نقد الخطاب الديني
النص
لا يتوقف الخطاب الديني ليبذل أدنى جهد لتحديد أو توصيف المحور الأساسي لكل
منطلقاته وآلياته، وقد تعمدنا حتى الآن أن نتحاشى الدخول مع الخطاب الديني في
أي نقاش أو سجال حول آليات التأويل التي يصوغ من خلالها منطلقاته وآلياته بدءا
من هذا المحور، ولا حاجة بنا في هذه الفقرة أيضا إلى مناقشة هذه الآليات طالما
أن النقاش هنا حول إشكالية النص، لا تلك التي يطرحها الخطاب الديني أحيانا خاصة
في مجال السجال مع الجماعات الإسلامية أو مع غيرهم، بل تلك الإشكالية التي
يعتمد الخطاب تجاهلها، ومن أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص
الديني – ولعها من أخطرها على الإطلاق – البعد التاريخي لهذه النصوص، وليس
المقصود بالبعد التاريخي هنا علم أسباب النزول – ارتباط النصوص بالواقع،
والحاجات المثارة في المجتمع والواقع – أو علم الناسخ والمنسوخ – تغيير الأحكام
لتغير الظروف والملابسات – أو غيرها من علوم القرآن التي لا يستطيع الخطاب
الديني تجاهلها، وان كان يتعرض لها على سبيل السجال لتأكيد واقعية الإسلام في
اتجاهه إلى التدرج في الإصلاح والتغيير، ولأننا سبق أن ناقشنا تلك العلوم
مناقشة مستفيضة في دراسة سابقة، فان البعد التاريخي الذي نتعرض له هنا يتعلق
بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية
لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص.
ولا خلاف في إن تاريخية اللغة تتضمن اجتماعاتها، الأمر الذي يؤكد أن للمفاهيم
بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى إهدار دلالات النصوص ذاتها، ولا يعني
الإلحاح على تاريخية النصوص أدنى إشارة إلى عدم قدرتها على إعادة إنتاج
دلالتها، أو عجزها عن مخاطبة عصور تالية أو مجتمعات أخرى، فالقراءة التي تتم في
زمن تال في مجتمع آخر تقوم على آليتين متكاملتين : الإخفاء والكشف، تخفي ما ليس
جوهريا بالنسبة لها – وهو ما يشير عادة إلى الزمان والمكان إشارة لا تقبل
التأويل – وتكشف عن ما هو جوهري بالتأويل، وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في
النصوص، بل كلل قراءة – بالمعنى التاريخي الاجتماعي – جوهرها الذي تكشفه في
النص، يتفق الخطاب الديني مع بعض ما هو مطروح هنا، وان كان يعبر عنه بلغته
الخاصة التي هي في الحقيقة ترداد وتكرار للغة القدماء، ولهذا دلالته التي
سنحللها بعد ذلك.
يتفق الخطاب الديني على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد
في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء لهذه الظاهرة، ولذلك يقصرها على
النصوص التشريعية، دون نصوص العقائد، أو القصص، وعلى هذا التحديد لمجال
الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى
حد التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني.
إن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص
الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها "تأنسنت" منذ تجسدت في التاريخ واللغة
وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد. إنها محكومة بجدلية
الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في " المنطوق" متحركة متغيرة في " المفهوم" وفي
مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضا بجدلية الإخفاء والكشف.
هذا عن النصوص التي دونت وسجلت منذ لحظة ميلادها، أما النصوص التي خضعت لآليات
الانتقال الشفاهي – ولو لفترة محدودة كالأحاديث النبوية – فإنها تطرح إشكالية
أكثر تعقيدا من جانبي المنطوق والمفهوم معا، إذ يفقد هذا النوع من النصوص صفة
ثبات المنطوق، ويصبح تحديده أمرا اجتهاديا خاضعا بدوره لجدلية الكشف والإخفاء.
ومع هذا المستوى من التعقيد في إشكالية النص لا يكتفي الخطاب الديني بقصر
الاجتهاد على شريحة رقيقة من النصوص، هي شريحة النصوص التشريعية، بل يعود فينفي
الاجتهادات جملة حين يعلن " لا اجتهاد فيما فيه نص" فيجمد دلالة النصوص حتى في
النصوص التشريعية، وسنرى في سيقا هذه الفقرة أن هذه مجرد دعوى، وأن استدعاء بعض
الاجتهادات القديمة وتقديمها للإجابة عن بعض القضايا المثارة في الواقع يمثل في
ذاته اجتهادا يعتمد على " كشف" رأي و " إخفاء" آخر.
وقد مرت بعض الشواهد التي تؤكد ما نذهب إليه. والأهم من ذلك أن مبدأ " لا
اجتهاد فيما فيه نص" يمثل في ذاته نموذجا لهذا النمط من الاجتهاد، وهو نمط
يختلف في بعض آلياته عن نمط الاجتهاد بالترجيح بين آراء القدماء والاختيار
منها، إن مناقشة هذا المبدأ تكشف لنا عن الفارق بين مفهوم النص عند القدماء –
وهو المفهوم الذي يخفيه الخطاب الديني المعاصر – وبين المفهوم الذي يكشف عنه
المعاصرون.
أثير المبدأ حديثا على صفحات الصحف بمناسبة الاقتراح الذي اقترحه الكاتب أحمد
بهاء الدين بالأخذ بالاجتهاد الفقهي الشيعي الذي تحجب فيه البنت عن الميراث كما
يحجب الذكر في الفقه السني سواء بسواء، وتوالت الردود تبين كلها مخالفة الفقه
الشيعي لصحيح النصوص، والقاعدة التي استند إليها الجميع " لا اجتهاد فيما فيه
نص"، وقد يضيف البعض وصفا للنصوص المحظور فيها الاجتهاد بأنها النصوص القطعية
في ثبوتها وفي دلالتها، ويرى بناء على ذلك أن " رأي أهل السنة لم يبنوه على
اجتهاد يمكن أن يتغير، إنما بنوه على نصوص قرآنية مقطوع بدلالتها وإذا كان بعض
الفقهاء قد ذهب إلى تقديم المصلحة على النص إذا تعارضا، وذلك تأسيسا على مفهوم
" المقاصد الشرعية" فان شيخ الأزهر يرى الأولوية للنصوص على المصالح، فلا ينبغي
في رأيه " إطلاق القول بأن الاختيار للمجتمع يكون في هذا العصر للمصلحة إذ
النظر في المصلحة لا يكون مع وجود النصوص. والمصلحة التي تغياها شرع الله هي
التي لا تتنافى مع مقاصد الإسلام، والمستقر من أحكامه. والقرآن قد قطع في أمر
الاجتهاد بالدعوة إلى الاتباع في أمر التشريع والطاعة للنصوص" ويبدو سيد قطب في
خطابه أحيانا مدركا لجانب من تاريخية النصوص الدينية ويبني على ذلك أمرين :
الأول أن منهج الإسلام منهج حركي يستجيب للمتغيرات، ويتحرك معها، والأمر الثاني
– وهو يترتب على الأول – أن الاجتهاد النظري في مجتمع لا يقر بالحاكمية ولا
ينفذ أحكام الشريعة بمثابة استنبات للبذور في الهواء. يقول وهو بصدد تفنيد آراء
من يذهبون إلى أن مبدأ الجهاد في الإسلام مبدأ دفاعي لا عدواني : " والذي
يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ولا يراعون
هذه السمة (الواقعية الحركية) فيه لا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا
المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذي يصنعون هذا يخلطون خلطا
شديدا، ويلبسون هذا المنهج لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ
والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص كما لو كان نصا نهائياً، ويمثل
القواعد النهائية لهذا الدين" لكن هذا الإدراك لتاريخية النصوص، ومن ثم لانتفاء
صفة "النهائية" عن القواعد التي تقررها، لا يتجاوز إطار " مناسبات النزول" و
"النسخ" وإن كان يعبر عن نفسه بلغة مغايرة للغة علماء الدين. لغة توهم بطرح
الجديد، ولا جديد في الحقيقة. إن الاجتهاد عند قطب لا يلتزم بالمجالات التي
سكتت عنها النصوص فقط، بل يجب أن يتبع آليات الاجتهاد التقليدية لا يخرج عنها :
" فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم، ولا اجتهاد مع النص. إن لم يكن هناك نص فهنا
يجيء دور الاجتهاد، وفق أصوله المقررة في المنهج ذاته، لا وفق الأهواء
والرغبات.. والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست
غامضة ولا مائعة". وحين يثير الكاتب سؤال : "أليست مصلحة البشر هي التي تصوغ
وأوقعهم؟" لا يتردد في الإجابة مستشهدا بالنصوص على علم الله وجهل البشرية : "
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله، كما أنزله الله، وكما بلغه رسول الله".
وهكذا يرى الخطاب الديني أن النصوص الدينية بينة بذاتها، ناطقة عن نفسها، هذا
رغم أنه على المستوى النظري – خاصة حين يتحاور الشباب – يبدو مدركا للفاصل
الزمني واللغوي بين عصر النص وبين العصور التالية؟ وما يثيره ذلك وحده من
إشكاليات في الفهم والتأويل، تؤدي إلى خلافات لا مجال لتجنبها.
والفاصل الزمني على أهميته وأهمية الإشكاليات التي يثيرها ليس هو المشكل
الوحيد، فاللغة في النصوص – ولو كانت معاصرة للقارئ – ليست بينة بذاتها، إذ
يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص، ومن ثم في إنتاج دلالته.
ولعله من قبيل التكرار المهم أن نستدعي قول الإمام علي "القرآن حمال أوجه" أو
نستدعي قوله الذي سبق الاستشهاد به : " القرآن خط مسطور بين دفتين لا ينطق،
إنما يتكلم به الرجال" ولكن الخطاب الديني " يخفي" من التراث هذا الجانب المهم
والخطير في فهم طبيعة النص، وهذا الفهم الذي سمح بالتعددية، ومنح الثقافة
الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمرا حتى تواري هذا الفهم مفسحا المجال لفهم
آخر يجمد دلالة النصوص في قوالب جامدة، هذا الفهم الأخير أو بالأحرى تجميد
الفهم، هو منطلق الخطاب الديني المعاصر، وهو الجانب الذي "يكشف" عنه من التراث،
وهذا هو الموقف التأويلي الذي أشرنا إليه من قبل. إن مفهوم التراث للنص مخالف
لمفهوم خطابنا الديني، وحين يقول العلماء " لا اجتهاد فيما فيه نص" فإنهم يعنون
شيئاً آخر غير ما يعنيه الخطاب الديني.
لم يكن القدماء يشيرون إلى القرآن والحديث باسم النصوص، كما نفعل في اللغة
المعاصرة، بل كانوا في العادة يستخدمون دوالا أخرى كالكتاب والتنزيل والقرآن
للدلالة على النص القرآني، وكانوا يستخدمون دوالا مثل الحديث أو الآثار أو
السنة للإشارة إلى نصوص الحديث، وكانوا يشيرون إليهما معا باسم الوحي أو النقل،
وكانوا حيين يشيرون إلى " النص" فإنما كانوا يعنون به جزءا ضئيلا من الوحي، أو
بعبارة أخرى ما لا يحتمل أدنى قدر من تعدد المعنى والدلالة بحكم بنائه اللغوي؟
إنه – بلغة الإمام الشافعي – ما يكون " مستغني فيه بالتنزيل عن التفسير" وما لا
ينطبق عليه وصف الوضوح الدلالي الذي لا يحتاج معه إلى تفسير فليس نصا، ولذلك لا
بد من الاستنباط والاستدلال في فهم ما لبي ينصف في كتاب الله، وهكذا يحدد
الإمام الشافعي الفرق بين النص والمحكم في القرآن، والعودة إلى معاجم اللغة
تفيد في التعرف على الدلالة المركزية للفظ وإن كانت لا تفيد كثيرا في إبراز
الكيفية التي تطورت بها تلك الدلالة، ويبدو من أمثلة الاستخدام الواردة في "
اللسان" أن الدلالة المركزية هي الإظهار كما يتبين من النماذج التالية :
1- نصت الظبية جيدها = رفعته.
نص الدابة = رفعها.
2- النص والتنصيص = السير الشديد.
نص الأمور = شديدها. قال الشاعر :
ولا يستوي عند نص الأمو............ر باذل معروفة والبخيل
3- نص الرجل = سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.
بلغ النساء نص العقاق = سن البلوغ.
هذه الدلالات الثلاث، الرفع والشدة والبلوغ متضمنة في دلالة " الإظهار" لأن من
ينص الناقة أو الدابة يرفع عنقها فيظهره، وكذلك استقصاء ما عند الإنسان بالسؤال
إنما هو إظهار له من كمونة في نفس صاحبه، ولا بد أن يكون معنى الشدة – المعنى
الثاني – نوعاً من التطور الدلالي عن المعنى الأول – الرفع – لأن الراكب إذ ينص
دابته – يرفع عنقها – فإنما يفعل ذلك لكي يحثها على السير، فيستخرج منها أقصى
سرعتها، فإذا ارتفع عنق الناقة – انتص – سارت سيرا شديدا، كما يقول أبو عبيدة،
وتحديدنا للدلالة المركزية بالإظهار يؤكده أنها الدلالة الحسية الباقية في
لغتنا المعاصرة، كما في استخدامنا لكلمة " المنصة" بمعنى المكان المرتفع
الظاهر، وهو المعنى نفسه في الاستعمال القديم، فالمنصة " ما تظهر عليه العروس
لترى" ولعله من هذه الدلالة المركزية الحسية حدث التطور الدلالي، فاصبح النص
يعني الإسناد في علم الحديث : " قال عمرو بن دينار : ما رأيت رجلا أنص للحديث
من الزهري" يقول ابن الأعرابي : " النص : الإسناد إلى الرئيس الأكبر، والنص :
التوقيف، والتعيين على شيء ما".
الإسناد والتوقيف والتعيين دلالات يجمعها ويضعها " التحديد" على مستوى الدلالة
المعنوية كما أن " الإظهار" هو مركز المعنى على مستوى الدلالة الحسية، وتداخلت
الدلالتان، أو بالأحرى تداخل المستويان، في صياغة مفهوم للنص في التراث، ولكن
التعدد الذي شهدته الثقافة الإسلامية كان له تأثيره في تحدي ما هو نص لا يقبل
التأويل، وما ليس بنص يتحتم تأويله، وقد دار الخلاف بين المعتزلة والاشاعرة
بشكل خاص حول " المحكم والمتشابه" حيث اعتبر كل فريق أن ما يسند موقفه الفكري
محكما (نصا) وما يسند موقف الخصم متشابها (ليس بنص)، وقد سبق أن ناقشنا هذا
الخلاف في دراسة سابقة، لذلك يكفي هنا الاستشهاد بمثال واحد من تفسير الزمخشري
وتعليق ابن المنير السني عليهن لا ستخدامهما معا لمفهوم " النص" لا " المحكم
والمتشابه" في خلافهما، يقول الزمخشري : "وقد نص الله على تنزيه ذاته : بقوله :
{ وما أنا بظلام للعبيد… وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، إن الله لا
يأمر بالفحشاء} ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل، وهذه الآيات مما يعتبره
المعتزلة من المحكم ( النص) الدال على العدل الإلهي، ويوردها الزمخشري وهو بصدد
تأويل الآية السابعة من سورة البقرة " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم" وهي من الآيات المتشابهات عند المعتزلة بسبب ما
يوهمه ظاهرها من أن الله هو الذي يسبب الكفر ثم يعاقب عليه يعترض ابن المنير
على تأويل الآية، لأنها من منظور أهل السنة نص لا يحتمل التأويل، ويتهم
الزمخشري بأنه "نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة… فإن الختم
فيها (الآية) مسند إلى الله تعالى نصاً".
ولا يقتصر استخدام النص بهذا المعنى على فرق المتكلمين والفقهاء، بل يكاد يكون
سائدا في دوائر الخطاب الديني في التراث، فهذا ابن عربي يفرق في استخدام الفعل
"كان" بين دلالته على الزمن الماضي وبين دلالته على مجرد الوجود، ويقارن بينه
وبين كلمة " الآن" الزمان، وليس الفعل " كان" كذلك بسبب احتماليته، وإذا كان
النص هو الدال دلالة قطعية لا مجال فيها لآية درجة من الاحتمالية، فان النصوص
عزيزة نادرة، خاصة في مجال الشريعة " وما ثم نص يرجع إليه لا يتطرق إليه
الاحتمال"، وعلى أساس من الندرة الناتجة عن الطبيعة الاحتمالية للغة فإن الحل
الصوفي للتغلب على هذه الاشكالية يكمن في التجربة القادرون على الاطلاع على
الشريعة المحمدية من حيث " لا تعلم العلماء بها، فإن الفقهاء والمحدثين الذين
أخذوا علمهم ميتا عن ميت إنما المتأخر منهم فيه على غلبة الظن إذا كان النقل
شهادة والتواتر عزيزا، ثم إنهم إذا عثروا على أمور تفيد العلم بطريق التواتر لم
يكن ذلك اللفظ المنقول بالتواتر نصا فيما حكموا فيه فإن النصوص عزيزة، فيأخذون
من ذلك اللفظ بقدر قوة فهمهم فيه، ولهذا اختلفوا، وقد يمكن أن يكون لذلك اللفظ
في ذلك الأمر نص آخر يعارضه ولم يصل إليهم ما تعبدوا به، ولا يعرفون بأي وجه من
وجوه الاحتمالات التي في قوة هذا اللفظ كان يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المشرع فأخذه أهل الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكشف على الأمر
الجلي والنص الصريح في الحكم، أو عن الله بالبينة التي هم عليها من ربهم،
والبصيرة التي بها دعوا الخلق إلى الله.
وليس الحل الصوفي لإشكالية النصوص وندرتها هو الهام هنا، إنما الأساسي والجوهري
من منظور هذه الدراسة هو مفهوم النص الذي يتفق عليه الصوفية – وابن عربي بصفة
خاصة – مع غيرهم من اتجاهات التراث، ولا يختلف علماء القرآن المتأخرون عن
أقرانهم المتقدمين، وإن كانوا يناقشون الإشكالية من منظور " العام والخاص" في
دلالة النصوص، وقد يكون تخصيص الدلالة من داخل البنية اللغوية للنص، ولا ينكشف
إلا بالتحليل (الاجتهاد)، وقد يكون تخصيص دلالة النص من نص آخر (نستعمل النص
هنا بالمعنى المعاصر) فالاجتهاد في الجميع بينهما ضروري، وهكذا تكون النصوص
(بالمعنى التراثي) عزيزة ونادرة : " ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص، فقوله :
يا أيها الناس اتقوا ربكم، قد يخص منه غير المكلف، وحرمت عليكم الميتة خص منها
حالة الأضرار، ومنه السمك" يختلف العلماء في تحديد العام والخاص، كما اختلف
المتكلمون في تحديد المحكم والمتشابه، وما يورده الزركشي على أنه من العام، يرى
السيوطي أنها نماذج في غير الأحكام الفرعية التي يندر فيها العموم، ولا يجد
السيوطي آية من هذا النوع على عمومها – أي دون تخصيص في دلالتها – إلا قوله
تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم" وينتهي علماء القرآن إلى أن ما تضمنه القرآن ينقسم
– طبقاً لدرجات الوضوح الدلالي – إلى أربع درجات، هي بالترتيب التالي :
1- الواضح الذي إلا معنى واحداً، وهو النص.
2- الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعنى الراجح (الأقوى) والآخر معنى مرجوح
( محتمل)، وهذا هو الظاهر.
3- الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل.
4- الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح
(الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى
البعيد، وهذا النوع هو المؤول.
إذا كان هذا هو مفهوم النص في التراث، وهو مفهوم مغير لمفهومنا، فإن الخطاب
الديني حين يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ : "لا اجتهاد فيما فيه نص" يقوم
في الحقيقة بعملية خداع أيدلوجي ماكرة، لأنه لا يعني بالنص ما يعنيه التراث،
وهو الواضح الجلي النادر، فإذا أضفنا إلى ذلك أن تحديد ما هو نص والتفرقة بينه
وبين ما ليس كذلك أمر خاضع للخلاف والاجتهاد في تاريخ الثقافة الإسلامية،
أدركنا حجم الخدعة ومداها، أن الخطاب الديني المعاصر لا يكتفي بتثبيت النص
وسلبه حركته بالخلط بين المفهوم الحديث والمعنى القديم لكلمة " النص" بل يسعى
لتثبيت دلالته بإعلان نفي الاجتهاد، مفسحا المجال لنفي التعدد وتثبيت الواقع
طبقا لما يطرحه هو من آراء واجتهادات، أن القرآن – محور حديثنا حتى الآن – نص
ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح "مفهوما"
يفقد صفة الثبات، انه يتحرك وتتعدد دلالته، إن الثبات من صفات المطلق والمقدس،
أما الإنساني فهو نسبي متغير، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح
مفهوما بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني "يتأنس" ومن
الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها
شيئا إلا ما ذكره النص عنها ونفهمه بالضرورة من زاوية الإنسان المتغير والنسبي،
النص منذ لحظة نزوله الأولى – أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي – تحول من كونه
(نصا الهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا)، لانه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن
فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل، حركة النص في تفاعله بالعقل البشر، ولا التفات
لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود
مثل هذه الدلالة الذاتية. إن مثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك من حيث أنه
يطابق بين المطلق والنسبي، وبين الثابت والمتغير، حين يطابق بين القصد الإلهي
والفهم الإنساني لهذا القصد ولو كان فهم الرسول، انه زعم يؤدي إلى تأليه الني،
أو إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشرا، والتركيز على حقيقة كونه نبياً.
وإذا كان النص القرآن يثير الإشكاليات السابقة كلها رغم ثبات منطوقه، فان نصوص
الأحاديث النبوية تثير إلى جانب الإشكاليات السابقة إشكالياتها الخاصة، وذلك
لأنها لم تدون إلا متأخرة، وخضعت من ثم لآليات التناقل الشفاهي، الأمر الذي
يقربها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث أنها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي،
وإذا كانت الأحاديث ذاتها، أي كما نطق بها النبي بلغته وألفاظه، نصوصا تفسيرية
لنوع من الوحي مغاير في طبيعته لوحي السنة، في الأحاديث التي بين أيدينا تكون
في حقيقتها تفسيرا للتفسير، فإذا أضفنا إلى ذلك ما هو معروف من أسباب وملابسات
كثيرة أدت إلى الزيادة في جسد الحديث بالوضع والانتحال، واختلاف علماء الحديث
بينهم في المعايير التي يصححون الأحاديث على أساسها، أدركنا تعقد حركة هذه
النصوص في الواقع الإنساني الاجتماعي، والخطاب الديني المعاصر يبدو من اجل ذلك
اقل تشددا ويسمح ببعض الاجتهاد والخلاف حول دلالة هذا النوع من النصوص، خاصة
إذا كان خلافا في الفروع :" ذلك أن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر وطبيعة
الحياة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فانما يكلف الناس
والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها، وفي مجال النقاش والسجال مع الشباب تثار
بعض إشكاليات النص الذي يفهم على ظاهره دون اجتهاد أو تأويل، إذ يشترط في مثل
ذلك النص : " أن يكون صحيحا مسلما به عند الجميع، ولا بد أن يكون صريح الدلالة
على المعنى المراد، ولا بد من أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص
الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية، قد يكون النص صحيحا عند إمام، ضعيفا عند
غيره، وقد يصبح عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عاما
وعند غيره خاصا، وقد يكون عند أمام مطلقا، وعند آخر مقيدا، وقد يعتبره بعضهم
محكما ويراه غيره منسوخا، إلى غير ذلك من الاعتبارات".
ولكن هذه الرؤية لمعضلة النص في الأحاديث تظل تطل من منظور القدماء وتثير نفس
أو بعض اشكالياتهم، دون أن تتجاوز إطار هذه الرؤية، ولعلنا لا نكون مغالين إذا
قلنا،
أن منظور القدماء كان اكثر اتساعا من جهة انهم لم يوقفوا عملية فرز جسد الحديث،
بالحذف والإضافة، طبقا لمعايير اجتهادية إنسانية اجتماعية بالضرورة، أن وقف هذه
العملية المهمة وتثبيت نص الحديث في الصحاح الخمسة – أو الستة – وعلى رأسها
البخاري ومسلم، هو في حقيقته تثبيت للواقع عند رؤى واجتهادات عصور بعينها، وهو
يصب في نفس أيدلوجية وقف الاجتهاد في النص القرآني. إن معايير السلف في نقد
الأحاديث وفي التمييز بين الصحيح والضعيف والمنحول كانت محكومة دون شك بأطر
معرفية زمانية نسبية محدودة، لا ترقى إلى مستوى المعايير الموضوعية النهائية،
كما يتوهم البعض، الحديث نص متحرك قابل للتجدد عن طريق استمرار عملية الفرز
قبولا ورفضا بناء على معايير اجتهادية وإنسانية، أي طبقا لفكر إنساني متطور
بطبيعته، ومرتبط بظروف الزمان والمكان والواقع الذي ينشئه، هذا من حيث هو نص
خام قبل أن يواجهه العقل بالفهم والتفسير والتأويل، فهو نص تكون وما زال يتكون
من خلال آليات العقل الإنساني منذ اللحظات الأولى للنطق به، والمسافة التي
تفصله عن المقدس مسافة شاسعة يكاد معها يكون نصا إنسانيا.
ولكي تتضح هذه القضية بشكل اعمق يتعين علينا أن نتعرض بشكل عام للآليات العامة
للفرز والتصحيح التي طبقت على جسد الحديث، وهو ما يطلق عليه مصطلح "الرواية"
تمييزا له عن مصطلح "الدراية" الذي يركز على الأحكام والتعريفات، وجدير بالذكر
أن الأحكام والتعريفات فرع على شروط الرواية ومعرفة أحوال الرواة، أي أن
الرواية بالمعنى الاصطلاحي – لا بمعنى عملية النقل ذاتها – هي أساس الدراية
التي تتعلق بالحكم على المتن، وتهتم الرواية بدراسة جانب السند من زاويتين:
الزاوية الأولى الاتصال والانقطاع بين الرواة الذين نقلوا متن الحديث من عصر
النبوة إلى آخر الرواة في سلسلة الإسناد، وهذا عمل توثيقي في المقام الأول لأنه
يهتم بالتأكد مما إذا كان كل راو من الرواة قد عاصر الراوي الذي ينقل عنه
الحديث، والاهم من ذلك أن يكون قد لقيه لقاء مباشرا وفي سنن النضوج التي تسمح
له بالأخذ والرواية، وأن يكون الاخذ مشافهة لا نقلا عن صحيفة أو ما شابهها إلى
آخر تلك الشروط التوثيقية. ونفس الشروط لا بد من توافرها في الراوي التالي،
وعدم توافرها في أحد الرواة يعني ضعفا في سلسلة الإسناد يؤدي إلى تضعيف الحديث،
فإذا كان ثمة فاصل زمني طويل بين راويين كان معنى ذلك أن راويا قد سقط من
الإسناد ويكون إسنادا منقطعا يترتب عليه أحيانا رفض الحديث ما لم يوثق براوية
أخرى متصلة.
أما الزاوية الثانية من دراسة السند فتهتم بالتحقق من المؤهلات العلمية
والأخلاقية لكل راوي على حدة، وهو ما يعرف بالجرح والتعديل، وهي مؤهلات كثيرة
أهمها أن يكون الراوي حافظا – أي لا ينسى – أمينا لا يكذب ولا يدلس، ثقة في
دينه وخلقه.
ولم يكن علماء الحديث، بحكم غلبة الطابع النقلي التوقيفي على عملهم، وبحكم
الارتباط بين اغلبهم وبين جهاز السلطة في اكثر العصور، يتمتعون باتساع الأفق
العقلي القابل للخلاف والنقاش مثل المتكلمين أو الفقهاء أو علماء القرآن، بل
كانوا اقرب إلى الوعاظ في تصور الحقيقة، وفي التعصب ضد أي اجتهاد ليس له سند
مباشر من النقل، لذلك ليس غريبا في كتب علم الرجال أن يستبعد من مجال الرواة
العدول كل من كان من أصحاب المقالات، وهو توصيف لكل الفرق، عدا تلك التي تعاطف
معها المحدث، ومن السهل على من يقرأ هذه الكتب أن يلاحظ تناقض الأحكام على
الراوي الواحد، فبينما يوثقه البعض يرى آخرون انه مدلس كذاب، وإذا وصفه البعض
بالحفظ والاستيعاب نجد البعض الآخر يضعه في دائرة المغلفين الذين يغلب عليهم
النسيان، وليست تلك الأحكام المتناقضة ناشئة عن الحب والكراهية، أو الإعجاب
والاحتقار، بل ناشئة عن اختلاف المعايير نتيجة لاختلاف المواقف الأيدلوجية، لن
نشير هنا لرفض علماء السنة لروايات الشيعة، ولا لرفض علماء الشيعة روايات أهل
السنة، وهو شديد الدلالة في ذاته، إنما نشير إلى رفض كل فرقة من فرق السنة
روايات اتباع الفرق الأخرى.
ثم استأثرت إحدى الفرق باسم " أهل السنة والجماعة" واحتكرته لنفسها بتأييد من
سلطة الدولة بعد القضاء على الاعتزال، وأصبحت هي الحكم والفيصل في قبول
المرويات أو رفضها، بل واكتسبت بحكم تأييدها للسلطة السياسية والتمتع بحمايتها
سلطة مرجعية في كل ما يتعلق بشئون الدين والعقيدة.
إذا انتقلنا من فحص السند إلى فحص المتن – علم الدراية – دخلنا دخولا مباشرا في
قلب آليات الاجتهاد، فالمتن إنما يكون صحيحا إذا لم يتضمن في دلالته أدنى تعارض
مع المبادئ العامة للشريعة ومقاصدها الكلية كما تستخرج من القرآن. هنا يعتمد
الاجتهاد على المقارنة بين نص في حالة فحص وفرز وبين نص آخر موثوق في صحة
منطوقة ثقة مطلقة، ولكن هذه المقارنة لا تتم بالطبع على مستوى المنطوق، بل على
مستوى الدلالات والمعاني، وهكذا تتداخل إشكاليات نصوص الحديث بالإشكاليات التي
حللناها عن النص القرآني، وترتد الفعالية كلها للعقل الإنساني المرهون بآفاق
الزمان والمكان، إنها عملية معقدة تكشف زيف مبدأ لا اجتهاد فيما فيه نص،
فالاجتهاد – كما رأينا – هو الوجه الآخر للنص، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن
يكون نصا لغويا دالا ويتحول إلى أيقونة للزينة والتبرك، هو أمر وقع بالفعل في
ثقافتنا، الاجتهاد – على عكس ما يعلن الخطاب الديني – هو الطريق الوحيد للإفصاح
عن دلالة النص الأولى الرئيسي – القرآن – وهو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى
إكساب النصوص الفرعية – الأحاديث – مشروعية الوجود ذاتها، الاجتهاد إذن لا يكون
إلا في النصوص، وما سوى النصوص من مجالات يحتاج إلى الإبداع لا مجرد الاجتهاد،
والى الاكتشاف لا مجرد ترديد أقوال القدماء.
إن تركيز الخطاب الديني على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر كافة، مع ما
يعلنه من قصر الاجتهاد على الفروع دون الأصول، ومع تحديد مجال الاجتهاد في
النصوص الفرعية – الأحاديث – دون النص الأساسي – القرآن – يؤدي إلى تحديد كل من
النص والواقع معا، فإذا أضفنا إلى ذلك أن ما يطرحه الخطاب الديني أحيانا من
اجتهادات لا يخرج عن مجال الترجيح بين آراء الفقهاء واجتهاداتهم واختيار بعضها،
أدركنا أن هذا الخطاب في الواقع يريد أن يرتد بالمجتمع إلى الخلف لا أن يحقق
تقدمه كما يزعم. والماضي الذي يريدنا أن نرتد إليه ليس الماضي الذي كان مزدهرا
بالحيوية الفكرية والعقلية، التي تؤمن بالتعدد وتحتمل الخلاف، بل الماضي الذي
ارتضى التقليد بديلا عن الاجتهاد، واكتفى بالتكرار بديلا عن الإبداع، ولا يظهر
الماضي الجميل حين يظهر في هذا الخطاب إلا في معرض التفاخر والزهو على العقل
الأوروبي وحضارته المادية التي أقامها على ما استفادة من العقل الإسلامي، كما
مر بنا في سياق تحليلاتنا. وأخيرا ينتهي الخطاب الديني إلى الانغلاق في دائرة
النصوص بعد أن جمدها وقضى على حيويتها، ويصدق قول القائل: " احتمينا بالنصوص
فدخل اللصوص"، وذلك حين يقضى على أهم واخطر ما اقره الفقهاء من مبادئ عقلية :
المصالح المرسلة والمقاصد الكلية، فيعيدها إلى النصوص مرة أخرى، وبالمفهوم الذي
يطرحه لها، مع أنها مبادئ لتأويل النصوص.
الواقع أذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته
صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا
والواقع ثانيا، والواقع أخيرا.
وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة،
يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي،
الأمر الذي يفسح المجال لتساؤلات عقيمة عن طبيعة النص هناك، وعن شكله ونمط الخط
المكتوب به، وهل تنطقه الملائكة بالعربية أو بغيرها، إلى آخر ذلك من أسئلة
عقيمة يمتلئ بها الخطاب الديني الإعلامي بشكل خاص، ويتحول الواقع إلى أسطورة
نتيجة لتثبيت المعاني والدلالات وإضفاء طابع نهائي عليها تأسيسا على مصدرها
الغيبي، ثم محاولة فرض المعنى الثابت الأزلي المفترض على الواقع الاجتماعي
الإنساني، والنتيجة الحتمية لذلك إهدار النص والواقع معا واستبدال الأسطورة
بهما، وهكذا يحكم علينا الخطاب الديني أن ندور حول أنفسنا في دائرة مفرغة،
ويقضى من ثم بكيفيه حادة على إمكانات استقطار الدلالات الممكنة والملائكة
لوضعنا التاريخي والاجتماعي.
يتجلى هذا الدوران في الدائرة المغلقة في طبيعة مفهوم الحاكمية ذاته، فهو مفهوم
يعتمد الخطاب الديني في طرحه على سلطة النص، حيث يتم الاستشهاد من آيات القرآن
والأحاديث النبوية، خاصة ما اصبح يعرف بآيات الحاكمية الثلاث في سورة المائدة،
للتدليل على أن الاحتكام للنصوص هو جوهر الإسلام، وان التساهل في ذلك أو إنكاره
يتضمن تهديدا خطيرا لا للعقيدة فحسب بل للحياة الإنسانية بمخالفة النظام الذي
وضعه الله بعلمه وقدرته وحكمته.
وبعبارة أخرى يتم تأسيس الحاكمية على النص لاثبات سلطته، ويمكن عكس الصياغة
وتظل القضية صادقة من منظور الخطاب الديني فيقال إن الحاكمية معناها تأسيس سلطة
النص اعتمادا على سلطة النص، وهذا هو الدوران في الدائرة المغلقة.
ولمناقشة هذا المفهوم، أو غيره من المفاهيم التي يطرحها علينا الخطاب الديني،
خروجا من تلك الدائرة المغلقة لا بد من العودة إلى الأصول والاحتكام لها.
والأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليه الوحي ذاته، العقل لا بما
هو آلية ذهنية صورية جدلية، بل بما هو فعالية اجتماعية تاريخية متحركة، هذه
السلطة قابلة للخطأ، لكنها بنفس ا لدرجة قادرة على تصويب أخطائها، والاهم من
ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم، فهم العالم والواقع وانفسنا والنصوص، ولأنها
سلطة اجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة،
إنها تتعامل مع العالم والواقع (الاجتماعي والطبيعي) والنصوص بوصفها مشروعات
مفتوحة متجددة قابلة دائما للاكتشاف والخفض والتأويل، ومن خلال هذا التجدد
والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آليات وتنضج في جدل لا نهائي. مثمر الخلاف،
ولأن الخطاب الديني يدرك أن الاحتكام إلى هذه السلطة يفقده كل أسلحته، ويكشف
قناعه الأيدلوجي فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات
تأسيسية في ثقافتنا – وهي محاولات تتعثر بحكم عوامل كثيرة – إلى التفكير، وهو
سلاح فعال في واقع متخلف يعاني أغلبية أفراده من الأمية التعليمية ويعاني
أغلبية متعلميه من الأمية الثقافية، وكثيرا ما يستسلم بعض العقلانيين لابتزاز
هذا السلاح، فيلجئون إلى التقية والمصالحة مع الخطاب الديني، وهو موقف خطير في
مغزاه وفي النتائج التي يؤدي اليها.
ولا سبيل أمامنا إلا أن نسعى في تأسيس العقل، لا بالخطاب وحده على أهميته، بل
بكل وسائل الكفاح والنضال الممكنة الأخرى، وقد سبق في تحليلنا أن كشفنا اعتماد
مفهوم الحاكمية في تأويله للنصوص على المقارنة بين الله والإنسان من خلال
ثنائيات : العلم – الجهل، والقدرة – العجز، والحكمة – الهوى، وكشفنا كيف أن هذه
الثنائيات تستند في الخطاب الديني – اعتمادا على النصوص أيضا – إلى ثنائية
الألوهية / العبودية، وهي ثنائية تختزل علاقة الإنسان بربه في هذا البعد وحده
ولسنا نريد هنا الالتقاء مع الخطاب الديني في آليات أو منطلقاته، فنستشهد بنصوص
أخرى تؤسس العلاقة على الحب، أو نستند إلى رأي واجتهاد آخر في التراث يؤسسها
على الحب كذلك، بل نريد الاحتكام إلى العقل الذي يردنا إلى البعد التاريخي
للنصوص، وهو البعد الذي يهدره الخطاب الديني في إحكامه كلها لا في تأويله
للنصوص فحسب، لقد كان المجتمع الذي جاء الوحي يخاطبه مجتمعا قبليا عبودية،
تعتمد العلاقات فيه على هذين البعدين الذين يمكن اعتبار أولهما بعدا أفقيا،
واعتبار ثانيهما بعدا رأسيا، ولا حاجة للإطالة في بيان البعد الرأسي الذي جسد
علاقة أعلى / أدنى داخل القبيلة الواحدة، ويستوى في ذلك أن يكون العبد عبدا
بالشراء أو بالأسر والاسترقاق، فلم يكن ثمة فارق في مكانة العبد إذا كان عربيا،
ويجسد البعد الأفقي علاقات القبائل، وهي علاقات قامت على الصراع على موارد
الثروة – أدوات الإنتاج – وهي الماء والكلأ. ومن الطبيعي في ظل علاقات الصراع
أن تلجأ القبائل الضعيفة لالتماس الحماية من القبائل القوية التي تستأثر
بالموارد المتاحة في منطقة تسمى "حمى القبيلة" ون هنا نشأت علاقات الولاء بين
القبائل، وهي علاقات تبدو على السطح أفقية، لكن لأنها علاقة قوية أقوى / أضعف
فهي في منطقة وسطى بين البعدين الأفقي والرأسي، وقد صاغت اللغة هذه العلاقات،
ولذلك نجد الكلمة المعبرة عن علاقة الولاء ومشتقاتها ذات دلالة ملتبسة، فهي من
الأضداد اللغوية التي تدل على المعنى ونقيضه، فألفاظ "مولى" تدل على العبد
والعبيد كما تدل على السيد والسادة.
والنصوص أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلا في حدود خاصة مشروطة
بطبيعة وظيفتها المقصودة في الثقافة، لذلك كان من الطبيعي أن تصوغ النصوص علاقة
الله والإنسان من خلال الثنائيات اللغوية / الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة
تتطور بتطور حركة المجتمع والثقافة فتصوغ مفاهيم جديدة، أو تطور دلالات
ألفاظها، للتعبير عن علاقات اكثر تطورا، فمن الطبيعي، بل والضروري، أن يعاد فهم
النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية واحلال المفاهيم
المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدما، مع ثبات مضمون النص، أن الألفاظ القديمة لا
تزال حية مستغلة لكنها اكتسبت دلالات مجازية، والإصرار على ردها إلى دلالاتها
الحرفية القديمة واحياء المفاهيم التي تصوغها إهدار للنص والواقع معا، وتزييف
لمقاصد الوحي الكلية، ومن الجدير بالملاحظة أن الخطاب الديني يلجأ إلى التأويل
المجازي للنصوص لنفي علاقات الحب والولاية والقرب بين الله والإنسان، في الوقت
الذي يصر فيه على التمسك بحرفية علاقة العبودية التي يؤسس عليها مفهومه
للحاكمية، إن تأويل ما هو اجتماعي / تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها
بتجدد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما هو عرضي مؤقت بالنسبة لشروط اجتماعية /
تاريخية مغايرة، لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعا تجاريا خاصة في مراكز
التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية كالبيع
والشراء، والربح والخسران، والميزان… الخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من
المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذه المفاهيم، وتم تأويلها كما تم تأويل
نصوص الصفات سواء بسواء.
قلنا إن التمسك بالدلالات الحرفية لمفاهيم اجتماعية / تاريخية في لغة النصوص
يؤدي لا إلى إهدار الواقع والنص فقط، إنما يؤدي إلى تزييف مقاصد الوحي الكلية،
تناقضا مع طاهر ما يعلنه الخطاب الديني، وربما مع ما يقصده كذلك، ويتم هذا
التزييف على خطوتين : أولاهما : الزعم إن الإسلام جاء ليحرر البشر من العبودية
(بالمعنى القديم) لبعضهم البعض ويردهم جميعا إلى العبودية لله وحده، وهذا هو
المعنى الذي أدركه العرب الذين خاطبهم الوحي. الخطوة الثانية : إن العبودية
الحقيقة معناها – كما فهم العرب أيضا – رفض حاكمية البشر والاحتكام إلى الله
وحده بالاحتكام إلى النصوص، وعلى هذا الأساس يفسر الخطاب الديني المعارضة
القوية التي وصلت إلى حد الصراع العسكري بين الإسلام وخصومه، وتستقيم الخطوة
الأولى مع الخطوة الثانية لو أن الإسلام كان مجرد حركة تحريرية لإلغاء الرق
والعبودية وتحرير العبيد. ومن ثم كان عداء سادة قريش له عداء لنظام يؤلب العبيد
ضدهم ويقضي على مصدر تجاري هام من مصادر ثروتهم، ولا شك أن الإسلام ساهم في
مرحلته المكية في تحرير العبيد نفسيا من سلطة السادة على أرواحهم ومعنوياتهم،
وهذا معنى " التأليب" الذي كان يشكو منه سادة قريش، وساهم الإسلام كذلك
بتشريعاته في المرحلة المدنية بإفساح مجال لتحرير العبيد بجعل العتق كفارة لبعض
الذنوب، وكان الأهم من ذلك كله مبدأ المساواة الذي ألح عليه الوحي بين الناس
جميعا بصرف النظر عن الجنس أو اللون. لم يكن الإسلام دعوة لإلغاء العبودية، لا
يعيبه ذلك ولا يشينه، فالنظام الذي حرم شرب الخمر على ثلاث مراحل لم يكن ليهدم
ركنا اقتصاديا هاما في الواقع، بل جاء في جوهره ليهدم أسس الجاهلية – كما
شرحناها من قبل – ويقيم الحياة على أساس المساواة والعدل، وليحرر الإنسان من
أوهام الأسطورة والخرافة.
إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من
البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه، لأنه مقصد شكلي ما دام
يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلا عن انه تزييف يجمد النصوص كما يجمد
الواقع، يتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن
معاشرة جنسية، وان هذه إحدى الطرائق في العلاقة بالنساء إلى جانب طريقة الزواج
الشرعي، ما دام ذلك قد وردت به النصوص، وليس غريبا أيضا في ظل عبودية النصوص أن
يتعلموا أن المواطن المسيحي مواطن من الدرجة الثانية يجب أن يحسن المسلم
معاملته، وهكذا يتوجه الخطاب الديني التعليمي التربوي إلى أبنائنا منبها أن
عليهم في معاملة زملائهم وأساتذتهم من الأقباط "الرفق بهم وعدم تكليفهم فوق ما
يطيقون"، وليس بعيدا في ظل سيطرة آفة التعصب التي يفرزها الخطاب الديني – قصد
أم لم يقصد فلا عبرة بالنوايا هنا – أن يطلع علينا مجتهد من مجتهدي هذا الزمان
ومجدديه بفتوى تحرم ما احتله النصوص من طعام أهل الكتاب استنادا إلى اجتهادات
بعض القدماء الذين ذهبوا إلى أن المقصود بأهل الكتاب في الآية الخامسة من سورة
المائدة"الذي انزل عليهم التوراة والإنجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من
كان دخيلا فيهم من سائر الأمم، ممن دان بدينهم، وهم من غير بني إسرائيل، فلم
يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل ذبائحه، لانه ليس ممن أوتي الكتاب من قبل
المسلمين، وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقول".
إذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين
آراء القدماء للاختيار منها، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكوما بأطر لا تمت
إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من
سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ " لا اجتهاد فيما فيه نص"، وفي قضية أن تحجب البنت
سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي آن يكون المعيار هو المقاصد الكلية
للوحي، بدلا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص.
وهذا المعيار يمكن تلمسه من خلال ربط النصوص بواقعها الاجتماعي / التاريخي،
وقياس مدى تطوير النص للواقع، ورصد اتجاه هذا التطوير، وهو معيار هام للاجتهاد
في مجال الأحكام التفصيلية لانه يكشف عن طبيعة المصالح التي يجب مراعاتها بعيدا
عن الأهواء الأيدلوجية، وفي قضية ميراث البنات، بل في قضية المرأة بصفة عامة،
نجد الإسلام أعطاها نصف نصيب الذكر بعد أن كانت مستبعدة استبعادا تاما، وفي
واقع اجتماعي / اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائنا لا أهلية له وراء التبعية
الكاملة بل الملكية التامة للرجل، أبا ثم زوجا، اتجاه الوحي واضح تماما وليس من
المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي، وإلا انهارت دعوى
الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها، واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك المتطور
وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها.
إن الخطاب الديني بكل مستوياته التي ناقشناها هنا من معتدل (حكومي ومعارض)
ومتطرف وتعليمي تربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على
السواء.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتا، فانه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات
سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الأعلام، صدى كان يتردد خافتا طوال الوقت، ثم
ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق ابسط المطالب
الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في
كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية
التطهيرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى
الموت / الاستشهاد.
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار،
ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة، إن الواقع من
منظور شباب عاصي على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس،
ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه
الصحابة تحت قيادة النبي، انه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق
هذا الحلم، وهلم جرا…..
وإذا كان النص القرآن يثير الإشكاليات السابقة كلها رغم ثبات منطوقه، فان نصوص
الأحاديث النبوية تثير إلى جانب الإشكاليات السابقة إشكالياتها الخاصة، وذلك
لأنها لم تدون إلا متأخرة، وخضعت من ثم لآليات التناقل الشفاهي، الأمر الذي
يقربها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث أنها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي،
وإذا كانت الأحاديث ذاتها، أي كما نطق بها النبي بلغته وألفاظه، نصوصا تفسيرية
لنوع من الوحي مغاير في طبيعته لوحي السنة، في الأحاديث التي بين أيدينا تكون
في حقيقتها تفسيرا للتفسير، فإذا أضفنا إلى ذلك ما هو معروف من أسباب وملابسات
كثيرة أدت إلى الزيادة في جسد الحديث بالوضع والانتحال، واختلاف علماء الحديث
بينهم في المعايير التي يصححون الأحاديث على أساسها، أدركنا تعقد حركة هذه
النصوص في الواقع الإنساني الاجتماعي، والخطاب الديني المعاصر يبدو من اجل ذلك
اقل تشددا ويسمح ببعض الاجتهاد والخلاف حول دلالة هذا النوع من النصوص، خاصة
إذا كان خلافا في الفروع :" ذلك أن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر وطبيعة
الحياة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فانما يكلف الناس
والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها، وفي مجال النقاش والسجال مع الشباب تثار
بعض إشكاليات النص الذي يفهم على ظاهره دون اجتهاد أو تأويل، إذ يشترط في مثل
ذلك النص : " أن يكون صحيحا مسلما به عند الجميع، ولا بد أن يكون صريح الدلالة
على المعنى المراد، ولا بد من أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص
الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية، قد يكون النص صحيحا عند إمام، ضعيفا عند
غيره، وقد يصبح عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عاما
وعند غيره خاصا، وقد يكون عند أمام مطلقا، وعند آخر مقيدا، وقد يعتبره بعضهم
محكما ويراه غيره منسوخا، إلى غير ذلك من الاعتبارات".
ولكن هذه الرؤية لمعضلة النص في الأحاديث تظل تطل من منظور القدماء وتثير نفس
أو بعض اشكالياتهم، دون أن تتجاوز إطار هذه الرؤية، ولعلنا لا نكون مغالين إذا
قلنا،
أن منظور القدماء كان اكثر اتساعا من جهة انهم لم يوقفوا عملية فرز جسد الحديث،
بالحذف والإضافة، طبقا لمعايير اجتهادية إنسانية اجتماعية بالضرورة، أن وقف هذه
العملية المهمة وتثبيت نص الحديث في الصحاح الخمسة – أو الستة – وعلى رأسها
البخاري ومسلم، هو في حقيقته تثبيت للواقع عند رؤى واجتهادات عصور بعينها، وهو
يصب في نفس أيدلوجية وقف الاجتهاد في النص القرآني. إن معايير السلف في نقد
الأحاديث وفي التمييز بين الصحيح والضعيف والمنحول كانت محكومة دون شك بأطر
معرفية زمانية نسبية محدودة، لا ترقى إلى مستوى المعايير الموضوعية النهائية،
كما يتوهم البعض، الحديث نص متحرك قابل للتجدد عن طريق استمرار عملية الفرز
قبولا ورفضا بناء على معايير اجتهادية وإنسانية، أي طبقا لفكر إنساني متطور
بطبيعته، ومرتبط بظروف الزمان والمكان والواقع الذي ينشئه، هذا من حيث هو نص
خام قبل أن يواجهه العقل بالفهم والتفسير والتأويل، فهو نص تكون وما زال يتكون
من خلال آليات العقل الإنساني منذ اللحظات الأولى للنطق به، والمسافة التي
تفصله عن المقدس مسافة شاسعة يكاد معها يكون نصا إنسانيا.
ولكي تتضح هذه القضية بشكل اعمق يتعين علينا أن نتعرض بشكل عام للآليات العامة
للفرز والتصحيح التي طبقت على جسد الحديث، وهو ما يطلق عليه مصطلح "الرواية"
تمييزا له عن مصطلح "الدراية" الذي يركز على الأحكام والتعريفات، وجدير بالذكر
أن الأحكام والتعريفات فرع على شروط الرواية ومعرفة أحوال الرواة، أي أن
الرواية بالمعنى الاصطلاحي – لا بمعنى عملية النقل ذاتها – هي أساس الدراية
التي تتعلق بالحكم على المتن، وتهتم الرواية بدراسة جانب السند من زاويتين:
الزاوية الأولى الاتصال والانقطاع بين الرواة الذين نقلوا متن الحديث من عصر
النبوة إلى آخر الرواة في سلسلة الإسناد، وهذا عمل توثيقي في المقام الأول لأنه
يهتم بالتأكد مما إذا كان كل راو من الرواة قد عاصر الراوي الذي ينقل عنه
الحديث، والاهم من ذلك أن يكون قد لقيه لقاء مباشرا وفي سنن النضوج التي تسمح
له بالأخذ والرواية، وأن يكون الاخذ مشافهة لا نقلا عن صحيفة أو ما شابهها إلى
آخر تلك الشروط التوثيقية. ونفس الشروط لا بد من توافرها في الراوي التالي،
وعدم توافرها في أحد الرواة يعني ضعفا في سلسلة الإسناد يؤدي إلى تضعيف الحديث،
فإذا كان ثمة فاصل زمني طويل بين راويين كان معنى ذلك أن راويا قد سقط من
الإسناد ويكون إسنادا منقطعا يترتب عليه أحيانا رفض الحديث ما لم يوثق براوية
أخرى متصلة.
أما الزاوية الثانية من دراسة السند فتهتم بالتحقق من المؤهلات العلمية
والأخلاقية لكل راوي على حدة، وهو ما يعرف بالجرح والتعديل، وهي مؤهلات كثيرة
أهمها أن يكون الراوي حافظا – أي لا ينسى – أمينا لا يكذب ولا يدلس، ثقة في
دينه وخلقه.
ولم يكن علماء الحديث، بحكم غلبة الطابع النقلي التوقيفي على عملهم، وبحكم
الارتباط بين اغلبهم وبين جهاز السلطة في اكثر العصور، يتمتعون باتساع الأفق
العقلي القابل للخلاف والنقاش مثل المتكلمين أو الفقهاء أو علماء القرآن، بل
كانوا اقرب إلى الوعاظ في تصور الحقيقة، وفي التعصب ضد أي اجتهاد ليس له سند
مباشر من النقل، لذلك ليس غريبا في كتب علم الرجال أن يستبعد من مجال الرواة
العدول كل من كان من أصحاب المقالات، وهو توصيف لكل الفرق، عدا تلك التي تعاطف
معها المحدث، ومن السهل على من يقرأ هذه الكتب أن يلاحظ تناقض الأحكام على
الراوي الواحد، فبينما يوثقه البعض يرى آخرون انه مدلس كذاب، وإذا وصفه البعض
بالحفظ والاستيعاب نجد البعض الآخر يضعه في دائرة المغلفين الذين يغلب عليهم
النسيان، وليست تلك الأحكام المتناقضة ناشئة عن الحب والكراهية، أو الإعجاب
والاحتقار، بل ناشئة عن اختلاف المعايير نتيجة لاختلاف المواقف الأيدلوجية، لن
نشير هنا لرفض علماء السنة لروايات الشيعة، ولا لرفض علماء الشيعة روايات أهل
السنة، وهو شديد الدلالة في ذاته، إنما نشير إلى رفض كل فرقة من فرق السنة
روايات اتباع الفرق الأخرى.
ثم استأثرت إحدى الفرق باسم " أهل السنة والجماعة" واحتكرته لنفسها بتأييد من
سلطة الدولة بعد القضاء على الاعتزال، وأصبحت هي الحكم والفيصل في قبول
المرويات أو رفضها، بل واكتسبت بحكم تأييدها للسلطة السياسية والتمتع بحمايتها
سلطة مرجعية في كل ما يتعلق بشئون الدين والعقيدة.
إذا انتقلنا من فحص السند إلى فحص المتن – علم الدراية – دخلنا دخولا مباشرا في
قلب آليات الاجتهاد، فالمتن إنما يكون صحيحا إذا لم يتضمن في دلالته أدنى تعارض
مع المبادئ العامة للشريعة ومقاصدها الكلية كما تستخرج من القرآن. هنا يعتمد
الاجتهاد على المقارنة بين نص في حالة فحص وفرز وبين نص آخر موثوق في صحة
منطوقة ثقة مطلقة، ولكن هذه المقارنة لا تتم بالطبع على مستوى المنطوق، بل على
مستوى الدلالات والمعاني، وهكذا تتداخل إشكاليات نصوص الحديث بالإشكاليات التي
حللناها عن النص القرآني، وترتد الفعالية كلها للعقل الإنساني المرهون بآفاق
الزمان والمكان، إنها عملية معقدة تكشف زيف مبدأ لا اجتهاد فيما فيه نص،
فالاجتهاد – كما رأينا – هو الوجه الآخر للنص، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن
يكون نصا لغويا دالا ويتحول إلى أيقونة للزينة والتبرك، هو أمر وقع بالفعل في
ثقافتنا، الاجتهاد – على عكس ما يعلن الخطاب الديني – هو الطريق الوحيد للإفصاح
عن دلالة النص الأولى الرئيسي – القرآن – وهو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى
إكساب النصوص الفرعية – الأحاديث – مشروعية الوجود ذاتها، الاجتهاد إذن لا يكون
إلا في النصوص، وما سوى النصوص من مجالات يحتاج إلى الإبداع لا مجرد الاجتهاد،
والى الاكتشاف لا مجرد ترديد أقوال القدماء.
إن تركيز الخطاب الديني على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر كافة، مع ما
يعلنه من قصر الاجتهاد على الفروع دون الأصول، ومع تحديد مجال الاجتهاد في
النصوص الفرعية – الأحاديث – دون النص الأساسي – القرآن – يؤدي إلى تحديد كل من
النص والواقع معا، فإذا أضفنا إلى ذلك أن ما يطرحه الخطاب الديني أحيانا من
اجتهادات لا يخرج عن مجال الترجيح بين آراء الفقهاء واجتهاداتهم واختيار بعضها،
أدركنا أن هذا الخطاب في الواقع يريد أن يرتد بالمجتمع إلى الخلف لا أن يحقق
تقدمه كما يزعم. والماضي الذي يريدنا أن نرتد إليه ليس الماضي الذي كان مزدهرا
بالحيوية الفكرية والعقلية، التي تؤمن بالتعدد وتحتمل الخلاف، بل الماضي الذي
ارتضى التقليد بديلا عن الاجتهاد، واكتفى بالتكرار بديلا عن الإبداع، ولا يظهر
الماضي الجميل حين يظهر في هذا الخطاب إلا في معرض التفاخر والزهو على العقل
الأوروبي وحضارته المادية التي أقامها على ما استفادة من العقل الإسلامي، كما
مر بنا في سياق تحليلاتنا. وأخيرا ينتهي الخطاب الديني إلى الانغلاق في دائرة
النصوص بعد أن جمدها وقضى على حيويتها، ويصدق قول القائل: " احتمينا بالنصوص
فدخل اللصوص"، وذلك حين يقضى على أهم واخطر ما اقره الفقهاء من مبادئ عقلية :
المصالح المرسلة والمقاصد الكلية، فيعيدها إلى النصوص مرة أخرى، وبالمفهوم الذي
يطرحه لها، مع أنها مبادئ لتأويل النصوص.
الواقع أذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته
صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا
والواقع ثانيا، والواقع أخيرا.
وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة،
يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي،
الأمر الذي يفسح المجال لتساؤلات عقيمة عن طبيعة النص هناك، وعن شكله ونمط الخط
المكتوب به، وهل تنطقه الملائكة بالعربية أو بغيرها، إلى آخر ذلك من أسئلة
عقيمة يمتلئ بها الخطاب الديني الإعلامي بشكل خاص، ويتحول الواقع إلى أسطورة
نتيجة لتثبيت المعاني والدلالات وإضفاء طابع نهائي عليها تأسيسا على مصدرها
الغيبي، ثم محاولة فرض المعنى الثابت الأزلي المفترض على الواقع الاجتماعي
الإنساني، والنتيجة الحتمية لذلك إهدار النص والواقع معا واستبدال الأسطورة
بهما، وهكذا يحكم علينا الخطاب الديني أن ندور حول أنفسنا في دائرة مفرغة،
ويقضى من ثم بكيفيه حادة على إمكانات استقطار الدلالات الممكنة والملائكة
لوضعنا التاريخي والاجتماعي.
يتجلى هذا الدوران في الدائرة المغلقة في طبيعة مفهوم الحاكمية ذاته، فهو مفهوم
يعتمد الخطاب الديني في طرحه على سلطة النص، حيث يتم الاستشهاد من آيات القرآن
والأحاديث النبوية، خاصة ما اصبح يعرف بآيات الحاكمية الثلاث في سورة المائدة،
للتدليل على أن الاحتكام للنصوص هو جوهر الإسلام، وان التساهل في ذلك أو إنكاره
يتضمن تهديدا خطيرا لا للعقيدة فحسب بل للحياة الإنسانية بمخالفة النظام الذي
وضعه الله بعلمه وقدرته وحكمته.
وبعبارة أخرى يتم تأسيس الحاكمية على النص لاثبات سلطته، ويمكن عكس الصياغة
وتظل القضية صادقة من منظور الخطاب الديني فيقال إن الحاكمية معناها تأسيس سلطة
النص اعتمادا على سلطة النص، وهذا هو الدوران في الدائرة المغلقة.
ولمناقشة هذا المفهوم، أو غيره من المفاهيم التي يطرحها علينا الخطاب الديني،
خروجا من تلك الدائرة المغلقة لا بد من العودة إلى الأصول والاحتكام لها.
والأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليه الوحي ذاته، العقل لا بما
هو آلية ذهنية صورية جدلية، بل بما هو فعالية اجتماعية تاريخية متحركة، هذه
السلطة قابلة للخطأ، لكنها بنفس ا لدرجة قادرة على تصويب أخطائها، والاهم من
ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم، فهم العالم والواقع وانفسنا والنصوص، ولأنها
سلطة اجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة،
إنها تتعامل مع العالم والواقع (الاجتماعي والطبيعي) والنصوص بوصفها مشروعات
مفتوحة متجددة قابلة دائما للاكتشاف والخفض والتأويل، ومن خلال هذا التجدد
والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آليات وتنضج في جدل لا نهائي. مثمر الخلاف،
ولأن الخطاب الديني يدرك أن الاحتكام إلى هذه السلطة يفقده كل أسلحته، ويكشف
قناعه الأيدلوجي فإنه يعجز عن الحوار على أرض العقل، ويلجأ في وجه محاولات
تأسيسية في ثقافتنا – وهي محاولات تتعثر بحكم عوامل كثيرة – إلى التفكير، وهو
سلاح فعال في واقع متخلف يعاني أغلبية أفراده من الأمية التعليمية ويعاني
أغلبية متعلميه من الأمية الثقافية، وكثيرا ما يستسلم بعض العقلانيين لابتزاز
هذا السلاح، فيلجئون إلى التقية والمصالحة مع الخطاب الديني، وهو موقف خطير في
مغزاه وفي النتائج التي يؤدي اليها.
ولا سبيل أمامنا إلا أن نسعى في تأسيس العقل، لا بالخطاب وحده على أهميته، بل
بكل وسائل الكفاح والنضال الممكنة الأخرى، وقد سبق في تحليلنا أن كشفنا اعتماد
مفهوم الحاكمية في تأويله للنصوص على المقارنة بين الله والإنسان من خلال
ثنائيات : العلم – الجهل، والقدرة – العجز، والحكمة – الهوى، وكشفنا كيف أن هذه
الثنائيات تستند في الخطاب الديني – اعتمادا على النصوص أيضا – إلى ثنائية
الألوهية / العبودية، وهي ثنائية تختزل علاقة الإنسان بربه في هذا البعد وحده
ولسنا نريد هنا الالتقاء مع الخطاب الديني في آليات أو منطلقاته، فنستشهد بنصوص
أخرى تؤسس العلاقة على الحب، أو نستند إلى رأي واجتهاد آخر في التراث يؤسسها
على الحب كذلك، بل نريد الاحتكام إلى العقل الذي يردنا إلى البعد التاريخي
للنصوص، وهو البعد الذي يهدره الخطاب الديني في إحكامه كلها لا في تأويله
للنصوص فحسب، لقد كان المجتمع الذي جاء الوحي يخاطبه مجتمعا قبليا عبودية،
تعتمد العلاقات فيه على هذين البعدين الذين يمكن اعتبار أولهما بعدا أفقيا،
واعتبار ثانيهما بعدا رأسيا، ولا حاجة للإطالة في بيان البعد الرأسي الذي جسد
علاقة أعلى / أدنى داخل القبيلة الواحدة، ويستوى في ذلك أن يكون العبد عبدا
بالشراء أو بالأسر والاسترقاق، فلم يكن ثمة فارق في مكانة العبد إذا كان عربيا،
ويجسد البعد الأفقي علاقات القبائل، وهي علاقات قامت على الصراع على موارد
الثروة – أدوات الإنتاج – وهي الماء والكلأ. ومن الطبيعي في ظل علاقات الصراع
أن تلجأ القبائل الضعيفة لالتماس الحماية من القبائل القوية التي تستأثر
بالموارد المتاحة في منطقة تسمى "حمى القبيلة" ون هنا نشأت علاقات الولاء بين
القبائل، وهي علاقات تبدو على السطح أفقية، لكن لأنها علاقة قوية أقوى / أضعف
فهي في منطقة وسطى بين البعدين الأفقي والرأسي، وقد صاغت اللغة هذه العلاقات،
ولذلك نجد الكلمة المعبرة عن علاقة الولاء ومشتقاتها ذات دلالة ملتبسة، فهي من
الأضداد اللغوية التي تدل على المعنى ونقيضه، فألفاظ "مولى" تدل على العبد
والعبيد كما تدل على السيد والسادة.
والنصوص أبنية لغوية لا تفارق النظام الدلالي للغتها إلا في حدود خاصة مشروطة
بطبيعة وظيفتها المقصودة في الثقافة، لذلك كان من الطبيعي أن تصوغ النصوص علاقة
الله والإنسان من خلال الثنائيات اللغوية / الاجتماعية، لكن إذا كانت اللغة
تتطور بتطور حركة المجتمع والثقافة فتصوغ مفاهيم جديدة، أو تطور دلالات
ألفاظها، للتعبير عن علاقات اكثر تطورا، فمن الطبيعي، بل والضروري، أن يعاد فهم
النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية واحلال المفاهيم
المعاصرة، والأكثر إنسانية وتقدما، مع ثبات مضمون النص، أن الألفاظ القديمة لا
تزال حية مستغلة لكنها اكتسبت دلالات مجازية، والإصرار على ردها إلى دلالاتها
الحرفية القديمة واحياء المفاهيم التي تصوغها إهدار للنص والواقع معا، وتزييف
لمقاصد الوحي الكلية، ومن الجدير بالملاحظة أن الخطاب الديني يلجأ إلى التأويل
المجازي للنصوص لنفي علاقات الحب والولاية والقرب بين الله والإنسان، في الوقت
الذي يصر فيه على التمسك بحرفية علاقة العبودية التي يؤسس عليها مفهومه
للحاكمية، إن تأويل ما هو اجتماعي / تاريخي في النصوص شرط لتجدد النصوص ذاتها
بتجدد ما هو جوهري أساسي وإسقاط ما هو عرضي مؤقت بالنسبة لشروط اجتماعية /
تاريخية مغايرة، لقد كان المجتمع الذي خاطبه الوحي مجتمعا تجاريا خاصة في مراكز
التأثير والسيطرة الدينية، ولذلك تعكس لغته إطار المفاهيم التجارية كالبيع
والشراء، والربح والخسران، والميزان… الخ، ولم يتمسك أحد من القدماء، بل من
المعاصرين للوحي، بالدلالات الحرفية لهذه المفاهيم، وتم تأويلها كما تم تأويل
نصوص الصفات سواء بسواء.
قلنا إن التمسك بالدلالات الحرفية لمفاهيم اجتماعية / تاريخية في لغة النصوص
يؤدي لا إلى إهدار الواقع والنص فقط، إنما يؤدي إلى تزييف مقاصد الوحي الكلية،
تناقضا مع طاهر ما يعلنه الخطاب الديني، وربما مع ما يقصده كذلك، ويتم هذا
التزييف على خطوتين : أولاهما : الزعم إن الإسلام جاء ليحرر البشر من العبودية
(بالمعنى القديم) لبعضهم البعض ويردهم جميعا إلى العبودية لله وحده، وهذا هو
المعنى الذي أدركه العرب الذين خاطبهم الوحي. الخطوة الثانية : إن العبودية
الحقيقة معناها – كما فهم العرب أيضا – رفض حاكمية البشر والاحتكام إلى الله
وحده بالاحتكام إلى النصوص، وعلى هذا الأساس يفسر الخطاب الديني المعارضة
القوية التي وصلت إلى حد الصراع العسكري بين الإسلام وخصومه، وتستقيم الخطوة
الأولى مع الخطوة الثانية لو أن الإسلام كان مجرد حركة تحريرية لإلغاء الرق
والعبودية وتحرير العبيد. ومن ثم كان عداء سادة قريش له عداء لنظام يؤلب العبيد
ضدهم ويقضي على مصدر تجاري هام من مصادر ثروتهم، ولا شك أن الإسلام ساهم في
مرحلته المكية في تحرير العبيد نفسيا من سلطة السادة على أرواحهم ومعنوياتهم،
وهذا معنى " التأليب" الذي كان يشكو منه سادة قريش، وساهم الإسلام كذلك
بتشريعاته في المرحلة المدنية بإفساح مجال لتحرير العبيد بجعل العتق كفارة لبعض
الذنوب، وكان الأهم من ذلك كله مبدأ المساواة الذي ألح عليه الوحي بين الناس
جميعا بصرف النظر عن الجنس أو اللون. لم يكن الإسلام دعوة لإلغاء العبودية، لا
يعيبه ذلك ولا يشينه، فالنظام الذي حرم شرب الخمر على ثلاث مراحل لم يكن ليهدم
ركنا اقتصاديا هاما في الواقع، بل جاء في جوهره ليهدم أسس الجاهلية – كما
شرحناها من قبل – ويقيم الحياة على أساس المساواة والعدل، وليحرر الإنسان من
أوهام الأسطورة والخرافة.
إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من
البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه، لأنه مقصد شكلي ما دام
يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلا عن انه تزييف يجمد النصوص كما يجمد
الواقع، يتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن
معاشرة جنسية، وان هذه إحدى الطرائق في العلاقة بالنساء إلى جانب طريقة الزواج
الشرعي، ما دام ذلك قد وردت به النصوص، وليس غريبا أيضا في ظل عبودية النصوص أن
يتعلموا أن المواطن المسيحي مواطن من الدرجة الثانية يجب أن يحسن المسلم
معاملته، وهكذا يتوجه الخطاب الديني التعليمي التربوي إلى أبنائنا منبها أن
عليهم في معاملة زملائهم وأساتذتهم من الأقباط "الرفق بهم وعدم تكليفهم فوق ما
يطيقون"، وليس بعيدا في ظل سيطرة آفة التعصب التي يفرزها الخطاب الديني – قصد
أم لم يقصد فلا عبرة بالنوايا هنا – أن يطلع علينا مجتهد من مجتهدي هذا الزمان
ومجدديه بفتوى تحرم ما احتله النصوص من طعام أهل الكتاب استنادا إلى اجتهادات
بعض القدماء الذين ذهبوا إلى أن المقصود بأهل الكتاب في الآية الخامسة من سورة
المائدة"الذي انزل عليهم التوراة والإنجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من
كان دخيلا فيهم من سائر الأمم، ممن دان بدينهم، وهم من غير بني إسرائيل، فلم
يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل ذبائحه، لانه ليس ممن أوتي الكتاب من قبل
المسلمين، وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقول".
إذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين
آراء القدماء للاختيار منها، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكوما بأطر لا تمت
إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من
سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ " لا اجتهاد فيما فيه نص"، وفي قضية أن تحجب البنت
سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي آن يكون المعيار هو المقاصد الكلية
للوحي، بدلا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص.
وهذا المعيار يمكن تلمسه من خلال ربط النصوص بواقعها الاجتماعي / التاريخي،
وقياس مدى تطوير النص للواقع، ورصد اتجاه هذا التطوير، وهو معيار هام للاجتهاد
في مجال الأحكام التفصيلية لانه يكشف عن طبيعة المصالح التي يجب مراعاتها بعيدا
عن الأهواء الأيدلوجية، وفي قضية ميراث البنات، بل في قضية المرأة بصفة عامة،
نجد الإسلام أعطاها نصف نصيب الذكر بعد أن كانت مستبعدة استبعادا تاما، وفي
واقع اجتماعي / اقتصادي تكاد تكون المرأة فيه كائنا لا أهلية له وراء التبعية
الكاملة بل الملكية التامة للرجل، أبا ثم زوجا، اتجاه الوحي واضح تماما وليس من
المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي، وإلا انهارت دعوى
الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها، واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك المتطور
وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها.
إن الخطاب الديني بكل مستوياته التي ناقشناها هنا من معتدل (حكومي ومعارض)
ومتطرف وتعليمي تربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على
السواء.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتا، فانه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات
سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الأعلام، صدى كان يتردد خافتا طوال الوقت، ثم
ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق ابسط المطالب
الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في
كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية
التطهيرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى
الموت / الاستشهاد.
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار،
ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة، إن الواقع من
منظور شباب عاصي على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس،
ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه
الصحابة تحت قيادة النبي، انه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق
هذا الحلم، وهلم جرا