بحث خامس التحدى بالإعجاز فى البيان قلب للموازين فى الدينرأينا ان تفسير التحدى بالقرآن كتحدّ بإعجازه البيانى بدعة لا يقول بها القرآن. ونقول الآن: انها شرْك عند عباد الحرف ، الذين يرون معجزة الله فى الحرف لا فى المعنى والهدى؛ لأنها تقلب المفاهيم والموازين فى الدين. إن التنزيل كتاب من الله يهدى الى دين الله، لا الى الأدب والبيان. وبيانه ليس للبيان، بل للهدى. هذا ما يصرح به بتواتر: " قد جاءَكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذن ربهم، ويهديهم الى صراط مستقيم" (المائدة 15 – 16). إنه كتاب مبين للهداية، لا للبيان. ويقول: " فقد جاءَكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" (الانعام 157). فإن بيّنة القرآن فى هداه. ويقول: " كتاب أنزل اليك فلا يكن فى صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين" (الاعراف 2). فهو للانذار والذكرى، لا للبيان واللغة. ويصرّح: " هذا بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين" (آل عمران 138). فبيان القرآن للهدى والموعظة، لا للبيان لاجل الاعجاز فى البيان. ويصرح: " آلر. كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور، بإذن ربهم الى صراط العزيز الحميد" (ابراهيم 1). فلم ينزل للبيان اعجازه، بل للهداية الى صراط الله. ويعلن: " قل: نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 102). فليس غايته البيان، انما الهدى والبشرى والثبات. ويعلن ان غاية بيانه ليست البيان بل الهدى فى روعة بيانه: " الله نزّل احسن الحديث كتابا متشابهاً مثانى، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء" (الزمر 23). إن الناس تلين جلودهم وقلوبهم بذكر الله، وهدى الله، لا بالبيان والاعجاز فى البيان. تصريح كهذا يكفى لردع عبّاد الحرف عن اعتبار اعجاز القرآن معجزة للتحدى والهداية! وهذا تصريح آخر مثله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" ! (الحشر 21). انها أروع صورة لاعجاز القرآن وسحر بيانه. لكن الجبل، والانسان المؤمن كالجبل، لا يخشع ولا يتصدع لبيان القرآن، بل " من خشية الله" ! وهذا تصريح غيرهما مثلهما: " الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيّمًا، لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين" (الكهف 1 – 2). إن بيان القرآن القيم بلا عوج هو للإنذار والتبشير، لا للبيان والاعجاز فى البيان. يقول: " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين، وتنذر به قوماً لداً" (مريم 97). ان تيسير القرآن باللسان العربى، ليس للبيان العربى، بل للهداية بالتبشير والانذار. فاللسان العربى والبيان العربى فى القرآن، للذكرى لا للبيان: " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" (الدخان 58). وهو يكرر مراراً: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" ! (القمر 17) فالاعلان المتواتر فيه: " إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين" (الاسراء 9)، لا إلى البيان، والاعجاز فى البيان، كقوله أيضاً: " هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" (الجاثية 20). نقف عند هذا الحد. فالشواهد لا تنتهى. إن غاية القرآن الهدى، لا البيان. وقلب الواسطة الى غاية انما هو قلب للمفاهيم والموازين فى الدين. فمعجزة القرآن فى النهاية نظم وبيان. فإذا بنا فى النهاية أمام لغة وبيان، لا أمام وحى ودين! واذا معجزة القرآن اعجاز بيانى، اى فى النهاية شكل ، لا جوهر! واذا الشكل ، فى القرآن، أهم شىء وكل شىء! أيصح ان يكون الشكل معجزة الجوهر؟ لذلك لا يصح ان يكون اعجاز القرآن معجزة القرآن، على خلاف صريح القرآن. |