الفصل الثاني
من هو المسيح؟
كنت في السادسة عشرة من عمري عندما بدأت الحرب العالمية الثانية. وكان لا بد للهند أن تدخل الحرب. لقد كانت النازية شراً يجب أن نقف كلنا ضده. ورأى الهنود في النازية عنصرية إمبريالية. ولكن روح الاستقلال كانت تعمّ الهند، فأعلن البرلمان الوطني الهندي بأعلى صوت أن الهند الحرة سوف تشترك في الحرب ضد ألمانيا. وكان لا بد من استشارة الشعب قبل دخول الحرب، وانقسم رجال السياسة فيما بينهم. لقد كرهوا عدوان هتلر، وفي الوقت نفسه لم يكونوا يحبون مساعدة بريطانيا!
ولما كانت الدول المُستعمَرَة لا تستطيع أن تختار حظها وطريقها، فقد وجدت الهند نفسها تحارب مع بريطانيا. وكنت مشتركاً مع المتحمسين في طلب الاستقلال من بريطانيا، ولكني كنت صغير السن لا أدرك أسرار السياسة. وكنت في ذلك الوقت أفتش عن عمل أقوم به، فانضممت إلى سلاح الطيران. ولم أجد صعوبة في أن يقبلوني. وأصبحت ميكانيكياً أعمل في صيانة الطائرات وتلقيت تدريبي في لاهور وكان أول تعيين لي في مطار كلكتا . وبعد ذلك أرسلوني إلى بورما ورانجون . وكنت أعمل تحت الطلب أربعاً وعشرين ساعة يومياً. ثم أرسلوني إلى كلية ضباط الطيران في كلكتا حيث انضممت إلى سلاح المخابرات. وتأثرت كثيراً بنصيحة قيلت لي: عليك أن تربح ثقة العاملين معك . وهكذا حاولت أن أربح ثقة الذين يعملون تحت أمري، وبنيت معهم علاقات شخصية قوية. وتذكرت نصيحة أمي، ومثال أبي، فأحببت الجميع بغضّ النظر عن لونهم وعِرْقهم وعقيدتهم. ولم أعصَ أبداً أوامر رؤسائي، كما لم أسمح لمرؤوسيَّ أن يعصوني.
ولم أكن ضد الإنجليز، ولكني كنت ألاحظ أن علاقاتنا معهم لم تكن طيبة لأن كبار الضباط البريطانيين كانوا ينظرون إلينا بعدم احترام، ويعتبروننا من الدرجة الثانية لمجرد أننا هنود. وكان بعضهم يعاملوننا بغير أدب. وكنا نلتقط كلماتهم الإنجليزية ونستعملها أحياناً دون أن نفهم المعنى المضبوط لكل كلمة. وذات يوم استدعاني أحد الضباط الكبار وسألني: من أين تعلمت هذه الكلمات الإنجليزية يا ولدي؟ فأجبته: من الضباط البريطانيين . فقال لي: هذه لغة سيئة غير مؤدبة، وهي مخجلة. أرجوك ألاَّ تستعملها مرة أخرى .
وكنا نفضل أن نتعيَّن في بلاد بعيدة بالرغم من شدة حرارتها لنكون بعيدين عن الإنجليز. وشعرنا أنهم لا يهتمون بسلامتنا. فذات يوم كلّفونا بإصلاح طائرة، ثم طلبوا من أحدنا أن يقوم بتجربتها، ونسوا أن يعطوا خبراً لسلاح الدفاع بأن تلك الطائرة بريطانية وتحت التجربة. وفي طريق عودة الطيَّار الهندي الذي جرّبها أصابه رجال الدفاع الجوي البريطاني وقتلوه.
ثم حدثت حادثة أخرى مؤلمة أثناء المجاعة في البنغال كشفت عن رداءة الإنسان، ففي سنة 1943 - 1944 أصابت مجاعة شرق وجنوب الهند والبنغال، تبعها وبأ الكوليرا والملاريا. وقالت السلطات الرسمية إن ضحاياه بلغت ثلاثة ملايين نفساً ونصف. فقد كان الآلاف يموتون كل يوم. وكان يمكن أن ننقذ حياة الكثيرين لو أن السلطات المسئولة تصرفت باهتمام وكفاءة، فقد كانت الأدوية والأطعمة تملأ المخازن. عند ذلك بدأت آخذ من الشاي والسكر والأدوية للمحتاجين. لكن المؤسف أن بعض الأغنياء زادوا غنى إذ باعوا الأدوية والأطعمة بأضعاف سعرها، حتى اضطر كثيرون من الفقراء أن يقدموا بناتهم للبغاء. لقد عصف الحزن والبؤس بقلبي وأنا أرى هذه الحالات المؤلمة لمرضى وجوعي وموتى لا ينقذهم إخوتهم في الإنسانية، بل يشربون ما بقي من دمائهم ليزدادوا غِنى! وسألت نفسي: أين الله وسط كل هذا؟! .
ولكني سرعان ما بدأت أرى النور وسط الظلام. فقد كان بين الضباط الإنجليز بعض المسيحيين الحقيقيين الذين ساروا في خطوات سيدهم المسيح، وأظهروا نور الله ومحبته. وقد نمت بذور هذه المحبة في قلبي حتى أينعت واكتملت بتجديدي للمسيح.
وكان أحد هؤلاء النجوم اللوامع الكابتن باكستر وهو ضابط شاب في فرقتنا. ومع أنه كان - شأنه شأن بقية الإنجليز - متحفّظاً، إلا أنه كان متسع العقل، وكانت معاملاته لمرؤوسيه طيبة وبطريقة شخصية. لم يكن يتكبر على الهنود، بل كان يطلب خيرهم. وعندما احتاج الضباط الهنود إلى بعض أدوات الطبخ، أمر فوراً بإعطائها لنا، كما أمر بتقديم طعام خاص للمسلمين يتناسب مع فروض دينهم. وذات يوم احتجنا إلى فُرن من الطين لنخبز فيه بالطريقة التي تعوَّدناها. وانذهلْتُ في آخر اليوم عندما رجعت إلى المعسكر فوجدت فُرناً مبنيَّاً بالمواصفات المضبوطة، قام الكابتن باكستر وحده ببنائه كما طلبنا. فزاد إعجابي به. وجعلت أراقبه، فوجدت أنه يلاحظ احتياجات الناس ويعمل على تقديمها. كما كان يتناول إفطاره معنا كل يوم، بينما لم يفعل هذا غيره من الضباط البريطانيين ترفُّعاً علينا. ومع أن هذا شيء بسيط، إلا أنه ترك في نفسي أثراً كبيراً. وذات يوم جاء أحد رجالنا إلى مائدة الإفطار بغير أن يحلق، فلم يوبخه باكستر لكنه أعطاه شفرة حلاقة من جيبه. وهكذا كان يفعل لينبّه الجنود والضباط إلى مسئولياتهم.
ولقد أثَّر فيَّ كثيراً موقف باكستر أثناء الغارات الجوية، فلم يكن يهرع إلى الملجأ )المخبأ( بل كان يدعو الرجال جميعاً إلى الكنيسة للصلاة. وكانت الكنيسة مجرد خيمة مخصصة للعبادة. وكنا عادة نطيعه. وذات يوم كان هجوم اليابانيين علينا شديداً للغاية. وامتلأت السماء بالطائرات. ودعانا باكستر للكنيسة، وذهبنا معه والموت يحيط بنا. وقلت في نفسي: من المعقول أن نذهب لتلك الخيمة عندما تكون الغارة بسيطة، أما والغارة الجوية قوية فيجب أن نذهب إلى الملاجئ )المخابئ( . ولكنه سرعان ما طمأننا وقال: سأصلي للرب يسوع المسيح. أنتم لا تحتاجون أن تضعوا إيمانكم فيه، فقط قولوا آمين على طلباتي . ومع أننا كنا في أول الأمر نشك لكننا طاوعناه. وبدأ باكستر يصلي، ولا تزال كلماته ترن في أذنيَّ إلى اليوم: يا ربي يسوع، أعلِنْ قوتك وعظمتك الآن. أثبِتْ لهؤلاء الرجال أنك حيّ. احفظهم من الغارة من أجل خاطر أحبائهم وآبائهم. عرِّف هؤلاء الرجال أنك حي قادر أن تخلص، ليس فقط الجسد من الهلاك والموت، لكن النفس من الخطية .
وحدث تغيير في الخيمة كلها عندما كان باكستر يصلي، فقد صمت الجميع. والأغرب من ذلك أننا لم نعد نسمع أصوات الانفجارات في الخارج. وعندما خرجنا من الخيمة كان المنظر مذهلاً. كانت أشلاء الرجال متناثرة هنا وهناك. أما الوحدة التي على الجانب الآخر من النهر فقد زالت تماماً بعد أن دمرتها القنابل! وكانت صرخات الجرحى تملأ آذاننا. وكانت إحدى القنابل قد سقطت في النهر فكان ماؤه يغلي، والطين يفيض على جانبيه، وسحابة ثقيلة من الدخان الأسود تخيِّم على المكان معلنة الدمار الشامل الذي حلَّ به. ولم نملك إلا أن نقول: إن مسيح باكستر حيّ، استجاب صلاته وخلَّص شعبه. فمن هو يسوع هذا؟ !
كل ما كنت أعرفه عن المسيح أنه نبي من الأنبياء كما يقول القرآن. ولكني لم أسمع من قبل صلاة بسيطة مباشرة كصلاة باكستر . وتذكرت أني في طفولتي كنت أذهب إلى كنيسة مع بعض أصدقائي وأستمتع بالترتيل، وألعب مع بقية الأولاد باللعب المتوافرة في فناء الكنيسة. ولكني لم أفهم شيئاً من صلاة القسيس، رغم أن صوته كان عالياً. لم يكن صوت باكستر عالياً، لكنه كان يصلي كمن يكلم صديقاً يقف إلى جواره. وكانت صلاته بسيطة واضحة بلا تكلّف. وسألت نفسي: هل يمكن أن أصلي أنا كما يصلي باكستر ؟