الفصل الثالث
معارك من داخل ومن خارج
بعد انتهاء الغارة الجوية اليابانية عملت كميكانيكي طيران. ولكن عملي توقف بسبب حادثة كادت تُنهي حياتي، فقد كنا نصلح الطائرات المتعطلة ونجربها. وذات يوم تلقيت أمراً من القائد أن نعيد إصلاح طائرة، لأن إصلاحها الأول لم يكن كافياً. وعندها تذكرت أن أحد زملائي وهو يجرب طائرة بعد إصلاحها أُصيب فتشوَّه نصف وجهه. ولكن كان يجب أن أطيع الأوامر، فاعتليت الطائرة مع زميلٍ لي. وأمرونا أن نطير ثلاثاً وثلاثين دقيقة قبل أن نعود. ولكن على بُعْد ثلاثين ميلاً من مركز إصلاح الطائرات أُصيبت طائرتنا، وأُصبت أنا أيضاً. فأزاحني زميلي من مقعد الطيَّار وتولى القيادة حتى هبطنا بسلام. ونقلوني إلى المستشفى، وقد احترق نصف وجهي الأيمن. ولم أكن مدركاً لما حدث لي بسبب غيابي عن الوعي. وعندما بدأت أفيق سمعت محادثة بخصوصي. كان أحد الأطباء يطلب دخولي جناح الضباط، بينما الآخر يرفض ذلك لأني لست ضابطاً. وسمعتُ ممرضتين تناقشان الطبيبين، أيّهما أكثر أهمية، الرتبة العسكرية أو حياة هذا الشخص؟ ولكنهما لم تنجحا في إقناع الطبيب، فلم أدخل للعلاج في جناح الضباط. فقررتا أن تأخذاني إلى جناح الممرضات لتقدّما لي عناية خاصة. ولم أكن أعلم أين أنا، لأن عينيَّ كانتا مربوطتين. وكان كل ما عرفته عن إصابتي ما كنت أسمعه من المحيطين بي بخصوصها. ورقدت في تلك الغرفة عشرين يوماً، لقيتُ أثناءها عناية كاملة من الممرضتين اللتين كانتا كملاكين. واستطعت أن أبصر بعيني اليمنى. وفي يوم خروجي عرَّفتني الممرضتان بنفسيهما: أمبر وماري ممرضتان هنديتان. وسألتهما عن سر اهتمامهما بي، واندهشتُ من الإجابة. لم يكن ممكناً أن تقولا لي: لأنك شاب جذَّاب، فقد كانت الضمادات تغطي وجهي. ولا لأنهما ستنالان مكافأة مالية، فلم يكن معي شيء. وكم اندهشت إذ قالتا إن اهتمامهما بي يرجع إلى أنهما مسيحيتان. وقالتا: لقد تألم مخلّصنا لينقذ البشر، فتعلّمنا منه أننا يجب أن نخدم الآخرين .
واندهشت من هذه الإجابة وبكيتُ حتى أغرقتْ دموعي وجهي. لقد خجلتُ من ممرضتين تعتنيان بمريض عاجز لأنهما مسيحيتان. فشجعتاني وقالتا: لا يجب أن تبكي لأن جرحك حديث . فأحنيت رأسي بإحساسٍ غامرٍ بالشكر، وكم وددت أن أقبّل أقدامهما. لقد رأيت السيد المسيح في تلميذتين من أتباعه. كان هو نفسه يتابعني حتى لا أهرب منه. لقد رأيت أتباعه يعتنون بالآخرين ويطبّقون ما كانت أمي تحاول أن تعلّمه لي. لقد لمستُ حضور الله في شعبه.
وعندما عدتُ إلى المعسكر أعطوني عملاً خفيفاً يتناسب مع حالتي الصحية. فكان عليَّ أن أمنع رجال سلاح الطيران من دخول أجزاء في المدينة لا يجب أن يدخلوها، حرصاً على سلامتهم. وأعطاني هذا العمل فرصة التعرُّف على أهل بلدي. لم أكن أتوقع أن أجد محبة، لكن هذا ما وجدته. فقد تعرفت على شاب هندي اسمه فيليب من ولاية بيهار، كانت صحبته سعيدة، وكنا نقضي أوقاتاً كثيرة في الضحك. وكان كل أصدقائي يحبون أن يكونوا مع فيليب للاستمتاع بروحه المرحة. وذات يوم صدرت الأوامر بنقله إلى مكان آخر، وكان عليَّ أن أبلغه ذلك. وعندما أبلغته حزن حزناً كبيراً. ولما سألته عن السبب، قال لأنه تعرَّف على فتاة اسمها كُمْلة، مومس من عائلة حقيرة، يريد أن يتزوجها لينقذها من البؤس الذي كانت فيه. وقال لي: إن ديانتي تقوم على التضحية. لقد أحب المسيح أشخاصاً مثلي وبذل نفسه من أجل خلاص نفوسهم. فإن كان قد قبلني بخطاياي، فيجب أن أقبل الخطاة بغير احتقار . وقد اندهشت من هذا التعليق. كنت أظن فيليب مجرد شخص ضحوك، أما الآن فقد رأيته في صورة جادة، تحكم مبادئُه تصرفاتِه. كان فيليب كضوءٍ وسط الظلام! وحاولت أن أثنيه عن عزمه في الزواج من كُملة، لكنه رفض تماماً. فقد كان عرضه عليها الزواج تضحية من جانبه على مثال تضحية المسيح.
وأدرك الكابتن باكستر ما يفعله فيليب، فشجَّعه على ذلك. وتم إلغاء قرار نقل فيليب. ودعونا كُملة لتقيم بالقرب من المعسكر إلى أن يتمم قسيس المعسكر مراسم الزواج. ثم أخذ فيليب كُملة إلى قريته بكل شجاعة ليعلن زواجه. وكان يمكن أن يتزوج بها في مكان بعيد لا يعرف أحدٌ عنها فيه شيئاً. لقد رأيت في فيليب المحبة التي رأيتها في باكستر وفي الممرضتين أمبر وماري ، وجعلت أتساءل: أين يجد الإنسان شجاعة ليقف ضد الممارسات والعادات الإجتماعية، ويضحي فيتزوج فتاة مثل كُملة؟