16 - أزمات إيمانية في حياة محمد
قاسى محمد أزمات إيمانية من حين لآخر، بلغت عنده مبلغ الشك من وحيه، حتى أنزل إليه: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك, لقد جاءك الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (يونس 94 ، 95),
أ - لما اصطدم محمد في دعوته الأولى بزعماء قومه وأظهروا له ولجماعته العداء، تراءى له أن يتساهل معهم في استشفاع آلهتهم: اللّات والعُزَّى ومناة، فقرأ بمكة سورة النجم، فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لتُرتجى , فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم, فسجد، فسجدوا فنزلت: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته، فينسَخ الله ما يُلقي الشيطان، ثم يُحْكم الله آياته (الحج 52),
وهذا يقرر مبدأ إلقاء الشيطان في قراءة النبي, ويقول السيوطي في أسباب النزول: جلس محمد في بيته حتى إذا أمسى أتاه جبريل، فعرض عليه النبي سورة النجم، فقال جبريل: أَوَجئتك بهاتين الكلمتين؟ فقال محمد: قلتُ على الله ما لم يقل ,
ب - بعد أن نفى النبي إن شفاعتهنَّ لتُرتجى عادت الحرب سجالًا بين النبي وبين ملإ قريش، فأظهر تكريمه لمكة بالقَسَم بها، كما يُقْسم بمهبط الوحي المسيحي والإسرائيلي، فقال: والتين والزيتون! وطور سينين! وهذا البلد الأمين! (التين 95:1-3) فهل يصحّ أن يُقسِم بمكة ولم تتطهر من الأصنام؟ فلام نفسه، ثم استحلّ القَسَم لوجوده فيها: لا! أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد! ووالد وما ولد! لقد خلقنا الإنسان في كبد (البلد 90:1-3), ثم تساهل بعبادة رب البيت فقال: لإيلاف قريش: فليعبدوا رب هذا البيت! الذي أطعمهم من جوع وآمَنَهم من خوف (قريش 106:1 ، 3 ، 4), والبيت الحرام لم يطهر بعد من الأصنام، فمن هو ربّه حتى يسمح بعبادته؟ لذلك توالت عليه التحذيرات خذ العفو، وأْمُرْ بالعُرف، وأَعرض عن الجاهلين! وإما ينزغنَّك من الشيطان نَزْع فاستعِذ بالله إنه سميع عليم, إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (الأعراف 7: 199-201),
ج - رجع بعض جماعة محمد من الحبشة، وتجددت المعارضة لمحمد حتى أشْقَته، فنزل تسليةً له: طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشْقَى (طه 20:1 ، 2), وحاول محمد في سورة النمل أن يجمع بين عبادة الله الأحد وعبادة ربِّ مكة: إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة، الذي حرّمها وله كل شيء! وأُمرت أن أكون من المسلمين (النمل 27:91), فإن كان رب مكة هو الله، إله التوحيد والإسلام، فما معنى دعوة القرآن؟ وإن كان رب مكة غيره فكيف يُؤمَر محمد بعبادته؟- وإنما هذا تساهل جديد كالذي ورد في سورة قريش، فجاء جواب الله: وما كنت ترجو أن يُلقَى إليك الكتابُ إلا رحمةً من ربك، فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين! ولا يصدُّنَّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك! وادْعُ إلى ربك ولا تكونن من المشركين! ولا تدْعُ مع الله إلهاً آخر، لا إله إلا هو (القصص 28:86-88), كما قيل للنبي في سورة الإسراء: وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذاً لّاتخذوك خليلًا! ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلًا، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً (الإسراء 17:73-75),
د - وقد بلغت الفتنة عن الوحي والتوحيد مداها من نفس محمد حتى شكَّ في الوحي القرآني، كما جاء في سورة يونس: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جاءك الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذّبوا بآيات الله فتكوننَّ من الخاسرين (يونس 94 ، 95) إذاً قد بلغت أزمة الإيمان بالقرآن والتوحيد من نفس محمد الذروة من الشك والمريَّة والتكذيب بآيات الله !,
ه - ويظهر أن سبب هذه الأزمة الإيمانية الأخيرة كان عجز محمد عن إتيان المعجزات كدليلٍ على نبوَّته، فقيل له: فلعلك تارك بعضَ ما يوحَى إليك، وضائقٌ به صدرك أن يقولوا: لولا أُنزل عليه كنز! أو جاء معه مَلَك! - إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل (هود 11:12),
لقد أوشك في هذه الأزمة الجديدة أن يترك بعض ما أُوحي إليه، وذلك بسبب امتناع المعجزة عنه,
و - ويشدد القرآن على الاستقامة في الدين والإخلاص في التوحيد بطريقة سافرة, قُلْ إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأُمرت أن أكون أول المسلمين, قل: إني أخاف، إن عصيت ربي، عذاب يوم عظيم! قل: الله أعبد مخلصاً له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه (الزمر 39:11-14), كما قيل: فاستقم كما أُمرت ولا تتبع أهواءهم، قل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب (الشورى 42:15),
ز - ورجع النبي من الطائف ليرى أن أزمة الإيمان بلغت منه ومن جماعته أقصى مداها, لقد بدَّل آياتٍ، فشعر بذلك المشركون فشنَّعوا عليه، وحملوا بعض جماعته على الارتداد عنه وعن الإسلام, ولعل آيات النحل 16:106 - 109 تشير إلى هذه الأزمة, عندها قيل للنبي: وإذا بدَّلنا آيةً مكان أيةٍ، والله أعلم بما ينزل، قالوا: إنما أنت مفترٍ, بل أكثرهم لا يعلمون (النحل 101) - وما كان لرسول الله أن يأتي بآيةٍ إلا بإذن الله, لكل أجلٍ كتاب, يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب (الرعد 13:38 ، 39),