الفصل التاسع

نشكر الله على الغرب

انها ساعة العصر من يوم الجمعة في جامعة تورنتو.  شبان مسلمون يتقاطرون خارجين من قاعة المناضرات في هارت هاوس ، المركز الطلابي ذي الطراز الغوطي في حرم الجامعة.  كانوا يصلُّون في البقعة نفسها التي شحذ فيها رؤساء حكومات ورؤساء جمهوريات محاجَّاتهم وتبادلوا الطرائف فيما بينهم.  صور مؤطرة لزوار مشهورين عالميا تزيِّن الجدران.  ولكن المرء لا يرى هذه الصور في أغلب اوقات العصر من يوم الجمعة لأنها تُغطَّى بمربعات من الخيش المخاط بإناقة.  مركز هارت هاوس ثبَّت خطَّافات حائطية متينة على جانبي كل صورة من الصور ليمكن تعليق قماشة القنب فوق الوجوه ـ في بادرة احترام لمن يريدون التضرع الى الله لا لمخلوقات الله.  يتساءل المرء ما إذا كان نظام طالبان فكَّر ذات يوم ، بأي حال من الاحوال ، في تغطية تماثيل بوذا بدلا من تفجيرها.  كما يتساءل المرء ما إذا كان الطلاب المسلمون يعرفون ما يتمتعون به هنا.

 

ولا أعني بكلمة "هنا" مجرد مدينة تورنتو ذات الطابع المتميز بل خذوا مدينة هاليفاكس ايضا.  فأنا لا أتوقع ان أرى إلا نوعين من الازياء هناك:  الطرطان ( نوع من القماش الصوفي المخطط ) الذي يرتديه الرجال من العاملين في الفنادق السياحية والبذلات العسكرية للجنود المتمركزين في القاعدة القريبة.  وذات يوم ممطر من ايام الجمعة في هاليفاكس لمحتُ رجلا يرتدي لباس العربي الصحراوي بكامل قيافته:  عباءة بيضاء فضفاضة وعقال ونعل وحتى عصا معقوفة تُستخدم للإتكاء عليها اثناء المشي.  وبسبب تأخره عن صلاة الجمعة كان الرجل يؤشر بيده لإيقاف سيارة اجرة فيما هو يتكلم على هاتفه الجوال.  قاطعتُه لأسأله السؤال البديهي في هذه الأحوال.  قال لي ابراهيم ( نعم ابراهيم آخر ) انه يرتدي حلته الاسلامية كل يوم جمعة ، وهو يفعل ذلك منذ عشر سنوات.  استنطقتُه بالسؤال ، "هل تعرَّضتَ الى مضايقات؟" ولا حتى مرة واحدة ، بل على العكس تماما:  في جامعة دالهوسي حيث يبيع ابراهيم سندويشات السجق الساخنة يطلقون عليه بتحبب لقب "عراب السجق" (1).  (سندويش السجق يُسمى في الغرب الناطق بالانجليزية هوتدوغ hotdog وكلمة عراب الانجليزية هي غودفاذر godfather ويبدو ان حس الفكاهة عند الكنديين ابتدع تعبير "دوغفاذر" dogfather الطريف الذي يجمع بين الكلمتين ـ المترجم).

 

 

لاحقا ، في مطار هاليفاكس ، جلَستْ امرأة مسلمة قبالتي في الصالون.  كانت ملفَّعة بالسواد ، في كل شيء حتى قفازها الجلدي.  ورغم الحركة النشيطة في الصالون فانه لم يكون ضاجا بالزوار.  كان الرواد يتمهلون في احتساء القهوة للتمتع بمذاقها قبل ابتلاعها.  ولكني مع ذلك كنتُ الوحيدة التي أُراقب تلك المرأة. لم يكن الأمر وكأنهم يحاولون ان لايبدوا متطفلين.  كل ما هنالك ان احدا لم يشعر انها تتطفل عليه.  قبل التوجه الى البوابة نهضتْ المرأة وعدَّلت عباءتها.  ومع ذلك لم توجَّه أي نظرات صوبها.  وعندما غادرتْ الصالون رأيتُ رأسين يرتفعان لبرهة ثم يعودان الى حل الكلمات المتقاطعة. 

 

مثل هذه القصص تتعارض مع رد الفعل المبالغ بتصويره ضد المسلمين.  لا أنكر ان الغضب تفجر منذ 11 سبتمبر ( اليول ) ضد البعض من ذوي "السحنات العربية" ( بينهم يهود اسرائيليون ) (2).  والذين تعرضوا الى استفزازات عليهم ان يرفعوا صوتهم.  فأنا بالتأكيد اتصلتُ  بوسائل الاعلام خلال حرب الخليج عام 1991 عندما ساقني حارس الى خارج احد المباني الحكومية من دون سبب واضح.  ولكن ما يندر التدقيق فيه وقياسه وترويجه هو معكوس "معاداة المسلمين" ـ مظاهر اللياقة العفوية تجاه المسلمين. 

 

في شمال اميركا تبدَّت هذه اللياقة بأشكال لا تُعد ولا تُحصى.  فبعد 11 سبتمبر ( ايلول ) مباشرة اتصل رجال دين مسيحيون ويهود بزعماء مسلمين واقاموا صلوات متعددة الأديان وعقدوا مؤتمرات صحافية مشتركة ونظموا حملات لجمع التبرعات بمشاركة ممثلي هذه الاديان لدفع رسوم المحامين المطلوبة من المسلمين الذين وكَّلوهم للدفاع عن انفسهم ضد عسف السلطات.  وفي ليلة الاعتداءات الارهابية ذاتها عندما عقدت الصدمة ألسِنة الغالبية منا ، تلقيتُ مكالمة هاتفية من كاهن كان من ابرز رجال الدين في تورنتو.  أراد ان يطمَئن على سلامتي وان يعرف كيف يستطيع المساعدة على التصدي للكراهية التي قد أُواجهها الآن.  وخلال الايام الثلاثة التالية تلقيتُ من تعابير الاهتمام والرعاية التي ابداها اصدقاء يهود اكثر من أي احد آخر.  وكشفت احاديثي الخاصة مع مسلمين شباب عن الكثير من الشيء نفسه:  معلمون ، جيران ، زملاء في العمل ، ومستخدمو غرف الدردشة على شبكة الانترنت كلهم كانوا قد هيأوا انفسهم لمواجهة أي عقول ضيقة الافق.

 

حاولتُ الابلاغ عن مظاهر اللياقة واللطف هذه الى الشرطة ، والى منظمة مناهضة للعنصرية والى خبراء في جمع الاحصائيات والى مؤسسة الارسال الوطنية.  الثلاثة الاوائل لم تكن لديهم فكرة عما ينبغي عمله بالأنباء الطيبة التي نقلتُها اليهم.  ومؤسسة الارسال؟  الشخص الذي اتصلتُ به هناك ـ رجل قوقازي ، إن كان لذلك من أهمية ـ أجاب ان إيراد هذه الالتفافات الكريمة قد يُعتبر نفيا عنصريا للأحقاد التي يعانيها كثير من المسلمين.  وسأل ، "بماذا سنرد على ذلك؟" حاولوا الرد بالآتي:  إذا كانت معاني الاسلام الخفية تستحق تسليط الضوء عليها فكذلك تستحق معاني الغرب. 

 

اننا لا نتبادل الاستبعاد بين بعضنا بعضا ، بين المسلمين والغرب ، وحتى الاميركيون يؤكدون لنا هذه الحقيقة.  فان لدى جورجتاون ، وهي جامعة يسوعية مرموقة في واشنطن دي. سي ، إماماً.  ولدى القوات المسلحة الاميركية أئمة.  وفي اكتوبر ( تشرين الأول ) عام 2002 اعاد بريد الولايات المتحدة اصدار طابع من الدرجة الاولى لإحياء مناسبة العيد الذي يحتفل به المسلمون في سائر ارجاء العالم.  ونقلت صحيفة "عرب نيوز" عن عزيزالي جعفر قوله "ان هذه لحظة تفتخر بها الخدمة البريدية والجالية المسلمة والاميركيون عموما" (3).  وجعفر هو نائب رئيس دائرة البريد للشؤون العامة والاتصالات.  طابع العيد قد يكون رمزية مُغرِضة ولكن ان يكون مسلم مسؤولا تنفيذيا كبيرا في مؤسسة اميركية حيوية فليس في هذا أي إغراض. 

 

الجمعية الاسلامية في اميركا الشمالية ( آي اس ان أي ) تشهد على الحراك الذي يتمتع به المسلمون في هذه المنطقة من العالم.  فالجمعية تعلن "ان لدى المسلمين الاميركيين بوصفهم مواطنين فرصا كثيرة للدراسة والعمل.  وتمتد هذه الفرص من التعيينات السياسية التي يقررها رئيس الولايات المتحدة الى الوظائف في قطاع الخدمة العامة والتدريبات والزمالات في البيت الابيض ووزارة الخارجية" (4).  وكان نجيب حلبي ، والد الملكة نور ملكة الاردن ،  رئيس ادارة الطيران الفيدرالية في زمن الرئيس كندي.  وتشير الملكة نور في مذكراتها الى ان الرئيس شخصيا طلب من حلبي ان يتولى هذا المنصب (5).  يا له من تناقض مع طريقة العربية السعودية في تعاملها مع "الأغراب" العرقيين. 

 

كيف يتمكن المعارضون لاسلام الصحراء من كسب رزقهم بعد نفيهم من بلدانهم؟  كثير من المغتربين والمبعدين يزاولون التدريس والكتابة بحرية في الكليات الاميركية.  سألتُ عمتي ، "هل من الصعب ان يكون المرء مسلما اميركيا اليوم؟"  عمتي تعيش في ولاية تكساس ، موطن جورج دبليو بوش.

 

هزَّت عمتي كتفها قائلة ، "كلا ، ليس إذا كان لديك شيء من الثقة.  كل ما عليكِ ان تفعليه هو أن لا تختفي".  في 11 سبتمبر ( ايلول ) كانت عمتي تعمل معلمة في مدرسة اسلامية في هوستن.  سألتُ عن رد الفعل الذي واجهته المدرسة من اهل المنطقة.  تحدثت عمتي عن رسائل رحيمة واتصالات هاتفية وبطاقات وزهور ارسلها تكساسيون من عامة الناس.  ويتفق ما تتذكره عن ذلك الوقت مع ما سمَعَته صحيفة لوس انجيليس تايمز من المركز الاسلامي لجنوب كاليفورنيا.  إذ قال مدير المركز للشؤون الدينية "نحن مُغمَرون" (6)  ـ وكان يقصد ان المسلمين غُمروا بمشاعر التعاطف الحارة معهم.  وفي اعقاب 11 سبتمبر ( ايلول ) زار صحافي مدنا ريفية اميركية ترفع الاعلام تعبيرا عن الروح الوطنية ، ولمس اهتماما مماثلا بالمسلمين.  وكتب لي لاحقا ، "آمل أن يسجل أحد ذات يوم الموجة العارمة من الانفتاح والكرم والذكاء التي انطلقت في اميركا على امتداد نحو شهرين بعد الاعتداءات" (7).  لهذا الصديق ميول يسارية ولكنه ، مَثَله مثلي أنا ، لا يفهم لماذا يكون من العنصرية في شيء الاعتراف بما موجود من مشاعر انسانية نبيلة في ارض الله الواسعة. 

 

الصفة التي افرح بها أكثر من سواها هي حب الاستطلاع.  وقد قالت الناشطة المسلمة سارة الطنطاوي لصحيفة لوس انجيليس تايمز ، "أنا سوداوية ولكني مفعمة بالأمل نتيجة الجدية والصدق اللذين يبديهما الناس في محاولتهم معرفة الاسلام" (8).  وبعد 11 سبتمبر ( ايلول ) اصبحت ثلاث طبعات من القرآن على قائمة اكثر الكتب مبيعا في موقع شركة امزون لبيع الكتب على الانترنت amazon.com .

وقررت جامعة نورث كارولاينا إلزام الطلاب الجدد بقراءة كتاب عن القرآن.  ورغم ان هذا القرار اسفر عن رفع دعوى قانونية باءت بالفشل فان تعليقا لا يقل مغزى على المجتمع الاميركي صدر عن رئيسة الاتحاد الطلابي للجامعة البالغة من العمر 21 عاما.  إذ قالت جينفر دوم ، "شعوري هو ، إذا كنتَ غير مستعد لقراءة افكار ليست افكارك وقد تختلف معها ، فانك لا تنتمي الى مؤسسة للتعليم العالي". 

 

روح الاستطلاع هذه هي الهواء الذي اشعر بالامتنان لاميركا الشمالية عليه.  ففي كثير من بقاع العالم الاسلامي ، إذا كان المرء أكثر مما مقرر له ان يكون ، تكون قيمته اقل.  وفي كثير من اميركا الشمالية يتمتع المسلمون بالحرية في ان يكونوا ذوي ابعاد متعددة.  وهذه هي حال أُناس من شتى الاعراق.  وكان من ضحايا 11 سبتمبر ( ايلول ) في نيويورك الأب ميكال جادج ، وهو قس كاثوليكي مثلي نعاه الاطفائيون الذين رعاهم طيلة سنوات.  تعددية البشر ، تعددية الافكار ـ ولكم ان تجدوا العلاقة بين الاثنين.  أنا وجدتُها ، وهذه العلاقة انقذت إيماني بالاسلام ، حتى الآن. 

 

لو نشأتُ في بلد مسلم لصرتُ على الارجح ملحدة في قرارة نفسي.  ولأني اعيش في هذا الركن من العالم حيث استطيع ان أُفكر وأختلف واغور اعمق في أي موضوع ، فقد تعلمتُ لماذا ينبغي ان لا أفقد الأمل بالاسلام بعد. 

 

بعد هذا القدر من الاستطلاع ، يقودني تفسيري الخاص للقرآن الى ثلاث رسائل تتكرر باستمرار.  أولا ، ان الله وحده يعلم حقيقة كل شيء علم اليقين.  وثانيا ، ان الله وحده يحاسب غير المؤمنين ، وذلك أمر منطقي إذا اتفقنا على ان الله وحده يعرف ما هو الايمان الحقيقي.  ( ونظرا لتقلب أمزجة القرآن من موقف الى نقيضه فان العلي القدير وحده الذي يعرف كيف يوفق بين هذه المتناقضات ).  وعلى البشر ان يحذِّروا من الممارسات المنكَرَة ولكن هذا هو كل ما يستطيعون ان يفعلوه لتشجيع التقوى.  وثالثا ، ان انسانيتنا في المحصلة النهائية تجعلنا احرارا في التعامل مع مشيئة الله ـ من دون قسر على إتباع نهج مفروض.  والقرآن يقول في سورة البقرة "لا إكراه في الدين" (9) وهذا ما تردده سورة "الكافرون" في الآية القائلة "لكم دينكم ولي ديني" (10) ، وما بينهما الآية التي تقول "...ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم..." (11) أليست هذه هي الحقيقة. 

 

تفسيري يلقي ضوء على السبب في أني ، كمسلمة ، لا أستطيع السكوت على ما في الاسلام من عنصريين أكانوا متطرفين من امثال اسامة بن لادن أو ينتمون الى الاسلام السائد من امثال معلمي في المدرسة الدينية الاستاذ خاكي.  فهم بعد توصلهم الى خلاصاتهم الخاصة بهم "من دون اكراه"  ينبرون لمنع الآخرين من عمل ما عملوه هم انفسهم.  وعند هذه النقطة تتحول تعاليم القرآن بالنهي عن الممارسات المنافية للدين الى سلطة لا يقرها القرآن لترويع الآخرين وتخويفهم.  بحسب قراءتي أنا ينبغي ان لا نتمتع بحرية الاستطلاع والاكتشاف فحسب بل علينا ان نتوثق من توافر هذه الحرية لكل الآخرين ايضا.  وأي شيء أقل من ذلك يطعن في حكم الله بوصفه صاحب الكلمة الأخيرة.  ومثل هذا الاجتهاد الفردي المستقل موقف منطقي وصائب من حيث الامكان ومنسجم كل الانسجام مع المُثُل التي احملها كمواطنة غربية.

 

اني لا أُشير الى النزعة الاستهلاكية.  وإذا كنتم تظنون ان المُثُل الغربية لا يمكن إلا ان تحيلنا عبيدا مخبولين لآخر الصرعات فقولوا لي لماذا لم أُعالج عذاباتي الروحية بالتسوُّق ( إلا في حالة واحدة ، كانت لشراء نسخة بالانجليزية من القرآن ).  فالقناعة الآنية ما كانت لتقنعني خلال اللحظة الحاسمة التي سألني فيها مديري كيف استطيع التوفيق بين ديني الاسلامي وجلد شابة مغتَصَبة في نيجيريا.  وكوني انسانة أُثمِّن حرية الفكر قبلتُ بحقه في السؤال. أما كنتم تقبلون؟  أم كنتم سترفعون دعوى عليه بتهمة المضايقة والتحرش؟  هل كان يُسكتني أم يشير الى إيمانه بقدرتي على حل المعضلة بإعمال الفكر؟  وفي قبول التحدي الذي واجهني به هل كنتُ امبريالية متخفية أكره ذاتي أم نصيرة للحياة المجرَّبة؟  كمسلمة كيف كنتُ سأنشا لو أصريتُ على "حقي" في ان اكون متحررة من التفكير؟

 

أنتقل الآن الى سؤال اطرحه على الانسانيين العلمانيين منكم.  اني احترم خياركم في القيام بقفزة الى مضمار عقيدتكم الخاصة ـ عدم الايمان ـ ولكن ماذا كنتُ سأجني لو تخليتُ عن ايماني قبل الاوان؟  لقد الزمني الدين بأن لا انحني لأحد إلا لله الساكن متململا في ضميري.  وأكثر من ذلك ان الدين علَّمني ان لا اخلطُ بين التسلط والسلطة.  وقد تعيشون لتسمعوا المزيد عن ذلك لأن الذين يشجبون الدين عموما على انه "لاعقلاني" يغفلون احيانا ان العقلانية يمكن ان تغدو ارثوذكسية بذاتها. 

 

تسليمة نسرين ، الطبيبة فضلا عن كونها ناشطة نسوية ، قالت لي انه "ليست هناك آخرة.  وإذا متِّ فانك ميتة.  وتلك هي النهاية.  الخاتمة" (12). 

 

أجبتُ ، "من المنظور العلمي المحض لا شك في ذلك على الاطلاق.  ولكن مَنْ القائل ان المنظور العلمي متفوق على أي منظور آخر؟"

 

"لأنه المنظور الصحيح".

 

"الستِ تناضلين من اجل الارثوذكسية؟"

 

"اني اناضل من اجل الحقيقة.  فالنساء المسحوقات يلجأن الى الدين بحثا عن السلوى والدين موجود لهذا الغرض.  انه للضعفاء والعاجزين والجهلة والمغفلين.  ولكن لماذا ينبغي ان نكون ضعفاء وعاجزين اصلا؟

 

"أو لا تعرفين يا  تسليمة ، يمكن لمنتقديك ان يقولوا انكِ تقعين في المطب نفسه الذي تدَّعين انهم ، ان المتدينين يقعون فيه.  فانكِ تؤمنين بسمو العلم فوق كل ما عداه". 

 

ضحكتْ قائلة ، "لستُ من المؤمنين بسمو العلم على كل شيء سواه.  فأنا أُريد الحقيقة.  ليس الحقيقة المطلقة التي هي حقيقة الله بل الحقيقة بمعناها المتعارف عليه". 

 

"لكنكِ لا تؤمنين بالله".

 

بعد مطارحات اخرى بانت حقيقتها المطلقة حين قالت ، "لا أُريد الغاء الدين إلا لأن الدين ضد الانسانية.  لو لم يكن الدين ضد الانسانية لما كانت عندي مشكلة معه".  حسنا ، ان هذا موقف معقول بما فيه الكفاية. 

 

ما ليس معقولا بالقدر نفسه هو الافتراض ان الدين لا بد ان يكون "ضد الانسانية" بلا هوادة.  فان مايكل مور ، أشد انصار سلطة الشعب استعراضا وأعلاهم صوتا في اميركا ، تعلَّم العدالة من الديانة الكاثوليكية ، كما يقول صديقه الحميم جيف غيبس.  وطبقا لما يقوله جيمي كارتر فان رئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن والرئيس المصري انور السادات تصافحا مصافحة يعود الفضل فيها بدرجة ليست قليلة الى قيمهما اليهودية والاسلامية.  وان متطرفا هندوسيا اغتال مهاتما غاندي مع ان غاندي صاغ مفاهيمه التي هزت الدنيا في المقاومة اللاعنفية ، أو "ساتياغراها" satyagraha  ، من الديانتين الهندوسية واليانية.  وفي الواقع اني لم اسمع قط انسانيا علمانيا ملتزما يشجب الدلاي لاما لاعتناقه الدين ـ  والدلاي لاما شخص ورث موقعه هذا بسبب اصله ونَسَبه لا أكثر. 

 

الدلاي لاما ومارتن لوثر كنغ وديسموند توتو ومالكوم أكس ـ كلهم يمكن أن تُغفَر لهم "ديانتهم"  بسبب ما حققوه من خلال الدين.  وهم جميعا انتشلوا انفسهم ـ وجماعاتهم ـ من انماط الخنوع التي تقترن بصورة الضحية.  وللمسلمين في انحاء العالم نستطيع نحن في الغرب ان نكون بشائر هذا التحول.  ونحن نستطيع ان نكون ذلك لا بمجرد ان نُدين الاسلاميين الفاشيين وانما بأن نرفض ان نصبح صنميين اسلاميين ، اولئك الذين يفاقمون عقدة الدونية عند المسلمين بترك أعباء التغيير على كاهل الاخرين. اننا بحاجة الى اقتلاع ذهنية الضحية التي في نفوسنا.

 

لن يكون ذلك سهلا.  وسأُوضح ما اعنيهukdi من خلال فئة اخرى من "الضحايا" الممتازين ، هم الاميركيون السود الذين ينتمون الى الطبقة الوسطى.  ففي صيف 2001 زرتُ ومعي ميشيل مدينة اتلانتا بولاية جورجيا.  وذات يوم من ايام السبت طفنا في مركز جيمي كارتر الرئاسي ، الذي يحمل اسم زعيم جعل الحقوق المدنية حجر الزاوية في برنامج سياسته الداخلية.  وباستثنائي أنا واثنين من العمال ، كان جميع مَنْ في المركز من البيض.  لم يمر اسود واحد خلال زيارتنا التي استمرت ثلاث ساعات.  بعد ذلك توجهنا الى ضريح مارتن لوثر كنغ فوجدناه مَعْلَمَا يغص بالزوار من الاميركيين السود وبعض البيض.  تساءلتُ كم عدد الذين يزورون مركز كارتر ايضا وأجريتُ تحرياتي الخاصة. 

 

ما من احد ابدى اهتماما بمعرفة شيء عن مركز كارتر.  وقد ردَّ زوجان بحدة ، "لماذا نضيع وقتنا في ضريح رجل ابيض؟"  ام م م ، لأنكم بتكريم المحترم كنغ يُفترض أنكم تُحَيِّون فضيلة انتهاء التمييز العرقي؟  ولأنه ليس لون بشرة الانسان بل مضمون شخصيته هو الذي كان أثمن شيء بنظر صاحب الرؤية الذي تلتقطون الآن الصور الفوتوغرافية عند قبره وتنعمون بما نلتوه اخيرا من حرية في ظله؟

 

اني افهم احباط الاميركيين السود ازاء مفهوم الحرية ذاته.  وهو احباط له ما يبرره.  فخلال زيارتي لمدينة اتلانتا ذكرت صحيفتها ان محافظات عدة في ولاية جورجيا تدفع رسوما ثابتة لمحامين "تعاقديين".  وكان هؤلاء المحامون يعملون لا للدفاع عن موكليهم الذين غالبيتهم من الفقراء والسود وانما للتسريع بإصدار الاحكام عليهم ليمكن اخضاع الوجبة التالية من المتهمين الى هذه العملية المهينة لغرض التعجيل بغلق ملفات القضايا المتراكمة.  ولكن غالبية الذين كانوا يزورون نصب كنغ ذلك اليوم لم يكونوا من المسحوقين ماديا بل كانوا يستعرضون ملابسهم الفاخرة التي تحمل علامية "نايكي" الشهيرة واحدث ما توصلت اليه التكنولوجيا من كاميرات رقمية وسيارات رباعية الدفع.  والأشخاص الذين تحدثتُ اليهم بدوا لامبالين بما حققوه من مكانة اجتماعية مع الارتقاء الى الطبقة الوسطى ـ ولا بالرئيس الذين ساعدهم على بلوغ هذه المكانة.  وكشف مزيد من الاحاديث انهم اختاروا البقاء أسرى الإشفاق على الذات مثلهم مثل كثير من المسلمين في الغرب.

 

على المسلمين ان يحذروا حذرا مضاعفا من السلبية.  إذ بسبب إتكالنا المفرط على الله ، نقلل نحن ايضا في احيان كثيرة من اهمية الارادة الشخصية الواعية. "إن شاء الله" ، هي العبارة التي نزفرها بالسليقة.  كلا ، "نحن" الذين يجب ان نشاء.  وعلينا ان نكون شركاء الله في الرحلة الى العدالة.  البعض منكم قد يسأل ، "ولكن مَنْ نحن؟"  فالراسخ في أذهاننا ان "الله اكبر!" ولم افقه معنى  هذه العبارة إلا بعدما ثقَّفتُ نفسي بنفسي.  الله أكبر ـ انه أكبر من مخلوقاته.  نعم ، ولكن هذا ليس اعلانا عن ضآلتنا.  ومن حيث الجوهر فان صرخة "الله اكبر!" تذكير بأن نقرن عزيمتنا الذاتية بالتواضع.  أقرُ بأنني لا استطيع ان أكون نرجسية روحية.  فهل يمكن قول الشيء نفسه عن اولئك الذين يطلقون فتاواهم على العقل؟  والذين يستمعون الى مطلقي الفتاوى منا؟

 

خلال زمن حياتي انتقل الارهابيون من ازهاق ارواح تعدُّ على اصابع اليد الى ازهاقها بالمئات ، بل بالآلاف ، واحتمال ازهاقها بمئات الآلاف.  وفي الفترة نفسها تقريبا استنكر الفاتيكان رسميا معاداة السامية والعمليات الاستشهادية محاولا في الوقت نفسه ، بصورة علنية أكثر من أي وقت مضى بفضل الكاثوليك المنشقين ، ان يعالج قضية اعتداء قساوسة جنسيا على اطفال ونساء.  وقد كتبتُ هذه الرسالة المفتوحة مدركة هاتين الحقيقتين.  فالاصلاح الاسلامي الليبرالي يمكن ان يحدث ـ ليس لدى المسلمين "بابا" عليهم اقناعه بالاصلاح ـ ولكنها قضية حياة أو موت. 

 

يوسي كلاين هاليفي ، وهو صحافي اسرائيلي ويهودي مؤمن وصديق طيب ، يعتقد اني كنتُ قاسية عليكم بلا داع.  وهو يذكِّرني بأن "الاسلام واحد من ديانات العالم الكبرى ـ وهذه ليست مجرد عبارة تُقال" (13).  نشر يوسي كتابا بعنوان "على باب جنة عدن" At the Entrance to the Garden of Eden  يتناول فيه محاولته الصلاة مع المسلمين والمسيحيين في ارض القدس.  ومن بين جميع المسلمين الذين فاتحهم كان الصوفيون وحدهم الذين رحبوا به للسجود بجانبهم.  وانها لخسارة يومية ان يكون الصوفيون "هامشيين على نحو لا معقول" في الاسلام ، على حد تعبير يوسي نفسه (14). 

 

مع ذلك يناشدني يوسي ان اضع الأمور في نصابها الصحيح.  وهو يقول "ان الاديان تمر بأوقات عصيبة.  فكري في الديانتين التوحيديتين الأخريين بعد الف واربعمائة عام على ظهورهما:  المسيحية في فترة محاكم التفتيش والمجازر ، واليهودية في زمن القضاة البدائي".  ولكن شباب الاسلام النسبي كديانة لا يبرئ مسلمي اليوم البالغين من شر اعمالنا ـ وخاصة تقليدنا المستمر لخروقات قروسطوية.  ويوسي نفسه يروي قصة الفلسطيني الذي ابدى استعداده للتعايش عن طيب خاطر مع اليهود على ان يخضعوا لحكم اسلامي ـ يعتقد هذا العربي الدارس في بوسطن ان الحكم الاسلامي هو النظام الطبيعي.  وهذا ، على ما أظن ، تحامل يستحوذ على العقلية الاسلامية السائدة. 

 

يوسي يختم ما لديه بنصيحة أخ اكبر وأرصن:  "سردُكِ بحاجة الى مزيد من الحب ، ليس للملالي وانما لبلايين الارواح طيلة قرون من الزمان سجدت على بُسُط صغيرة مطرزة للصلاة ونذرت حياتها التعيسة الضئيلة الى المجد في الأعالي".  اعذروني لإفساد اللحظة ولكن لماذا ينبغي ان يكون هناك هذا العدد الهائل من الأرواح "التعيسة" والضئيلة" ، لا سيما في ظل الله الرحمن الرحيم؟  وأرجوكم ان لا تقولوا لي ان هذه الأشياء تحدث حين تكون الأديان في موقف دفاعي لأنه حتى عندما دخل الاسلام عصره الذهبي كانت الارواح صغيرة والاكاذيب كبيرة.  تذكَّروا ان الخليفة المأمون تبجح بحرية الارادة ولكنه كان يجلد الناس لاختلافهم مع تفسيره للاسلام.  لم يتغيرالكثير على هذا الصعيد اليس كذلك؟

 

وهكذا أصل الى خضتي الأخيرة للاسلام بانصاف.  وما إذا كنتُ سأُخلِّفه وراءي فان هذا عائد لي وحدي.  ولكنه بمعنى آخر عائد لنا نحن.  ما أريد رؤيته هو رغبة في الاصلاح.

 

 

 كاتبوني على الموقع www.muslim-refusenik.com .  فأنا اتطلع الى مناقشة صادقة.

 

المؤمنة ( حتى الآن )

إرشاد

 

 

حاشية:  هناك نكتة رائعة عن قس وحاخام وملا.  يلتقي الثلاثة في مؤتمر حول الدين ، ثم يجلسون مع بعضهم بعضا يتبادلون اطراف الحديث عن دياناتهم.  ينتقل الحديث الى موضوع المحرمات.

 

يقول القس للحاخام والملا ، "انتما يا سادة لا يُعقل ان تقولا لي انكما لم تأكلا قط لحم الخنزير".

"بالمرة" ، يؤكد الحاخام.

"قطعا لا" ، يصر الملا.

 

ولكن القس يبقى في شك.  "هيا ، افصحا ، ولا مرة واحدة؟  ربما في سورة تمرد عندما كنتما شبابا؟"

 

يعترف الحاخام قائلا ، "حسنا ، عندما كنتُ شابا قضمت ذات مرة قطعة من لحم الخنزير المقدَّد". 

 

ويقول الملا ضاحكا ، "اني اعترف.  ففي نوبة من طيش الشباب جرَّبتُ شرحة من لحم الخنزير مع ضلعها..."

 

ثم ينتقل الحديث الى الشعائر الدينية التي يمارسها القس. 

 

ويقول الملا ، "لا يمكنك ان تقول لي انك لم تمارس الجنس ذات يوم". 

 

يحتج القس قائلا ، "طبعا لا.  فقد أديتُ قَسَم العفة".

 

الملا والحاخام يديران عيونهم في مآقيها. 

 

يقول الحاخام مداعبا ، "ربما بعد بضعة كؤوس".

 

ويتساءل الملا ، "ربما في لحظة غواية اعترى الضعف ايمانك". 

 

يعترف القس قائلا ، "طيب طيب.  مرة واحدة.  عندما كنتُ ثملا في مدرسة دينية كانت لي علاقات جنسية مع امراءة". 

 

يقول الحاخام والملا ، "هذا ألذ من لحم الخنزير ، أليس كذلك".

 

 

 

هوامش الفصل التاسع

1 ـ ابراهيم ، حديث في هاليفاكس ، 27 سبتمبر ( ايلول ) 2002.

2 ـ Josh Tyrangiel, “Israeli Jews in the Dragnet,” Time Canada, December 10, 2001. P.41.

3 ـ David Hassan, “US to reissue Eid Stamp on Oct. 10,” Arab News, September 17, 2002, p. 1 of online version.

4 ـ WWW.isna.net

5 ـ Queen Noor, leap of Faith: Memoirs of an Unexpected Life (New York: Miramax Books, 2003),p. 18.

6 ـ محمود عبد الباسط كما ينقل عنه سولومون مور

Solomon Moore, “After the Attack:  Expressions of Support Surprising to Muslims,” Los Angeles Times, September 26, 2003.

7 ـ دوغ سوندرز Doug Saunders  في مراسلة بالبريد الالكتروني. 

وقد مضى الى الاعتراف بأن "اجراءات حماية الامن الداخلي والاعتقالات وعمليات الابعاد الجماعية وما الى ذلك اسفرت عن استهداف ثقافات اثنية كاملة في الولايات المتحدة وتجريمها جماعيا.  وما يثير الاهتمام اني لا اعتقد ان هذا قد تحول الى حملة شعبية لتصوير الاميركيين المسلمين بصورة الأشرار مثلما اقترن توقيف اليابانيين برد فعل عنصري حقيقي ضد الاسيويين بين السكان عموما.  واحسبُ ان هذا ربما يعود في جزء منه الى ان الاميركيين شعب شديد التدين وان ايمانهم المسيحي العميق جدا يجعل ممارسات الاسلام ومعتقداته تبدو معقولة تماما ، اكثر مما يجعلها تبدو في اوروبا على سبيل المثال".

8 ـ سارة الطنطاوي كما ينقل عنها سولومون مور

Solomon Moore, “After the Attack: Expressions of Support Surprising to Muslims,” Los Angeles Times, September 26, 2001.

9 ـ القرآن ، 2: 256.

10 ـ القرآن ، 109: 6.

11 ـ القرآن ، 5: 49.  وثمة آية مماثلة في 16: 93 تقول "ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة..."

12 ـ مقابلة مع تسليمة نسرين ، تورنتو ، 28 اكتوبر ( تشرين الأول ) 2002 [اقرأ النص الكامل]

13 ـ يوسي كلاين هاليفي في مراسلة بالبريد الالكتروني ، 26 فبراير ( شباط ) 2003. 

14 ـ Yossi Klein Halevi, At the Entrance to the Garden of Eden:  A Jew’s Search for God with Christians and Jews in the Holy Land (New York:  William morrow, 2001), p. 105.

15 ، نعوم كوهين ، كوميدي ومنسق برنامج هزلي عن يهود تورنتو ومسلميها.  للاطلاع على المزيد عن ذلك انظر الموقع www.mideastoptimist.com