا أُنزل عليه كنز أو جاءَ معه ملاك! - انما انت نذير، والله على كل شىء وكيل! أم يقولون: افتراه! - قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين؛ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله، وأن لا إله الاّ هو، فهل أنتم مسلمون؟ ... أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، أولئك يؤمنون به، ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده: فلاتك فى مرية منه، انه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 12 – 17). فكل القرائن: ترك بعض الوحى، تهمة الافتراء، توكيد التنزيل بعلم الله، توكيد التوحيد والاسلام، الاستشهاد بأهل الكتاب، الاستعلاء بإمامة كتاب موسى للقرآن، التحريض على ترك الشك، الاعلان انه الحق من ربك ... كلها توحى بان التحدى بالاعجاز انما هو تحدّ بالهدى لا بالبيان. يؤكد ذلك صريحاً إمامة الكتاب للقرآن، التى بها يرفع الشك من نفسه، وبها يستشهد على رد الافتراء. مع ذلك فالقرآن تابع لإمامه سواءُ فى الهدى أم فى البيان.
3 - وتتوارد التصريحات التى توحى بأن التحدى كان بالهدى لا بالبيان: على محمد ان "يقتدى بهدى" الكتاب وأهله (الأنعام 90)؛ وقد " درس" الكتاب ليبيّنه فى قرآنه للعرب (الانعام 105)؛ ويجادل المشركين بعلم الكتاب المنير " وهداه" (لقمان 20)؛ وهو مستمسك بالكتاب من قبله، به آمن وبه نعدل بينهم (الشورى 13 – 15)؛ لأن كتاب موسى " إمامَه" على الدوام، وليس عنده من جديد سوى اللسان العربى: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً" (الأحقاف 12)؛ وهو فى التنزيل والهدى والبيان " فى زبر الأولين" : " وانه لتنزيل رب العالمين ... بلسان عربى مبين، وانه لفى زبر الأولين" - كالتوراة والانجيل (الجلالان) - (الشعراء 192 – 195).
4 - وقول القرآن القاطع: " وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم" (الاحقاف 10) يدل صراحة انه فى قوله: " فليأتوا بحديث مثله، ان كانوا صادقين" (الطور 34) إنما يتحدى المشركين، لا أهل الكتاب القادرين "على مثله" وهذان النصّان يوحيان ان التحدى القرآنى بالاعجاز هو شكلاً وموضوعاً التحدى بالهدى لا بالبيان. وبما أن من أهل الكتاب مَن "شهد على مثله" فهذه شهادة، بنص القرآن القاطع، أولاً انه ليس فى القرآن من تحدٍّ بالاعجاز مطلق؛ وثانياً أن الاتيان "بمثل" القرآن وارد. وعلى هذا الواقع انتهى العهد بمكة.
5 - أخيراً جاءَ التحدى الأخير بإعجاز القرآن فى مطلع العهد بالمدينة: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم، والذين من قبلكم، لعلكم تتقون . . . وان كنتم فى ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله، إن كنتم صادقين" (البقرة 21 – 23). فالتحدى بسورة من مثله انما هو تحدّ بالتوحيد الذى يدعو اليه "يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم"، لا بالاسلوب والنظم، ولا بالبيان والتبيين. والتحدى انما هون "للناس" المشركين، لا لأهل الكتاب. فلمّا افترق عنهم بتأسيس "أمة وسط" بين الحنيفية والموسوية والمسيحية (البقرة 143)، أخذوا يطلعون الناس على عوراته من المنسوخ والمتشابه فيه. فنسخ القرآن للحال التحدى بإعجازه فى الأحكام بمبدأ النسخ فيها وواقعه: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بأحسن منها أو مثلها" (البقرة 106)؛ ونسخ التحدّى بإعجازه فى التعليم والأخبار والأوصاف، بمبدأ المتشابه فيها وواقعه: " منه آيات محكمات ... وأخر متشابهات ... وما يعلم تأويله الاّ الله" (آل عمران 7). فاختفى التحدى بإعجاز القرآن منذ مطلع العهد فى المدينة، لمّا اصطدم بأهل الكتاب من اليهود. |