الفصل الثالث عشر
أحوال البشر
لم تكن سيرة الأنبياء كاملة، ولو أن إبلاغهم للوحي كان كاملًا, والنقص في البشر هو حالهم جميعاً، فكلمة الله تقول: كلنا كغنم ضللنا, ملنا كل واحد إلى طريقه ,, ليس من يعمل صلاحاً, ليس ولا واحد (اشعياء 53:6 ، رومية 3:12), ونورد في هذا الفصل بعض ما عرفناه عن بعض الخلفاء الراشدين، والمبشَّرين بالجنة، وأمراء المؤمنين، كما كتب عنهم أفاضل الثقاة من علماء المسلمين, ولن نورد سير منحرفين، ولا أقوال ملاحدة - كما فعل المعترض الغير مؤمن ,
جاء في مروج الذهب للمسعودي (ج4) أن الخلافة الراشدة بدأت بخلافة أبي بكر (سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام) ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة عثمان (إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة علي (أربع سنين وسبعة أشهر), وانصرفت خلافة أبي بكر خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية، وانصرفت خلافة علي خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه في ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل، وانتهاءً بجيش معاوية في معركة صفين، ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه, وفي العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها,
وقد مات عمر مقتولًا بيد غلام من أصل مجوسي، اشتكى لعمر ثِقل خراجه فلم يسمع له، فطعنه بخنجر فقتله, ومات عثمان مقتولًا بيد المسلمين الثائرين الذين حاصروا منزله, ومات علي مقتولًا بيد عبد الرحمن بن ملجم من الخارجين على علي,
وأليس هذا مصداقاً لقول المسيح: كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (متى 26:52),
1 - أحوال عثمان بن عفان:
وهو ذو النورين وأحد العشرة الذين بشّرهم محمد بالجنة، وزوج ابنتي محمد، وجامع القرآن, وإليك ما جاء عنه في كتاب الخلافة الإسلامية للمستشار محمد سعيد العشماوي (دار سينا - القاهرة),
أخذ المسلمون على عثمان بن عفان أخطاء عدة تدلل على الفساد، منها أنهم قالوا:
أ - كان النبي قد نفى الحَكَم بن أبي العاص وطرده من المدينة، فظل طريداً طوال حياة النبي ومدة خلافة أبي بكر وعمر اللذين رفضا شفاعة عثمان فيه ليعود إلى المدينة, فلما كانت خلافة عثمان قدم الحَكَم عليه، لأنه عمُّه، فأبقاه في المدينة ولم يأمره بالخروج منها كما فعل النبي وصاحباه، أبو بكر وعمر، فآوى عثمان طريد النبي,
ب - اتخذ عثمان أقرباءه ولاةً على أمصار الإسلام, ولو أنهم كانوا من أهل الفضل والدين لكان في توليته إياهم محاباة القرابة التي بينه وبينهم، وجنوحٌ إلى عشيرته بني أمية, فكيف وهم فسقة فجار!؟
ومن هؤلاء الولاة الوليد بن عقبة بن أبي معيط (ووالده عقبة هذا عدو النبي الذي قتله صبرا، فلما قال للنبي: ومن للصِّبْية - ومنهم الوليد - يا محمد؟ قال: لهم النار) وقد ولاه عثمان أمر الكوفة، فأحدث فيها وصلى بالناس وهو مخمور، فزاد في عدد الركعات والسجدات, ولما نبّهه الناس التفت إليهم وقال لهم: هلا زدتكم! ومن ولاة عثمان - كذلك - عبد الله بن أبي سرح - وكان رضيعه - فولَّاه أمر مصر، (وكان محمد قد أمر بقتل عبد الله هذا ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة)، وعبد الله بن عامر الذي ولاه البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان الذي ولاه الشام وأطلق يده فيها, وكان معاوية هذا والياً على الشام في عهد عمر غير أنه - كما قال علي - كان أخوف لعمر من خادم عمر له),
ج - فتح عثمان خزائن بيت المال لبني أمية، وزوَّج مروان بن الحكم بنته وسلَّمه خُمس غنائم أفريقية، وقد بلغت مائتي ألف دينار, ثم استسلم عثمان في كل أموره لمروان هذا (ابن عمه) فأخذ يفسد كثيراً بسوء التصرف وسوء المشورة,
د - هذا فضلًا عن إيذاء أصحاب النبي, وممن آذاه عبد الله بن مسعود حتى انحرفت قبيلته هذيل عن عثمان بسبب ذلك، وعمار بن ياسر حتى انحرفت قبيلته بنو مخزوم عن عثمان من أجله، وأبو ذو الغفاري الذي نفاه إلى الربذة ومنعه من البقاء في المدينة أو الذهاب إلى مكة,
إذاً أخذ المسلمون على عثمان - الخليفة الثالث - ما يُسمى بفساد الحكم أو فساد الإدارة، ممثَّلًا في تعيين حكام فَسَقة غير ورعين ولا تقاة ولا أكفاء، بسبب قرابته لهم لا غير، وسوء التصرف في أموال المسلمين وبيت المال، وحماية الخارجين على القانون والنظام العام مثل الحَكَم بن أبي العاص، واضطهاد المحكومين، ونفي المعارضين، وعدم الحكم وفقاً لأوامر الله في القرآن ونهج النبي في السنّة، بل تبعاً لمشورة مروان بن الحكم بن أبي العاص, وهي أمور تعني - بلغة العصر - المحسوبية والاستيلاء على أموال الدولة، وحماية المفسدين، وعدم تنفيذ القانون، ووقف العمل بالدستور، واعتقال المعارضين!!! (عن تاريخ الطبري ج3 والملل والنحل),
ومع أن عمر وعثمان ماتا مقتولين، إلا أن عمر قُتل على يد غلام من أصل مجوسي، وترك قتله غصّة في نفوس المسلمين، بينما ما حدث لعثمان عكس ذلك، فقد قُتل على يد المسلمين الثائرين المحاصِرِين لمنزله وبإجماعٍ منهم, وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق, قال الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك (جزء 3) أن عثمان بقي بعدما قُتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة (حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حذيفة), فلما وُضع ليُصلَّى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم من الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حية المازني، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع, فقال أبو جهم: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته, فقالوا: لا والله لا يُدفن في مقابر المسلمين أبداً, فدفنوه في مقابر اليهود, فلما ملكت بنو أمية أدخلوا تلك المقبرة في البقيع, وفي رواية ثانية: أقبل عمير بن ضابيء، وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه, وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في مقابر اليهود حين رماه المسلمين بالحجارة، فاحتمى حاملوه بجدارٍ دفنوه بجواره، فوقع دفنه في مقابر اليهود!
2 - أحوال عبد الله بن عباس:
وهو ابن عم محمد، حَبْر الأمة الإسلامية وراوي الأحاديث ومرجع تفسير القرآن, وولَّاه علي بن أبي طالب على البصرة, فكتب أبو الأسود الدؤلي، وهو وزير المالية في البصرة، إلى الخليفة علي بن أبي طالب رسالة يقول فيها: عاملك، وابن عمك (عبد الله بن عباس الهاشمي) قد أكل ما تحت يده بغير علمك , فأرسل الخليفة إلى ابن عمه وواليه يسأله فيما وصل إليه, وبعد مراسلات أجاب عبد الله بن عباس برسالة استقالة إلى الخليفة جاء فيها: والله لأَنْ ألقَى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها وبطلاع ما على ظهرها أحبُّ إليَّ من أن ألقاه وقد سفكتُ دماء الأمة لأنال المُلك والإمارة, فابعث إلى عملك من أحببت , وهي استقالة تتضمن معنى التبجّح وعدم الاستحياء من أكل كل ما في بطن الأرض وما على ظهرها، طالما كان ذلك أخفّ مما عمله الخليفة وأمير المؤمنين على بن أبي طالب - الذي يقول عنه ابن عباس ابن عمه وابن عم النبي إنه سفك دماء أمة المسلمين في سبيل المُلك والإمارة, وبعد هذه الاستقالة العجيبة جمع ابن عباس ما كان قد تبقّى من أموالٍ في بيت المال، ويُقدَّر بحوالي ستة ملايين درهم، واحتمى بأخواله من قبيلة بني هلال حيث كانوا معه في البصرة، ومضى بالمال حتى بلغ البيت الحرام في مكة فأصبح آمناً فيه, ولما كتب إليه الخليفة علي يطلب إليه ردّ الأمانة، أجاب ابن عباس: ,, إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذتُ منه (يقصد اختلس منه) ,, ثم يحذر الخليفة قائلًا: ,, لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنَّ هذا المال إلى معاوية يقاتلك به!!! (تاريخ الطبري ج4 - و الفتنة الكبرى لطه حسين),
لقد ضلَّ ابن عباس في خطئه عندما أرسل إليه الخليفة علي يحاسبه، فلم يرعوِ ولم ينتهِ وإنما أسرف وبغى وطغى، فحمل ما بقي من مال في بيت المال, وعاونه في نقل المال (بعد الاستيلاء عليه) والفرار به أخوالُه من بني هلال، دون أن ينصحوه بتقوى الله وتَرْك الحرام!! وقد ذهب بالمال الحرام إلى مكة البيت الحرام، دون أن يعبأ بالتناقض في ذلك, وفي مكة لم يقف المؤمنون في وجهه ولم يقاطعوه ولم يحتقروه ويزدروه لما فعل، فعاش آمناً مطمئناً رغم كل القيم الإسلامية, وعندما حاول الخليفة وأمير المؤمنين أن يحاسبه لم يستطع ذلك ولم يقدر عليه, وقد عرّض ابن عباس (المختلس) بالخليفة الذي أراد أن يحاسبه، وادَّعى أن له حقاً في بيت المال أكثر مما أخذ، دون أن يبيّن أساس هذا الحق، وهل هو قرابته للنبي، أو ورعه، أم تقواه، أم علمه، أم فقهه، أم كونه مثلًا للمسلمين ونموذجاً للخلُق الإسلامي!؟ وقد اتهم الخليفةَ أميرَ المؤمنين بأنه سفك دماء المسلمين في سبيل المُلك والإمارة (لا في سبيل الله!!) فاعتبر الخلافة ملكاً (وكان بذلك أول من صرح بأنها مُلك) وادّعى على الخليفة الإفساد في الأرض (أي اتهمه بالخيانة العظمى) بقتل المسلمين وسفك دمائهم في سبيل الحصول على المُلك والوصول إلى الإمارة!!
بهذا كله، من مَثَلٍ ومُثُل، بدأ الفساد في صميم الخلافة الراشدة، ثم انتشر واستشرى فيما بعد,
3 - أحوال يزيد بن معاوية:
هو الذي تولى الخلافة بعد والده معاوية بن أبي سفيان وهو صاحب القول المشهور:
لعبَتْ هاشمُ بالمُلْكِ فلا مَلَكٌ جاء ولا وحيٌ نَزَل
ويروي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (مجلد 5 جزء 9) قصة وفاة يزيد، فقال: كان يزيد يحب حظية جميلة جداً من حظاياه اسمها حبَّابة، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار من عثمان بن سهيل بن حنيف, فقال له أخوه سليمان: لقد هممتُ أن أحجر على يديك , فباعها, فلما أفضت إليه الخلافة قالت امرأته سعدة يوماً: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: نعم، حبابة , فبعثت امرأته فاشترتها له ولبّستها وصنَّعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضاً: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: أَوَمَا أخبرتُك؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزتها وأخلَتْه بها وتركته وإياها - فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضاً, فقال يوماً: أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد , ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة, فبينما هو معها في ذلك القصر، على أسرّ حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك، فشرقت بها وماتت، فمكث أياماً يقبّلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها, فلما دفنها أقام أياماً عندها على قبرها هائماً، ثم رجع، فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه , (ويذكر المسعودي نفس الرواية في مروج الذهب ج3)
والقصة كما يذكرها ابن كثير، نموذج فريد لصحيح العشق، وأصيل الغرام، ولا بأس أن تذوب لها قلوب الصبية، وتنفطر لها قلوب الصبايا، وتسيل من أجلها دموع المحبين، لكنها - في تقديرنا - شاذة أشدّ ما يكون الشذوذ، بعيدة أكثر ما يكون البعد، عندما يتعلق الأمر بمن يسمِّيه المسلمون أنه أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخادم الحرمين، وحامي حمى الإيمان، والملتزم بأحكام القرآن، وبسنّة نبيّ الرحمن !
4 - أحوال أبي جعفر المنصور:
جاء في تاريخ الوزراء والكتَّاب للجهشياري أن ابن المقفع أرسل للخليفة أبي جعفر المنصور كتاباً صغير الحجم، عظيم القيمة أسماه رسالة الصحابة (حوالي سنة 142 ه_) نصح فيه الخليفة بحُسن اختيار معاونيه، وحُسن سياسة الرعية, وكان في نصحه رفيقاً, ولعله كان ينتظر من المنصور تقديراً أدبياً ومادياً يليق بجهده, ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور الأديب (في رأي المنصور) أن يمدَحه، ومنتهى دَوْر المفكّر أن يؤيّده، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يُفعَل به كما فُعل بابن المقفع, فقد قال له المنصور: سأقتلك قتلةً لم يُقتَل بها أحد قط , وأمر بتنوّر فسُجر ثم أمر بأن يُقطع منه عضو ثم يُلقى في التنور، وابن المقفع ينظر, فلم يزل يقطع منه عضواً عضواً حتى ألقى بباقي جثته فيه وقال: لأحرقنَّك بنار الدنيا قبل نار الآخرة , وحُكي أن سفيان لما أُمر بتقطيع ابن المقفع وطرحه في التنور، قال ابن المقفع: إنك لتقتلني فتقتل بقتلي ألف نفس, ولو قُتل مائة مثلك ما وفوا بواحد , ثم أنشد هذين البيتين:
إذا ما مات مثلي، مات شخصٌ يموتُ بموْته خَلْقٌ كثير
وأنت تموت وحدك، ليس يدري بموتك لا الصغيرُ ولا الكبيرُ
هذه أيها القارئ أحوال من يطلق عليهم المعترض الغير مؤمن القادة العظماء - فالإنسان خطّاء، يحتاج للتوبة والرجوع إلى الله, وما لم يدركه الله بغفرانه فلن ينصلح حاله, ونحن اليوم نحيا عهد النعمة الذي جاءنا في المسيح، الذي في كفارته يهبنا الغفران,