نقد الخطاب الديني
رد
الظواهر إلى مبدأ واحد
أن الحديث عن إسلام واحد ثابت المعنى ، لا يبلغه إلا العلماء يمثل جزءا من بنية
آلية أوسع في الخطاب الديني وليست هذه الآلية من البساطة والبداهة التي تبدو
بها في الوجدان الشعور الديني العادي والطبيعي ، بل نجدها في الخطاب الديني ذات
أبعاد خطيرة تهدد المجتمع ، وتكاد تشل فاعليته "العقل" في شؤون الحياة والواقع
ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي ،
فيوظفها على أساس أنها أحد مسلمات العقيدة التي لا تناقش ، وإن كانت كل العقائد
تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول – هو الله في الإسلام –
فإن الخطاب الديني – لا العقيدة – هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية
والاجتماعية ، بردها جميعاً إلى ذلك المبدأ الأول أنه يقوم بإحلال الله في الواقع
العيني المباشر ، ويرد إليه كل ما يقع فيه وفي هذا الإحلال يتم تلقائياً
– نفى الإنسان كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية ومصادره أية معرفة لا
سند لها من الخطاب الديني ، أو من سلطة العلماء .
وفي هذا الخطاب ، وبفضل هذه الآلية ، تبدو أجزاء العالم مشتتة ، وتبدو الطبيعة
مبعثرة ، إلا من الخبط الذي يشد كل جزء من العالم أو من الطبيعة إلى الخالق
والمبدع الأول ، ولا يمكن لمثل هذا التصور أن ينتج أية معرفة "علمية" بالعالم أو
بالطبيعة ، ناهيك بالمجتمع أو بالإنسان . هذا التصور امتداد للموقف
"الأشعرى" القديم ، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب "جبرية"
شاملة ، تمثل غطاء إيديولوجيا للجبرية الاجتماعية والسياسية في الواقع .
وإذا كنـا لا نريد استباق مناقشة آلية الاستناد إلى التراث ألان فإنـنـا نكتفي هنا
برصد التشابه في توظيف الآلية إن معاداة "العلمانية" والهجوم المستمر عليها
في الخطاب الديني المعاصر يرتد – في جانب آخر – إلى أنها تجرده من السلطة المقدسة
التي يدعيها لنفسه حين يزعم امتلاكه للحقيقة المطلقة الكاملة ، ورغم
استنكار الخطاب الديني لموقف رجال الكنسية في بدايات عصر يستنكره نظريا ، وهذه نقطة
سنعود لها في سياق هذه الفقرة بعد قليل .
إن رد الظواهر كلها "طبيعية واجتماعية" إلى علة أولى أو مبدأ أول ، من شأنه أن يقود
بالضرورة إلى "الحاكمية" الإلهية بوصفها مقابلا ونقيضا لحاكمية البشر ،
وهكذا ترتبط هذه الآلية بمفهوم "الحاكمية" وهو أحد المنطلقات الأساسية في الخطاب
الديني ليساهما معاً في الهجوم على العلمانية ، أن العلمانية تنسجم مع
التفكير الغربي الذي ينظر إلى الله على أنه خلق العالم ثم تركه ، فعلاقته به علاقة
صانع الساعة بالساعة صنعها أول مره ثم تركها تدور بغير حاجة إليه وهذا
الفكر موروث من فلسفة اليونان وخاصة فلسفة أرسطو الذي لا يدبر الإله عنده شيئاً من
أمر العالم .. بخلاف نظرتنـا نحن المسلمين إلى الله فهو خالق الخلق ومالك
الملك ومدبر الأمر الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا ووسعت رحمته كل شيء
ورزقه كل حي ، لهذا أنزل الشرائع أحل الحلال وحرم الحرام وقرض على عباده أن يلتزموا
بما شرع ويحكموا بما أنزل وإلا كفروا وظلموا وفسقوا . وليس مهما هنا أن يكون مثال
"الساعة وصانعها" معبراً عما يسميه الكاتب "التفكير الغربي" كله فالدقة العلمية
ليست مطلباً في الخطاب الديني بل المهم هو ما يحمله الوصف "غربي" من دلالات
وإيحاءات "بغيضة" في واقع عانى – وما زال يعاني – من سيطرة الاستعمار الغربي
واستغلال حلفائه المحليين .. المهم – من منظور هذا الخطاب – مد سيطرته من خلال
تكريس مبدأ "الحاكمية" الذي يرد كل شيء إلى الله ويلغى فاعلية الإنسان .
ولا يكتفي الخطاب الديني بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب ، بل يوظفها
أيضاً في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولاته لتفسير
الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهما ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه
الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة متهالكة في تغيير الخطاب الديني
عنها ، يتم اختزال "العلمانية" الأوربية في صفة واحدة في مناهضة الدين ، أي أنها
تتحول إلى حركة لا دينية مبدؤها الرئيسي وشغلها الشاغل "فصل الدين عن
الدولة" لكن الغريب في الخطاب الديني أن يتباكى على ما حدث من تأصيل لهذا المبدأ في
الوقع الأوربي رغم إدراكه الواضح لمسئولية رجال الكنيسة بسبب
مناهضتهم الدموية – باسم الدين والعقيدة – للعلم والعلماء ، وبدلاً من أن يحاذر
الخطاب الديني مقارفة نفس الخطيئة يضع نفسه في خندق الكنيسة ذاته بمهاجمة
العلمانية وتكفيرها بوصفها "ردة" رغم أن العلمانية أبعد ما تكون عن التأصيل في واقع
المجتمعات الإسلامية فإن الخطاب الديني – في سعيه الدائم لمدة سيطرته
ولتأييد الواقع الراهن – يتحدث عنها بوصفها خطراً ماثلاً "المنكر يستعلن " والفساد
يستشري ، والعلمانية تتحدث بملء فيها ويحرص هذا الخطاب حرصا له دلالته
ومغزاه على الربط بين العلمانية المزعوم خطرها وبين الماركسية بعد أن يقوم باختزال
هذه الأخيرة أيضا في الإلحاد بل يتجاوز ذلك إلى الربط بين كليهما وبين
الحركة الصهيونية فيضيف "والماركسية تدعو إلى نفسها بلا خجل والصليبية تخطط وتعمل
بلا وجل" وتصل المبالغة إلى حد الزعم "أن عندنا الألف العلمانيين من
أتباع ماركس وهيدجر وسارتر قد تعلموا أن يسايروا كل ما يأتي من أوروبا .. إنهم
يؤمنون بنظرية المسايرة إيمانا قوياً" …
وليس هذا الخلط مما يعنينا مناقشته هنا بقدر ما يعنينا الكشف عن توظيف آلية "رد
الظواهر إلى مبدأ واحد" في الخطاب الديني ، وقد ألمحنا إلى اختزال الماركسية في
الإلحاد والمادية ، فليس مهماً على الإطلاق في أي سياق ورد قول ماركس أن "الدين
أفيون الشعوب" وليس مهماً كذلك أن يكون هذا القول موجهاً إلى الفكر الديني والتأويل
الرجعي للدين ، لا إلى الدين ذاته ، بل المهم أن يؤدي هذا الاختزال غايته
الإيديولوجية ، وهكذا يؤكد الخطاب الديني – بمثل هذا التأويل والاختزال –
مقولة ماركس ، في حين أراد أن يدحضها ، وبالطريقة نفسها يتم اختزال "الداروينية" في
مقولة يصوغها الخطاب الديني بشكل منفر ، وهي "حيوانية الإنسان"
ويتم بالمثل اختزال "الفرويدية" في "وحل الجنس" يتحدث سيد قطب عن تاريخ الفكر
الأوربي ويرى أنه بدأ ثورته على الكنيسة وعلى التصورات الكنيسة بـ"تأليه العقل" –
لاحظ الصياغة – ثم انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر ، وابتدأ القرن
التاسع عشر بضربة قاصمة التي تنشئ هذا العقل ، وهي التي تطبـع في حس الإنسان ما
تراه ، بذلك تضاءل دور العقل وتضاءل معه الإنسان ، لم يعد هذا الإنسان إله نفسه ولا
إله شيء من الأشياء إنما أصبح من مخاليق الطبيعة ومن عبيد هذا الأله ثم جاء دوارين
بحيوانية الإنسان ثم تمت الضربة القاضية على يد فرويد من جانب وكارل ماركس من
الجانب الآخر الأول يرد دوافع الإنسان كلها إلى الميول الجنسية وبصورة غارقاً في
وجل الجنس إلى الأذقان والثاني يرد تطورات التاريخ كلها إلى الاقتصاد ويصور الإنسان
مخلوقا ضيئلاً سلبياً ، لا حول ولا قوة أمام إله الاقتصاد بل اله أداة الإنتاج .
ليس مهماً أيضاً في سياق الخطاب الديني إهدار مبدأ الجدل الذي يعد من أسس الفكر
الماركسي ومن أولياته ، وليس مهماً دعواه أنه فكر يهدف إلى تغيير العالم – لا
مجرد تفسيره – بتغيير الإنسان بوصفه أداة التغيير والفاعل في التاريخ والواقع
فالخطاب الديني لا يستهدف الوعي بقدر ما يهدف إلى التشويش الإيديولوجي وقد حاول
الخطاب الديني مؤخراً أن ينفي عن هجومه على العلمانية معاداة العلم والمعرفة
العقلية فلجأ إلى حيلة "تكتيكية" كشفت – عكس المراد منها – عن تهافت هذا الخطاب
وتناقض مقولاته ومنطلقاته لجأ بعضهم إلى إعادة اختزال الحركة عن طريق ترجمة المصطلح
الدال عليها إلى الدنيوية بدلاً من العلمانية غافلاً عن أن مثل هذا التوجيه يضع
الحركة الإسلامية المعاصرة في الجانب النقيض للمفهوم من الدنيوية وهو الأخروية ،
الأمر الذي يتناقض مع المنطلق الرئيسي لهذه الحركة والذي يذهب إلى أن الإسلام "دين
ودنيا" وهكذا نرى أن آلية رد الظواهر إلى مبدأ واحد تكاد تكون آلية فاعلة في معظم
جوانب الخطاب الديني ، وأنها آلية لا علاقة لها
بالشعور الديني الطبيعي والعادي وإن كانت تحاول الاستناد إليه لأهداف إيديولوجية .