نقد الخطاب الديني

 الاعتماد على سلطة التراث والسلف :


مرت بنا بعض الشواهد الدالة على كيفية توظيف هذه الآلية في الخطاب الديني ، وذلك عن طريق تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى نصوص لا تقبل النقاش ، أو إعادة النظر والاجتهاد ، بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته ، وبعبارة أخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية "التوحيد بين الفكر والدين" في توظيف هذه الآلية ، أما بالنسبة للآلية الثانية "آلية تفسير الظواهر بردها إلى مبدأ واحد فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر ومن الواضح أن الخطاب الديني يعتمد تجاهل جانب آخر من التراث ، يناهض توظيف هذه الآلية ويردها على أصحابها وهذا في حقيقة يمثل موقفاً نفعياً إيديولوجيا من التراث موقفاً يستبعد منه العقلي والمستنير ليكرس الرجعي المتخلف ولعل هذا ما يدفع البعض لاستخدام نفس الآلية مستنداً إلى العقل المستنير في التراث متوهماً بذلك أنه يمكن أن بحارب التخلف بنفس صلاحه ، ومتصوراً أنه يستطيع بنفس السلاح هزيمته والحقيقة أن هذا الموقف النفعي من التراث الخطاب الديني يساعده في تظيف آلية إهدار البعد التاريخي وذلك كما سيتضح حين نتعرض بالتحليل لهذه الآلية .
سبق وأن أشرنـا إلى أن المسلمين كانوا على وعي بوجود مجالات لفعالية النصوص ومجالات أخرى لفعالية العقل والخبرة لا فعالية للنصوص فيها ، وقد ظل هذا الوعي حياً حاضراً في ضمير الجماعات والأفراد ، ولم ينل من وضوحه في العقل والضمير تلك الخلافات الدامية التي ظل المسلمين ينظرون إليها بوصفها خلافات "مصالح دنيوية" لا خلافات عقائد دينية ، وقد كان الأمويون لا الخوارج على عكس ما يروج الخطاب الديني المعاصر – هم الذين طرحوا مفهوم الحاكمية بكل ما يشمل عليه من دعوى فعالية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح وذلك حين استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على آسنة السيوف داعين إلى الاحتكام إلى كتاب الله وهذه المسألة سنعود إليها تفصيلاً في مجال تحليل مفهوم الحاكمية لكنها هنا تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي وهي عملية ظل النظام الأموي يمارسها بحكم افتقاده إلى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي وقد ظل الاتجاه إلى الأسلوب الأموي مسلكاً سائداً في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية .
احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ "الحاكمية" الذي غرسه فكانت مقولة "الجبر" التي تسند كل ما يحدث في العالم – بما في ذلك أفعال الإنسان إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة تم تحول هذا المبدأ من بعد وتطور مع تطور الفكر الأشعرب قد حاول في مجال الفعل الإنساني أن يقيم نسبة ما بين الفاعل والفعل أطلق عليها أسم الكسب فإنه في مجال الطبيعة يجعل العمل لله مباشرة ، يذهب الغزالي في رده على الفلاسفة إلى أن الله هو الفعال على الحقيقة في كل جزيئات العالم وأحداثه وان هذا هو معنى الخلق والفعل ، وإذا كان معنى الخلق – كما يفهمه الغزالي من النصوص وإذن كان يوحد بينه وبين العقيدة ذاتها – هو الإيجاد من العدم في كل لحظة فإنه هو أيضاً معنى الفعل وهو "إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه " ومن الطبيعي بعد هذا التوحيد بين الخلق والفعل أن ينكر الغزالي الفعل الطبيعي وذلك ليتجنب الإيهام بان الطبيعة خالقة إن وصف الطبيعة بأنها فاعلة تعبير متناقض من المنظور الغزالي فالإحراق لا يتسبب ضرورة عن النار لأن العلاقة بينهما علاقة لزوم لا علاقة ضرورية إنها أشبه بالعلاقة بين المصباح والضوء أو العلاقة بين الشخصين والظل وهذه ليست علاقة ضرورية وليست من ثم من الفعل في شيء إلا على سبيل التوسع والمجاز. وليس من الضروري – فيما يرى الغزالي – إذا قلنـا إن الله سبب وجود العالم وإن المصباح سبب وجود الضوء أن نستنتج من ذلك أن المصباح فاعل ذلك أن الفاعل لا يكون فاعلاً صانعاً بمجرد أن يكون سبباً ولكنه يكون فاعلا لأنه سبب الفعل على وجه مخصوص أي على وجه الإرادة والاختيار ومن الوضوح أن الغزالي أوقع نفسه في إشكالية لغوية وفي شبكة من الألفاظ المترابطة كالفعل والخلق والخالق ، وأنه – علاوة على ذلك – خلط بين مجالات الفكر الديني الكلامي – المستند إلى مفاهيم أشعريه – وبين مجالات البحث في الطبيعة وانتهى به ذلك إلى إهدار قوانين السببية من هنا جاء الاعتقاد الذي ساد الخطاب الديني في الثقافة العربية أن النار لا تحرق وأن السكين لا تقطع وأن الله هو الفاعل من وراء كل الأسباب .
وحين يستند الخطاب الديني المعاصر إلى هذا الجانب من التراث فإنه يتعمد تجاهل الجانب الآخر مثل اتجاه أصحاب الطبائع من المعتزلة والفلاسفة ويتم ذلك في أحيان كثيرة بإضفاء صفة القداسة الدينية على الاتجاه الأول ورد الاتجاه الثاني إلى تأثيرات أجنبية انحرفت به عن الإسلام الحقيقي ها هو سيد قطب يحدثنا عن الجيل القرآني الفريد – جيل الصحابة – الذي يرتد تفرده – من منظور الكاتب – إلى أنه استقى معرفته ووعيه من نبع القرآن وحده ثم ما الذي حدث .؟ اختلطت الينابيع صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم وعلم الكلام كما اختلط بالفقه والأصول أيضاً ، وتخرج من ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل فلم يتكرر ذاك الجيل ولا ينبغي أن نخدع هنا بهذا التعميم الذي يسحبه الكاتب على عصور الإسلام كلها – حاشى العصر الأول – من أنها خضعت لكارثة اختلاط الينابيع ذلك أنه كما سنشير بعد قليل – يعتمد كثيراً من اجتهادات بعض فقهاء تلك العصور ومفكريها .
ورغم هذا الموقف الانتقائي "النفعي" من التراث – أو ربما بسببه – لا يتورع الخطاب الديني عن التفاخر بهذا الجانب الذي يرفضه من التراث ولكن هذا التفاخر
ينحصر في مجال المقارنة بين أوربا القرون الوسطى وبين حضارة المسلمين وكيف تأثروا أوروبا بمنهج التفكير العقلي عند المسلمين خاصة في مجال العلوم الطبيعية وليست هذه المباهاة في حقيقتها إلا مبرراً يطرحه الخطاب الديني يسمح للمسلم بـ استيراد الثمرات المادية للتقدم الأوروبي والثورة الصناعية بوصفها " بضاعتنا ردت إلينا " – طبقاً للخطاب الديني – نسترد ثمرات "المنهج التجريبي" الذي أخذته أوروبا عن أسلافنا لكننـا لا نأخذ عنها ما سوى ذلك من "كفر" والعياذ بالله يقصد العلمانية ذلك لأنه أوروبا قطعت ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية وشردت به بعيداً عن الله في أثناء شرودها عن الكنيسة التي كانت تستطيل على الناس بغياً وعدواناً باسم الله وهكذا يخضع الإنجاز الأوروبي لمثل ما خضع له التراث من انتقائية ونفعية .
ولا يكتفي الخطاب الديني في استناده إلى التراث بآلية "رد الظاهر إلى مبدأ واحد " بل يعتمد نفس المنهج الانتقائي النفعي حين يتعرض بالنقاش لكثير من القضايا حين نناقش مشكلة النصوص فمن المفيد في هذا السياق الإشارة إليها يعتمد سيد قطب – مثلا – تقسيم ابن القيم لعلاقة المجتمع المسلم بغير المسلمين عامة وهو – قطب – بصدد مناقشة مبدأ الجهاد وليس يهمنا هنا مناقشة رأي قطب أو رأي ابن القيم إنما الهام هو التسليم باجتهاد ابن القيم دون مناقشة والأهم من ذلك التسوية بين ذلك الاجتهاد وبين الإسلام ذاته يقول قطب عن المواقف التي حددها ابن القيم للمسلمين من غير المسلمين "وهذه المواقف هي المواقف المنطقية التي تتفق مع طبيعة هذا الدين وأهدافه ، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر" وحين نناقش في تفسيره حد السرقة ومجال تطبيقه ، لا يناقش تصورات الفقهاء الذين يعتمد عليهم إنما يورد آراءهم مورد "النصوص" التي لا تقبل ولا ينتبه لخطورة هذه الآراء إذا ما طبقت في الوقع الراهن كما يحلم بذلك كل من يطلقون على أنفسهم اسم "الإسلاميين" وطبقاً لهذه الآراء التي يوردها قطب يشترط في المسروق الذي يقام فيه الحد أن يكون في مكان مغلق أو بتعبير الفقهاء "أن يكون محرزاً وأن يأخذه السارق من حرزه ويخرج به عنه" وهذا معناه أنه لا يعد سارقاً يقام عليه الحد كل من يهرب من البلاد بعد أن يستولي على أموال بعض المواطنين – أو يحصل على قروض من البنوك – ما دامت هذه الأموال لم تكن محرزة ، وثمة شرط آخر أشد خطورة وهو ألا يكون للسارق في المال المسروق نصيب ، أي أن يكون المال مملوكاً ملكية خاصة للمسروق منه وبديهي أن هذا الشرط لا يتوافر في بيت مال المسلمين أو الخزانة العامة فكل من يستولي على بعض هذا المال العام أو كله لا يقام عليه الحد لأن له "نصيباً فيه فليس خالصاً للغير" وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص وهذا هو الإسلام الذي يطرحه الخطاب الديني على الناس ويبشرهم بأنه قادر على حل مشكلات الواقع .
ويكاد الخطاب الديني المعاصر – علاوة على ذلك – يتمسك بالشكليات ويحرص عليها مهدراً كليات الشريعة ومقاصدها فالعبادات عند كثير من المتكلمين والفلاسفة وعلماء أصول الفقه – مثلها مثل التشريعات – تهدف إلى نفع الناس وتحقيق المصالح ، ذلك أن الإنسان هو الغاية وهو الهدف في كل ما جاء به الدين من عبادات أو معاملات ، ولكن بعض العلماء فصلوا بين العبادات والمعاملات وأخرجوا الأولى من مجال المقاصد والمصالح وهذا هو الموقف الذي يتبناه الخطاب الديني المعاصر ويدافع عنه ويطلق على أصحابه في التراث اسم المحققين تمويهاً بأن الاجتهاد الآخر ليس صائباً ، وأن أصحابه ليسوا من المحققين . يقول القرضاوي : " وأنا مع المحققين من علماء المسلمين في أن الأصل في العبادات هو التعبد بها دون نظر إلى ما فيها من مصالح ومقاصد بخلاف ما يتعلق بالعادات والمعاملات .. فلا يجوز أن يقال إن إنفاق المال على فقراء المسلمين أو على المشاريع الإسلامية النافعة أهم من فريضة الحج الأول أو أن يقال : أن التصدق بثمن هدى التمتع والقران في الحج الأولى من ذبح النسك الذي تعظم به شعائر الله ولا يجوز أن يقال : أن الضرائب الحديثة تغني عن الزكاة ثالثة دعائم الإسلام شقيقة الصلاة في القرآن والسنة المطهرة "

الصفحة الرئيسية