بحث ثالث من ظواهر تحدّي القرآن بالهدىظاهرة غريبة ، من ظواهر تحدي القرآن بالهدى ، هي تلك الأزمات الايمانية التي فصلناها في فصل سابق ، ونعود اليها هنا بإيجاز ، لنرى أين يكون الاعجاز في الهدى والعقيدة . أولا : التحدّي بالقرآن يلازمه ردْع النبي عن الشركإن تحدّي المشركين "بكتاب من عند الله هو أهدى منهما" أي من الكتاب والقرآن (القصص 49) يليه للحال ردْع النبي عن الانزلاق الى الشرك : "قل : ربي أعلم مَن جاءَ بالهدى ، ومن هو على ضلال مبين ، وما كنت ترجو أن يُلقى اليك الكتاب ، إلاّ رحمة من ربك : فلا تكونن ظهيرا للكافرين ! ولا يصدّنُّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت اليك ! وادعُ الى ربك ، ولا تكوننّ من المشركين ! ولا تدعُ مع الله الهًا آخر ، لا إله إلاّ هو ! كل شئ هالك ، إلا وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون" (القصص 85 – 88) . تلك صورة قاتمة من صور الأزمات النفسية الايمانية المتواصلة التي كانت تنتاب محمدا . وحاشا لله أن يحذّر عبده من الشرك على أنواعه ، لو لم يكن فيه شئ من تجربة الشرك ! فإعجاز الدعوة في الهدى تظهر آثاره أولا على نبيّه ، لأن هدى النبي من هدى نبوته ودعوته ، وهذا لا ينسجم مع الإعجاز في الهدى . ثانيا : التحدّي بالقرآن والركون شيئا قليلا الى المشركينفي سورة (الاسراء) يتحدى "الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ... ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" (88) ! ثم يعتزّ بإيمان "الذين أوتوا العلم من قبله ، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدًا" (107) . وإذا به في الوقت نفسه يُعاَتَب على فتنته عن الوحي القرآني التي كادوا يوقعونه فيها : "وإنْ كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره ، واذًا لاتّخذوك خليلا ! ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا " ! (73 – 74) . لقد كاد محمد يركن "شيئا قليلا" الى فتنتهم ، لو لم تتداركه رحمة الله بمثل "الذين أوتوا العلم من قبله" . فالفضل في إعجاز الهدى لهم . ولا مراء في ركون محمد "شيئا قليلا" الى المشركين ، لأنه حاشا للوحي أن يخبر بغير الحقيقة والواقع . فأين إعجاز النبي الذي يعصمه من الفتنة : إن التحدي بالقرآن (الاسراء 88) لا يستقيم مع إمكانية فتنة نبيه عنه ، لأن هدى الرسول من هدى نبوته . ثالثا : التحدّي بالقرآن وهداه ، والشك من تنزيله يصرّح القرآن بأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ثم يتحدى "بسورة مثله" (يونس 38) . فالتحدّي لا يطال أهل الكتاب ، لأن القرآن "تفصيل الكتاب" إنما هو للمشركين وحدَهم . مع ذلك ، فإنه بعد ذلك التصريح وذلك التحدي يعلن : "فإن كنت في شك ممّا أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءَك الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ! ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات الله ، فتكون من الخاسرين" (94 – 95) . إن الافتراض من الوحي لا يكون عبثا ، إنما هو برهان الواقع : فمحمد انتابته موجة شك من تنزيل القرآن عليه ، وهذا الشك لا يستقيم مع التحدي "بسورة مثله" ، بل يحدّه . ويظل الاعجاز في الهدى عند الذين يحيله الوحي اليهم ، لا عند الذي يحذّره من الشك في صحة التنزيل اليه . رابعا : التحدّي بالقرآن ومحنة المِرْية منهفي سورة (هود 12 – 17) ظاهرة غريبة ، يأتي التحدّي "بعشر سور مثله" بين الفتنة بترك "بعض ما يوحى اليك" وبين "مرية منه" . فهو يصرّح : "فلعلّك تارك بعض ما يُوحى اليك ، وضائق به صدرك ، أن يقولوا : لولا أُنزل عليه كنز ، أو جاءَ معه ملك ! – إنما أنت نذير ، والله على كل شئ وكيل" (12) . ثم يقول للحال : أم يقولون : افتراه ! – قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ..." (13) . ويختم بهذا التصريح المذهل : "أفمن كان على بيّنة من ربه – ويتلو شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة – أولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ! فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (17) . يُدعى محمد الى عدم الشك من حقيقة ما يُوحى اليه ، لأنه وإن كفر به "الأحزاب" أي "أكثر الناس" في مكة ، فهناك مَن يؤمنون به ، وهم على "بيّنة من ربهم لأن لديهم "كتاب موسى إمامًا ورحمة" ؛ وهو كقوله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الأحقاف 10) حيث الشاهد "النصراني" يصير جماعة النصارى من بني اسرائيل ؛ فهم الذين يشهدون للنبي ويرفعون "المرية" من نفسه : فالهدى هداهم ، والإعجاز إعجازهم . لكن ما هذا التردّد المتواصل بين الايمان والشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ! هل تردّد الرسول في هداه من "دلائل الاعجاز" في هدى رسالته ؟ خامسا : التحدّي بالقرآن وتحذير النبي من مخالطة المشركينسورة (الأنعام) – وهي متبعّضة من أزمنة مختلفة – تثبيت لمحمد في رسالته ودعوته ، وجدال عنها مع المشركين . لكن الظاهرة الغريبة المتواترة تظهر فيها ، حيث في آية واحدة يجتمع الاعلان بزعامة محمد للاسلام والتحذير له من الشرك : "قل : إني أُمرُتُ أن أكون أول مَن أسلم ، ولا تكونَنَّ من المشركين !" (14) . ويلي التحذير له من الشرك تحذير آخر من المشركين . يعلن : "قل : إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ! قل : لا أتّبع أهواءَكم ! قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين ! قل : إني على بيّنةٍ من ربي وكذّبتم به" (56 – 57) . هنا يصرّح أيضا عن نفسه بأنه " من المهتدين " ، لا من الهادين ! فهذه الأوامر المتلاحقة "قل" تأتيه إذا من الذين يهدونه ويشهدون معه وله" (هود 17) . لكن للحال يأتيه التحذير من القعود مع المشركين لئلا يسقط في التجربة : "واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإمّا ينسينّك الشيطان ، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (68) . لقد نُصب لدعوتهم بالقرآن ، وها هو يُؤمر بعدم القعود مع الباحثين فيه : فما هذا ؟ وقعوده مع "الظالمين" منسوب الى عمل من الشيطان : فما هذا السلطان الشيطاني على النبي المعصوم ؟ وهل يُخشى عليه من القعود مع المشركين ؟ وهل يُخشى على الوحي القرآني من خوض "الظالمين" فيه ؟ أأمر بدعوتهم ، وأمر بعدم مخالطتهم ؟ سادسا : التحدّي بهدى القرآن ، وتحذير النبي من الضلالفي سورة (الانعام) نفسها مواقف أخرى متعارضة . فمن جهة يقابل بين المؤمنين بدعوته وبين الكافرين بها من أهل الكتاب : فالنصارى من بني اسرائيل "الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة" أي التوراة والانجيل والنبوة كلها ، "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ" لأنهم الوكلاء على هدى الله ، "وان يكفر بها هؤلاء" أي أهل مكة ، واذ قال اليهود : " ما أنزل الله على بشر من شئ" (89 – 90) . ومن جهة أخرى يحذّره من الضلال بحق القرآن ، وهو "الكتاب مفصّلا" : "أفغير الله أبتغي حكما ، وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصّلا – والذين آتيناهم الكتاب (النصارى) يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، فلا تكوننّ من الممترين – وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلاً، لا مبدّل لكلماته ، وهو السميع العليم . وإنْ تُطعْ أكثر من في الأرض (المشركين واليهود في الحجاز) يضلّوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلاّ الظن ، وإنْ هم إلاّ يخرصون" (114 – 116) . فكأن محمدا يتردّد بين الفريقين ، فيؤكد له الذين أُمر بالاقتداء بهداهم (90) وهم أهل الكتاب المؤمنون به وبدعوة محمد أن القرآن هو "الكتاب مفصلاً" وقد "تمت كلمات ربك صدقا وعدلا ، لا مبدّل لكلماته" ؛ وهم يعلمون أن الكتاب الأول هو المنزّل ، وأن القرآن هو "الكتاب مفصلا" . فهذا الكتاب المفصَّل يستمد تنزيله وهداه من الكتاب الأول . بهذا يشهد ثقاته . فإن أطاع محمد اليهود والمشركين أضلّوه عن سبيل الله . فهل يستقيم هذا الامكان بإضلال محمد ، وهذا التحذير المتواتر من الشك في القرآن نفسه ، مع الاعجاز في الهدى عند الرسول ؟ سابعا : التحدّي بهدى القرآن ، والأمر المتواصل للإخلاص في الدينسورة (الزمر) حملة متواصلة لحمل محمد على الاخلاص في الدين : "إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق ، فاعبدِ الله مخلصا له الدين (2) ... قل : إني أُمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين . قل : إني أخاف ، إنْ عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : الله أعبد مخلصا له ديني (11 – 14) ... ولقد أُوحي اليك والى الذين من قبلك : لئن أشركت ليحبطنّ عملك ، ولتكوننَّ من الخاسرين" (65) . فهذا التهديد المتواصل لمحمد حتى التخويف من عذاب يوم عظيم ؛ وهذا الأمر المتواصل له بالاخلاص في الدين ؛ وهذا الاغراء بجعله "أول المسلمين" ؛ هل هي من "دلائل الاعجاز" في الهدى عنده ؟ ثامنا : التحدّي بالقرآن وهداه ، والأمر المتواتر بالاستقامة على الهدىيتحدى بالقرآن ، بحديث مثله ، بعشر سور مثله ، بسورة مثله ؛ ويتحدى بهداه . ثم يأتيه الأمر بالاستقامة على الهدى الذي اهتدى اليه . فهو يعلن : "شرع لكم من الدين ... وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" (الشورى 13) . فالهدى القرآني هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب دينا واحدا – لأن ما وصى به نوحا وابراهيم تجدّد بموسى . هذا هو الكتاب كله الذي آمن به محمد : "وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب" (15) . وهذا هو العدل بين المؤمنين : "وأمرتُ لأعدل بينكم" (15) . بعد هذا الإيمان ، وهذا الجزم بالدين الذي يشرعه ، يأتيه الأمر المكرَّر : "فلذلك فادع واستقم كما أُمرت ، ولا تتبع أهواءَهم" (15) . فهل يُخشى على محمد من الميل عن الاستقامة في دعوته ، حتى يأتيه الأمر المكرّر بالاستقامة على الهدى ؟ والتحذير المكرّر من أتباع أهواء المشركين ؟ وهل هذا كله من "دلائل الاعجاز" في هديه وهداه ؟ تاسعا : التحدّي بالقرآن والنهي عن أتباع أهواء المشركينفي مكة يتواتر التحدي بالقرآن ، ويتواتر أيضا التحذير نفسه لمحمد من الشرك والمشركين ، مع بيان الصراط المستقيم في الهدى والدين، على طريقة الذين يؤمنون بالكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل دينا واحدا – وهم النصارى من بني اسرائيل . يقول : "ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ... وآتيناهم بيّنات من الأمر ... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" أي المشركين (الجاثية 16 – 18) . لقد جُعل محمد على طريقة "من الأمر" في الدين الذي يقيمه النصارى "من بني اسرائيل" الذين "يعلمون" ، "أولي العلم قائما بالقسط" ، فما عليه إلاّ أن يستقيم على هذه "الشريعة من الأمر" ولا يتبع أهواء المشركين . فليس التحذير المتواتر له طوال العهد بمكة من المشركين ، من "دلائل الاعجاز" في الهدى والدين . عاشرا : التحدّي بالقرآن والاستعاذة قبل قراءَته من الشيطانآخر تحدٍّ بالقرآن وهداه اعلانه : "أم يقولون : تقوّله ! – بل لا يؤمنون ! فليأتوا بحديث مثله ، إن كانوا صادقين" (الطور 33) . هنا صار التنزيل "حديثا" . فهو يتحدى بالقرآن جملة . لكنه في الوقت نفسه يُؤمر بالاستعاذة من الشيطان ، عند قراءَة القرآن ، لئلا يُلقي فيه ، عند تبديل آية بآية : "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ... واذا بدّلنا آية مكان آية – والله أعلم بما ينزِّل – قالوا : إنما أنت مفترٍ ! بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل 98 – 101) . ظاهرة سببت رِدّة بعض المسلمين لمّا عرفوها ، وهي تبديل آية بآية في القرآن . ومحمد نفسه لا يعلم سرّ ذلك ، "والله أعلم بما ينزّل" . لكن هل هذه الظاهرة الغريبة المريبة التي جعلت بعضهم يقول للنبي : "إنما أنت مفتر" ، هي من الإعجاز في التنزيل والبيان والهدى ؟ والشبهة الأخرى أغرب وأنكى ، وهي الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن : إن كلام الله هو استعاذة بحدّ ذاته ، فما معنى هذه الاستعاذة ؟ وهل من خطر على الوحي ان يُلقي الشيطان فيه عند تنزيله ؟ وهل في "تبديل آية بآية" من صلة بهذه الاستعاذة . إن التبديل في التنزيل ليس من "دلائل الاعجاز" في الهدى والبيان والتنزيل . حادي عشر : التحدي بالقرآن وهداه ، والإثبات والمحو في مبناهينهي العهد بمكة على صورة المحو والاثبات في تنزيل القرآن : "لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب" (الرعد 38 – 39) . "أم الكتاب" أصلُه عند الله . وهذا الأصل لا شك واحد . فكيف يُنزل الله منه ثم يمحو ما أنزل؟ لذلك احتج الناس على هذه الظاهرة الغريبة المريبة ، "ويقول الذين كفروا : لست مرسلاً ! – قل : كفى بالله شهيدا ، ومَن عنده عِلْم الكتاب" (43) . إن شهادة الله على الرسالة هي المعجزة ، فأين هي ؟ يكتفي النبي من المعجزة والاعجاز بشهادة "مَن عنده علم الكتاب" أي "الراسخين في العلم" ، "أولي العلم قائما بالقسط" ، وهم النصارى من بني اسرائيل . الى هنا ينتهي التحدي بالاعجاز والهدى . فمن يشهد على نفسه بالمحو في التنزيل والهدى ، ومَن حجته شهادة "مَن عنده علم الكتاب" ، هل يكون على الاعجاز في الهدى ؟ تلكم اثنتا عشرة شهادة من التحدي بالقرآن وهداه ، مقرونة بالأزمات النفسية والايمانية إنه يتحدى ، ويشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ومن القرآن نفسه ! وهو على ذلك طورا يعاتبه ، وطورا يؤدبه ؛ تارة يدعوه الى الاخلاص في الدين ، وتارة يحذره من اتباع أهواء المشركين . وعلى الدوام يدعوه الى الاستقامة في الهدى ، حتى كان محمد يقول : "شيبتني هود . أتفقر الى الله بصحة العزم" ! فهل هذا كله من "دلائل الاعجاز" في الهدى والعقيدة ؟ |