الفصل الرابع
الفدائي المجاهد
في مارس )آذار( 1947 عدت إلى جامو إذ شعرت بفراغ في حياتي. بيد أن جوًّا من العداوة والتمزق أرغمني على البقاء لأهتم بسلامة أسرتي ومساعدتهم في الأوقات العصيبة التي كنا نجتازها. كان الهندوس الأغلبية الساحقة في جامو، وكذلك كان المسلمون في كشمير الشمالية، فكنا نعلم أننا محاطون بأناس يعادوننا. لم يكن وَضْع كشمير محدداً، فقد انتهى الحكم البريطاني في الهند في منتصف أغسطس )آب( 1947 . وصار هناك بَلَدان بدلاً من واحد، فلقد انفصلت باكستان المسلمة بجناحيها الشرقي والغربي عن بقية الهند. وانتقلت آلاف العائلات إلى البلد الذي وقع عليه اختيارهم. فبالنسبة للمسلمين كان لزاماً عليهم أن يسيروا مئات الأميال إلى باكستان في الغرب. لقد بلغت المعاناة حداً لا يمكن تصوُّره، وتمخض ذلك عن مذابح مريعة. أما الولايات المستقلة مثل كشمير فقد أُعطيت حق الاختيار في الالتحاق بأي بلدٍ يختاره أهلها. واستمرت أحداث القتل الوحشية بعد التقسيم بشكل متصاعد. فلا أحد يعرف الأمن والأمان، وملأ الرعب كل مكان.
ولكن وسط هذا الظلام الحالك رأيت ومضات أضواء خافتة. ها هو جارنا الطيب الرقيق من السيخ إقبال سينج يناشدنا أن نغادر المدينة، لأن الأحوال صارت ميئوساً منها. وقال لي: إن هدَّد أحدٌ حياتكم فنحن جيرانكم، وسوف نضطر للدفاع عنكم، ولو إلى الموت . في هذا الخضم من الكراهية لمسنا روحاً تُجسّد الكرم، مما بعث فينا الأمل.
وكان لزاماً عليَّ أن أرغم أخويَّ الكبيرين على المغادرة واللحاق بزوجتيهما لئلا يلحقهما السوء. وكانت هذه صدمة عنيفة عليهما، فلهما ممتلكات وأراضٍ في جامو. وفي حسرة وأسى غادرا المكان.
وتسلل الرعب إلى مصنعنا لما اختفى عامل في الرابعة عشرة من عمره يدعى إلياس، وتغيب عن منزله. وأتت أخته وقت الغداء تسأل عنه، فأخبرتها أنه لم يحضر، ولكنها أصرّت على أنه غادر المنزل إلى عمله كالعادة. ملأني الرعب وخشيت أن يكون قد وقع أسوأ الأمور. أخذتُ الفتاة الصغيرة بيدها وسرنا نفتش على أخيها، فوجدنا جثته في أحد الشوارع. شعرتُ بالحزن وانخرطَتْ أخته بجواري في البكاء المر. حاولت تهدئة روعها لكن دون جدوى. بعد ذلك أبلغت الخبر للأسرة وساهمتُ في ترتيب الجنازة. ودُفن إلياس في اليوم نفسه. تُرى، من يأتي دوره؟ كنا جميعاً مستهدَفين لذلك.
وعاد جارنا السيخي يتوسل إلينا أن نغادر. لم يكن هيناً إقناع العمال بالذهاب، لأن راتبهم من المصنع كان مصدر عيشهم الوحيد. لم يكن للمغادرة سوى معنى واحداً: البطالة، وما يترتب على ذلك من جوعٍ قاسٍ لهم ولأسرهم. فضلاً عن هذا كله، كان ولاؤهم للمصنع وطيداً لدرجة لا تسمح لهم بمغادرته في تلك الظروف العصيبة. لكني أصررت على مغادرتهم. ودفعت رواتبهم، وأغلقت المصنع.
كنّا نملك في جامو ثلاثة منازل ومحلاً تجارياً ومصنعاً و 400 فداناً من الأرض. والآن حان الوقت لنترك هذا كله. وباقتراب نهاية سبتمبر )أيلول( لبستُ زيّ سلاح الطيران لئلا يتحرش بي أحد. كان الظلام حالكاً حين دنوت من نهر توي وكان ذلك بمثابة ستر وأنا أعوم. ونحو الجانب الآخر سمعت كلمة مَحلّك! وملأني الرعب، ولكن الحارس سمح لي بالسير، فركضت المسافة المتبقية من العشرين ميلاً حتى وصلت بيتي في ظفراوال . رحبت بي أمي بحرارة وسط دموع غزيرة. لقد تصدَّعت الحياة حولنا الآن والتي بنيناها بعد عناءٍ مضنٍ. بدت الحياة قاتمة. لكن في رأي السياسيين كانت هذه بداية جديدة ومثيرة في صالحنا، واعتبرونا محظوظين! لقد كان لدينا بيت مريح وطعام كافٍ، والآن أرسلونا إلى معسكر لاجئين. لم يعد للحياة معنى! وغمرني اليأس. كنت أعتقد أن للحياة معنى، ولكني فقدته، ودوري الآن أن أستردّه مرة ثانية! واتجهت للإسلام لعلي أجد ملاذاً واتجاهاً جديداً كي أحيا لأجله وأموت لأجله. تاق كل كياني إلى شيء يستحق كل اهتمامي. كنت مقتنعاً بأن كل ما كان عندي وكل ما مررت به وتدرَّبت لأجله كان بحاجة إلى منفذٍ لاستخدامه. وبدأت آخذ الإسلام بجدية. إنه الدين الذي تربَّيت فيه.
صمَّمت أن أصبح مسلماً صالحاً، وصارت الصلاة السمة المميزة لحياتي. فُرض على المسلمين أن يصلّوا خمس مرات كل يوم، لكني اعتبرت ذلك أقل مما يجب واعتقدت أن الفقهاء والمشايخ يمكن أن يبيّنوا لي الصراط المستقيم.
وارتفع النداء للجهاد في كل مسجد. وإذا بمهراجا كشمير يضم محافظته إلى الهند، مما أثار غضب المسلمين، الذين كانوا يفضلون الانضمام للباكستان، أو أن تكون كشمير مستقلة. فدُعي المسلمون إلى الجهاد ليقاتلوا المشركين والكفّار. منذ بداية الإسلام والدين والسياسة رفيقان لا يفترقان. وكان واجباً نبيلاً عليّ أن أُرضي الله سبحانه الذي هدى خطواتي لأصبح مقاتلاً في حركة الحرية . وأخيراً بدا وكأن الفراغ الشاغر في حياتي يمتلئ.
قابلت السردار محمد إبراهيم، أول رئيس لكشمير الحرة، الذي ألحقني بجيوش المسلمين المقاتلين فيحركة الحرية . سجلت اسمي والتحقت كجندي عادي. لم أشأ أن أتباهى مستعرضاً خبرتي السابقة في سلاح الطيران فلم أخبر أحداً عنه.
وعندما بلغ دوري في حركة الحرية ذروته قابلت سليمة مرة ثانية. غمرها السرور وأبدت شوقاً لتجديد أواصر الصداقة بيننا وأن نفكر في موضوع الزواج، بعد أن تجرَّدَت أسرتنا من ثروتها، فلن يعترض أحد على زواجنا. ولم يخطر ببالي أن هذا سيكون آخر لقاءٍ بيننا! فقد ذهبت إلى قرية سليمة فوجدتها مريضة ولم يسمحوا لي برؤيتها. ولأني لم أعرف مدى خطورة مرضها، ولأني صممت على السير على النهج الذي رسمته لنفسي، غادرت القرية دون أن أطلب رؤيتها. وفي خلال شهر عدت إلى القرية. وحدث ما لم يكن في الحسبان، كأن صاعقة من السماء هوت على رأسي. رأيت أخا سليمة وأسرتها وأقاربها عائدين من المدافن بوجوهٍ واجمة يعتصرها الأسى. لقد ماتت سليمة ذلك الصباح! هل ماتت بسبب انكسار قلبها، ويقع اللوم عليَّ؟ غمرني الأسى وعذبني ضميري. والآن أُغلق الباب المؤدي لسعادتي الشخصية للأبد. عدت إلى الشعور القاتل بالوحدة، وقلبي منكسر من الحسرة. كان السبيل الوحيد لنسيان هذه الأحزان هو الانهماك في حركة الحرية ، وكان هذا كل ما لديَّ لأحيا لأجله.
وسرعان ما لاحظ قادة حركة الحرية خبرتي وتدريبي اللذين لا يُقدَّران بثمن، فعقدوا العزم على أن أصبح واحداً منهم، واحتفلوا في إحدى الأمسيات بذلك. وكانت السرية أهم شيء في معركة الحرية هذه، وكان دوري تدريب الآخرين. وبالتدريج اشتركت أكثر فأكثر في عمل المخابرات. تضمنت عملياتنا كل أنواع الخداع. ففي إحدى المناسبات تنكرتُ وادَّعيت أني هندوسي براهمي لاجئ من باكستان. كانت مهمتي استكشاف قوة وموارد الجيش الهندي في تلك المنطقة. ولما وصلت إلى الحدود أجهشت بالبكاء وشرحت كيف قُتلت أسرتي، وكيف أخذوا ممتلكاتنا. فتأثروا جداً بما سمعوا وطيَّبوا خاطري وأكَّدوا لي مساعدتهم. وحينما طلبوا مني تلاوة ما تيسر من الأسفار الهندوسية تسلل الرعب إلى نفسي، فلم أكن أعرف أي أجزاءٍ يريدون بالتحديد، علماً بأني تعلمتها في مدرستي الهندوسية في جامو. وكان لابد أن أفكر بسرعة. قررت أن أسترحمهم، وبكيت مرة ثانية وقلت إن كلي حيرة ومجهد تماماً. ولكن حِيَلي لم تنجح معهم، وشكّوا فيَّ. ولم يكن صعباً عليهم أن يحدّدوا ديانتي، فعلامة المسلم هي الختان. كل ما احتاجوه هو تجريدي من ملابسي ليكتشفوا حقيقة أمري. فأخذني اثنان منهم جانباً ليفحصاني، فانتزعت نفسي منهما وق
فزت فوق الحائط. وألقيت عليهم جميعاً قنبلة، وانتظرت خمس عشرة دقيقة ثم ألقيت قنبلة أخرى، فاندلعت ألسنة النيران في كل أرجاء المكان. ولم يكن مثل هذا الدمار للحياة البشرية والممتلكات غريباً عليَّ. ولم ينخس هذا ضميري، ما دمت أفعله في سبيل الله!؟
واستمرت الحرب من أجل الحرية طيلة سنتين. وبنهاية هذه الفترة جرت أحداثٌ ساعدتني على تذكر تلك القِيَم التي تعلمتها كطفل، وهي قدسية الحياة، والحياة لأجل الآخرين. ما كانت هذه المثُل لتغطس في أعماق بعيدة إلا لتعود تطفو على السطح وتحظى بأولوية في حياتي مرة ثانية.
وبينما أنا في طريقي لحضور اجتماع، سمعت من ينادي علىَّ بالاسم الذي اعتادت أسرتي أن تدللني به. ولفرط دهشتي وجدتها أخت أحد الأصدقاء الهندوسيين، تقف وراء نافذة ذات قضبان حديدية. وبصعوبة عرفتها، ولكني تذكرت أنها كانت إحدى أفراد أسرة آوتهم والدتي في بيتنا لمدة شهرين قبل أن يعبروا الحدود إلى الهند. وسألتها: إن كانت أخت سوديش؟ هزت رأسها بنعم. ثم سألتها كيف أتت إلى هنا؟ وأحسَّت بالحرج الشديد الذي منعها من الجواب. فرجوتُها أن تردّ، لأني أدركتُ كم هي مغمومة. وأخيراً حكت لي قصتها الفظيعة، وهي أن اثني عشر أفغانياً من المقيمين في الهند، عبروا الحدود وأغاروا على قريتها وأحضروها إلى هذا المكان حيث تناوبوا اغتصابها الواحد تلو الآخر.
سادني الوجوم والصمت. ماذا يجري أمامي؟ أكان هذا نتيجة حماسٍ ديني؟ هل يسمح الإسلام بهذا السلوك؟ ولأول مرة في تاريخ مهنتي التي اخترتها بنفسي قامت علامة استفهام أمام أنشطتي، وبدأت الشكوك ترتسم في ذهني. كان صعباً أن أطفئ هذه الشرارة. وفي موقفي الحاضر كان واجباً عليَّ أن أفعل شيئاً إيجابياً. أحضرتُ إليها كل ما احتاجته لتضميد جراحها، ثم استخدمت نفوذي لإطلاق سراحها. واعتنت أمي بها حتى شُفيت وصارت قادرة على الرحيل لتلحق بأسرتها عبر الحدود.
وذكَّرني هذا الظلم بمشهدٍ رأيتُه في مدينة جوجارت وأنا في طريقي إلى كشمير في السوق، إذ رأيت البشر يُباعون: ثمن العذراء 300 روبية، وثمن المتزوجة ومعها طفل 200 روبية. أما العجوز فثمنها 50 روبية فقط! كانت صدمة شديدة لا أنساها. كيف يقيِّمون البشر؟ وراودتني الأسئلة!