التالي

بحث ثان

أدوات حفظ القرآن قبل جمعه ليست مأمونة

في بيئة بدائية بدوية ، كبيئة النبي والقرآن ، كان الاعتماد في الحفظ أولا على الذاكرة ، ثم على بعض الأدوات البدائية التي لا تكاد تحفظ شيئا .

نحن في عصر الطباعة والكتب المكتوبة لا نقدّر حفظ الذاكرة من الحفظ حقَّ تقديره . فكل كتب الأقدمين ، منزلة وغير منزلة ، قد وصلت الينا أولا عن طرق الحفظ بالذاكرة . لكن الذاكرة قد استعانت بأدوات مادية للحفظ لم تتيسّر في الحجاز الجاهلي .

1 – ومهما كانت الذاكرة ، كذاكرة البدائيين ، في قوة الحفظ ؛ فإنها لم تكن مأمونة لنقل حرف القرآن كما نزل . والذاكرة ، حتى ذاكرة النبي ، لم تكن المثال الأعلى للحفظ والنقل . فالقرآن يؤكد لنا بأن النبي كان ينسى من الوحي (الأعلى 6) . ويجاهد في حفظ الوحي ، ويضرع الى ربه أن لا ينسى (الكهف 24) .

ويأتيه الجواب أنه لا بدَّ من أن ينسى ، وقد يُنسيه الله نفسه (البقرة 106) . وفي (أسباب النزول) على آية البقرة : "ما ننسخ من آية أو نُنسِها" (البقرة 106) ورد : " ربما نزل الوحي على النبي بالليل ، ونسيه بالنهار " ! (السيوطي) . ونقل الطبري : " إن نبيَّكم أُقرِئَ قرآنا ثم نسيه " (473:1 – 480) . وكان محمد يصلّي : "اللهمّ ذكّرني منه ما نسيت ، وعلمني منه ما جهلت" (1) . فإذا كان وسيط الوحي المصطفى قد ينسى الوحي ، ما بين ليلة وضحاها ، فكم بالأحرى المستمعون عَرَضاً واتفاقًا ، أو عن متابعة واستظهار !

وهناك ظاهرة ثانية تاريخية : كان حفظ القرآن موزّعًا على الصحابة ، وإن انفرد بحفظه بعض القراء . يقول محمد صبيح(2) : "ولا بدَّ لنا هنا من أن نسأل سؤالاً آخر : هل كان

ــــــــــــــــــــــــ

•  الأرجاني : فضائل القرآن

•  عن القرآن ص 87 – 88

الصحابة جميعا يحفظون القرآن كله ؟ ورد في (فجر الاسلام) للأستاذ أحمد أمين : " ولم يكن شائعا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن جميعه كما شاع بعد ؛ إنما كانوا يحفظون السورة ، أو جملة آيات ، ويتفهمون معانيها ؛ فإذا حذفوا ذلك ، انتقلوا إلى غيرها . فكان حفظ القرآن موزّعا على الصحابة " . قال أبو عبد الرحمان السلمي : "حدَّثنا الذين يقرأون القرآن ، كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، أنهم كانوا ، إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل" . وقال أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا – رواه أحمد في مسنده" . وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين ، ذلك أنه إنما كان يحفظ ، ولا ينتقل من آية الى آية حتى يفهم" .

فهذه الآثار والأخبار دلائل على الشبهة القائمة على صحة حفظ الحرف القرآني بواسطة الذاكرة ؛ وعلى تفرّق القرآن بين الصحابة والقراء ، في ذاكراتهم .

2 – والوسائل الأثرية لحفظ القرآن من الضياع كانت هي أيضا بدائية تعجز عن حفظه . فقد نقل البخاري حديث زيد أول من كُلّف بجمع القرآن ، قال : "فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمراني به من جمع القرآن ... فتتبّعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللِخَاف ، وصدور الرجال " (1) أي جريد النخل ، وصفائح الحجارة . وزاد السيوطي : "وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف . وفي رواية : والرقاع . وفي أخرى : وقطع الأديم . وفي أخرى : والأكتاف(2) . وفي أخرى والأضلاع . وفي أخرى : والأقتاب" . فتأمل القرآن المكي ، موزعا على الحجارة ، وأكتاف الجمال والشاه ، وعلى أخشاب البعران ، بين جماعة مضطهدة مُلاحقة ، تسهر على حفظ كيانها قبل قرآنها ، كم حفظت لنا تلك الوسائل البدائية من القرآن المكي ؟ وكم كان يتقضي من جمل لحمل القرآن المكتوب على تلك الوسائل البدائية . يقول محمد صبيح (3)

ــــــــــــــــــــــــ

•  السيوطي : الاتقان 59:1 ، والعُسُب جمع عسيب وهو جريد النخل ؛ كانوا يكشطون الخوص ، ويكتبون في الطرف العريض . واللِّخَاف – بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة ، آخره فاء – جمع مُخفة (بفتح اللام وسكون الخاء) وهي الحجارة الدقاق . وقال الخطابي : صفائح الحجارة .

•  عن السيوطي : "والرقاع جمع ، وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغد . والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة – كانوا اذا جفّ كتبوا عليه . والاقتاب جمع قتب ، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه" (الاتقان 60:1) .

•  عن القرآن ص 87 – 88

تعليقا على هذه الوسائل البدائية في حفظ القرآن : "كتابة القرآن المكي على هذه الأدوات الخشنة كان مصحفا يحتاج الى عشرين بعيرا لحمله . ولم نعلم من أنباء الهجرة أن قافلة من الأحجار فرّت قبل النبي أو مع النبي ، ومعها هذا الحمل الغريب" . وكانت هذه الوسائل الخشنة هي المستعملة في المدينة أيضا . وهل كان لهم في المدينة بين الغزوات والحروب المتواصلة حتى آخر يوم من حياة محمد ، من فراغ كاف لتدوين القرآن المكي فالمدني عليها ؟ تلك هي أدوات حفظ القرآن قبل جمعه .

3 – وهذه هي حال القرآن عند وفاة النبي .

يقول الأستاذ دروزة(1) : "إن هناك أقوالاً وروايات تفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جُمع في شئ ، وأن جمعه وترتيبه إنّما تمّا بعد وفاته . وان ما كان يدوّن منه في حياته كان يدوّن على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج . وان المدوّنات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة . وكانت على الأكثر متفرّقة عند المسلمين . وان المعوّل في القرآن كان على القراء وصدور الرجال " . وقد رأينا أن آفة الذاكرة النسيان ، كما يصف القرآن حال نبيه .

فليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه ، وسط حياة حافلة بالاضطهاد في مكة ، والقتال المتواصل في المدينة ، من ضمانة كافية ، ولا من طمأنينة وافية ، لحفظ الحرف القرآني ، أو حفظ القرآن نفسه ، كما نزل . والشهادة المتواترة انه "ذهب منه قرآن كثير" ، وأن عثمان "غيَّر المصاحف" . فأين هي ركائز المعجزة في حفظ القرآن سالمًا ؟

التالي