بحث ثانالمعجزات فى الحديث و السيرةلقد ثبت لنا بالبحث السابق فى الواقع القرآنى و بشهادة أئمة العلماء فى عصرنا أنه لا معجزة فىالقرآن ، مع أنه قد رافقه ، طول الرسالة و الدعوة ، تحدى العرب له بمعجزة كالأنبياء الأولين ، فما نزلت و لا وقعت . و هذا الموقف القرآنى السلبى من كل معجزة يستند ، بتصريح القرآن نفسه ، إلى مبدا إلهى مقرر : لقد شهد القرآن نفسه بعجز محمد عن كل معجزة عجزا مطلقا ( الانعام 35 ) . أولا : موقف الأقدمين تجاه هذا الواقع القرآنى المشهود ، من الغريب حقا أن ينسب أهل الحديث و السيرة و المغازى و الشمائل ، حتى أهل علم الكلام ، هذا السيل العرم من المعجزات الى محمد ، فينقضون بذلك صريح القرآن . و من المؤلم حقا أن ينجرف حجة الاسلام ، الغزالى نفسه ، فى تيار الحديث و السيرة فيأخذ بما فيهما من المعجزات على حقيقته التاريخية ، بعد الواقع القرآنى المشهود . و ننقل هنا فصلا من ( إحياء علوم الدين ) ، القسم الثانى : " ربع العادات " ص 341 . بيان معجزاته و آياته الدالة على صدقه : و قد ظهر من آياته و معجزاته ما لا يستريب فيه محصل . فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار و اشتملت عليه الكتب الصحيحة ، إشارة الى مجامعها ، من غير تطويل بحكاية التفصيل . فقد خرق الله العادة على يده غير مرة .
إلى غير ذلك من آياته و معجزاته صلعم . و انما اقتصرنا على المستفيض . و من يستريب من انخراق العادة على يده ، و يزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواترا ، بل المتواتر هو القرآن فقط ... و لكن مجموع الوقائع يورث علما ضروريا " . هذا ما نقله الغزالى فى ( الاحياء ) بصفته زعيم المتكلمين . و قد أحسن اذ " اقتصر على المستفيض " . لكنه أورد مبدأ التواتر الذى لا يصح حديث بدونه . فكيف فاته أن لا يعمل به ، و هو يعلم " أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواترا " ، و يعلم أيضا أن مجموع الوقائع من الآحاد لا يورث علما ضروريا . و فاته استطلاع الواقع القرآنى المشهود ففيه القول الفصل . و ما أشار اليه من القرآن سنفرز له بحثا خاصا . ثانيا : موقف المعاصرين الصادقين و أتى عصر العلم و النقد . و أخذ العلماء يجهرون بالحقيقة .
1 حياة محمد ، ص 44 – 55 . بهم درجة لا تطاق . و من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح ... " . 1 – و قال : " ان الكثيرين حين يحاولون دراسة شخصية الرسول ، يعمدون الى كتب السيرة ليأخذوا جزافا بكل ما ورد فيها . و هذه الكتب على كثرتها لا يجوز أن تكون مرجعا أصيلا فى هذا الصدد ، لأنها كتبت فى عصور لم يكن النقد مباحا تماما فيها . و معظمها كان يدون لغاية تعبدية . و الخلافات الكثيرة فى رواياتها يحتم على الباحث أن يقف منها موقف الحذر و الحيطة . " و قد استوعبت كتب السيرة سيلا من أنباء الخوارق و المعجزات ، التى تزيد و تنقص تبعا لاختلاف الأزمان التى دزنت فيها . فبينما نجد سيرة ابن هشام لا تعنى كثيرا بأنباء الخوارق و المعجزات ، نجد أن سيرة ابن أبى الفداء ، و ( الشفاء ) للقاضى عياض ، و غيرهما ، قد عنيت العناية الكبرى بها . و كتب السيرة مزدحمة بالرواة القصاصين الذين عرفوا بالصناعة القصصية فى ما يروون . و هؤلاء لا يتحرون الدقة فى سند الرواية أو متنها ، لأنهم يعنيهم – فحسب – صياغة الاسلوب و عنصر التشويق " . 2 – ثم قال : " و إذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقدة تجعل الباحث فى حيرة لا تنتهى و لا تقف عند حد ... و ظهر وضع آلاف الأحاديث و نسبتها الى النبى لتكون مؤيدا لحزب سياسى ، أو ناقضا لحزب آخر . و انتهز اليهود و الزنادقة فرصة هذه الخلافات التى تدثرت بالدماء فى معظم الأحايين ، و راحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الاسلام ، و يشغلوا العامة عن أصوله لتنصرف الى شكلياته . كما تطوع كثير من السذج و البسطاء فوضعوا أحاديث فى الترغيب و الترهيب ، ظنا منهم أن فى هذا خدمة للدين ، و لو عقلوا لأدركوا أنهم إنما أساؤوا إلى الدين أكبر إساءة ... " . ( مع هذه الاسباب الثلاثة لاختلاف الاحاديث ) لم يبدا التدوين إلا فى عهد المأمون . و ذلك بعد أن اختلط النقى بالدخيل ، و أصبح الحديث الصحيح فى الحديث الكذب كالشعرة البيضاء فى جلد الثور الأسود ، كما يقول الدراقطنى أحد جامعى الحديث المعروفين ... و حسبك أن تعلم أن البخارى ، و هو شيخهم ، قد وجد ان الاحاديث المتداولة تزيد على ستماية ألف حديث ، و لكنه لم يعتمد منها فى صحيحه إلا قرابة أربعة آلاف . و لدينا نموذج حى بهذا الخلط فى الأحاديث النبوية ، و هو كتاب ( احياء علوم الدين ) للإمام الغزالى ، من علماء الثلث الأخير من القرن الخامس ، هذا الكتاب الضخم جمع بين دفتيه ألوف الأحاديث المنسوبة الى رسول الله . و جاء الحافظ العراقى ، فى أواخر القرن الثامن ، ليخرج أحاديث ( الاحياء ) و ليجد من بين كل عشرة أحاديث واحدا تقريبا يمكن الاعتماد عليه . 3 – ثم قال : " و بعض تفاسير القرآن نفسها محشو بآلاف الأحاديث المنسوبة الى الرسول ، دون أن يكلف أصحاب التفاسير أنفسهم مشقة توضيح درجتها من الصحة و الضعف . " ... الذين يتشدقون بأحاديث دخيلة ، و يصرون على نسبتها الى رسول الله ، و لو قبلناها ، لكان معنى هذا أن محمدا نطق بما يفسد ذوق الحياة ، و يتنكر لسنتها ، و يهدم بمعول هذه الشريعة التى قامت أصولها على المنطق القوى السليم . " ... و هؤلاء الحمقى يرضى عقولهم مثلا أن يكون محمد ولد مختونا مكحولا مطهرا . و أن أبواب الجنة فتحت و أبواب الجحيم أغلقت ساعة ميلاده . و أن ايوان كسرى تصدع ، و نيران فارس أخمدت ، و بحيرة طبرية غارت . و يرضيهم أن يكون الجذع فى المسجد قد حن اليه ، و أن الحصى سبح بين يديه . و أن غار ثور الذى لجأ إليه يوم هجرته قد خيم العنكبوت على بابه و باض الحمام ... دون ما نظر الى أن مثل هذه القضية ، إنما تحتاج إلى أخبار معتمدة . و ليس هناك آية قرآنية صريحة فى القضية ، و لا حديث واحد متواتر ... " و ما دام هؤلاء يحرصون على أن يكون لمحمد امتياز فى كل شىء ، فلابد أن يكون له امتياز فى الجماع . و لذا كان من خصوصياته الزواج بأكثر من أربع نسوة ، دون سائر المسلمين ، حتى لقد مات عن تسع ، سأترك للقاضى عياض فى كتابه ( الشفاء ) يقول : و قد روينا عن أنس أنه – صلوات الله عليه – كان يدور على نسائه فى الساعة من الليل و النهار ، وهن إحدى عشرة ! قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين رجلا . خرجه النسائى . و روى نحوه عن أبى رافع و عن طاووس : له عليه السلام قوة أربعين رجلا . و فى حديث أنس أنه عليه السلام قال : فضلت على الناس بأربع : السخاء و الشجاعة و كثرة الجماع و قوة البطش . " حتى اذا أراد أن يتبول أو يتغوط ، فلا يمكن فى نظرهم أن يكون كالبشر ، بل لابد له من امتياز ، و إلا فما معنى كونه سيد ولد آدم و لا فخر ! فالقاضى عياض تارة يقول : إن الرسول كان اذا أراد قضاء حاجته فى الخلاء تجمعت الحجارة و الأشجار لتستره ! و تارة يقول : إنه اذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه و بوله ، و فاحت لذلك رائحة طيبة – لأن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء ، فلا يرى منه شىء . ثم يواصل القاضى عياض هذا الهوس فيقول : إن قوما من أهل العلم قالوا بطهارة هذين الحديثن منه صلعم . و يدعى القاضى أن أم أيمن – و كانت تخدم رسول الله – شربت من بوله ، فقال لها : لن تشتكى وجع بطنك أبدا ... " و ختم بقوله 1 : " و لسائل أن يتساءل : ألم تحدث للرسول معجزات ؟ " و نحن نقول له : إن كتب الأحاديث ، و كتب السيرة ، قد استوعبت آلاف المعجزات . و منها ما بلغ الى درجة التطرف الذى يفرض علينا الضحك . و حسبك أن تقرأ ( دلائل النبوة ) للبيهقى ، و أبى نعيم ، و ( الشفاء ) للقاضى عياض ، و شرح الزرقانى على ( المواهب ) . و الأحاديث المعتمدة معدودة على الأصابع . و كلها أحادية لا تقطع بخبر . و منها : نبع الماء ، و تكثير الطعام ... " و الأحاديث التى وردت فيها أخبار الرسول عن الغيب تتعارض مع صريح القرآن الذى يؤكد أن الغيب لا يعلمه إلا الله وحده . و من هذه الأحاديث ، الأخبار عن عمار بأن ستقتله الفئة الباغية ، و أن الحسن يصلح الله به بين فئتين ... " فلا يمكن أن نقر بحال من الأحوال هذا السيل من المعجزات التى نسبت إليه ، و التى لو وزعت علىالثلاثة و العشرين عاما التى قضاها فى النبوة ، لأصبح واضحا أن هذه المدة إنما ضاعت فى حدوث الخوارق المتواصلة ، دون أن يفرغ لنضال فى مكة ، أو قتال و تشريع فى المدينة . " و الذى يقرأ للقاضى عياض فى كتابه ( الشفاء ) ، يصاب بدوار ، فهو ينسب الى الرسول معجزات متنوعة ، محاولا أن يجعلها شاملة لكل معجزات الرسل قبله . حتى إحياء 1 عبد الله السمان : محمد ، الرسول البشر ، ص 86 – 88 و 113 . الموتى ينسبه الى الرسول 1 ، و يذكر دون خجل ... حتى حين يفكر رسول الله فى قضاء حاجته بالخلاء ، تنتقل الأشجار و تتكدس الحجارة ، و ذلك لتواريه عن الأعين ! و حين يسير ، ما من شجرة و لا حجر إلا يقول : السلام عليك يا رسول الله ! و حين يدعو العباس و أهل بيته ، تقول الأبواب و الحوائط : آمين . و هو يرى من خلفه كما يرى من أمامه ، و فى الظلام كما فى النور ... فينسب الى الرسول معجزات كان خيرا لو انه لم ينسبها اليه ... بدل أن يعرض شخصية محمد للسخرية . " إن القرآن ذكر بعض الآيات لبعض الرسل دون البعض الآخر ، فكان أجدر له أن يذكر بعض معجزات لمحمد الذى أنزل عليه . و لكن الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق . و أيدها بكتاب الله ليعيش معها إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، كآية خالدة معجزة . و قد شق محمد لدعوته طريقه إلى القلوب والعقول، غير مؤيد بالخوارق ، التي لم تصلح قبله وسيلة لإقناع، لأن معه نهجا واضحا من كتاب الله ، ليس فيه تعقيد و لا التواء . و من شاء بعد ذلك فليؤمن و من شاء فليكفر " . و هكذا فالاستاذ السمان ينقض كل معجزات الحديث و السيرة و الشمائل و المغازى . و ينقض معها كل ما يتوهمونه من معجزات فى بعض آيات القرآن . فالواقع التاريخى و القرآنى أن محمدا " غير مؤيد بالخوارق " فى نبوته و رسالته . لكننا نأخذ عليه قوله ، فى تبرير منع المعجزات عن محمد ، " ان الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق " . و رسالة " عقلية منطقية " تنزل الوحى منزلة العقل ، ليس العقل البشرى بحاجة إليها ، و هو بغنى عنها . و هل كونها " عقلية منطقية " دليل على أنها من الله ؟ حينئذ كل تأليف بشرى دينى ، " عقلى منطقى " هو من الله ! فلابد من برهان إلهى قرين النبوة يدل عليها حتى يصح اعتبارها من الله . لقد نسى قول الإمام الجوينى 2 ، استاذ الغزالى : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن " . 1 و قد انحدر الى مستواه سيد علم الكلام الغزالى . و نأخذ عليه أيضا قوله : ان الله لم يؤيد محمدا بالخوارق لأنها " لم تصلح من قبله وسيلة للإقناع " . و الانجيل و النوراة شاهدا عدل على فساد هذه النظرية و على عدم مطابقتها لواقع النبوة : فقد قامت رسالة موسى و رسالة المسيح على المعجزة ، و بسبب المعجزة آمن بهما الناس على زمانهما و من بعدهما . هذا من حيث الايجاب . و من حيث السلب ، فالواقع القرآنى المكى شاهد عدل على أن أهل مكة تحدوا النبى طول العهد بمكة بالاتيان بمعجزة ليؤمنوا به : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، " و أقسموا بالله جهد ايمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمن بها " ( الانعام 109 ) ، " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . ففى عرف القرآن و نصه القاطع ، ان المعجزة " سلطان الله المبين " الوحيد فى الشهادة لصحة رسالة أنبيائه و دعوتهم ( هود 96 ، المؤمنون 45 – 47 ، غافر 23 – 24 ) ، و أنها " سنة الأولين " فى النبوة و الدعوة ( الكهف 55 ، الأنبياء 5 ) . 3 – هذا ما وصل اليه أيضا الاستاذ دروزة ، فى فصل قيم موقف القرآن السلبى من كل معجزة . و ختم استشهاد القرآن بقوله : " ان حكمة الله افتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته – التى جاءت بأسلوب جديد : هو أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم اسلوب مخاطبة العقل و القلب ، فى الحث على الفضائل و التنفير من الرذائل ... و على اعتبار ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله و استحقاقه وحده للعبودية و اتصافه بجميع صفاتالكمال ، و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " ( سيرة الرسول 1 : 226 ) . فالاستاذ دروزة يشهد بشهادة القرآن عينها " ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام " . و نحن نكرر هذا الاعتراف الصريح الذى ينكر المعجزات مبدئيا وواقعيا فى الدعوة القرآنية و السيرة النبوية . لكننا نأخذ عليه تبرير موقف القرآن السلبى من كل معجزة ، و تبرير حكمة هذا الموقف السلبى ، بأن الدعوة القرآنية " جاءت بأسلوب جديد " فى الدعوة و النبوة ، يرده الى ثلاث ظواهر : 1 ) " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " كأن القرآن ابتدع هذا الاسلوب ، أو أعجز فيه أكثر من الكتاب و الحكمة و النبوة و الانجيل . أليس هذا الاسلوب هو أسلوب الأنبياء كأشعيا؟ أليس مزامير الزبور ، كتاب صلاة الاسرائيليين و المسيحيين ، على هذا الاسلوب ؟ أليس الذى أعجز فيه سفر الحكمة ، للرد على الفلسفة الاغريقية ؟ يكفيه أن يقرأ الانجيل بحسب متى ليرى أن المعلم المعجز فى هذا الاسلوب هو السيد المسيح . و فات الاستاذ أن هذا هو اسلوب الفلاسفة الموحدين ، و أسلوب جميع المتكلمين و الخطباء فى التوحيد : فهل هذا الأسلوب دليل النبوة عندهم ؟ 2 ) " ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب " فى الترغيب و الترهيب . نجيب على الاستاذ دروزة بشهادة زميله الاستاذ عبد الله السمان 1 : " و أسلوب الدعوات الى الله يستوى فيه جميع الأنبياء و الرسل ، لأنهم جميعا تربط بينهم مهمة واحدة و هدف واحد ، و يشقون طريقهم الى قلوب الناس بأسلوب واحد ، هو تبشير المستجيبين منهم بسعادة الدنيا و نعيم الآخرة ، و إنذار المتمردين منهم بشقائهما . و محمد صلوات الله عليه واحد من الرسل ، و قد التزم هذا الاسلوب فى دعوته منذ بدايتها الى آخر لحظة من حياته : " ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ، ان ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم " ( فصت 43 ) . 3 ) ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله ... و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " . هل يجهل الاستاذ دروزة أن جميع مؤلفات الموحدين و المصلحين ، من مؤمنين بالنبوة و كافرين ، تدعو الى التوحيد و الفضيلة ، فهل صاروا بها كلهم أنبياء ؟ و مؤلفات نوابغ الفكر الاسلامى و الفكر المسيحى كلها مما قرر : فهل كلها نبوءات ؟ و ما الذى يميزها عن دعوات النبوءات سوى المعجزات ؟ و ما الذى يميزها عن القرآن نفسه سوى اعجازه فى النظم و البيان ؟ أجل لقد فات السيد دروزة قول الإمام الجوينى الذى نقلناه فى مطلع كتابنا : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن " . وجدلية الاستاذ دروزة كغيره منذ ابن خلدون هى المغالطة عينها : ليس المطلوب صحة قول النبى فى ذاته ، بل صدقه ان كلامه هو كلام الله ، 1 محمد ، الرسول البشر ، ص 52 . لأن حقيقة كلام الإنسان مهما سمت لا يمكن أن تتمتع بعصمة كلام الله ، و حكمها و حكمتها بحكم و حكمة كلام الله . و الحقيقة المطلقة فى الكلام المخلوق لا تجعله فى ذاته كلام الخالق ، فلابد من بينة خارجة عن الكلام ذاته تدل على أنه كلام الله و أن النبى صادق فى نقله عن ربه ، و هذه هى المعجزة النى يشهد بها الله لنبيه . و لنا عودة الى هذا الموضوع كله . ث الثا : موقف بعض المعاصرين الرجعيين يقول عبد الرازاق نوفل 1 : " و معجزاته القولية و الفعلية أكثر من معجزات جميع الأنبياء من آدم الى سيدنا المسيح مجتمعة " . و لا عجب فى ذلك فقد سبقه حجة الاسلام ، الغزالى ، كما نقلناه عنه . فما ينسبونه إلى محمد من معجزة فى القرآن و الحديث ، " من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " ، " و ليست هناك معجزة يؤكدها خبر قطعى ، مما نسب الى رسول الله " – كما نقلنا عن الاستاذ عبد الله السمان . و قد نقلنا حملته الصادقة على أهل الحديث ، و على أهل السيرة ، و على أهل التفسير ، الذين يضللون المسلمين ، و يثيرون سخرية المثقفين . و كم هو منطقى وواقعى قول إمام الأزهر ، الشيخ المراغى 2 : " و من الحق ان المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبى حدا دعا الدعاة فيهم الى اختلاف الآلاف المؤلفة من الأحاديث و الروايات ، حتى قال على : ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا ما فى القرآن ، و ما فى هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله فيها فرائض الصدقة ... أما مضرة الروايات التى لا يقرها العقل و العلم فقد أصبحت واضحة ملموسة ... و لقد كان صلعم حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى اليه ، حتى كان لا يرضى أن تنسب اليه معجزة غير القرآن ، و يصارح أصحابه بذلك ... فالقرآن وحده معجزة محمد " . سنرى فى القسم الثانى هل يعتبر القرآن اعجازه معجزة له ، بل هل يصح اعتماد اعجاز القرآن معجزة له . 1 محمد رسولا نبيا ، ص 153 . و سنرى فى هذا الفصل رأى أدعياء العلم و التفسير الذين يرون معجزات و غيبيات فى " كونيات " القرآن و مطابقتها لاختراعات العلم العصرى . يكفيهم ردا قول الاستاذ عبد الله السمان ، الذى نقلناه . و هكذا ثبت لدينا ، موقف القرآن السلبى من كل معجزة تنسب إلى محمد ، و من شهادة أهل العلم الصادقين ، أنه ليس فى الحديث و السيرة من معجزة . |