نقد الخطاب الديني
إهدار البعد التاريخي
تبدو هذه الآلية واضحة وضوحاً ساطعاً في كل جوانب الخطاب الديني فضلاً عن منطلقاته
الأساسية ، تبدو واضحة كما سبقت الإشارة في وهم التطابق بين المعنى الإنساني –
الاجتهاد الفكري – الآني وبين النصوص الأصلية والتي تنتمي من حيث لغتها على الأقل
إلى الماضي وهو وهم يؤدي إلى مشكلات خطيرة على المستوى العقيدي لا ينتبه لها الخطاب
الديني يؤدي التوحيد بين الفكر والدين إلى التوحيد مباشرة بين الإنساني والإلهي
وإضفاء قداسة على الإنساني والزماني ولعل هذا يفسر لنا تردد كثير من الكتاب في
تخطئة كثير من آراء علماء الدين ، بل والتستر أحياناً على هذه الآراء وتبريرها وإذا
كنـا في مجال تحليل النصوص الأدبية – وهي نتائج عقل بشري مثلنـا – لا نزعم تطابق
التفسير مع النص أو مع قصد كاتبه فإن الخطاب الديني لا يكتفي بإهدار البعد التاريخي
الذي يفصله عن زمان النص بل يزعم لنفسه قدرة على الوصول إلى القصد الإلهي .
وبالدرجة نفسها من الوضوح يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات
الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه ، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي
للتطبيق على الحاضر ، ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث واعتماد نصوصهم بوصفها
نصوصاً أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية ، تكثيفاً لآلية إهدار البعد
التاريخي ، وكلتـا الآليتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات
الواقع الفعلية في الخطاب الديني ، ومن هذه الزاوية نلمح التفاعل بين هذه الآلية
وبين الآلية الثانية : "رد الظواهر إلى مبدأ واحد" خاصة فيما يرتبط بتفسير الظواهر
الاجتماعية إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية – بل وكل أزمات
البشريـة – إلى "البعد عن منهج الله" هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق
التاريخية وإلقاءها في دائرة المطلق والغيبي والنتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج
تأييد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه والوقوف جنباً إلى جنب مع التخلف ضد كل قوى
التقدم ، تناقضاً مع ظاهر الخطاب الذي يبدو ساعياً للإصلاح والتغيير منادياً
بالتقدم والتطوير .
ولعله يكفينا هنا الكشف عن توظيف هذه الآلية في استخدام الخطاب الديني لمصطلح
"الجاهلية" ما دمنـا سنعاود الكشف عن توظيفها – وتوظيف غيرها من الآليات – في سياق
تحليلنا للمنطلقات الفكرية ، ومن البداية لا يجب الخلط بين الجهل – بمعنى انعدام
العلم والمعرفة في لغتنا المعاصرة – وبين الجهل المناقض للحلم في اللغة العربية قبل
الإسلام .
الجهل في لغة ما قبل الإسلام يعني الخضوع لسطوة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة
دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق وهكذا نفهم افتخار بعض شعراء هذا العصر
بالقدرة على مقابلة الجهل بهذا المعنى بمثله وذلك كقول بعضهم :
إلا لا يجهلَن أحد علينا.......... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقول لآخر :
أحلامنا
تزن الجبال رزانة ........ وتخالنـا جناً إذا ما نجهل
فالجهل هنا ينصب على السلوك المنافي للعقل والمنطق وهو – كما يفهم من سياق
الاستخدام في شعر ما قبل الإسلام – العنوان الذي لا سبب له ولا مبرر من جهة العقل
والمنطق أنه في التأويل الاجتماعي للغة الاستناد إلى مبدأ القوة والقهر في العلاقات
بين القبائل من جهة وبين الأفراد والجماعات (بطون القبائل) داخل القبيلة من جهة
أخرى ، أنه المبدأ الذي صاغه زهير بن أبي سلمى الشاعر في قوله :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه......... يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم
ولا شك أن العلاقات الاجتماعية القائمة على الظلم / الجهل كانت من أهم أسباب التخلف
العام في ذلك الواقع ، وكان من أخطر ما جاء به الإسلام لتطوير هذا
الواقع مبدأ الاحتكام إلى العقل ونفي الظلم والجهل ، ويمكن استناداً إلى هذه
الحقيقة فهم كل ما جاءت به النصوص الدينية الأولية من تنديد بـ "حكم الجاهلية"
بوصفه دعوة لتحكيم العقل والمنطق ، وهو فهم يتعارض تعارضاً جذرياً مع فهم الخطاب
الديني ، أن النصوص تخاطب في الأصل والأساس واقعاً تاريخياً محدداً من خلاله – وعبر
لغته بكل اجتماعاتها – دلالتها ، ولكن هذه الدلالة قابلة دائماً للانتفاخ والاتساع
شريطـــــة عدم الإخلال أو التناقض، مع الدلالة الأصلية
وهكذا نجد بين المعنى التاريخي لمصطلح "الجاهلية" وبين معنى "الجهل" في استخدامنا
المعاصر وشائج، فعدم العلم وانتفاء المعرفة ركيزة أساسية للخضوع
لسطوة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة، أو لنقل لـ " التعصب".
تحولت كلمة "الجاهلية" في لغة ما بعد الإسلام لتكون مصطلحا دالا على مرحلة تاريخية
في تطور المجتمع العربي، هي مرحلة ما قبل الإسلام، وإذا كان الإسلام
يمثل الموقف النقيض فمنى ذلك انه يمثل جوهريا موقف الاحتكام إلى العقل والمنطق حتى
في فهم نصوصه ذاتها ، لكن الخطاب الديني – مستخدماً آلية إهدار البعد التاريخي –
يرفض كل ذلك في سبيل أيدلوجية الخاصة فالجاهلية طبقاً لتعريفه هي الاعتداء على
سلطان الله في الأرض ، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية إنها تسند الحاكمية
إلى البشر … وفي صورة إدعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة
والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة . وبناء على هذا التعريف لا يعبر المصطلح عن
مرحلة تاريخية انقضت ومضت ولكنه يعبر عن حالة أو موقف فكري قابل للتكرار "كلما
انحرف المجتمع عن نهج الخطاب الديني هو التعريف الموضوعي ، وفي إطار تدخل "جميع
المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا" ولا يستثنى من ذلك المجتمعات الإسلامية أو
التي تسمى كذلك " فهي – وإن لم تعتقد بألوهية أحد ألا الله – تعطى أخص خصائص
الألوهية لغير الله فتدين بحاكمية غير الله " .
الجاهلية إذن نقيض الحاكمية وهي الخضوع لحكم البشر في مقابل الخضوع لحكم الله ورغم
أن الحاكمية تعني في التحليل النهائي الاحتكام إلى النصوص الدينية فإن هذه النصوص
لا تستغني عن البشر في فهمها وتأويلها أي أنها لا تفصح بذاتها عن معناها ودلالتها
إنما ينطق بها الرجال كما قال الإمام علي بن أبي طالب وطبقاً للخطاب الديني – كما
سبقت الإشارة – فالسلطة الوحيدة القادرة على القيام بهذه المهمة بموضوعية مطلقة –
بعيداً عن الأهواء والتحيزات الأيديولوجية – هي السلطة التي يمثلها رجال الدين أي
أن الحاكمية الإلهية تنتهي في الحقيقة إلى حاكمية رجال الدين ، وهم ليسوا في
النهاية سوى بشر لهم تحيزاتهم وأهوائهم الإيديولوجية لكن الخطاب الديني يجفل من هذه
النتيجة المنطقية ولا نقول الاستنتاج ويلجأ إلى التعمية الإيديولوجية التي تحل هذا
التناقض يقول "ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال
بأعيانهم – هم رجال الدين – كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم
الآلهة كما كان الحال فيما يعرف بـــاسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس،
ولكنها تقوم بان تكون شريعة الله هي الحاكمة وان يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما
قرره من شريعة مبينة".
ولا يقف إهدار البعد التاريخي وتجاهله عند وهم التطابق بين الماضي والحاضر، بل
يتجاوز ذلك إلى فهم حركة الإسلام في مرحلة النشأة في واقع المجتمع العربي، ولا نريد
أن ندخل هنا في تحليل جدلية العلاقة بين الإسلام والواقع منذ اللحظة الأولى لنزل
الوحي، فالخطاب الديني يبدو مدركا لبعض أبعاد هذه العلاقة حين يريد إثبات واقعية
الإسلام، أو مراعاته التدرج في الإصلاح والتغيير، ولكنه يتجاهل كل ذلك حين يتحدث عن
علاقة المسلمين الأوائل بواقع مجتمعهم، فيتطابق تصوره للمسلمين في عصر الوحي مع تلك
الصورة "الفانتازي" التي تعرضها المسلسلات الدينية التليفزيونية، حيث يتمايزون عن
معاصريهم في كل شيء تقريبا، في الأزياء والحركات والإيماءات وفي كثير من خصائص
لغتهم وطريقة نطقهم لها. أن الإسلام فيما يتصور الخطاب الديني خلع عن المسلم كل ما
يربطه بواقعة " لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في
الجاهلية، كان يشعر في اللحظة التي يجئ فيها إلى الإسلام انه يبدأ عهدا جديدا،
منفصلا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية… كانت هناك عزلة شعورية كاملة
بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضرة في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته
بالمجتمع الجاهلي من حوله ورابطه الاجتماعية فهو قد انفصل نهائيا عن بيئته
الجاهلية، واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي
في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر".
ومن الطبيعي في مثل هذا التصور أن يرتبط بالدعوة إلى الانفصال عن الواقع واعتزاله
والاستعلاء عليه، "ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين
له بالولاء، فهو بهذه الصفة، صفة الجاهلية، غير قابل لان نتصالح معه، أن مهمتنا أن
نغير من أنفسها أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا… أن أولى الخطوات في طريقنا هي أن
نستعلى على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وإلا نعتزل نحن عن قيمنا وتصرواتنا
قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق، كلا أننا وإياه على مفرق الطريق، وحين
نسايره خطوة واحدة فأننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق" من هذا النبع يمتح خطاب
الجماعات الإسلامية، ويتشكل سلوك أفرادها، وهكذا يعيش المسلم، بفعل هذا الخطاب،
خارج التاريخ، وكما أن المسلم يستحيل أن يتصالح موع واقعة إلا بعد تغييره، كذلك
الإسلام يستحيل أن يتصالح مع أي نمط من أنماط الفكر، أو أي تصور من التصورات
الوضعية آيا كان، "فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق لا يتعدد، وان ما عدا هذا فهو
الضلال، وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج، وانه أما حكم الله وآما حكم الجاهلية…
لم يجيء الإسلام أذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم
وعاداتهم وتقاليدهم سواء منهما ما عاصر الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في
الشرق أو الغرب سواء، إنما جاء ليلغي هذا كله، وينسخه نسخا، ويقيم الحياة البشرية
على أسسه" وهكذا تتبدد واقعية الإسلام كما يطرحها الخطاب الديني ذات، ناهيك
بالعلاقة الجدلية التي يكشف عنها التاريخ بين الإسلام والواقع منذ اللحظة الأولى
لنزول الوحي. وينتهي الخطاب الديني بعزل الإسلام عن الواقع والتاريخ معا، مع أن
الوحي - ومن ثم الإسلام – واقعة تاريخية.