هل المسيح هو الله

 

سؤال مهم  يسبقه سؤال تأسسي أهم . بمعنى : نحن نعلم  أن الله ليس جزءا من الكون رغم وجودة في كل شيء في كل مكان وفي كل لحظة من الزمان ، إلا انه متعال عن العالم وبعيدا عنه في نفس الوقت . إذ هو مختلف عن الزمان والمكان والأشياء كل الاختلاف.

لكن هل يعني ذلك انه اله لا تجمعه مع العالم أي علاقة على الإطلاق ؟ ! هذا محال .

لقد نسبت الأديان لله علاقات مكانية وزمانية وسببية .

فهي تقر أن الله في السماء وفوق السماء ؛ ثم هو حاضر في كل مكان ، ولكنه أيضا خارج المكان فهل المكان شيء أخر بالنسبة إليه أم انه ليس هناك أي جزء من أجزاء المكان خارج الله ؟ !!

مجموعة من الأسئلة ألتا ملية حارت فيها العقول وثبت عجزها عن إدراكها -  فكيف بها تحاول لدى البعض أن تحل الحقائق المرتبطة باللاهوت  المسيحي بأي وجه من الوجوه ، اذ ليس لدى البشر طاقة عقلية تصل بهم إلى للوصول إلى معرفة كنه الله لا على سبيل ما سردناه من أسئلة ، ولا من ناحية أخرى مما ينتقدون فيه المسيحية بغير وجه حق فيما آمنت به عن طريق إعلان الوحي وهي وفي حالة التسليم الإيماني بأن ( الوحي فوق العقل) لانه ليس للعقل السيطرة على (الحقيقة الإلهية) مهما كان منطقه واجتهاداته ، وانما قد أفادنا الوحي   بما عجز العقل عن الوصول إليه ، فقد تنازل سبحانه واعلن لنا عن ذاته  في كتابه ما تستطيع عقولنا احتماله !! .

الخلق بالنسبة للاقانيم الثلاثة

عند سرد الوحي قصة الخلق أعلن لنا في فاتحة الكتاب المقدس عن الله وكلمته وروحه ( تك 1 : 1-3 ) وهذا الاعلان يحققه داود النبي بقوله : ( بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها ) مزمور 6: 23.

والكلمة هنا إذا ليست مجرد تلك التي تعني كلمة الأمر أي لفظة ( ليكن) التي قالها الله تعالى عند خلق الكائنات بل هي ابنه المساوى له في الجوهر إذ هو القوة الناطقة في اللاهوت- وقد أشار إليها داود في موضع آخر بالقول : ( كلمتك يارب تدوم في السماء  والى الأبد) ، أشار إلى الروح أيضا بقوله : (  ترسل روحك فيخلقون) فهذا إعلان أكيد عن الاقانيم الثلاث الشريكة في الإبداع .

هي كذلك لأنها واحدة في الجوهر اذ جوهرها واحد فلا يمكن لأي اقنوم  منهم أن يكون منفصلا في ذلك الجوهر  الفريد، لان كلا منهم انما يوجد متحدا ومرتبطا وكائنا بالآخر!! ولذلك فانهم متوحدون في الإرادة والقوة  والفعل بلا فرقة بينهما في شيء من ذلك على الإطلاق

ولهذا فان أعمالهم الإلهية مشتركة  فما يقوم به اقنوم منها بعمل لا يكون بغير الاقنومين الآخرين ، فما يعمله اذا أحد الاقانيم يحسب للاقانيم الثلاثة بسبب وحدا نيتهم في الجوهر  الواحد الذي لهم

فإذا أريد بقول ما اقنوم منها فليس معنى  ذلك إخراج الاقنومان الآخران اذ لا انفكاك  للابن والروح القدس عن الآب !.

وهنا في مجال الخلق نجد انه منسوب للاب ، لكن الابن والروح القدس مشتركان فيه : ( تك 1: 1-3 مع يوحنا 1: 1-3)

فهذه الخليقة العظيمة التي تمجد الله وتسبح بحمده انما هي نشاط مباشر للوجود الإلهي للثالوث  الاقدس في الذات الإلهية الواحدة .

فإذا كان الآب أراد خلق العالم وهو باعتباره المصدر الفكري لهذا الوجود ، أي صاحب المشروع ، فان الابن هو الذي قام بالأشراف على عملية الخلق  فهو مهندس المشروع أو الخطط له ، والروح القدس هو المنفذ الفعلي لانه هو الذي بث الحياة في المادة ، واخرج بذلك الصورة إلى الفعل .

وعلى ذلك يمون الثلاثة اقانيم مشتركين معا في خلق الخليقة ليس بالاستقلال بل بالاشتراك معا .

ولذلك خلق الله العالم ليس ككونه ثلاثة بل باعتباره واحدا ، لكون طبيعته الواحدة منظور في الاقانيم وهي بداية لحركة واحدة ، لأنه من اللازم  أن يكونوا ذوى الطبيعة الواحدة ذوى فعل واحد أيضا . وذلك لكونهم جوهر واحد غير ينقسم وذات واحدة منزهة عن الاعراض . وان اقانيمه تعالى متميزة الوظائف والأعمال ولكن بغير تفرد أو استقلال .

المسيح هو كلمة الله الذاتية

المسيح هو كلمة الله ( أي نطق الله الذاتي) هذا ما نؤمن به نحن معشر المسيحيين على اختلاف طوائفنا ومذاهبنا .

إما سبب أيماننا هذا فيرجع إلى الإعلان الإلهي  وبالتحديد إلى بداية انجيل البشير يوحنا : ( في البدء كان الكلمة وكان الكلمة الله ) يو 1: 1 2. والى  ورؤياه 19: 13 : ( ويدعى اسمه كلمة الله) مع أن الاسم المتعارف عليه لدينا هو يسوع المسيح ، فمن أين أتى له هذا الاسم الآخر ؟ : هذا هو اسمه في الأزل المطلق قبل ظهوره على مسرح التاريخ في عرض الزمان إما ما هو القصد من إطلاق هذا الاسم عليه  ؟ لقد ورد اسمه في الكتاب المقدس بعهديه كما تكلمت عنه ( الفلسفة) أيضا وفي كليهما تم استخدام لفظة (LOGOS  عنه وهي يونانية ترجمتها (الكلمة) واعتبرته ( العقل الإلهي) على أن الكتاب المقدس وخاصة العهد الجديد هو الذي حقق لنا أن هذه اللفظة هي وصف لموجود حقيقي اكثر من كل الكائنات الأخرى وانه في زمن معين ظهر في التاريخ ليكون حلقة الاتصال المنظورة بين الله وهذه الكائنات بأسرها فهو همزة الوصل  بين الله والخليقة كلها اذ أن به تم اختزال المسافة اللانهائية  بينهما وتم بذلك الاتصال  .

لقد اتفقت الأديان جميعا على أن هناك إلها واحدا خالقا للكون ولكن وجهتها هذه المشكلة وهي : كيفية اتصال هذا الإله بالعالم

وذلك بسبب التنزيه البالغ الذي تمسكت به عنه تعالى .  ومن ثن كان لا بد من ظهور المسيحية لإيجاد هذه الوساطة المطلوبة بين الله والعالم عن طريق (الكلمة) لان الكلمة (الذي هو)  العقل ( يصدر عن الله ، والمادة تنقاد إلى هذا العقل .

بهذا الإعلان الإلهي ، ربطت المسيحية ين ( التنزيه ) الذي يقول بان الله منفصل تماما عن كل شيء، والتشبيه الذي يعلن وجود الله في كل شيء ، وذلك عن طريق الوسيط الوحيد (الكلمة الأزلي) مما زاد معه التعجب كلما تأمل الناس في جلال (الكلمة الإلهي الذي صار جسدا . وبذلك تم التوازن بين (التنزيه ) و(التشبيه) ومع أن هذا جمع بين امرين متناقضين ، إلا انهما في الحقيقة ليسا بمتعارضين ، بل هما يمثلان جانبين لا بد منهما عند الحديث عن الله وهما ( البعد والقرب)، فمع أن التنزيه يمنعنا منعا باتا  من الإقرار  بأي صلة بالله ، إلا أن التشبيه يعلن بانه ليس بعيدا عن أحد ، اذ بواسطة (الكلمة) تم الجمع بين التنزيه  والتشبيه .

لا شك أن الضرورة أمام العقل المخلوق تحتم وجود هذا الوسيط باعتباره الواسطة  التي يظهر الله عن طريقها ذاته وهذا هو الذي تميزت به المسيحية عن غيرها وهي تثبت بذلك عدم كفاية الوحي وحده ليكون حلقة الاتصال بين الله والناس ، ومن ثم جاء الابن (الكلمة الأزلي )ليخبرنا عن الله ويربطنا به .

والكلمة هنا بحسب ما جاء عنه في الكتاب المقدس من أوله إلى آخره انما تدل على شخص عجيب ، هو الذي يدعى وحده بذلك ، وهي في معناها الأسمى ( المسيح) .

عرفنا مما سبق بيانه أن (الكلمة) هي اسم للمسيح ينسب إلى (الله) بإطلاق فيقال لهذا السبب (كلمته) و (كلمة الله) وذلك بمثابة تحديد معين لا يمكن تجاوزه اذ هو يؤدى إلى معنى أن (المسيح وحده) هو (كلمة الله) دون أن يشاركه في ذلك سواه ، الأمر الذي عرفنا منه بالضرورة أن هذا الاسم (الكلمة) هو من صفات الله الذاتية  المستقرة  في نفسه.

مما يستوجب التأكد هنا على ضرورة التمييز بين المسيح باعتباره (كلمة الله الذاتية) وبين الكتاب المقدس الذي هو (كلمة الله الوصفية) وكذلك الأمر الايجادي  بلفظ (كن)   والذي يطلق عليه (كلمة الله الأمرية) إذ أن الخلط هنا في هذا المجال بال ويؤدي إلى ضلالات ليست في الحسبان .

وذلك لان المسيح هنا ليس مجرد كلمة من كلمات الله بل هو (كلمة الله) الأزلي غير المحدث ، ولذلك فقد استطاع أن يقدم لنا صورة صادقة للذات الإلهية . استحق بها أن ندعوه كلمة الله الذاتية.

فهو لس شبيه بكلام الوحي ولا بكلمة التكوين ، بل هو ذات أي شخصية متميزة لها وجودها الخاص .

وقد لاحظ علماء اللغة العربية بأنه بينما عبارة كلمة من كلمات الله ، تعنى كلمة من الله معناها ( تعبير أو حديث )  إلا أن عبارة (كلمة الله) تقدم مفهوما أخر وهو الإعلان الإلهي لما في ذات الله .

وهذا يستوجب التسليم بان (الكلمة) في المعنى المتقدم هي من استلزامات الوجود الإلهي حتى لا يكون الله صامتا  أو عاطلا في الأزل بل كان له نشاط  فكري ذاتي  قبل ظهور الكائنات  ، ولولا وجود اقنوم الكلمة في اللاهوت  لما كان هناك مجال لهذا النشاط أزلا

ولا لإظهاره عند الخلق إذ انه هو العقل الحاوي للفكر الإلهي تصويرا وتعبيرا .

ومن المؤسف أن بعض الفئات الضالة من الذين ينتقضون المسيحية لرفض عقولهم التسليم بإعلانات الوحي عن (المسيح)

والعمل على تفهمها على الوجه الصحيح ، مجهدين أنفسهم في ابتداع تخريجات باطلة عنه ، من بينها انه ادعى (بالكلمة) لأنه كلمة من كلمات الله  لمتداولة والمتتابعة مع الزمن ، وكذلك قولهم أنه إنما دعي بالكلمة ، لأنه كرسول قام بإبلاغ الناس كلام الله أو لأنه تكلم بكلمة الله للآخرين .

مع انه مما لا يقبل الشك أن ما قيل عنه بالوحي إنما هو  السر الكاشف عن حقيقته ككلمة الله الذاتية  فضلا عما ورد عنه بكونه : ( كلمته( أي كلمة الله) التي ألقاها إلى مريم ، وهذا ي}كد أن  (الكلمة ) هذا كان موجودا بالطبع قبل نزوله وحلوله في مريم أي انه الوحيد الكائن قبل إلقائه إلى مريم وخروجه إلى الدنيا .

انه كلمته  أي (كلمة الله الذاتية) الصادرة من ذاته لكونها من جوهره وهذا مما لا ينطبق على شخص أخر غير المسيح.

ولا شك أن في ما ذكر نجد السبب في ولادة المسيح بدون اب .

واما القول  اسمه (المسيح) فإنه يشير إلى شخص معلوم بالذات ، ولذلك جاء وصفه معرفا (بأل )  أي (الكلمة) ولم يأت نكرة أي (كلمة) والضمير هنا عائد على مذكر في اسمه ( المسيح) وليس على مؤنث ، ولذلك وجب أن يعود الضمير إلى المتكلم نفسه أي إلى الله .

كلمة الله الذاتية ليست هي كلمة الله الوصفية

كلمة الله الذاتية هو كلمته الخاصة بذاته وبوجوده تعالى ، التي هي منه وفيه ، والتي هي عقله وعلمه وتعبيره وهذه أمور مميزة في دات الله ، كما انه مصدر الكلمة الوصفية التي هي ( الكتاب المقدس) وكذلك الكلمة الأمرية ( كن ) التي تم خلق الكائنات بها ولكنه ليس أيهما لأنه هو النطق الذاتي لله تعالى.

إما من جهة المقابلة الأولى المعروضة هنا والتي فيها نميز بين (كلمة الله الذاتية ) والكلمة المكتوبة باعتبارها (كلمة الله  الوصفية ) إذ أن التطابق بينهما في عرف الكثيرين ليس في محله . لأن عقل الله تعالى لا يحد ولا يحاط به ولا يشتمل عليه ، كما أن كلمات الوحي محدثه أي قد وجدت عند الالقاء  بها إلى من أأتمنهم الله على ذلك وأمنهم على توصيلها للناس ، ولذلك فهي لا تعدو أن تكون بلاغا للناس يصف لهم جوانب من عظمة الله وصفاته دون الإظهار الكامل لها الذي تم في يسوع  المسيح كلمته الذاتية .

ولذلك لا يجوز أن يقال عن الكتاب المقدس بأنه نهاية مجد الله ، لان هذا المجد فائق غير محدود ولا متناهي . ومن هنا وجب التميز

وعدم الخلط ما بين الكلمتين : (الكلمة الاقنوم) و(الكلمة أوحي) مع أنها صادرة من ذلك الاقنوم نفسه  - وفي هذا الصدد قال فم الذهب: - ( ولا تتوهم إذا سمعت (كلمة الله) أنها كلمة عللا بسيط ذاتها ، لان الكلام الذي نطق به الأنبياء والملائكة هو من كلام الله ، لكن لا كلمة واحدة من تلك الكلمات إله إما كلمة الله الحقيقي فانه جوهر الهي حاصل في اقنوم بارز من أبيه خلواً من أي انقسام عارض).

ولذلك فان (كلمة الله الذاتية) هنا ليست هي مجرد النطق أو الوحي الذي تكلم به موسى الكليم وسائر الأنبياء والذي نستعمل له (كلام الله) ولذلك فإننا مع إيماننا بان الكتاب المقدس هو كلمة الله المكتوبة كلامه الصادر بالوحي إلا انه يحوي أعلانا وصفيا عن طبيعة الله  ومجده دون احتواء أو حصر ، مما يتضح فيه بكل جلاء عدم كفاية أسفار الكتاب المقدس لتكون حلقة اتصال يستطيع البشر بواسطتها  أن يعرفوا الله إذ انه ليس  بمقدورهم أن يقدموا عنه سبحانه أعلانا تاما كاملا .

فان كتب الوحي هذه قد تعلمنا أمورا كثيرة عن الله فتعلن لنا أوامره ومشيئته  وصفاته ، ولكنها لا تستطيع أن توصلنا إلى معرفة الله معرفة ذاتية ومن ثم فان المرسلين منه تعالى لا يستطيعون أن يعلنوه للبشر وذلك للجهل بمعرفته الذاتية .

فهو الكائن غير المنظور  . ومن ثم فقد ظهرت الحاجة إلى مظهر الإلهي منظور يسمو على تعاليم الأنبياء وهذا ما تم في يسوع المسيح

باعتباره (كلمة الله الذاتية) ..

ولذلك فقد أجاد بعض البارزين من أئمة التوحيد في أدراك التفرقة هنا بين ( الكلام النفسي) و( الكلام اللفظي) فيما يختص  بالله

- وجعلوا الأول منه بالضرورة منزه عن كلام الناس ، وهو صورة لعلم الله الذاتي كما انه صورة  للمعلوم فيه أيضا ، واعتبروا ذلك كمال وجودي محض لو لم يكن الخالق متصفا به لكان ناقصا سبحانه ، ولكان غيره من الموجودات اكمل منه ، تعالى الله عن ذلك .

كلمة الله

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ) النساء 170.

كل البشارات في القران تبشر بعيسى ابن مريم انه (كلمة الله) .

الله يبشر زكريا بيحيى ، وعلامة نبوته تصديقه بكلمة الله : (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب : ان الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله ، وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) ال عمران 39 . أولى صفات يحيى انه مصدق بكلمة من الله أي عيسى ابن مريم ، انه كلمة (كائنة) من الله (الجلالان) .

الله يبشر مريم مباشرة بكلمة منه : (اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) ال عمران45

أولى صفات مولود مريم وأول ألقابه التي تسمع به مريم هو انه (كلمة الله) .

ومريم صدقت بالمسيح وإنجيله فسميت (الصديقة) مائدة 75.

جاء في سورة التحريم في قراءة صحيحة : ( ومريم أبنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا . وصدقت بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين) التحريم 12.

والقران عندما أراد ان يستجمع أوصاف وألقاب  المسيح ليعرف به يلقبه بهذا اللقب العظيم الفريد : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق : إنما المسيح ابن مريم ، رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا (ثلاثة) ‍ انتهوا ، خير لكم : إنما الله اله واحد ‍ سبحانه ان يكون له ولد ، له ما في السماوات وما في الأرض ، وكفى بالله وكيلا . لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون )  نساء 170-171 .

ان وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القران به عيسى اين مريم وحده ، يخلق أشكالا ومشكلة في القران : فالقرائن تدل على انه يختلف في مفهومه ومدلوله عما يصرح به القران عن عيسى ابن مريم ؛ وهو حجر عثرة أيضا عند المفسرين فهم يخبطون خبط عشواء في تفسيره : يرون فيه اكثر مما يقرون ولا يجهرون . ولا يفهم معنى اللقب الكامل إلا بمقارنته بالإنجيل الذي نقل عنه وقد سبق إلى تعريف المسيح به .

معناه في القران

ما معنى هذا اللقب الفريد في القران

لا نجهل ان هذا اللقب السامي لا يحمل في القران عامة أدنى معنى للألوهية .

فالقران ينكر بوجه عام بنوة المسيح الإلهية من الله ، وان قبل بنبوءته ورفعه بها فوق الجميع (وموقف القران من هذا اللقب  خصوصا يتضح من تعريفه الشهير في الآية 170 من سورة النساء  انه كلمة الله ‍! ولكن ليس لهذا الكلمة صفة الألوهية‍

صدر الآية ينتهي عن هذا الغلو في الدين : ( يا أهل الكتاب

ولا تقولوا على الله إلا الحق ) ؛ وعجز الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة: 1 انه رسول من رسل الله (فآمنوا بالله ورسله)  2 الإقرار بألوهية الكلمة ينتهي إلى القول (بالثلاثة) ولا تقولوا ثلاثة ، 3 (انتهوا خير لكم ) ، 4 (إنما الله اله واحد) فلا يمكن ان يكون الكلمة آلها معه ، 5 وكيف يكون الكلمة آلها إلا بولادة الله له ، (سبحانه ان يكون له ولد) ، 6 فكل ما عدا الله ملك وعبيد لله (له ما في السماوات وما في الأرض ) ،

7 ولسنا بحاجة إلى غير الله ( وكفى بالله وكيلا ) ، 8 فالكلمة عبد لله مثل الملائكة المقربين ، لا اله ( لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) .

أما في الإنجيل فمعنى هذا اللقب الإلهي صريح : مطلع إنجيل يوحنا يكفي برهانا قاطعا . والمشكلة بين الكتابين في هذا : كيف نقل القران عن الإنجيل هذا اللقب الإلهي مجردا عن ألوهيته ؟؟ والحل الصحيح ليس في نقض الإنجيل او القران بل في التوافق بينهما ما أمكن . .

معناه عند المفسرين

وبين المفسرين أيضا تقوم المشكلة على هذا : هل يعني تعبير (الكلمة) اسم شخص ام مجرد (أمر) الهي ؟.

لقد اجمع القوم على أن (كلمة الله) تعني (أمره) . وقد تعني (وحيه) أو (كلامه الموحى به ).

جاء في الجلالان عن ال عمران 39 ( مصدقا بكلمة من الله ) : كائنة من الله أي بعيسى انه روح الله . وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن ! ) وفي ال عمران يمر على التعبير دون ان يشرحه

مما يدل على تحذر. وفي سورة النساء 170 يمر بالاسم مرور الكرام ؛ مكتفيا بالإشارة الأولى : (سمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن ! ) ونقول لماذا  وحده سمي بهذا الاسم (كلمة الله) وقد خلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون ، والملائكة المقربون بكلمة (كن)  ولم يقل الإنجيل والقران والتوراة عن أحد من المخلوقين ان ( اسمه كلمة الله ) ؟ !

ثم كيف ( روح الله) يكون مجرد أمر ؟ أليس في التفسيرين تناقض وارتباك ؟ ! .

وجاء في البيضاوي : ( مصدقا بكلمة من الله ) (آل عمران 39) أي بعيسى ، وسمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون اب فشابه البدعيات التي هي عالم الامر ؛ او بكتاب الله ) . ليس المعنى الثاني مقصودا . ثم أليس كل الأنبياء والصالحين وجدوا (بأمره) تعالى ؟ فلماذا لم يسم الإنجيل والقران أحدا منهم (كلمة الله) ، واختص عيسى ابن مريم وحده بهذا الاسم ؟ .

وعلى الآية 45 منها يمر مرور الكرام مع انه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف القران بها (الكلمة) الذي  يبشر به الله مريم . كذلك في الآية 170 من سورة النساء .

كأنه يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشى عن سبر معانيه .

وقال الزمخشري : (مصدقا بكلمة من الله  مصدقا بعيسى مؤمنا به ؛ قيل هو أول من آمن به  ؛ وسمي عيسى كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله (كن) من غير سبب اخر . وقيل مؤمنا بكتاب منه تعالى ) : - ولكن ليس المعنى الثاني مطلوبا لان أوصاف يحيى نبوة عنه للمستقبل وليس أخبار عن الماضي حتى تعنى الكتاب المنزل قبله .

ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصروا معنى (الكلمة) على أمره تعالى ( كن) من غير سبب آخر : لماذا لم يسميه القران والإنجيل والتوراة (كلمة) مع ان خلقه اغرب من خلق عيسى كما يذكر ( ان مثل عيسى عند الله .  59 .

فآدم أحق البشر بلقب (الكلمة) لأنه أول من وجد بكلمة (كن) الخلاقة من غير سبب آخر ألبته ؟ ! .

وقال الرازي : (مصدقا بكلمة من الله ) أي كتاب من الله ، وهو قول ابو عبيدة ؛ واختيار الجمهور ان المراد بكلمة الله هو عيسى . وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه

وسمي عيسى كلمة الله من وجوه : 1 انه خلق بكلمة الله وهو قوله (كن) من غير واسطة الاب كما يسمى المخلوق خلقا وهو باب مشهور في اللغة ؛ 2 انه تلكم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلا بالغا مبلغا عظيما فسمي كلمة أي كاملا في الكلام ؛ 3 ان الكلمة كما انها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق  والأسرار الإلهية كما سمي القران (روحا) ؛ 4 انه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال ( وحققت كلمة ربك) ؛ 5 ان الإنسان يسمى فضل الله ولطف الله فكذلك عيسى عليه السلام كان اسمه العلم (كلمة الله وروح الله) . واعلم ان كلمة الله هي كلامه ؛ وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة  بذات الله ) .

أتضاف في ال عمران 45 : (سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة الله افضل بيان ) ؛ وفي النساء 170 يختار منها ما اجمع عليه القوم : ( المعنى انه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة) .

ونجيب عليها جميعا : كل هذه التعريفات تنطبق على سائر الأنبياء ، في عرفهم ، وخصوصا على خاتم النبيين : فلماذا لم يسم القران محمد (كلمة الله) ، وهو عندهم (أول خلق الله ) ، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز ، وقرانه (روح من امره) تعالى وقالوا انه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل فيه حقت اكثر من  عيسى كلمة الله ، وقد جاء رحمة للعالمين كافة فهو أحق ان يكون (عين كلمة الله ) .

وقد ابان كلمة الله الأخيرة ، خير بيان وأفضله ؟‍ ‍ فالقران يشهد بان عيسى وحده دون العالمين خص بهذا اللقب العظيم ، حتى صار اسم علم له . وليس ذلك مجرد اسم علم، بل دلالة على ان كلمة الله هي كلامه ، (وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله )

على قول أهل السنة .

وهكذا ان اختيار الجمهور ان (كلمة الله) لقب عيسى ابن مريم؛

وهذا اللقب يعني كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله على حد قول أهل السنة .

اجتهادنا

وعندنا ان النصوص واضحة تعني اسم شخص لا مجرد أمر الهي . فالله تعالى يبشر زكريا بيحيى ويصفه بأنه أول من يصدق بعيسى انه (كلمة الله) آل عمران 39 ؛ ويحيى ليس أول من آمن بكلام الله ولا افضل من آمن به ، بل يحيى أول من آمن بعيسى انه (كلمة الله) وهو يصدق بشخص اسمه) (كلمة الله) وليس بمجرد أمر أو صفة .

وجاء يحيى ليصدق ويبشر (بكلمة الله) الشخص المنتظر .

ومريم آمنت (بكلمة ربها وكتابه) تحريم 12 . والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب غير كتاب الرب . فهي آمنت بعيسى وإنجيله ؛ آمنت بابنها النبي وبكتابه .

الملائكة تبشر مريم بولد وليس بأمر او بمجرد كلام : ( اذ قالت الملائكة با مريم ان يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) . ال عمران 45. ليس أوضح ولا أصرح : (فالكلمة)المبشر به (اسمه المسيح ) ويؤكد (عيسى ، ابن مريم) : ثلاثة أسماء علم مشهورة تصف (الكلمة) .

ومن يقرأ هذه الآية بإخلاص ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) نساء 170 . لا يستطيع إلا الإقرار بديهيا ان ( الكلمة) اسم شخص لوروده بين الاسمين (رسول الله . وروح الله) ، فهو مرادف للأسماء المحيطة به ، وهو خبر ثان معطوف على رسول الله وكلاهما خبران للمسيح عيسى ابن مريم ؛ (وروح منه) خبر ثالث معطوف على ( كلمته) يوضحه ويؤكده . فكلمته لقب بين القاب تعني شخص المسيح ، فكيف يكون مجرد أمر ؟؟!!.

والى ذلك فان لفظ ( الكلمة ) ورد في آل عمران (45) مذكرا (بكلمة اسمه المسيح) فالهاء في (اسمه) تعود إلى كائن ذكر ؛ واما قوله في النساء (كلمته ألقاها إلى مريم ) فأنثها حملاً على اللفظ ، لان معنى التذكير صريح من الأسماء الثلاثة المحيطة به ( رسول الله وكلمته وروح منه ) .

فهذا ( الكلمة)  الملقى إلى مريم هو (روح من الله) فكيف يكون مجرد أمر ؟؟ هو (رسول الله) فكيف يكون مجرد كلام ؟ هو (انالمسيح عيسى ابن مريم ) فكيف يكون شيئا لا شخصا ؟  لا جرم الامر الإلهي خلاق ولكن ليس له صلة مولود برحم  مريم .

(والكلمة) المبشر به له اسم معروف (اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) آل عمران 45 ( والكلمة ) الملقاة إلى مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها وتوضحها (نساء 170) ؛ فوجودها بينها يدل على أنها مثلها اسم علم لعيسى .

(ألقاها) : فالكلمة الملقاة كائنة قبل ان تلقى إلى مريم وقبل مريم : فهذا الابن الذي سيولد ، موجود قبل أمه !!.

(يبشرك بكلمة منه ) مولود مريم كائن قبل مريم وهو (منه) أي من الله لا من العدم ! بل لا يمكن ان يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه (كلمة الله) .

(منه) تدل على صلة المصد : قال البيضاوي : (ذو روج صدر منه) إذن عن طريق الصدور لا عن طريق الخلق؛ والا فما معنى هذه التأكيدات التي خص بها : (كلمته ، كلمة منه ، روح منه) إذا كان يتساوى في طريقة واصل وجوده مع سائر الناس؟. ورسول الله ، المسيح عيسى ابن مريم ، امتاز بين الرسل بأنه (كالمة الله) وروح الله) ولقب روح الله يوضح ان الكلمة شخص لا مجرد كلام .

وان هذا الشخص (الكلمة) هو (روح الله) او (روح من الله) على السواء .

وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح افضل واكمل وصف يميزه عن سائر الأنبياء والمرسلين ، بعلاقة مصدرية اقنومية عقلية روحية إلهية .

(فكلة الله) المسيح عيسى  ابن مريم ، رسول الله وروحه ، ليس هو إذن كلام الله الخارجي الذي يخلق به الله أو يأمر به أو يوحي به : بل هو كلام الله الداخلي الجوهري (القائم بذات الله).

صفة قديمة قائمة بذات الله

لقد حدد(أهل السنة كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله ) الرازي. فكلام الله الخارجي مخلوق حتما اذ مستحيل ان يتجزأ الخالق ، وهذا هو كلام الخلق والوحي . أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره ، فهو غي مخلوق ، هو منه وفيه ؛ فذاته تعقل ذاتها ، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله . هذا ما فهمه الراسخون في العلم منهم وان أبوا تطبيقه على اسم المسيح (كلمة الله).

لذلك ، فان (كلمة الله) ، الاسم العلم لعيسى ابن مريم ، كائن من قبل ان يلقى إلى مريم ، انه (صفة قديمة قائمة بذات الله) . وهذا ما يتضح جليا من إنجيل يوحنا حيث ورد اللقب الفخم علما للمسيح لأول مرة : قال في وصف جوهره : (في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان لدى الله ، وكان الكلمة الله؛ )

وقال يصف عمله : ( كان ذاك منذ البدء لدى الله.

به كون كل شيء : وبدونه لم يكن شيئا واحد مما كون .

فيه كانت الحياة . . . . .

أما النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان ، فكان آتيا إلى العالم . ..

وقال يصف اتصاله بخلقه ، بواسطة تجسده من مريم بمعجزة إلهية : ( والكلمة صار جسدا وسكن فيما بيننا .

وقد شاهدنا مجده ، مجدا من الاب لابنه الوحيد ، الممتلئ نعمة وحقا فإن الناموس قد أعطى بموسى ؛ واما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا .

وختم يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية : سر وجود الكلمة الإلهي ، وعمله في الخلق ، وإلقاءه إلى مريم فيتجسد : (الله لم يراه أحد قط : الإله ، الابن الوحيد ، الذي في حضن الآب هو نفسه أخبر .  يوحنا 1: 1- 18 .

ويبرهن الإنجيل كله ، من أعمال وأقوال عيسى ابن مريم ، ان عيسى هو المسيح الكلمة الأزلي الذي ألقاه الله إلى مريم آية للناس ورحمة من تعالى.

والقران يشهد ضمنا بذلك بأخذ لقب (الكلمة)عن الإنجيل وإسناده إلى المسيح عيسى ابن مريم ، وان هو نفى ظاهريا ألوهية المسيح (كلم الله) ، فإنما ينكر لاهوتا غريبا عن ذات الله الواحدة ، ولا يقصد إلى إنكار لاهوت (كلمة الله) (القائمة بذات الله) ، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها : ( قل ان كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) الزخرف 81  !.

ان في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض القائم بين موقف القران الظاهري من نفي ألوهية المسيح وموقفه الحقيقي النتاج عن النصوص التي بها يسمي عيسى ابن مريم (كلمة الله) كاسم علم يوضح سر شخصيته . وهكذا يشهد القران للإنجيل ويصدقه.

( إنما المسيح عيسى ابن مريم . . . روح منه) نساء 170.

(الروح ) في القران :

يأخذ القران (الروح)  بمعاني عديدة مختلفة : فمرات يظهر ان الروح ملاك :

( تنزل الملائكة والروح فيها (ليلة القدر) بإذن ربهم ) ( قدر 4) ثم (يوم يقوم الملائكة والروح صفا) ( نبأ 38) ثم ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) معارج 4 .

ومرات يظهر ان الروح سيد الملائكة : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء ) نحل 2 .

ومرات يجعل الروح من نصيب كل الأنبياء : ( يلقي الروح من امره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ) غافر 15 .

ومرات يجعل الروح وحيا : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا : ما منت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) (شورى 52) : فتارة الروح وحي ، وتارة الروح واسطة وحيا.

بل يجعل الروح من نصيب كل المؤمنين يؤيدهم في ايمانهم : ( أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ) (مجادلة 52) :  فهل الروح هنا ملاك ام فوة من الله ام عون معنوي ؟. .

والروح ، والروح الامين ، وروح القدس هو جبريل أوحى إلى محمد :

( وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا)  (شورى 52) (نزل به الروح الامين على قلبك ) (الشعراء 193) (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) (نحل 102)

(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) بقرة 97.

وبما ان القران يسمي الروح الذي يوحي إلى محمد ، أي جبريل ، فلا سبيل بعد إلى تأويل الروح الامين او روح القدس المذكور هنا بغيره ، ولا إلى خلط (روح القدس) الموحي إلى محمد (بروح القدس) الذي أيد المسيح .

فالروح الذي أيد المسيح يتصف بالقدس اختصاصا ، وامتيازا له عن غيره :

(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم وأيدناه بروح القدس) بقرة 87 و 253.

بهذا الروح القدس امتازت شخصية المسيح ورسالته بالخوارق الخارقة : ( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك اذ أيدتك يروح القدس . . . . فيعمل معجزات على الأرض ومعجزات من السماء كإنزال المائدة .

وروح القدس هذا يتميز عن الروح الذي بشر مريم بعيسى : ( فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) مريم 16 . فهذا الروح ملاك من ملائكة البشارة : ( اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ) ال عمران 45 .

وروح البشارة يتميز عن الروح الملقى او المنفوخ في مريم : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ) ( أنبياء 91)

( ومريم أبنت عمران  التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ) تحريم 12. في هذين النصين قد يكون الروح نافخا او منفوخا ؛ فعلى معنى الفاعل ( من روحنا) يعني الملاك النافخ  وعلى معنى المفعول (من روحنا) بعني الروح المنفوخ في مريم او في فرجها أي روح عيسى الذي كونه في رحم امه مريم .

وهذا الروح الذي كونه هو روح من الله القاه إلى مريم : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه) نساء 170.

وهكذا فالروح في القران أما شيء  وأما شخص ؛  و(الشخص الروح ) ملاك من الملائكة كجبريل الذي يوحي إلى محمد او كالملاك الذي يبشر زكريا أو مريم أو ملاك آخر ؛ ( والروح الشخص) الذي يؤيد المسيح  في رسالته غير الروح الذي  منه  تكون عيسى  في رحم مريم  .

فالمسيح ( روح الله او روح من الله ) غير روح القدس الذي أيده .

والقران بإسناده  هذا اللقب ( روح منه)  (نساء 170) إلى المسيح يعطي عيسى ابن مريم اسما يفوق كل اسم ، به تعرف شخصيته ويحدد معنى اللقب السابق (كلمته القاها إلى مريم) نساء 170 .

الروح  عند المفسرين

فما معنى قوله : ( عيسى ابن مريم روح منه تعالى ) في الآية الشهيرة ؟؟.

قالوا معناه ما ورد عن آدم ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ( حجر 19)

(ثم سواه ونفخ فيه من روحه ) (سجدة 9) ؛ وعن مريم ( نفخنا فيها من روحنا) (انبياء 91) ،

( ونفخنا فيه من روحنا ) (تحريم 12) بدليل المبدإ العام  ( ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) ال عمران 59.

فكما نفخ الروح في آدم نفخ أيضا في مريم ! .

وفاتهم الفرق العظيم والبون الشاسع بين التعبيرين : فعن آدم ومريم فالروح نافخ فيهما ، أما عن المسيح فهو روح منفوخ ، ملقى إلى مريم .

في الأول الروح وادم او مريم متميزان ، أما في الثاني (فروح منه) والمسيح شخص واحد على حد التحديد : ( إنما المسيح . . . روح منه ) فروح  هنه خبر ثالث من المبتدإ أي المسيح .

وهب ان قوله ( من روحي) حجر29 ، وسجدة 9 وغيرها تحمل على المفعول فتعني الروح المنفوخ في آدم او المنفوخ في مريم فهذا يعني مشاكلة الصدور ، ولا يعني قطعا مشابهة الروح الصادر من الله .

على ان بين التعبيرين فرقا ظاهرا ( فنفخنا فيه (في آدم وفي فرجها) من روحنا) ثم ( روح منه): ففي الأول يكون آدم والمسيح من روح الله ؛ وفي الثاني يكون المسيح ( روح الله) .

فكما ان المسيح هو كلمة الله ، فهو أيضا روح الله ؛ والقران يجمع بين التعبيرين في شأن المسيح فهو روح الله الذي القاه إلى مريم بنفخة من روحه .

ففي قوله ( من روحه) يعبر عن صدوره من الله ؛ وفي قوله (روح منه) يعبر عما هو في ذاته .

فلفظ (روح منه) تعريف بالمسيح وبشخصه يدل على مصدره الذي هو الله .

فهل الروح المكونة للمسيح والتي صارت المسيح في مريم هي منسوبة إلى الله نسبة خلق ام نسبة مصدر ؟؟ نقول : انها نسبة مصدر لأنها تفسر اللقب السابق ( كلمته وروح منه) .

ولنلاحظ ان القران يعطف (روحا منه) على قوله (كلمته) : فالاسمان يقسر احداهما الآخر : فالمسيح هو كلمة الله  وروح الله) روح الله ) : كلمة الله من حيث الاقنوم ، وروح الله من حيث الطبيعة .

وبما ان (روحا منه) خبر من المسيح في الآية 170 المذكورة فلا يجوز ان نموه فيه بكل انواع التعابير التي وردت في القران عن الروح اذ يتغير معنى (الروح) من آية إلى آية ، كما رايت ؛ ويدل على المعنى المقصود النص المحيط به

والقرائن اللفظية والمعنوية الداخلة عليه . ففي تجديد المسيح ، في سورة النساء تعبير مستقل عما سواه : يظهر منه جليا ان المسيح روح الله ، قد صدر منه ، صدور الفكر من العاقل ، صدور كلمة الله من الله .

فروح الله اسم آخر للمسيح غير كلمة الله ، وهو  معطوف عليه لتفسيره ، وكلاهما معطوفان على ( رسول لله) لبيان شخصية هذا الرسول الفريدة : فالألقاب الثلاثة تتساند ، ويوح بعضها بعضا ، ويفسر فعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وروح منه ) .

وفي تفسيرهم لهذا اللقب  الفريد حيرة وتعظيم : يشعرون انه يعني صلة خاصة بالله ، ولكن لا يجرؤون على إعلانها :

قال الجلالان : روح ، أي ذو روح (منه) أضيف إليه تعالى تشريفا له وليس كما زعمتم ابن اله أو اله معه أو ثالث ثلاثة : لأن ذا الروح مركب واله منزه عن التركيب ونسبة التركيب إليه ) . تفسير مغرض يضعف قوة النص : المسيح روح الله لا ذو روح من الله فقط ! ثم أين الإشارة في النص إلى فلسفة التركيب التي يذكرها ؟ ! .

وقال الزمخشري :( قيل له روح الله او روح منه تعالى لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن الأب الحي ؛ إنما اختراع اختراعا من عند الله وقدرته الخالصة).

- أفلا ينفرد المسيح عن البشر جمعاء بهذا الاختراع الفريد ؟  ألا يدل هذا الاختراع  الفريد على شخص وحيد ، له علاقة فريدة بالله ؟؟.

وقال البيضاوي : ( روح منه : ذو روح صدر منه تعالى ، لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له .

وقيل ( سمي روحا لأنه كان يحي الأموات او القلوب ) .  فالروح الذي يحي الأموات او القلب إحياء حقيقيا ومعنويا ، وينفرد بعمل يدل على اسمه الفريد ، إلا يصدر عن الله صدورا خاصا

لائقا به ؟ ألا يكون له صلة خاصة بالله دون سائر المخلوقين الذين ليسوا (روح الله) ؟.

وقال الرازي  مستجمعا انواع تفاسيرهم لهذا اللقب العظيم : ( أما قوله روح منه ففيه وجوه :

1 : انه جرت عادة الناس انهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة  والنظافة قالوا انه روح : فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وانما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح.

والمراد من قوله ( منه)  التشريف والتفضيل ؛  - 2 انه كان سببا لحياة الخلق في أديانهم

. ومن كان كذلك وصف بأنه روح ؛ - 3 روح منه أي رحمة منه : فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث انه كان  يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم  ودنياهم لا جرم سمي روحا منه ؛ - 4 ان الروح هو النفخ في كلام العرب فان الروح والريح متقاربان ، فالروح عبارة عن نفخة جبريل ، وقوله منه يعني ان ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله واذنه  فهو منه ، وهذا كقوله (نفخنا فيها من روحنا) ؛ - 5 قوله روح ،  ادخل التنكير ليفيد التعظيم . فكان المعنى : روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية .

وقوله منه إضافة ذلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف والتعظيم .

ومن هذه الوجوه كلها تتضح شخصية المسيح الفريدة التي لا يدانيها نبي او رسول ، ويرفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة خاصة بالله .

فهو روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية ، ولم يرد عن بشر انه منها ولو كان خاتم النبيين؛

وقول الرازي هذا أو من نقل عنه يفترض ان روحا علوية أي أحد الملائكة المقربين قد تجسد وظهر في شخص المسيح ؛ ومن يقول بذلك فالأجدر  به ان يقل مقالة الإنجيل ( ان كلمة الله تجسد وصار إنسانا .

وهو روح من نفخة جبريل : إذا قصدوا جبريل كمصدر للمسيح فهذا قول هراء فليس جبريل بخالق ولا عنده نفخة خلاقة ! واذا قصدوا انه الواسطة المعجزة فما آتوا بتفسير لشيء  اذ انه روح الله بمعزل عن جبريل .

وعلى كل حال فشرف الواسطة يدل على شرف الغاية .

أما قوله سمي روحا لانه كان رحمة  من الله على الخلق : ليس هذا من باب التفسير بل من باب المقارنة التي لا تفي . ومع ذلك ففي اقرار بفضل المسيح على الخلق كلهم :

ولم يرد مثل هذا الفضل لأحد من البشر كما ينسب القران والمفسرون إلى المسيح .

أما قوله سمي روحا لغاية طهارته في مولده فمن باب الاستدلال لا من باب التفسير ، وان كان فيه إقرار بسمو تكوين المسيح الذي انفرد به .

وقد قارب المفسرون  من فخامة الاسم وعظمته وجلاله بقولهم : سمي روحا لأنه كان سببا لحياة الخلق (الرازي) ، لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (البيضاوي ) فجعلوه سبب الحياة الطبيعية  والروحية والمعنوية ؛ وما ذلك إلا صدي لقول المسيح في الإنجيل ( أنا الطريق والحقيقة والحياة) يوحنا 10: 25 . فهو روح الله الحي المحيي .

وقد دلوا على معنى (منه) في التحديد المذكور بقولهم : ( ذو روح صادر منه)

(البيضاوي ) أي ذو روح منه تعالى  (الجلالان) فالتعبير يحتمل معنى المصدر الإلهي للمسيح، اذ من أين يصدر ( روح الله ) الا من الله ؟ ؟ فالروح الذي يصدر من الله كيف يتميز عنه ؛ وبما انه ليس في الله انقسام ولا تجزؤ ، أليس هو والله واحد  كذات الله ونورها ؟ وهذا أيضا صدى لتعاليم الإنجيل : ( قد خرجت من الآب وأتيت إلى العالم . . . . بهذا نؤمن انك من الله خرجت يوحنا 16: 28-30.

اليس هذا هو المعنى الكامل الذي قصده القران في تعريفه المسيح : انه كلمة الله وروحه ؟ انه لا ينطبق على مجموع الألقاب في الآية  170 إلا هذا المعنى : المسيح روح صدر من الله ككلمته

ونطقه الجوهري ؛ وكلمة الله ليس كلام خارج عن الله بل هو كلامه الداخلي كروحه.

عودة