قريش
من القبيلة إلى الدولة المركزية
ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا
خليل عبد الكريم
مقدمة
الباب الأول
المقدمات الذاتية
الباب الثاني
المقدمات الدينية
تمهيد : اليهودية والمسيحية
الباب الثالث : المقدمات السياسية
الباب الرابع
المقدمات الاجتماعية
المجتمع القبلي
الباب الخامس :
المقدمات الاقتصادية
مصادر الثروة
الباب السادس :
المقدمات الثقافية :
الشعر والخطابة :
في سقيفة بني ساعدة اجتمع المهاجرون والأنصار لبحث مسألة من يخلف محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرئاسة بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى راضياً مرضياً ، ( فتكلم أبو بكر وكان رشيدا فقال : نحن قريش والأئمة منا ( أحمد بن يحيي المغروف بالبلاذري في أنساب الأشراف ، الجزء الأول ص583 تحقيق د . محمود حميد الله نشره معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بالقاهرة الطبعة الأولى 1959 م .) ، وعندما احتدم النقاش بين الفريقين استطرد رضوان الله تعالى عليه قائلا : ولن تعرف العرب الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : هذا الشأن بعدي في قريش ( المرجع نفسه ص 584 ) ثم التفت إلى أحد زعماء الأنصار وهو بشير بن سعد رضي الله عنه ، وقال له : نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الأئمة من قريش ؟ فقال ـ أي بشير ـ اللهم نعم ( المرجع نفسه والصفحة نفسها ) وقبل ذلك أورد البلاذري بسنده : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر ابن الخطاب أبا عبيدة بن الجراح فقال له : ابسط يدك نبايعك ، ( المرجع نفسه ص 579 ) ومعلوم أن عمر بن الخطاب قرشي وأب عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كذلك من قريش ، فالمبايع ـ بكسر الياء ـ والمبايع ، بفتحها ـ كلاهما من قريش . ولما تمت البيعة إلى أبي بكر رضي الله عنه ، كان في نفس علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ منها شيء ، فتوجه إليه أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه ـ منطقا وقال : يا ابن عم إنك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ـ أي مشيخة قريش ـ ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أ رى أب بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، وإنك أن تعيش ويطل بقاؤك ، فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق ( د. محمد حسين هيكل في الصديق أبو بكر ، ص 64 الطبعة السابعة دار المعارف بمصر) ولكن عليا كرم الله وجهه ـ لم يرضه ذلك التلطف من جانب أبي عبيدة ـ رضوان الله عليه ـ فثار ثائر علي وقال : ـ يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله ي معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به ، لأننا أهل بيته ( المرجع نفسه ص 65 ) هكذ أفصح سلطان محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأن أحق من يخافه في هذا السلطان هم أهل بيته .
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فور سماعه خبر وفاة النبي صلوات الله عليه بادر بمبايعة رجل من قريش ، هو أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأبو بكر رضي الله عنه بدوره يرشح رجلين من قريش ويقول : إن تطيعو أمري تبايعوا أحد هذين الرجلين : أبا عبيدة وكان عن يمينه ، أو عمر بن الخطاب وكان عن يساره ويقرر حسم أن قريشاً وحدها هي صاحبة الحق في هذا الأمر ، ويذكر الأنصار بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : هذا الشأن بعدي في قريش والأئمة من قريش ، وعندما تباطأ علي - كرم الله وجهه - ينطلق إليه أبو عبيدة رضي الله عنه ـ ويخبره أن تولية أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الخلافة كان عن رأي مشيخة قريش أصحاب الخبرة والتجربة ، وأنه إذا طال عمره فستؤول إليه - إلى علي رضي الله عنه أي أن أبا عبيدة رضوان الله تعالى عليه ـ كان على يقين جازم أن السلطان لن يخرج من قريش ، ولن يفلت من يدها .
في المسألة المعروفة بجمع القرآن الذي بدأ في خلافة الصديق ـ رضي الله عنه وانتهى في غعد إمارة مروان بن الحكم على المدينة المنورة .
لما توفيت حفصة أرسل إلي عبد الله بن عمر أخيها ليرسلن بها ، أي بالصحف التي لديها ، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر ففشاها وحرقها ، مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان ـ رحمة الله عليه ) ( الإمام أبو بكر بن عبد الله بن داوود سليمان شعث السجستاني في كتاب المصاحف ص28 الطبعة الأولى 1405 / 1985 م دار الكتب العلمية بيروت لبنان . ) وكان عثمان رضي الله عنه قد انتهي من كتابة المصحف الإمام ، ووزع عدداً من النسخ على الأقاليم واستبقى أحداها في المدينة . في هذه المسألة نرى عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى يقول : لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش ) (الإمام شهاب الدين القسطلاني 851 / 923هـ في لطائف الإشارات لفنون القراءات ، الجزء الأول ص62 تحقيق وتعليق الشيخ عامر السيد عثمان ود . عبد الصبور شاهين الطبعة الأولى 1393 هـ / 1972 ( نشرة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي مصر ) كذلك أرسلنا عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف قال للرهط القريشيين الثلاثة : ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم . (لطائف الإشارات لفنون القراءات المرجع السابق ص26 )
على الرغم من أن زيد بن ثابت ـ رضوان الله تعالى عليه تربى في كنف الوحي ، إذ كان عمره إحدى عشرة سنة حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة ، فقالوا يا رسول الله هذا غلام بني النجار ، وقد قرأ أي حفظ مما نزل عليك سبع عشرة سورة فقرأ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأعجبه ذلك ، ويروي الذهبي أن ابن عمر قال يوم مات زيد بن ثابت رحمه الله فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها ، ويروي ابن سعد أن سليمان بن يسار قال : ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحداً في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة ، ويروي أن عامراً الشعبي قال : غلب زيد بن ثابت الناس بالقرآن والفرائض ، وهو إضافة إلى ذلك ـ كان يحفظ القرآن ويقرأه بالعرضة الأخيرة التي عرض بها جبريل عليه السلام القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ـ في العام الذي قبض فيه ، وقد ظل زيد مترئساً بالمدينة في القضاء والفتوة والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة وبعد ذلك خمس سنين حتى ولى معاوية سنة أربعين فكان أيضاً حتى توفى سنة خمس وأربعين ( أسد الغابة في معرفة الصحابة لعز الدين بن الأثير الجزري تحقيق وتعليق محمد إبراهيم البنا وآخرين ص872 ،972 من المجلد الثاني طبعة الشعب بمصر ) .
وكان زيد يكتب لرسول الله ص الوحي وغيره واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات في الحجتين وفي خروجه إلى الشام وكان عثمان يستخلفه أيضاً على المدينة إذا احتج ... وروى حميد الأسود عن مالك بن أنس قال : كان إمام الناس عندنا يعني المدينة بعد عمر زيد بن ثابت ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب لإبي عمر بن يوسف ص 835 المجلد الثاني الطبعة الأولى 1411 هـ 1991 م دار الجيل بيروت ) .
ولكن كل هذه الصفات الفريدة التي تميز بها الصحابي العالم بالقراءة زيد بن ثابت ـ رضوان الله عليه ـ والتي رفعت مكانته إلى درجة عالية لا تقاس بها صفات سعيد وعبد الرحمن وعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهم - في هذا المضمار ، لم تؤهله لأن يكون الحكم ، وتغدو كلمته هي الفاصلة عند الاختلاف لأنه غير قرشي والباقون من قريش .
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أعيان علماء الصحابة وبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام رحل إلى الكوفة وأخذ يفيض هناك على المسلمين من علمه الذي نهله من الرسول عليه السلام وأسس فيها - أي في الكوفة - مدرسة مرموقة لها تاريخ ناصع بين مدارس العلم الإسلامي بعمومه ، وقد كان في الكوفة ستون شيخاً من أصحاب عبد الله بن مسعود وكان في بني ثور الذين نزلوا الكوفة ثلاثون رجلاً ، ما فيهم دون الربيع بن خيثم المشهور بعبادته وورعه وعلو مكانته في الحديث وكان فيها كميل بن زيد النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي وسعيد بن جبير الأسدي، وإبراهيم النخعي وأبو إسحق السبيعي وعبد الملك بن عمر وغيرهم . (محمد عجاج الخطيب الأستاذ بكليتي الشريعة والتربية بجامعة دمشق في السنة قبل التدوين الصفحة 167 الطبعة الخامسة 1401 / 1981 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان وقد رجع الباحث في هذه الخصوصية إلى كل من : الباقلاني والذهبي وابن عبد البر وابن سعد .)
وقال رسول الله في حقه ( أنك غلام معلم ) واصطفاه الرسول لنفسه واختص به دون غيره حتى ظن بعض الصحابة أنه من أهل بيت النبوة وقال الرسول ص ( من أحل أن يقر القرآن غضاً طرياً - كما أنزله فليقرأه على قراءة أم ابن عبد ـ أي مسعود ـ رواه ابن شيبة في " مصنفه " وأحمد في " مسنده " وورد في ( صفة الصفوة ) وبعثه عمر بن الخطاب إلى العراق وكتب لأهله أما بعد : فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهماً من النجباء من أصحاب رسول الله ( ص ) وكان ابن مسعود يقول عن نفسه : لقد علم أصحاب رسول الله أني أعلم بكتاب الله
… سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم بليل نزلت أم بنهار .. في سهل نزلت أم في جبل . (موسوعة الفقهية عبد الله بن مسعود ، تجميع د. محمد رواس قلعه جي ، بتصرف ص7 ،8،9 من المقدمة ، الطبعة الثانية 1411هـ/ 1991 م ، دار النفائس ، لبنان ) .
هذا الصحابي العالم ـ عبد الله بن مسعود رضوان الله تعالى عليه - عندما سمعه عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقرأ ( عتى حين ) أي ( حتى حين ) وهي جزء من الآية 174 من سورة الصافات ، أنكر عليه ذلك ( وكتب إليه : إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل ، وهي قبيلة عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ، وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان ، رضى الله عنه ـ الناس على قراءة واحدة ) ، ( الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري الجزء العاشر ص402 ) ، أي أن عمر بن الخطاب يرى أنه ليس من حق مسلم أن يقرأ القرآن إلا بلهجة قريش على الرغم من وجود حديث صحيح ومشهور ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ) ..
ويؤكد د . عبد الصبور شاهين أن ( هذا الحديث ورد إلينا عن طريق أربعة وعشرين صحابياً ، منهم أبي كعب وأنس أبن مالك وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر ..الخ) ( د. عبد الصبور شاهين في تاريخ القرآن ، 22 ص 25 من سلسلة " دراسات في القرآن والعربية " الطبعة الأولى 1966 م ، دار القلم بالقاهرة ) ، أن عمر بن الخطاب أنكر على عبد الله بن مسعود قراءة القرآن بلهجة هذيل مع وجود الرخصة التي حملها الحديث الشريف الذي كان هو أي عمر رضي الله عنه أحد رواته وأمره بحزم بضرورة القراءة بلغة قريش حتى لا يكون لها أي منافس لا هذيل ول غيرها وليزداد الناس إلتفافاً حولها ، وهذا منزع سياسي لحماً ودماً .
فما الذي دعا كلاً من عمر وعثمان رضي الله عنهما للحرص على أن يدون المصحف بلغة قريش. ألأن القرآن هو دستور الإسلام ؟ ( الدستور كلمة فارسية معربة ومعناها القانون الأساسي ) وكتابه الأعظم وعموده الفقري ؟ أم لأنه السند والركيزة والعماد لدولة قريش التي قامت في يثرب ؟
أما القول بأن القرآن نزل بلغة قريش فإن أساتذة علوم القرآن لهم رأي مخالف ، فعلى سبيل المثال ( قال أبو بكر الواسطي في كتابه " الإرشاد في القراءات العشر " : في القرآن خمسون لغة ، ثم قام بتعدادها ، وأضاف ومن غير العربية : الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط ) . بل أن الإمام السيوطي ذكر في النوع الثامن والثلاثين فيما وقع في القرآن بغير لغة العرب . ما استغرق من كتابه ( الإتقان في علوم القرآن ) أكثر من سبع صفحات من القطع الكبير . الإمامان الواسطي والسيوطي طيب الله ثراهما من كبار علماء علوم القرآن كما رأينا يؤكدان أن القرآن نزل بلغات عديدة ، أو لهجات عديدة أو ألسنة عديدة منها ما هو خارج عن نطاق اللغة العربية ، لسان أهل شبه الجزيرة العربية ، إذن فلابد أن الدافع الذي حفز كلا من عمر وعثمان رضي الله عنهما إلى الإدلاء بتينك المقولتين هو دافع سياسي بحت .
ضرب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مثلاً فريداً في عدل الحاكم ، وانطلق يحقق الرخاء لرعيته في ظل من العدل والمساواة والأخوة الإنسانية ( عبد الرحمن الشرقاوي في الفاروق عمر ، ص292 ،ط1 ، 1987 ) وكفل للناس حرية العقيدة وحرية الفكر ورعي للإنسان وقاره واحترامه وكبرياءه ..( نفس المرجع ) وكان عادلاً لأنه قوي ومستقيم بتكوين طبعه ، وأن شئت فقل أيضا بتكوينه الموروث ( عباس محمود العقاد من عبقرية عمر ، ص 26 - (د.ت.) دار الهلال بمصر ) .
ولا يختلف اثنان على عدل عمر ، ويخرج عن نطاق بحثنا سوق أمثلة على التزامه الصارم بالعدل ، ولكن عندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي - لعنه الله تعالى - وأخذ رأيه فيمن يخلفه قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفى رسول الله ( ص ) وهو عنهم راض ، فسمى علياً وعثمان وطلحة وسعداً وعبد الرحمن والزبير وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له في هذا الأمر شئ ، ( الإمام البخاري في صحيح البخاري ، قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه ) ، وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة إن الله -عز وجل - طلما أعز الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار ، فاستحث هؤلاء الرهط ، حتى يختاروا رجلاً منهم ، وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام وأوصى بأن من يخالف من هؤلاء الستة ما يستقر عليه رأي الباقين ( يشدخ رأسه بالسيف ) وأن رضى ثلاثة منهم رجلاً ورضى الثلاثة الآخرون رجلاً فليحكموا عبد الله بن عمر فإن لم يرضوا بحكمه فيتم اختيار من ارتضاه الفريق الذي يضم عبد الرحمن بن عوف ، ثم انتهى الأمر باختيار عثمان - رضي الله عنه - خليفة .
هنا نجد أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يحدد ستة نفر ، كلهم من قريش ليتولى واحد منهم رئاسة الدولة من بعده ، ويضع ابنه عبد الله - رضي الله عنه - وهو قرشي ليشترك في الاختيار وليصير حكماً إذا تعادلت الأصوات وترك عمر - رضي الله عنه - أصحاب رسول الله ( ص ) من سائر القبائل وفي مقدمتهم الأنصار ( الأوس والخزرج ) ، ومنهم عدد لا يحصى ممن ينطبق عليه الشرط الذي حدده عمر وهو رضاء الرسول - عليه السلام - عنه حتى وفاته ، وهنا يحق لنا أن نسأل ( عن حق هؤلاء الرهط في تقرير مصير الخلافة دون سائر المسلمين ؟ إذا كان مجرد رض النبي عنهم - إذا فرضنا صحة ذلك ، مع أن بعض المؤرخين قد أشار إلى غضب الرسول على طلحة - كافياً لترشيحهم للشورى ، فلماذا لم يدخل عمر آخرين ممن كان الرسول راضياً عنهم من المهاجرين والأنصار ) . ( د. نورى جعفر في علي ومناؤوه ، ص 60 الطبعة الأولى 1394هـ/ 1974 م ، نشر مطبوعات النجاح بالقاهرة ) .
وقد كان في حزب الأغنياء أفراد من بطون شتى وكان قائده أبو سفيان ثم جاء عثمان ثم معاوية ولقد كان في حزب التجار والأغنياء أشخاص من بني هاشم منهم : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب والعباس بن عبد المطلب ، أما الأحاديث التي تذكر أن العباس كان مسلماً وخرج مكرها لقتال المسلمين في بدر فقد وضعت كما نرجح في عهد أحفاده ( العباسيين ) مثل الخبر الذي ذكر عن حضور العباس مع النبي العقبة الثاني أو عقبة السبعين التي تمت فيها بيعة الحرب بين محمد والأنصار وكانت هناك صلة حميمة بين أبي سفيان والعباس استمرت بعد الإسلام وهو الذي أخذ له الأمان من محمد عند فتح مكة مما أثار ثائرة عمر بن الخطاب الذي كان أقرب إلى حزب المستضعفين ـ وحدثت بينه وبين العباس مشادة لأن عمر كان يميل إلى عقاب أبي سفيان بضرب عنقه جزاء لأفعاله في الكيد للإسلام ومحاربته إياه .
يشرح لنا ابن سعد في الطبقات الكبرى العلة في إطلاق اسم الندوة على تلك الدار ( وإنما سميت دار الندوة لأن قريشاً كانوا ينتدون فيها أي يجتمعون للخير والشر ، والندى مجمع القوم إذا اجتمعوا… ففيها يكون أمر قريش كله وأضاف الازرقي : ( وحلفاؤهم كبير وصغير ) ومما هو جدير بالذكر أنه حتى الآن طبقاً للشريعة الإسلامية ( يستحب لمن دخل مكة أن يبادر إلى ( البيت ) بعد أن يدع أمتعته في مكان أمين ) مع ملاحظة ما سبق أن سطرناه : أن دار الندوة بين الكعبة وبئر زمزم وأن بابها كان إلى البيت " الكعبة " ولم تكن هذه هي البصمة الوحيدة التي تركتها " دار الندوة " في الوجدان العربي ، فقد ورد فيما سبق أن ابن سعد في طبقاته الكبرى ذكر أن القرشيين إذا عزموا النكاح عقدوه في دار الندوة والنكاح هو الزواج ، وفي أيامنا هذه تتم عقود الزواج بالعشرات كل أسبوع في القاهرة في المساجد التي بها أضرحة يرقد بداخلها أحفاد قصي مؤسس دار الندوة .
( وسكن يهود يثرب … وظلوا أصحابها وسادتها حتى جاء الأوس والخزرج فنزلوا واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود فتغلبوا وسيطروا على المدينة أي يثرب وقسموها فيم بينهم فلم يبق لهم من يومئذ عليها سلطان ، وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجيء الأوس والخزرج كان بعد سيل العرم ) ولقد تناقض د/ جواد علي مع نفسه في ذكر أسبقية سكن يهود يثرب إذ ورد أنها كانت في أيدي الأوس والخزرج ثم طرأ عليهم اليهود ( وكانت يثرب عند هجرة اليهود في أيدي أصحابها الأوس والخزرج ولهم سيطرة عليها ) أن ما يجمع عليه المؤرخون والإخباريين هو أسبقية اليهود في استيطان يثرب ومع ذلك ذكر لنا في مواضع أخرى سيطرة اليهود على الأصقاع الأخرى التي توجدوا فيها :
ويشرح لنا برهان الدين دلو المتغيرات التي طالت مجتمع ما قبل ظهور الإسلام ، والتي أدت إلى ذيوع الحنيفية بقوله ( تطورت القوى المنتجة وتوسعت أعمال الري الاصطناعي وازداد الإنتاج الزراعي وارتبط الإنتاج الصناعي بسوق التبادل ونمت المدن وتحولت العديد من القرى إلى حواضر مدنية.. ونظمت الأسواق الموسمية العامة
… ونشطت التجارة الداخلية والخارجية فازداد العرب تقارباً . وأدى نشاط التجارة واتساع عمليات التبادل في نشر التعامل النقدي داخل المجتمع القبلي مما سارع في تفككه … وتفكك رابطة الدم والنسب بين أبناء القبيلة ونما التيقظ القومي متمثلاً في ظهور الأحباش في اليمن عام 575 م وبانتصار العرب على الفرس في موقعة " ذي قار " عام 609 م … وعلى الصعيد الثقافي انصهرت اللهجات وتوحدت في لهجة مشتركة " لهجة قريش " التي أصبحت لغة التعبير الفني ولغة التعامل المشترك بين مختلف القبائل أثناء انعقاد المواسم العامة التجارية والدينية و الأدبية
… وقد ساعد إلى جانب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وجود اليهودية والنصرانية في تغيير الوعي الديني باتجاه النظر التجريدي نحو مشكلة الوجود متجاوزاً النظرة الحسية في خلق " ظاهرة الحنفاء " (برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الثاني ، ص237 ، 238 ، ط1 ، 1989م ، دار الفارابي بيروت ، لبنان ) ويرى الباحث أن " ظاهرة الأحناف " ( كانت بداية الإرهاص الفعلي لظهور دعوة الإسلام ) (المرجع نفسه والصفحة نفسها ) .
ومن المشكلات التي عانت منها بيزنطة أن الدولة الفارسية قد ضيقت عليها الخناق في التجارة العالمية مما أصاب ماليتها بالعسر .. (
… هكذا أصبح من الواضح أن السياسة الرومانية فشلت أثناء عهد جوسنيان في مقاومة الاحتكار الفارسي للتجارة العالمية سواء في جزيرة سبلان أو في المواني الفارسية ذاتها ، وكان على رأس هذه السلع التجارية الحرير الصيني ) ( د . محمد فتحي الشاعر ، السياسة الشرقية .. ص179 ) .
لقد كانت طبقة الفقراء أصدق حساً تجاه نداء محمد ( ص ) فقد عرفت بفطرتها الطبيعية أنه النداء الذي تكاملت له الشروط وآذنت بانبعاثه ، ولا غرو تلك الطبقة ذاتها كانت نتاجاً شرعياً أو مولوداً شرعياً للمجتمع الحضري ـ خاصة في مكة ـ ويرى د.حمود العدوي أن ( الدعوة وصاحبها كانت محكومة إلى حد كبير بطبيعة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية السائدة
… ولم تكن مجرد تعبير عن مفاهيم دينية وغيبية مثالية بحتة منبثقة عن مفاهيم مجردة ومنفصلة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي السائد
… لقد كانت هي التعبير المباشر إلى حد وبشكل ما عن الطبقة الاجتماعية المسحوقة من عبيد وفقراء وصعاليك … فلم يكن الخلاف والعداء والمقاومة الشرسة التي لقيها محمد وأتباعه من قبل الأرستقراطيات السياسية والاقتصادية في المجتمع المكي القديم هو عداء وخلاف ديني بقدر ما أنه كان خلافاً وتناقضاً اجتماعياً وطبقياً في الأساس
… ويؤكد هذه الحقيقة التاريخية انتشار مبادئ الدعوة في أوساط الفئات والطبقات المقهورة من العبيد والموالي وفقراء وصعاليك المجتمع المكي ) ( د.حمود العدوي ، المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي ـ دراسة عن المجتمع اليمني ، فصل عنوانه " تناقضات المجتمع المكي القديم " وبقصد المؤلف بـ " القديم " السابق على ظهور الإسلام ، ص163/164 ،ط2 ، سبتمبر 1989م ، د.ن ) والذي يؤكد م ذهبنا إليه وأيدنا فيه حسين مروة وحمود العدوي أن الغالبية الساحقة من الذين استجابوا لمحمد (ص ) هم من طبقة المسحوقين من المجتمع المكي والذين كانوا سخرية وهزء صناديد قريش ويحدثنا القرآن الكريم أن خصوم الرسل وهم ( الملأ ) كانو يطلقون على المستضعفين الذين يتبعون الرسل لقب (الأراذل ) .