ركّز د. بوكاي في الفصل الثاني من كتابه على الصراع الداخلي في الجماعة المسيحية الناشئة، ليبيّن تأثير هذا النزاع على صحّة الرسالة الإنجيلية. ويمكن أن نلخّص ما قاله في ما يلي:
1 - كان هناك نزاع بين فريق اتّبع عقيدة بولس، وفريق اتّبع عقيدة اليهود المتنصّرين بقيادة الرسولين بطرس ويوحنا ومعهما يعقوب أخي يسوع.
2 - كُتب كثير من أسفار العهد الجديد كنتيجة لهذا الصراع.
3 - خسر فريق اليهود المتنصرين في النزاع وأُطلق على كتبهم اسم الأبوكريفا فقاومتها الكنيسة وخُبّئت.
1 - بين اللحظة التي غادر المسيح فيها هذه الأرض (30م) وحتى منتصف القرن الثاني (150م) كانت هناك معركة بين اتجاهين: بين ما يمكن تسميته بالمسيحية البولُسية وبين يهودية المتنصّرين.. ولم يحلّ الاتجاه الأول محل الثاني إلا بشكل شديد التدرّج... لكن يهودية المتنصرين كانت تمثّل حتى عام 70م غالبية الكنيسة، وكان بولس منعزلاً. وكان رئيس الجماعة يعقوب قريب يسوع. وكان معه في البداية بطرس ويوحنا. ويمكن اعتبار يعقوب كعمود اليهود المتنصرين الذي ظل عن إرادة ملتزماً بخط اليهودية أمام المسيحية البولسية...
وإذا كان بولس أكثر وجوه المسيحية موضعاً للنقاش، وإذا كان قد اعتُبر خائناً لفكر المسيح، كما وصفته بذلك أسرة المسيح والحواريين الذين بقوا بأورشليم حول يعقوب، فذلك لأنه قد كوَّن المسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح من حوله لنشر تعاليمه (ص71-73).
وكل من يقرأ ما كتبه د. بوكاي بغير وعي سيظن أن الإنجيل الأصلي قد أُخفي في هذا الصراع، ليظهر عليه تعليم بولس الذي خان المسيح!
2 - فيما يخص الأناجيل، فليست هناك مجازفة كبيرة في أنه لولا جوّ الصراع بين الطوائف التي وُلدت بسبب انشقاق بولس، لما حصلنا على الكتابات التي في حوزتنا اليوم. إن هذه الكتابات الخصامية (كما يصفها الأب كانينجيسر) قد ظهرت في فترة صراع حاد بين الطائفتين، وانبعثت من حشد كتابات عن المسيح (ص 73).
3 - ففي هذا العصر شكلت المسيحية البولُسية بعد نصرها النهائي مجموعة نصوصها الرسمية (أي القانون) الذي يستبعد كل الوثائق الأخرى التي لم تكن توافق الخط الذي اختارته الكنيسة (ص 74).
وصحيح أن بعض أسفار العهد الجديد تحمل آثار نزاعٍ عقائدي، ولكن يجب أن نثير سؤالين:
هل صحيح ما يقوله د. بوكاي إن ذلك الصراع كان بين الرسول بولس وباقي رسل المسيح؟
هل يثبت هذا النزاع أن أسفار العهد الجديد لم تُكتَب بوحي الروح القدس؟
يعلن العهد الجديد أن هؤلاء الرسل كانوا أصدقاء، على اتفاق تام في العقيدة:
(أ) يقول الرسول بولس: ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا,,, صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلَانٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ,,, لِئَلَّا أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ المُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا (بطرس) وَيُوحَنَّا، المُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ,,, غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الفُقَرَاءَ. وَه ذَا عَيْنُهُ كُنْتُ ا عْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ (غلاطية 2: 1 و2 و9 و10).
(ب) نقرأ عن رحلة بولس الأخيرة إلى أورشليم في أعمال 21:17-20 قبل موته بنحو خمس سنوات: وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا الإِخْوَةُ بِفَرَحٍ. وَفِي الغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ المَشَايِخِ. فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ اللّه بَيْنَ الأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ الرَّبَّ .
(ج) ثم نقرأ في الرسالة الثانية لبطرس الرسول: وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلَاصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ الحِكْمَةِ المُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضاً، مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هذِهِ الأُمُورِ، التِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ العُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلَاكِ أَنْفُسِهِمْ (2بطرس 3:15 و16).
ويظهَر من هذه الآيات أن بولس سافر إلى أورشليم ليرى إن كانت تعاليمه مطابقةً لتعاليم بطرس ويوحنا ويعقوب، كما يظهَر أيضاً أنه كان على علاقة طيبة بيعقوب حتى نهاية حياته، ويسمّي الرسول بطرس رسائل بولس كتباً مقدسة.
ونقرأ في غلاطية 2:11-16 عن مواجهة بين بولس وبطرس، وبَّخ فيها بولس زميله بطرس. غير أن ما كتبه بطرس بعد ذلك يُظهِر أن هذا الاختلاف كان اختلافاً موضوعياً، وحُسم.
فلماذا يتغافل د. بوكايّ هذه الآيات؟.. لو أني أخفيتُ بعض آيات القرآن أثناء نقاش، ألا يكون هذه إساءةً للحق وإخفاءً للبراهين؟ كأني أقول إنه كان هناك خلاف بين أبي بكر وعمر وعثمان، رغم أن السُّنة تقول خلاف ذلك!
نعم كانت هناك منازعة، ولكنها كانت بين بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب في جانب، والجماعة اليهود المتنصرين في الجانب الآخر.
نجد في سفر أعمال الرسل ورسائل بولس ثلاثة مستويات للنزاع:
(أ) نزاعاً بين بولس وعابدي الوثن. فقد اعتنق وثنيون كثيرون المسيحية نتيجة وعظ بولس، فتحوّلوا من الأوثان الميتة ليعبدوا الله الحي وتوقَّفوا عن شراء الأصنام الفضية والذهبية، فغضب الصياغ لأن مكسبهم تهدّد، وأجبروا بولس أن يترك البلد (أعمال 19).
(ب) نزاعاً بين الرسل واليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح. ويفيدنا أعمال 12 أن يعقوب شقيق يوحنا قُتل بالسيف، وأن بطرس أُلقي في السجن. ونقرأ في أعمال 14:19 ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا الجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ المَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ .
(ج) نزاعاً بين بطرس ويوحنا وبولس من جانب واليهود المتنصرين من جانب آخر. وهذا ما يتحدث عنه د. بوكاي. وإن المرء يسأل نفسه: من هو اليهودي المتنصّر؟ ألم يكن بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب يهوداً تبعوا المسيح فصاروا مسيحيين؟ فما هو الفرق بينهم وبين اليهود المتنصّرين؟
كانوا يؤمنون ب العقيدة الإنجيلية . ولكن د. بوكاي يشير إلى دراسات الكاردينال دانيلو في اليهود المتنصرين مرات عديدة، ويقول في ص 37
إن المسيحية التي كانت أولاً يهودية مسيحية والتي درسها جيداً كتّاب محدثون مثل الكاردينال دانيلو، قد تلقَّت بشكل طبيعي جداً ميراث العهد القديم الذي ارتبطت به وثيقاً كتب الأناجيل، وذلك قبل أن يجري عليها التحوُّل الذي حدث بتأثير بولس .
وفي ص 71 يقول:
إنه (دانيلو) يضع خطوط تاريخ المسيحية ويسمح لنا بتحديد ظهور الأناجيل، وذلك في سياق يختلف تماماً عن ذلك الذي تقول به المعلومات الموجَّهة لعامة الجمهور .
وتوحي كتابة د. بوكاي للقارئ أن الكاردينال دانيلو قد وجد في كتابات اليهود المتنصرين عقيدة مخالفة للعقيدة المسيحية. ولكن الذي يقرأ كتابات دانيلو يكتشف أن ما وصل إليه من نتائج يختلف عمّا يقوله د. بوكاي. يقول دانيلو في كتابه الفرنسي لاهوت اليهودية المسيحية (37) الذي يعالج كل وثيقة تم اكتشافها حتى عام 1964:
كان هدف كتابنا هذا أن نفحص كل وثيقة وصلتنا من اليهود المتنصرين زمن المسيحية الأولى لنرسم صورة للاهوت اليهودي المسيحي. (ص 405).. ويهتم هذا اللاهوت بالتاريخ الكوني، من بدء الكون حتى سماء الله الأبدية. ويدور محوره حول ما لا يمكن قياسه من أحداث التجسّد، وحلول المسيح في جسد بشري، وكيف أخفى هذا مجد المسيح (ص 405)..
ولهذا فإن الفداء أمر كوني، فقد امتد عمل الكلمة (المسيح) إلى كل منطقة في الكون الروحي، من الهاوية (شئول) إلى السماء السابعة، ولمس كل مخلوق. والصليب هو المحور المزدوج للكون، فقد مدَّ ذراعيه ليوحّد كل أمم الناس، ورفع رأسه لتتَّصل السماء والأرض (ص 407)..
وهنا، ومبكراً جداً، وفي بعض الأحيان إلى ما وراء العهد الجديد (يقصد ما قبل الإنجيل المكتوب) نجد وجود المسيح الإلهي السابق، الابن والكلمة.. ونجد الشخص الإلهي: الروح القدس.. ونجد الميلاد العذراوي.. ونجد عقيدة الكنيسة المكوَّنة من المؤمنين من كل الأمم.. هذه وأمور أخرى لا تترك مجالاً للشك أن كل مظاهر الإيمان المسيحي بكل تعبيراته كانت وقتها كما هو اليوم (ص 408).
ومن هذا نرى أن الكاردينال دانيلو يؤكد أن اليهود المتنصرين كانوا مشتركين في العقيدة الإنجيلية عن الله والمسيح مع الرسول بولس، بل إن دانيلو يقتبس أقوال الرسول بولس في عشرة أماكن من كتابه (على الأقل) ليشرح عقائد اليهود المتنصرين.
إن لم يكن النزاع بسبب الاختلاف حول الإيمان بالمسيح كمخلّص، فلماذا الاختلاف إذاً؟.. يفيدنا العهد الجديد أن النزاع بدأ لما آمن بعض الوثنيين بالمسيح، فثار سؤال: هل يُطلب منهم، علاوة على الإيمان بالمسيح المخلّص أن يُختَتنوا ويمارسوا مطالب الشريعة اليهودية؟.. هل يُطلب من الوثني أن يتهوَّد ليكمل إيمانه المسيحي؟
قال بولس: لقد دفع المسيح بكفارته دَيْن كل خاطئ يؤمن به، كهدية مجانية من نعمة المسيح. وهذا يكفي.
وقال اليهود المتنصّرون: صحيح أن كفارة المسيح تسدّد دَيْن الخطية، ولكن المرء يجب أن يطيع الشريعة الموسوية.
ويصف أعمال 15:1 تعليمهم بالقول: وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا .
وبسبب هذا النزاع سافر بولس وبرنابا إلى أورشليم ليناقشوا الأمر مع باقي الرسل، وقال بطرس في تلك المناقشة لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللّه بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ ل كِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً (أعمال 15:10 و11). ويمكن أن نشرح كلمات بطرس هذه بقولنا: نحن كيهود لا نَخْلُص لمجرّد أننا يهود، لكننا نخلص بقبول المسيح فنصبح مسيحيين. فليس لازماً للوثني قبل أن يصير مسيحياً أن يمارس فروض الديانة اليهودية . وقد وصل المجمع المسيحي إلى هذه النتيجة، وقرر عدم وجود داعٍ لختان الوثني الذي يريد اعتناق المسيحية. وتجد المناقشة كاملة في رسالة بولس لكنيسة غلاطية وفي سفر أعمال الرسل 10-15 وفيها ترى التوافق الكامل بين بطرس ويعقوب وبولس. وقد رفض بعض اليهود المتنصّرين قرار اجتماع أورشليم، واعتبروا بولس مسئولاً عن القرار الذي اتُّفِق عليه، واضطهدوه لذلك كثيراً.
يبدو أن العلاقة بين الإسلام والوحي السابق له لم تكن موضوع دراسة المسلمين الأوَّلين، ولا أعرف سبباً لذلك. فمن البديهي أن يسأل المرء: إن لم يكن القرآن قد نسخ أوامر التوراة والإنجيل، فهل تلك الأوامر تظل مُلزمة للمسلم؟ ومثال لذلك الأمر بختان الصبي في اليوم الثامن لمولده، كما أمر الله إبرهيم: أَمَّا أَنْتَ فَتَحْفَظُ عَهْدِي، أَنْتَ وَنَسْلُكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ.,, يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ,,, فَيَكُونُ عَلَامَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أَجْيَالِكُمْ (تكوين 17:9-12).
ويقول القرآن إنه دين إبرهيم، ولكن المسلمين يختنون أولادهم عادة في ما بين الشهر الثالث والسادس من عمرهم، وهذا يخالف وصية الختان في اليوم الثامن.
ولنفترض جدلاً أن هناك فريقين إسلاميَّين يتحاوران، يقول أحدهما: يجب أن يتم الختان في اليوم الثامن كما أمر الله إبرهيم بينما يقول الآخر لم يعد هذا مُلزماً .. هكذا كان النزاع المسيحي أول الأمر، ولو أنه كان أكثر جوهرية في:
هل نخلص بمجهودنا في تنفيذ شريعة موسى؟ أم أننا نخلص فقط بنعمة الله ورحمته، بعد أن سدد المسيح كل شيء عنّا على الصليب؟
كتب الأبوكريفا
ثم نعالج اعتراض د. بوكاي الثالث بخصوص المخطوطات المرفوضة، المعروفة بالأبوكريفا، وهي كلمة أصلها يوناني apokryphos وتعني المخبّأ . ويدّعي د. بوكاي أن تسمية هذه الوثائق بالأبوكريفا يرجع إلى أن الكنيسة خبّأتها . ويقول:
كان هناك تداول كثير من الكتابات عن المسيح، غير أنه لم يُعتدّ بها ككتابات جديرة بصفة الصحّة، كما أوصت الكنيسة بإخفائها. ومن هنا جاء اسم الأناجيل المزورة أبوكريفا (ص 99).
ولقد صدَق د. بوكاي في أن أبوكريفا معناها المخبَّأ . ولكنه لم يوضح ما يقصده بمعنى الكلمة المستخدَم. ففي ذلك الزمن استخدمها الغنوسيون (أي: العارفون بالله) اسماً لكتاباتهم في القرنين الأول والثاني الميلادي، فكتاب أبوكريفا يوحنا معناه أسرار يوحنا وادّعى الغنوسيون أنهم يملكون معلومات سرية لا يعرفها غيرهم، واعتقدوا أن خلاصهم يجيء من المعرفة التي أعلنها لهم العارف (وهو عادة السيد المسيح) بالإضافة إلى عارفين آخرين .
ويختلف الغنوسيون عن المسيحيين والمسلمين في أنهم يسخرون في كتاباتهم من الله الخالق لأنه أعمى، لا يدرك أن هناك إلهاً روحاً أطهر أعلى منه. ففي أبوكريفا يوحنا يوصف الله الخالق بأنه ضعيف، غير تقي في جنونه، لأنه يقول: أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلي (إشارة إلى إشعياء 46:9) لأنه جاهل بقوته وبالمكان الذي جاء منه (من مخطوطة نجع حمادي رقم 2 ص 11 سطور 18-22).
وفي القرن الرابع الميلادي أُطلقت الكلمة على الكتب التي لا تُقرأ علناً في الكنائس، ويتحدث المؤرخ الكنسي يوسابيوس عن الكتب الأبوكريفية السرية ككتب مزوَّرة كتبها مبتدعون كفَرة (عن الموسوعة البريطانية طبعة 15 عام 1982 ج 2 ص 973).
ومن هذا نرى لا شيء يؤيد قول د. بوكاي إن الكتب سُميت أبوكريفا لأن الكنيسة خبّأتها.
من المفيد أن نذكر أن رفض الكنيسة لهذه الكتب لا يعني أنها تتَّفق مع العقيدة الإسلامية. لقد رفضت الكنيسة إنجيل بطرس الأبوكريفي،مع أنه يقول إن المسيح هو كلمة الله الإلهي الذي مات على الصليب من أجل خطايانا. رفضته لأنه أولاً لم يكن من كتابة الرسول بطرس، ورفضته ثانياً لأنه ينكر أن المسيح إنسان كامل، وأنه لم يشعر بألم وهو على الصليب. وقال دانيلو عن إنجيل بطرس إن هدفه هو أن يعلن بقوة الجانب الإلهي في شخص المسيح. ولسنا نظن أن مسلماً يرضى بهذا.
وهناك سفر أبوكريفي اسمه أعمال بولس يتفق مع العقيدة الإنجيلية في أن المسيح مات لأجل خطايانا، ولكنه يقول لقارئه لا نصيب لك في القيامة إلا إذا كنت غير متزوج، لتحفظ جسدك من الدنس ومعناه رفض الصلة الجنسية حتى بين المتزوجين. وقد رفضت الكنيسة هذا السفر لأنه يعارض تعليم المسيح، كما يتعارض مع ما ورد برسائل رسل المسيح. وقد فُصل كاتبه من مكانه القيادي في الكنيسة بعد أن اعترف أنه زوَّر هذا الكتاب. علماً بأن منع الصلة الجنسية بين الزوجين كانت من تعاليم بعض اليهود المتنصرين، كما تجدها في إنجيل توما و إنجيل المصريين .
وأذكر أخيراً رسالة برنابا اليهودية المسيحية، والتي كُتبت عام 120م، ونالت احتراماً كبيراً بين المسيحيين في القرنين الثاني والثالث بسبب تعاليمها الصحيحة عن المسيح، ولكنها رُفضت لأنها أولاً لم تكن من كتابة برنابا، وثانياً لأنها تقول إن شريعة موسى من وحي شيطان (38)، الأمر الذي يناقض أقوال المسيح وأقوال القرآن.
ويصحّ هذا على كل الكتابات الأبوكريفية التي تحدث عنها دانيلو وأشار إليها د. بوكاي. فكلها تتحدث عن المسيح الرب المخلّص، ولكن الكنيسة رفضتها لوجود عقائد خاطئة بها، ولأن رسل المسيح لم يكتبوها.
ويواجه المسلمون مشكلة مشابهة في الأحاديث الضعيفة، وقد رأينا في القسم 2 فصل 2 أن البخاري اختار 2762 حديثاً صحيحاً من أصل 600 ألف حديث متداول. وعند إعلان ضعف حديث، يقول المسلم إنه لم يأت من محمد ولا من أحد من الصحابة. قد يكون نص الحديث سليماً عقائدياً، ولكن المسلمين يرفضونه بسبب الشك في إسناده. وهذا ما فعله المسيحيون مع الكتب الأبوكريفية، فصارت غير قانونية.
لقد درسنا نقاط د. بوكاي الثلاث، ووجدناها غير صحيحة. إن النزاع الذي حدث في الكنيسة في القرن الأول لم يحدّ من فاعلية الروح القدس في إلهام الرسل، فهو الإله القادر، خالق السماوات والأرض. فمن يقدر أن يبدّل أو يحرّف كلماته؟
هذا علاوة على أن كلام د. بوكاي يناقض القرآن الذي يقول في سورة الصف 61:14 (وتعود إلى عام 3 هـ ): فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ . وقد رأينا في سورة الحديد 27 (وتعود لعام 8 هـ ) أن مؤمنين مسيحيين صالحين كانوا موجودين وقت بدء الرهبانية عام 300م، بعد اختفاء اليهودية المسيحية بزمن طويل. فبحسب القرآن لا يمكن أن تكون المسيحية التي انتصرت وانتشرت قد نالها التحريف بسبب الاختلافات والمنازعات العقائدية.
نزاع أثناء نزول القرآن
لو أننا أخذنا جدّياً فكرة أن النزاع يؤثر على الوحي، فإن هذا يجعلنا نتساءل: ألم يكن هناك نزاع بين المسلمين والمكيين أثناء وحي القرآن؟ ألم يكن هناك صراع بين المسلمين واليهود؟ ألم يكن هناك نزاع بين محمد والمنافقين ومُدَّعي النبوّة؟.. نعم كان! لقد ذكر القرآن موقعة بدر بقوله وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة آل عمران 3:123). وفي السورة نفسها (آيات 140-180) يوبخ المؤمنين ويشجعهم بسبب ما جرى في موقعة أُحد. ولقد رأينا في القسم 2 فصل 1 أربعين شاهداً تتحدث عن النزاع بين المسلمين واليهود، أحدها من العهد المكي المتأخر، في سورة الأنعام 6:124 وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ .
أما النزاع الذي جرى بين محمد والمنافقين فيشبه صراع المسيحيين الأوَّلين مع اليهود المتنصرين، ومنهم مسيلمة الذي قاد سفارة من قبيلته لتلتقي بمحمد عام 9 هـ وأعلنوا إسلامهم. وفي العام التالي ادَّعى مسيلمة النبوة، وأخذ يحاكي القرآن. وقدَّم لنا أبو الفرج هذا النموذج:
كان الله كريماً مع التي كانت حاملاً، ووضعت من نفسها نفساً تجري بين الصِّفاق (الغشاء الشفاف المبطّن للتجويف البطني) والأمعاء !.
بل إنه كتب لمحمد يقول: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله فردّ عليه محمد بالقول إلى مسيلمة الكذاب . ومع ذلك فقد ظل نفوذ مسيلمة يزيد، ولم يتوقف نفوذه إلا بعد أن قتله خالد بن الوليد عام 11 هـ (بعد موت محمد بسنة واحدة).
فهل تكون هذه المنازعات سبباً في تحريف القرآن؟ سيرفض المسلمون هذا طبعاً، بل إن القرآن يعلن العكس، فقد ثار صراع كلما جاء نبي لأمته، من موسى بني إسرائيل إلى صالح قبيلة ثمود!
النزاع الإسلامي بعد موت محمد
لم يكن محمد الشخص الوحيد الذي نادى بنبوّته في شبه الجزيرة العربية، فبعد موته قام ثلاثة أنبياء ونبيَّة جمعوا من حولهم الأتباع، وارتدّ كثيرون من أهل شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها وشرقها عن الإسلام. وهاجم بعضهم المدينة. في هذا الوقت طلب أبو بكر من زيد بن ثابت أن يجمع القرآن.
فلو صدَقت نظرية د. بوكاي أن النزاع المسيحي في القرن الأول سبَّب تحريف الكتب المقدسة، لصدقت النظرية نفسها على القرآن. وإننا لنأسف لضياع كتابات مسيلمة وغيره ممن ادَّعوا النبوة، التي اعتبرها المسلمون كتباً أبوكريفية رغم ما فيها من دراسة تاريخية.
وقد استمر النزاع في العالم الإسلامي، فقتل فيروزُ العبد الفارسي الخليفة الثاني عمر عام 23 هـ . وبعد أقل من 25 سنة من موت محمد (عام 35 هـ ) دخل مسلمون غاضبون بيت عثمان وقتلوه، فبويع علي بن أبي طالب خليفة، ولكن تلك المبايعة لاقت المقاومة، فقامت عائشة (أرملة محمد) ومعها طلحة والزبير بجمع جيش يخلع عليّاً، فجنَّد علي جيشاً عام 35 هـ (أكتوبر ت 1 ، 656م) ولأول مرة حارب جيشٌ مسلم جيشاً مسلماً. وانتصر علي بعد ذلك في موقعة الجمل وقُتل طلحة والزبير، وأُعيدت عائشة إلى مكة. ومن المؤلم أن الذين قادوا الحرب كانوا من الأقربين لمحمد: فعلي ابن عم محمد وزوج ابنته فاطمة، والزبير ابن عم محمد ومن أوائل المسلمين، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنة. وكان طلحة بمثابة حفيدٍ لأبي بكر الخليفة الأول، وكان أحد الصحابة المميَّزين، فقد أنقذ محمداً في موقعة أُحد، وهو أيضاً أحد العشرة المبشرين بالجنة.
وقد قتل أحد الخوارج علياً بعد ذلك عام 40 هـ (661م) والخوارج طائفة ثارت على علي.
وقد قصدنا بهذه الفذلكة التاريخية أن نبيّن وجود نزاعات كبيرة في أول العهد بالإسلام. وفي ما عدا طائفة الشيعة، لا يقول مسلمٌ بحدوث تحريف في القرآن نتيجة للمنازعات.
فعلى أي أساس يقول د. بوكاي أو غيره إن الخلاف بين الرسل تسبَّب في حدوث تحريف في الإنجيل؟!
قدَّمنا للقارئ فكرة عن التطور التاريخي للقرآن، فبدأنا بوعظ محمد الأول قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، حتى أقدم نسخة وصلتنا من القرآن عام 150 هـ . وترى هذا التطور في الرسم البياني رقم 3.
رسم بياني - 3 التطور التاريخي للقرآن
بعد أن درسنا كل هذه المعلومات، يحقّ لنا أن نلخّص ما يعتقده المسلمون عن جمع القرآن ونقله بقولنا:
مع أنك لا تملك النسخة الأصلية للقرآن بين يديك، إلا أنك تؤمن أن زيداً وعمر جمعا القرآن كما أُنزل. وتؤمن أنه لو ضاع شيء لما أحرق عثمان النسخ الأصلية، ولو صَدَق ما قاله عمر وأُبيّ عن آية الرجم وسورتي الحفد والخلع، إلا أن هذا لا يؤثر على العقيدة الإسلامية في شيء. وتؤمن أن نُسَّاخ القرآن فعلوا ذلك بكل أمانة. أما الأخطاء التي ارتكبوها (وهم بشر) فيمكن تلافيها بمقارنة النسخ المختلفة.
وتعتقد أن الحديث الذي جمعه البخاري ومسلم عن حياة محمد وعن جمع القرآن هو حديث صحيح يُعتمد عليه. وتؤمن أن المسلمين الأوّلين الذين بذلوا من أموالهم وأرواحهم إنما فعلوا ذلك لثقتهم القوية في صدق عقيدتهم.
إنك تعتقد أن كل البراهين تساند صحة نقل القرآن، فيمكن أن تعتمد على ما بين يديك بثقة كاملة.
للاتصال بنا