الفصل الخامس
العدوّ الذي لم أتوقعه
عقد نهرو رئيس وزراء الهند، وعلي خان رئيس وزراء الباكستان اتفاقية سياسية، فتعزَّز موقف الجيش الهندي في كشمير، وساءت معنويات المقاتلين في حركة الحرية لأن حركتهم كانت بدون تنظيم أو تفكير سابقين، فعجزوا عن الحرب إلا ليلاً بسبب إمكانياتهم المحدودة.
وذات مساءٍ دخلتُ قريةً مع بعض رفاقي تبعد مسافة قصيرة داخل الحدود الهندية، وسمعت بوجود بعض غير المسلمين فيها، فاستدعيت العمدة )المختار( للتحقُّق من الأمر، فأجابني:
- لا يوجد هندوس يا سيدي، لكن يوجد بيت مسيحي واحد.
- مسيحي؟ تقصد أتباع عيسى.
- أجل، ثلاثة أشخاص فقط.
- هم ليسوا مسلمين. خذنا إليهم، وسنتَّخذ إجراءً بشأنهم.
كان قراري هذا طبيعياً جداً لي في ضوء آخر ما فهمته عن المسيحية. وكنت قد سألت مولانا الشيخ عن تعريف كلمة كافر فأجابني: كل من لا يقول الشهادتين كافر، وهما لا إله إلا الله. محمد رسول الله. لذلك أمام كل واحدٍ خياران: الإسلام أو الحرب. كل من لا ينطق الشهادتين ويخضع لتعاليم محمد فلن ينال سلام الله، ويكون قد اختار الحرب وعواقبها . كان الرد واضحاً ومباشراً. فسألته سؤالاً محدداً: ما رأي مولانا في المسيحيين؟ فإذ بإجابته تلقيني في غياهب الحيرة. قال لي: إنهم أهل الكتاب، يؤمنون مثلنا بعبادة الله الواحد سبحانه وتعالى الذي أنزل للناس وحيه. وهم يؤمنون بالتوراة والإنجيل، أما المسلم فبالقرآن الكريم. يؤمن المسلمون أن الوحي أُنزل إلى محمد في القرن السابع الميلادي في مكة والمدينة بطريق جبريل عليه السلام. وأصل الوحي في اللوح المحفوظ، الذي يوجز رسالة الله لكل الأنبياء السالفين وخاتم التنزيل. ويرفض القرآن الاعتراف بأن المسيح ابن الله، لكنه نبي كسائر الأنبياء. كما أن التوراة والإنجيل منسوخان بالقرآن . فقلت له: لو كان المسيحيون أهل كتاب لما أُدرجوا ضمن الكفَّار. أما إذا كان تعريف الكافر أنه الذي لا ينطق بالشهادتين فيكونون كفرة
تجوز الحرب ضدهم . ولم يشأ مولانا أن يطيل الحديث كي يدعم استنتاجي، كما لم يرفض قولي، وتركني في حيرة دون استنارة. فقررتُ لنفسي أنهم ما داموا لا ينطقون الشهادتين فهم كفَّار يجب أن نحاربهم.
وذهبت إلى بيت المسيحيين في تلك القرية. ولما قرعت الباب خرج كهلان ترتعد فرائصهما في ضوءٍ خافتٍ ينبعث من مصباح زيت. فدعوتهما للإسلام. وبينما هما يفتشان عن جواب مناسب خرجت طفلة في حوالي العاشرة من العمر، تقدمت نحوي وقالت: لا! لا يمكن أن نصبح مسلمين . فانفجرتُ ضاحكاً وسألتها: لماذا؟ فأجابت: لا يمكن أن نغيّر ديننا لأي سبب مهما يكن. قلت لها: يا لكِ من فتاة غبية! الآن عليكم التفكير في إنقاذ حياتكم بأن تصبحوا مسلمين . لكنها لم تذعن وقالت: نؤمن بمَنْ قال: أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر، ونؤمن أنه معنا حتى اليوم .
نفد صبري وأهاجني عنادُها وتوصلتُ إلى قرارٍ سريع، فقلت لها: حسناً! سنقتل الكهلين ونأخذك معنا إلى المعسكر لنستبدلك بفتاة مسلمة من الهند . لكن تخويفي لم يخضع الفتاة ذات العشر سنوات. وبإصرار قالت: افعل ما شئت، لكن لنا طلب واحد وسألتها: ما هو؟ أجابت: لن نطلب منكم أن تعفوا عنا. أعطونا فقط خمس دقائق لنصلي طالبين المساعدة ممن أعطانا هذا الوعد . كانت الفتاة تتكلم بثقة وبغير خوف. سألتها: هل أنت غبية؟ إن الإله الذي تعبدينه لن يخلِّصك. لم يخلِّص أحدٌ المسلمين من الهندوس، ولا خلَّص أحدٌ الهندوس من المسلمين. ألم تسمعي بما جرى لمعبد الهندوس في قلعة هابتال منذ ساعات؟ . قلت هذا لها لأُخيفها. وأما هي فأجابت: فقط أعطونا بضع دقائق . فسمحت لها بتلك الدقائق، وقلت متهكماً: لعلكِ تنتجين قنبلة نووية بصلاتك! . خرَّت الفتاة والكهلان على ركبهم. ولم أسمع ما يقولون، لكني لاحظت الدموع تنساب على وجنتي الطفلة وشفتاها تتحركان. انقضى الصمت على أثر قولهم في صوت واحد: باسم يسوع المسيح آمين . وبينما هم يقولون آمين انبعث من الأرض حائط من الضوء اللامع أخفاهم عن ناظرنا. لقد عرفتُ معنى النار المميتة ولهيبها المندلع في الانفجارات، و
لكني لم أرَ في حياتي قط مثل هذا الضوء المرهب في سطوعه. كان ضوءاً فريداً أثيرياً لا أجد كلماتٍ تصفه. وبالتدريج اقترب هذا الضوء منّي فملأني الذعر، فقد بدا وكأنه يحاول إحراقي! وبدأ عرقي يتصبَّب بغزارة، ولأول مرة في حياتي منذ كان عمري تسع سنوات شعرت بالخوف الحقيقي القاتل. ولم أعرف ماذا أفعل. وفجأة خطر ببالي أن أطلب غفران تلك المخلوقات البائسة! لكن لماذا؟.. لأنهم أكبر مني، ويبدو أنهم على صلة بقوة أكبر من كل ما عرفت في حياتي. لعله من الأفضل أن أطلب صفحهم. فقلت برعبٍ: أرجوكم سامحوني . فأجابوا: نسامحكم باسم يسوع المسيح . وما إن قيلت هذه الجملة حتى اختفى الحائط النوراني، ووقفوا أمامنا مرة أخرى في هدوء وسكينة يترقَّبون ما نأمرهم به. أما نحن فلم نقدر على الانتظار أكثر من ذلك. كان معي بعض المجوهرات التي كنا قد سلبناها من بيوت الهندوس التي هجروها. فتركت لهم بعضها، وسرنا ونحن نشعر أننا أخطأنا في حقهم.
ولم يغمض لعيني جفن إذ بدأ المسيح يدق على قلبي! بدأت أسترجع التجارب السابقة التي عمل المسيح فيها أمامي معجزات. ها هو باكستر الذي تبع المسيح الذي حماني ورفاقي من القنابل اليابانية. فإن كان ما ادَّعاهباكستر صحيحاً )ونحن كلنا أقررنا بذلك( فإني مديون بحياتي لقوة المسيح. ومع ذلك فإني لا أعرف الكثير عنه. فكيف أُظهر امتناني لشخصٍ لا أعرفه؟ لكن كان ينبغي ذلك لأنه أنقذ حياتي. ومن أتباع المسيح أيضاً ماري وأمبر اللتين وضعتا ثقتهما فيه وهما تنقذان حياة شاب مسكين وتضمدان جراحه. ولم ينقذ المسيح حياتي فحسب، لكنه كان حريصاً على أن يعتني تلاميذُه بي وأنا جريح لا حول لي ولا قوة. ترى لماذا يفعل هذا لأجلي، أنا الذي لم أعطِه ولاءً ولا طاعة؟
فإن كان فيليب الذي تبع المسيح نال القوة ليقدّم تضحيات كبيرة، فأنا أيضاً بذلت تضحيات متخلياً عن كل أغراضي الشخصية لأُرضي الله في الجهاد . لكني لم أشعر بأي علاقة شخصية مع الله، ولم أؤمن أنه منحني الشجاعة لأفعل أي شيء. فقط اتكلتُ على مواردي وعبقريتي. ولكن ها أنا الآن أقف في مواجهةٍ مع المسيح الذي تبعتْهُ تلك الفتاة الصغيرة، فجاء وأنقذها في اللحظة العصيبة. إنه شخصٌ وفيٌّ لوعوده. لقد ساورتني الشكوك في حمايته لوحدتنا أثناء القصف الياباني، أما الآن فلم تعد هذه الشكوك موجودة! لقد رأيتُ حمايته بأم عيني، ولا مفرّ من مواجهة الحقيقة. هذا المسيح بدأ يتابعني أينما ذهبت. والمدهش أني أردت أن أطلب الغفران، أنا الذي لم يسبق لي أن طلبت ذلك من أحد. فهل كانت كل حياتي آثمة وعاصية بسبب كل ما فعلتُه في سنواتي الماضية؟ ووثب إلى مخيَّلتي ذلك النمط المتوالي من حصار المسيح لي عبر هذه التجارب، كما لو كانت حبات لؤلؤ متفرقة تصطفّ في عقدها المنضود. لقد نجوت من الموت، ونلت العناية في مرضي، وعرفت تأثير المسيح بكفارته في هؤلاء الذين صفح عنهم باسمه. فهل اختارني لشيء ما؟ وماهو؟
لاحقتني هذه الأفكار وعذبتني وكانت تأتي رغماً عني. ومع ذلك لم تكن قوية إلى الحد الذي يسمح بنسيان التزاماتي والأفكار الأخرى. فاستمرَّ اشتراكي في حركة الحرية . ومع أن حماسي لها تضاءل إلا أنه كان لزاماً عليَّ أن أواصل نشاطاتي.
وذات مساء تمكنت كتيبتي من إضرام النار في قرية في أقصى جامو، وكان العمل يسير ببراعة ومهارة. وكنت أقف بمفردي في زاوية من الحقل على قارعة الطريق أسمع صياح وعويل الجرحى، فانتظرتُ مكاني لأقتل من عساه يهرب منهم في اتجاهي. ولمحتُ عجوزاً على مرمى بصري بين ألسنة اللهيب تحاول أن تمنع ألسنة النيران والدخان عن شيءٍ كانت تحمله. ولما اقتربَتْ رأيتُ طفلاً على كتفها. قلت لنفسي: خسارة أن تضيع القذيفة! تكفي ضغطة صغيرة على زناد بندقيتي لتقضي عليها وعلى طفلها. وتقدمتُ نحوها فألقت الطفل عند قدميَّ وقالت: اقتل! هيا اقتله! إنه طفل هندوسي وإلهك يحب قتل الناس. لذا اقتله . شُلَّت يدي عن الحركة، وخيَّم سكوت رهيب عليَّ، ولم يعُدْ ممكناً أن أنفّذ مهمتي. كنت سأقتلهما بدون تفكير - ولكن هذه العجوز جعلتني أفكر في ما سأفعله! وانتهزت المرأة فرصة ترددي ونظرت إلى عينيَّ متحدية جريئة وقالت: يا ولدي، هل عندك أطفال؟
- كلا يا أمي. لكن إخوتي عندهم.
- هل شاهدتَ الأطفال وهم يبنون بيوتاً من طين في مواسم المطر؟
- نعم يا أمي. أنا نفسي صنعتُ بيوتاً وأحصنة وثيراناً طينية مرَّات عديدة.
كانت المحادثة تجرِّدني من السلاح تدريجياً. يا لمهارتها في إشراكي في المحادثة بطريقتها هي!
- وكيف كانت حالتك عندما هدم أحدهم البيت الذي بنيتَهُ؟
أجبتُ مبتسماً بخجل: كنت أتضايق جداً يا أمي.
- حسناً يا ولدي. صنع الله جسد هذا الطفل بيديه ليعبّر عن صلاحه. فإن ضايقك أن يهدم أحدٌ ما بنيتَه، فكم يغضب الله على ما كنتَ ستفعله؟ هل الله ضعيف لدرجة أنه يحتاج لمساعدتك لإبادة الكفَّار؟ إن كان الله غير راضٍ عن شخص أو شيء، فإنه بنفسه سيضع نهايةً له.
صعقت هذه الكلمات ذهني ونفسي، وصحتُ: كفى يا أمي! بعد اليوم لن تُرفع هاتان اليدان على أحد باسم الدين. لقد أشعرتيني ببؤسي. لن أعود إلى هذا يا أمي العزيزة. ادعي الله لأجلي. أعلم أنني ضال .
وعلمتُ في صميم فؤادي أنها مُحِقَّة. كانت سبباً في أن تبلغ شكوكي حول أنشطتي الحربية ذروتها. وأخيراً لم أقدر على الاستمرار، فأمرتُ كتيبتي بالانسحاب، مما دفع رجالي إلى الظن بأني مجنون، وبدأوا يتذمَّرون على ما صدر مني بخلاف عادتي، وأصابهم الإحباط. لكنهم أطاعوا رغم ذلك.
في تلك الليلة تأملتُ أساليب عنفي. إن ما رأيتُه جعلني أستشعر أنه لا مفرّ من العقاب في جهنم جزاء ما فعلتُ، بقتل ما صنعه الله سبحانه وتعالى. لقد خضعتُ لأفكار الفقهاء، ولكني مسئول وحدي عن كل ما فعلت. فعلى من يقع اللوم إذاً؟ وبينما هذه الأفكار تعذبني قررتُ ألاّ أستمر في نمط حياتي الحاضرة. لم يعد يسرُّني إرضاء الله بقتل الكفَّار، وكانت الاستقالة السبيل الوحيد لي.
وذهبتُ إلى القائد الأعلى لأقدّم استقالتي من حركة الحرية فعَلَت وجهه الدهشة وعدم التصديق وسألني:
- لماذا تريد أن تستقيل؟
ولم أقدر أن أواجهه بكل القصة لأنه سيعتبر ذلك غلوّاً مفرطاً. كما لم أقدر أن أشرح لأي واحدٍ ما كان يدور بذهني، فقلت: لقد اشتركتُ في الحرب بحريتي، والآن أريد أن أستقيل بحرية .
ولما أدرك القائد الأعلى أنه لا جدوى من الجدل ومحاولة إقناعي بالبقاء، طلب مني تقديم استقالتي مكتوبة! وأعطتني الكتابة فرصة لأربط أفكاري واستجمعها. وكتبت أربع صفحات قرأها القائد الأعلى بصبر. وأعادتني تلك الكتابة إلى صوابي.
غُلب القائد الأعلى على أمره، بيد أنه عرض عليَّ مهمة أخرى، قبلتُها: كانت جمع كل الممتلكات التي يمكن نقلها والتي تركها الهندوس أثناء هروبهم للهند. ورافقني في هذه المهمة بعض المتطوعين كحرس. وأثناء هذا العمل رجعتُ إلى بيتي. وذات يوم ونحن نتناول الغداء رأى أخي معي وشاحاً جميلاً، فسألني كيف حصلتُ عليه، فأجبته أني وجدته وسط أملاك الهندوس التي صادرناها. فما كان من أخي إلا أن أخذ الوشاح وألقاه في النار، وصاح في غضب: لقد فضحتنا وفضحتَ نفسك! الآن ستبقى في البيت. ومن الآن فصاعداً لن تستمر في نهب ممتلكات الناس. هل سمعتني؟ ودُهشت لأني لم أكن قد فعلتُ شيئاً غير عادي، فحتى الفقهاء اعتبروا مال الهندوس غنيمةً لهم! فبمن أقتدي؟
ولما أجبرني أخي على ترك عملي عدتُ من جديد إلى حياة البطالة - فماذا عساي أفعل بحياتي؟!