بحث أوّل الشمول في التصحيح والتتميم يقول العقاد(1) في كتابه للمؤتمر الاسلامي : "ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات ، أو مذاهب الفلسفة ، ومباحث الربوبية ... والواقع أن النبوة الاسلامية جاءت مصحِّحة متمِّمة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوة ، كما كانت عقيدة الاسلام الالهية مصحّحة متمّمة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله" . وفات الاستاذ المعلم أن الواقع القرآني ينقض قوله في هذين التصحيح والتتميم . إن القرآن صريح بأن الكتاب "إمامه" : "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسَانا عربيا " (الاحقاف 12 . كذلك هود 17) . فميزة القرآن ، بنصه القاطع ، أنه تصديق الكتاب ؛ وفي هذا التصديق ليس عنده من جديد سوى اللسان العربي . فليس ما ــــــــــــــــــــــــ (1) حقائق الاسلام وأباطيل خصومه ص 55 ثم 61 عنده تصحيح ولا تتميم . والقرآن يستعلي على المشركين بالكتاب المنير ، الانجيل : "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير " . وهو يردّ ذلك في مكة (لقمان 20) وفي المدينة (الحج 8) . فمحمد يجادل في دعوته بهدى وعلم الكتاب المنير . فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم . فالتوراة والانجيل هما دين موسى ودين عيسى اللذين شرعهما للعرب دينا واحد ، "لا نفرّق بين أحد من رسله ، ونحن له مسلمون" (البقرة 285 قابل البقرة 136 ؛ آل عمران 84 ؛ النساء 150) . يقول " شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (الشورى 13) . فإقامة توراة موسى وانجيل عيسى معا هي الاسلام في القرآن ، وهي الدين الذي شرعه الله للعرب . فليس من جديد في القرآن ، بل " هذا ذكر من معي وذكر مَن قبلي " (الأنبياء 24) . فليست الدعوة القرآنية مصحّحة متممة لدين التوراة والانجيل ، بل تبليغ له الى العرب . إنّ "الكتاب والحكمة" في اصطلاح القرآن كناية عن التوراة والانجيل (63:43 ؛ 48:3 ؛ 54:4 و 113؛ 110:5) : "لقد مَنَّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) ؛ "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ، ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) ؛ "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2) . لاحظ دقة التعبير وتواتره : فهو أولا "يتلو عليهم آيات الله" في الكتاب الإمام وفي الكتاب المنير ؛ ثم يفصّلها لهم بسور القرآن ؛ وبذلك يعلمهم الكتاب والحكمة ، التوراة والانجيل . فليس القرآن العربي سوى تعليم الكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل . فليس فيه تصحيح ولا تتميم للتوراة والانجيل . والأمر لمحمد صريح بالاقتداء بأهل الكتاب والحكمة : "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة ... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِه " (الانعام 89 – 90) على محمد أن يقتدي بهدى أهل الكتاب والحكمة – لاحظ استعمال التعبير العبراني الأرامي بحرفه "الحُكم" أي الحكمة ، دليلا على التبعية في التعبير والتفكير – فلا يكون ما أتى به مصحّحا متمّما لكل ما تقدمه من عقائد بني الانسان في الإله . وأهل "الكتاب والحكمة" معا هم المسلمون الذين أُمر أن ينضمّ اليهم وأن يتلو قرآن الكتاب معهم ، على طريقتهم : " وأُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . فهو يتلو على العرب قرآن الكتاب مع المسلمين ، النصارى من بني اسرائيل ، الذين عندهم " مثل " القرآن العربي : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . فليست الدعوة القرآنية تصحيحا ولا تتميما لما سبقها . إنما الدعوة القرآنية هي الدعوة "النصرانية" باسمها ومضمونها . فهو يسمّي هؤلاء "المسلمين" من قبله أولي العلم المقسطين ، أو الراسخين في العلم (آل عمران 7 ، النساء 162) . ويصرّح : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام " (آل عمران 18 – 19) . وهذا الاسلام هو تنزيل الله على ابراهيم وموسى وعيسى ، "لا نفرّق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون : ومَن يبتغ غير الاسلام (هذا) دينا فلن يُقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران 84 – 85) . فإسلام النصارى "المسلمين" هو اسلام القرآن نفسه : فما جاءَت عقيدة الاسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله ؛ فهي اسما وعقيدة مِمّن يسميهم "أولي العلم قائما بالقسط" ، "الراسخين في العلم" ، الذين أمر بأن ينضمّ اليهم ، ويقتدي بهداهم . فأين الشمول بالتصحيح والتتميم في النبوة والعقيدة ؟ فالقرآن يصرح بأنه تفصيل الكتاب " (يونس 37) ، وليس فيه من جديد سوى التصديق لسانا عربيا : وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا " (الاحقاف 12) . هذه الصفات تقضي على مقولة الشمول ، والقول بالكمال ، فكل تحدّيه "قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . |