الفصل الأول
بيتي الإسلامي
وُلدت في عائلة مسلمة مُكوَّنة من ثمانية أفراد، أربعة إخوة أكبر مني وواحد أصغر، وذلك في جامو في كشمير حيث كانت أمي في إجازة، فإن جدودي جاءوا من ظفراوال في سيالكوت. وكانوا أصلاً في منغوليا من أصحاب الأرض الأغنياء. وكان والدي غنياً يملك أرضاً، يزرع القمح بقرب نهر الدِك الذي كان يمتلئ بالمياه في موسم الأمطار فيروي الأرض المحيطة على جانبيه. وكان القمح الذي ننتجه يكفينا ويزيد، وكنا عائلة سعيدة لم نختبر عوزاً. وكان عندنا خدم يقومون بمعظم أعمال الفلاحة، فلم يحتج والدي أن يقوم بأي عمل يدوي. وعندما كبر إخوتي تحملوا مسئولية الزراعة. وقد ولدت أمي إخوة آخرين لي ماتوا في مرحلة الطفولة. فكان ميلادي وبقائي على قيد الحياة يُعتبر معجزة. وقد ثقبت أمي أذني اعترافاً بفضل الله. وكانت مسلمة متدينة، ولكنها في الوقت نفسه احتفظت بعبادة أوثانها القديمة التي كان جدودها يتعبَّدون لها. وكانت تذهب على التلال في كشمير، إلى مزار مقدس لواحدة من الآلهة. ونذرت أنها إذا ولدت صبياً تكرسه لتلك الإلهة وتحضره معها كل سنة تعبيراً عن الشكر. ولذلك ثقبت أذني ووضعت فيها قرطاً ذهبياً ليعلن أني مِلْك تلك الإلهة. ولقد كان ذلك سبب مصائب كثيرة عليَّ في المدرسة، فكان زملائي يضحكون مني. وعندما كنت أتعارك معهم كانوا يشدون القرط فيؤذي أذني كثيراً. وهكذا كانت علامة ميلادي وحياتي كارثة عليَّ من الألم والخجل.
ولكني اكتشفت عندما كبرت أن يداً عُليا كانت معي، هي يد إلهي الحيّ.
وأشفق عمي عليَّ فأزال القرط من أذني، رغم أن أمي تضايقت ضيقاً شديداً لأنها ظنت أن هذا سيميتني، فقد كانت تعتبر القرط طلسماً يضمن سلامتي من الأخطار والموت. وجاء عمي ينقذني مرة أخرى من الرعب وطمأنني بأني لن أموت، وأن إيمان أمي مجرد خرافات. وعندما طلبت أمي أن أصحبها لزيارة ذلك المزار اعتذرتُ بأدب. وكنت في التاسعة من عمري. وعندما مرت الأيام دون أن أموت تخلَّصْتُ من الرعب الذي سيطر عليَّ. ومنذ ذلك الوقت لم أخَفْ أبداً حتى وسط الحالات الخطيرة، ولكني اختبرت الحزن عندما مات أخي الأصغر رمضان فجأة بعد التهابٍ رئوي لم يمهله سوى بضعة أيام. وكنت صغيراً عندما تزوج إخوتي الأربعة الكبار. وعشنا كلنا في بيت كبير يتكون من ثماني غرف للنوم وصالة كبيرة. وكان لكل أخ من إخوتي غرفته المنفصلة له ولزوجته وأطفاله. ولكننا عشنا عيشة مشتركة في كل شيء من الأكل والشرب، كما كانت تفعل العائلات الكبيرة في ذلك الوقت في الهند.
وكانت عائلتنا سعيدة، فقد كانت أمي رقيقة مُحبّة، تحب أبي وتحب زوجات أولادها. وكنت أدعو زوجات إخوتي أخواتي كما علّمني أبي. وهكذا تعاملت معهن إذ لم تكن لي أخت. لقد عشنا حياة محبة عائلية حقيقية.
ولعل القارئ يظن أنه حيث توجد أربع زوجات لأربعة إخوة لا بد أن يكون هناك خلاف. لكن لم يكن عندنا خلاف بفضل محبة أمي وتفهُّمها. وتعلَّمت من أمي كيف أخدم الآخرين، وكانت تقول: الإنسان الذي يحيا لنفسه فقط هو حيوان. فإذا أردنا أن نبرهن أننا بشر، علينا أن نحيا للآخرين . ولقد رأيت أمي تطبق ما تقوله حتى في أقسى الظروف، فكانت محبتها الأساس الوطيد لحياتي. ومع أني مررتُ بفترات مظلمة فيما بعد، إلا أني لم أنفصل تماماً عن ذلك الأساس الكريم.
وكان والدي رجلاً عسكريا، شغل منصباً كبيراً في الجيش في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن الروح الوطنية الهندية في ذلك الوقت قد وصلت إلى المرحلة التي تعتبر فيها خدمة الجيش البريطاني عاراً، فقد كانت الهند جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، وكانت الحرب عبر البحار تحت الراية البريطانية تعتبر عملاً شريفاً. فكان والدي يذكر بفخر ما فعله أثناء الحرب، ويروي لنا قصصاً كثيرة تثير دهشتنا وخيالنا. وكنا نحب أن نستمع إليه وهو يحكي لنا قصةً بعد قصة عن مواقعه الحربية في أفريقيا. وزرعَتْ قصص والدي داخلي رغبة في الحرب، لأني أردت أن أكون مثله، أقوم بعمل غير عادي. وكنت أعتقد أن كل إنسان يجب أن يقوم بعمل شريف يجتذب انتباه الآخرين له. وكلما قام الإنسان بعمل خطير استحقَّ احترامهم.
وكان والدي يهتم بخير الآخرين، فإذا وجد مظلوماً عاجزاً عن الحصول على العدالة يعاونه بكل طاقته، حتى لو أدَّى ذلك إلى الذهاب للمحاكم. غير أن والدي لم يأخذ أية قضية خاصة به إلى المحكمة. وعندما كان يعجز بعض الجنود عن الحصول على معاشاتهم، كان والدي يهتم ويساعدهم ليحصلوا على مستحقاتهم، ولذلك احترمه الجيران كثيراً لأنه كريم النفس. وكان كثيرون من الضيوف يأتون إلى بيتنا.
وذات يوم رحب والدي بقَتَلة أخيه في بيتنا. وكان عمي قد تعارك مع مجموعة من الناس فقتلوه، وهرب قاتلوه لمكانٍ يختبئون فيه. ودون أن يعلموا، احتموا ببيتٍ أقامه والدي وسط الحقول. ولم يكن والدي يعلم ما جرى منهم، فدعاهم ليأكلوا. وأخيراً عرف من أصدقائه أنهم قَتَلة عمي. وكم حزن لأن عمي مات، لكن لدهشة الجميع لم يغضب أبي على القَتَلة، فقد كان رجلاً باراً لا يحمل ضغينة ضد أحد. ومع أن والدي لم يكن يهتم كثيراً بالمظاهر الخارجية للدين، لأنه لم يكن يحب رجال الدين، إلا أنه كان يمارس روح الدين. كان يصلي في الخفاء كمتصوِّف ويكره العبادة العلنية. وكان التصوُّف يعطيه راحةً نفسية، وكان يقول إنه يوصّله بالله مباشرة. والصوفية تشبه الرهبنة المسيحية التي انتشرت في صحاري مصر والعربية. وكان الإمام الغزالي الذي مات سنة 1011م صوفياً كبيراً يتصف بالتواضع وضبط النفس وإنكارها. وكان يقول: إن طاعة الله تنبعث من داخل قلب الإنسان، فعلى كل واحد أن يلاحظ تعاليم الله وشرائعه، وأن يطلب طهارة نفسه، وأن يصرف وقتاً في التواصل مع الله والتأمل ليعرف محبة الله . ولذلك استطاع أبي أن يحب الله وأن يطيعه. ومع أن بعض المتصوفين كانوا يستعملون مخدرات ليصلوا إلى حالة السموّ، إلا أن والدي كان يرفض هذا تماماً، لأن علاقته بالله كانت تنشئ داخله هذه السعادة العميقة، فلم يلجأ أبداً إلى المخدرات أو الموسيقى أو الرقص. وكانت طمأنينته الداخلية سِمَةً دائمةً لحياته.
كان والدي في البيت رجلاً رقيقاً يهتم بتعليم وخير الجميع، فعلَّمني وإخوتي في مدرسة تبعد ثلاثة كيلومترات من بيتنا. وليسهّل الأمور علينا بنى لنا بيتاً قريباً من المدرسة في ظفراوال حتى نصل إلى المدرسة في موعد مريح. والتحقتُ بالمدرسة الإبتدائية في الخامسة من عمري، وبدأت أتردد على الجامع القريب من بيتنا كل يوم جمعة، فقد كانت عادتنا أن الطفل عندما يبلغ الخامسة من عمره يجب أن يذهب للجامع مرة أسبوعياً، ويحفظ القرآن الكريم. وعندما كان الإمام يؤمّنا في الصلاة كنت أؤدي الركعات كما كان يفعل. ثم كان يلقي موعظة عن صفات النبي محمد وتعاليمه. ومع أنه لم يكن من السهل عليَّ أن أفهم ما يقول، إلا أن الإمام لقَّنني الكثير عن إيماني بما في ذلك تلاوة الشهادتين لا إله إلا الله. محمد رسول الله .
وكان ناظر المدرسة ذا تأثير كبير عليَّ، فقد كان شاعراً وخطيباً وكاتباً وموسيقياً، شجعني أن أبدأ كتابة الشعر بنفسي. وكان ذلك مصدر سعادة حقيقية لي. وكانت الكراسة التي أكتب فيها الشعر دائماً في متناول يدي. وتعلمت أن أعزف الموسيقى، ولو أنهم في البيت )لأسبابٍ دينية( لم يسمحوا لي بالتدريب، فسمح لي الناظر أن أتدرَّب في بيته. وكانت يد الله عليَّ منذ مطلع سنوات حياتي، لأنه كان يجهزني لحياة خدمة. لقد اهتم الله بأصغر تفاصيل حياتي.
قضيتُ أربع سنوات في المدرسة الابتدائية. وعندما بلغت التاسعة غادر إخوتي البيت، فذهب اثنان منهم إلى جامو واثنان إلى لاهور . وبدأت أهتم بالدراسة الأكاديمية، ولكن عائلتي قررت أن أقوم بذلك بنفسي، فالتحقت بالمدرسة الثانوية في جامو في كشمير. وكان طلبة المدرسة من أبناء الأغنياء والعائلات ذات النفوذ )المهراجات( الذين حكموا أجزاءً متعددة في الهند. وكان منهم في كشمير اثنان وعشرون مهراجا في ذلك الوقت. وكنتُ المسلم الوحيد في المدرسة التي لم تكن تسمح إلا بتعليم الهندوس وحدهم. ولكن لما كان والدي ضابطاً بالجيش، وصاحب نفوذ إجتماعي فقد أقنع ناظر المدرسة أن يقبلني. وكان الناس يجدون صعوبة في رفض طلبات أبي. وكانت تلك المدرسة تقدم تدريباً عسكرياً يناسب أبناء الملوك، فكنا نركب الخيول، الأمر الذي أحببته، كما استمتعت بالتصويب وإطلاق الرصاص. وكانت بندقية والدي خفيفة الوزن، فكنت أقضي معها وقتاً طويلاً كلما سنحت لي الفرصة. وكنت أحب ذلك أكثر من إحضار اللبن كل صباح، الأمر الذي كنت أحتقره لأني أعتقد أنه عمل الخدم. وكان الصيد يستهويني أكثر من الدراسة، خصوصاً أني لم أكن جاداً في الدرس. ولم أجد حكمة في أن أتابع الدراسة، فقد كان زملائي من أب
ناء المهراجات يستعدون لمستقبلهم ليكونوا ضباطاً في الجيش، أو في خدمة الحكومة، أما أنا فلم أكن أعرف أيَّ مستقبل ينتظرني بعد دراستي. ولما كانت المدرسة للهندوس، فقد كانوا يراعون التعاليم الهندوسية. فكنت أستيقظ معهم مبكراً للصلاة، وأحفظ عن ظهر قلب فصولاً من كتبهم المقدسة. ولكن الهندوسية لم تجتذبني، ولو أن ما تعلمته منها أعطاني فهماً كافياً لها. وكان يجب أن أتعلم اللغة الهندوسية التي أتكلمها الآن بطلاقة منذ ذلك الوقت. وكان هناك نقص في تعليمي الثانوي، هو أني لم أتلقَّ أي تعليم عن الإسلام. ومع أني كنت سعيداً بذلك إلا أن أخي خودا بخش لم يكن سعيداً به. ومات أبي فتحمَّلأخي مسئولية الإشراف على تعليمي، ونقلني من مدرستي الهندوسية إلى مدرسة إسلامية. واكتشفت أنها أقرب ما يكون إلى ملجأ أيتام أكثر منها مدرسة داخلية. ولكن هذا لم يضايق أخي في شيء، فقد كان يريدني أن أتعلم أصول الإسلام مهما كان المكان الذي أتلقاه فيه. ولم أكن تلميذاً مجدّاً، فكنت أهرب من الدروس وأذهب إلى البيت لأتناول الطعام عندما لا يكون أخي في المنزل. وكانت زوجات إخوتي يخفين عن أخي ذلك حرصاً على علاقتي به. وكان أخي يدفع نفقات تعليمي ويقاسي الكثير ليدفع تلك النفقات. وزادت حالتي سوءاً في الدراسة عندما تعرفت على شابة أثناء إحدى إجازاتي في قرية قريبة من سريناجار حيث كنا نملك قطعة أرض. هناك قابلت سليمة ووقعت في حبها منذ أن وقعت عيناي عليها. كانت قريبة لنا، وكان أبوها صديقاً لأبي. ولم أعرف أن إعجابنا كان متبادلاً إلا عندما حلَّ موعد رحيلي. فقد كنت معها وحدنا عندما بدأت تبكي ولم تُرد أن أذهب. وقد لمس هذا قلبي وزاد حبي لها كثيراً. وفي العام التالي عدت إلى ذات البلد حيث كانت سليمة فوجدتها قد كبرت وصارت أكثر جمالاً. ولكني لاحظت فيها تغييراً لأنها لم تكن تقترب مني كما كانت تفعل في العام السابق، وأكدت لي أن حبها لي أكبر وأني أوحشتها جداً. وقد حيَّرني هذا، فتساءلت: تُرى ما هو الخطأ؟ لقد كانت علاقتنا طاهرة، وكنا نفرح ببعضنا، واختبرنا محبة سامية بغير جنس، لأني كنت قد تعلمت أن الجنس يدمّر العلاقات الجميلة، ويجب أن نبقيه إلى ما بعد الزواج. ولكني أدركت أنها لن تكون زوجتي، فقد أحسَّت عائلتها أن عائلتي لن تقبل زواجنا، لأن عائلة سليمة لم تكن على مستوى عائلتنا في الغنى، ولذلك لن تسمح عائلتي بزواجي منها. وكم انكسر قلبي، لكن لم يكن هناك ما أستطيع أن أفعله. وقد سبَّب ذلك توتراً بيني وبين عائلتي.
واعتصر الحزن قلبي وأنا أعود للمدرسة، فلم أكن متحمساً للدراسة. صحيح أني لم أكن متحمساً للدراسة من قبل، أما الآن فقد صرت أقل حماساً وأقل سعادة بالمدرسة وبالبيت، لأني شعرت أن عائلتي تدمر فرص سعادتي. وسرعان ما وصلت علاقتي بأسرتي إلى قمة التوتر. فقد تركت المدرسة يوماً وجلست في محل لشرب الشاي، وإذا بأخي يضبطني هناك. وسألني: لماذا تشرب الشاي في موعد المدرسة؟ ولم يكن عندي جواب مقبول أقدمه له، فغضب عليَّ كثيراً. ورأى أخي ولداً صغيراً في الثامنة من عمره يعمل في محل الشاي، فانتهز الفرصة ليسخر بي أمام الجميع. فاستدعى الولد وبدأ يسأله: متى تستيقظ في الصباح يا ولدي؟ فأجابه: في الثالثة صباحاً يا سيدي، فأنظف الأطباق القذرة من الليلة الماضية، وأجلو أواني الطبخ لتجهيز طعام الإفطار. ثم أبقى في محل الشاي كل النهار . فسأله: ومتى تنام يا ولدي؟ فقال: لا يمكن أن أنام قبل الحادية عشرة مساءً . فنظر إليَّ أخي بعينين غاضبتين وقال: انظر إلى هذا الولد الصغير الذي لم يكن من الواجب أن يترك حضن أمه، لكنه لا ينام إلا أربع ساعات يومياً. ليكن نموذجاً ودرساً لك. أنت يا من لا تدرس ولا تعمل! كن رجلاً! . وتركني ومضى. وكم خجلت وسط أهل قريت
ي وأخي يفضح كسلي! صحيح أن عائلتي كانت غنية وذات شهرة طيبة، ولكني كنت لهم كشَوْكة في العين. واكتشفتُ فجأة أني معتمد على غيري. وكانت كلمات أخي لي تحدياً شخصياً، فقررت أن أعتمد على نفسي، وقلت: لن أحيا على حساب الآخرين! . وبكل أسف لم يكن هذا القرار دافعاً لي على أن أتحمس للدراسة، إنما قررت أن أهرب من المدرسة قبل امتحانات السنة العاشرة من دراستي.