تفسير إنجيل يوحنا

الإصحاح الأول

آية (38): "فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما ماذا تطلبان فقالا ربي الذي تفسيره يا معلم أين تمكث."

فيما سبق رأينا المعمدان كسابق للمسيح وشاهد له بأنه إبن الله. ورأيناه يحول تلميذين له وهما يوحنا الإنجيلي نفسه وأندراوس للمسيح قائلاً هذا هو حمل الله ورأينا التلميذين يسيران وراء المسيح في خجل دون أن يسألاه شيئاً، ولكنهما في أعماقهما كانا قد إتخذا قراراً بأن يتبعاه. والمسيح الذي يختار تلاميذه بدأ هو وبادرهما بالسؤال ماذا تطلبان= هذه تشبه بالعامية "عاوزين إيه" حتى يسهل مهمتهما فيتكلمان ويعلنا أنهما يريدان أن يكونا تلاميذاً له. هو يشجعهما ليتكلما. والآن السيد يطلب من كل منا أن يحدد موقفه، ماذا نريد منه؟ هل نريد ماديات أو نريده هو لشخصه.

رابي أو ربي= لقب يطلق على أعظم علماء اليهود ومعلميهم. والمعلم هي درجات (راب/ رابي/ رابوني).

آية (39): "فقال لهما تعاليا وانظرا فأتيا ونظرا أين كان يمكث ومكثا عنده ذلك اليوم وكان نحو الساعة العاشرة."

تعاليا وأنظرا= فالمسيح أراد أن يعرف كلاهما أنه إنسان متواضع يقيم في مكان متواضع حتى لا يظنا أنه يقيم في قصر، يعرفاه على حقيقته. إنساناً فقيراً لا يملك شيئاً، وحتى لا يتوهما أنهما سيملكان معه ويكون لهما جاه أرضي. ولكن.. تعاليا وأنظرا= هي دعوة للخبرة الشخصية مع يسوع هذه تشبه قول داود "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" فمن يريد أن يعرف المسيح يأتي لينظر ويتذوق فيفرح ويقرر الإلتصاق به فكلام الحياة الأبدية هو عنده. حقاً هو لم يَعِدْ بالجاه الأرضي بل بالحياة الأبدية والفرح السماوي الذي يملأ القلب هنا على الأرض وفي السماء. وهذه دعوة الروح القدس والكنيسة لكل واحد "تعال" (رؤ17:22). وقد قضى يوحنا وأندراوس اليوم مع المسيح (ما أحلى أن نقضي يوماً مع يسوع) حتى الساعة العاشرة بالتوقيت اليهودي أي الرابعة بعد الظهر، وكانوا منبهرين بتعليمه وكلامه وأقواله، ويوحنا بعد 60سنة مازال يذكر الساعة التي ترك فيها بيت يسوع مساءً والتي قرر فيها أن لا يتركه العمر كله إذ عنده الحياة. الساعة التي أدرك فيها أنه يحب المسيح لأن المسيح أحبه أولاً.

الآيات (40-42): "كان أندراوس أخو سمعان بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. هذا وجد أولاً أخاه سمعان فقال له قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح. فجاء به إلى يسوع فنظر إليه يسوع وقال أنت سمعان بن يونا أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس."

أندراوس بعد زيارته للمسيح عرف وآمن أنه المسيح فدعا أخوه سمعان قد وجدنا= أي أنا ويوحنا، وقد يعني أن الأمة اليهودية وجدت المسيا، فهم كانوا يفتشون الكتب وينتظرون المسيا. وهذه لابد أن تكون كرازة كل خادم، علينا أن نتذوق حلاوة المسيح، ونقول قد وجدنا مسيا. ولكن من لم يجد المسيح أولاً لن يستطيع أن يأتي بأحد للمسيح. أندراوس أخو سمعان= فسمعان بطرس صار الأشهر. هذا وجد أولاً= هذه تعني واحدة من إثنين:-

1)  إن كل من أندراوس ويوحنا ذهب ليدعو أخاه فأندراوس ذهب ليدعو سمعان ويوحنا ذهب ليدعو يعقوب ليتتلمذا على المسيح، وأندراوس وَجَدَ سمعان أولاً وأتى به للمسيح قبل أن يأتي يوحنا بيعقوب للمسيح.

2)  ربما ذهب أندراوس ويوحنا ليبحثا عن سمعان أخو أندراوس ووجده أندراوس أولاً قبل أن يجده يوحنا. ولاحظ أن أندراوس لم يحسد أخوه بطرس إذ صار أحد الأعمدة، وأندراوس هو الذي دعاه. ولاحظ أن من يعرف يسوع يسعى لأن يعرفه الآخرون (مز14:45،15+ نش4:1)

صفا= كيفا بالآرامية وتعني حجر. وباليونانية بتروس petros أي بطرس ونلاحظ أن في (مت18:16) المسيح يعيد التأكيد على هذا الإسم بعد أن إعترف بطرس أن المسيح هو إبن الله. ونلاحظ أن المسيح هنا عرف إسم سمعان بن يونا من نفسه ولم يخبره أحد. وأن المسيح غَيرَّ إسم سمعان إلى بطرس كما غَيرَّ إسم إبرام إلى إبراهيم وساراي إلى سارة.. إشارة لبدء حياة جديدة. وغير المسيح إسم يوحنا ويعقوب أخيه فصارا بوانرجس أي إبني الرعد. وهكذا تغير الكنيسة إسم الكاهن بعد سيامته أو الراهب أو الأسقف أو البطريرك إشارة لحياته وخدمته الجديدة تاركاً حياته القديمة.

ونلاحظ أن بعد هذا التعارف عاد التلاميذ إلى حياتهم القديمة ومهنتهم السابقة في صيد السمك، إلى أن دعاهم المسيح ليتركوا مهنتهم القديمة ويتبعوه (مت18:4-22). وما جاء هنا في هذه الآيات من إنجيل يوحنا من التعارف الذي حدث بين المسيح وبين بطرس وأنداروس ويوحنا ويعقوب يفسر ما جاء في (مت18:4-22) من حيث الإستجابة الفورية لدعوة المسيح وتركهم الشباك، إذ هم كانوا قد سبق وأعجبوا بالمسيح وقرروا أن يتتلمذوا له. (وبعد هذا ثبت المسيح إيمانهم بمعجزة صيد السمك الكثير (لو3:5-11). فالمسيح لا يجبر أحداً أن يتبعه، ولا هو عنده عصا سحرية يشير بها لأحد أن يتبعه فيتبعه. بل أقنع هؤلاء التلاميذ فتبعوه (أر7:20). أنت سمعان= إذاً هذا إعلان بأنه يعرف إسمه. تدعى صفا= إعلان بأن المسيح كشف مستقبله ومجاهرته بالإيمان. مسيا الذي تفسيره المسيح= مسيا هي الصيغة اليونانية للكلمة الآرامية مشيحا والعبرية مشيح والعربية مسيح، ولأن يوحنا كان يكتب للأمم فسر كلمة مسيا. والمسيح أي الممسوح بالروح القدس ليقوم بعمل الفداء.

الآيات (43،44): "في الغد أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل فوجد فيلبس فقال له اتبعني. وكان فيلبس من بيت صيدا من مدينة أندراوس وبطرس."

في الغد= هذه ثالث مرة يقال فيها في الغد. فهنا يوحنا الإنجيلي يتابع أحداث الأسبوع الأول لخدمة المسيح يوماً بيوم. ومن هذه الآية إنتقل المسيح من خدمة اليهودية إلى خدمة الجليل. وفي خلال هذه المدة للمسيح في اليهودية لم يصنع شئ سوى إختيار تلاميذه والتعرف عليهم.

وفيلبس كان قد سمع من بطرس وأندراوس عن يسوع فهو من مدينتهما فتبع يسوع إذ دعاه. ويسوع دعاه هو أيضاً قبل ذهابه إلى الجليل. وكان فيلبس أول من دعاه يسوع.

من بيت صيدا                                         من مدينة أندراوس وبطرس.

من: هنا تفيد مدينة المعيشة والإقامة             من: هنا في اللغة اليونانية تفيد مدينة الميلاد وهي كفرناحوم.

إذن فيلبس كان من بيت صيدا (في الجليل وتعني بيت الصيد فأغلب سكانها صيادي سمك وهؤلاء تحولوا صيادين للناس). وهي مدينة أندراوس وبطرس وكان أول صيد لأندراوس هو بطرس وأول صيد لفيلبس هو نثنائيل، وهو من مواليد كفرناحوم مثل بطرس وأندراوس فكان صديقاً لهما منذ فترة الطفولة. ويقول التقليد أن فيلبس هو الذي إذ دعاه المسيح إعتذر قائلاً أنه يطلب أن يدفن أباه أولاً فقال له المسيح دع الموتى يدفنون موتاهم وإتبعني (مت22:8).

آية (45): "فيلبس وجد نثنائيل وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة."

وجدنا= إذاً كان هناك نفوس كثيرة تدرس وتفتش وتنتظر المسيح بأمانة. وهؤلاء وجدوه. ويبدو أن كل من أتته الدعوة وإستقبلها بفرح تحول إلى كارز. ونثنائيل من قانا الجليل (يو2:21). وغالباً وجد فيلبس نثنائيل في قانا نفسها. ونثنائيل هو برثولماس وندرك هذا من مقارنة (مت3:10 مع مر16:3-19) فكلاهما ألصق إسم برثولماس بفيلبس فمن يذكر نثنائيل لا يذكر برثولماس. وبمقارنة (يو2:21 مع أع13:1) نجد أن يوحنا يضع إسم نثنائيل بعد توما ويضعه لوقا في سفر أعمال الرسل على أنه برثولماس بعد توما أيضاً. كتب عنه موسى= (تث15:18+ يو46:5) إذاً فيلبس كان دارساً للكتاب المقدس. يسوع إبن يوسف= هذا هو الإسم الذي عرف به المسيح في الناصرة التي قضى فيها أغلب فترات حياته على الأرض.

آية (46): "فقال له نثنائيل أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح قال له فيلبس تعال وانظر."

هم كيهود كانوا يتصورون أن المسيح يكون عظيماً ويخرج من مدينة عظيمة (يو52:7) (أو بحسب النبوات يخرج من بيت لحم). وكان اليهود حتى الجليليين يحتقرون سكان الناصرة ربما لأنها صغيرة وربما لإختلاط أهلها بالوثنيين وتجارتهم معهم. فهل يخرج المسيح من مدينة صغيرة كالناصرة؟! وكان رد فيلبس العملي تعال وأنظر، ليختبر المسيح كما إختبره فيلبس وآمن به.. "ذوقوا وأنظروا ما أطيب الرب" هذه طريق كل من تذوق الرب.

 

آية (47): "ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليه فقال عنه هوذا إسرائيلي حقا لا غش فيه."

لا غش فيه= أي مستقيماً لا يلتوي ولا يكذب ولا يعرف الغش والرياء. يطلب بصدق أن يعرف الله، ويطلب وجه الله كما ينبغي أن يكون الإسرائيلي (رو28:2،29). وإسرائيل هو الإسم الذي أخذه يعقوب لأنه جاهد مع الله والناس وغلب (تك28:32). ولا يقصد جنسيته أو قوميته.

 

آية (48): "قال له نثنائيل من أين تعرفني أجاب يسوع وقال له قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك."

من أين تعرفني= يبدو أن وصف السيد المسيح عن نثنائيل كان له معنى عند نثنائيل جعله يشعر أن يسوع يعرفه وتفسير وأنت تحت التينة رأيتك= حسب ما جاء في تقليد قديم.. أن جنود هيرودس إذ جاءوا ليقتلوا أطفال بيت لحم، أخفت أم نثنائيل إبنها في سفط وضعته تحت التينة وخبأته فيها فلم يجده جنود هيرودس، وهذه القصة لا يعرفها سوى نثنائيل وأمه فقط، لذلك ذُهِلَ نثنائيل إذ أخبره بها المسيح، إذ شعر أن لا شئ مخفي عن عينيه. تحت= لغوياً تشير لإختفاء شئ تحت شئ. وقد يشير المعنى عموماً لأن التينة لها معنى في حياة نثنائيل كأن يكون له ذكريات روحية وهو يصلي تحتها إذاً بهذا فهم نثنائيل أن المسيح مطلع على المشاعر الروحية أيضاً. إذاً هو فاحص القلوب.

 

آية (49): "أجاب نثنائيل وقال له يا معلم أنت ابن الله أنت ملك إسرائيل."

آمن به إذ رآه قادراً مقتدراً يعرف كل شئ فآمن أنه المسيا المنتظر. واليهود يفهمون أن الله هو ملك إسرائيل الحقيقي. وكان إختيارهم لشاول ملكاً رفضاً لله كملك لهم. وكان نثنائيل هو أول من اعترف من التلاميذ بأن المسيح هو إبن الله (المعمدان قالها قبله).

 

آية (50): "أجاب يسوع وقال له هل أمنت لأني قلت لك أني رأيتك تحت التينة سوف ترى أعظم من هذا."

المسيح يقصد أنه سوف يرى أعمال ومعجزات عجيبة يفعلها المسيح بسلطان بل هو في المستقبل سيدرك أن المسيح بلاهوته مختفي وراء هذا الجسد المتواضع.

 

آية (51): "وقال له الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان."

من بدء تجسد المسيح صار هو الصلة بين السماء والأرض، فالصلح قد تم وصار الإبن هو طريقنا للسماء [لقد صار جسد المسيح طريقاً حياً حديثاً ندخل به للأقداس (عب19:10-20)] وهذه الآية فيها إشارة لرؤيا يعقوب إذ رأى سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها (تك12:28). والسلم هو رمز للمسيح فبه نصعد للسماء وهو الذي نزل ليصعدنا. وبه صار الصلح فصعدت الملائكة ونزلت على البشر، والمسيح بلاهوته يسمو إلى أعلى السموات وبناسوته نزل للأرض ليصعد به وبنا للسماء لنكون في المجد. ولقد رأى إسطفانوس فعلاً السماء مفتوحة، ثم رآها بولس الرسول في الرؤيا في طريقه إلى دمشق، ورآها بعد ذلك يوحنا في رؤياه. ولكن المقصود أن السماء إنفتحت لتنسكب مراحم الله على البشر. والملائكة فعلاً ظهرت في ميلاد المسيح وجاءت ملائكة تخدمه بعد تجربته (مت11:4) وجاء ملاك يقويه في يوم خميس العهد وهو يصلي، وظهرت الملائكة بعد قيامته وكل هذا أعظم من ذكر قصة التينة، فالملائكة هم خدام له. وكما حدث مع المسيح سيحدث مع الكنيسة جسده والملائكة تصعد وتنزل لتخدم العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب14:1) والكنيسة تؤمن أن الملائكة موجودة معنا دائماً وفي شركة معنا. وفي نهاية كل قداس يصرف الكاهن ملاك الذبيحة. لقد وحَّدَ المسيح بصليبه السمائيين والأرضيين وجعلهما واحداً. وهم يفرحون بكل خاطئ يتوب. ونحن وهم نقف أمام عرش الله مسبحين. والمسيح قال يصعدون قبل أن يقول ينزلون. فهو أتى بهم عند تجسده أولاً ثم صاروا يصعدون وينزلون.

ولاحظ أن نثنائيل قال إبن الله، والمسيح يقول عن نفسه أنه إبن الإنسان. فهو إبن الله الذي صار إبن إنسان ليحملنا فيه إلى السماء، فصار السلم الذي به نصعد للسماء. فحلم يعقوب تحقق في تجسد المسيح وصارت السماء مفتوحة للإنسان. هناك كثيرين شهدوا بأن المسيح هو إبن الله، لكن المسيح أطلق على نفسه إبن الإنسان.

نرى هنا في هذه الآيات شهادات مختلفة عن المسيح :

1- شهادة يوحنا المعمدان..... هوذا حمل الله   (آية29،36)

2- شهادة يوحنا المعمدان..... هذا هو إبن الله  (آية34)

3- شهادة إندراوس......... قد وجدنا مسيا     (آية41)

4- شهادة فيلبس.......... من كتب عنه موسى        (آية45)

5- شهادة نثنائيل.......... أنت إبن الله أنت ملك(آية49)

والشهادة تقوم على فم إثنان بحسب الناموس.

ونلاحظ أن هناك تدرج في شهادات التلاميذ.

ونرى طرق مختلفة يجذب بها المسيح تلاميذه والمؤمنين.

للمسيح طرق مختلفة يجذب بها تلاميذه ويجذب بها المؤمنين لكي يؤمنوا، كل بحسب حاجته، فهو يعرف الطريقة التي يجذب بها خاصته.

1.  يوحنا وأندراوس أتيا نتيجة شهادة معلمهما المعمدان، ثم توطد إيمانهما بعد محادثة مع المسيح في البيت، وحوار في الطريق دعاهما المسيح إليه.

2.  سمعان جاء نتيجة شهادة أخيه أندراوس، وتوطد إيمانه بعد أن كلمه المسيح وغيَّر إسمه كاشفاً له مستقبله، ومعجزة صيد السمك (لو5).

3.  فيلبس أتى بدعوة مباشرة من المسيح، إستأسرته فيها شخصية المسيح القوية فلم يتردد. لقد ذهب المسيح إلى فيلبس ليدعوه. فهناك من أتى للمسيح وهناك من ذهب إليه المسيح.

4.    نثنائيل جذبه المسيح بكشف أسرار لا يعرفها سواه.

وحتى الآن فهناك من ينجذب بعظة، أو بدعوة من أب إعترافه، أو بمعجزة شفاء، أو بضربة تأديب، الله له وسائله المتنوعة.


 

مقدمة للإصحاحات 2-4

في الإصحاح الأول رأينا كلمة الله اللوغوس (آية1) وهو إبن الله (آية14،34،39). صار جسداً أي تجسد وصار إبن الإنسان (آية51). فلماذا فعل ذلك؟ الإجابة نجدها في الإصحاحات2-4 وتسمى إنجيل التجديد.

إصحاح (2): السيد يحول الماء إلى خمر. ثم يطهر الهيكل. ونفهم أن الهيكل هو جسده أي الكنيسة.

إصحاح (3): نرى هنا الولادة الجديدة من الماء والروح، ونسمع عن أن الحية النحاسية هي رمز للصليب. وشهادة يوحنا المعمدان عن المسيح، وأن الإيمان به شرط للحياة الأبدية. فالمسيح مات لأجل كل العالم. لكن من يولد من الماء والروح (معمودية) ويؤمن، فهذا يخلص. "من آمن وإعتمد خلص" (مر16:16).

إصحاح (4): نرى نموذج لعمل المسيح. فها هي السامرية الخاطئة تتحول إلى مؤمنة بل كارزة وهذا هو التجديد. ومن يتجدد ويمتلئ سيقدم عبادة لله بالروح والحق (رو9:1). والعبادة تكون في كل مكان وأي مكان. ثم نرى معجزة للمسيح هي شفاء إبن خادم الملك، هذا في الظاهر. لكن المهم في هذه المعجزة أنها شفاء الإيمان. فالإيمان شرط للحياة الأبدية. والمسيح مستعد لشفاء الإيمان، ولكن هذا لمن يأتي إليه كما أتى خادم الملك هذا. فآمن هو وبيته كله (يو53:4). وهذا هو التجديد، شفاء لأرواحنا، لنصبح في المسيح خليقة جديدة (2كو17:5).

ومن إصحاح (2) نرى عرس، فالمسيح هو عريس نفوسنا، وهو أتى ليحول حياتنا إلى فرح، الله خلق الإنسان في جنة عدن (أي فرح)، وهو يعيدنا للحالة الفردوسية الأولى أي لحالة الفرح، بعد أن فقدنا هذا الفرح بسبب الخطية. ولكن كيف؟ هو حول ماء التطهير الذي كان اليهود يستخدمونه في تطهير أجسامهم وكل ما يأتي من خارج البيت إلى داخل البيت. والمعنى أن كل من يحاول أن يطهر نفسه يحول له المسيح حياته إلى فرح. ومن يهمل، فالمسيح الذي يحب شعبه سيطهره ببعض التجارب، وهذا هو مفهوم تطهير الهيكل بسوط من الحبال، فمن يحبه الرب يؤدبه (عب5:12،6). ولكن التجارب والتطهير لا فائدة منهم بدون الصليب والمعمودية والإيمان وهذا ما سمعنا عنه في إصحاح (3). ثم نرى نموذج لمن يتم تجديدة وشفاءه في إصحاح (4) وبهذا ففي إصحاحات (2،3،4) نرى إجابة السؤال.. لماذا تجسد إبن الله، الكلمة الإلهي. ولكن لاحظ في إصحاح (4) أن المسيح يسعى وراء السامرية لتعرفه، تتعرف عليه كشخص، وتكتشفه وإذ تعرفه تحبه، والحب يتحول إلى فرح تحويل الماء لخمر). وهذا ما نجده في ثمار الروح القدس.. محبة/ فرح.. فالمحبة التي يسكبها الروح القدس فينا تتحول إلى فرح داخلنا ونستعيد الحالة الفردوسية الأولى، بعد أن حولتنا محبة العالم للهم والغم والإضطراب.


 

الإصحاح الثاني

موقف المسيحية من الخمر: ليس في المسيحية طعام أو شراب يقال عليه أنه نجس. فليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم. ولكن أن يكون الإنسان في حالة سكر فهذا هو المحرم، بل يمنع من دخول الملكوت. وكان الكتاب المقدس يمنع السكر عند اليهود. ولكن كان اليهود يعتبرون الخمر غير محرمة بل عطية من الله. ولكنهم أيضاً يعتبرون أن السُكْر محرم. ونحن نستعمل في الأسرار المقدسة خمر غير مسكرة. وما يحكم الإنسان المسيحي الآن بخصوص قضية الخمر هو أن كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق أو تبني، وعلى أن يكون غير مستعبد لشئ. والعهد الجديد يشير لقضية هامة وهي إن كان أكل طعام يعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد.. أي إن كانت قضية شرب الخمر حتى وإن كانت ليست بدافع السُكْرْ ستكون سبب عثرة لآخرين فلا داعي لشرب الخمر مطلقاً. وراجع الشواهد التالية (تك25:27،28،37+ تك18:14+ إش17:36+ 8:62،9+ 8:65+ مز15:104+ يؤ24:2+ أر9:6+ 30:25+ أم1:20+ أش12:56+ هو11:4+ أش11:5،12،22+ 1:28-7+ رو13:13+ غل19:5-21+ لو34:21+ 1كو11:5+ 1كو10:6+ 1تي23:5)

 

الآيات (1-11):               (عرس قانا الجليل)

الآيات (1-11): "وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. قال لها يسوع ما لي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه. وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة. قال لهم يسوع أملأوا الأجران ماء فملأوها إلى فوق. ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا. فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا دعا رئيس المتكأ العريس. وقال له كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذ الدون أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن. هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل واظهر مجده فآمن به تلاميذه."

يقرأ هذا الفصل يوم (13طوبة) وهو اليوم الثالث لعيد الظهور الإلهي (عيد الغطاس). كما يقول الإنجيل "وفي اليوم الثالث.." ويعتبر هذا العيد اليوم الأخير من أعياد الظهور الإلهي (الثيئوفانيا) إذ قيل هنا وأظهر مجده فآمن به تلاميذه. وهو أظهر أنه إبن الله الذي حول ماء التطهير إلى خمر العهد الجديد الذي يحمل سر الخلاص. أعياد الظهور الإلهي [1] الميلاد (الملائكة تبشر، والمجوس يعتبرونه ملكاً. [2] الختان= المسيح متمم الناموس [3] الغطاس (هو إبن الله) [4] عرس قانا الجليل (بداية الآيات التي أظهر فيها مجده). (وهو عيد سيدي صغير.

ونلاحظ هنا أن بدء خدمة المسيح كان في عرس فملكوت السموات يشبه عرس (مت2:22-14+ مت1:25-13 + مر18:2-20) وفي نهاية العالم سنجد عشاء عرس الخروف (رؤ7:19-9). فالمسيح هو عريسنا. هو عريس الخليقة الجديدة التي أتى ليؤسسها. ولأن يوحنا لم يستطع تصوير المسيح كعريس لجأ لهذه البداية أن يُصوِّر المسيح في عرس. وفي هذا العرس يحول المسيح الماء إلى خمر فالخمر يشير للفرح. والشعب اليهودي بسبب خطاياه ما عاد لهم فرح (يؤ5:1). وهذا ما نراه هنا في أن الخمر نفذت والمسيح حين حوّل الماء إلى خمر فهذا يشير إلى أنه أتى ليعيد بهجة الخلاص والفرح لمن فقدها. ونلاحظ أن الماء كان للتطهير. والمسيح قال إملأوا الأجران إلى نهايتها وهذا يشير أنه لكي نفرح ببهجة الخلاص التي يعطيها المسيح علينا أن نبذل كل الجهد في جهادنا لنتطهر فيسكب المسيح نعمته فينا ونفرح. ونرى أن العذراء هي التي شعرت بأنه ليس لديهم خمر.. وهي مازالت تشعر بكل من هو ليس فرحاً وتتشفع له حتى يدخل المسيح حياته فيفرح. والخمر تعبير عن سر الشركة مع المسيح. فالمسيح حَوَّل الخمر إلى دمه وبدون شركة مع المسيح أو بغياب المسيح عن حياتنا فلا فرح. وقول العذراء ليس لديهم خمر كأنها تقول للمسيح إعلن عن وجودك. وهذه المعجزة تشير للاهوت المسيح فهو حَوَّل مادة إلى مادة أخرى. ورأى تلاميذه ما فعل فآمنوا به إذ رأوا مجده. وكما عرف تلميذي عمواس المسيح وقت كسر الخبز، عرفه التلاميذ هنا حينما حَوَّل الماء إلى خمر.

ونلاحظ أن المسيح في إنجيل يوحنا يُحوِّل 5خبزات ليشبع الجموع ويُحوِّل الماء إلى خمر ليفرح الناس. وفي هذا إشارة إلى الخبز والخمر اللذان كانا سبب بركة لكل العالم حين حَوِّلهما إلى جسده ودمه ليكونا للعالم كله سبب حياة. فالخبز والخمر هما مادتا سر الإفخارستيا. ونلاحظ أنه كما يفرح المؤمنين بالمسيح يفرح المسيح بهم. وفرح الكنيسة بالعريس عَبَّرَ عنه النبي (يؤ24:2). وفرح المسيح بكنيسته (إش5:62). وبنو الملكوت حين يشربوا من خمر بهجة الخلاص سيركوا أنه خمر جيد وأنه غير خمر أفراح العالم التي شربوها من قبل، فهم سيدركون سر وجود الله في خمر الملكوت وسيدركون كم هي خمر رديئة ودون، أفراح العالم.

هذه المعجزة تشير لأن إرادة الله أن نفرح "أراكم فتفرح قلوبكم" (يو22:16). وهذا ما قاله بولس الرسول "إفرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً إفرحوا" (في4:4). والمسيح أتى لأجل هذا.

 

الآيات (1،2): المسيح ترك اليهودية ومعه 6 تلاميذ أتى بهم إلى هذا العرس وهم أندراوس/ يوحنا/ بطرس/ يعقوب/ فيلبس/ نثنائيل. منهم 4 أسماء يهودية وإسمان باليونانية، فالمسيح جعل الإثنين واحداً، وهو أتى ليعطي الفرح للجميع. وقانا الجليل واضح أنها في الجليل (هناك قانا أخرى في لبنان جنوب شرق صور).

والمسيح قَدَّس الزواج بحضوره عرس قانا الجليل، وصنع المعجزة حتى لا يحدث حرج للعريس وعائلته. فالمسيح يعيش وسط أفراحنا وحياتنا وآلامنا، يقدس حياتنا ويعزينا في آلامنا. ولكن لنرى وننظر من يحضر أفراحنا، فهذا الفرح كان يحضره يسوع وأمه وتلاميذه. والمسيح يشاركنا أفراحنا على أن تكون أفراح مقدسة. والمسيحية هي إنفتاح على العالم، نشارك الناس أفراحهم وضيقاتهم بقلب محب رقيق. والمسيح بالرغم من زهده حَوَّل الماء إلى خمر حتى لا يُحرج العريس. لذلك علينا أن نثق أنه يدبر كل أمورنا. وقارن مع فرح آخر، هو يوم سكر هيرودس فتحول الفرح إلى مأتم إذ قتل المعمدان، وهذا إسكات لصوت الحق. إذاً علينا أن نسأل أنفسنا هل المسيح في أفراحنا أم لا، وكيف نفرح.

اليوم الثالث= غالباً محسوب من (43:1) فهو اليوم الذي بعد الغد، فهو اليوم السادس للأيام التي حوت الحوادث الأولى، ونلاحظ أن رقم (3) هو رقم القيامة، فالمسيح إستعلن ذاته كعريس يُفرح عروسه الكنيسة بقيامته. القيامة هي سر فرحنا. والقيامة الآن لنا هي قيامة من موت الخطية بقوة المسيح.

ملاحظة: العرس يستمر عند اليهود 7 أيام (تك22:29-27+ قض11:14،12)

أم يسوع= يوحنا لا يذكر إسمه ولا إسم أمه ولا العذراء فهي خالته. ويبدو أنه كانت هناك قرابة بين العذراء وأهل العريس، فذهبت وذهب معها يسوع، والمسيح أخذ تلاميذه فهو كان يعرف أنه سيظهر مجده هناك فيؤمنوا به.

 

(آية3): ليس لهم خمر= هي مشكلة كبيرة لأصحاب الفرح قطعاً (والخمر رمز للفرح وكأن العذراء تشكو للمسيح حال البشرية الحزين) هنا لم تحدد العذراء للمسيح كيف يتصرف، هي وضعت أمامه المشكلة وتركته يتصرف كما يريد فهي تؤمن بأن عنده حل لكل مشكلة، وهكذا صنعت أختا لعازر، إذ أرسلتا ليسوع قائلتين هوذا لعازر الذي تحبه مريض، ولم يطلبا شيئاً وهكذا ينبغي أن نصلي. وهنا نرى دور العذراء الشفاعي، فهي تطلب المستحيل من إبنها فيعطيها. وكان لابد للخمر أن تنفذ، ففي وجود المسيح لا يجب أن توجد خمر رديئة، والعذراء تدعو إبنها ليصحح الوضع ويعلن عن حضوره. فرغت الخمر= لا فرح= الله غير موجود في حياة الناس.. لذلك أتى المسيح.

 

(آية4): يا امرأة= أي يا سيدة (LADY) وهي كلمة تدل على الاحترام والوقار في ذلك الوقت. والسيد قالها ثانية وهو على الصليب. ولنلاحظ:-

1-   ما لي ولكِ= لقد بدأ عملي الخلاصي وإنتهى زمن خضوعي للمشورات البشرية. وبدأ تنفيذ إرادة الآب فقط.

2-   ليس فيها إحتقار للعذراء فمن أوصى بإكرام الوالدين لن يحتقر أمه.

3- آدم أطلق لقب امرأة على حواء وهي مازالت عذراء. وكما صارت حواء أماً لكل حي صارت العذراء أماً للكنيسة جسد المسيح.

4- العذراء كأم الكنيسة تبدأ مع إبنها طريق الصليب ويجوز في نفسها سيف وتنتهي معه وهي بجانبه على الصليب، فهي شريكة أحزانه.

لم تأت ساعتي بعد= هناك تفسيران: [1] المسيح يريد أن يبدأ بالتعليم ثم يصنع معجزات [2] إذا بدأ المسيح معجزاته وظهر مجده سيهيج إبليس، وكأن هذه المعجزة إشارة لبدء الهجوم الذي سينتهي بالصليب، أو بها يبدأ العد التنازلي للصليب. ومع هذا، وأن ساعته لم تأتِ بعد إلا‍ّ أنه لم يرد لأمه طلبها وصنع المعجزة.

 

(آية5): بالرغم من صورة الرد الجافة إلاّ أن العذراء تعرف دالتها عند إبنها، وهنا تظهر قوة شفاعتها، فهي تعرف إرادة إبنها أكثر منا. وصلواتنا تكون مقبولة بشفاعتها.

للخدام= يوحنا الإنجيلي إستخدم باليونانية لفظ ياكونيين. وفي هذا إشارة للخدام الكنسيين (كهنة وشمامسة) الذين يخدمون الأسرار. فهنا سر عظيم يحدث. (كلمة خدام بمعنى خدام عاديين تختلف عن دياكونيين في اليونانية).

مهما قال لكم فإفعلوه= هذه وصية العذراء لنا دائماً. وهذه هي العظة الوحيدة التي قالتها العذراء. فتنفيذ وصية المسيح هو سر الفرح مهما كانت الوصية صعبة والعذراء نفذت هذا (حبلت وفي هذه خطورة/ هربت لمصر/ شهدت الهجوم على إبنها بل صلبه).

 

(آية6): كان اليهود يطهرون كل شئ (مر3:7،4) ولا يأكلون إن لم يغسلوا أياديهم وهم دائماً يغسلون أيديهم وأرجلهم. المطر= البث= الإيفة= 22.991لتراً. سعة الجرن تتراوح بين 69.46لتر. إذاً فحجم الأجران كبير، وكان على الخدام أن يحملوا الأواني التي يملأونها بالماء من أقرب بركة إلى المنزل، وهذا ما يشير لجهاد الإنسان في تطهير نفسه، ولأنهم 6 أجران ماء، ورقم 6 يشير للإنسان الناقص الذي خلق في اليوم السادس. فمهما صنع الإنسان لن يتطهر وبالتالي لن يفرح. ولكن على الإنسان أن يفعل كل ما بوسعه، حينئذ تتدخل النعمة الإلهية وتطهر الإنسان وتملأه فرح. ولذلك فالأجران الفارغة تشير لعدم إمكانية الناموس أن يطهر أو يعطي فرحاً حقيقياً. وحينما يجاهد الإنسان حتى الدم في العهد الجديد تنسكب النعمة داخله. ولنلاحظ أن المسيح لا يتدخل بمعجزة إلاّ إذا إنتهت الوسائل الطبيعية. من حجارة= إشارة لقساوة القلب بالخطية وهذه حين يحولها الله بالتطهير لقلب لحم ستمتلئ حباً فتفرح (حز19:11). تطهير اليهود= كان بالماء، أما المسيحيين فتطهيرهم بدم المسيح في المعمودية والإفخارستيا.

 

(آية7): الجهد المطلوب لملء الأجران ماء، ليس جهد قليل فهم سيملأون ما يقرب من 20صفيحة ماء، هذا إشارة للجهاد. وهذه المعجزة تشبه تماماً معجزة الخمس خبزات والسمكتين، فالخمس خبزات هم الجهاد الإنساني والنعمة أشبعت بهم 5000شخص. وتشبه معجزة صيد السمك الوفير. وإذا فهمنا أن الخدام هم خدام

طقوس الأسرار فالكاهن والشمامسة يخدمون ويملأون المعمودية ماء والروح القدس يعطي للماء قوته والكاهن يصلي على الخبز والخمر والله يحوله إلى جسده ودمه. ونلاحظ هنا طاعة الخدام في ملء الأجران ثم تقديم خمر كان أصله ماء منذ ثوان لرئيس المتكأ. وهذه هي عطية المسيح بوفرة وبفيض وهي عطايا جيدة، أما أفراح العالم فسريعاً ما تزول. إملأوا الأجران= علينا أن نبذل كل ما بوسعنا حتى نتطهر، ونجاهد حتى الدم حينئذ يملأ الرب حياتنا فرحاً.

 

(آية8): رئيس المتكأ= هي عادة شرقية أن يدير الإحتفال رجل مرموق الكرامة من أهل العريس، يتشرفون به ويقدمون له الأكل والشراب أولاً، وهو يتبرع بتنظيم وضبط حفل العرس ولذلك فهو يظل بدون أن يسكر حتى يضبط الحفل، فشهادته لها قيمتها. وقد يكون رجل الدين الذي يجري مراسم الإحتفال. وكان بحسب طقس العشاء يتذوق هو أولاً الطعام والشراب. وكون المسيح هو الذي يطلب أن يشرب رئيس المتكأ فهذا يشير لأن المسيح هو العريس الحقيقي والكل مدعويه. والمسيح أيضاً أراد أن يعترف رئيس المتكأ بنوعية الخمر التي تحمل قوة إلهية قادرة أن تعطي فرحاً حقيقياً لوجود الله.

 

(الآيات9،10): إستقوا الآن= الماء تحول فورياً. من أين هي= هو يعلم أن المنزل ليس به هذه النوعية. لكن هذه تشير لجهل الناس كيف يتغير أولاد الله ويتجددون.

توجد الأجران خارج المنزل، لذلك لم يعرف رئيس المتكأ ما حدث، لكن الخدام عَرِفوا فهم الذين ملأوا الأجران وهم الذين رأوا ما حدث. وتفسير هذا روحياً: لم يعلم= رئيس المتكأ يشير لشعب العهد القديم الذين هم تحت الناموس، هؤلاء لا يدركون عمل المسيح الخفي. فأسرار نعمة الله خفية لا يعرفها إلاّ من يقترب من الله. والخدام علموا= يشير الخدام هنا لخدام العهد الجديد الذين عرفوا شخص المسيح وهم يعلمون عمله في تجديد الطبيعة.

ولنلاحظ أن الخمر التي صنعها المسيح ليست خمراً مسكراً، بل هي إعلان عن حبه، كانت مادة حلوة المذاق ولكنها بالتأكيد غير مسكرة مع أن لها طعم الخمر، فواضع الشريعة لن يناقض نفسه. ولا نستغرب أن تكون الخمر لها طعم الخمر وهي غير مسكرة فنحن نتناول دم المسيح ونتذوقه كخمر وهو دم، وننزل لماء المعمودية ونخرج دون تغيير ظاهر وبالميرون يحل فينا الروح القدس دون أن نراه.

هنا المسيح يحول القديم إلى جديد، ماء التطهير إلى خمر حقيقي فيه فرح حقيقي. ومتى سكروا= هذا لا يشير أن الحاضرين كانوا سكارى، بل رئيس المتكأ يقول عن مثل مشهور. ولكن هذا القول المشهور كان مُعَبِّراً عن حال اليهود (إش7:28-9). فواقع حال اليهود رديء وهو الموصوف بالخمر الدون، أمّا المسيح فأتى ليعطي الفرح الحقيقي أي الخمر الجيدة. ونلاحظ أن هذا هو حال العالم وحال الخطية فهي تقدم للناس لذة مؤقتة، خمراً رديئة، هي لذيذة في بدايتها ولكن يعقبها مراً وإفسنتيناً. جيدة= هي نفس الكلمة المترجمة صالح في "أنا هو الراعي الصالح" فالخمر الجيدة لها علاقة بالمسيح الذي هو الكرمة الحقيقية. وعموماً فهناك صنفان من الناس الأول= لا يعلم والثاني= يعلم.

الأول يشير لمن شربوا الخمر وأعجبتهم وتوقفوا عند هذا، وهؤلاء هم من رأوا معجزات المسيح وأعجبهم كلامه ولكنهم لم يتغيروا ولم يؤمنوا، مثل من أكل مما صنعه المسيح في معجزة الخمس خبزات فتبعوه إذ هم يطلبوا المزيد من الطعام البائد (يو26:6). وهؤلاء أيضاً هم من إنخدع بملذات العالم الشهية للنظر ولم يعلم النهاية المرة للشهوات العالمية.

الثاني هم من عرفوا المسيح لشخصه وعرفوا قوته ونعمته، وعلموا أن المسيح هو إبن الله فدخلوا في شركة معه (مت29:26). هؤلاء إختبروا قوة التجديد ولذة الفرح.

وعطايا المسيح عكس عطايا العالم فقد تبدأ بمرارة الجهاد والتوبة ولكنها تنتهي بالفرح.. حزنكم يتحول إلى فرح (يو20:16)

 

(آية11): تسمى آيات لأنها برهان على صدق رسالة المسيح. وأظهر مجده= (قال يوحنا في ص(1) رأينا مجده. وهنا نرى كيف رأي يوحنا مجده) لذلك تعيد الكنيسة بعيد عرس قانا الجليل مع أعياد الظهور الإلهي الذي فيه إستعلن الثالوث. هنا التلاميذ إكتشفوا يسوع، فهذه المعجزة هي معجزة خلق، وإكتشفوا حنانه فهو لم يقبل أن يحرج العريس، لكن يسوع يريد من يطلب منه بثقة ولأن إيماننا ضعيف فنحن نتشفع بأم النور وهي تطلب منه بثقة. كلمة آية في اليونانية تشير لطبيعة صانع العمل، أي هي عمل يكشف عن طبيعة من عمله.

ونلاحظ أن أول معجزة صنعها المسيح تحويل الماء إلى خمر وآخر آية صنعها هي تحويل الخمر إلى دمه ماء خمر دم. والمعنى أن الحياة الطاهرة بجهادنا (ماء) تتلامس مع المسيح في (الخمر) حبه وفرحه.

فيؤهل الإنسان إلى شركة جسده و(دمه) الأقدسين. ولنلاحظ أن المسيح حول الماء إلى خمر حتى لا يحرج العريس ولكنه رفض تحويل الحجارة إلى خبز بالرغم من جوعه، بهذا نفهم إهتمامه بتدبير كل حاجاتنا. فآمن به تلاميذه= هم قبلاً أعجبوا به وتبعوه، لكنهم هنا عرفوا مجده فآمنوا به.

 

آية (12): "وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه واخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة."

هذه الآية لا تذكر يوسف فغالباً كان قد مات. ولا تذكر أخوات المسيح ربما لأنهن قد تزوجن. وأخواته كانوا من زواج سابق ليوسف النجار. والمسيح بعد عودته مع يوسف والعذراء من مصر عاشوا في الناصرة (مت22:2،23) وعاش فيها كنجار (مر3:6) حتى سن الثلاثين، إلى أن نزل ليعتمد من المعمدان (مر9:1) ثم ذهب مع تلاميذه إلى الجليل وحضر عرس قانا الجليل مع تلاميذه الستة. ثم إنحدر مع أمه وإخوته وتلاميذه إلى كفرناحوم (مت13:4). وكان هذا لأيام قليلة عادوا بعدها إلى الناصرة. والمسيح جعل من كفرناحوم مركزاً لدعوته حتى أن كفرناحوم دعيت مدينته (مت1:9). ولماذا ترك الناصرة؟ فهذا لأنها رفضته (مر1:6-6) ولم تكن كفرناحوم افضل حالاً من الناصرة (مت20:11-24). والأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ولوقا) ركزت على خدمة المسيح في الناصرة، أمّا يوحنا فركز على خدمة المسيح في اليهودية، وتحدث قليلاً عن خدمته في الجليل (1:2-22+ 43:4-54+ 1:6-9:7+ 1:21-25) بينما كان في 17 إصحاح تقريباً يتكلم عن خدمة المسيح في اليهودية، حيث ركز معظم تعاليمه اللاهوتية الخطيرة، فأورشليم يوجد بها دارسو الناموس واللاهوتيين، أما الجليليين فهم بسطاء ومنهم تلاميذه البسطاء. أيضاً "الشريعة تخرج من صهيون ومن أورشليم كلمة الرب" (إش3:2) وأورشليم تتكون من جبلين، جبل صهيون وجبل الزيتون وبينهما وادي إبن هنوم وبستان جثسيماني+ الرب يدخل في المحاكمة مع رؤساء وشيوخ إسرائيل شعبه (إش14:3).

 

الآيات (13-25):              (تطهير الهيكل اليهودي والإشارة إلى هيكل جسده)

الآيات (13-25): "وكان فصح اليهود قريباً فصعد يسوع إلى أورشليم. ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً والصيارف جلوساً فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم. وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. فتذكر تلاميذه انه مكتوب غيرة بيتك أكلتني. فأجاب اليهود وقالوا له أية آية ترينا حتى تفعل هذا. أجاب يسوع وقال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. فقال اليهود في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه. وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده. فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه انه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع. ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع. لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان."

المسيح طهر الهيكل مرتين، الأولى هنا في بداية خدمته، والثانية يوم الإثنين من أسبوع الآلام قبل الفصح الأخير [وذلك إظهاراً لسلطته وإعلاناً عن عمله، إذ هو أتى ليطهر ما قد فسد (جسدنا= هيكلنا)]. وهنا نجد مقارنة بين هيكل أورشليم القديم الذي سيهدم لتقوم الكنيسة هيكل جسد المسيح الجديد.

(الآيات 13،14): في (ملا1:3-4) يتنبأ ملاخي عن مجيء المسيح للهيكل ليطهره،لقد حلّ الآن السيد بغتة في هيكله ليطهره. وزكريا يتنبأ عن بناء الهيكل الجديد (12:6،13)

فصح اليهود= لماذا يقول فصح اليهود وهل هناك فصح لأحد غير اليهود؟ هذا إشارة لأن المسيح هو الفصح الجديد. ويوحنا يكتب إنجيله سنة 100م بعد أن إستقر الفصح المسيحي الجديد. وبعد المسيح إنتهى الفصح اليهودي ولم يصبح له معنى وما عاد فصحاً للرب. والمسيح أتى لأورشليم يفتقدها ويصنع فيها آيات (آية23) وبدأ خدمته بتطهير هيكلها فرسالته تطهير البشر وإصلاحهم. (المسيح أتي في الفصح لأورشليم تنفيذاً للناموس.) فصعد إلى أورشليم= لأن أورشليم على جبل. ووجد في الهيكل= أي الرواق الخارجي.

وكان الذين يبيعون ويشترون الأغنام والأبقار، والصيارف الذين يغيرون العملة الأجنبية وعليها صورة قيصر بالشاقل اليهودي الذي بدون أي رسومات ليدفع اليهودي النصف الشاقل الجزية المفروضة عليه. أمّا الأغنام والأبقار فكانت ليقدموا منها ذبائح في الهيكل، ولقد سمح قيافا وحنان بهذه التجارة في الهيكل فكانت أرباحهم منها أرباح ضخمة. بل كان التجار من الكنعانيين وكانوا مشهورين بالغش (هو7:12) وهؤلاء طردهم المسيح (زك21:14) (راجع أش7:56+ أر11:7). وكان يجب أن تكون هناك حيوانات لتقديم ذبائح. ويجب أن يكون هناك صيارف. لكن الموضوع تحول لتجارة ونهب لحساب رؤساء الكهنة وكان هذا عثرة للشعب.

 

(الآيات 15،16): راجع (إش10:1-17+ 1بط17:4). والمسيح يبدأ حركة التطهير. ونلاحظ أن الفصح كان قريباً والفطير كان قد إقترب والمعنى واضح فالمسيح يريد تطهير شعبه من خمير الخطية. والمسيح إستخدم سوطاً من حبال= والحبال كانت في يد تجار الماشية مع ماشيتهم والحبال لها شكل وليس لها فعل، هو رمز للسلطان وليس للتأديب، طرد بها السيد تجار الماشية، الصيغة المستخدمة في الإنجيل تشير أن المسيح لم يضرب أحداً بالسوط. أما الحمام الوديع الهادئ قال عنه المسيح إرفعوا هذه.. ومن المؤكد فلقد ظهر على المسيح هيبة عجيبة جعلتهم يسرعون هاربين منه دون إعتراض وطرد الذبائح إشارة لإنتهاء عهد الذبائح الدموية، والآن سيقرب الذبيحة الحقيقية. والمسيح إستعاض عن الذبائح الإجبارية على اليهود بالصلاة، حين قال "بيتي بيت الصلاة يُدعى". وكان عمل المسيح هذا سبباً في أن يتربص به اليهود ليقتلوه فرؤساء الكهنة شعروا أن تجارتهم في خطر. إرفعوا هذه من ههنا= نحن هيكل الله وينبغي أن نرفع كل فكر رديء أو شهوة رديئة أو نظرة رديئة، داخل الكنيسة أو خارجها.

 

(آية17): كان التلاميذ يفرحون بما يعمله المسيح إذ يقابلوه بالنبوات فيزداد إيمانهم (مز9:69) وهو مزمور ملئ بالنبوات عن آلام المسيح.

ولاحظ أن ما فعله السيد المسيح كان عملاً صعباً جداً ففي عيد الفصح يوجد ملايين في أورشليم وتصور الزحام في الهيكل، وفي وسط كل هذا الزحام يعمل المسيح ما عمله.

ولاحظ أن المسيح أتي ليطهر الهيكل ولما رفضوا التطهير تركه لهم خراباً (مت38:23) وهكذا فالله يعمل على تطهير أجسادنا وحياتنا وإذا رفضنا نفسد، فمن يفسد هيكل الله يفسده الله (1كو17:3) إذاً لنصرخ لله ليطهرنا ونقبل عمله المطهر والسوط الذي يؤدبنا به.

 

(آية18): هو سؤال للسيد أن يثبت أنه مرسل من الله بأن يصنع معجزة كما حدث مع موسى فالذي له سلطان على الهيكل هو المسيا (ملا1:3) يظهروا بها أنفسهم أنهم أصحاب السلطة، وهي دفاع عن عدم إيمانهم.

 

(آية19): إنقضوا.. أُقيمهُ= هما كلمتان تصلحان أن يقالا عن المباني المبنية بالحجارة وعن الإنسان. (2كو1:5+ رو25:4). فإنقضوا تعني في اليونانية هدم، قتل/ حل/ فك. وأقيم يمكن أن تقال عن قيامة الجسد وعن قيام أو إقامة مبنى والمسيح هنا يخبرهم عما سيفعلونه به كنبوءة. وأنه سيقوم بعد أن يقتلوه. ولكن كلام المسيح ينطوي على تهديد لهم. فساعة أن يقتلوه سيحكمون علي هيكلهم وأمتهم بالخراب، أما هو فسيقوم وهذا ما حدث. ثلاثة أيام= مثل يونان النبي (مت4:16). وهم فهموا كلام المسيح هنا أنه سيقوم بعد أن يقتلوه بثلاثة أيام (مت62:27-64). ولاحظ أن المسيح قال أقيمه وليس أبنيه. هم طلبوا دليل على أنه المسيا الذي أتى ليطهر هيكل أبيه، فقال لهم هنا الدليل أنكم ستصلبونني وتقتلونني وسأقوم بعد 3 أيام لأنني إبن الله الحي الذي لا أموت. أقيمه= سلطانه أن يقيم نفسه فهو إبن الله. وقوله أنقضوا.. أقيمه فيه إشارة لأن الجسد الذي يقوم له علاقة بالجسد الذي نقضوه أي حلوا أجزاءه، فهو سيعيد تجميعه.

تأمل: هو طلبوا آية أمّا نحن فلا نطلب معجزات، بل بالإيمان نثق أن الله موجود ويعمل.

 

(آية20): بدأ البناء في الهيكل سنة 20ق.م. على يد هيرودس الكبير. والآن نحن في سنة 26م أو سنة 27م. فالمسيح ولد سنة 4 ق.م. والهيكل إنتهى العمل فيه سنة 63م على يد هيرودس أغريباس الثاني.

 

(آية21): هذه الشهادة فهمها التلاميذ بعد قيامة المسيح (آية21). وهيكل جسده هو الحجارة الحية التي هي نحن (أي كنيسته) (1بط5:2) وهو حياتنا (في 21:1)

 

(آية22): القيامة شددت إيمان التلاميذ إذ إستعلنت حقيقة إبن الله. فآمنوا بالكتاب= نبوات العهد القديم عن موت المسيح وقيامته.

 

(آية23): كان هذا أول عيد للفصح يحضره المسيح في أورشليم. ولكن إيمان الكثيرين هنا كان كالزارع الذي رمى بذرته فجاءت على أرض محجرة (مت20:13،21). هو إيمان غير صحيح وغير ثابت بدليل أن يسوع لم يأتمنهم على نفسه (آية24)

 

(آية24): من آمنوا أرادوا أن يجعلوا المسيح ملكاً، فهم لا يبحثون عن المسيح لشخصه بل لأنفسهم على حسابه، لذلك إختفى عنهم وللآن فهناك من لا يريد أن يعرف المسيح إلاّ لمنافع مادية، فإذا خسر مادياً ينقلب على المسيح. يأتمنهم على نفسه= أي يثق فيهم، فهم يمكن أن ينقلبوا عليه في أي لحظة، وهذا ما حدث فقالوا بعد ذلك "إصلبه".

 

(آية25): هو عرف تقلبهم، وما في نفوسهم، فهم معه اليوم لإنبهارهم بمعجزاته ولكنهم سينقلبون عليه إذا إكتشفوا أن إرادتهم لا تتوافق مع إرادته، وأفكارهم ليست كأفكاره وهو فاحص القلوب والكلى. ولاحظ أن المسيح مستعد أن يعطي نفسه لمن يطلبه لشخصه وليس لهدف مادي. ولاحظ كم الخسارة الرهيبة إذ نترك المسيح بسبب خسارة مادية، فنحن نخسر الله اللامحدود في شخصه وفي بركاته وغناه ومجده.

+ تعليق على قول السيد مغارة لصوص:- كان الشخص إذا إبتاع شيئاً منهم وحمله إلى الكهنة ليقربوه، كان الكهنة يحكمون بعدم صلاحيته، ويطلبون منه بيعه وإبتياع غيره، فيضطر لبيعه بخسارة، والفرق بين الثمنين يقتسمه الكهنة والباعة.

 

ملخص الإصحاح: المسيح يريد أن يملأ حياة أولاده فرحاً ويجعل حياتهم عرساً دائماً، ولكن هذا لمن يجاهد في تطهير نفسه. ومن محبة المسيح لنا أن من يهمل في تطهير نفسه، يؤدبه ببعض التجارب (السوط) ليتطهر فيفرح.


 

مقدمة الإصحاح الثالث

رأينا فيما سبق أن المسيح كلمة الله تجسد ليعطينا الفرح، بشرط أن نجاهد لنطهر أنفسنا، ولكن هل جهادنا يكفي؟ هنا نرى معلم يهودي من الفريسيين وهؤلاء مشهور عنهم جهادهم وتدقيقهم وإلتزامهم بالناموس. نجده يأتي للمسيح، ومن المؤكد أنه يبحث عن أعمال أخرى يرضي بها الله. وبدأ حديثه مع المسيح بالتحيات التي إعتاد اليهود إستعمالها مع بعضهم البعض "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه" (يو44:5) كما نادى الشاب السيد قائلاً "أيها المعلم الصالح".

ونجد المسيح هو فاحص القلوب والكلي، لم يرد على تحية نيقوديموس بالتحيات، ولا أجابه عن إرشاده لمزيد من الأعمال ليعملها، بل فتح معه موضوعاً لم يفهمه نيقوديموس. وجدنا المسيح يتكلم عن لزوم الولادة الجديدة من الماء والروح، حتى يتجدد الإنسان تجديداً شاملاً ويصبح خليقة جديدة. فالمسيح لا يبحث عن وضع رقعة جديدة في ثوب عتيق، بل هو يريد أن يكون الكل جديداً (2كو17:5). فالمعمودية هي المدخل للحياة الجديدة بعد أن سمعنا عن خمر جديدة وهيكل جديد نسمع هنا عن ولادة جديدة. ومن أين تكتسب المعمودية قوتها؟ نجد المسيح يشرح هذا بفكرة أنه كما رفع موسى الحية النحاسية هكذا سيرفع إبن الإنسان على الصليب ويموت. والمعمودية هي موت مع المسيح وقيامة مع المسيح متحدين به (رو3:6-5). المعمودية هي نعمة من الله، ولكن كل نعمة نحصل عليها هي شئ قابل لأن يزداد بجهادنا أو يضمحل وينقص بتكاسلنا.

مثال: سر الميرون نحصل به على نعمة حلول الروح القدس فينا. ولكن نجد الرسول بولس يقول "إمتلئوا بالروح" (أف18:5). ويقول "إضرم موهبة الله التي فيك بوضع يدي" (2تي6:1). ولكنه يقول أيضاً "لا تطفئوا الروح" (1تي19:5).

 

 

 

 

 

 

 


 

وهكذا في المعمودية: نحن نحصل على المقدرة على التغيير. ومن يجاهد تموت طبيعته القديمة تماماً ويحصل على طبيعة جديدة، إنسان داخلي جديد يشبه المسيح (غل19:4).

والمعمودية وجهادنا لا ينفعان شيئاً بدون إيمان، لذلك يضيف القديس يوحنا الآيات الأخيرة في الإصحاح ليشير لأهمية الإيمان. فالإيمان هو المدخل ثم المعمودية ثم جهادنا وتوبتنا لنثبت على ما حصلنا عليه ويستمر التغيير والتجديد. ومن يجاهد يعمل فيه الروح ليجدده (رو13:8) "بالروح تميتون أعمال الجسد"

والمسيح لم يكلم السامرية ولا الزانية عن المعمودية، فالخطية ظاهرة في حياتهم. إنما يكلم نيقوديموس ويدعوه للمعمودية والتجديد، فهو مملوء من البر الذاتي. لذلك على كل من يشعر فينا بأنه بار، عليه أن يقدم توبة سريعة ليتجدد ويتغير فهو مخدوع، فليس بار ليس ولا واحد. فلنقل أننا عبيد بطالون محتاجون للتغيير. ولاحظ أن المعمدان علم بأن المسيح سيأتي بمعمودية بالروح القدس ونار. ومن يولد من الروح سيكون له طبيعة جديدة (في محبته ووداعته..) تظهر فيه، إذ أن نتائج عمل الروح تكون واضحة دون أن يرى أحد الروح.


 

الإصحاح الثالث

                        (مع نيقوديموس ليلاً)

·   يقرأ هذا الجزء يوم الجمعة السادسة من الصوم الكبير التي تسبق أحد التناصير مباشرة لما جاء فيه عن الميلاد من الماء والروح، وأهمية التجديد في حياتنا والتغيير لنصل إلى صورة المسيح (غل19:4).

·   رأينا في الإصحاح السابق الهدم والبناء للهيكل القديم أي موت الإنسان وقيامته، وهنا نرى سر التجديد والبناء للكنيسة كأفراد، فالهدم هو هدم الإنسان العتيق ثم قيامة الإنسان الجديد بالمعمودية من الماء والروح. فبالمعمودية نولد من جديد لندخل هيكل الله الجديد أي ملكوت الله. فللإنسان المسيحي ميلادين، أولهما جسدي به يكون إبناً لآدم وثانيهما من الماء والروح يصير به إبناً لله وللكنيسة. الميلاد الأول أرضي من رجل وامرأة والميلاد الثاني سماوي من الله والكنيسة. والتوبة هي صون للنعمة التي أخذناها بالمعمودية، التوبة تجدد عمل المعمودية في حياتنا لذلك يسمونها معمودية ثانية.

·   ونيقوديموس هو من رجال إسرائيل الكبار، عضو في السنهدريم ودارس كبير للناموس وهو آمن بالمسيح إذ رأى الآيات التي صنعها يسوع في أورشليم (2:3). وبحسب العقلية اليهودية، فهذا الفريسي الكبير الذي يؤمن بالبر الذاتي، كان ينتظر أن يسمع من المسيح عن ممارسات جديدة يزداد بها بره الشخصي (مر17:10). ولكن المسيح لم يكلمه عن تعديل في سلوك بل عن تغيير الطبيعة البشرية كلها. [المسيح كان يتكلم عن عمل الروح ونيقوديموس مصر على عمل الجسد (الولادة من بطن)] وبعد هذا الحديث نجد نيقوديموس يدافع عن المسيح أمام المجمع (50:7،51) ثم جاهر بإيمانه بعد موت المسيح (39:19).

 

آية (1): "كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود."

رئيساً لليهود= أي عضو من السنهدريم. وفي (10) معلم إسرائيل= دكتوراه في الناموس اليهودي. وقد جاء في التلمود أن شخصاً إسمه نيقوديموس أحد أربعة من الأغنياء وأنه من أتباع المسيح.

 

آية (2): "هذا جاء إلى يسوع ليلاً وقال له يا معلم نعلم انك قد أتيت من الله معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه."

جاء ليلاً= ويوحنا الإنجيلي يذكر هذه العبارة 3 مرات (50:7+39:19). فمجيئه ليلاً يكشف عن حذره وخوفه وأنه لا يريد أن يعرض مركزه للخطر، ويكشف عن كبريائه، فكيف يأتي هذا المعلم الكبير لنجار ليتعلم منه. ماذا يقال عنه لو عرف الفريسيون ما عمله. وهذا يعني أن الإيمان لم ينمو ليصبح إيمان حي بإبن الله كمخلص حقيقي، ودواء الخوف هو المسيح، والإيمان به. ومجيئه ليلاً يشير إلى أنه لم يعثر بعد على الإيمان والنور الإلهي (قارن مع يو30:13) في مفهوم القديس يوحنا كلمة ليلاً يشير للخطية والكبرياء والظلام في القلب. نعلم أنك أتيت من الله معلِّماً= هذه قد جاءت من معلم عظيم كنيقوديموس، لذلك ففي نظره أن المسيح له قيمة عظيمة.

نعلم= ليس المهم أن تعلم فقط بل أن تتغير. وقوله نعلم يشير إلى أن غيره من الفريسيين أعجبوا بأعمال المسيح وتعاليمه. رابي= هي إحدى درجات ثلاث وترتيبها راب/ رابي/ رابون. وتأتي من كلمة جذرها في العبرية يعني كبير أو عظيم. ومع كل هذا كانت معرفة نيقوديموس بالمسيح ناقصة، كان ينقصه إيمانه بأن المسيح هو إبن الله. إن لم يكن الله معه= (تك24:26+ قض12:6). فنفهم من هذا أن رأي نيقوديموس أن الله يعين المسيح، وبهذه المعونة يعمل أعماله الإعجازية.

 

آية (3): "أجاب يسوع وقال له الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله."

هنا المسيح لا يرد على كلام نيقوديموس بل على أفكاره (يو24:2) فنيقوديموس كان يسعى وراء معرفة يزدادها من المسيح. والمسيح كلمه عن إيمان يحتاجه، نيقوديموس يريد أن يبني على معلوماته القديمة معلومات جديدة يتباهى بها، والمسيح يقول بل هناك شئ جديد ينبغي أن يولد، هناك ولادة جديدة وليس مجرد إضافة. حتى ولا يكفي إعجابك بالمعجزات التي رأيتها.

الحق الحق= تفيد التوكيد، وأن ما سيقال هو شئ جديد أو غريب على أسماعهم، وهو شئ هام. يولد من فوق= أي من السماء (وتترجم يولد ثانية). وهذا حادث يتم للإنسان بقوة إلهية تفوق فهم الإنسان. وهي تعني أننا صرنا أولاداً لله، وذلك بإتحادنا بالمسيح الإبن. فنصلي "أبانا الذي في السموات". يرى ملكوت الله= بهذه الولادة يتصل الإنسان بالوجود الفوقاني أي ملكوت الله، لأننا بخطية آدم فقدناها.

لا يقدر= حتى على التأمل في السماويات بسبب العجز الروحي الراجع للخطية. ملكوت الله= قالها يوحنا هنا وفي آية (5) ثم أصبح يطلق عليها الحياة الأبدية وهو يعني أن الله يملك على كنيسته بقوة منذ الآن ويتمم إرادته ومشيئته في أولاده الذين يملكونه على قلوبهم. ولكن ملكوته هذا سيستعلن بشكل جديد في الزمن الآتي حين يتلاشى الشر تماماً ونحيا في ميراث المجد العتيد. (هذا الفهم لملكوت الله لن يفهمه سوى المولود من فوق، أما اليهود فيطلبون ملكاً أرضياً).

 

آية (4): "قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد."

لم يفهم نيقوديموس ما قاله المسيح وأعلن عن عجزه على الفهم. وكما أنه من الصعب أن يدخل الشيخ العجوز لبطن أمه، كان صعباً على نيقوديموس أن يتقبل فكرة الميلاد الثاني بعد أن قضي عمره لا يفهم سوى البر الذاتي. [المسيح يتكلم عن ملكوت الله كخليقة جديدة ونيقوديموس يصر على تكرار القديم (الولادة الجسدية)] المسيح لا يغير الظروف الخارجية بل هو يعيد تغيير الداخل ويخلقه جديداً.

 

 

آية (5): "أجاب يسوع الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله."

المسيح يشرح له أن الميلاد المقصود هو من الروح، ميلاد روحاني للنفس هو ميلاد غير منظور. يولد من= وترجمتها من داخل، أي يدخل الإنسان للماء ليخرج مولوداً جديداً من الروح. (والمقصود بالولادة من فوق هو الروح). والروح يقدس الماء في المعمودية ليكون لها قوة على الميلاد الثاني الروحاني. كما يقول القديس كيرلس الكبير.. الميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية سالفة وتقديس ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. لذلك يسبق المعمودية توبة وإعتراف فهي بداية جديدة. والمعمودية هي موت مع المسيح عن حياتنا السالفة لقبول حياة جديدة من عمل الروح القدس هي من حياة المسيح. والميلاد من الروح ومن الماء كان في ذلك الوقت ليس غريباً عن نيقوديموس، فكان المعمدان يقول هذا عن المسيح الذي سيعمد بالروح القدس ونار.

يدخل ملكوت الله= كما كان الختان شرط أن يكون الشخص من شعب الله في العهد القديم، هكذا في العهد الجديد فالمعمودية شرط لدخول ملكوت الله.

 

آية (6): "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح."

بالمعمودية يتحول الإنسان من حياة قديمة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح. وما لا يستطيعه الجسد تستطيعه الروح. فأنت الآن يا نيقوديموس تتصور أنك لا يمكنك ترك شهواتك، هذا لأنك مولود من جسد. وبهذه الآية يشرح السيد لنيقوديموس أن الولادة الثانية ليست ولادة جسدية أي لا داعي لأن يدخل بطن أمه ثانية. ومن يولد من الجسد يموت، أما من يولد من الروح ويقوده الروح فله حياة أبدية فالمولود من الروح يقوده الروح حتى يصل به للسماء. من يولد من الجسد يشتهي العالم ومن يولد من الروح يشتهي الإلتصاق بالله، ويتخلى عن شهواته الجسدية.

 

آية (7): "لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق."

فإذا كنت تريد أن تكون رجلاً روحياً ينبغي أن تولد من فوق. فإذا كنت قد جئت لي لتتعلم كيف ينبغي أن تحيا في ملكوت الله فلن ينفعك الأعمال الجسدية كلها فهي من الجسد. أولاً تولد من فوق ثم تعمل أعمالاً يعينك فيها الروح بعد ذلك لتتجدد يوماً فيوماً.

 

آية (8): "الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح."

السيد يشرح له أن الولادة من الروح لها قوة غير منظورة للتغيير، ويتغير الإنسان ويصير إنساناً جديداً. كمن ولد من جديد. في العبرية واليونانية كلمتي روح وريح هي كلمة واحدة، وكلمة تهب من نفس أصل كلمة ريح والمعنى أنه كما تتحرك أوراق الشجرة فنعرف أنها تعرضت لريح، هكذا المولود من الروح تظهر عليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة في كلامه وتصرفاته وفهمه ومحبته وحكمته..الخ. هذا هو التغيير بالروح (رو13:8) ولكن ذلك لكل من يجاهد فيعين الروح ضعفاته (رو26:8). وهذا أيضاً ما أسماه بولس الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2) أي إزالة الشهوات الخاطئة من داخل القلب كمن يقطعها بمشرط الختان.

 

آية (9): "أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا."

يقصد نيقوديموس أنه كيف يتم هذا؟! وكان لا معنى لسؤاله فالمسيح أوضح له أنه ليس من عمل إنسان بل هو عمل فائق من الروح القدس.

 

آية (10): "أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا."

هذا عتاب لكل معلمي اليهود في شخص نيقوديموس، الذين سمعوا بالتأكيد عن عمل الروح القدس وكيف أنه يجعل الشخص جديداً. وهذا حدث حتى مع شاول الملك. وكذلك نجد هذا في عدة أماكن (راجع 1صم1:10،6،9،10+ 1صم13:6.. وهذا ألا يعتبر كميلاد ثان للإنسان. وراجع (مز10:51).. وألا يعتبر هذا خلقاً جديداً. وراجع (حز19:11+ 31:18) بل أن حزقيال جمع عمل الماء والروح في الخلق الجديد (حز25:36،26-28+ 9:37-14) وراجع أيضاً (أش18:65،19+ 8:66،9). وعن عمل الروح القدس راجع (يؤ28:2،29)

 

آية (11): "الحق الحق أقول لك أننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا."

المسيح يوبخ نيقوديموس أنه لا يفهم، أمّا المسيح فيعلم. والمسيح يتكلم هنا بصيغة الجمع وقد يقصد الثالوث فالآب يريد الإعلان والإبن والروح ينفذان والإبن لا يعمل شيئاً بدون الآب، أو هو وتلاميذه، أو هو والأنبياء الذين تنبأوا عن هذه الأيام. (ولاحظ أن التلاميذ سمعوا عن هذا من المعمدان). وبحسب الناموس فالشهادة تكون على فم اثنين. الرب يقول له إن هذا موضوع ليس للنقاش بل ستلاحظون وتدركون عمل الروح، ولكني أنا أخبرك به من الآن.

 

آية (12): "ان كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون أن قلت لكم السماويات."

الأرضيات= أي الأمور السماوية مشروحة بطريقة أرضية ليفهمها الناس. السمويات= أي لو استعلنها المسيح على مستوى جوهرها السمائي والإلهي. والقول يشير إلى أنه إذا لم تفهم يا نيقوديموس الولادة من الماء والروح فهل ستفهم الأكل من جسد المسيح ودمه، أو قول المسيح أنه والآب واحد أو سر الثالوث القدوس. (وقد تكون الأرضيات هي مفاعيل المعمودية في المؤمن على الأرض أو أي أمور روحية تخص الحياة على الأرض والسمائيات هي الحياة في العالم الآخر والنصيب المعد لنا هناك.

 

آية (13): "وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء."

سبق في آية (2) أن قال نيقوديموس "أنك أتيت من الله معلماً" والمسيح هنا يقول لا بل أنا أتيت من السماء، ولست معلماً كمعلمي اليهود. هنا المسيح بدأ يشرح السمويات لنيقوديموس بحسب ما يمكنه فهمه. وهو جاء ليعطي حياة أفضل للإنسان فيها يولد من فوق. ومع أن المسيح نزل من فوق إلا أنه سيصعد إلى فوق ومع هذا فهو بلاهوته لم يغادر السماء. هو السماوي نزل ليحملنا فيه للسماء، ولذلك قال "إثبتوا فيَّ" وهذه الآية تثبت لاهوته. صعد إلى السماء= أي يرى أسرار السماء وحده فلا أحد من البشر صعد للسماء ليعرف أسرارها. ولأنه من السماء فهو وحده الذي يعلم السمائيات وهو نزل من السماء ليعلن الأسرار لنا. ولذلك ينبغي أن تقبل شهادته. نزل من السماء= هذه تساوي "الكلمة صار جسداً" والآية تبدأ بحرف الواو. إذاً هي راجعة لما سبقها، أي لا أحد يعلم السماويات إلا من نزل من السماء، أنا السماوي. وأيضاً موضوع الولادة من فوق لم يتم إلاّ بنزولي من السماء.

 

الآيات (14،15): "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان.لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية."

رأينا في آية (13) التجسد وهنا نرى الفداء (وهنا المسيح يشرح السمويات برموز من العهد القديم). فالإنسان سقط بواسطة الحية التي إستطاعت أن تُسَرِّبْ الخطية القاتلة للإنسان. فالخطية مرتبطة بالحية. وجاءت الحيات المحرقة تفتك بالشعب (عد7:21) لتْصّوِّر عمل الخطية التي تفتك بالإنسان الخاطئ. أما الحية النحاسية فهي حية ميتة سمها مقتول وهي رمز للمسيح الذي تجسد في شبه جسد الخطية بل صار خطية لأجلنا لكنه بلا خطية. وحمل خطايانا في جسده ومات بها فقتل الخطية بالجسد. لهذا يقال أن المسيح أمات الموت ودان الخطية بالجسد أي حكم عليها حكماً مؤبداً بالعدم حينما مات بها ثم قام. والنظر للحية النحاسية هو رمز لمن يؤمن بالمسيح المصلوب الذي قام من الأموات ليقيم من يؤمن به من موت الخطية (1بط24:2). يرفع إبن الإنسان= أولاً على خشبة ثم صعوده. حياة أبدية= فهي حياة الله نفسه الذي لا يموت، الأبدي، أعطاها لنا في المعمودية. "لي الحياة هي المسيح" (في21:1) أعطاها لنا بصليبه وقيامته.

 

آية (16): "لأنه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية."

هنا المسيح يكرر لكي لا يهلك كل من يؤمن به= لكي يشرح لنيقوديموس أن الذي يعطي الحياة الأبدية ليس هو العمل بالناموس بل الإيمان. وما الذي دفع المسيح أن يتجسد ويصلب.. الإجابة هنا هي الحب. كل العالم= يهوداً وأمم. إبنه الوحيد= هذه تذكرنا بتقديم إبراهيم إبنه الوحيد محرقة. فإسحق كان رمزاً للمسيح. في آية (14) المسيح يقول عن نفسه "إبن الإنسان" وفي هذه الآية يقول "إبن الله" فهو إبن الله الذي صار إبناً للإنسان ليفدينا. أحب الله العالم= كانت آلام إبراهيم حين قدَّم إسحق ذبيحة تساوي تماماً آلام إسحق. فالله بهذه القصة شرح كيف أن آلام الآب كانت مساوية لآلام الابن، وأن درجة بذل الآب هي نفس درجة بذل الإبن. ولم يكن الله ليبذل إبنه الوحيد إلاّ لو كان الثمن الذي سيحصل عليه مساوياً لهذا. وكان ما حصل عليه الله الآب هو بنوة الإنسان لله بفداء المسيح، وهذه هي محبة الآب، الذي فرح بعودة أبنائه إليه. المسيح هنا يعلن محبة الآب لنا. أحب حتى بذل= محبة الله قوية إلى هذه الدرجة (رو32:8) أحب= (أغابي) وهي المحبة التي تعطي دون أن تطلب شيئاً. بذل= أعطى نفسه عطاء كاملاً لكي لا يهلك بسم الحية كل من يؤمن به. الحياة الأبدية= هي حياة المسيح وهي أبدية. pf00

 

 

آية (17): "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم."

يا نيقوديموس الخلاص الذي جئت لأقدمه يختلف عن الناموس، فالناموس الذي أنت متمسك به يدينك، بل يحكم عليك بالموت. وكانت تعاليم الربيين اليهود أن المسيا حين يأتي سيبيد الأمم ويسحقها. لكن المسيح هنا يقول أن هدفه هو خلاص الأمم بل العالم كله وليس دينونة العالم (إش10:52). فالمسيح في مجيئه الأول أتى ليخلص ولكنه في مجيئه الثاني سيأتي ليدين. فالشمس التي تضئ للناس هي نفسها تميت البعض من ضربة الشمس والماء الذي يحيي الناس، هناك من يغرق فيه ويموت.

 

آية (18): "الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد."

من يؤمن يخرج من دائرة الدينونة أما من يدان فهو يدان لأنه خرج من دائرة الحب. وهذا تفسير التناقض الظاهري بين "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم" (يو39:9)، "الله لم يرسل إبنه إلى العالم ليدين العالم" (يو17:3). فالمسيح أتى حقاً ليخلص ويجمع كل شعبه في جسد واحد بالمحبة، فمن يؤمن يدخل لهذا الجسد ويتمتع بالحب والنور والفرح وغفران الخطايا، التي حملها في جسده. ومن يرفض فهو الذي حكم على نفسه بالدينونة وأن يبقى في الظلمة الخارجية. وهذا تم التعبير عنه في قول سمعان الشيخ "ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل" (لو34:2). يؤمن= يؤمن + يعتمد + يحيا كما يحق لإنجيل المسيح. ومن رفض المسيح تبدأ دينونته على الأرض ليس بسبب خطاياه القديمة بل لرفضه المسيح الذي يغفر خطاياه.

(ولاحظ أن يوحنا يكتب سنة 100م بعد خراب الهيكل بثلاثين سنة وبهذا نفهم أن سبب خراب الأمة اليهودية عدم إيمانها). ولكن يوحنا يضع أملاً ورجاءً لكل إنسان أنه حين يؤمن إيمان حي عامل بالمحبة يقبله الله (يو36:12). ويحذر من عدم الإيمان (24:8). الإيمان هنا هو يناظر النظر إلى الحية النحاسية ليشفي الملدوغ. وأيضاً تركيز النظر على المسيح يشفي. كما ركز بطرس نظره على المسيح فسار فوق الأمواج.

 

آية (19): "وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم واحب الناس الظلمة اكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة."

الدينونة هي القضاء. ولا يمكن أن ينعقد إلاّ بوجود أداة التمييز بين الخطأ والصواب للحكم بالعقاب أو البراءة. والقضاء أداته الوحيدة هي النور الإلهي الذي يفرق بين أعمال الظلمة وأعمال النور. فالمسيح جاء للعالم نوراً للعالم وهم الحق الإلهي. وكل ما ينحاز للنور فهذا يوضح أنه أحب النور ومن يرفضه يعلن أنه إختار الظلمة. والنور بهذا يصير هو أداة التفريق والتمييز وهو القاضي. لأن الذين يرفضون النور ينحازون إلى رئيس هذا العالم فيقعون تحت الدينونة والرفض (يو31:12). ربما كان لنا عذر في خطايانا لو لم يأت المسيح، لكنه أتى وظهر النور، وعرفنا الحق. فكل من ينحاز للشر يُدان. والدينونة تبدأ من هنا على الأرض في الضمير المتألم، أما من يؤمن بالمسيح يكون له سلام مع الله (رو1:5). أما غير المؤمن فهو لم يحصل على الحياة الأبدية ولا الشفاء الروحي ولا الخلاص ولا السلام، هو سبب لنفسه هذه الدينونة برفضه المسيح. أحب الناس الظلمة= أي تمسكوا بها (شهوات وضلالات فكرية..). هؤلاء فضلوا الخطية والشيطان على المسيح. يوحنا هنا يتكلم عن الغارقين في الشر، وليس عمن يخطئ عن ضعف. فالإستغراق في الشر يؤثر على قابلية الإنسان للتوبة وقبول النور. لأن أعمالهم كانت شريرة= أعماق نفوسهم صارت مصبوغة بالشر، الشيطان أصبح يسود على ضمائرهم. الاستمرار في الأعمال الشريرة يُوَلِّدْ عادات وإرتباطات تؤثر على حرية الإنسان فلا يستطيع أن يقترب من النور. ولكننا نرى نيقوديموس الذي أتى للمسيح ليلاً. وقد نما إيمانه وأتى للمسيح في النور ساعة الصلب. (يو39:19). ونسمع عن فيلسوف فرنسي ظل في حالة عداء للمسيح حتى لحظة موته فقال (أخيراً إنتصرت أيها الناصري المصلوب).

 

آية (20): "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله."

السيئات= هنا هي الأعمال البطالة الحقيرة (العادات الخاطئة والأفعال الخاطئة أي السلوك الأخلاقي) هذه تؤثر على الضمير فيبغض النور. وهذه خطورتها في أنها تجعل الإنسان يهرب من النور ويبغض الدعوة إليه خشية أن توبخ أعماله من أحبائه أو أصدقائه المخلصين إليه (رؤ19:3+ أف12:5-14). هذا مثل العين المريضة تبغض النور وتهرب منه.

 

آية (21): "وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله انها بالله معمولة."

يفعل الحق= أي يمارسه، فالحق فعل وليس مجرد كلام، بل هو حياة ومن يحيا في الحق يحيا في النور. ومن له فكر روحي وبصيرة مفتوحة يرى الحق فينفذه. وعرض أعمال البر خطر أو الكلام عنها أمام الناس فهذا يؤدي للوقوع في خطية البر الذاتي والإعتداد بالنفس. ونلاحظ أن المسيح يقول هنا عن الأعمال الصالحة أنها بالله معمولة= فالله هو صاحب العمل الصالح حقيقة. هو الذي يعطي قوة لهذا العمل والهدف تمجيد إسم الله. ومن يفهم هذا لن يقع في البر الذاتي، بل لن يتكلم عن نفسه (1كو7:4+ يع17:1). بل "أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني" (في13:4). يفعل الحق= أي غير منغمس في الشهوات. مثل هذا حين ظهر المسيح آمن به= يقبل إلى النور. هذا مثل من تابوا على يد المعمدان إكتشفوا المسيح. وقيل عن غاندي رجل المبادئ أنه قال (كيف ينام المسيحيين ولهم إله صنع لهم كل هذا) وقبل عن طاغور شاعر الهند أنه قال (أحب المسيح) فمن يعمل الحق ويحبه يكتشف المسيح بسهولة. فغاندي وطاغور رجلي المبادئ سهل عليهم إكتشاف شخص المسيح فأحبوه.

 

الآيات (22-36):              (المعمدان يكمل شهادته)

الآيات (13-25): "وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى ارض اليهودية ومكث معهم هناك وكان يعمد. وكان يوحنا أيضاً يعمد في عين نون بقرب ساليم لأنه كان هناك مياه كثيرة وكانوا يأتون ويعتمدون. لأنه لم يكن يوحنا قد القي بعد في السجن. وحدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير. فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه. أجاب يوحنا وقال لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أعطى من السماء. انتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه. من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من اجل صوت العريس إذاً فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا انقص. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو ارضي ومن الأرض يتكلم الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق. لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح. الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله."

(آية22): كان حديث المسيح مع نيقوديموس في أورشليم. وأتى المسيح مع تلاميذه إلى أرض اليهودية= أي ريف وأرض خلاء باليهودية شرق جبال أورشليم على ضفاف نهر الأردن حيث مكث المسيح مدَّة مع تلاميذه. وكان يُعَمِّدْ= وفي (مر15:1+ يو1:4-3) أن المسيح لم يكن يعمد بل تلاميذه!! وأن المسيح كان يكرز بالتوبة. والقديس أغسطينوس يقول إن المسيح عمّد تلاميذه أولاً ثم كلفهم بأن يعمدوا الناس وإكتفى هو بالتعليم (مر15:1). ويكمل أغسطينوس وذهبي الفم أن معمودية التلاميذ في ذلك الحين لم تكن معمودية سرائرية حسب ما يصنع الآن فالروح القدس لم يكن قد حلّ عليهم بعد.

وهناك ثلاث معموديات قد مورست:

1)  أ- معمودية يوحنا: كانت إغتسالاً للجسد كله بالماء. وكان هذا عند اليهود يعني التطهير "إنضح علىّ بزوفاك فأطهر. إغسلني فأبيض.." + (حز25:36+ لا16:15+4:16). وكان هناك في خيمة الاجتماع مرحضة للإغتسال. وكان يوحنا يعمدهم إعلاناً وعلامة على توبتهم ورمزاً لنعمة الخلاص الآتي (مت11:3).

 ب- معمودية التلاميذ للجموع قبل حلول الروح القدس على التلاميذ. هذه في شكلها شبيهة بمعمودية يوحنا وكانت للتطهير وينقصها حلول الروح القدس.

 وكلا المعموديتين (أ،ب) هدفهما التوبة، والمعمودية رمز وإعلان لذلك. وهدف ذلك أن التائب تنفتح عيناه فيعرف المسيح.

2)  أما المسيح نفسه فقد عمد تلاميذه معمودية حقيقية ولذلك عند غسله لقدمي بطرس قال له الذي إغتسل ليس له حاجة إلا لغسل رجليه بل هو طاهر كله. إذاً معمودية المسيح لهم كانت حقيقية ولكن فعلها مؤجلاً لحين حلول الروح القدس عليهم. هذا يشبه شيك حصلت عليه ولكن مكتوب على ظهره يصرف يوم كذا، فأنا حصلت على حقي لكن لن أحصل على المال إلاّ في اليوم المحدد. والتلاميذ حين عمدهم المسيح حصلوا على حقهم في مفاعيل المعمودية، لكن هذا تم يوم حلول الروح القدس.

3)  المعمودية الثالثة هي ما يصنع الآن في الكنيسة ومارسه التلاميذ بعد حلول الروح القدس عليهم. وهي معمودية للتطهير وكاملة الفعل وتتم بالروح القدس (راجع أع5:19)

ولإيضاح الفارق بين المعموديات الثلاث نسوق المثل التالي: (وهو للمتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف السابق):-

دخل إنسان إلى بيت فوجد 3 آلات تليفونية.

1.    الآلة الأولى لها شكل التليفون ولكنها لعبة أطفال (المعمودية الأولى ليوحنا).

2.    الآلة الثانية هي تليفون حقيقي ولكن لم تصل له حرارة (معمودية المسيح للتلاميذ قبل حلول الروح القدس).

3.    الآلة الثالثة هي تليفون حقيقي به حرارة (هي المعمودية الحالية).

إذاً قوله وكان يُعمِّد:- أنه هو عمد تلاميذه، وتلاميذه عمدوا الجموع، مثلما صنع هو معجزة الخمس خبزات وأعطى لتلاميذه ليوزعوا.

وهذه الآية هنا هي مقدمة للحديث عن حديث المعمدان الأخير لتكميل شهادته عن المسيح. وبعد هذا= في الزمان أو بعد أن إنتقلوا إلى مكان آخر.

 

(آية23): مياه كثيرة= فالمعمودية تتم بالتغطيس ولذلك تحتاج لمياه كثيرة. ونرى هنا المعمدان مازال يمارس وظيفته في الإعداد بالتوبة لملكوت الله كسابق للمسيح. وربما ترك المعمدان مكانه الذي كان يعمد فيه أولاً ليبعد عن هيرودس أنتيباس بسبب العداوة التي نشأت بسبب هجومه عليه وتوبيخه علناً. عين نون= غرب نهر الأردن في البراري الواقعة على ضفافه على الحدود بين اليهودية والسامرة. ولكن بدأ العدد الذي يذهب للمعمدان يتناقص، إذ بدأ كثيرون يذهبون للمسيح (آية26) لذلك قال المعمدان ينبغي أن هذا يزيد وأنا أنقص (30:3).

 

(آية24): في (مر14:1،15) نرى أن المسيح بدا خدمته في الجليل بعد أن أُسْلِمْ يوحنا. ومن هذه الآية نرى أن المسيح بدأ خدمته قبل أن يُسْلَمْ المعمدان. وقد بدأ المسيح خدمته أولاً في اليهودية.

(الآيات 25،26): وجود المسيح يعمد مع وجود يوحنا أنشأ نوعاً من المنافسة والمباحثات بين تلاميذ المعمدان واليهود المعمدين أو بين تلاميذ المسيح. فالمسيح يعلم أن الخلاص يكون بالميلاد من فوق بواسطة الروح القدس لنكون خليقة جديدة. والمعمدان يعلم أن المعمودية هي توبة فقط، وحين إحتدمت المناقشة أتى تلاميذ المعمدان له ليسألوه، فهم تصوروا أن المعمدان هو المسيا ومعموديته هي الخلاص، وهكذا كانوا يشرحون لليهود. وفي هذا نرى أن تلاميذ المعمدان لم يفهموا شهادة معلمهم بأن الذي يأتي بعده هو أقوى منه. هوذا الذي كان معك= هذه تشير لأنهم يفهمون أن هناك تساوي بين المسيح ويوحنا. بل هم يقولون للمعمدان يامعلم. وفي إستخفاف لا يذكرون اسم المسيح. الذي أنت قد شهدت له= بهذا كان تلاميذ يوحنا يريدون أن يثيروه ضد المسيح ولكنه لم يستجب لهم. فهم يذكرونه بأنه صنع معه إحساناً إذ شهد له وربما تصوروا أنه كأحد تلاميذه أي مساو لهم في تلمذته للمعمدان. ومعنى كلامهم أن المسيح بدأ يظهر كمنافس للمعمدان، أو كمتعدٍ على وظيفة معلمهم. وتلاميذ يوحنا المعمدان الذين لم يتبعوا المسيح كونوا جماعة تشيعت له وظنت أنه المسيح وظلوا لقرون طويلة يقاومون المسيحية. وللآن يظن بعضا الخدام أن خادماً أخر صار منافساً له. هذا يطلب مجده هو لا مجد المسيح. الجميع يأتون إليه= بالعامية هذه تساوي "إنت راحت عليك". هو يعمد= أخذ عملك.

 

(آية27): يضع المعمدان هنا مبادئ هامة. فيقرر أن كل معلم لا يأخذ إلاّ ما أعطته له السماء. وعلى كل واحد أن يؤدي رسالته في حدودها المعينة له من السماء. وهذا الرد ينهي روح المنافسة بينه وبين المسيح في نظر تلاميذه، بل أنه هو فرح إذ أن الناس بدأت تتبع المسيح. لا يأخذ أحد شيئاً..= هذا مبدأ عام (سواء لي أو للمسيح).

 

(آية28): المعمدان يذكرهم بأقواله السابقة وشهادته السابقة عن المسيح للفريسيين (يو19:1-28). ومن المؤكد هو قال هذا لتلاميذه.

 

(آية29): تصوير المسيح أنه العريس، هذا جاء في الأنبياء (هو19:2-21+ حز8:19+ إش1:54-10). والمعمدان كنبي تنبأ عن المسيح بفرح إذ أن نبوته قد تحققت ورأى تحقيقها بعينيه. وعند اليهود كان صديق العريس يعد كل شئ للعريس وللفرح، وحينما ينتهي الفرح بنجاح وبدون مشاكل يفرح الصديق إذ أن مهمته قد نجحت. وكان هذا عمل المعمدان، إعداد الناس كعروس للمسيح العريس الحقيقي. أما لو أخذ صديق العريس العروس لصار مغتصباً.

 

(آية30): إنتهى دور الأنبياء بظهور الذين تنبأوا عنه، فإذا ظهرت الشمس (المسيح) ينتهي عمل المصابيح (المعمدان). لقد برهن المعمدان أنه بروحانيته هو أعظم من الإثارة. وعلىّ أن أقول ينبغي أن يتمجد المسيح ويزداد وأن ذاتي تنقص. ويزداد المسيح فيًّ وأنقص أنا وأتضع.

 

(آية31): المعمدان هو قائل هذا الكلام وحتى نهاية الإصحاح. حسب رأي الآباء ومنهم ذهبي الفم وأغسطينوس. الذي من فوق= فهو رأى الروح نازلاً ومستقراً عليه، وهو شهد أنه إبن الله، فهو يعلم من أين أتى المسيح، وبالتالي فهو فوق الجميع علماً وتأثيراً وكرامة ومجداً. الذي من الأرض= هنا المعمدان يقارن نفسه بالمسيح.

 

(آية32): هنا المعمدان يتكلم بالروح عن المسيح وشهادة المسيح لنفسه ولرسالته. ولأن رسالة المسيح سماوية لم يفهمها كثير من الناس ولم يقبلوها. هذه نبوة عن رفض اليهود للمسيح. ورسالة المسيح سماوية فهو يشهد بما رآه وسمعه (قارن مع آية11:3). رآه وسمعه= تعبير بشري عن تطابق فكر الآب والإبن فهو غير منفصل عن الآب، الإبن هو الحق ذاته.

 

(آية33): جرت العادة عند اليهود أن الشاهد يضع ختمه تصديقاً على الشهادة التي نطق بها. والمسيح هو الشاهد لله، الذي يتكلم بكلام الله ويختم بصدق الله. وكل من يقبل المسيح يكون كمن قبل كل الحق من الله. ففيه تكمل كل مواعيد الله الصادقة غير الكاذبة (26:8). وقد تعني الآية أن الذي يقبل المسيح يجد فيه ختماً لكل النبوات والمواعيد التي قالها الله على فم أنبيائه. عموماً من يقبل شهادة المسيح وتعاليمه فقد صدق الله فالمسيح هو الله، هو كلمة الله الذي يعلن للناس كلام أبيه.

 

(آية34): الله أرسل المسيح الذي تعترضون أنتم عليه، محملاً بآيات وكلام الحياة، كلام الله نفسه. والله كان يعطي الأنبياء الروح بمقياس ومكيال أي بقدر معين. وعلى قدر ما يحتمل كل نبي وبقدر ما يحتمل السامعين، أما للمسيح فبلا كيل وبلا مقياس فهو له ملء الروح، ونحن نأخذ من ملئه (يو16:1). والناس تذهب إلى المسيح لأن كلامه هو كلام الله. ولا أحد يستطيع أن يتكلم في الإلهيات إلاّ بالروح القدس.

 

(آية35): المعمدان كان هو أول من أعلن حقيقة أن المسيح هو إبن الله (يو34:1) بعد ما رآه يوم المعمودية.

دفع كل شئ في يده= إذاً سلطان الآب= سلطان الإبن.

الآب يحب الإبن= "هذا هو إبني الحبيب" هذا ما سمعه يوحنا المعمدان. والحب هو لغة الثالوث فالله محبة والإبن هو المحبوب (1يو16:4+ أف6:1). وهذا سر آخر كشف للمعمدان.

 

(آية36): هذه تتطابق مع شهادة موسى عن المسيا النبي المنتظر (تث19:18+ أع22:3،23). ونلاحظ أن شهادة المعمدان هنا تتطابق مع ما قاله المسيح لنيقوديموس. فالروح هو الذي أوحى للمعمدان بما قاله، والمسيح أشاد بشهادة المعمدان عنه (يو33:5-36). لن يرى حياة= حياة أبدية طبعاً. يمكث عليه غضب الله= يخيم عليه غضب الله، أي يقاسي من غضب الله. وهذه الآية تشير لأن من يحجب الله وجهه عنه بسبب عدم إيمانه بالمسيح يصير بلا بركة. هذه الآية في هذا الإصحاح تشير لطريق الخلاص [1] الصليب [2] الإيمان [3] المعمودية.

وفي آية (3:4) نجد المسيح يذهب للجليل ليبعد تلاميذه عن هذه المباحثات مع تلاميذ المعمدان وليبعدهم عن روح المنافسة. ولاحظ فهناك مجالات كثيرة للخدمة. ويوحنا المعمدان استمر يعمد حتى لا يثار تلاميذه من المسيح لكنه ظل يشهد لعظمة المسيح ليحول تلاميذه للمسيح.

بهذه الكلمات والتعاليم كان يوحنا المعمدان يحول تلاميذه للمسيح لتكون لهم حياة أبدية. فالإيمان بالمسيح هو فقط طريق الحياة الأبدية.


 

الإصحاح الرابع

                        (الســــامرية)

كان اليهود يتعالون على السامريين. وكان السامريون يكرهون اليهود. ولذلك صارت السامرة ملجأ أميناً للمسيحيين الذين هربوا من اليهود (أع1:8). وقد ذهب فيلبس الشماس للكرازة في السامرة (أع5:8-8،14-17). والمسيح بعد أن حضر عرس قانا الجليل (يو2) ذهب ليفتقد شعبه في اليهودية ويطهر هيكله. ثم تقابل مع ناموسيٌ (يو3) ثم ها هو يفتقد امرأة نصف أممية. هي قصة تطبيق لما رأيناه من قبل عن التجديد. فها هو السيد المسيح يسعى وراء هذه السامرية الساقطة ليحولها إلى كارزة. وهكذا يسعى الله وراء كل نفس خاطئة ليجددها.

 

معاملات المسيح مع الخطاة:

المسيح هو الطبيب الذي أتى ليشفي مرضى الخطية، وكطبيب حكيم يعرف ما الذي تحتاجه كل نفس، فهو له طريقة مع كل نفس تختلف عن الأخرى، لكنه يسعى وراء كل نفس طالباً عودتها للأحضان الإلهية.

1.    فها هو مع آدم: يقول له أين أنت، ليحثه على الإعتراف بخطيته.

2.  وها هو مع قايين: يسعى وراءه ليمنعه من السقوط، بل حتى بعد أن سقط وقتل أخيه. وربما هناك من يقول ولماذا يسعى الله وراء شخص مثل قايين وهو يعلم أنه لن يستجيب.

أ‌-      هو يسعى وراء كل نفس في حب أبوي مشتاقاً لرجوع كل نفس.

ب‌-في هذا نجد معنى الآية "تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت" ففي الدينونة لن يجرؤ إنسان أن يقول أن الله لم يعطني فرصة.

3.    مع المرأة السامرية: إذ هي لا تعرف شيئاً عنه، يذهب إليها ويعرفها بنفسه ويتحاور معها.

4.  مع الإبن الضال: لا يذهب إليه، فهو ترك بيت أبيه بإرادته، بعد أن تذوق حب أبيه. فهذا لن يجدي معه الحوار. لكن الله في محبته يحاصره بالضيقات والمجاعة ليقارن مع الحال في بيت أبيه ويندم ويعود.

5.  المرأة الخاطئة (لو7): يشجعها ربما بنظراته الحانية ويعلن لها أنه غفر لها خطاياها الكثيرة فتحبه كثيراً وتبكي عند قدميه وتنال الغفران والخلاص. والكتاب لم يذكر كيف عرفت المرأة أن المسيح غفر لها الكثير فأحبته كثيراً. والكتاب حين يصمت عن شئ فهو يقول شئ. وما نتعلمه من هذا أن المسيح له طريقة تختلف من واحد لآخر.

6.  المرأة الكنعانية: يصدمها بقوله أنها كالكلاب في نجاستها. فهي تعيش مثل الكنعانيين تشرب الإثم كالماء وقبل أن يشفي أمراضها الجسدية (إبنتها) كان لابد من شفائها من خطيتها. السيد هنا يضعها أمام مرآة لتدرك مدى نجاستها، فتتوب وتشفي (مت22:15-28).

7.  ضعف إيمان فيلبس: يعالجه بسؤال عن شراء خبز للآلاف فيحسب فيلبس المبلغ ويعلن إستحالة تدبير مبلغ. ثم يصنع السيد المعجزة ويُشفى فيلبس من عدم إيمانه.

8.  مريض بيت حسدا (يو5): هنا مريض لا يشغله سوى مرضه ومن يلقيه في البركة، هذا لن يصلح معه حوار أو تبكيت بل هو لن يحتمل تجربة جديدة فيكفيه ما فيه. فالسيد يشفيه ثم يطلب منه أن لا يخطئ ثانية.

 

ولكن نرى الخطاة في معاملتهم مع المسيح يختلقون المعاذير حتى لا يتوبوا ويرجعوا وحتى لا تتواجه النفس مع نور المسيح ولتبقى في ظلمة الخطية، وكمثال لأعذار الخطاة نرى هذه السامرية:-

1)  أنت يهودي وأنا سامرية: فلا معاملات بينهما. والآن يظن كثير من الناس أنهم طالما أخطأوا فالله لن يتعامل معهم. بل كثيرون يمتنعون عن الذهاب للكنائس إذا سقطوا ظناً أن الله لن يقبلهم. ولكن ألم يأتي السيد المسيح للخطاة ليشفيهم من خطيتهم.

2)  لا دلو لك والبئر عميقة: لن تستطيع أن تأتي بالماء فلا توجد وسيلة لديك. والآن كم من الناس لديهم مشاكل ولا يتصورون أن الله لديه حلول لها. وهذا ما حدث مع شعب إسرائيل إذا وجدوا الماء مراً، ففكروا أن الله غير قادر على حل هذه المشكلة.

3)    إعطنى هذا الماء: ظناً أن الماء ماء مادي. وكثيرون لا يعرفون المسيح سوى للماديات، بغير تفكير في عطاياه الروحية.

4)  أباؤنا سجدوا في هذا الجبل: مناقشة غير مجدية. كثيرون إذا كلمتهم عن الذهاب للكنيسة يبدأون في الحوار عن الفروق بين الأديان والفروق بين الطوائف وتتوه المناقشة. والمطلوب التوبة والذهاب للكنيسة.

 

السامرة: محددة باليهودية جنوباً وبالجليل شمالاً. ويقال أن طولها كان 47ميلاً وعرضها 40ميلاً. وأنها ورثت أرض منسى وأفرايم بعد العودة من السبي. ولكنها تقلصت أيام المسيح لبعض مدن تحيط بالسامرة. وكانت السامرة قد ذهبت للسبي على يد أشور وخربت البلاد. والسامريون هم بقايا هذا السبي بعد أن تزاوجوا مع الوثنيين الذين أتى بهم ملك أشور ليسكنوا إسرائيل محل أهل البلاد الذين ذهبوا إلى السبي. وكان الدم اليهودي هو الغالب. وأصل العداوة هي عملية الإصلاح التي قام بها عزرا ونحميا لتنقية الدم اليهودي. فطردوا كل من تزوج من السامرة، ورفض اليهود أن يشترك معهم السامريين في بناء الهيكل. وكان السامريون لا يعرفون سوى أسفار موسى الخمسة فقط، ولكن اليهود عاملوهم كهراطقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

وكانت عبادتهم تقام في هيكلهم على جبل جرزيم الذي أقيمه سنة 409ق.م. (وضع السامريون في توراتهم إسم جبل جرزيم عوضاً عن جبل عيبال [تث4:27-8]) وحدث في هذه الأيام أن رئيس كهنة اليهود الكبير "يادوا" إمتنع أن يسمح لأخيه منسى أن يظل متزوجاً من بنت سنبلط السامري وطلب منه أن يطلقها فرفض منسى فأرغمه يادوا على الفرار من اليهودية. فذهب منسى وأقام نفسه رئيس كهنة لهيكل جرزيم عند السامريين سنة 332ق.م بمساعدة سنبلط حميه، الذي وعده بهذا إن لم يطلق إبنته. وصارت العبادة في جرزيم صورة طبق الأصل من هيكل أورشليم. وقد هدم يوحنا هركانوس هيكلهم في جرزيم سنة 130ق.م. ولم يبنى ثانية. وقد أعاد هيرودس بناء السامرة وأسماها سباسطية على إسم إغسطس قيصر "(سبستوس باليونانية هي أغسطس باللاتينية) وأعاد بناء شكيم وأسماها نيابوليس وهي نابلس حالياً.

ولقد إحتقر اليهود السامريين وأسموهم نجسين، بل كانوا يرفضون أن يقولوا إسم سامري على ألسنتهم. وكان السامريون لذلك يكرهون اليهود ويهاجمونهم إذا مروا في السامرة، لذلك كان مرور المسافرين اليهود في السامرة من الخطورة بمكان. وكان اليهود يقولون إن من يقبل سامرياً في بيته ويستضيفه وجب أن يذهب هذا اليهودي إلى السبي هو وبنيه. ومما زاد العداوة مع السامريين أن بعض السامرين دخلوا خلسة سنة 6ق.م. وألقوا عظاماً بشرية (وهي تعتبر نجاسة) داخل الهيكل ليغيظوا اليهود. ولكل هذا كان اليهود يعتبرون أن أكل السامريين كلحم الخنزير. فلا يأكلون أكلهم ولا يشترون منهم. وكانوا إذا أرادوا أن يشتموا أحداً قالوا عنه أنه سامري (يو48:8).

ومن هنا نتصور وقع تعاليم المسيح عن السامري الصالح، وشفاء عشرة برص ليعود منهم واحد وهو سامري. بل طلب المسيح من تلاميذه أن يبشروا في السامرة بعد أن يبشروا في اليهودية. ومن محبته لكل الناس عَلَّم تلاميذه أن لا يتقيدوا بتعاليم اليهود وأن يذهبوا ليبتاعوا طعاماً من السامرة، فهو أتى لأجل الجميع ولأجل هذه السامرية الخاطئة، فهو الذي يرحم المنبوذين.

وكان اليهود والسامريين متفقين في أشياء كثيرة.

1.    هؤلاء يسمون أنفسهم إسرائيليين (اليهود). والسامريين يسمون أنفسهم يعقوبيين وكلاهما شخص واحد.

2.    يقدس كلاهما السبت والأعياد.

3.    يمارس كلاهما الختان كعقيدة أساسية.

4.    يقدس كلاهما توراة موسى.

ونلاحظ أن المسيح في حواره مع هذه السامرية كان يجادلها ليرفع إيمانها، وهذا ما نلاحظه درجة درجة في كلماتها:-

1-   أنت يهودي وأنا امرأة سامرية. (هنا هو في نظرها مجرد رجل يهودي).

2-   يا سيد (هنا رفعت درجته)

3-   ألعلك أعظم من أبينا يعقوب (بدأت تشك أنه أعظم من يعقوب).

4-   أعطني هذا الماء لكي لا أعطش (بدأت هي تطلب منه).

5-   يا سيد أرى أنك نبي (هنا صار في نظرها أنه نبي).

6-   أنا أعلم أن مسيا يأتي.. أنا هو (هنا عرفت حقيقته)

فطريقة الله الحوار والإقناع "أقنعتني يا رب فإقتنعت وألححت علىّ فغلبت" (أر7:20)

 

بين نيقوديموس والسامرية

نيقوديموس

السامرية

-         رجل فريسي طاهر في سيرته.

-         حديث كان في الليل.

-         شخص معروف أعلنه الكتاب.

-         ظل إيمانه مخفياً حتى وقت الصليب.

-   ضعف الرجل كان في قوته، فما عطّله كان التصاقه بالسنهدريم وخوفه على مركزه.

-   كانت الصعوبة أمامه عقلية. لذلك وجه المسيح كلامه له ليفتح بصيرته

-         امرأة سامرية ساقطة.

-         الحديث في وضح النهار.

-         أخفى الكتاب شخصها.

-         ظهر إيمانها في الحال.

-   كانت قوة المرأة في ضعفها فهي تقابلت مع المسيح الذي شفاها من خطيتها.

-   كانت الصعوبة أمامها خطيتها. لذلك وجه المسيح كلامه إلى ضميرها لتتوب فيطهرها.

- العجب أن كلام المسيح لكليهما كان عن الماء

 

 

الآيات (1-3): "فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ اكثر من يوحنا. مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه. ترك اليهودية ومضى أيضاً إلى الجليل."

فلما علم الرب.. أن يسوع. قوله الرب هذا يشير للمسيح في لاهوته كما يراه يوحنا. وقوله يسوع فهذا يشير له كإنسان كما يراه الفريسيين. يصير= يجذب إليه الناس ويتلمذهم ويعمدهم بعد أن يتلمذهم.

فبعد الإثارة التي فعلها تلاميذ يوحنا، والمشاكل التي توقع المسيح حدوثها من الفريسيين، إنسحب من اليهودية إلى الجليل منعاً للمصادمات معهم قبل الوقت (وكانت عودة المسيح للجليل هذه هي بداية الخدمة في الأناجيل الثلاثة الأخرى). وتلاميذ يوحنا أشاعوا أن المسيح يعمد لذلك يركز يوحنا على أن المسيح لم يكن يعمد فهؤلاء كاذبين يريدون إثارة الجماهير ضد المسيح. ونلاحظ أن المعمودية المسيحية كما نعرفها لم تبدأ إلا بعد حلول الروح القدس، والروح القدس لم يحل على التلاميذ إلا بعد موت المسيح وقيامته. فالمعمودية هي موت مع المسيح وقيامة معه. والمعمودية لا تكتسب فاعليتها إلا بالروح القدس.

 

 

ترتيب الأحداث:

في (يو43:1) توجه الرب إلى الجليل.

في (يو13:2) عاد إلى أورشليم.

في (يو3:4) توجه إلى الجليل فوصلها في (آية43).

وفي (يو1:5) توجه إلى أورشليم.

وفي (1:6) عاد إلى الجليل.

وفي (يو10:7) عاد إلى اليهودية وظل هناك إلى ما بعد القيامة.

آية (4): "وكان لابد له أن يجتاز السامرة."

الطريق عبر السامرة شاق وحار ومحفوف بالمخاطر بسبب عداء السامريين لليهود وتعديهم على المارة منهم. وكان هناك طريق آخر من شرق الأردن شمالاً للناصرة. لابد له أن يجتاز= ليؤمن أهلها. فالمسيح أتى وتجسد لهذا السبب. (وكان اليهود يتحاشون المرور بالسامرة أيضاً حتى لا يتنجسوا).

 

آية (5): "فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه."

سوخار= تحت جبل اللعنات (جبل عيبال) وهو في مقابل جبل جرزيم. وبين سفحي الجبلين مدينة شكيم (نابلس حالياً). وسوخار (خربة عسكر حالياً) هي بجانب شكيم. والمرأة أتت إلى بئر جافة تقريباً ووقت الظهر، بينما من يستقي يأتي ليستقي صباحاً، فهي خجلانة من نظرات الناس إليها وهي امرأة فقيرة وإلاّ أرسلت خدمها ليسقوا لها. وهبها يوسف= (راجع تك20:48-22+ يش32:24).

 

آية (6): "وكانت هناك بئر يعقوب فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر وكان نحو الساعة السادسة."

تَعِبَ= فهو إنسان كامل يتعب، وهو يتعب لتؤمن السامرية. جلس هكذا= هذا تعبير يوناني يشير لمُتْعَب إنهارت قواه فإرتمى في جلوسه متعباً وفي عطش من حرارة الجو، ودون تنظيف للمكان. البئر= هناك لفظان في اليونانية للبئر. الأول يشير لينبوع طبيعي ماؤه جارٍ ويستخدمه لها يوحنا إذا قالها المسيح. أمّا حين تقولها السامرية فيستخدم لها يوحنا تعبير آخر يشير للبئر الذي ماؤه راكد وشحيح (أر13:2) مقارنة بين ينبوع يعطيه الله وبئر شحيح يحفره إنسان). وفي هذا إشارة للمسيح ينبوع الحياة (رؤ6:21،17:22). الساعة السادسة= هي الساعة التي صُلِبَ فيها الرب ليموت فيعطي حياة. ونلاحظ أن المسيح قال في الساعة السادسة أنا عطشان ويقول التقليد أن المرأة السامرية إسمها فوتينا. ويقال أن طول الحبل المستخدم في بئر يعقوب هذا 106قدم.

 

الآيات (7،8): "فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء فقال لها يسوع أعطيني لأشرب. لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً."

أعطيني لأشرب= قد يطلب منا المسيح خدمة بسيطة ليمنحنا هو بركة كبيرة. واهب الحياة يتحول لشحاذ محتاج ولكن ذلك ليعطي لهذه المرأة حياة.

وهناك من يستثقل خدمة المسيح غير عالم أن عطايا المسيح لا حصر لها. هناك من لا يزال يظن أن المسيح محتاج لخدماته غير عالم أن من يقدم خدمة للمسيح يأخذ في مقابلها مئة ضعف. هذه مثل إعطني قلبك.. ولكنه حين يأخذه يملأه فرحاً. ماذا كانت أتعاب المرأة، هي ستنزل الدلو لتحصل على بعض الماء ليشرب المسيح. وماذا كانت ستأخذ؟ ماءً حياً. وكل منا يظن أنه يتعب في الصلاة والصوم.. ولكنه ماذا سيحصل عليه من نعم. المسيح لا يبقى مديوناً. هي تصورت أنها ستتعب لأجل المسيح ولا تعلم مقدار تعبه لأجلها. بل هو حينما يعطي، يعطي ذاته. لكن عموماً هناك نقطة إيجابية لدى هذه السامرية وهي قابليتها للنقاش مع المسيح، فهناك من يرفض. وعجيب أن المسيح عطش وطلب أن يشرب ثم لم يشرب، فهو فرح بخلاص نفس السامرية. (فطعام المسيح وشرابه هو إجتذاب النفوس ليخلصها) لقد طغت حاجة المرأة على حاجته هو. والمسيح في محبته قادر أن يهب ماء الحياة ويحول الماء إلى خمر وفي نفس الوقت يرسل تلاميذه ليشتروا طعاماً ولا يعمل معجزة لأجل نفسه. يشبع الآلاف حتى لا ينصرفوا جائعين ولا يحول الحجارة إلى خبز لنفسه. والمسيح بسؤاله للسامرية أراد أن يعطيها لا أن يأخذ منها. هو هنا يبحث عن خلاص نفس امرأة فقيرة (تستقي لنفسها وليس لديها من يستقي لها)، وسامرية أي نصف أممية بل زانية، وهناك عداء بينها وبين اليهود. والسامرية فرغ ماؤها وسط النهار كما فرغت خمر عرس قانا الجليل، وهذا معناه أن الفرح أعوز الجميع. ونلاحظ أن كلمات المسيح للسامرية 7 كلمات (7 رقم الكمال) تلاميذه كانوا قد مضوا أرسلهم كلهم حتى لا يجرح مشاعر المرأة وهو يكلمها أمامهم.

 

آية (9): "فقالت له المرأة السامرية كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين."

أمر غريب أن يتكلم رجل مع امرأة ويهودي مع سامرية. ويشرب من إناء سامري نجس (أنظر مت5:10+ لو52:9،53+ يو48:8+ أع28:10). وهي كخاطئة في محضر المسيح الذي تلوح عليه ملامح القداسة بدأت في بجاحة تتكلم كأنها تدافع عن عفتها المزعومة لكنها سريعاً ما تغيرت في أسلوبها. هي ظنت أنها لا تعرفه وهو لا يعرفها، ثم إكتشفت أنه يعرف عنها كل شئ. وأنها هي أيضاً تعرف أنه المسيا. إذاً كل من يقترب من المسيح سيجد أنه يعرفه وأن المسيح يعرفه شخصياً.

 

آية (10): "أجاب يسوع وقال لها لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً."

ماءً حياً= (رؤ17:7+ 10:22+ إش3:12+ 3:44). وكان اليهود يسمون مياه الآبار مياه ميتة، والمياه الجارية مياه حية. لو كنت تعلمين= المسيح يتمنى لو أنها إكتشفت شخصه الذي يعطي بسخاء ولا يعير فتطلب هي منه، لا تراه مسافراً في عطش بل إلهاً يعطي حياة. لكن غرور الخطية يعمي العيون فلا يدرك الخاطئ إحتياجه للمسيح. لكن المسيح يعرض ذاته دائماً لكي نتعرف عليه فنطلبه فيعطينا حياة. الماء الحي أي الماء الجاري ينظف بإستمرار مجرى المياه من أي قاذورات موجودة. أما الماء الراكد فتجده مملوءاً بالقاذورات. والإنسان المملوء من الروح القدس، يطهره الروح القدس (بالتبكيت والمعونة) من خطاياه لذلك نصلي "روحك القدس جدده في أحشائنا" حتى يعمل عمله وينقينا. وهذا جهاد كل منا أن نصرخ في الصلاة طالبين أن نمتلئ ويتجدد الروح في داخلنا فنتنقى من خطايانا، فهو يعطي الروح للذين يطلبونه بلجاجة (لو13:11) وراجع أيضاً (أف18:5-21) + (2تي6:1) إذاً الإمتلاء (جعل الماء حي جاري) هو نتيجة جهادنا.

 

قصة الماء في إنجيل يوحنا:

(ص2) نجد أول معجزة، وهي تحويل الماء إلى خمر.

(ص3) الإنسان يولد من الماء والروح. والروح ينقص معمودية يوحنا.

(ص4) المسيح ينبوع حي، يعطي ماء حياة.

(ص5) تحريك الماء يشفي.

(ص6) المسيح يمشي على البحر الهائج (هذا يشير لسلطان المسيح على العالم المضطرب).

 لكن ماء البحر ماء مالح يشير للعالم، ومن يشرب من هذا الماء يعطش.

(ص7) من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي (38:7).

(ص9) شفاء المولود الأعمى بإغتساله في بركة سلوام.

بهذا نرى أن الماء عنصر أساسي في التحول من الحياة القديمة إلى الحياة الجديدة. والمسيح يتوق أن نولد كلنا جديداً من الماء والروح ويفيض علينا من الماء الحي الذي هو روحه القدوس. الماء هو سر الحياة. والمعنى أن المسيح أتى ليعطينا نحن الموتى، الحياة "فيه كانت الحياة" وكما تقابل إسحق مع رفقة عند بئر. فالتقابل مع عريسنا السماوي يكون عند جرن المعمودية حين نموت معه ونقوم متحدين معه. ويرسل لنا روحه القدوس (الماء) ليحيي نفوسنا.

 

 

 

آية (11): "قالت له المرأة يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك الماء الحي."

يا سيد= (= LORD كيريي). هنا المرأة العاصية تقبل أن تدخل في حوار مع المسيح. ونرى عطايا الله أنها أكثر مما نظن أو نفتكر، ولكن العقل البشري لا يتخيل أن هذه عطايا الله، بل يضع العراقيل في وجه من يحاول خلاصه، بل يضع الخاطئ قيوداً على نفسه ويتصور أن لا حل لها= لا دلو لك= بل نتصور أن الله ليس عنده حل لمشاكلنا. هي رأت شكله البسيط المتعب من السفر ولم تدري إمكانياته. البئر عميقة= هكذا أتصور عمق مشكلتي التي لا حل لها، أو خطيتي.

 

آية (12): "ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه."

السامرية هنا تتحصن بالماضي فتراه أفضل من القفز إلى المجهول. وهكذا فعل نيقوديموس إذ تمسك بشيخوخته ورأى الحل أن يدخل لبطن أمه، وتمسك رؤساء الكهنة بهيكلهم بالرغم من فساده وتمسك تلاميذ يوحنا بمعموديته.

وتقليد السامريين يقول أن يعقوب عندما وقف على هذه البئر وهو في عطش هو ومن معه وصلّى لله فاضت البئر بالماء. ونفس القصة نجدها في تلمود اليهود. فسؤال السامرية هل أنت أعظم من يعقوب أي ستجعل البئر تفيض. فالمشكلة في نظرها أنه لا دلو له ولا حبل طويل فهل تقدر أن تعمل ما عمله أبينا يعقوب وتفيض البئر.

 

الآيات (13،14): "أجاب يسوع وقال لها كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية."

(راجع أش10:49+ 1:55+ رؤ16:7+ 6:21+ يو35:6). الجسد يشرب ثم يعطش وهكذا، أما الروح فهي تشرب وترتوي ولا تعود تشعر بالعطش بل تطلب المزيد. ومن يشرب من الماء الذي يعطيه الله ينتمي للسماويات فلا تعود الدنيا تشغله بملذاتها. لذلك من عاش للخطية يأتى يوم عليه يتمنى الموت ولا يجده، أمّا من يشرب من الماء الذي يعطيه الله يولد كل يوم جديداً. والماء الذي يعطيه الله هو ماء فياض= أي يروي الآخرين. ومن يشرب ويجري وراء شهوات العالم يعطش الماء الذي أعطيه= عطايا المسيح تفوق كل تصورنا، ماء يروي الروح وليس الجسد فقط. الروح القدس هو الماء. والروح القدس هو الذي يستعلن لنا المسيح فنشتاق أن نعرف أكثر ونراه أوضح، ويصير في داخلنا فرح وتهليل يظل ينبع بفيضان فنعيش بإطمئنان في بهجة الخلاص نشرب منها كل يوم. فالمياه الحية التي أسماها المسيح عطية الله حينما تستقر في نفس الإنسان تصبح قوة حية فاعلة تسكن هيكل الإنسان تحييه وتجدده مثلها مثل عطية الحياة التي ينالها الإنسان من أكل الجسد (يو54:6). وفي سفر النشيد نسمع "أختى العروس جنة مغلقة ينبوع مختوم" أي أن مواردها من الداخل وليس لها حاجة لشئ من الخارج. وماء الحياة من الداخل فعلينا أن لا نسعى إليه خارجاً عن دائرة قلوبنا. وهو أبدي يبدأ في الزمان ولكنه يدخل الأبدية، يروي فلا نحتاج لشئ آخر. ويوقف تياره أن نتركه ونذهب نبحث عن أبار مشققة لا تضبط ماء. "ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية" (رؤ17:7).

 

آية (15): "قالت له المرأة يا سيد اعطني هذا الماء لكي لا اعطش ولا أتي إلى هنا لأستقي."

هنا نرى أول علامات العودة، لقد نجح المسيح أن يجتذبها أي أنها شعرت بالإحتياج إليه، ولكنها كطفل على قدر تفكيره يطلب، فهي تسأل لكي تستريح من عناء جلب الماء يومياً فتستريح وتريح من تخدمهم أي زوجها. والمسيح التقط الخيط فسألها عن زوجها هذا الذي تتعب لأجله، أن تأتي به إليه. ولاحظ أن المسيح لم يعطها الماء الذي طلبته، هو حرك إشتياقاتها لتطلب، ولكن لتحصل على هذا الماء عليها بالتوبة أولاً.

 

آية (16): "قال لها يسوع اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا."

الخطية هي العقبة الوحيدة في طريق نوالها للعطية، لذا يتحتم كشفها والاعتراف بها، وإذا حدث سترتوي وتصير نبعاً تشرب منه المدينة وأهلها وزوجها. لكنه يفعل هذا بمنتهى الرقة ودون أن يجرحها بل هو يساعدها. (الجديد في المسيح لا يلبس على عتيق والروح لا يستقر في القلب إلاّ بعد تطهير القلب بالتوبة).

 

الآيات (17،18): "أجابت المرأة وقالت ليس لي زوج قال لها يسوع حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك هذا قلت بالصدق."

حسناً قلت= المسيح بهذا قبل إعترافها، وها هو يشجعها ويرى فيها حسنة هي الصدق. بل يكمل ما لم تستطع البوح به من سلسلة خيانات وزنا. ولكن متى إستيقظ الضمير لا يهمه إفتضاح أمره ولا بما يقال عنه. وبما فعله المسيح من كشف الغيب بدأ يظهر لها شخصيته كفاحص للقلوب والكلى. ونلاحظ أن إستجابة الشخص لصوت الله يحدد طريقة خلاصه، فهذه المرأة كان يمكن لها [1] أن تقول له مالك ومالي ومال زوجي [2] أنا حرة [3] تكذب وتقول زوجي مسافر. ولاحظ أن المسيح يعرف كل شئ لكنه يريد الإعتراف. والخمسة أزواج ربما طلقوها أو ماتوا.

 

آية (19): "قالت له المرأة يا سيد أرى انك نبي."

هنا نرى المرأة قد أحسنت الرؤيا، وقد شعرت بهيبة الجالس أمامها، وحتى هذه اللحظة هي شعرت أنه على إتصال بالله ولكنه إنسان، عندما أفرغت المرأة خطاياها إستضاءت عينها ورأت المسيح على قدر ما استطاعت أن تبصر= أرى أنك نبي. بالإعتراف ينفتح القلب لله فتتدفق نعمة الله داخل القلب. والمرأة شعرت بهذه النعمة أن المسيح قادر أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويعلم الغيب فهو نبي.

 

آية (20): "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وانتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه."

ربما هذا السؤال لتغطي على خطيتها، لكن فيه نقطة إيجابية أن العبادة لله كانت نقطة تشغلها. هي حاولت الهروب من ماضيها، ولكن كان المهم أنها إنكشفت لنفسها واعترفت بخطيتها. والأكثر واقعية أنها إكتشفت أن الذي أمامها قادر أن يقودها كنبي في الطريق الصحيح ولكن إلى أين سيأخذها، هل إلى أورشليم حيث يقول اليهود أم إلى جرزيم حيث يقول السامريين. لقد إنقلبت الزانية إلى مصلية تبحث أين تصلي، وهي تبحث بصدق ممن آمنت به أنه نبي. والمسيح لم يدخل في شكليات التدين والمظهريات بل دخل إلى العمق، إلى السجود لله بالروح والحق. إن شكليات العبادة وترك العبادة بالروح يبعدنا عن الله. فنحن لو قدمنا عبادة حقيقية سنعرف أين الحق ولن نعود نسأل أين الحق. يجب ان يكون هدف عبادتنا أن نعرف المسيح.

 

آية (21): "قال لها يسوع يا امرأة صدقيني انه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب."

تأتي ساعة= هذه هي البشارة بالعهد الجديد، فبصلب المسيح لم يعد هناك داعٍ للذبائح. وبالتالي أصبح واجباً إلغاء الهيكل اليهودي. وصارت العبادة والسجود لأب الجميع= الآب أب الجميع. وعوض التنافر بين اليهود والسامريين ستصبح هناك عبادة واحدة، لواحد فقط هو الآب. صدقيني= هو يستعطفها لتصدقه فتجد راحتها. وكون أن الله يعبد في كل مكان تنبأ عنه الأنبياء (ملا11:1 + صف11:2)

 

آية (22): "انتم تسجدون لما لستم تعلمون أما نحن فنسجد لما نعلم لان الخلاص هو من اليهود."

لما لستم تعلمون= قال لما وليس لمن. أي القصد العقائد والشرائع والنواميس. فالمسيح لا يتكلم عن شخص الله بل عن أصول العبادة. حتى لا تفهم السامرية أن أورشليم تتساوى مع جرزيم، قال المسيح هذا حتى تفهم أن عبادة اليهود هي الحق، والسامريين ولو أنهم يعبدون الله إلاّ أن الله عندهم غير معروف فهم لا يؤمنون بالأنبياء الذين أعلنوا الله، أمّا اليهود فكانوا يعرفون الله معرفة صحيحة. والمسيح هنا لا يدافع عن اليهود بل عن الحق المعلن لليهود. فالله استأمنهم على أسرار الخلاص. وهو يدافع عن مصدر الخلاص الآتي الذي هو نفسه، ويشفق على السامريين إذ أن عبادتهم تذهب سدى بسبب عدم معرفتهم وغياب الحقيقة. والحقيقة أن المسيح (الخلاص) سيتجسد ويأتي من اليهود، وهذه الحقيقة أعلنها الأنبياء. أما نحن فنسجد= المسيح كلمها بلغتها أنتم ونحن. المسيح كإبن إنسان ضم نفسه في تواضع لجمهور العابدين. الخلاص هو عند اليهود= نرى هنا عدم المجاملة في العقائد. فالمسيح لم يقل "الكل واحد" بل هناك حق وهناك خطأ. وهم إنحرفوا عن أصول العبادة أي عن العقائد السليمة. أما نحن فنسجد لما نعلم= المعرفة التي أعطاها الله لموسى وللأنبياء.

 

آية (23): "ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له."

هنا المسيح إنتقل من السجود لما إلى السجود "لمن" الآن= لنترك الخلافات لأن الآن أصبح مفهوم السجود الحقيقي مختلف. السجود الحقيقي= أي سجود بإنتماء حقيقي لله، من أناس يعيشون لله وتقدسوا وإنفرزوا عن العالم ويكون سجودهم للآب بالروح والحق. وقوله الآن= فبالمسيح الموجود الآن عرفنا الآب. وبالمسيح الحق عرفنا الحق. وبالمسيح صار لنا الروح فهو أرسل لنا الروح يقودنا في العبادة.

بالروح= هو بهذا يهاجم اليهود الذين يتمسكون بالحرف.

وبالحق= هو بهذا يهاجم السامريين الذين عبادتهم مزيفة أخذت الشكل دون الجوهر، ودخلت فيها الوثنية.

والروح= معناها ضد كل ما هو جسدي ومادي وحرفي والحق= معناها ضد كل ما هو باطل ووهمي (هو سجود إنسان إختار حياة الإستقامة وعرف الحق أي المسيح فتحرر). والروح تشير لشعور العابد وإنسحاقه والحق تشير لفكر الساجد عن الخالق الذي يسجد له. وقوله الآن= لأن المسيح أوجد الإتصال مع الآب الذي نسجد له. فنحن في المسيح نسجد للآب بالروح. والمسيح هو الإستعلان الكامل للآب، فنحن صرنا نسجد لمن نعرفه. فالعبادة الحقيقية لا تكون إلاّ بالإبن. ويكون بهذه العبادة الحقيقية الخلاص.

والله روح ووضع في الإنسان عنصراً روحياً يقيم كيانه، ليكون مخلوقاً روحياً يتسنى له الإتصال بالله. والروح هي إداة الإتصال بالله، وفي وضع الإنسان السليم يكون الروح خاضعاً لله (رو8:1،9). والعبادة بالروح ليست مستعصية. فالآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له= فهو يجذبهم إليه. فالساجد بالروح والحق يطلب الله والله يطلب هذا الساجد فيحدث التلاقي. ولأن الله روح يطلب الساجدين بالروح ولأنه حق يطلب الساجدين بالحق. الساجدين= العابدين. والله يبحث عن هؤلاء العابدين ويفرح بنضوجهم الروحي ويتمجد فيهم فهو يرى صورته تتحقق فيهم.

 

آية (24): "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا."

معنى الكلام أن الله لا يدخل في كيانه أي شئ من قياسات العالم المنظور، لا الزمان ولا المكان ولا المحدودية فهو روح. ولكي نعبد الله علينا أن نسجد له بالروح وهنا لا يهم من الذي يسجد لله هل يهود أم سامريين، وأين يسجدون هل في أورشليم أم جرزيم، وهكذا العبادة في المسيحية لا ترتبط بمكان ولا زمان ولا أجناس، بل الكل يسجدون للآب، إذ آمنوا بإبنه المسيح. وحل فيهم الروح القدس ليقودهم في العبادة بالروح. السجود بالروح= (رو9:1) هو عبادة نقدمها لله منقادين بالروح، طالبين مجد الله لا أشياء تافهة لأنفسنا. ليس هو الإنحناء بل هو الشعور بوجود الله والإنسحاق أمامه. شاعراً الإنسان بخطاياه ونجاسته في مقابل قداسة الله وعطاياه ومحبته. مثل هذا السجود يعطي للإنسان أن يقبل توبيخ وتبكيت الروح القدس وأيضاً تشجيعه ويخرج الإنسان من صلاته وهو مملوء سلاماً وقد إزداد إنسحاقاً. وكلما إزداد إنسحاقاً يمتلئ من الروح فيمتلئ فرحاً. ولذلك ينبغي أن ندخل للصلاة ونحن تاركين أحزاننا وضيقاتنا، أو نبدأ صلاتنا بعرضها على الله وطلبنا منه أن يتصرف فيها(أي في ضيقاتنا). ثم نبدأ صلاتنا التي نطلب فيها الله لنعرفه ونمتلئ من الروح فيسهل على الروح أن يقودنا للعبادة التي تفرح قلب الله وتفرحنا. والإتصال بالله هو طعام الروح، إن لم يتم فالروح تجف ويبطل عملها، فلا يعود الإنسان يشعر بوجود الله، بل يشك في الله وفي الحياة الأبدية وذلك لأن أداة الإتصال معطلة. فالله وضع الروح كأداة إتصال بالله، فإمّا أن نستخدمها أو تنزع مواهبها منّا. وروح الإنسان النشطة تصير مكاناً لسكنى الروح القدس ومرافقته. فإذا أهمل الإنسان السجود بالروح لا يعود يحظى بزيارة الروح القدس والنعمة وتترصده الخطية فتتعتم الرؤيا. السجود بالحق= السجود بالروح فيه يملك الروح على القلب فينير فيعرف الحق. فتكون لنا فكرة صحيحة عن الله الذي نقدم له العبادة. ونعرف إرادته وفكره فمن يقدم عبادة لله وقلبه مملوء من الشهوات العالمية والأحقاد وطلب الماديات أو طلب الإنتقام من أحد فهذا ليس سجود بالحق. من يطلب الله لأجل الماديات فقط، لم يفهم أن الله أبدي وأعد لنا مجداً في الأبدية هو الذي يجب أن نتعلق به. السجود بالحق هو أن الله الحق يقودنا لنعبده بالحق فنعرف الحق فنتحرر. ومن يصلي وهو شاعر أن الله لا يمكنه حل مشكلته، هو لا يعبد بالحق، فهو لم يعرف أن الله قدير ولا يعسر عليه أمر. لكن من يصلي طالباً معرفة شخص المسيح القدير بل والتلذذ بالله (والله هو الحق) يكون ساجداً بالحق. وكما أعطى الله للإنسان الشهية للأكل أعطى الروح الشهية للعبادة والسجود والصلاة. ومن لا يأكل معرض للموت الجسدي. ومن لا يصلي معرض للموت الروحي ولكن الموت الروحي لا يشعر به الجسد، والنفس المستهترة لا تعيره إهتماماً. والمرأة حين سمعت هذا وجدت ملكوتاً أخر غير ما تسمعه في السامرة.

 

آية (25): "قالت له المرأة أنا اعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء."

كلما بدأت تقترب من المسيح يزداد إنفتاح بصيرتها وتدخل في المجال الروحي للمسيح. وهنا تتذكر وعد الله لموسى (تث18). وهي لاحظت أن الذي أمامها هو أكثر من نبي فهو يتكلم بسلطان وقوة شعرت بها، فهل يا ترى هو هذا المسيا المنتظر. مسيا= كما ينطقها السامريون الذي يقال له المسيح= هذا تعليق يوحنا البشير. والمسيح هو النطق اليهودي. يخبرنا بكل شئ= عن ملكوت الله الذي كله خيرات. وها المسيح يكلمها عن ملكوت عجيب. فهل هو يا ترى المسيح المنتظر.

 

آية (26): "قال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو."

توقع المرأة لهذه الحقيقة هو الذي دفع المسيح لإعلانها أنا هو الذي أكلمك و(أنا هو) هم إسم يهوه الشخصي. هذا قمة إستعلان المسيح لنفسه أنه يهوه. ويهوه هو الذي يصنع كل شئ جديداً. والمسيح أعلن نفسه بوضوح لهذه المرأة لبساطتها ولم يعلن نفسه بوضوح لليهود لخبثهم. وهو أعلن نفسه لها لأنها سألته. "أطلبوا تجدوا"

 

آية (27): "وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون انه يتكلم مع امرأة ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها."

نظرة اليهود للمرأة= كان اليهود يحتقرون المرأة. ومن أقوالهم "أشكرك أنت الرب الذي لم تخلقني امرأة ولا أممياً ولا عبداً" (الخدمة اليومية في المجامع). "الرجل لا يتكلم مع امرأة في مكان عام حتى لو كانت زوجته أو أمه" (إنذار الحكماء لليهود) "إنه خيرٌ لكلمات التوراة أن تحرق من أن تلقي على مسامع امرأة" (قول الربانيين لليهود) "أي رجل يعطي إبنته أي معرفة عن التوراة يكون كمن يعلمها الدعارة" (رابي اليعازر).

نظرة المسيحية "ليس رجل أو أنثى لأنكم جميعاً واحداً في المسيح يسوع" (غل28:3) لذلك تعجب التلاميذ أن وجدوا المسيح يكلم امرأة بل وسامرية ولكنهم تأدباً لم يسألوا المسيح لماذا فعل ذلك فهم كانوا يوقرونه ويخشونه.

 

آية (28): "فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس."

المرأة تركت جرتها كما ترك إبراهيم أور وكما ترك التلاميذ شباكهم، هم تركوا لأنهم حصلوا على الأعظم، فمن وجد اللؤلؤة كثيرة الثمن يترك باقي اللآلئ، من يجد الأعظم يترك الأقل. وهي ذهب بحياتها النقية الجديدة إلى المدينة لتكرز لأهلها. لقد بادت كل خطاياها السابقة، وأضاءت حياتها المعتمة من حوار لم يستغرق أكثر من دقائق معدودة مع المسيح. ترك الجرة هو إنقلاب كامل في حياتها، هو إعلان عن ترك كل حياتها القديمة.

 

آية (29): "هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت العل هذا هو المسيح."

لم تدع زوجها بل دعت كل الناس، تركت جرتها ونسيت صنعتها وملأ المسيح فكرها وقلبها وكأنها تقول مع أشعياء (1:55،3). هي فعلت ما لم يفعله التلاميذ. فهي كرزت بالمسيح دون أن يحل الروح عليها. فإن من يجد المسيح ينسى نفسه وكل شئ من إهتماماته. قال لي كل ما فعلت= هذا أكثر ما أثر في نفسيتها أن المسيح فاحص القلوب. ولكل إنسان إكتشافه الخاص في المسيح الذي يؤثر فيه ويجذبه. هذا التلامس مع المسيح يغير حياة من يتلامس معه. شهادتها هذه وإعترافها لا يأتوا إلا ممن إستنار قلبه. فالتائب الحقيقي يسهل عليه أن يعترف علناً. وهذا يطهره دم المسيح. أما السالك في الظلمة فلا يرى خطاياه.

 

آية (30): "فخرجوا من المدينة وأتوا إليه."

(إش5:55) إستجاب السامويون لنداء المرأة الحار وصدق مشاعرها.. من عرف المسيح يود لو أخبر كل الناس عنه. أين هذه المرأة من التي كانت تتلصص حتى لا يراها أحد. هذا ما عمله المسيح مع موسى الأسود وأغسطينوس. صارت غير خجلة من خطاياها، فالذي يخجل هو من لا يزال متمسكاً بخطيته.

 

الآيات (31-33): "وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين يا معلم كل. فقال لهم أنا لي طعام لأكل لستم تعرفونه انتم. فقال التلاميذ بعضهم لبعض العل أحداً أتاه بشيء ليأكل."

كان السيد عطشاناً لخلاص السامرية. وجوعاناً لخلاص أهل السامرة (إش11:53). والجوع لخلاص النفوس أخفى جوع الجسد. فالشبع الروحي يخفي جوع الجسد والعكس ليس صحيحاً. وكما لم تفهم السامرية الماء الذي من يشربه لا يعطش لم يفهم التلاميذ الأكل الذي يُشْبِعْ المسيح.

 

آية (34): "قال لهم يسوع طعامي أن اعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله."

كل ما يفكر فيه المسيح هو خلاص النفوس، وهذه هي إرادة الآب التي أرسله لأجلها فجسد المسيح تعيَّن أصلاً ليكون ذبيحة وليس لمجاراة أعوازه، بل العكس كان يُكمَّلْ بالآمه (عب10:2+ 9:5).

 

آية (35): "أما تقولون انه يكون أربعة اشهر ثم يأتي الحصاد ها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد."

إذا قارنا الروحيات بالروحيات فنحن نجد ظلال قصة الصليب في قصة السامرية مع المسيح.

1-   التلاميذ تركوه

2-   هو متعب ومجهد جداً من مسيرته.

3-   هو حبة الحنطة التي تسقط ليبدأ الحصاد.

4-   قوله أنه يريد أن يشرب الساعة السادسة.

5-   أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.

6-   الماء الذي أعطيه.

7-   أنا هو الذي أكلمك.

8-   إيمان السامرية.

9-   7 كلمات للسامرية.

.... تلاميذه تركوه وقت الصليب وهربوا.

.... مسيرته حاملاً صليبه.

.... يُصلب ليؤمن العالم كله. (إبيضت الحقول).

.... قول المسيح في الساعة السادسة أنا عطشان.

.... قول المسيح قد أكمل.

.... خرج من جنبه دمٌ وماء.

.... أنت تقول إني ملك لذا ولدت أنا.

.... إيمان الجندي الروماني "حقاً كان هذا إبن الله".

.... 7 كلمات على الصليب (كلام المسيح كامل).

الحقول إبيضت= هذا عن السامريين الذين بدأوا يتقاطرون عليه بعد كرازة السامرية لهم (ربما بملابسهم البيضاء فهذه ملابس السامريين، هؤلاء آمنوا أسرع من اليهود فهم أقل كبرياء ورياء.) والمسيح رأى فيهم حصاد المؤمنين الذي سيبدأ بعد صلبه (فهو حبة الحنطة). المسيح رأى في نضج الحقول أن نضج إيمان شعوب العالم به (يو24:12) وكان المسيح يتكلم مع التلاميذ وأمامهم حقول القمح خضراء والقمح يستمر في الأرض من منتصف أكتوبر حتى منتصف إبريل أي ستة شهور. يكون أربعة شهور= (وهناك ساعة بين البذرة التي ألقاها المسيح للمرأة السامرية وحصاد السامريين الذين آمنوا ويراهم التلاميذ الآن بملابسهم البيضاء فحصاد الأرض يأخذ شهور منذ أن تلقى البذرة في الأرض أما عمل المسيح فأخذ دقائق) وبهذا تكون القصة حدثت في منتصف شهر ديسمبر. وكان حصاد القمح في منتصف إبريل وهو نفس وقت الصليب. وإبيضت الحقول= المسيح هنا لا يتكلم عن حقول القمح بل عن حصاد المؤمنين الذي بدأت ثماره تظهر في إيمان السامريين. المعنى: كما تتوقعون أنتم من منظر الحقول أمامكم أن الحصاد إقترب، هكذا أنا أتوقع حصاد المؤمنين الكثيرون والذي بدأ بهؤلاء السامريين بملابسهم البيضاء.

ملحوظة: المسيح خدم حوالي 3.5سنة أي حضر أربعة أعياد فصح.

ويذكر في إنجيل يوحنا أن المسيح حضر الفصح (3مرات) (13:2+ 4:6+ 14:19) ولذلك يتبقى هناك فصح غير مذكور وتختلف الآراء بخصوصه.

1-   الرأي الأول أن الفصح الرابع هو المذكور في (يو1:5).

2- الرأي الثاني أن الفصح الرابع غير مذكور صراحة ولكننا يمكننا إستنتاجه من هذه الآية. فهذه الآية تثبت أن وقت حدوث قصة السامرية كان قبل عيد الفصح الناقص بأربعة شهور.

 

الآيات (36،37): "والحاصد يأخذ أجرة ويجمع ثمراً للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معاً. لأنه في هذا يصدق القول أن واحداً يزرع وآخر يحصد."

الثمر الذي يحصده الخدام أن يتوب الناس ويعرفوا المسيح ويحبونه ويحيون معه في قداسة ويتعبون لأجله ويتمسكوا بإيمانه ويشتاقون لمجيئه. الحاصد لم يتعب فهو يحصد نفوساً آمنت وهي جاهزة للحياة الأبدية فالأنبياء تعبوا في العهد القديم. والمسيح يتعب الآن، ويجذب النفوس ويخلصها بدمه. والتلاميذ يحصدون ما عمله المسيح وما عَمِله الأنبياء، ومع هذا فالمسيح يعطي أجرة للحاصدين (الخدام) لأنهم يجمعون مع المسيح ولأنهم تعبوا في خدمة كلمة الله. كل من يتعب لحساب الملكوت له أجره السماوي. أما من يتعب للأرض فأجره سيذهب للتراب.

 

آية (38): "أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه آخرون تعبوا وانتم قد دخلتم على تعبهم."

آخرون تعبوا= هم الأنبياء (عب35:11-40). وهم تعبوا دون أن يروا المسيح بل من بعيد نظروا المواعيد (عب13:11). لذلك فتعبهم يعتبر أكثر درجة من التلاميذ الذين عاشوا مع المسيح وتذوقوا حبه وإمتلأوا من الروح القدس. ما لم تتعبوا فيه= فالمسيح هو الذي تعب وجذب النفوس ومع هذا يكافئ من يعمل معه. المسيح هنا يشجعهم أنه هو الذي يعمل العمل الأصعب ومع هذا يكافئهم.

 

الآيات (39-41): "فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد انه قال لي كل ما فعلت. فلما جاء إليه السامريون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يومين. فآمن به اكثر جداً بسبب كلامه."

هناك من آمن بسبب شهادة المرأة، ثم بعد أن استمعوا له آمنوا به أكثر جداً بسبب كلامه. والعجيب أن أهل السامرة لم يطلبوا آيات ولا معجزات بل إقتنعوا بالتعليم. وواضح سرعة إيمان السامريين بالنسبة لليهود. بل أن اليهود قاوموه في كل مكان وحاولوا قتله بالرغم من كل المعجزات التي صنعها وسطهم.

سألوه أن يمكث عندهم= هل نطلب أن تطول مدة عشرتنا مع المسيح يومياً.

 

آية (42): "وقالوا للمرأة أننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم."

قارن مع (نش3:3،4) فالنفس تستمع للخدام يكلمونها عن المسيح، كما إستمع السامريون للسامرية. لكن لابد من الخبرة الشخصية. وهم قبلوه إذ لم يتعالى عليهم كما يتعالى اليهود عليهم. ثم سمعوا كلامه عن السجود للآب بالروح والحق فآمنوا به. والسامريين هم أول من توصل إلى أن المسيح هو مخلص العالم وروعة إيمان السامريين [1] في وقت قصير [2] لم يطلبوا معجزات [3] لم يكن لهم نبوات كاليهود.

إنجيل السامرية يقرأ 3 مرات:

1-   في الصوم الكبير.. كنموذج للتوبة، وعمل الله في حياة الإنسان وسعيه وراء توبة كل إنسان ليجدده.

2- في الخمسين المقدسة.. رمز للحياة الأبدية (المياه التي لا يعطش من يشربها) فبنهاية الخمسين حلول الروح القدس والخمسين كلها فرح بالقيامة (الحياة الأبدية التي حصلنا عليها). والمسيح هو الذي يروي النفوس حقيقة وليس ملذات العالم. وهو ما نحتاجه خلال رحلتنا إلى السماء، فهو خبز الحياة وماء الحياة ونور الطريق بل هو الطريق إلى السماء.

3-   ليلة السجدة.. ففي هذا الإنجيل سمعنا عن السجود لله بالروح والحق.

ولاحظ أن هنا سامريين قبلوا المسيح. لكن في (لو35:9) نجد سامريين رفضوا أن يعبر يسوع بمدينتهم، ففي كل شعب هناك من يقبل المسيح وهناك من يرفضه.

 

الآيات (43،44): "وبعد اليومين خرج من هناك ومضى إلى الجليل. لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه."

بعد اليومين= أداة التعريف "الـ" تشير لأهمية هذين اليومين، إذ آمن فيهما شعب مدينة. خرج من هناك= خرج من السامرة. ومضى إلى الجليل لأن شعب اليهودية لمن يقبله، وأيضاً شعب الناصرة رفضوه، لذلك ذهب إلى الجليل. إذ ليس لنبي كرامة في وطنه (مثل يهودي معروف)= والمقصود بوطنه إمّا اليهود أو الناصرة. والمسيح لا يبحث عن كرامة في هذا العالم، بل هو يبحث عن أرض تثمر فيها كلمة كرازته. أمّا لماذا يكون النبي بلا كرامة في وطنه فهذا بسبب أن أهله تتملكهم الغيرة من شهرته. الجليل هنا هو الجليل الأعلى فالجليل يبدأ بعد السامرة مباشرة. لكن المسيح لم يشأ أن يبقى في وطنه الناصرة بسبب مقاومتهم له.

 

آية (45): "فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد لأنهم هم أيضاً جاءوا إلى العيد."

الجليليون= هم غير مقبولين من يهود اليهودية لإختلاطهم بالأمم. هنا نرى الفرق بين الجليليين الذي آمنوا بسبب المعجزات التي صنعها في أورشليم، والسامريين الذين لم يروا آية واحدة وبهذا يصير السامريون أفضل من الجليليين. على أننا سنرى في (66:6) أن الجليليين سوف يرفضون المسيح، فهم قبلوه أولاً لمعجزاته لا لشخصه. وقبلوه أي رحبوا به. عموماً فيوحنا يشير إلى أن من قبل المسيح ليسوا اليهود بل السامريين والجليليين الذين يحتقرهم اليهود.

 

آية (46): "فجاء يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً وكان خادم للملك ابنه مريض في كفرناحوم."

أيضاً= ثانية. فالمسيح يسعى ثانية لمن يقبله أولاً. خادم للملك= أي ضابط في الجيش برتبة عظيمة فهو كرئيس ديوان الملك. والملك هو هيرودس أنتيباس الذي كان معروفاً بإسم الملك وكثير من العلماء يقولون أن هذا الضابط هو خوزي (لو3:8) زوج يونّا المرأة التي كانت تتبع المسيح مع النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن الخاصة. وقال آخرون أنه مناين (أع1:13). صنع الماء خمراً= ولم يقل حول الماء إلى خمر. فهو أوجد شيئاً من العدم، خلقه. فالخمر عناصره أكثر من عناصر الماء.

 

آية (47): "هذا إذ سمع أن يسوع قد جاء من اليهودية إلى الجليل انطلق إليه وسأله أن ينزل ويشفي ابنه لأنه كان مشرفاً على الموت."

كفرناحوم على شاطئ بحر الجليل. وقانا هي على هضبة أعلى من البحر. والمسافة بينهما 16كم لذلك سأله أن ينزل من قانا إلى كفرناحوم (والمسيح قادر أن يشفيه دون أن ينزل، هذا يعبر عن ضعف إيمان السائل) هذا إيمانه أقل من إيمان قائد المئة الذي قال للسيد "قل كلمة فقط فيبرأ غلامي" (مت8:8).

 

آية (48): "فقال له يسوع لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب."

المسيح يعطيه درساً في أنه يجب أن يؤمن دون أن يرى (فهو كان يريد أن يرى معجزة حتى يؤمن). فالإيمان بالكلمة يستقر في القلب، أمّا الإيمان بالمعجزة فيستقر في العقل حيث يكون معرضاً للشك والنسيان.. [هذا الضابط غير قائد المئة في (مر24:9)]. والمسيح هنا يريد أن يقول له آمن أولاً فتحدث المعجزة.

 

آية (49): "قال له خادم الملك يا سيد انزل قبل أن يموت ابني."

الأب في جزع نسى آداب الحديث مع من جاء يطلب منه الحياة. فهو في تعجله ليس مستعداً للدخول في حوار حول الإيمان بل يلح في طلب المعجزة. هو نظر إلى المسيح كصانع معجزات فحسب. مثلما يفعل الناس الآن فهم ينظرون للقديسين لا ليتعلموا من حياتهم بل يرونهم كصانعي معجزات فقط. لكن هذه العبارة يا سيد إنزل= نرى فيها [1] إيمان الرجل [2] لجاجة الرجل.. مع [3] قصور في المعرفة. فهو لم يتصور أن المسيح هو قادر أن يشفيه بكلمة.

 

آية (50): "قال له يسوع اذهب ابنك حي فآمن الرجل بالكلمة التي قالها له يسوع وذهب."

الرب نظر بشفقة لهذا الرجل الذي سافر مسافة طويلة ليلتقي به وثقته أنه سيشفي إبنه. ولم يرد أن يخيب ظنه. والرب يطٍّوب الإلحاح واللجاجة كما حدث من هذا الرجل. إذهب إبنك حي= قول لا يقوله سوى الله. من له سلطان أن يحيي. والضابط أخذها كأنه وعد من الملك أو أمر واجب التنفيذ. المسيح أبرأهُ من ضعف إيمانه كما أبرأ الغلام. فآمن الرجل= فهو لم يناقش أو يسأل بل أخذ الكلمة كما هي ومشى.

 

الآيات (51،52): "وفيما هو نازل استقبله عبيده واخبروه قائلين ان ابنك حي. فإستخبرهم عن الساعة التي فيها اخذ يتعافى فقالوا له أمس في الساعة السابعة تركته الحمى."

سؤال القائد عن الساعة كان حتى يتأكد أن الشفاء لم يكن عَرَضاً بل حينما نطق المسيح. هنا نرى سؤال القائد الذي سيحكم به على المسيح، فإمّا يؤمن به أو لا يؤمن. ومن هنا نرى لماذا كلمه الرب عن الإيمان. (آية48) فهو كان ضعيف الإيمان. إستقبله عبيده= هذه تظهر مركز الرجل الهام.

 

آية (53): "ففهم الأب انه في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع أن ابنك حي فآمن هو وبيته كله."

لقد خبأ كلمة المسيح في قلبه والآن أفرخت هذه الكلمة في قلبه. وهنا نسمع لأول مرة عن إيمان عائلة بأكملها. ونلاحظ أن المسيح يعرف إحتياج كل شخص. فأهل السامرة آمنوا بالكلام. والقائد آمن بمعجزة، فإن كانت المعجزة هي السبيل للإيمان فالله لا يمانع. والسامرة وبيت القائد آمنوا وهذا ما يريده المسيح. ولكن نستنتج من القصة أن المسيح يريد أن يُعلِّمْ أن الإيمان يقيم من الموت لذلك كان يلح على القائد أن يؤمن (يو21:5،24). هنا نرى فائدة التجارب، فالمرض الذي لحق بالولد كان سبب إيمان عائلته كلها. إبنك حي= تعبير الخدام هو نفسه تعبير الرب (آية50) ثم يكررها يوحنا (آية51،53). قيل هنا فآمن هو وبيته وقيل في (آية50) فآمن الرجل. وآمن في (آية50) تعني أن الرجل صدق كلمة المسيح. ولكن آمن في هذه الآية تشير لإيمانه بشخص المسيح. وحتى الآن فهناك من يؤمن بالعقيدة ويدافع عنها لكن تنقصه الخبرة الشخصية بالمسيح.

 

آية (54): "هذه أيضاً آية ثانية صنعها يسوع لما جاء من اليهودية إلى الجليل."

آية= الكلمة آية تشير لعمل فيه إشارة لشخص صانع العمل. هذه ثانية المعجزات التي صنعها المسيح في قانا الجليل ليظهر مجده. في الأولى أمام الحاضرين في العرس والثانية أمام كل الموجودين في بيت القائد. لكن رأينا من قبل أن شروط الخلاص هي [1] الصليب [2] الإيمان [3] المعمودية. وهنا نرى كيف شفى المسيح ضعف إيمان هذا الرجل.إذاً علينا أن نأتي للمسيح معترفين بضعف إيماننا وهو قادر أن يشفي إيماننا. بل رأينا هنا قوة الكلمة، فبكلمة عن بعد شفى المريض.

 

ملحوظات:

1)    حتى الآن قدّم المسيح نفسه.

·          في أورشليم للفريسيين والرؤساء.

·          في اليهودية للشعب المتعصب اليهودي.

·          في السامرة للشعب المنبوذ.

·          في الجليل للشعب البسيط فلاحين وصيادين.

·          وتبدأ بعد ذلك فترات الصدام بين المسيح واليهود التي تنتهي بآلامه.

2)  السيد صنع هذه المعجزة، وكانت نتيجتها إيمان أسرة بأكملها، وهذا هو هدف أي معجزة، أن يتمجد إسم الله حين يؤمن به الناس. وإذا كان المعجزة هي الوسيلة التي ستجعل شخصاً ما يؤمن بالله، فالله يسمح بالمعجزة. لكن الله يفضل أن نؤمن به إذ نتعرف على شخصه ونحبه لشخصه دون طلب معجزات.

3)  نلاحظ هنا أن المسيح تباطأ في عمل المعجزة، وتكلم مع الرجل عن الإيمان. لكن حين يتباطأ الله في الإستجابة فإن هذا يكون لزيادة الإيمان.

4)    في آية (54) حين يقول ثانية فهذا لإظهار عظمة السامريين الذين آمنوا دون أي معجزة. و"طوبى لمن آمن ولم يرى".


 

الإصحاح الخامس

رأينا في إصحاح (1) أن الكلمة صار جسداً، ويوحنا المعمدان يشهد له بأنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم. ورأينا تلاميذ يوحنا المعمدان يتحولون إلى المسيح. ويوحنا المعمدان كان آخر أنبياء العهد القديم. والمعنى أن تلاميذ العهد القديم يتحولون للمسيح. وأنهم بدأوا يكتشفون المسيح، حتى لمن كان يشك فيه كنثنائيل. ورأينا في إصحاح (2) المسيح يحول الماء إلى خمر، فهو أتى ليعيد الفرح للإنسان، لكن على الإنسان أن يحاول أن يطهر نفسه، وإن لم يفعل فالمسيح بسوط تجاربه يطهره كما طهر هيكله. وفي إصحاح (3) نرى لزوم المعمودية لنولد من جديد. وفي إصحاح (4) نرى نموذج للتجديد، فالسامرية الخاطئة تحولت لكارزة.. ورأينا أهمية العبادة بالروح والحق. ثم رأينا قصة شفاء إبن خادم الملك بكلمة. وفي بداية إصحاح (5) نرى شفاء مريض بركة بيت حسدا بكلمة من السيد المسيح "قم. إحمل سريرك وأمشى". وفي المعجزتين الأخيرتين نرى قوة الكلمة التي تشفي فوراً. والفرق بين المعجزتين أنه في شفاء إبن خادم الملك نرى أنه يجب أن نأتي للمسيح فيشفينا ويشفي إيماننا. وفي معجزة مريض بركة بيت حسدا نرى المسيح يذهب للمريض إذ هو يائس تماماً. وبعد هذا نتعرف على من هو المسيح، فهو خبز الحياة المشبع إصحاح (6) وهو ماء الحياة إصحاح(7) وهو النور إصحاح (8) وكتطبيق على النور نجد في إصحاح (9) شفاء الأعمى وفي (10) هو الراعي الصالح.

 

معجزة تحريك الماء:

الماء المتحرك يرمز للروح القدس. وتحريك الماء والشفاء كان نبوة وتحريك لأذهان اليهود أن شيئاً ما سيحدث قريباً. كان هذا إشارة للروح القدس (الماء الحي واليهود يسمون الماء المتحرك ماء حي) الذي سيحل على كنيسة المسيح ليشفي طبيعتنا. وكان من ينزل أولاً يشفى. ومن الطبيعي أن من يستطيع النزول أولاً هم الأقوياء، وفي هذا إشارة إلى أن الأقوياء روحياً في العهد القديم كان الروح القدس يتعامل معهم كالأنبياء مثلاً ويشفيهم. أما مريض بركة بيت حسدا فهو يشير لمن ليس له أحد وهو في حالة ضعف، غير فاهم ولا يدري شئ، وهذا حال كل البشر قبل المسيح ما عدا قلة. والمسيح أتى لهؤلاء الضعاف ليشفيهم. هذه المعجزة هي إشارة لأن هناك تدخل سماوي سيحدث ليشفي الأمراض. وكان الملاك الذي يحرك الماء رمزاً للمسيح الذي سيرسل الروح القدس. فملاك يعني مرسل، والمسيح أرسله الآب.

 

وكيف يشفى المسيح موتى الخطية؟

الإبن له حياة في ذاته، وهو يحيي من يشاء (آيات21،26) ومن يسمع له يقوم من موت الخطية الآن (آية25) ويقوم إلى قيامة الحياة في الأبدية (آية29). فالمسيح الذي ظهر أمامنا كإنسان هو له قوة حياة، فيه حياة يريد أن يعطيها لكل واحد فيحيا. ولكن الذي يحصل على هذه الحياة هو من يسمع للمسيح، أي يسمع كلامه وينفذه. والشفاء الذي ستحصل عليه هنا على الأرض سيكون جزئياً، لكن في السماء سيكون لنا أجساد ممجدة. هذا هو الشفاء الكامل والحقيقي.

 

لماذا صنع المسيح المعجزة في يوم السبت؟

ليس هذه المعجزة فقط، بل المسيح غالباً ما كان يشفي يوم السبت. والله منع شعبه من العمل يوم السبت حتى يتفرغوا للعبادة ويذكروا إنتمائهم لله. وقال لهم الله أنه إرتاح يوم السبت. فما معنى راحة الله؟ وهل الله يتعب؟! الله لا يتعب حتى يستريح. ولكن راحة الله هي في خلاص الإنسان. فحين يقول إستراح الله في اليوم السابع فهذا معناه أن الله إستراح حينما تمم خلاص البشر في اليوم السابغ فراحة الله في كمال عمله. فالراحة هي راحة الله في الإنسان وراحة الإنسان في الله. فما كان يفصل بين الله والإنسان هو الخطية التي مات المسيح ليرفعها عنا ويصالحنا على الله. والله في (حز20) نجده يقول ليدلل على محبته لشعبه أنه أعطاهم الوصية والسبت. فالله لم يذكر خروجهم من مصر ولا شق البحر.. الخ. الله رأى أن أعظم ما قدمه لشعبه هو الوصية (ليحيوا سعداء على الأرض) والسبت (ليذكروا إنتمائهم للسماء فيكون لهم نصيب في السماء). لكن اليهود خرجوا من المعنى الروحي، وفهموا الوصية أو طبقوها بمعنى حرفي فقط فمنعوا أن يحمل إنسان حتى إبرة خياطة يوم السبت. والمسيح أتى ليصحح هذه المفاهيم، ليعيد المعنى الروحي، ففي المسيحية العبادة ستكون بالروح والحق.

وهنا المسيح يشرح الآتي:

1.    الآب يعمل حتى الآن فلماذا تعتبرون الشفاء خطأ يوم السبت. ولو توقف الآب عن العمل لحظة لهلك العالم.

2.  الإبن يعمل في حفظ العالم فلماذا تعتبرون الشفاء خطأ يوم السبت. ولاحظ أن الإبن لا يعمل بالإنفصال عن أبيه فهما واحد، بل هو عامل مع أبيه.

3.  حينما يشفي المسيح فهو يشفي الإنسان كله (يو23:7) والمعنى أن المسيح شفاه نفساً وجسداً وروحاً. وطالما شفي روحه بأن غفر خطاياه، إستراح هذا الإنسان في الله، والله إستراح فيه، فتحقق مفهوم السبت، فما الخطأ في ذلك؟

4.  إذا تصادف اليوم الثامن لطفل ان كان يوم سبت، كان يختنون الطفل، فالختان في نظرهم عمل مقدس (يو22:7،23) وذلك لأن الختان يجعل الطفل من شعب الله أي إبناً لله. فالختان هو قطع كل رباط للشر ومريض بيت حسدا كان مختوناً ولكنه أخطأ، والمسيح شفاه وغفر خطاياه، فأعاده للعهد مع الله، أعاده كإبن لله. فما الخطأ الذي صنعه المسيح إذ أراح الله بأن غفر خطية المريض وشفى له روحه وأراح الإنسان إذ شفى إنسان يوم السبت.

5.  المسيح في كل عمل يعمله يحقق إرادة الآب (آية19)، فهو لا يقدر أن يعمل شيئاً إلاّ ويكون الآب موافقاً عليه (وهذا لتطابق إرادتهما ومشيئتهما).

ببساطة المسيح يشفي في السبت ليشفي اليهود من المفهوم الحرفي وينقلهم إلى العبادة بالروح والحق. هم فهموا السبت راحة ونوم للجسد. بينما أن أشعياء يشير لأن السبت تلذذ بالرب (13:58،14). إذاً هو فرح بالرب.

·        ولاحظ أن هذا المريض يعبر عن حال البشر المنحط الذي وصلوا إليه قبل المسيح.

1)    محطم جسدياً بسبب مرضه الذي طال (38سنة) مدة توهان الشعب في البرية وهي ترمز لمدة غربتنا في العالم.

2)  محطم نفسياً فهو شاعر بأن لا أحد يهتم به ليلقيه في البركة، ولا الملائكة التي تحرك الماء تهتم به. هو فاقد الثقة في السماء والأرض.

3)    محطم روحياً بسبب خطيته. والخطية فيها إنفصال عن الله.

والمسيح شفاه من هذا كله (23:7). هو أتى لشفاء البشرية المعذبة.

في هذا تطبيق لما قاله أشعياء "فرأى أنه ليس إنسان وتَحيَّر من أنه ليس شفيع. فخلصت ذراعه (المسيح المتجسد) لنفسه" (أش16:59).

 

آية (1): "وبعد هذا كان عيد لليهود فصعد يسوع إلى أورشليم."

كان عيد= هناك رأيان أولهما أن هذا العيد هو الفصح الرابع للمسيح أثناء مدة خدمته وثانيهما أنه عيد الخمسين وأصحاب هذا الرأي يقولون أنه لو كان الفصح لقال العيد وليس عيد غير معرفة فالفصح أشهر الأعياد. والمسيح يتخذ فرصة تجمع مئات الألوف في أورشليم ليقدم نفسه للجموع. فصعد يسوع إلى أورشليم= كما ذهب الرب إلى السامرة ليقابل السامرية صعد إلى أورشليم ليشفي المريض المقعد، فهو الذي يأخذ المبادرة ليشفي أمراضنا ويلاقينا، فقط نحن نحتاج أن نكتشفه، وهو سيشفى ضعفنا الروحي. ولكن قوله عيد اليهود بدون تحديد وعمل المعجزة في سبت وهو رمز لليهود أن المسيح جاء ليشفي كل من كان تحت الناموس. وقوله أبي يعمل وأنا أعمل فلأن المسيح يخلقنا الآن خلقة جديدة ويكون العيد والسبت هما رمز للراحة الحقيقية والشفاء الحقيقي الذي جاء المسيح ليعمله.

 

آية (2): "وفي أورشليم عند باب الضأن بركة يقال لها بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة."

باب الضأن= هو باب في سور أورشليم بجانبه الحظيرة التي يأتون منها بالخراف لتقديمها ذبائح. وحينما فشلت ذبائح الناموس في شفائنا أتى المسيح ليشفينا. بركة بيت حسدا= أي بركة بيت الرحمة. وإسمها هذا راجع للأشفية التي كانت تجري فيها. ولقد طالما هاجم نقاد الكتاب المقدس هذا النص إذ لم يستدلوا على بركة بهذا الإسم إلى أن تم إكتشاف البركة فعلاً ووجدوا لها 5 أروقة ووجدوا أنها إنطمست أثناء غزو الرومان. والأروقة هي دهاليز مسقوفة تستعمل كأماكن إنتظار للمرضى. والبركة طولها 100متر. وعرضها يتراوح بين 50-70متر. وحولها أعمدة قسمت المساحة لخمس صالات للإنتظار. وكان اليهود يستخدمون هذه البركة للتطهير الناموسي ويتركون ملابسهم في الأروقة ليغتسلوا فيها. إلى أن حدثت ظاهرة تحريك الماء فتحولت البركة إلى مكان إستشفاء. وكان المرضى يضطجعون في هذه الأروقة. وكانت هذه الظاهرة علامة على قرب مجيء المسيح الشافي الذي كان اليهود ينتظرونه.

معاني الأرقام: 5 أروقة + المقعد له 38سنة. ورقم 5 يشير للنعمة وللمسئولية ورقم 38 يشير لسنوات تيه الشعب في البرية (تث14:2). والمعنى أن العالم قبل المسيح كان في تيه بلا أمل في الشفاء إلى أن أدركته نعمة المسيح.

 

آية (3): "في هذه كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء."

عُسم= مرضى بأنواع من الشلل. تتيبس فيه المفاصل. عمي وعرج= إذاً هي أمراض عسيرة وقوله عُسم وعمي وعرج فهذا إشارة لحال الناس قبل مجيء المسيح. تحريك الماء= الماء المتحرك هو ماء حي إشارة للماء الحي الذي يعطيه المسيح كما قال للسامرية، وللماء الذي يَلِدْ كما قال لنيقوديموس والماء الذي يتحول إلى خمر كما حدث في عرس قانا الجليل. وهو إشارة للروح القدس الذي يرسله المسيح.

 

آية (4): "إن ملاكاً كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه."

يقول يوحنا ذهبي الفم أن هذا سبق تصوير للمعمودية. وتحريك الماء إشارة إلى ما سيعمله الروح القدس. وهنا نرى تدخل سماوي إعجازي في العهد القديم لشفاء أمراض ميئوس من شفائها بنوع من الرحمة الإلهية (هذا معنى بيت حسدا). وفكرة الماء الذي فيه قوة للشفاء والحياة موجودة في العهد القديم (نعمان السرياني+ الذين شربوا من المياه النابعة من الصخرة لم يمرضوا 1كو4:10+ تث4:8) والمسيح شفى الأعمى بأن صنع له مقلة من طين ثم أمره أن يغتسل في بركة سلوام إشارة لما يعمله الروح القدس. فالملاك الذي يحرك الماء هو إشارة للمسيح السماوي الذي أتى ليرسل الروح القدس.

 

الآيات (5،6): "وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة. هذا رآه يسوع مضطجعاً وعلم أن له زماناً كثيراً فقال له أتريد أن تبرأ."

يوحنا ينتقي المعجزات التي تثبت لاهوت المسيح (أش4:35-6، 18:29،19+ أر7:31،8+ مز7:146،8) فهذا ليس شللاً عادياً بل هو مشلول منذ 38سنة.. كما شفى الأعمى منذ ولادته وأقام لعازر بعد أربعة أيام. ولنثق أنه مهما طالت مدتنا تحت الخطية فالمسيح قادر أن يشفينا ويجددنا. هذا الفصل يقرأ قبل أحد التناصير للموعوظين الذين سيعمدوا في أحد التناصير. فالمفلوج يمثل الحياة القديمة وبالمعمودية يصير الإنسان جديداً ويولد من جديد من الماء، له قوة على الحركة في إتجاه السماء والشفاء من الشلل الروحي.

أتريد أن تبرأ= هناك من لا يريد أن يبرأ فمرضه صار مصدر رزق يتكسب منه. والمسيح يحترم الإرادة الإنسانية وهو لا يقتحم الإنسان، فنحن مخلوقين على صورته في حرية الإرادة. والمسيح يريد أنت يظهر أن مناط أمر الإنسان هو بيد الإنسان، والأهم هو شفاء الإنسان من الخطية. ويكون سؤال المسيح معناه هل عندك إرادة أن تترك خطيتك، فنحن فهمنا من أن المسيح قال لهُ لا تعود تخطئ أيضاً (آية14) أن سبب مرضه هو الخطية. والخطية لها نتائج وخيمة على الإنسان ولذلك فبعد توهان 38سنة دخل الشعب لأرض كنعان، وكانوا حينما يخطئون يسلمون لأيدي الأمم فيذلونهم. والخطية في حياة هذا المقعد هي التي حطمته بعد أنت إستعبدته، ولكن المسيح رأي فيه بقايا من إرادة فأتى إليه ليشجع الرجاء الذي فيه، وهذا يعطي رجاء لكل خاطئ فلا ييأس. ولكن لنلاحظ أن الخطية مع الاستمرار فيها فترات طويلة تطمس الإرادة في الإنسان فلا يعود يشعر بأنه يفعل خطأ ولا يريد التغيير. وهذه الحالة غير التي وصفها بولس الرسول حين قال "حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي" (رو21:7). هنا هو يجد قوة تقاومه لكن إرادته تنتصر. والمسيح بسؤاله كان يشفيه ويخلق له إرادة، والإرادة يصحبها همة للتغيير والعمل. ولذلك قال المسيح لليهود كم مرة أردت.. ولم تريدوا (مت37:23) والمسيح لم يسأل المقعد هل تؤمن فهو لم يسمع به من قبل (12:5،13)، أتى ليقدم له شفاء مجاني.

 

آية (7): "أجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر."

ليس لي إنسان= المسيح يسأله عن الإرادة فأجاب بأن ليس له إنسان. هو أسقط الموضوع على الآخرين. كأنه يقول المشكلة ليست فيّ بل في الآخرين فالخاطئ دائماً يبرر نفسه. لكن عموماً علينا أن نستفيد من هذا بأن نقدم خدمات لكل محتاج حتى لا يشتكي علينا أحد. كم مرة ألقينا همنا على الناس وفشلنا، لكن إذا ألقينا همنا على الله فلن نفشل (1بط7:5). ويبدو من قول المفلوج أنه كان معروفاً بفظاظته وقسوته حتى في مرضه، حتى لم يبق له إنسان يلقيه في البركة، فقد إنفض عنه كل الناس وكرهوه وهذا عكس الإنسان المفلوج الذي دلاّه أصدقاءه من السقف (مر1:2-11). ولكن المقعد عوضاً عن أن يلقي باللوم على نفسه يلقي باللوم على الآخرين= بينما أنا آتٍ ينزل قدّامي آخر هذه مثل الآخرون يأخذون فرصتي.

 

الآيات (8،9): "قال له يسوع قم احمل سريرك وامش. فحالاً برئ الإنسان وحمل سريره ومشى وكان في ذلك اليوم سبت."

هذا حال كل من يصدق المسيح، فكلمة منه تحيي العاجز وتنتهر الخطية فتلاشيها (يو63:6+ 25:5) فالمقعد نموذج لموتى الخطية ولكن لو لم ينفذ هذا المفلوج أمر المسيح ما كان قد شُفِىَ. وكان لو أعمل عقله لقال كيف أقوم. لكن هو نفد. والمسيح الفادي قدَّم شفاؤه للمقعد دون أن يطلب منه شيئاً. وهكذا فدانا دون ثمن؟ والله يعطي القوة وله سلطان عجيب قم/ إحمل/ إمش. بل إن نقطة الضعف تصبح مصدر قوة ونهضة بعد أن كانت يأساً. أوامر المسيح هي وعود في صورة أوامر وهكذا كل وصايا المسيح (1تس24:5). فكل وصية تحمل في داخلها قوة على التنفيذ. فحالاً= عجيب أن يقوم دون أن يسنده أحد وبدون علاج طبيعي بعد كل هذه المدة من الشلل. والمسيح أعطى المقعد حياة جديدة:

قم= ترمز إلى جدة الحياة التي أعطاها له.

إحمل= ترمز إلى قوة الحياة التي أعطاها له.

إمش= ترمز إلى السلوك في هذه الحياة الجديدة.

سريرك= في اصلها اللغوي هي فرشة الفقير وهي من الحصير. وسريره يمثل ذكرياته المؤلمة عن المرض. وحمل السرير إشارة لطرد الذكريات والخبرات المؤلمة فما عادت تعيق حركته ونموه. هو إشارة لوضع ذكرياتنا المؤلمة وراء ظهورنا لنتقدم.

 

الآيات (10،11): "فقال اليهود للذي شفي انه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك. أجابهم إن الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامش."

المسيح هو رب السبت (مر28:2+ لو5:6) وهو جاء ليعطي سبتاً أي راحة من نوع جديد عوض الراحة الجسدية القديمة (عب10:4) وإجابة المقعد تدل على تقدير لشخص المسيح أكثر من تقديره للسبت، أيسمع للناموس الذي لم يشفه أم يسمع للمسيح الذي شفاه. ومشكلة اليهود مع المسيح هي [1] الشفاء في السبت [2] أنه قال للمفلوج أن يحمل سريره. وكان اليهود قد غالوا في موضوع السبت حتى أنهم قالوا إن من حمل إبرة في ثيابه فقد كسر السبت. والسيد المسيح شرح لهم أن الأعمال الصالحة جائزة يوم السبت مثل الختان ورفع خروف من حفرة ليفهموا أن لا يتقيدوا بالحرف (لا3:12+ يو22:7-24+ مت2:12-8،11-12+ يو16:9). ولكن كراهية اليهود للمسيح كانت ليس بسبب كسره السبت، بل لحسدهم لهُ لشهرته بسبب معجزاته.

فقال اليهود= اليهود هم الرؤساء الدينيون.

 

آية (12): "فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش."

هذا السؤال هو سخرية من المسيح، فهم يضعونه على أنه إنسان في مقابل الناموس. والله واضع الناموس، أي هل تطيع مجرد إنسان قال لك ولا تطيع الله وناموسه. ومن عمى اليهود أنهم لم يروا قوة المعجزة التي حدثت بل طلبوا رجم المسيح. وللآن وسط كل مراحم الله لا نرى سوى آلام تجربة سمح بها ولفائدتنا. والمسيح حاول جاهداً أن يشرح لهم أن فعل الخير يحل في السبت (الختان/ حمل خروف) وما دام يحل فعل الخير في السبت فيحل شفاء إنسان في السبت (مر4:3+ لو3:14-6).

 

آية (13): "أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع."

لم يكن من طبع المسيح أن يلفت الأنظار إليه بل يأتي للمحتاج سراً. لم يكن يعلم من هو= هذه مشكلة المفلوج ومشكلتنا أننا نهتم بالعطية ولا نهتم بشخص العاطي أي بالمسيح لنتعرف عليه. بينما أن هدف العطايا أن نتعرف عليه.

 

آية (14): "بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل وقال له ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر."

المسيح الذي حمل خطايانا على الصليب هو حمل خطايا هذا المقعد وغفرها له ليشفيه. حمل خطاياه في جسده الذي سيعلق على الصليب، والمسيح يعطي المقعد نصيحة أن لا يخطئ ثانية حتى لا يعود لنفس الحال. والمسيح أتى للمقعد حتى لا يظل جاهلاً من هو المسيح ليعطيه إمكانية الإيمان به. ولاحظ أن المقعد ذهب للهيكل غالباً ليقدم الشكر لله. ونلاحظ أنه كلما نعود لخطية تركناها يكون لنا أشر، فالضربات تتصاعد حتى نتوب. فهذا جزاء الإستهتار بغني لطف الله وإمهاله. وقوله أشر يشير لأن يحدث مرض أصعب له أو للدينونة على الخطية.

 

الآيات (15،16): "فمضى الإنسان واخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه. ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت."

المقعد ذهب ليبشر بالمسيح الذي صنع المعجزة أو ليبرر تهمة حمل السرير ويلقيها على المسيح. ومن هنا حدث التصادم بين المسيح واليهود. والمسيح رد عليهم في الآيات (17،21،23،24..الخ). طلبوا أن يقتلوه= من أول هنا ستتكرر محاولات اليهود لقتل يسوع. لكنهم لن يقدروا حتى تأتي ساعته. وهذا يثبت أنه سلم نفسه بإرادته. هو كان قادراً أن لا يصلب. لكن هو أتى لهذا بإرادته.

وصل جنون اليهود في موضوع السبت أنهم قالوا أن الله نفسه ملتزم بالوصية فلا يعمل يوم السبت خارج حدود مسكنه الذي هو السماء والأرض، ولا يسير مسافة أطول من قامته لذلك فعمل الله هو في الحدود المسموحة. وإبتداء من (آية17) نجد رد المسيح على أعضاء أو رسل أرسلهم السنهدريم للتحقيق منهُ.

 

آية (17): "فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا اعمل."

إبتداء من هذه الآية يبدأ المسيح في الرد على إتهامات الفريسيين لأنهم إتهموه بكسر الناموس إذ عمل المعجزة يوم سبت. فأخذ يوضح لهم نوعية العمل ويوضح لهم شخصه وعلاقته بالآب. ولأن الله يستريح في خلاص الإنسان فلا يكمن أن يكف عن العمل، فهو يعمل على حفظ الخليقة ولعلاج الأخطاء الموجودة حتى لا يهلك الإنسان. الله خلق الخليقة بكلمته (اللوغوس) وهو أي اللوغوس مازال يحفظها ويدبرها. وراحة الله ليست في التوقف عن العمل، فلو توقف الله عن عمله لتوقفت الحياة. ويتضح من كلام المسيح هنا أنه يضع نفسه مع الآب في موضوع الخلقة ومسئوليته عنها من جهة قيامها ودوامها وحفظها فهو ضابط الكون. وهذه الآية تشير أن المسيح يتساوى مع الله وفي وحدة كاملة معه فإذا كان له هذا السلطان فله سلطان على السبت وله أن يقول ماذا ينبغي أن يُعمل فيه أو لا يُعمل فيه. أبي يعمل وأنا أعمل= هذه مساواة في المقام فهو لم يقل أنا أعمل من تحت الآب. والمسيح في (مر27:2،28) شرح لهم أن السبت جُعِلَ لأجل الإنسان وليس العكس وكون المسيح يشفي يوم السبت فبهذا هو يكمل عمل الخلق، المسيح أراد أن يظهر بمعجزات الشفاء التي يصنعها في يوم السبت أنه يكمل نقص خليقته، نقصها الذي حدث بسبب الخطية، يكمله بفدائه الذي أتى لأجله، لذلك فعمل الفداء هو من صميم عمل الخالق. المسيح بهذا يشير أنه مسئول عن الخليقة كما أن الآب مسئول عنها. ويكون سبت المسيح الحقيقي هو بعد أن يكمل عمل الفداء وخلاص الإنسان. فراحة الله وراحتنا هي في خلاص نفوسنا. وصار سبتنا الحقيقي هو حياتنا الأبدية. وقارن هذه الآية مع (عب10:4،11) نجد أن العمل والراحة لدى الآب والابن متوازيان. حتى الآن= أي بدون توقف ومنذ الأزل. هذه تشير لوجوده مع الآب قبل التجسد. وإن كان الله يعمل فشرف للإنسان أن يعمل (تك15:2+ 2تس7:3-10+ 1تس10:4+ أف28:4).

 

آية (18): "فمن اجل هذا كان اليهود يطلبون اكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله."

فهم اليهود من رد المسيح المختصر أنه ألغى وصية السبت علناً وإصراراً، بل ألغى بالتالي سلطة الناموس. وأنه يفعل هذا إعتماداً على علاقته بالآب، وأنه ساوى نفسه بالله الآب (يو30:10) وأنه إبنه وله علاقة بنوة متميزة لله (كلمة أبوه أتت في اليونانية بمعنى أنه لا يوجد بشر يشاركه في هذه الأبوة بمعنى أنه (أبي أنا). لذلك فهم رأوا في كلامه هذا تجديف. والمسيح لم يتراجع فيما قاله ولم يناقض ما فهموه، بل أخذ يشرح فيما يلي علاقة الآب بالإبن وإمتياز الإبن بكونه مساوياً لله الآب ولذلك فمن يكرم الآب عليه أن يكرم الإبن أيضاً. يطلبون أكثر أن يقتلوه= فهو [1] كاسر للسبت [2] جعل المفلوج يحمل سريره في السبت [3] ساوى نفسه بالآب.

 

آية (19): "فأجاب يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك."

حينما تذمروا على قوله أن الآب أبيه بدأ يشرح بالأكثر علاقته بالآب وأن الآب أرسله ليعطي حياة للبشر ولاحظ أن المسيح لم يقل لهم أنتم فهمتم خطأ، فأنا لست مساوياً لله، بل تدرج بهم ليثبت لهم أنه الله. لا يقدر= لا يفهم منها العجز بل كما نقول أن الله لا يقدر أن يكذب، أو لا يقدر أن ينكر نفسه (2تي13:2). فمن مستلزمات طبيعة الله الابن المطابقة التامة لطبيعة الله الآب وإرادته، ولا يقدر أن يفعل ما يخالف الآب فهذا يصبح ضد طبيعته. فالابن يستطيع كل شئ إلاّ شيئاً واحداً وهو أن تكون له إرادة مخالفة للآب. بل مهما عمل الإبن فهو متمشي مع عمل الآب. والآب والابن يعملان معاً في وحدة. هما متفقان تماماً بلا خلاف فهم في وحدة. فالآب هو الله غير المنظور والابن هو الله المنظور، ويعمل الأعمال المنظورة. والابن لا يعمل شيئاً ما لم يكن الآب يريده فإرادتهما واحدة. كما يكون في قلبي مشاعر تترجمها يدي إلى خطاب مكتوب. فالقلب واليد يعملان معاً. المسيح هنا يشرح علاقته بالآب إذ حنقوا عليه عندما قال "أبي" في (آية17) عسى أن تنفتح قلوبهم. والمسيح يتدرج مع الفريسيين في موضوع علاقته بالآب حتى يعلن نفسه بوضوح (آية24،30). ولنلاحظ أن وحدة العمل تتمشى مع وحدة الإرادة، وهذا يشير لجوهر الوحدة المطلق. وبالتالي فالمسيح لن يكسر السبت ما لم يكن الآب موافقاً على عمله= الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل= أي أعمال الابن غير منفصلة عن أعمال الآب. هذا القول لا يلغي سلطان الابن بل يعلن وحدة الإرادة التي لا تنفصم. ينظر= يرى فكر الآب فهو فكره وعقله، فهو يرى أي يعرف ما يريده الآب فيعمله. تعني المعرفة المستمرة والرؤية الواضحة للآب فهما واحد. وجاءت في المضارع. فالمسيح يتكلم هنا وهو في الجسد. أمّا حينما يقول وأنا ما سمعته منه (38:8) أو أتكلم بما رأيت (26:8) فهذه تشير لما رآه وسمعه قبل تجسده عند الآب. وقوله رآه وسمعه إشارة لإتحادهما الفريد فلا أحد يعرف الآب أو يراه أو يسمعه سوى الابن الذي هو في حضن الآب (يو18:1) وهو واحد معه (يو30:10). وقارن مع (36:5،42:8) لتعرف أن المسيح له وجود سابق على تجسده. والمسيح يقول هذا لنصدق بلا ريبة كل ما يقوله والإيمان بلا فحص، فالآب والابن واحد وكل ما يعمل الآب يراه الابن وحده أي يعرفه معرفة التطابق، وبإعتباره الله المتجسد يعمل بمقتضاه لأن إرادتهما واحدة، بل الابن يستعلن إرادة الآب. مهما عمل ذاك (الآب) يعمله الإبن كذلك= هنا تظهر قوة الابن المطلقة واللانهائية. هو يعمل مع الآب في شركة عمل بلا إنفصال. يعمل معه في إنسجام وإتفاق.

 

آية (20): "إن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم."

مطابقة أعمال الابن لأعمال الآب راجعة للصلة المكينة بين الآب والابن والمبنية على المحبة. فالله محبة والوحدة بين الآب والإبن تم التعبير عنها بأن الآب يحب الإبن. والأعمال التي يعملها المسيح هي إعلان دائم عن محبة الآب للإبن والتي صارت لنا، والابن يعلن محبته في خضوعه التام لإرادة الآب (يو34:4). والابن المتجسد يقول إن الآب يُريه وسيُريه من واقع الزمن البشري. فمعجزة تفتيح عيني الأعمى التي حدثت بعد ذلك هي أعجب ثم إقامة لعازر أعجب وأعجب. والمسيح يسمى هذه المعجزات أعمال. فهي بالنسبة لنا خوارق ومعجزات أما بالنسبة له فهي مجرد أعمال. لتتعجبوا= فهو يعلم أنهم لن يؤمنوا وسيكتفوا بالتعجب، أمّا المؤمن فهو يؤمن حتى دون أن يرى. فالتعجب إن لم يتحول إلى إعجاب والإعجاب إلى إيمان يتبخر التعجب. والفعلان يحب ويريه جاءا بصيغة الحاضر المستمر فهما عملان مستمران لا ينقطعان. والآب يحب الإبن= أي إرتباط ووحدة في المحبة فطبيعة الله المحبة.

 

آية (21): "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء."

المسيح أراهم سلطانه في شفاء المقعد، وهنا يشرح أن سلطانه يصل لأن يحيي. إذاً الأعمال الأعظم التي تكلم عنها سابقاً هي الإقامة من الأموات.

 

آية (22): "لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن."

المسيح هو الديان. الآب لا يدين أحد فقد ترك الدينونة للإبن الذي تجسد وشعر بضعف البشر وهو أتى ليعطينا حياة، (مت31:25-46+ أع141:10،42+ رو10:14+ 2كو10:5+ 2تي1:4) فالذي يعطي الحياة يكون له أيضاً سلطان أن يحكم عليها، ومن يقيم الموتى له أن يحاسبهم، ومن يحيي قادر أن يميت أيضاً. وكنا خلق الآب العالم فهو يدين العالم بالإبن. كل الدينونة= يدين كل مخلوق، فهو خالق الجميع، ولأنه نور فمن يرفضه يُدان. وهو له أن يدين على الأرض وفي السماء. والدينونة هي من الأعمال الأعظم.

 

آية (23): "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله."

الذي أرسله= ليؤكد لهم صلته بالله الآب. وأرسلهُ هذه كما ترسل الشمس أشعتها بدون إنفصال عنها. وهنا المسيح يعلن مساواته للآب في لاهوته بغير مواربة. وهذا راجع للوحدة بينهما. لكي= أي لأن الابن يحيي ويدين تحتم أن يكرم الناس بل كل الخليقة، الابن، كما يكرمون الآب. الإيمان بأحد الأقنومين يستلزم الإيمان بالآخر فهما واحد وكذلك إكرام أحدهما. في الآيات (21،22،23) يعلن المسيح لاهوته علانية.

 

آية (24): "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة."

الحياة الأبدية= هي حياة الله ذاته يعطيها الله للإنسان نأخذها من الآن بإيماننا بالمسيح. فهي ليست حياة بشرية. هذا هو الخلود الحقيقي. ابتداء من هذه الآية يتكلم المسيح بصيغة المتكلم بعد أن كان يتكلم بصيغة الغائب وكأن المعنى أن ما قلته لكم من قبل عن العلاقة بين الآب وإبنه ينطبق علىَّ فأنا الإبن الوحيد. الحق الحق أقول لكم= هذه تشبه القسم في العهد القديم، فهو إعلان رسمي إلهي. وهنا نرى الوحدة بين الآب والإبن، فشرط الحياة أن نسمع كلام الإبن ونؤمن بالآب، فالخلاص هو بالآب والابن.

يسمع كلامي= أي يدخل لأعماقه ويحرك قلبه ويصدق وينفذ ويستمد قوة من الوصية على تنفيذها. ويسمع كلامي= كلامي جاءت هنا لوغوس ويكون المعنى أن يقبلني أنا الكلمة المتجسد. يؤمن بالذي أرسلني= الإيمان بأحد الأقنومين يستلزم الإيمان بالآخر فهما واحد وكذلك إكرام أحدهما= أي يؤمن بكل ما قلته عن الآب كما إستعلنته أنا، وبالذات أنه أرسل المسيح. فالإيمان بالآب يستلزم الإيمان بالمسيح والإيمان بالمسيح يستلزم الإيمان بالآب. يؤمن بالذي أرسلني= حتى لا يشعروا أنه يفضل نفسه عن الله. عموماً هو والآب واحد وهو لا يريدهم أن يتشككوا فيه. لا يأتي إلى دينونة= أي الهلاك فالمسيح سيحمل الدينونة عن الإنسان الذي يؤمن به (التائب طبعاً). إنتقل من الموت= الموت هنا هو موت الخطية لأن الذي يؤمن ويسمع تغفر خطاياه. لقد إنتهت خطورة الموت الجسدي، ولكن الموت الأخطر هو موت الخطية وعدم الإيمان، لذلك يقول يوحنا في (1يو2:1،4) أن الحياة أظهرت. والإنتقال من الموت إلى الحياة يعني بداية الحياة الأبدية. وهذه تبدأ بالمعمودية وتستمر بالتوبة "إبني هذا كان ميتاً فعاش" والحياة الأبدية هي حياة المسيح الأبدي، نحصل عليها بالإتحاد معه في المعمودية (رو3:6-5) ونستمر نحياها بحياة التوبة.

 

آية (25): "الحق الحق أقول لكم انه تأتى ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون."

هنا نرى أن التوبة هي شرط للحياة الأبدية. فمن يسمع صوت إبن الله أي يؤمن به ويتوب وهؤلاء يحيون. في هذه الآية يتحدث المسيح عن قيامة النفس من موت الخطية. ولكن هناك قيامة ثانية للجسد يشير لها في آية (28). الآن= هذه الآية تشير للواقع الحاضر. يسمع الأموات= أي موتى الخطية الابن الضال كان ميتاً فعاش+ (أف5:2+ أف14:5) فالميت فقد الإحساس ببشاعة الخطية وصار يشرب الإثم كالماء. هذا فقد تبكيت الروح القدس. وكانت إقامة المقعد رمزاً لإقامة موتى الخطية وأيضاً تشير لمقدرة الرب على قيامة الجسد. والآن= هو وقت التوبة (إش8:49+ 2:61). فالقوة القادرة أن تقيم من الموت مستعدة الآن أن تقيم كل من يريد. ومن يسمع تكون له حياة ومن لا يسمع ويسلك وراء شهواته يكون له دينونة.

 

آية (26): "انه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته."

الطبيعة الإلهية للآب هي نفسها الطبيعة الإلهية للإبن. والحياة هي من صميم خواص الطبيعة الإلهية. فالله حي بذاته أي الحياة ليست ممنوحة له. لذلك نصلي "قدوس الحي الذي لا يموت"

أعطى الإبن أيضاً= أغسطينوس يقول أن أعطى تساوي ولد، فالإبن مولود وله حياة في ذاته من آب له حياة في ذاته. ليس أنه أعطاه شيئاً من خارجه فهو لأنه مولود منه بالطبيعة له نفس ما للآب كولادة النور من الشمس. هو لم يعطه حياة في ذاته، بل أعطى الإبن أن تكون له الحياة في ذاته. هو لم يقل (الآب أعطى للإبن حياة في ذاته) فهذا يعني أن الإبن لم يكن له حياة في ذاته، والآب أعطى له حياة. ولكن قال (أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته) فالإبن فيه الحياة التي في الآب. الحياة الذاتية التي لا تموت. ولأن له الحياة في ذاته يستطيع أن يحيي من يسمع صوته. والآية تشير للتساوي التام والتطابق التام بين الآب والابن خصوصاً أن لفظ أيضاً يشير لهذا فكل ما هو للآب هو للإبن (يو10:17). ويقصد بالآية أن هناك تقسيم للعمل داخل الثالوث القدوس. وهو يذكر هذه الآية هنا بعد آية (25) لكي يشير أن للإبن سلطان أن يعطي حياة لمن يسمع صوته ويتوب ويؤمن. ويقولها قبل آية (29): فللإبن سلطان أن يعطي حياة للأموات. وقد رأينا توزيع الأعمال أيضاً في آية (22) فالدينونة هي للإبن. فالآب له حياة في ذاته والإبن له حياة في ذاته. ولكن كلمة أعطى تفيد التمايز بين الآب والإبن. وكما أن الآب لا يستمد وجوده من آخر كذلك الإبن لا يستمد وجوده من آخر. والإبن بإتحاده بالآب هو أيضاً واهب حياة بسلطانه المطلق الناتج عن هذا الإتحاد. ولكن بحكم أن المسيح كان تجسده في فكر الله منذ الأزل فإن الآب أعطى أن تكون للإبن الحياة في ذاته ليعطيها بكونه فادياً، ولكن بكونه إلهاً ذا جوهر واحد مع الآب فهو له الحياة في ذاته، هو نبعها ومعطيها. ويمكن بتشبيه بسيط أن نقول أن الآب أعطى الإبن كذا= أنني مثلاً خصصت ذراعي اليمنى لكذا.. والإبن مشبه فعلاً بذراع الله (أش9:51). بإختصار فالمعنى أن الآب له حياة في ذاته، ومولود منه إبن له نفس طبيعته، أي له حياة في ذاته. ولأن الآب يريد أن يعطي حياة للبشر يكون هذا عمل الإبن. فالإبن ينفذ إرادة الآب. وإرادة الآب والإبن واحدة لأنهما واحد. لكن الآب يريد والإبن ينفذ.

 

آية (27): "وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان."

كما أن الآب يخلق العالم بالإبن هكذا هو يدين العالم بالإبن. سبق المسيح وأعلن لاهوته وهو هنا يعلن ناسوته وإنه إبن الإنسان وأنه هو يدين كإنسان. فالديان صار من جنسنا وهذا منتهى العدل الإلهي (عب17:2،18+ 15:4،16). وما يميزه كقاضٍ للبشرية أنه شفيع للبشرية أيضاً (عب24:7،25). وبولس جمع بين الصفتين في (رو34:8) ومن يرفض المسيح كشفيع لا يتبقى له سوى المسيح الديان. إبن الإنسان (دا 13:7،14+ 1كو21:15) والمسيح بقوله إبن الإنسان كان ينبه الحاضرين ليتذكروا نبوة دانيال فيعرفوا شخصه.

 

الآيات (28،29): "لا تتعجبوا من هذا فانه تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته.فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة."

المسيح هنا يتكلم عن الموتى بالجسد حين يقومون في نهاية الزمان للدينونة. لا تتعجبوا= من إقامة مخلع فستروا أعظم وأنني إبن الله وأنني إبن الإنسان. ولي هذا السلطان وسترونني دياناً للكل يوماً ما ومعطي حياة جديدة وأعيد خلقة البشر. فعلوا الصالحات= تشمل الإيمان بالمسيح. وعملوا السيئات= تشمل رفض الإيمان بالمسيح.

هنا المسيح إستخدم فعلين مختلفين فعلوا وعملوا. وإستخدام فعلوا للصالحات وعملوا للسيئات. فعلوا= تشير لأن الإنسان الصالح فعل ما سمعه من صوت الروح القدس أفعالاً كانت ثماراً للروح الذي في داخله. عملوا= أعمالاً سيئة ناشئة عن طبيعة سيئة عاصية متمردة. فعلوا هي ثمار الروح القدس وعملوا هي ناتج الجسد الطبيعي. ومن يؤمن بالمسيح تكون أعماله صالحة، فهو صار يعيش للمسيح والمسيح يحيا فيه. ومن لا يؤمن سيدان (يو18:3+ 1يو9:5-12). ومن أعماله غير صالحة سيدان (رو2:2-10+ 2كو10:5). وهناك يوم محدد للدينونة (أع30:17،31). وهذا اليوم هو يوم ظهور المسيح (2تي1:4). وأن المسيح هو الديان (أع40:10-42). والمسيح طالما له سلطان أن يحيي فهو سيعطي الحياة الأبدية لمن ليس عليهم دينونة (يو39:6-40). وهو أعطانا جسده ودمه لتكون لنا حياة (يو54:6). ولاحظ أنه هنا قال جميع. فالبشر كلهم لهم قيام. ولكن يوجد طريقان (الحياة والدينونة) بينما في آية (25) لم يقل جميع، فالبشر أحرار الآن أن يستجيبوا أو يرفضوا.

 

آية (30): "أنا لا اقدر أن افعل من نفسي شيئاً كما اسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا اطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني."

هذه الآية وصلة بين ما سبق الذي تحدث فيه يسوع عن مساواته مع الآب وبين بقية الإصحاح الذي يتكلم فيه عن الشهادة له. المسيح هنا لأول مرة يقول أنا. فظهر بوضوح أنه يقصد نفسه بكل ما سبق كما أسمع أدين= تعنى إستحالة الإنفصال بين الأقنومين في الرأي أو العمل وتشير للإتفاق التام. هي إشارة لمعرفة تامة لفكر الآب لذلك يقول دينونتي عادلة= فهو لا يطلب شيئاً لنفسه. ما دام هناك تساوي مطلق فهذه تشير أن لهما إرادة واحدة فالآب يريد والإبن ينفذ ويعلن لنا أي يستعلن إرادة الآب، فهو وحدهُ الذي يعرف مشيئة الآب. ولا توجد خليقة ما مهما كانت تستطيع أن ترى الله وتسمعه وتعرفه وتعرف إرادته إلاّ الإبن الذي هو من طبيعة الآب، لذلك فهذه الآية تشير لطبيعة المسيح الإلهية (يو18:1). لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني= مشيئة الإبن أن يعمل مشيئة الذي أرسله (يو34:4) ومشيئة الآب نجدها في (يو39:6،40) وبهذا نرى أن مشيئة الآب والإبن في إنسجام تام ووحدة، فمشيئة الله أن الجميع يخلصون. هذه الآية تكرار للآية (19) ولكن هنا يوضح أن الإبن في آية (19) هو يسوع نفسه، لذلك يقول هنا "أنا" وهو لا يعمل شيئاً بدون شركة مع الآب. فالنبوة فيها إتصال الآب بالإبن.

 

الآيات (19-23) نرى فيها تسلسل لطيف جداً. ففي آية (19) نرى الإبن يعمل ما يعمله الآب. وفي آية (20) يشرح لماذا فيقول لأن الآب يحب الإبن. ثم يقول وسيريه أعمالاً أعظم. وفي آية (21) يقول لأن الابن يحيي. إذاً إقامة الأموات هي الأعمال الأعظم. والإبن سيحيي من يشاء لأنه له الدينونة آية (22) ولكن ما معنى يريه جميع ما هو يعمله.. وسيريه.. وكما أسمع أدين (آية30).

نرى في آية (19) التساوي المطلق بين الآب والإبن= مهما عمل ذاك فهذا يعمله الإبن كذلك. والسبب في آية (20) هو المحبة. فالله محبة، ينبع محبة. والإبن هو المحبوب (أف6:1). والروح القدس هو روح المحبة. هي وحدة أساسها المحبة. وبسبب هذه الوحدة والمحبة، فالإبن يعمل كل ما يعمله الآب، وله كل ما للآب ويريه جميع ما هو يعمله= يريه تعني المعرفة الكاملة بما يريد الآب. فلا يعرف الآب إلا الإبن ولا أحد يعرف الإبن إلاّ الآب (لو22:10). هي معرفة التطابق الناشئ عن الوحدة. ولكن داخل المشورة الثالوثية لكل أقنوم عمله. فالآب يريد. والإبن ينفذ. فالآب يريد أن الجميع يخلصون، والإبن يقدم التجسد والفداء. الآب يريد أن يعطي حياة للبشر، وهذا ما يعمله الإبن والآب خلق العالم بالإبن، ويفعل كل الأشياء بالإبن، فالإبن به كان كل شئ. بل الإبن سيقوم بتجميع البشر في جسده ليقدم الخضوع للآب، ويعطي البشر حياة فهو له حياة في ذاته. بل هو الوحيد الذي بجسده أطاع كل الوصايا. والمسيح له أعمال هذه قال عنها أن الآب أراه إياها أو يريه إياها. وله أقوال وتعاليم ودينونة قال عنها أنه سمعها من الآب. وبنفس المفهوم يقال هذا عن الروح القدس "كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية" (يو13:16). فهي معرفة التطابق الناشئ عن المعرفة نتيجة الوحدة، الوحدة التي في طبيعة الله بالمحبة. والآب يريد والإبن يَعْمَلْ ويُعَلِّمْ. والروح القدس يُخْبِرْ.

وبهذا المفهوم فالمسيح يقول لهم.. وإن شقيت في السبت فأنا لم أخالف وصايا الآب. وكيف أخالفها إن كان هناك هذه الوحدة وهذا الحب.

وإذا قال المسيح يريها فهو يقصد الأعمال التي يعملها الآن. وإذا قال سيريه فهو يقصد الأعمال التي سيعملها في المستقبل كإقامة أموات، بل قيامته هو شخصياً. وإذا قال رأيت فهذا إشارة لسابق وجوده قبل التجسد.

وقول السيد المسيح هنا أنه يحيي من يشاء فهذا إشارة لأنه هو يهوه، فهذه مقدرة الله فقط (تث29:32+ 2مل7:5+ 1صم6:2). وهذا ما يفهمه اليهود الذين يكلمهم المسيح. ويعلن المسيح أيضاً بوضوح أنه يهوه إذ هو الديان، وكان يغفر الخطايا. هو ينقلهم بالتدريج ليفهموا من هو.

وإذا فهموا من هو فيكرموه كما يكرموا الآب آية (23). ومن يرفضه ولا يؤمن به أو لا يكرمه فمصيره الدينونة آية (24).

 

في هذه الآيات نرى العلاقة بين الآب والإبن :

1)    فهما مشيئة واحدة: فالإبن لا يقدر أن تكون له إرادة منفصلة في العمل عن إرادة أبيه.

2)    غير منفصلين: فالإبن ينظر كل ما للآب ويسمع كل ما عند الآب (وهكذا الروح القدس).

3)    نفس القدرة: كل ما يفعله الآب يفعله الآبن.

4)    الحب يربط بينهما: فالإبن يعرف كل أسرار الآب.

5)    كل ما للآب هو للإبن: فالإبن يحيي من يشاء وهذا عمل الآب. وهذه عبارة لم تقال عن إيليا أو غيره حين أقاموا أموات.

6)    الإبن هو الديان: وهذا عمل الآب "أديان الأرض كلها.." (تك25:18).

7)    لهما نفس الكرامة: فكما يكرمون الآب عليهم أن يكرموا الإبن أيضاً.

إذاً هما متساويان.

 

آية (31): "إن كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً."

المسيح هنا يلجأ لثلاثة شهود فاليهود شكوا فيه إذ قال عن نفسه إبن الله وهو قرأ فكرهم وهنا المسيح يلجأ للشهود الآخرين [1] هو نفسه (آية31 + يو14:8) [2] الآب (آية32) [3] يوحنا المعمدان (آية33). فالمسيح يؤكد شهادته لنفسه بشهادة إثنين آخرين. وبحسب الناموس اليهودي فالشهادة تقبل على فم شاهدين (تث6:17+ 15:19+ عد30:35). قطعاً شهادة المسيح عن نفسه كافية فهو الحق. وهو قال هذا (يو14:8) ولكن اليهود بحسب تفكيرهم وبحسب ناموسهم يحتاجون لشهود (يو13:8) هنا يقول إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً= هذا بحسب المنطق البشري. وفي (13:8) قال "شهادتي حق" = فهذا منطق الله فالله غير خاضع للمعايير البشرية.

 

آية (32): "الذي يشهد لي هو آخر وأنا اعلم إن شهادته التي يشهدها لي هي حق."

آخر= هو الآب لأن الفعل يشهد أتى في زمان المضارع الدائم، وهذا لا يستقيم في حالة أي إنسان، لأن أي إنسان تكون شهادته مؤقتة أما شهادة الآب فدائمة وصادقة. والآب شهد للمسيح أنه إبنه يوم العماد ويوم التجلي وشهد له بالنبوات (آيات 38،39) وشهد له بالأعمال التي يعملها المسيح والتي تظهر أن الآب فيه (36). والمسيح يعرف شهادة الآب عنه بسبب علاقته الأقنومية به. واليهود لا يعرفون بسبب خطاياهم وكبريائهم (38).

 

الآيات (33،34): "انتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا اقبل شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا انتم."

هنا المسيح يقول لهم أنا أشهد لنفسي ويشهد لي الآب وأنتم لا تصدقون، وأرسلتم وسألتم يوحنا فشهد لي، والمسيح يقول هذا لا ليطلب شهادة المعمدان لأنه محتاج إليها فهو لا يحتاج لشهادة إنسان، فمن يحتاج لشهادة إنسان فهو يعتمد على هذا الإنسان ويحتاج لهذا الإنسان والله لا يحتاج لأحد. بل إذ كانوا فرحين بالمعمدان وواثقين فيه ويكرمونه (على أن كثيرين رفضوه أيضاً لو29:7،30) لجأ المسيح لشهادته ليجعلهم يؤمنون به فيخلصون. المسيح يلجأ لشهادة المعمدان ليرضيهم بسحب منطقهم فيجذبهم للخلاص. ولكن من غير المقبول أن يتوقف صدق الله على شهادة إنسان.

 

آية (35): "كان هو السراج الموقد المنير وانتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة."

يوحنا المعمدان كان سراج= ربما كان المعمدان قد إستشهد وقتها أو كان في السجن وبهذا توقفت خدمته أي نوره قد توقف، ومهما كان المعمدان فهو كمصباح لابد وأن وقوده سينفد في وقتٍ ما. ولكنه كان سراج موقد من الداخل بالمحبة والغيرة ومنير من الخارج في قداسته. أنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره= هللوا له وقت ظهوره إذ ظنوه هو المسيا، ولكن المعمدان ظهر لفترة وجيزة= ساعة= وقت قصير أي عدة شهور، بينما أن بهجة خلاص المسيح فأبدية. أمّا اليهود الذين فرحوا بيوحنا المعمدان وتركوا المسيح، فهم إختاروا البركة المؤقتة وتركوا نعمة الملكوت الدائمة. ويوحنا كان سراجاً ينيره آخر أي الله (يو8:1). لكن المسيح هو النور الحقيقي فالنور طبيعته (يو9:1).

 

آية (36): "وأما أنا فلي شهادة اعظم من يوحنا لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا اعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني."

الأعمال= المعجزات+ تعاليمه وأقواله التي كانت بسلطان. كل هذا يشير للقوة الإلهية التي تعمل فيه. أعمال المسيح هي برهان صدق إرساليته (25:10،32،37،38+ 10:14،11+ 24:15). أعمال المسيح تستعلن الله الآب في شخص المسيح. ولنلاحظ أن من يقبل إبن الله في قلبه يكون له شهادة في داخله له ولا يحتاج معها شهادة من خارج، فالإيمان بالمسيح يحمل تأكيده فيه لأنه هو شهادة صدق الله.

أعطاني= المسيح يركز على أن الآب يعطي الإبن (35:3+3:13+22:5،26،27+ 39:6+ 2:17،4،6،12،24+ 49:12) ومعنى أن الآب يعطي الإبن فهذا لأن كل شئ وكل عمل وكل مشيئة عند الآب هي غير منظورة والآب يعطيها للإبن ليظهرها، أو يعطي الإبن أن يظهرها ويعلنها على مستوى الفعل والواقع المنظور. فالأعمال عند الآب والإبن هي واحدة، غير منظورة عند الآب، ومنظورة بالإبن، فالآب يعمل بالإبن، الآب يريد والإبن ينفذ فهو قوة الآب (1كو24:1). إذاً العطاء من الآب للإبن يفيد أن الإبن يكمل عمل الآب أو يظهره. لأكملها= يكملها هنا تفيد التكميل حتى النهاية أو حتى الكمال "العمل الذي أعطيتني قد أكملته" + "قد أكمل".

 

الآيات (37،38): "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته. وليست لكم كلمته ثابتة فيكم لأن الذي أرسله هو لستم انتم تؤمنون به."

المسيح هنا ينتقل من شهادة الأعمال له وهي نفس أعمال الآب إلى شهادة الآب نفسه (16:8،18،29). فالآب شهد للإبن يوم العماد ويوم التجلي وبالأنبياء وبروحه الذي يخاطب القلوب ولكنهم لا يريدون أن يسمعوا، وبأعماله التي يعملها. فالآب والإبن يعملوا الأعمال. وبأقواله وتعاليمه، فالآب كلمنا في إبنه. ولاحظ أن أعمال الإبن: [1] كثيرة جداً (لا يسعها كل كتب العالم) [2] عظيمة ومبهرة (ما رأينا مثل هذا قط) [3] جهراً أمام الكل [4] كلها للخير (هو لم يميت أحد) أما أقواله فبهرت الكل. وكان كل هذا ليستعلن الآب. فالآب يشهد للإبن شهادة كامنة في الإبن، لأن الإبن هو كلمة الآب وصوت الآب وصورة الآب، وهذا ندركه بالإيمان، بالعين الروحية التي ترى الله في المسيح والأذن الروحية التي تسمع الله في المسيح "من رآنى فقد رأى الله (الآب). لذلك فاليهود الذين رفضوا المسيح رفضوا صوت الله.

لم تسمعوا صوته= فالمسيح يقول عن نفسه أنه صوت الآب. ولا أبصرتم هيئته= فالمسيح هو هيئة الآب.. فأذانهم الروحية وعيونهم الروحية مغلقة. ومعنى كلام الرب أنتم لم تعرفوني فأنا صورة الآب. ولو عرفوا الآب لعرفوا المسيح والعكس. والآب يشهد للمسيح بفم أنبيائه وأخرهم المعمدان، كلهم تنبأوا عن المسيح، ولو أخلص اليهود فهم ناموسهم لعرفوا المسيح= ليس لكم كلمته ثابتة فيكم= أي النبوات. بل أن أبائهم الذين سمعوا صوت الله على الجبل أيام موسى ورأوا البروق، فهم أطاعوا الله أياماً قليلة لكنهم عادوا وإرتدوا، كلام الله علق بذاكرتهم دون قلوبهم.

 

آية (39): "فتشوا الكتب لأنكم تظنون إن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي."

هنا المسيح يلومهم فهو يَدَّعون الخبرة في الكتب المقدسة ولكنهم بعد كل هذه السنين لم ينفتح ذهنهم علىسر الحياة الأبدية الكائن في الأسفار، ليدركوا منها الأمور المختصة بالمسيح (لو27:24) فالأسفار المقدسة هي إستعلان للمسيح مملوءة نبوات عنه، في كل خطوة من خطوات حياته (2بط17:1-21+ 1بط10:1،11) هم كانوا يظنون أن فهمهم الحرفي للأسفار المقدسة سيعطيهم حياة أبدية، وكانوا يظنون أن مجرد حفظها أو تلاوتها سيعطيهم حياة أبدية. ولكنهم لو فهموها بعمق لإكتشفوا المسيح واهب الحياة الأبدية. لكنهم درسوها لمجرد المعرفة والتفاخر بما يعرفونه. فتشوا= تدل على الفحص الشديد المثابر للأسفار. ومن يفعل سيكتشف المسيح وسيعرفه ويؤمن به. أنتم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية=وهذا حق ولكن كيف نقرأ؟ هل لمجرد المعرفة مثل اليهود أو لنرى ونبحث عن شخص المسيح ونعرفه، فنحبه ونؤمن به ونثق فيه فتكون لنا حياة.

 

آية (40): "ولا تريدون أن تأتوا إلىَّ لتكون لكم حياة."

مازالت أمامكم الأسفار المقدسة، فتشوا فيها فتؤمنوا بي وتأتوا إلىّ فيكون لكم حياة، فمن يأتي إلىّ أعطيه حياة، الحياة الأبدية التي تفتشون عليها في الأسفار المقدسة هي معي، وهي فيَّ، وهي أنا (1يو2:1) ولا تريدون= هي مسئولية كل شخص أن يقبل المسيح أو يرفضه ومن يفتش الكتاب المقدس بأمانة سيجد أنه محتاج لشخص المسيح فيذهب إليه فتكون له حياة.

 

آية (41): "مجداً من الناس لست اقبل."

 عندما تكلم عن شهادة المعمدان فهو لا يشتهي مجداً من الناس كما يفعلون هم، فمجده راجع لإتحاده بالآب. المسيح لا يقبل شهادة من الناس ولا مجداً من الناس. قال هذا حتى لا يتصوروا أنه يقول ما يقوله ليمجدوه، وإلاّ لوافق طلبهم أن يصير ملكاً زمنياً. فمن يقبل شهادة أو مجد من إنسان يلزمه أن يستند على هذا الإنسان فيخضع لمعايير البشر. إذاً فالمسيح يطلبهم لا لأنه يريدهم أن يمجدوه بل ليعطيهم حياة (راجع آية34).

 

آية (42): "ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم."

قد عرفتكم= أنا أعرف حالتكم، هم لا يحبون الله ولا شركة لهم مع الله. فرفضهم للمسيح علامة على الحالة السيئة التي هم فيها. رفضهم للمسيح علامة أنهم في عداوة مع الله، هم لا يحبون الله لذلك لم يجتذبهم الآب. المسيح هنا يكشف ما في قلوبهم. في أنفسكم= فهم يقولون بأفواههم أنهم يحبون الله ويتباهون بهذا، لكن المحبة غير موجودة في قلوبهم (24:15،25) وإن غابت المحبة سكنت البغضة في القلب. هم لو كانوا يحبون الله، كانت المحبة قد فتحت أعينهم وعرفوا المسيح. ولكن "هذا الشعب يكرمني بشفتيه وقلبه مبتعد عني بعيداً". اضطهادهم للمسيح صادر ليس عن غيرة لله بل حسداً للمسيح وبغضة له، لو أحبوا الله لآمنوا بالمسيح.

 

آية (43): "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني أن آتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه."

عدم وجود محبة الآب في قلب اليهود أفقدهم القدرة على معرفة المسيح لما جاء إليهم باسم الآب. والمحبة تأتي بالعشرة مع الله ودرس الكتاب المقدس بعمق. بإسم أبي= هو واحد ومستقر في الآب وثابت فيه ومتحد به. هو أتى ليعلن الآب. هو يبحث عن مجد الآب لا مجد نفسه فهو أخلى نفسه. ولو أتى لهم من يتكلم بإسم نفسه لقبلوه، أي نبي كاذب أو أي شخص يدّعى أنه المسيح، لأنهم سيرون أنفسهم فيه. فالنبي الكاذب سيستغل نقطة ضعفهم ويظهر أمامهم بمظهر العظمة العالمية التي يشتهونها، وسوف يَعِدْهُمْ أن يعطيهم هذه العظمة العالمية فيقبلونه، كما سيحدث مع ضد المسيح في الأيام الأخيرة. آتى بإسم نفسه= يعلن رغباته وأفكاره هو الذاتية التي تتوافق مع أفكارهم. بهذا يظهر أن اليهود واقفين في موضع مضاد للمسيح ولله، فهم يقبلون مجد الناس ولا يطلبون مجد الله. وهذا ما عطل إيمانهم.

 

آية (44): "كيف تقدرون أن تؤمنوا وانتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه."

الإيمان في أبسط صوره هو تمجيد الله بالقول والعمل. وثمر الإيمان هو تسبيح الله على الدوام. وإذا إنشغل إنسان بتمجيد الآخرين له ضعفت قوة تسبيح الله في قلبه فهو لن يرى عظمة الله فيسبحه لأنه إنشغل بتملق الآخرين. واليهود كانوا منشغلين بتمجيد أنفسهم، وحتى الناموس كان سبباً في أن يعظموا أنفسهم، فهو فهموا أن الله أعطاهم الناموس لعظمتهم هم كشعب مختار مميز عن باقي الشعوب. وكانوا يقبلون مجداً من بعضهم البعض ولم يقبلوا المجد الأصلي الذي هو الله ظاهر في الجسد. لاحظ المسيح في آية (43) يخلى ذاته قائلاً "أنا أتيت بإسم أبي" فلا يبحث عن مجد شخصي بل كأنه مجرد مرسل من الآب. واليهود يبحثون عن مجد أنفسهم.

 

آية (45): "لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم."

الإبن يحتفظ بوظيفته كشفيع ويترك الحكم للناموس بقيادة موسى، لأن موسى كتب عن المسيح فموسى سيشهد ضدهم. لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح. وكما صرخ موسى لله بسبب عنادهم ورفضهم له سيشكوهم موسى لله لأنهم رفضوا من تنبأ عنه. فالمسيح في مجيئه الأول لم يأت للدينونة بل ليخلص العالم. وأحال بمنتهى الإتضاع القضية إلى الناموس الذين هم متمسكين به فهم يتهمونه بأنه كسر السبت والمسيح قال لهم بل أنتم ضد ناموس موسى. موسى سيتحول لديان لهم.

 

الآيات (46،47): "لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني. فان كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي."

ها أنا قد أتيت كما قال موسى (تث15:18-19) فلماذا لا تؤمنون بي. وهناك كثير من الرموز للمسيح في كتابات موسى (الذبائح والتطهيرات..) فالمسيح كان الهدف والمحور والغاية.


 

الإصحاح السادس

الآيات (1-15):               (معجزة إشباع الجموع)

 المسيح هنا إنتقل من اليهودية وأورشليم إلى الجليل حيث أجرى المعجزة. وهذه المعجزة هي الوحيدة المذكورة في الأربعة أناجيل (مت13:14-21+ مر30:6-44+ لو10:9-17) وهذا لأهميتها فهي معجزة خلق حقيقي تثبت لاهوت المسيح. فالناس أكلوا أكل حقيقي وتبقى 12قفة. ولكن يوحنا لا يكرر ما جاء في البشائر الأربعة ولكنه ذكر هذه المعجزة لإرتباطها بما سيذكره فيما بعد عن يسوع خبز الحياة. والمسيح في كل قداس يحضر في الوسط ويكسر ويعطي شبعاً لنا ويحول الحياة الحاضرة لحياة أبدية. ففي كل قداس يكرر المسيح معجزة إشباع الجموع ولكن على مستوى الحياة الأبدية. لذلك ينبه يوحنا أن الفصح كان قريباً. فالمسيح أعطانا جسده مأكلاً ودمه مشرباً في الفصح الذي يلي هذا الفصح فصار هو فصحنا الجديد، جسد المسيح المكسور لإشباع العالم. فالفصح القديم كان رمزاً للعشاء الرباني والمن الأرضي كان رمزاً للمن السماوي فالمن الأرضي يسند في برية سيناء والمن السماوي يسندنا في جهادنا في برية هذا العالم. وكما أمر الله موسى بحفظ جزء من المن تبقى هنا 12قفة.

-   إبتداء من إصحاح (6) وحتى إصحاح (12) يسمى إنجيل الإستعلان. فالمسيح يستعلن ذاته. ويتكلم المسيح عن نفسه بأنا هو (يهوه). وفي إصحاح (6) نسمع عن المسيح خبز الحياة "من يأكلني يحيا بي" وهو الخبز الحي النازل من السماء، وبدونه لا حياة للإنسان. وهذه الآيات (1-15) تتكرر كثيراً في القداسات ونسميها إنجيل البركة.

-   هنا نرى المسيح سر الشبع الذي لا ينتهي. وهو قادر أن يملأنا من شخصه ونشبع به (نفساً وجسداً وروحاً). موسى أنزل مناً من السماء أشبع بطونهم ولكن المسيح هنا يقدم نفسه كخبز للحياة فيه شبع بلا حدود. وقارن مع الإصحاح السابق الذي فيه بعض اليهود قد رفضوا المسيح لترى مدى خسارتهم. وعن الشبع بالمسيح تنبأ أشعياء (8:49-10).

-   وفي آية (4) يقول "وكان الفصح عيد اليهود قريباً" فهو يريد أن يربط بين المعجزة والفصح "فالمسيح فصحنا ذبح لأجلنا" (1كو7:5) فهذا الإشباع رمز للإفخارستيا. ولذلك يقول عن الفصح عيد اليهود، فهو لم يعد عيد لله بعد أن جاء المرموز إليه. فالفصح الحقيقي هو ذبيحة الصليب وهو بعينه الإفخارستيا على المذبح.

-   والسمكة كانت الرمز الذي يتعامل به المسيحيين الأوائل، فسمكة باليونانية "إخثيس" وهي من خمس حروف، هي نفسها الحروف الأولى من الجملة "يسوع المسيح إبن الله مخلص". والسمكة كانت رمز سرى أيام الإضطهاد الروماني، فكان المسيحيون يتعرفون على بعضهم بعلامة السمكة. وكان السمك رمز للمؤمنين في معجزتي صيد السمك (لو5 +يو21). والسمكة لها زعانف لذلك تسير عكس التيار في الماء إشارة للمؤمن الذي بواسطة النعمة يسير عكس تيار الخطية الذي في العالم.

-   والمسيح طبيب النفوس أراد أن يشفي إيمان فيلبس الضعيف فسأله "من أين نبتاع خبز" وكانت إجابة فيلبس "لا يكفيهم خبز بمئتي دينار" أي حتى لو وجد المكان الذي نبتاع منه فأين النقود. ولاحظ في آية(6) أنه قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. وكيف شفى إيمان فيلبس، لاحظ أن الطعام أشبع الكل، والكل أخذوا بقدر ما شاءوا، وتبقى 12قفة. فالمسيح يعطي بفيض وليس فقط للملء. ولكن حتى الآن نيأس إذ نجد مشاكل لا حل لها ونظن أنه لو وُجِدَ المال تحل المشاكل، وننسى أن المسيح معنا.

-   سؤال: لو تمسك الطفل بخبزاته القليلة ماذا كان سيحدث؟ وماذا سيحدث لو قلت لنفسي المال مالي والوقت هو لي استمتع به، لما بارك فيه المسيح. ولاحظ أن المسيح يعطي بفيض أمام القليل الذي تقدمه.

-   والمسيح بعد المعجزة ذهب للجبل وحده آية (15) وذلك إشارة لأنه السماوي فالجبل رمز للسماويات وخوفاً من أن الجموع تقوم بثورة لتملكه فيثيروا عساكر الرومان ضدهم. واليهود ظنوا أن المسيح كملك سيدمر لهم الرومان. لكن المسيح أتى لليهود وللرومان.

 

الآيات (1،2): "بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية. وتبعه جمع كثير لأنهم ابصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى."

ذهب يسوع للجليل وصنع فيها معجزات فبدأ الشعب يتبعه. بعد هذا= ركب يسوع مركباً هو وتلاميذه من كفرناحوم وعبروا بحيرة طبرية (بحر الجليل أو بحيرة جنيسارات). وكانت كفرناحوم مركز إقامته. وفي (لو10:9) نجد السيد عبر من كفرناحوم ليذهب إلى بيت صيدا شرقاً. والجموع الذين تبعوه سيراً على الأقدام ساروا 13.5كم.

 

الآيات (3،4): "فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه. وكان الفصح عيد اليهود قريباً."

في (مر34:6) يصور الجموع كخراف وها هو الراعي الصالح المهتم بإشباع خرافه.

 

الآيات (5-7): "فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء. وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً."

يتضح هنا شخصية فيلبس وأنه يقوم بحساب كل خطوة حساباً دقيقاً، والمسيح يسأله ليعطيه درساً أن البركة لا تعترف بالحسابات ولا الحكمة الإنسانية، والمسيح يسأل فيلبس ليعلمه ويعلمنا فهو المعلم. ومازالت هذه طريقتنا مع الله، نريد أن نفرض عليه حلولنا العاجزة بحسب عدم إيماننا. ومازالت هذه هي طريقة المسيح معنا، فهو يسمح بتجربة لنرى يده حينما يتدخل ليحل المشكلة، كما سأل فيلبس. والسبب ليزداد إيماننا كما عالج المسيح ضعف إيمان فيلبس إذ رأي المعجزة. يمتحنه= فالمسيح هو المعلم. يسأله لإظهار ضعف إيمانه والهدف شفاء ضعف إيمانه. والمسيح سأل فيلبس من أين وفيلبس أجاب على شئ آخر وقال بمئتي دينار= فالإنسان يجيب بما يشغل باله.

 

الآيات (8،9): "قال له واحد من تلاميذه وهو إندراوس أخو سمعان بطرس. هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء."

أندراوس أيضاً كان له نفس الخطأ الذي وقع فيه فيلبس فهو يحكم على عمل الله بحسب الإمكانيات البشرية وليس بحسب إمكانيات الله غير المحدودة. وهنا درس آخر في إحترام المواهب الصغيرة، فهنا غلام معه إمكانيات ضعيفة ولكنها ببركة الرب أشبعت الجموع. وخبز الشعير هو خبز الفقراء والسمكتان يقول دارسو الكتاب أنهما كانتا مملحتين كعادة أهل السواحل في الإحتفاظ بفائض الأسماك (ومازال الأقباط يحتفلون في يوم شم النسيم التالي لعيد القيامة (الفصح) بخروجهم للحدائق (كما كان المسيح هنا في مراعي خضراء) وأكلهم الأسماك المملحة. وكانت الأسماك التي مع الغلام أسماكاً صغيرة (بساريا وباليونانية إبساريون) القليل في يد المسيح يزداد بلا حدود: طفل صغير معه 5 خبزات شعير (أرخص خبز+ سمكتين صغار).

 

آية (10): "فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون وكان في المكان عشب كثير فإتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف."

النساء والأطفال لا يدخلون في حسابات اليهود. ونلاحظ بحسب الأناجيل الأخرى أنهم جلسوا في ترتيب خمسين خمسين فإلهنا إله ترتيب ونظام وليس إله تشويش. وكان في المكان عشب كثير= أي مرعى فالمسيح هو الراعي الصالح (مز23) وهذه الصورة تذكرنا بصورة سفر الخروج (9:24-11) حين أكلوا وشربوا في حضرة الله. ونلاحظ أن يسوع يعطي لمن يقدم كل ما عنده. فهؤلاء ما كانوا يملكون سوى الخمس خبزات. وفي معجزة تحويل الماء إلى خمر قال إملأوا الأجران فهذا أقصى ما يستطيعوه. وما نقدمه يسمى الجهاد. ولاحظ فنعمة المسيح تعطي لمن يجاهد بأقصى ما عنده.

 

آية (11): "واخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا."

شكر ووزع= هنا حدثت البركة وتم التحول السري العجيب. والمادة الميتة أخصبت بروح الحياة فتحول المحدود إلى اللامحدود. وشكر= أي أنه يشرك الآب في هذه البركة فهو خبز بحسب مشيئة الآب. ولذلك لا يتم التحول في سر الإفخارستيا إلاّ بالدعاء بإسم الآب والإبن والروح القدس والألفاظ المستخدمة هنا شكر ووزع وأعطى هي نفسها المستخدمة في سر الإفخارستيا فما حدث هنا رمز للسر. وشكر باليونانية هي إفخارستيا. وهي المقابل لكلمة بارك اليهودية (BEREKAH) التي استخدمت في الأناجيل الأخرى. وبينما تستعمل الأناجيل الأخرى كلمة وكسر إستخدم يوحنا كلمة وزع فيوحنا ملتزم بأن المسيح لا يُكسر منه عظم (يو33:19،36) فيوحنا يكتب هذه المعجزة ويطابق بينها وبين ما حدث على الصليب، وكأن يوحنا يريد أن يقول أن الخبز الحي النازل من السماء لا يتجزأ ولا يًكسر بل يعطي ككل. لذلك ونحن نتناول لا نتناول كسرة خبز بل المسيح كله. ونلاحظ أن يوحنا لا يُصوِّر هنا ما حدث على الصليب فقط بل يصور ما حدث ليلة العشاء السري فالمسيح أيضاً شكر ووزع.

 

الآيات (12،13): "فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء. فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين."

شبعوا= في أصلها اليوناني إمتلأوا. فمازال يوحنا يتحدث عن المعجزة وفي ذهنه سر الإفخارستيا الذي يملأنا نفسياً وروحياً راحة وسرور ففي هذه المعجزة صار الخبز العادي في يد المسيح خبزاً سماوياً فائقاً للطبيعة أعلى من الأرقام والكميات فأصبح من يشبعهم ليس هو الخبز بل المسيح نفسه الذي يشبع أبدياً. لذلك فهذه المعجزة هي [1] رمز لسر الإفخارستيا [2] إعلان أن المسيح يسد كل إحتياج للإنسان (روح ونفس وجسد) ويشبعه ويملأه ويبارك في القليل الذي عنده. وفي (26:6) حينما يتكلم عن الذين لم يدركوا السر يستخدم كلمة أخرى تشير للشبع الجسدي، فهؤلاء لم يدركوا المسيح بعد أن أعطاهم أن يتذوقوا نعمته فجروا وراء الشبع الجسدي، بل طلبوا معجزة مثل أن ينزل لهم المسيح مناً من السماء كما فعل موسى ليشبعوا بطونهم. وماذا عنا هل نطلب المسيح لأجل شبع بطوننا فقط وللماديات فقط، أو نطلبه لنمتلئ به نفساً وروحاً. القفة= كانت تستخدم لملء العليقة لإطعام الدواب التي كان يركبها الناس والقفة تتسع لرجلاً بداخلها. والمسيح طلب "إجمعوا الكسر"= ويقصد الخبز فكلنا جسد واحد، خبز واحد، فالمسيح يهتم بكل نفس (39:6) بكل المؤمنين الذي يأكلون جسده، أن لا يتلفوا وينحلوا بل تكون لهم قيامة. وكلمة لا يضيع هنا ولا يتلف في آية(39) تشيران في اليونانية للفظ لا ينحل. فمن يأكل من الخبز الإفخارستي لا تضيع حياته ولا تتلف بل تبقى وتحيا (فهذه المعجزة رمز لما حدث ليلة العشاء السري). 12قفة= هي رمز لكنيسة المسيح، كنيسة الإثنى عشر تلميذا، التي إجتمعت حول المسيح لتصير واحداً في المسيح يسوع. وبنفس المفهوم يهتم الكاهن بأن لا يترك في الصينية أي جزء متبقي. وتفهم الكسر أيضاً على أنها أي بركة يعطيها لنا المسيح (وقت، فلوس..) علينا أن لا نهملها فهي من الممكن أن تشبع آخرين.

 

الآيات (14،15): "فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم. وأما يسوع فإذ علم انهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضاً إلى الجبل وحده."

فهم الجموع المعجزة بطريقة خطأ، فهموها بطريقة بشرية، وأرادوا أن يملكوا المسيح فهو سيشبعهم دون مجهود ويحررهم من الرومان. بل في جهالتهم قرروا أنه لو رفض المسيح يختطفونه ويجعلوه ملكاً حسب إرادتهم. وحماس الجماهير كان بسبب معجزات الشفاء وهذه المعجزة العجيبة. وهم فهموا المسيح بطريقة خاطئة كما نفهمه حتى الآن، فكل ما نريده هو الشبع والخيرات المادية وحل مشاكلنا مع الآخرين، فكأننا نريد أن نملكه على العالم، ولكننا لا نهتم كما لم تهتم هذه الجماهير بالشبع الروحي. هم إهتموا بالخلاص من مشاكلهم وعبوديتهم للرومان وفكروا في أن المسيح هو المخلص من هذه العبودية ولم يفهموا هدف المسيح من الشبع الروحي والإيمان وتمجيد الله. حقاً كان هناك في فكر المسيح عمل رحمة في هذه المعجزة حتى لا يصرفهم جائعين ولكن الهدف الأسمى هو مجد الله. ولأنهم لم يفهموا إختفى المسيح من وسطهم. فهو لا يريد ملكاً في العالم، بل أن يملك على الصليب.

هذه المعجزة نرى فيها بوضوح المنهج الأرثوذكسي في الخلاص وهو الجهاد والنعمة فنعمة الله إنكسبت بفيض وغزارة في هذه المعجزة ولكن كان مهماً وجود الجهاد الذي يمثله الخمس خبزات والسمكتين. والذي مثله ملأ الأجران في قانا الجليل والذي مثله إزاحة الحجر عن قبر لعازر.

 

الآيات (16-21):              (السير على الماء)

الآيات (16-21): "ولما كان المساء نزل تلاميذه إلى البحر. فدخلوا السفينة وكانوا يذهبون إلى عبر البحر إلى كفرناحوم وكان الظلام قد اقبل ولم يكن يسوع قد أتى إليهم. وهاج البحر من ريح عظيمة تهب. فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة نظروا يسوع ماشياً على البحر مقترباً من السفينة فخافوا. فقال لهم أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها." 

هذه المعجزة الملازمة لإشباع الجموع أوردها متى ومرقس أيضاً ونفهم من (مر45:6-46) أن السيد ألزم تلاميذه أن يركبوا السفينة ويسبقوا إلى العبر، أمّا هو فمضى إلى الجبل ليصلي والرب وعدهم أنه سيلحق بهم ولكنه لم يوضح كيف فلماذا ألزمهم السيد أن يركبوا السفينة وهو عالمٌ بما سوف يلاقونه من رياح؟! غالباً فالتلاميذ حزنوا إذ رفض المسيح الملك، فكلٌ منهم تصور لهُ دوراً عظيماً إذا صار المسيح ملكاً. والرب أرادهم أن يعرفوا أن العالم كالبحر مضطرب، هائج لا يصح أن نشتهيه ونشتهي مجده، بل نشتهي السماويات، لذلك قيل أن المسيح إنصرف إلى الجبل. فالجبال في الكتاب المقدس تشير للسماويات. أمّا هم فلأن فكرهم مازال أرضي فلينزلوا إلى البحر الهائج ليأخذوا درساً. وبعد أن أخذوا الدرس أتاهم المسيح ماشياً على البحر المضطرب ليفهموا أنهم سيواجهون متاعب شتى في خدمتهم وحياتهم ولكن المسيح له سلطان على كل شئ. ففي المعجزة السابقة رأيناه وله سلطان على المادة ونراه هنا وله سلطان على البحر والهواء، بل له سلطان على كل العالم فهو قد غلب العالم. بل حينما دخل المركب وصلت في الحال للبر. المسيح هنا يقول للتلاميذ لا تخافوا حين يهيج العالم إذا كان المسيح وسطكم ففي اللحظة التي يراها مناسبة يتدخل. ولما كان المساء= المساء تشمل معنى غياب الإيمان، أو الخلاف مع المسيح بسبب موضوع الملك. وأن المسيح ليس معهم. فإذا إختفى المسيح من حياتي فهو المساء (16) وهو الظلام (17) وهاج البحر(18). وإذا حدث هذا نتعرض لتجربة خطيرة كهياج البحر. فمع ضعف الإيمان ينشط إبليس. وهنا بصفته رئيس سلطان الهواء أهاج رياحاً عظيمة (اف2:2) فغياب المسيح أدى لظهور المجرب (مر47:6،48). ونفهم أن الريح كانت ضدهم وكانوا هم معذبين من الجذف (عرض البحيرة 8كم في زمان المسيح والآن هي 12كم وطولها 21كم. والغلوة= 200م. أي أن عرض البحيرة= 40 غلوة. وكان التلاميذ قد جدفوا مسافة 25-30غلوة أي 5-6كم بعيداً عن الشاطئ وبحسب مرقس فلقد إستغرق منهم هذا وقتاً طويلاً فهم صاروا في الهزيع الرابع حين أتاهم الرب ماشياً أي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، أي كانوا يجدفون حوالي 10ساعات متواصلة. والرب أتاهم كما يأتي لكل متألم ينتظره وكأن داود النبي رأي ما حدث حين قال (مز23:107-31). ونرى هنا سلطان المسيح على الريح وعلى البحر (مر37:4-41). المسيح كان موجوداً لكنهم لم يروه بسبب ظلمة قلوبهم. ربما لإختلافهم معه. وكثيراً نحن في ضيقاتنا نظن الله غير موجود بسبب ظلمة قلة إيماننا.

فرضوا أن يقبلوه= المعنى في اليونانية أنهم كانوا متلهفين على أن يدخل السفينة. ومن مرقس نفهم أن الرب سار بمحاذاة السفينة ولم يدخلها، وكان يبدو أنه يريد أن يعطي طمأنينة لتلاميذه، لكنهم صرخوا وخافوا إذ ظنوه خيالاً. فطمأنهم بقوله أنا هو لا تخافوا= أنا يهوه ثقوا فيًّ ولا تخافوا لا من العالم ولا من الشيطان. فرضوا= أي تحوَّل خوفهم إلى إيمان وفرحوا بوجوده معهم. ونفهم من (مت25:14-28) أن بطرس طلب أن يسير على الماء مثله ليتأكد أنه المسيح. فأراد أن يتجاوزهم= فالرب يتراءى وقت الضيقة لنصرخ له. وإذا صرخنا يدخل فتهدأ سفينتنا. وهذا ما حدث مع تلميذي عمواس إذ تظاهر أنه منطلق بعد عمواس وحينما دعوه ذهب معهما فإنفتحت أعينهما وتحول عدم إيمانهما إلى إيمان. فالمسيح يظهر لنا دائماً أنه فوق الضيقات وفوق الأمواج الهائجة. هو ضابط الكل. هو المتحكم في كل شئ والمسيطر على كل شئ فلماذا الخوف. وإذا دعوناه ليدخل حياتنا يعطينا هدوء وسلام وإيمان. ويوحنا البشير يضيف معجزة أخرى أن السفينة صارت للوقت إلى الأرض (مز29:107،30). وهكذا كل من يقبل المسيح في حياته ولا يرفضه يبلغ شاطئ الأمان ويحيا في سلام ونحن يكون حالنا أفضل والبحر هائج ولكن يسوع وسط السفينة من أن نكون في سلام زائف بعيداً عن يسوع. ولاحظ أن عينا المسيح كانت عليهم في ضيقهم وأنه أتى في الوقت المناسب.

 

الآيات (22-27): "وفي الغد لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر انه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة وهي تلك التي دخلها تلاميذه وأن يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه بل مضى تلاميذه وحدهم. غير انه جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز إذ شكر الرب. فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه دخلوا هم أيضاً السفن وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع. ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له يا معلم متى صرت هنا. أجابهم يسوع وقال الحق الحق أقول لكم انتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه."       

الجموع مازالت تحاصر يسوع لعلها تنجح أن تجعله ملكاً. غير أنه جاءت سفن= بعض السفن جنحت نتيجة عاصفة الأمس، أو أن الريح التي عاكست سفينة التلاميذ في إتجاهها غرباً ساعدت السفن المتجهة شرقاً. فلمّا لم تجد الجموع الذين شبعوا بالأمس، يسوع. ركبوا هذه السفن التي تصادف أنهم وجدوها على البر الشرقي ربما لجنوحها، ورجعوا إلى كفرناحوم ليبحثوا عن المسيح، فلما وجدوه إزدادت حيرتهم كيف وصل؟ فليس هناك سوى طريقين [1] الطريق البري ويستحيل أن يسير فيه مساءً لأنه طويل ومحفوف بالمخاطر ومهجور ومملوء صخوراً [2] أن يركب سفينة وهم لم يروه يركب سفينة. وغالباً فهم سألوا تلاميذه وعرفوا قصة سيره على الماء فإزداد إعجابهم. متى صرت هنا= هم يريدون بهذا السؤال أن يكشف لهم سر قوته، والمسيح لم يخبرهم أنه سار على الماء هرباً من المجد الذاتي. ولكن كل حماسهم لم يخرج عن المحيط السياسي والمادي لذلك بدأ المسيح يصحح لهم مفاهيمهم حتى يعملوا لا للطعام البائد.. فبكتهم على أفكارهم المادية= لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. هدف المعجزة أن يعرفوا من هو فيأتوا إليه لشخصه المشبع، لكن لم تفهموا من أنا بل طلبتم المزيد من الماديات. تطلبونني لا للآيات= أي تطلبونني بسبب ما رأيتموه في المعجزة فكلمة آية يشير لعمل يعلن عن الشخص. إذاً المعنى تطلبونني لا لشخصي بل لعطاياي. وهذه مازالت مشكلتنا أننا ننشغل بعطايا المسيح عن شخص المسيح. ولاحظ أن الله يعطينا الطعام الجسدي حتى لو لم نطلبه. لكن الطعام الباقي علينا أن نجاهد لأجله. علينا أن لا ننشغل بالماديات فالأهم أن الله يعطينا ذاته. هناك خطأ شائع أن يتحول المسيح في فهمنا ليصبح وسيلة وليس غاية. ولكن المسيح يصنع المعجزات ليثير فينا الإيمان به وبشخصه المشبع وبالإيمان ستكون لنا حياة أفضل. وإذا فهمنا هذا فكل طلب نطلبه يعطيه الله لنا إن كان له نفع في زيادة إيماننا، ولكن إن لم يكن كذلك فسيشابه ملء بطون الجليليين بالطعام البائد وقوله شبعتم هنا تعني ملء البطون. أما ما يريده المسيح لنا أن نمتلئ منه كما جاءت كلمة شبع في آية (12). فهو يشبع الأرواح والنفوس ويملأنا فرحاً فضلاً عن أنه يشبع البطون. فلنطلب من الله فإذا لم يعطنا يكون رفضه الإستجابة لأن إستجابة هذا الطلب لن تفيد في زيادة إيماننا حتى لو كان طلب شفاء مريض. وقوله بائد= فهو يتحلل ولأن العالم كله سيبيد. على أن الله مسئول أيضاً عن هذا البائد ويعطيه لنا. المهم ألا ننشغل به عنه. أما الباقي= فهو ما سيعطي أجسادنا قيامة في الأبدية وديمومة. وهو لا يفنى ولا يتغير إذاً هو الله خبز الحياة. ليس لأنكم رأيتم آيات= رأيتم هنا تعني أدركتم من أنا، وإستفدتم من المعجزة بطريقة صحيحة أي فهمتم القصد من الآية. فالمعجزة هدفها أن نعرف شخص المسيح وشخصه يشبعنا فرحاً. لأن هذا الآب قد ختمه= ختمه أي كمن ختم على وثيقة أن المسيح إبنه، وختمه أي شهد له الآب بقداسته وميًّزه عن أي أحد آخر (رؤ2:7-3). وختمه أيضاً يشير لأن الآب عينه للذبح وبالتالي عينه ليكون طعاماً وخبزاً للحياة الأبدية، فالخراف التي كانت تقدم كذبائح كانت تفحص أولاً من الكهنة ثم يختمها الكهنة أنها لا عيب وصالحة لتقدم كذبيحة. وهنا نسمع لأول مرة قوله الله الآب، فبذبيحة الإبن سيصير الله أباً لجميع المؤمنين.

 

آية (28): "فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله."

في الآية السابقة قال السيد إعملوا وهنا يسألون ماذا نفعل. وسؤالهم يبدو أنه في محله ولكن في نيتهم ماذا نفعل لنتحرر من الرومان ونسود العالم، أو ماذا نفعل من الأعمال الطقسية حتى يتم لنا هذا هل الناموس ناقص؟! سؤال إستنكاري. أو هم يريدون عملاً يؤدونه ليدخلوا الحياة الأبدية. لكن دخول الحياة الأبدية هو عمل يعمله الله بأن يرسل إبنه لذلك أجابهم المسيح أن المطلوب ليس أعمال بل إيمان، وأن العمل هو عمل الله وليس عملهم هم. العمل بدون إيمان بالمسيح لا يرضي الله. الإيمان المقرون بالأعمال الصالحة شرط أساسي للحياة الأبدية. فالإيمان مدخل وبدونه لا حياة مع الله ولا حياة أبدية. وبعد ذلك لابد من الأعمال والجهاد ومن يؤمن ويجاهد يعطيه المسيح حياته ويعمل فيه. ومن يعمل وحده بدون المسيح يجد الأعمال ثقيلة. وبالمسيح نجد نيره هين وحمل الوصية خفيف.

 

آية (29): "أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله."

المسيح يكشف لهم أن هدف معجزاته هو الإيمان البسيط وليس إثارة شهوتهم في الملك. وعمل الله= أنه أرسل لهم المسيح المخلص وما عليهم سوى الإيمان به فالإيمان به هو عمل في حد ذاته، فالناموس أرشدهم للمسيح. والخلاص يتضمن الشبع والحرية والحياة الروحية والخلاص من الموت. وهم سألوا عن أعمال والمسيح أجاب بقوله عمل واحد هو الإيمان به. فالمسيح يصحح إتجاه أفكارهم ولا يستبدل عمل بعمل آخر. والمسيح بهذا يشير لأنهم لم يؤمنوا به بعد المعجزة. ولنلاحظ أهمية الأعمال بعد الإيمان بالمسيح. لكن بدون الإيمان بالمسيح في أي عمل نعمله هو بلا قيمة.

 

الآيات (30،31): "فقالوا له فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل. آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب انه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا."

لقد رأوا معجزة إشباع الجموع وسمعوا عن سيره على الماء وهم أرادوا أن ينصبوه ملكاً، ومع هذا يطلبون آيات أخرى، وكان هذا غالباً بسبب تشكيك الفريسيين فيه. وغالباً كان هذا الحوار في المجمع في كفرناحوم وسؤالهم عن المن راجع لأن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيا سينزل لهم مناً من السماء ليشبعهم كما عمل موسى، وسيكون هذا علامة أنه المسيا. ولم يفهموا أن المسيح سيكون لهم خبزاً سماوياً (كان نزول المن أعظم معجزة عند اليهود) هم أرادوا خبزاً من السماء كل الأيام لتصير حياتهم سهلة فيؤمنوا به. وللآن نتصور أنه إن كان الله يحبني فلابد أن يعطيني ما أريد.

 

الآيات (32،33): "فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم."

ليس موسى= فموسى كان واسطة. لكن المصدر هو الله. أبي يعطيكم= يعطي هنا مضارع مستمر. أي الآب أرسلني وأنا الخبز الحقيقي وليس أي معجزة. المسيح هنا يشرح أن المن لم يكن إلا رمزاً له، وهو الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء. وكما أرسل الله المن لموسي، هكذا أرسل المسيح لهم الآن خبزاً حقيقياً. إذاً المن كان رمزاً. وكلمة حقيقي أي يختص بالعبادة الحقة. خبز الله= هو خبز حقيقي من الله ومقدم إلى الله ولا وينتن ويدود كالمن ولا يتحول ولا ينتهي وهو المشبع حقيقة أما خبز العالم فمن يأكله يجوع، ويموت ولكن المسيح من يأكله يحيا للأبد. (هذا معنى كلمة حقيقي). النازل= في الأصل اليوناني دائم النزول، فهو موجود في السماء قبل تجسده. والمن مهما كان معجزة فهو مجرد طعام للجوف، والمسيح يريد أن يبعد عن أذهانهم ما عَلَقَ فيها من أفكار مادية جسدانية. ومازال هذا الفكر اليهودي أي الشبع الجسدي كعلامة للمسيح موجود عند أصحاب مذهب الألف سنة، أمّا المسيح فيشرح أن عطاياه الأهم هي على مستوى الروح، ولهذا أتى وتجسد. الواهب حياة للعالم= بينما أن المن كان لليهود فقط. وهو يعطي حياة بينما أن من أكلوا المن ماتوا.

 

آية (34): "فقالوا له يا سيد اعطنا في كل حين هذا الخبز."

نفس سؤال السامرية، فهم يريدون خبزاً بلا مشقة، هم ظنوه خبزاً ينزل من السماء بلا جهد كل يوم كالمن. وبينما فهمت السامرية أن الشرب من ماء الحياة يستلزم الطهارة فتطهرت باعترافها، رفض هؤلاء الخبز السماوي إذ عرفوا أن هذا الخبز هو جسد المسيح الذي سيبذله عن العالم.

 

آية (35): "فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إلىّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً."

قبل ذلك كان يقول خبز الله لكنه هنا أوضح أنه هو خبز الحياة= أنا هو خبز الحياة. المسيح يكلم دارسين للعهد القديم سمعوا عن شجرة الحياة (تك9:2+ 22:3) وسمعوا عنها أيضاً في (أم13:3،18+ 30:11+ مز8:36،9) وتفسير هذا نجده في (رؤ7:2+ 1:22،2،6). والمسيح هنا يقدم نفسه مأكلاً ومشرباً. نأكله ونشربه هنا بالسر، وهناك في الأبدية نشبع ونرتوي فيه بالحق إلى الأبد. فالمسيح هو شجرة الحياة من يأكله يحيا للأبد فجسده فيه حياة أبدية. ونرى السامرية وقد إرتوت فعلاً بعد أن آمنت بالمسيح فهو لا يخيب رجاء من يقبل إليه. ولكن المسيح عرف أن الجليليين لن يقبلوه ولن يؤمنوا به لأنهم لا يريدون عطايا روحية. من يؤمن بي لا يجوع (فهو خبز الحياة) ولا يعطش (فهو ماء الحياة كما قال للسامرية) والشرط أن نقبل إليه أي يؤمن ويصدق، ونتحرك ونأخذ خطوة ناحية المسيح بإشتياق. يؤمن بي= موقف القلب الداخلي والضمير. والتحرك نحو المسيح مرتبط بالإيمان. المسيح هنا يحول نظرهم من أشياء يأخذوها منه إلى شخصه والشبع به هو.

 

آية (36): "ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون."

فكل ما يريدونه مطالب دنيوية، خبز نازل من السماء بدون جهد. قد رأيتموني= وهذا يدينهم أنهم رأوا المسيح ورأوا وجهه المقدس وهيئته الإلهية ورأوا معجزاته وسمعوا أقواله ومع هذا لم يؤمنوا. وذلك لأن شهوة الجسد وتعظم المعيشة يتلف حواس الإنسان الروحية فلا يتعرف على المسيح.

 

آية (37): "كل ما يعطيني الآب فالي يقبل ومن يقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً."

كل ما يعطيني الآب= هنا نرى دور الله في إيمان الإنسان فالله يجذب الإنسان ليؤمن. ولكن للإنسان حريته في أن يقبل. كلُّ.. فإلىَّ يقبل= كل بالجمع وإلىّ يقبل بالمفرد. فعلاقتنا مع المسيح علاقة فردية كعريس بعروسه. ولكن المسيح يجمعنا كلنا في وحدة واحدة متكاملة. لا أخرجه خارجاً= في أصلها اليوناني يستحيل بأي حال أن أخرجه. وبالتالي فهؤلاء اليهود لم يأتوا للمسيح ولم يؤمنوا به فرفضهم الآب وطردهم لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح ولا قبلوه. (أف3:1-5)= كل ما يعطيني الآب. ومن الذي يخرجه خارجاً، الشيطان ومن ليس عليهم ثوب العرس (عرس إبن الملك) إذاً حتى لا أكون خارجاً مطلوب [1] الإيمان [2] التوبة.

 

الآيات (38،39): "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا اتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير."

مشيئة الآب الذي أرسل المسيح أن يهب الحياة الأبدية لكل من يؤمن، وهذا يكمل قوله في آية (37) أن من يقبل إليه لا يخرجه خارجاً، ويضيف هنا أن لن يتلف فهو سيحفظه أمام هجمات العدو الشرير. كان سؤالهم في آية (30) ماذا تعمل. وهنا نسمع أنه يعمل مشيئة الآب أن لا يتلف أحد بل يقيمه (يقيمه تكررت 4مرات). فهذه مشيئة الآب أن الجميع يخلصون وتكون لهم حياة أبدية. لذلك فالمسيح لا يرفض من يأتي إليه.

 

آية (40): "لأن هذه مشيئة الذي أرسلني إن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير."

كل ما مضى كان رد المسيح على الجليليين "ماذا نعمل" والمسيح يشرح أن العمل هو عمل الله وليس عملهم هم. وكل ما هو مطلوب منهم أن يصدقوا ويؤمنوا بالمسيح. وكل من لا يؤمن يكون قد رفض مشيئة الله الآب. فالخلاص متوقف إذاً على إرادتي. كل من يرى الإبن= ليس بالعين البشرية ولكنها رؤية بالقلب والفكر الروحي فاليهود رأوه ولم يؤمنوا ونحن لم نراه بالجسد لكن نؤمن به. ولابد أن نرى الإبن هكذا أولاً حتى نؤمن به فنحن لن نؤمن إلاّ بمن نعرفه ونثق فيه. وهذا يأتي بالتأمل في كلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدس فنرى الإبن كلمة الله برؤية عقلية فنؤمن به ثم نشبع به ونرتوي. والكلمة يرى باليونانية تشير لرؤية الحقائق الإلهية حيث يستنير الفكر بالنور الإلهي الداخلي. ومن يرى المسيح هكذا تكون له حياة وقيامة. وهذا ليس عمل صعب فمجرد قبول المسيح والإيمان به يصل بهذه العملية إلى أقصاها بدون حساب زمني. حياة أبدية= تبدأ من هنا على الأرض.

 

الآيات (41،42): "فكان اليهود يتذمرون عليه لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء. وقالوا أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بابيه وأمه فكيف يقول هذا أني نزلت من السماء."

النازل من السماء= يقصد أن طبيعته سماوية لكنهم هم فهموا أنه نزل من السماء بجسده الذي يرونه أمامهم وهم يعرفون أباه وأمه. يتذمرون= هذه طبيعة بنى إسرائيل منذ خرجوا من أرض مصر. وواضح أن صورة المسيح البشرية، إذ رأوه إنساناً وقفت كعثرة في قبول لاهوته. رأوه بعيونهم البشرية ولم يروه بالعيون الداخلية كما في آية (40). لذلك فيوحنا تحاشى الكلام عن نسب المسيح وولادته وتكلم عن لاهوته. ولقد صنع المسيح معجزة إشباع الجموع ليساعدهم على أن يؤمنوا بكلامه لكنهم كانوا مذبذبين، تارة يؤمنوا به وتارة يتذمرون عليه. فهم لم يروا إنسان يأتي من السماء ويهب حياة أبدية. وفهموا من كلامه أنه أعظم من موسى.

 

الآيات (43-47): "فأجاب يسوع وقال لهم لا تتذمروا فيما بينكم. لا يقدر أحد أن يقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير. انه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلىّ. ليس أن أحداً رأى الآب إلاّ الذي من الله هذا قد رأى الآب. الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية."    

إن لم يجتذبه الآب= هذا عمل داخلي للآب بالروح القدس الذي ينخس القلب ويوقظ الضمائر بنور إلهي يشرق في القلب ويقنع فيأتي الشخص للمسيح ويؤمن به ولكن الآب يجتذب كل من يعطي قلبه لله ويفتح أعين قلبه لقبول مشيئته. ومشيئة الله هي عمل المسيح ورسالته. الآب يقنع الإنسان ويملأه نعمة حتى يؤمن بالمسيح رباً. لكن مع إحترام حرية الإنسان. فالله يستخدم قوته النابعة من شدة محبته ليجذب النفوس المترددة، والآب يجذب في مقابل مقاومة الإنسان، بقوة إقناع (أر7:20) لكن دون إجبار. وبدون هذا النور الإلهي لا يمكن لأحد أن يؤمن بالمسيح (1كو3:12). وكل أقنوم يقود للأقنوم الآخر بلا أنانية. فالأقانيم مرتبطة في وحدة بالحب. فالآب يجذب ويقود للإبن، والإبن يقود للآب "من أراد الإبن أن يعلن له" (لو22:10). والروح القدس يقود للإبن (يو14:16). ولزوم أن الآب يجذبنا هذا راجع لقصور العقل البشري وحده عن أن يدرك الله فيؤمن. ولكن كيف يجتذب الآب المؤمن؟ الإجابة. ويكون الجميع متعلمين من الله. أي أن الله يعلمهم فالمعرفة البشرية لا يمكن أن تؤدي وحدها لمعرفة المسيح.. وكيف يعلمهم الله؟ بأن الروح القدس يكتب على قلوبهم (أر33:31،34) ويكون هذا بالحب الذي رأيناه على الصليب. الآب يرسل الروح القدس فيسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5) وبهذا الحب ننجذب. ومن ينجذب ويأتي يعلمه الله. الآن الروح القدس فينا يعلمنا. وهم اليهود كان المسيح أمامهم يعلمهم. فالتعليم لن يصبح حكراً على الفريسيين بل هو للجميع، لكل من يريد. ولكن من أعطى قلبه لإبليس يصير إبليس أباه وقطعاً سيرفض تعليم الله (يو43:8،44). وهذا هو سر رفضهم للمسيح. فهم لم يستجيبوا لجذب الآب لهم بل أعطوا قلوبهم لإبليس. وكان تلاميذ المسيح برهان صادق على أن الروح القدس بدأ يكتب ويعلم من يقبل. والمسيح يعلم عن الله ليس كأي معلم قرأ كتباً ويعلمها بل لأنه رأى الله ويعرفه= ليس أحداً رأي الآب إلاّ الذي من الله. لذلك فمن يسمع من المسيح فهو يسمع من الله رأساً. أما حتى موسى فهو رأى شبه الله (عد5:12-8). أمّا المسيح فهو من طبيعة الله وجوهره فهو قد رآه في ذاته. فالرؤيا هنا هي رؤية الذات للذات فالآب والإبن ذات واحدة لذلك فعلى البشر أن يتعلموا فهم لم يروا الله. والله أرسل المسيح ليعلن الآب. (راجع مت27:11+ يو30:10+ 9:14+ 10:17). ولأنه الوحيد الذي رأى الآب ويعرفه صار الإيمان به الطريق الوحيد لنوال الحياة الأبدية. = من يؤمن بي فله حياة أبدية= فرسالته هي الحياة الأبدية التي أرسله الله الآب ليكملها. ومختصر الكلام أن المسيح هو الوحيد الذي رأى الآب لأنه الإبن الوحيد الجنس، لذلك إن سمعوا له وآمنوا به يكونون قد سمعوا الآب وبالتالي ينالون القصد من رسالته. ورسالته هي أن ينالوا الحياة الأبدية= أقيمه في اليوم الأخير. كل من سمع من الآب وتعلم= أي إستجاب لدعوة الآب في قلبه وتعليم الروح القدس. الدور البشري هو الإستجابة وعدم المقاومة.

 

الآيات (48-51): "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم."       

أنا هو خبز الحياة= المسيح إعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية فهو حي ومحيي والحياة موجودة في شخصه (يو19:14). وذلك لأن "أنا هو" المحيي أي الكيان الإلهي إتخذ بالخبز الذي هو جسده البشري فصار خبزاً حياً، من يأكله تكون هناك حياة لروحه، وحتى إن مات جسده يكمل حياته التي بدأها على الأرض. وبدون هذا الخبز تموت الروح حتى وإن كان الجسد حياً لكن من يريد هذه الحياة عليه أن يؤمن بالمسيح أولاً. وكما أن الجسد يموت إن لم يأكل الخبز المادي هكذا تموت الروح إن لم تأكل هذا الخبز الحي الذي هو جسد المسيح. الخطية مفعولها في الإنسان هو الموت والتناول من جسد المسيح ودمه هو عملية نقل حياة لهذا الميت روحياً بسبب الخطية. هذا مثل من عنده مرض في الدم فيحتاج بصفة مستمرة لعملية نقل دم. أما في السماء فلن نحتاج للتناول فلا خطية ولا موت. لكن سيكون الإتحاد الكامل بالمسيح هو حياتنا وفرحنا وشبعنا وأبدياً بلا إنفصال. والحياة التي في الجسد والدم سببها إتحاد لاهوت المسيح بناسوته. والمسيح تجسد ليعطي جسده الحي ليكون بذرة الخليقة الجديدة، نأكل جسده لنتحد به وقوة هذا الإتحاد هي الحياة الأبدية. ثم يرد المسيح على سؤال اليهود عن المن بأن أباؤهم أكلوا المن ولكنهم ماتوا روحياً ولم يدخلوا إلى الراحة بل هم ماتوا جسدياً أيضاً ولم ينفعهم المن. ولكن من يأكل جسد المسيح لن يموت روحياً. حقاً سيموت جسدياً ولكن يظل غير منفصل عن الله. يشبع من الله هنا على الأرض وتسرى فيه حياة بعد موت أي أن الموت الجسدي لا يؤذيه لذلك يكرر السيد هنا وأنا أقيمه في اليوم الأخير (39،40،44،54). أبذله= المسيح يكشف هنا عن نيته في الصليب. الخبز الحي= أي الذي يعطي حياة أبدية للإنسان. إن أكل= تشمل الإيمان به وقبوله. الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي= من هنا دخل المسيح في مرحلة أخرى فيها يتكلم صراحة عن جسده كمأكل حق. هو يعطي جسده للموت ليكون للناس حياة أبدية. ولاحظ في (32) يقول أبي يعطيكم وفي (51) يقول أنا أعطيكم.

 

آية (52): "فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل."

إن لم يأتي الإنسان بالإيمان إلى المسيح لن يتقبل هذه الحقائق. فخاصم= البعض فهم الكلام على المستوى الروحي. والبعض رفضه لأنه فكر بأسلوب جسدي. وللأسف فهذه الخصومة مازالت حتى اليوم بين الكنائس التقليدية والكنائس البروتستانتية. بين الإرتفاع للمستوى الروحي السرائري والمستوى المادي الطبيعي العقلاني. فيقولون نفس الكلام!! (وهل يمكن أن يتحول الخبز لجسد والخمر لدم، إنما هو رمز فقط).

 

آية (53): "فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم."

يوحنا إكتفى بما أورده هنا عن جسد المسيح ودمه والتناول منهما فلم يورد ما حدث ليلة تأسيس العشاء السري يوم خميس العهد. خصوصاً أنه كتب سنة 100م بعد أن كان هذا السر منتشراً ويمارس في كل الكنائس بالإضافة إلى أن الإنجيليين الثلاثة الآخرين كتبوا عنه.

كان سؤالهم كيف يقدر وكان رد المسيح بأن تأكلوا جسده وتشربوا دمه وهذا إشارة للصلب الذي فيه ينفصل دمه عن جسده، أي بتقديم المسيح نفسه كذبيحة. وسر الإفخارستيا الذي نأكل فيه الجسد ونشرب الدم هو إمتداد لذبيحة الصليب. كل قداس هو نفس الذبيحة. هو نفس المسيح في كل مكان وكل زمان. كما تشرق الشمس كل يوم، هي نفسها. ولو وضعت ملايين الأواني التي بها ماء لظهرت صورة الشمس فيها كلها. لذلك فأي جوهرة هي المسيح كله. والسر معناه نوال نعمة غير منظورة تحت أعراض شئ منظور، فما نتناوله هو خبز وخمر وفي الحقيقة هو جسد ودم. وكان شرب الدم محرماً عند اليهود (تك4:9+ تث23:12) لأن الروح في الدم، وذبيحة المسيح تختلف عن باقي الذبائح إذ أنه يعطينا حياته التي في دمه لتقديسنا (عب13:9،14)، فحياة المسيح الأبدية التي في دمه تنتقل إلى من يشربه. وكلمة هذا التي وجهها اليهود للمسيح في إحتقار رد عليها بقوله أنه إبن الإنسان ليذكرهم برؤيا دانيال (13:7،14).

 

آية (54): "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير."

أي أن تكون له حياة لا تزول من الآن وتستعلن في اليوم الأخير عند القيامة. ولذلك ففي كل مرة نتناول جسد المسيح ودمه نبشر بموته ونعترف بقيامته إلى أن يجئ. ويأكل ويشرب هنا في اليونانية تشير للأكل الدائم المسرور والشرب بمعنى الشركة الدائمة. ولاحظ أن الآيتين (40،54) فيهما تشابه، لكن آية (40) تتكلم عن الإيمان بينما أن آية (54) تتكلم عن سر الإفخارستيا بوضوح، الذي فيه نأخذ حياة الله لأن الجسد متحد باللاهوت. والأكل يتضمن الموت مع المسيح والقيامة معه.

 

آية (55): "لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق."

جسد المسيح هو المأكل الحق. وهذا الكلام رد على طلب اليهود أن يعطيهم مناً من السماء كعلامة على أنه المسيا. حق= أي غير مزيف بل حقيقي يختص بحاجة الإنسان الحقيقية وليس لسد حاجة الجوع، والحاجة الحقيقية تختص بالروح والحياة الأبدية وليس لمجرد عمل إعجازي دنيوي مظهري كما يطلب اليهود. ولكن في حوار المسيح الآن لم يفصح أن السر سيتم بالخبز والخمر، هذا تركه ليصنعه أمام التلاميذ ليلة الخميس المقدسة. وقوله مأكل حق ومشرب حق= فهو يشير لأكل حقيقي وليس للإيمان.

 

آية (56): "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه."

أكل المن لم يغير شيئاً من طبيعة من أكله، بل من أكله مات، ولكن من يأكل جسد المسيح يبقي فيه ويصير فيه المسيح بصفاته، موت المسيح يصير موتاً لنا عن العالم وفداءً لنا وحياته تصير لنا حياة أبدية والثبوت هنا هو ثبوت جسد المسيح بالإنسان أف30:5 وهذا ما ينشئ فينا القيامة، إنه إلتحام حي، شخص بشخص ينشئ إتحاداً ووحدة. ونلاحظ أن الثبات متبادل= يثبت فيّ وأنا فيه. فهو لو قال يثبت فيّ فقط نكون معرضين للإنفصال فإمكانياتنا ضعيفة وإيماننا ضعيف ولكنه أضاف وأثبت فيه لتأمين الإتحاد خوفاً من ضعف الإنسان هذا فعل محبة من المسيح. ثباته فينا كما يثبت ويتحد الغذاء بالجسد. ويثبت فيّ= فهو يعطيني حياته "ليس الحياة هي المسيح" (في21:1) وأثبت فيه= فأنا صرت من جسده ومن عظامه (أف30:5).

 

آية (57): "كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي."

صفة الآب أنه حي (تث26:5+ مز9:36). أنا حيٌ بالآب= الإبن لا يحيا وحده ولكن حياة الآب هي حياة الإبن. فالآب والإبن هما واحد والآب في الإبن والإبن في الآب (يو30:10،38). ويفهم من الأصل اليوناني أن الآب ليس سبب حياة الإبن لكن المعنى "أنا حي بنفس حياة الآب" أنا حيٌ بالآب تفيد إتحاد الأبوة بالبنوة في حياة واحدة غير منفصلة بل الإبن قال عن نفسه "أنا هو القيامة والحياة" هو له نفس حياة الله بسبب اللاهوت المتحد به. وحياته ليست في سلطان آخر (يو18:10) لكن نفهم من العبارة أن المسيح بسلطانه في حالة خضوع لإرادة الآب فيسلم حياته، ليكون لنا نحن حياة في إتحاد مع الله. فإذا أكلنا الجسد وشربنا الدم فنحن لا نعود نحيا وحدنا بل نحيا حياة المسيح النابعة من نفس ينبوع الآب. وهكذا يتم الرباط الإلهي بين الإنسان والله الآب بحياة المسيح التي ننالها من الأفخارستيا ونحيا بها. والمسيح يضع علاقته بالآب مثلاً يحتذي (قارن مع يو18:17+ 9:15+ 21:17+ 14:10،15). وهنا نفس الشئ فنحن نحيا بالمسيح كما هو حي بالآب. وقوله أنا حيٌ بالآب يفهم منه أيضاً أنه من الآب وليس الآب منه. ويقال هذا دون مساس بالمساواة بينهم. أرسلني= أي صرت في الجسد. من يأكلني= يأخذ ويأكل حياة ويحيا بي= يأخذ الحياة التي فيَّ وهي حياة أبدية.

 

آية (58): "هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا من يأكل هذا الخبز فانه يحيا إلى الأبد."

المسيح يكرر حتى لا يطلبوا المن القديم ولكن للأسف لم يفهموا. هذا هو الخبز= كما يظهر لنا لكنه فيه حياة أبدية.

 

آية (59): "قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم."

المتكلم هنا هو يوحنا البشير ويحدد مكان أقوال المسيح هذه. فهو لم يعلمها في السر أو في زاوية من الزوايا.

 

الآيات (60-63): "فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا أن هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم أهذا يعثركم. فان رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً. الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة."   

فقال كثيرون= قالوا في قلبهم. تلاميذه= ليس الـ12 ولا الـ70 رسول ولا الـ500 أخ الذين رأوه بعد قيامته. فالمسيح كان له تلاميذه وأتباع كثيرون. الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً= المسيح يلح على العقل البشري أن لا يهبط بالإلهيات إلى مستوى التراب. فمع نيقوديموس إذ عجز عن فهم سر الميلاد الثاني قال له المسيح المولود من الجسد هو جسد والمولود من الروح هو روح، أما كيف يتم ذلك فمن المستحيل على العقل البشري متابعته، كما لو أردت أن تتبع ريحاً تهب، فأنت ترى الإنسان يتغير من حال إلى حال ولا تعرف كيف. ومع المرأة السامرية أراد أن يسقيها الماء الحي الذي هو الروح القدس، ولما تابت شربت منه ولا نعرف كيف ولكننا رأيناها وقد تحولت إلى كارزة وهم نظروا للمسيح إبن يوسف النجار فإستصعبوا كلامه لأنهم إنما نظروا إليه جسدياً. وهنا يكلمهم عن التناول من الجسد والدم فعجزوا عن الفهم فطلب منهم أن يؤمنوا أولاً حتى يدركوا سر جسده المذبوح فلما عثروا في الفهم أكّد أن كلامه على مستوى الروح أي لا يمكن ملاحقته عقلياً تماماً كما أنه لا يمكننا أن نلاحق كيف صار الكلمة جسداً. وهكذا وبنفس السرية يصير الإنسان بالأكل والشرب من الجسد والدم إنساناً روحياً يتغذى بالروح وبالمسيح كلمة الله كسر خلاص. أمّا من يؤمن بأن التناول هو مجرد رمز أو عمل إيماني وأن الخلاص هو بالكلمة المنطوقة التي تؤخذ بالفهم يجب أن يفهم أن الله لم يخلص العالم بالكلمة المنطوقة بل بالكلمة المتجسد المذبوح. الجسد هنا في كلام المسيح يشير للفهم الجسداني والروح يشير للإستنارة التي يعطيها الروح القدس فندرك الحق.

الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة= كلام الله يعطينا أن نمتلئ بالروح ويعطينا حياة والكلام الذي أكلمكم به هو كلام روحي ويجب أن نفكر فيه روحياً ويعني أن تعليمي ليس بحسب الجسد فيفهم بالفكر الجسداني، بل يفهم بالروح وهو تعليم يعطي حياة، فالكلام عن تناول الجسد هو كلام حقيقي ولكن لا يفهم بالفكر بل يفهم روحياً بالإيمان. ومن يفهمه روحياً تكون له حياة لروحه، أما إذا فهموه جسدياً فلن ينتفعوا لا لأرواحهم ولا لأجسادهم. فالجسد لا يفيد شيئاً ولكن الروح والحياة اللذان في الجسد والدم يفيدان في كل شئ. والروح والحياة لم يستعلنا لنا ولن يستعلنا فينا إلا بشركة فعلية في الموت وفي القيامة. وهذا يتم فينا بأكل الجسد الذي فيه سر الموت وشرب الدم الذي فيه سر الحياة. ولاحظ أنه حينما نقبل كلام الله يكون خضوعنا لكلام الله وسيلة للإمتلاء من الروح القدس فيكون ذلك لنا حياة.

(في آية63) الجسد أي الفهم الجسدي أننا نأكل المسيح كلحم ودم والروح أي نتحد بالمسيح تحت أعراض الخبز والخمر. هذا الكلام صعب= سبق سمعان الشيخ وقال ها إن هذا وُضع لسقوط وقيام كثيرين (لو34:2). وها نحن نرى أن كثيرين سقطوا على المستوى الروحي. من تلاميذه= ليس الإثنى عشر (قارن مع آية67). فكان الـ12 من الذين قاموا بحسب كلام سمعان الشيخ. فمن آمن وسلَّم فرح ومن حكَّم العقل والمنطق سقط. من يقدر أن يسمعه= لهم أذان روحية مغلقة لم تنفتح بكل ما قاله المسيح من كلام روحي. وهم تعثروا في أنهم يعرفون أن المسيح هو إبن يوسف لذلك قال لهم المسيح.. ماذا سيكون موقفكم حين ترون المسيح صاعداً إلى السماء حيث كان أولاً فإذا كان جسدي لا يستطيع أن يهبكم حياة فصعودي بالجسد هو أيضاً أكثر صعوبة. وتعثروا أيضاً في أن كيف نأكل جسده ونشرب دمه وكان رد المسيح أنكم لن تأكلوا جسداً ودماً ماديين جسديين بل روحيين تحت أعراض الخبز والخمر، هما جسد ودم إلهيين ولكن بصورة سيعطيها هو أي خبز وخمر. فالأكل الجسدي أي بمفهوم الشبع الجسدي لن يفيد شيئاً ولكن الأكل الروحي للجسد بالروح يُحيي.

 

الآيات (64-66): "ولكن منكم قوم لا يؤمنون لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه. فقال لهذا قلت لكم انه لا يقدر أحد أن يأتي إلىّ إن لم يعط من أبي. من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه."    

منكم قوم لا يؤمنون= هنا نرى قوة إحتمال عجيبة للرب يسوع فهو كان يعلم قلب كل واحد ومن منهم لن يؤمن لكنه إحتمل الجميع. من البدء= بلغة القديس يوحنا هي عبارة تشير لأزلية السيد المسيح ولاهوته. المسيح هنا يوجه كلامه إلى مجموعة كبيرة من تلاميذه، ربما كان من بينهم السبعين رسولاً، وهو هنا يعلن لاهوته من خلال درايته بالقلوب. وأمام عين المسيح الفاحصة تركه كل من وضعه المسيح أمام ضميره وكشف عدم إيمانه، فمن العسير أن يخادع أحداً الله. والمسيح يعلن أن من يأتي إليه فهو قد أعطاه له الآب، لذلك فهو غير آسف على المفقود وغير خائف على الموجود. فالمفقود ليس من نصيبه أصلاً والموجود لا يستطيع أحد أن يخطفه من يده لأنه أخذه من يد الآب. لذلك لم يكن المسيح يمالئ أحداً أو يهادن أحداً، ولكن من يطلب يجد، ومن يستجيب لجذب الآب يجد المسيح. ومن يبقى هو من قبل دعوة الآب كما هي لا كما يريد هو. فهم يريدون مسيحاً يملك زمنياً. يأتي إلىّ= ليس من الخارج لكن يقبلني ويثق في كلامي ويحبني وهذا عمل داخلي في القلب بالروح القدس. رجع كثيرون من تلاميذه= أي تركوا طريق المسيح. ولم يعودوا يمشون معه= فتلاميذ المسيح كانوا يعيشون معه ويعاشرونه. وللآن فهناك كثيرون يرجعون بسبب مصالحهم الشخصية أو لذاتهم الدنيوية أو لأنهم يجدون أن وصايا المسيح صعبة. والسيد لم يقل لهؤلاء شيئاً فهو لا يرغم أحد على البقاء معه. هؤلاء تركوه إذ لم يكن لهم إيمان حقيقي. فمن له الإيمان الحقيقي يظل تابعاً للمسيح حتى لو لم يفهم تماماً ما يقوله. ثقتي في المسيح تجعلني أتبعه حتى لو لم أفهم الآن ما يقول أو ما يصنع.

 

الآيات (67،68): "فقال يسوع للإثني عشر ألعلكم انتم أيضاً تريدون أن تمضوا. فأجابه سمعان بطرس يا رب إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك."

كلام الحياة الأبدية عندك= كل كلمة تقولها وقلتها تعطي حياة. فالرب يعطي حياة أبدية. المسيح يضع الإثنى عشر أمام حريتهم ليختاروا. وكان رد بطرس هو الرد على موقف التلاميذ الذين إنسحبوا ورد بطرس متفق مع قول المسيح "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة. ولكن لنلاحظ أن الآية (67) موجهة لكل من لا يؤمن بسر الجسد والدم. فالمسيح بإصرار أصر على أننا نتناول جسده ودمه وليس على شكل رموز كما تقول بعض الطوائف الآن. فالمسيح حين رأي أن تلاميذه يتركونه لم يقل أنتم لم تفهموا، فما يؤكل هو مجرد رمز، بل نظر إلى الإثني عشر وقال لهم ن لم تقبلوا إنصرفوا أنتم أيضاً. وما كان أسهل على المسيح أن يشرح لهم قصة الرمز والأكل بالإيمان ولا يخسر تلاميذه. الإثني عشر= إستمر هذا إسماً للتلاميذ حتى بعد غياب يهوذا.

 

آية (69): "ونحن قد آمنا وعرفنا انك أنت المسيح ابن الله الحي."

بطرس إختار المسيح بعد أن عقد مقارنة بين المسيح وبين كل من سواه فوجد المسيح هو إبن الله الحي مؤكداً تبعيته للمسيح. آمنا= تصديق كلام المسيح وعرفنا= نتيجة الإختبار والعشرة. والإيمان يأتي أولاً ثم المعرفة. وبطرس هنا يجيب بالنيابة عن الإثني عشر.

 

الآيات (70،71): "أجابهم يسوع أليس أني أنا اخترتكم الإثني عشر وواحد منكم شيطان. قال عن يهوذا سمعان الاسخريوطي لأن هذا كان مزمعاً أن يسلمه وهو واحد من الاثني عشر."

التلاميذ إكتشفوا أن يهوذا سارق وأبلغوا المسيح. ومن المؤكد أن المسيح كان يعلم حتى دون أن يخبروه ولكنه برحابة قلب تركه للنهاية ليعطيه فرصة أخرى، ولم يشأ أن يفضحه ويعلن إسمه لكنه أعلن أن أحد الإثنى عشر شيطان أي واقع تحت تأثير الشيطان كما قال المسيح هذا عن بطرس إذ رفض الصليب (مت16) أليس إني أخترتكم= تعليق من الرب يسوع على كلام بطرس، والمعنى أنه يعلم كل شئ ويعلم ما في القلوب. وأيضاً تشير لحب المسيح للجميع حتى وهو يعلم بخيانة أحدهم. لما رفضه كثيرون والتلاميذ رفضوا أن يتركوه. قال لهذا إخترتكم. الإسخريوطي= أي الذي من قيريوط وهي في اليهودية وبالتالي فيهوذا هو التلميذ الوحيد الذي من خارج الجليل. المسيح هنا يصحح قول بطرس، إذ قال نحن قد آمنا فيشير أنه يعلم أن منهم وفي وسطهم يهوذا غير المؤمن الذي يفعل إرادة الشيطان. واليهود كانوا يحتقرون الجليليين ولاحظ أن الخيانة جاءت من الذي من اليهودية.


 

الإصحاح السابع

آية (1): "وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية للأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه."

في الإصحاح السابق رأينا المسيح خبز الحياة وهنا نراه ماء الحياة. فلا حياة بدون ماء، وهو صار حياتنا "لي الحياة وهو المسيح". والماء رمز للروح القدس (يو37:7-39) والسيد المسيح يرسل لنا الروح ليثبتنا فيه فيكون لنا حياة، فهو الروح المحيي.

لقد رُفِضَ الرب يسوع في الجليل وهذا رأيناه في الإصحاح السابق. ورُفِضَ أيضاً في اليهودية إلاّ أن رافضيه في اليهودية كانت مقاومتهم أعنف، بل بتهديد بالقتل (13:7،19،25،30،32،44،37:8،40،50). وبين (ص6،ص7) حدثت أحداث يوردها باقي الإنجيليين في (مت12-18،21+ مر7-9+ لو18:9-50). وهذا كله لخصه يوحنا في هذه الآية. وأحداث الجليل هذه إستغرقت (6-7) شهور من الفصح للمظال.

 

آية (2): "وكان عيد اليهود عيد المظال قريباً."

عيد اليهود= يقول هذا لأن العيد لم يعد لله وما عادوا هم شعب الله بعد صلبهم ورفضهم للمسيح. عيد المظال هو أكبر الأعياد اليهودية وأكثرها مسرة ويوافق شهر (سبتمبر/ أكتوبر) وهو أحد 3 أعياد يذهبون فيها ليعيدوا في أورشليم. وهو آخر الأعياد اليهودية في السنة اليهودية. وهو 8 أيام واليوم الثامن يسمى اليوم العظيم من العيد. وهم يسكنون فيه في مظال كذكرى لتغربهم في سيناء واليوم الثامن ذكرى دخولهم أرض الميعاد. وفيه فرح بالحصاد (حصاد العنب) لذلك يدعى عيد الحصاد فكان عيد فرح فالمال الكثير والجو حلو مناسب. وكانوا يقيمون له المظال في ساحات المنازل والشوارع وعلى أسطح المنازل ليذكروا غربتهم في سيناء+ دخولهم لأرض الموعد+ شكر لله على الحصاد وكان هذا رمزاً لدخولنا السماء (بالذات اليوم الثامن بعد الأيام السبعة التي تشير للغربة على الأرض). وكان رئيس الكهنة يومياً خلال أيام العيد (في رأي أنه خلال السبعة الأيام وفي رأي آخر خلال الأيام الثمانية كلها) يخرج بملابسه الرسمية ومعه قدر من ذهب يملأه من بركة سلوام ثم يتجه للمذبح ويصبه في فوهة فضية يخرج منها أنبوب فضي، ليصرف الماء إلى وادي قدرون. وكان هذا تذكاراً للصخرة التي أخرجت لهم ماء ويردد الشعب (أش2:12،3،6) وكانوا يقرأون في هذا العيد (زك8:1-9 + حز47 + أش12) والرب يسوع إتخذ هذا المشهد أساساً لتعليمه الذي قال فيه "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب (يو37:7،38) وكأنه يرد على هتاف اللاويين بنشيد الصخرة بأنهم يتحدثون عنه هو (أش2:12،3،6). فعيد المظال كان مرتبط بالماء. والمسيح قال في العيد أنا مصدر الماء (الصخرة). وكان في العيد أيضاً يضاء منارات ذهبية (منارة كبرى لها 8 شعب تضاء واحدة كل يوم من أيام العيد + 4منارات أخرى) والمنارات موضوعة في دار النساء في الهيكل. وكان ضوء هذه المنارات شديداً جداً حتى أنه يضئ أفنية بيوت أورشليم. وكان هذا النور تذكاراً لعمود النور الذي رافقهم في البرية. والرب يسوع إستخدم هذا المنظر في تعليمه "أنا هو نور العالم" (12:8).

وكانوا يقدمون ذبائح كثيرة في هذا العيد ولذلك أضاف المسيح لماذا تريدون أن تقتلوني فهو يعرف أنه الذبيحة الحقيقية الذي سيقتلونه (19:7). وفي هذا العيد أتوا بامرأة أمسكت في زنا ونسوا أن أباءهم زنوا في البرية وبسبب زنانهم ماتوا. (3:8).

 

الآيات (3-7): "فقال له اخوته انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضاً أعمالك التي تعمل. لأنه ليس أحد يعمل شيئاً في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية إن كنت تعمل هذه الأشياء فاظهر نفسك للعالم. لأن اخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به. فقال لهم يسوع أن وقتي لم يحضر بعد وأما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم ان يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني اشهد عليه إن أعماله شريرة."

هؤلاء الإخوة ربما هم من أولاد يوسف خطيب مريم من زواج سابق أو أولاد خالته أو أولاد أعمامه (مت55:13+ مر21:3،31) أو غيرهم من أقاربه. ولم يكن كل أقاربه مؤمنون به بل كان كثيرون منهم ربما بسبب غيرتهم من شهرته، كانوا يكرهونه بل يقولون أنه مختل. وهم لأنهم أكبر منه سناً أتوا ليقدموا إليه نصيحة في صورة نقد.. أي لماذا أنت مختبئ في الجليل ها أنت خائف من اليهود بسبب تهديدهم لك في أورشليم. وكانت نصيحتهم أن يذهب لأورشليم وهناك أحد إحتمالين:

1)    أن يقتله اليهود وكان مقصدهم أن يتخلصوا منه. أو أن الرؤساء الدينيين يكتشفوا زيف مقاصده.

2)  أن يملك فعلاً فيتعظمون معه ولذلك يدفعونه للشهرة في اليهودية (وحجاج أورشليم سيشهرونه في كل العالم بعد عودتهم لبلادهم) لكن هو طريقه الصليب. ولكن كلامهم كان يحمل معاني التعيير والشماتة.

أما رد المسيح فإنه كان: أن ساعة الصليب لم تأتي بعد. فساعة ظهوره العلني ستأتي سريعاً بالصليب. ومازال أمامه وقت يكمل فيه تعليمه، أما هم فهم يستطيعون الذهاب إلى أورشليم كل وقت بلا خوف فليذهبوا إن أرادوا، أمّا المسيح فلا يذهب هذه المرة إلاّ ليصلب. والوقت عند المسيح محدد بالدقائق ولكل شئ وقته حسب حكمته. إذاً هو ليس خائفاً من الصليب لكن لديه عمل يكمله قبل الصليب.

لا يقدر أن يبغضكم= فأفكاركم كأفكار العالم. العالم عند المسيح يعني العالم بدون الله، ولأنه رأى الشر في قلوب إخوته وجدهم يشبهون العالم لذلك قال لن يبغضهم العالم فأعمالهم متوافقة مع العالم. لذلك سلَّم المسيح أمه ليوحنا ولم يسلمها لأحد هؤلاء الإخوة. ويذكر أن يعقوب ويهوذا ليس الإسخريوطي وهما إخوة الرب صارا من تلاميذه ولهما رسالتين بإسميهما. وربما تعثرا في المسيح لرفضه الملك لكنهم آمنوا به بعد ذلك ولكنه يبغضني لأني أشهد عليه= فالمسيح يتكلم بالحق والعالم لا يحتمل من يكلمه بالحق. وأهل العالم لا يحتملون التبكيت ويواجهونه بالهجوم (راجع رؤ10:11). أما وقتكم= فهم بسلوكهم المادي وبغضتهم له، هم جزء من العالم، يتصرفوا مثل العالم، يطلبوا الشهرة فوقتهم حاضر في كل حين فهم جزء من العالم. وقته الذي حدده هو أن يذهب للصليب ووقتهم أنه يذهب للشهرة وهذا ما لم يريده. أي زمان تريدون الذهاب فيه إذهبوا= وقتكم لتحتفلوا بطريقتكم. أما أنا فوقتي هو الصليب. وقتكم دائماً حاضر في هذا العالم لتفرحوا فالعالم لا يهددكم بخطر فأنتم من العالم. وقتي لم يحضر بعد= هو له خطة إلهية يسير بمقتضاها للصليب وذلك بالإتفاق مع الآب.

 

الآيات (8-10): "اصعدوا انتم إلى هذا العيد أنا لست اصعد بعد إلى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل بعد. قال لهم هذا ومكث في الجليل. ولما كان اخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو أيضاً إلى العيد لا ظاهراً بل كأنه في الخفاء."

لم يرد المسيح أن يصعد معهم لأن هدفهم أن يظهر المسيح في مجده ويعلن عن ملكه. والمسيح يقول لإخوته إصعدوا أنتم لتحتفلوا بالعيد كما تريدوا أنا لا أصعد بعد= أي أنا لا أصعد الآن معكم فهو صعد بعدهم لكن لا ليُعَيِّدْ مثلهم أو ليظهر نفسه كما يريدوا بل صعد في الخفاء فهو لا يستعرض قوته ولا يريد إثارة اليهود فوقت الصليب لم يأتي بعد ولاحظ دقة المسيح فهو لم يقل أنا لن أصعد بل أنا لا أصعد بعد= أي لن أصعد الآن. وهو لا يريد الإثارة وسط الرؤساء خصوصاً أن الصعود لأورشليم كان يصاحبه غناء وتهليل في مواكب وهم مع الجليليين الذين يذكرون معجزة الخمس خبزات سيصنعوا ثورة في دخوله لأورشليم وهذا ما لا يريده. وهو أراد أن يصعد ليكمل رسالته أولاً ثم يقدم نفسه ذبيحة. والمسيح لم يصعد مباشرة إلى أورشليم بل جاء أولاً إلى تخوم اليهودية (مت1:19+ مر1:10) أي مرّ على إقليم بيرية. وهذا يوضح قصد الرب أنه لن يصعد إلى أورشليم مباشرة. وبعد بيرية ذهب إلى تخوم اليهودية ثم ذهب لأورشليم. ولما أرادوا أن يمسكوه ذهب ثانية إلى عبر الأردن (يو39:10،40). ثم في نهاية رحلته حطّ الرحال في بيت عنيا لزيارة لعازر ومريم ومرثا (لو38:10،39) ومن قرية بيت عنيا دخل إلى أورشليم في منتصف العيد. السيد بإنفصاله عن إخوته في صعودهم للعيد أراد أن يُظهر أن مفاهيمه غير مفاهيمهم وطرقه غير طرقهم. وكان إنفصاله في الزمن وخط سير الرحلة. وقتي لم يكمل بعد= أي وقت الصليب لم يأتي. فلا أريد إثارة الآن.

 

الآيات (11-14): "فكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون أين ذاك. وكان في الجموع مناجاة كثيرة من نحوه بعضهم. يقولون انه صالح وآخرون يقولون لا بل يضل الشعب. ولكن لم يكن أحد يتكلم عنه جهاراً لسبب الخوف من اليهود. ولما كان العيد قد انتصف صعد يسوع إلى الهيكل وكان يعلم."

واضح أن المسيح كان غائباً في الأيام الأولى للعيد. فكان اليهود= أي الكل أصدقاء وأعداء. وربما لم يفصح المسيح لإخوته أنه سيصعد حتى لا يعطي فرصة لأعدائه أن يدبروا مكائدهم ضده. أين ذاك= تأتي بمعنى الإحتقار، لكنهم يريدون رؤيته لمعجزاته. مناجاة= في أصلها تعني لغط دليل على تعارض أراء الناس وللآن فأراء الناس في المسيح متضاربة. من نحوه= أصلها بخصوصه. لم يكن أحد يتكلم عنه= بمديح أو إعجاب لسبب الخوف من اليهود= أي الرؤساء من فريسيين وكهنة وكتبة فكان من يساندون المسيح خائفين أن يظهروا ذلك أمام الرؤساء. ولما أنتصف العيد= أي بعد أربعة أيام. وظهور المسيح فجأة في عيد المظال تنبأ عنه زكريا (16:14). البعض يقولون أنه صالح= أي طاهر ونقي لكن بدون إيمان أنه المسيا. وكان يعلم= بسلطان شارحاً ومفسراً العهد القديم.

 

آية (15): "فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم."

هذه أول نقطة تعثروا فيها في المسيح.. ما هو مصدر تعليمه. الكتب= الأسفار المقدسة. وهو لم يتعلم= لا تعني أن المسيح كان جاهلاً فهو كتب على الأرض (6:8،8) وناقش الشيوخ في الهيكل وعمره 12سنة (لو3) ولكن المقصود أنه لم يتتلمذ على يد أحد الربيين. وقوة تعاليم المسيح التي سببت دهشة الجموع راجعة للمصدر الإلهي الذي فيه فهو واضع الناموس.

 

آية (16): "أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني."

معروف عند اليهود أن أي ناموسي لا تقبل شهادته إلاّ إذا أعلن عن الشخص الذي تلقى عنه المعلومة ويجب أن يكون رابي أي معلم رسمي معترف به لذلك يقول يسوع هنا: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني أي الآب. إذاً أيها اليهود إبحثوا عن الحق في تعليمي، فتعليمي يعلن أن الله مصدره إذاً فالله هو الذي أرسلني. ولا تبحثوا عن مصدر لتعليمي من مصادركم (يو11:3+ 49:12+ 10:14). ومع أن المسيح والآب واحد إلاّ أن السيد المسيح قال إن التعليم هو للآب فلو قال أنه هو مصدر التعليم لرفضوه، فهم قطعاً يجهلوا علاقة المسيح بالآب.

 

آية (17): "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي."

الرب يطرح أمام سامعيه الوسيلة للتحقق من المصدر الإلهي لتعليمه وهذه الوسيلة هي أن من يريد أن يصنع مشيئة الله سيجد نفسه في توافق مع كلام المسيح. وبالتالي نستنتج أن الإنسان الذي يؤمن بالمسيح وأنه أتى من الآب يكون هو الإنسان الذي شاء ويشاء أن يعمل ويعرف مشيئة الآب. الذي يتعلم عند الربيين عنده مجموعة من المعلومات، ولكن السيد هنا يتكلم عن المعرفة الإختبارية لمن ينفذ مشيئة الآب. إن شاء أحد= من يريد أن يطيع الله يأخذ نوراً من الله ليعرف نوع التعليم وأنه من الله، وليس من يبحث بالطرق العلمية. إذاً المعرفة متوقفة على خضوع القلب لله.

 

آية (18): "من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم."

من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه= هذا مبدأ عام يطبقه المسيح على نفسه. ومثل هذا يدعي ما ليس فيه. أما أنا فأطلب مجد الآب. المسيح هنا يثبت إرتباطه بالآب، بأنه لا يطلب شيئاً لنفسه بل مجد الله الآب ولأنه أخرج نفسه من طلب الثمن فتعليمه يكون إلهياً تماماً. وبالنسبة لأي خادم يبحث عن مجده الشخصي وثمناً لخدمته يكون كمن يبتز مجد الله لحساب نفسه وكلام المسيح هنا هكذا لأنه أخلى ذاته آخذاً صورة عبد (في7:2 + يو41:5) بل هو غسل أرجل تلاميذه. لذلك مجّده الآب (يو28:12). ليس فيه ظلم= ليس فيه بطلان أو كذب.

 

آية (19): "أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس لماذا تطلبون أن تقتلوني."

المسيح هنا يهاجم اليهود ويتهمهم بأنهم يخالفون الناموس فهم يريدون قتله، وهذا ضد الناموس فلماذا يقتلونه وهو برئ، وهم شهدوا في آية (15) أن تعليمه على مستوى فائق. والمسيح يهاجمهم لأنهم لم يكتشفوا مصدر تعليمه الإلهي وشهادته للآب وبالتالي فحسب آية (17) فهم لا يريدوا أن يصنعوا مشيئة الآب، فلو أرادوا لعرفوه وعرفوا مصدره الإلهي.

 

الآيات (20-24): "أجاب الجمع وقالوا بك شيطان من يطلب أن يقتلك. أجاب يسوع وقال لهم عملاً واحدًا عملت فتتعجبون جميعاً. لهذا أعطاكم موسى الختان ليس انه من موسى بل من الآباء ففي السبت تختنون الإنسان. فان كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى أفتسخطون علي لأني شفيت إنساناً كله في السبت. لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً."

أجاب الجمع= أي ليس الرؤساء. وهؤلاء لا يعرفوا نوايا الرؤساء. هؤلاء إنعمت بصيرتهم فظنوا أن المسيح به شيطان. هم غالباً لم يدروا أن الفريسيين يخططون لقتله، فقالوا به شيطان إذ قال أنهم يريدون قتله. وقولهم به شيطان يشير لأنه مجنون. ولكن كيف يقولون هذا، فهم رأوه قد شفى مريض بيت حسدا. وثاني نقطة تعثروا فيها في المسيح أنه يشفى في السبت= عملاً واحداً عملت= شفاء المريض يوم السبت (إصحاح5). ليس أنه من موسى= لأنهم يقولون له أنت كاسر لناموس موسى والسيد يقول بل الناموس أسبق من موسى فهو من أيام إبراهيم= الآباء= الله طلب الختان من إبراهيم ثم قننه موسى. فكيف لم يفهموا أنها بركة من بركات الله ويسيئوا ويعوجوا الفهم. والمسيح ضرب لهم مثلاً فالختان هو عمل وهم يكسرون السبت ليعملوا هذا العمل، يكسرون حرفية الناموس لأنهم يطبقون ناموساً يرونه الأفضل وهو الختان الذي به يصيرون من شعب الله، فلماذا لا يكسر المسيح حرفية ناموس السبت لأجل ناموس أفضل وهو الإبراء التام. وهذا الناموس الأفضل هو ناموس الرحمة. لو كانوا يحكمون حكماً عادلاً لفهموا أن المسيح قد أكرم السبت. راجع مقدمة الإصحاح الخامس.

 

الآيات (25-27): "فقال قوم من أهل أورشليم أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه. وها هو يتكلم جهاراً ولا يقولون له شيئاً العل الرؤساء عرفوا يقينا أن هذا هو المسيح حقا. ولكن هذا نعلم من أين هو وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو."

من أهل أورشليم= أي ساكنين في أورشليم وليسوا حجاجاً. يطلبون أن يقتلوه= هؤلاء يعلمون مؤامرات الفريسيين ضده أما أهل الجليل فلا يعرفون (آية20). الذي يتكلم هنا هو الشعب العادي وهؤلاء واضح أنهم سمعوا حديث المسيح السابق مع الفريسيين فإنحازوا للمسيح ولكن بقيت لهم مشكلة أنهم توارثوا عن أبائهم أن المسيح إذا أتى لا يكون معروفاً من أين يأتي. ولكنهم هم يعرفون أباه وأخوته. هذه هي النقطة الثالثة التي أعثرتهم في المسيح، فهو من الجليل وهم يحتقرون الجليليون. وكتب اليهود تقول أنه حين يأتي لا يعرف أحد من أين أتى ونحن نعرف أباه وأمه (راجع ملا1:3). والمسيح عرف ما في قلوبهم ورد عليهم بالآتي.

 

الآيات (28-31): "فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلاً تعرفونني وتعرفون من أين أنا ومن نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي انتم لستم تعرفونه. أنا اعرفه لأني منه وهو أرسلني. فطلبوا أن يمسكوه ولم يلق أحد يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا العل المسيح متى جاء يعمل آيات اكثر من هذه التي عملها هذا."

فنادى= أي مناداة بصوت عالٍ. والمسيح قال أنتم تعرفون أبي وإخوتي حسب الظاهر ولكن حتى الظاهر أنتم لا تعرفونه كله، فأنتم لا تعرفون أنني ولدت من عذراء ويوسف ليس أبي، وأنا مولود في بيت لحم وليس الناصرة وكنت ناصرياً حسب النبوات، كل هذا هو الظاهر ولستم تعرفونه. وبالتالي أنتم بالتأكيد لن تعرفوا أصلي السماوي، وأن الآب هو الذي أرسلني وهو قال عن الله حق وأنه هو من الحق. لأني منه= ومن سمعوه فهموا أنه يتكلم عن الله وأنه هو من الله. والمسيح بهذا الكلام أثبت أن ما يتوارثونه كان حقيقياً وأن أحداً لن يعلم من أين أتى فهو أتى من الله من حيث لا يعرفون. ولذلك طلب الرؤساء أن يقتلوه [1] إذ قال أنه من الله [2] إذ قال عنهم أنهم لا يعرفون الله الذي أرسله. ولكن بعض الشعب كان لهم نوراً يميزون به الحق من الباطل وهؤلاء صدقوا كلامه بسبب الآيات التي صنعها. من نفسي لم آتِ= لم آت لأعمل لحساب نفسي بل أنا مرسل من الآب أعمل لحساب مجده وخلاص البشرية كلها. كإنسان لم يأتِ من نفسه وكإبن لله لم يأخذ بدايته من إنسان. ساعته لم تكن قد جاءت بعد= الله أفسد خططهم.

 

الآيات (32-36): "سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع أنا معكم زماناً يسيراً بعد ثم امضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا. فقال اليهود فيما بينهم إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين. ما هذا القول الذي قال ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا."

بلغ رؤساء الكهنة (وعملهم سياسي أكثر من ديني) أن بعض الشعب بدأ يؤمن به فأرسلوا له بعض الخدام= هم ضباط تابعين للكهنة، ضباط لهم سلطة إلقاء القبض. والرؤساء يشملون أيضاً السنهدريم وله سلطة المحاكمات وتصريف الأمور دون أن يصدر حكم بالموت وكان ذلك أثناء حكم الرومان. والسنهدريم كان يتكون من رؤساء الكهنة الحاليين والسابقين والصدوقيين وكانوا يسمونهم الكهنة أو الشيوخ ولهم مركز قضائي وليس ديني ويتكون أيضاً من الفريسيين والكتبة أوالناموسيون ولهم دراية واسعة بالناموس وعملهم الحفاظ على التقاليد.

أنا معكم زماناً يسيراً= المسيح يقول هذا ليعلن أنه عالم بخططهم لقتله. فهو يعلم أنه سيصلب بعد ستة شهور وبعد هذا يصعد للسماء. فالفصح يأتي بعد المظال بستة شهور. ولكن هؤلاء الضباط فوجئوا بهيبته وكلامه المؤثر فشلَّت أيديهم. كان كلامه فيه روح وحياة أنعش نفوسهم المجدبة، فلم يمسكوا يسوع وفضلوا أن يفقدوا وظائفهم. أمضى إلى الذي أرسلني= أنتم مرسلون لإلقاء القبض علىًّ بعنف وأنا مرسل برسالة محبة.. هذا ما بكت ضمير الضباط. لا تقدرون أنتم أن تأتوا= فلا أحد يأتي للآب إلاّ بي وأنتم لا تؤمنون بي.

 

ملحوظة لغوية:

1)    أمضى هنا تعني مجرد أنسحب.

2)    أمّا حين قال أنا أمضي لأعد لكم مكاناً. فالفعل يمضي يشير لأنه ذاهب ليكمل عمل.

3)    وحين قال إنه خيرٌ لكم أن أنطلق.. فالفعل أنطلق يشير لذهاب فرقة (أي سيفترق عنهم)

ولا تجدونني= لأنه في مجد أبيه حيث لا يُرى بالعين بل بالإيمان. تطلبونني ولا تجدونني= إن أصر الإنسان على خطاياه يطلب الله ولا يجده. وأيضاً لو كانت كل طلباته مادية ولا يهتم بأن يعرف الله. يذهب لليونانيين= هذه سخرية من المسيح فاليهود يعتقدون أن المسيح سيأتي لهم أي لليهود فقط، وذهابه لليونانيين في نظرهم يعني أنه ليس هو المسيح أو هو مسيح للأمم وهذه سخرية منه. أو يعني هذا أنه سيذهب للشتات اليهودي في اليونان حيث لا يستطيعوا أن يمسكوه.

 

الآيات (37-39): "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه انهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد."

اليوم الأخير من العيد= له تكريم خاص عند اليهود كيوم سبت. إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب= هذه رد على تطلبونني ولا تجدونني. فمن يطلبه بأمانة يجده. والمسيح هنا يشرح الطقس الذي يمارسونه وأنه هو المقصود بالصخرة التي تفيض ماء. وبسبب النور (المنارات) قال أنا هو النور (إصحاح8) وبسبب الذبائح قال لماذا تطلبون أن تقتلوني فهو الذبيحة الحقيقية. من هنا فهم بولس أن المسيح هو الصخرة التي تفيض ماء (1كو10) والصخرة تابعتهم أي ظلوا يرتووا من صخرة كل رحلتهم في سيناء. والمسيح أخذ على عاتقه أن يشبعنا (فهو المن) ويروينا خلال رحلتنا في هذا العالم حتى نصل للسماء حيث الخبز السري والماء السري. بل لا نشرب فقط بل نتحول في داخلنا لصخر يفيض منه الماء على الآخرين= تجري من بطنه أنهار= بطنه= أي داخل النفس والإرادة= الإنسان الداخلي حيث يقام ملكوت الله. أنهار= وفرة مواهب الروح وبركاته، بل يصير المؤمن بركة لغيره. إن عطش= فالذي لا يعطش لن يبحث عن الماء. المسيح يتكلم عن العطش الروحي، أما غير المهتم لن يبحث عن المسيح. العطش هنا هو إشارة للشعور بالإحتياج للمسيح. من آمن= يثق في المسيح ويحبه ويسلم له حياته ويقبله كملك بالمحبة ويؤمن بألوهيته. تجري= وذلك لأننا إذ نؤمن بالمسيح نتحد به. وهو مصدر الإرتواء. فإذا فتحنا فمنا يتكلم الروح. والكنيسة بأسرارها تفيض بغني الروح القدس على أولادها. ولكن المسيح يعطي هذا الماء لمن يشعر أنه محتاج، أي يشعر بالعطش لهذا الماء.. طوبى للجياع والعطاش إلى البر.. وهذا ما قاله داود "كما تشتاق الأيل إلى جداول المياه كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله" (أم4:18+ عا11:8+ رؤ17:22) والعكس فمن لا يشعر بالإحتياج يصير فاتراً يتقيأه المسيح (رؤ17:3). ونلاحظ التطور فمن يشعر بالعطش يأتي للمسيح وإذا أقبل سيعرفه ويؤمن به وإن آمن تفيض من بطنه أنهار ماء حي. (راجع أش7:35+ 3:44+ 1:55+ حز25:36+ زك16:14-19) ولكن هناك من يعطش فيذهب للآبار المشققة أي إلى العالم ولذاته. أمّا المسيح فهو وحده الذي يشبع النفس والروح. والنفس لا تشبع حقاً سوى من الله ولا يكفيها كل ما في العالم. ولن يحل مشكلة الإحساس بالفراغ والعزلة سوى الله ومحبة الله.. بل أننا في المسيح لن نشتهي شيئاً في الأرض (مز25:73) والروح يفيض من المؤمنين قداسة وفضائل ومواهب وأعمال صالحة.

يفيض= فهناك إمتلاء. وهناك فيض. الروح القدس يسكن فينا ولكن له درجات بحسب جهاد كل فرد. والروح له ثمار (غل22:5،23). مثال: من ثمار الروح القدس السلام. فمن له درجة الملء إذا وُجِدَ في ظروف صعبة يكون مملوءاً سلاماً بالرغم من إضطراب كل من حوله. ومن له درجة الفيض فهو يفيض عليهم سلاماً، وطالما هو موجود فهم يشعرون بالسلام. من يفيض يروي الآخرين كما عمل الرسل. ومن ضمن الفيض التعليم. بل أن المسيح أعطى الرسل وخلفائهم أن يعطوا الروح القدس للآخرين وبهذا تستمر الكنيسة.,

قال هذا عن الروح= يوحنا يفسر كلام المسيح بأن الماء يشير للروح القدس (أش3:44+ يؤ28:2،29). ولكن حلول الروح القدس على المؤمنين كان متوقفاً على صعود المسيح (يو7:16) لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد= قد مُجِّدَ= المجد هو الصليب، أو بدأ بالصليب. فالصليب هو قمة رفض هذا العالم، الذي بدأه المسيح برفضه كل ما في العالم (في التجربة على الجبل) وإنتهى برفضه للحياة ذاتها. أمّا من يُقبل على ملذات هذا العالم فهو بلا مجد، فالعالم باطل. ومحبة العالم عداوة لله (يع4:4). وراجع قول بولس الرسول "الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية" (عب15:2). فالمسيح في صليبه نراه لم يخف من الموت. وهذا قمة المجد. وهذا المجد يبدأ بالصليب. ورفض كل ملذات العالم ينتهي بالجلوس عن يمين الآب. فكلمة مجد تشمل الصليب والقيامة أي النصرة على الموت والعالم وتكميل الخلاص الذي إنتهى بالمجد (يو31:13+ يو31:12+ يو28:12+ يو4:17،5،24). وكان لابد للمسيح أن يصعد للسماء ويمجد حتى يحل الروح القدس على البشر، كانت البشرية غير مهيأة بعد أن تتقبل الروح القدس إلاّ بعد أن دخل المسيح للأقداس العليا فوجد لنا فداءً أبدياً. وليتبرر الإنسان. لذلك فالتلاميذ الذين آمنوا بالمسيح لم يمتلئوا من الروح القدس إلا يوم الخمسين بعد صعود المسيح. لذلك قال المسيح "خيرٌ لكم أن أنطلق.." لأنه حين ينطلق للسماء ويتمجد يكمل الفداء. فقبل الفداء كان الإنسان في حالة عداوة مع الله، والله نزع الروح القدس من الإنسان بسبب الخطية. وكان لابد أن تتم المصالحة وهذا تم بالموت والقيامة والصعود "صالحنا لنفسه بيسوع المسيح". والمجد هو للجسد فاللاهوت دائماً في مجد. وحين نكون مصالحين يرتاح فينا الروح القدس.

 

تأمل روحي: لا يملأ الروح القدس قلب الإنسان إن لم يكن يمجد المسيح بحياته.

 

الآيات (40-44): "فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي. آخرون قالوا هذا هو المسيح وآخرون قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي. ألم يقل الكتاب انه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح. فحدث انشقاق في الجمع لسببه. وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه ولكن لم يلق أحد عليه الأيادي."

نرى أن البعض آمن لأن المسيح يصنع معجزات فظنوه سيخلصهم من الرومان. ولكنه أتى ليخلصهم من أثار الخطية، فهو خلاص شخصي فردي وليس سياسي. والبعض تَعَطَّلَ بسبب تعاليم الربيين. والمسيح لم يؤكد لهم أنه وُلِدَ في بيت لحم لأنه حتى لو تأكدوا من هذه فهم سيشككون في أنه من السماء. وهل ينسى اليهود ما فعله هيرودس من دموية في قتل أطفال بيت لحم. لاحظ أن البعض قالوا هو النبي والبعض قالوا عنه أنه المسيح، فهم كانوا غير فاهمين أن النبي (تث18) هو المسيح نفسه. بل حتى التلاميذ كانوا غير فاهمين بالضبط حتى يوم الخمسين، حينما بدأ الروح القدس يعلمهم كل شئ.

 

الآيات (45-53): "فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين فقال هؤلاء لهم لماذا لم تأتوا به. أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون ألعلكم أنتم أيضاً قد ضللتم. العل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون. قال لهم نيقوديموس الذي جاء إليه ليلاً وهو واحد منهم. ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل. أجابوا وقالوا له ألعلك أنت أيضاً من الجليل فتش وانظر انه لم يقم نبي من الجليل. فمضى كل واحد إلى بيته."

غالباً لم يقبض الخدام على المسيح لتأثرهم به ولجمهرة الجماهير حولهُ وإعجابهم به. وكان العذر الذي تقدموا به معبراً عن شجاعتهم أمام السنهدريم فلم يتعللوا بالجماهير بل قالوا حقيقة ما في قلوبهم. وكان رد الفريسيين واهياً على الجنود.. أن أحداً من الرؤساء لم يؤمن به أو هم ظنوا أن أحداً من الرؤساء آمن به سراً وأوعز للخدام أن لا يقبضوا عليه، أي ظنوا أن هناك مؤامرة. وبدأ الفريسيين يلعنون الشعب الذي آمن بالمسيح. وكان هؤلاء الفريسيين بعلمهم الغزير يحتقرون الشعب إذ كانوا يعتبرونهم جهلاء لذلك قال المسيح "من جاء قبلي هم سراق ولصوص فكان كل ما يهمهم أموال الشعب. ولكن موقف الفريسيين هذا لم يَرُقْ لنيقوديموس ولكنه دافع بحرص عن المسيح خوفاً منهم، فهو مؤمن بالمسيح ولكن خفية. ولكن دفاع نيقوديموس أحرج الفريسيين إذ أظهر خطأهم أنهم أدانوه دون أن يسمعوا منه وهذا ضد الناموس فإنقلبوا على نيقوديموس وأسندوا إليه جهالة أنه لا يعلم أنه لم يقم نبي من الجليل بل أرادوا توجيه إزدراء وإحتقار لنيقوديموس فقالوا له ألعلك أنت أيضاً من الجليل فالهيود يحتقرون الجليليين لإختلاطهم بالوثنيين. فوصف أحدهم بأنه جليلي هو إهانة عند اليهود والمعنى أنت جليلي مثله لذلك تدافع عنه. ولقد أفسد نيقوديموس مؤامراتهم فذهب كل واحد إلى بيته. ونلاحظ أن الفريسيين تعمدوا إهانة نيقوديموس إذ لم يستطيعوا الرد عليه. وظل إيمان نيقوديموس ينمو حتى رأيناه مزدهراً يوم الصليب. وحتى ما قاله الفريسيين هنا من أنه لم يقم نبي من الجليل هو خطأ فدبورة كانت من الجليل من سبط نفتالي وإيليا النبي كان من تشبه وهي في نفتالي (1مل1:17) وإليشع من آبل محولة في الجليل (1مل16:149). وناحوم من الجليل وحنة النبية التي كانت موجودة أيام المسح هي من سبط أشير(لو63:3) ويونان النبي كان من الجليل. والمسيح تنبأ عنه إشعياء أنه من الجليل (1:9). هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون= فهم لعنوا الشعب الذين أعجبوا بالمسيح، ففي نظرهم أن من يقبل المسيح هو ضد الناموس. إذاً هو ملعون.

 

نرى في إنجيل يوحنا المسيح محقق الرموز :

ص2           المسيح هو الهيكل الحقيقي.                            

ص3           المسيح هو الحية النحاسية.

ص6           المسيح هو الخبز والمن الحقيقي.

ص7           المسيح هو الصخرة الحقيقية التي تفيض ماء.

ص8           المسيح هو النور الحقيقي الذي أرشد الشعب في البرية.

ص19         المسيح هو الفصح الحقيقي الذي ذبح لأجلنا.


 

الإصحاح الثامن

الآيات (2-11):               (المرأة الخاطئة)

حدث في القرون الأولى أن بعض النساخ لم يكتبوا هذه الآيات لأنهم ظنوها تشجع على الخطية. ولكن هذه القصة موجودة في معظم النسخ وبالذات في النسخ القديمة جداً. وقد وردت حرفياً في كتاب تعليم الرسل في موضوع قبول المسيح للخطاة. ووردت في الدسقولية. والمسيح هنا لم يتساهل مع الشر بل هو صفح مع وصية أن لا تخطئ ثانية.

 

الآيات (1-6): "أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون. ثم حضر أيضاً إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا ولما أقاموها في الوسط. قالوا له يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت. قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه وأما يسوع فانحنى إلى اسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض."

في آية (1) المسيح يذهب إلى جبل الزيتون، فيظهر التناقض واضحاً فالفريسيين ذهبوا إلى بيوتهم أي لأماكنهم الشريرة أمّا المسيح فذهب إلى جبل الزيتون حيث كان يصلي أي إلى حيث علاقته مع الآب. ولأن يسوع كان معتاداً على الذهاب إلى جبل الزيتون عرف يهوذا مسلمه هذا المكان وسلًّمه فيه (لو37:21،38). المسيح تكلم فيما سبق عن الروح القدس ثم ها هو يذهب لجبل الزيتون، وزيت الزيتون هو زيت المسحة الذي به يحل الروح القدس على الممسوح كاهناً أو ملكاً ومنه زيت الميرون. الذي به يحل الروح القدس على كل معمد ويمسح بزيت الميرون.

جلس يعلمهم= كانت هذه عادة المعلمين أن يجلسوا لأنهم يستمرون في التعليم لساعات طويلة (لو20:4+ مت1:5+ مت55:26). حضر أيضاً إلى الهيكل= قوله أيضاً يشير لأن يسوع صار معلماً معروفاً والشعب يلتف حوله وهذا أغاظ الفريسيين والكهنة. وقد أتوا للمسيح بهذه الزانية وكان هدفهم إحراجه فالمفروض أن يذهبوا بها للقاضي فهل المسيح قاضي لهم ولنلاحظ:

1.  عقوبة الزانية الرجم بحسب الناموس (لا10:20) فإن حَكَمَ المسيح بغير الرجم يكون مخالفاً للناموس ويلقون القبض عليه ويكون مستحقاً القتل.

2.    لوحَكَمَ بالرجم يكون خالف نفسه لأنه يدعو للرحمة والحب.

3.    هم كانوا يحرجونه فمن استهزأوا به كيف يجعلونه قاضياً فجأة؟!

4.  يتضح من هذا ظلمهم، فلماذا لم يأتوا بالرجل الذي أمسكت معه في ذات الفعل، هل يحكمون بمكيالين؟! فالحكم يجب أن يكون على الزاني والزانية.

5.    إن حَكَمَ المسيح بالرجم فيكون هذا ضد قوانين روما التي تمنع اليهود من أن يصدروا أحكاماً بالقتل.

6.    قالوا له يا معلم.. موسى أوصى. فكيف وهم يقولون له يا معلم يذكروه بناموس موسى.. هذا للإحراج قطعاً.

والمسيح أتي لا لينقض الناموس بل ليكمله. ولم يأتي في مجيئه الأول ليدين العالم بل ليخلص العالم (يو17:3+ 47:12+ 22:5). هو جاء ليبرئ الخاطئ لا ليقتله ولكن هذا سيكون على حساب نفسه، إذ سيموت هو عوضاً عن الخاطئ. فالمسيح حين حكم ببراءتها دفع هو حياته ثمناً لهذه البراءة. وكان هذا هو التشريع الجديد أو الناموس الجديد في مقابل ناموس موسى الذي يقضي برجم الزانية. ناموس موسى هو قاضٍ ضد المتهم أما المسيح فهو قاضٍ ومحامٍ في آن واحد. ليجربوه= هو نفس إسم إبليس= المجرب (مت1:4،3) ملحوظة: ناموس موسى كأي قانون يحكم بحسب الظاهر وليس بحسب القلب.

إنحنى الرب ليكتب على الأرض= ماذا كان يكتب المسيح؟ ربما كتب لهم خطاياهم ليرى كل واحد صورة نفسه دون أن يفضحهم أمام الآخرين. وغالباً هو كتب الخطايا أو الوصايا التي كسروها كما كتب في القديم على لوحي الحجر، وربما كان يضع كل واحد أمام ضميره، وكانت فرصة للهدوء في هذا الإندفاع الأهوج ضد المرأة. المسيح وضع رأسه لأسفل فهو القدوس لم يشأ أن ينظر لهؤلاء الخبثاء ولهذه الزانية، هو حزين لما إنحدر إليه البشر. وكثيراً ما يفعل المسيح هذا معنا، إذ حينما نتكلم على أحد ونشهر به تبكتنا قلوبنا إذ تكون لنا نفس الخطية أو خلافها.

 

الآيات (7-9): "ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. ثم انحنى أيضاً إلى اسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط."

لكنهم استمروا يطالبونه بالجواب فكتب ثانية بعد أن وضع مبدءاً جديداً فليرمها بحجر من كان بلا خطية. لذلك ربما في كتابته أولاً وضعهم أمام ضمائرهم ولما لم تستيقظ ضمائرهم وضع هذا المبدأ أن لا يجوز لشرير أن يحاكم شريراً آخر وجلس في المرة الثانية ليكتب خطاياهم صراحة فخجلوا وإختشوا إذ وجدوه يعرف كل شئ وفاحصاً للقلوب والكلى. هنا كتب خطاياهم على الرمل فيمكن أن تمحى بالتوبة، ولكن هناك تسجل ولا تمحى فيدانوا. وأظهر الرب أن المسيح الذي بلا خطية هو الديان الواحد الوحيد. هنا المسيح لم يخالف ناموس موسى بل وافق عليه ولكنه وضعهم أمام مشكلة من الذي ينفذه، من الذي يستحق؟! بهذا هو يكمل ناموس موسى ويكمل ما نقص فيه وفيهم. وهنا كان قضاة هذه المرأة مثل قضاة سوسنة. فإنسحب الجميع إذ إنكشفوا أمام الرب. والشيوخ إنسحبوا أولاً إذ لطول مدة حياتهم على الأرض كانت خطاياهم أكثر، والشيوخ المفروض هم رمز للحكمة والطهارة. لقد ستر الرب عليهم ولم يفضحهم فكان عليهم أن يستروا على المرأة، ولنستر نحن إخوتنا. وبإنسحاب المدعين والشهود سقطت القضية وبقيت المرأة ولم تنسحب وهذا دليل على بداية مشاعر التوبة والإنسحاق عند المرأة. هي وجدت في المسيح سلطان وقداسة وغفران ومحبة تحتاج لهم. والله كما كتب الوصية في العهد القديم، يكتب الآن بروحه القدوس (إصبعه) على قلوبنا. فنطيع وصاياه بالحب. المسيح أتى بالحنان والرحمة، وهذا ظهر في هذا الموقف. وظهر أن الله يدين الخطية لكنه يريد خلاص الخطاة.

 

الآيات (10،11): "فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك أما دانك أحد. فقالت لا أحد يا سيد فقال لها يسوع ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضاً."

ما حدث هنا هو بالضبط ما جاء المسيح ليعمله. فقبل المسيح ما كان يمكن غفران أي خطية. أي خطية كانت تتسبب في هلاك الخاطئ (فبسبب خطأ من موسى حُرِم من دخول أرض الميعاد). ولكن بدم المسيح تغفر الخطية والدينونة = ولا أنا أدينك. ويكون لنا فرصة أخرى= إذهبي ولا تخطئ أيضاً.

خسر المشتكون قضيتهم وإنسحبوا كقضاة وإتضح أن الناموس عاجز إذ لا يوجد القاضي الذي هو نفسه بلا خطية والمؤهل للحكم على الخطاة ويضاف لعجز الناموس أنه يدين بحسب الظاهر، أمّا حكم المسيح فهو بحسب الداخل. لذلك إذ إنسحب القضاة الناموسيون لم يبق سوى المسيح الديّان وحده. ولكنه في مجيئه الأول لم يأت ليدين بل ليكفر عن خطايا البشر بدمه. وبرأها المسيح فهو أتى ليبرئها بدمه ولكن بشرط إذهبي ولا تخطئ أيضاً وهذه دعوة للتوبة بل منحها قوة لكي لا تعود تخطئ وقوله إذهبي فيه منحها بركة وسلام، مع غفران= ولا أنا أدينك. ويوحنا وضع هذه القصة هنا ليشرح الفارق بين ناموس موسى وشريعة المسيح. الناموس ليس به عيب ولكن العيب في البشر (فساد الشهود كما حدث في قصة سوسنة ونابوت اليزرعيلي) كما أن الناموس يحكم بالموت على الخاطئ ولا يعطي فرصة للتوبة كما عمل المسيح. وإنتصار النعمة على الناموس في هذا الموقف يعطينا ثقة في القدوم للمسيح فيغفر خطايانا ولاحظ المسيح يقبل الخاطئ ولكنه لا يقبل أن يستمر الخاطئ في خطيته. فلنتقدم الآن لأن المسيح مازال يكتب خطايانا على الرمال فإذا إعترفنا بخطايانا غفرت لنا ونسمع صوت الرب على فم الكاهن مغفورة لك خطاياك.. لا تعود تخطئ.. إذهب بسلام الرب معك. والقديس أبو مقار تعلَّم هذا الدرس من المسيح وستر على الأخ الزاني وقال له لا تفعل ذلك ثانية. ولكن الآن بعد أن برأنا المسيح فمن يستهين بدم المسيح فدينونته أعظم (عب1:2-3+ عب26:10-31).

 

الآيات (12-20):              (المسيح نور العالم)

آية (12): "ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة."

هنا نجد بقية الحديث الذي جاء في (37:7،38). فكان المسيح قد قال هناك "من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي.." ووجدنا نتيجة لهذا هجوم الفريسيين عليه ثم محاولة إحراجه في موضوع المرأة الزانية. وهنا ينقل المسيح تعليمه بعد أن خرج الفريسيين وإنتقل من الماء إلى النور.

أنا هو نور العالم= وكان ذلك بمناسبة المنارات المضاءة في هذا العيد تذكاراً لعمود النور الذي قادهم في البرية أثناء الليل. المسيح ينتهز فرصة إستخدام الطقس (النور والماء) ليستعلن الحقائق الإيمانية من وراء الطقس، فهو الماء والنور الحقيقيين (هذا يشير لأهمية الطقوس في الكنيسة فوراءها عقائد). والمسيح هو النور الذي يبدد ظلمة القلب وبه نعرف الآب ونرى السماويات وهو الذي يقودنا في برية هذا العالم للأبدية. ونلاحظ أن اليهود كانوا يقولون أن الناموس هو النور والمسيح بهذا يعلن أنه كمال الناموس. وهو قال نور العالم أي ليس لليهود فقط. والنور يشير للمعرفة والقداسة، والظلمة ترمز للجهل والخطية. فالمسيح هو الذي يكشف ويعلن الله لنا في محبته وهو النور الذي يقودنا للحياة مع الله وهو يبدد طبيعة الظلمة الشريرة وهو نور لمن هو في حيرة وهو يعطي الإدراك والمعرفة والإستعلان وإدراك حقيقة الأشياء. قال فيلسوف ملحد (نحن نخرج من ظلمة الرحم إلى ظلمة القبر مروراً بظلمة الحياة) لكن المسيح هو الذي يعطي معنى للحياة وتفسيراً لأحداثها، ويلقي نوراً على نهاية حياتنا في مجد. هو يستعلن لنا أمجاد الأبدية. فمن يتبع المسيح يكون في نور وينجو من الظلمة ومن يرفضه يبقى في الظلمة وبدون إرشاد وبدون تمييز للحق. فلا يمشى في الظلمة= الظلمة هي الإبتعاد عن الله، وعدم الإيمان والخطية. هي التخبط في طريق الشر بعيداً عن الله. إذاً من يؤمن بالمسيح يصير له المسيح خبز للحياة (من يأكله يحيا به للأبد) ومصدر للماء الحي (فيفيض من المؤمن أنهار ماء حي) أي يكرز بالمسيح الذي يحيا فيه (غل20:2). ويكون له المسيح نور (يصير له المسيح نور الحياة أي يحيا فيه) النور مرتبط بالحياة، فإذا وجد النور يكون هناك حياة والعكس فالظلمة معها موت. ونور المسيح ينير الطريق فأحيا بسلوك ناتج عن حياة المسيح فيّ. فالمسيح ليس نور خارجي بل ينير من الداخل. والمسيح هو نور الأبدية أيضاً (رؤ5:22). ويكون له المسيح نور الحياة أي يتحول المسيح فيه إلى عمل وسلوك وحياة يشهد بمدى الحق في هذا النور. ويكون له المسيح نور الخلاص والرجاء والثقة والفرح والتهليل. ويصير المؤمن هو أيضاً نوراً للعالم (مت14:5) ونور المؤمن هو إنعكاس لنور المسيح. لذلك يقام للكنيسة منارة فهي جسد المسيح نور العالم حاملة النور. من يتبعني= كما تبع الشعب عمود النور في البرية فقادهم إلى أرض الميعاد. هكذا من يتبع المسيح يصل إلى أورشليم السماوية وهناك يكون المسيح هو نور الأبدية (رؤ5:21،23-25) وقارن مع (أش1:60-3+ 18-21+ أش6:42،7+ أش1:9،2+ أش6:49،7+ ملا2:4). وتثبيتاً لأن المسيح هو نور للعالم نجده في الإصحاح التالي مباشرة يفتح عيني الأعمى. وفي (ملا2:4) نجد المسيح شمس البر، فكما أن الشمس تعطي الصحة والشفاء والضوء هكذا المسيح هو شمس الروح وبرها ونورها وطهارتها.

 

الآيات (13،14): "فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقا. أجاب يسوع وقال لهم وإن كنت اشهد لنفسي فشهادتي حق لأني اعلم من أين أتيت وإلى أين اذهب وأما انتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين اذهب."

أنت تشهد لنفسك= هذا عُرف بين الناس وهذا منطق سليم بالنسبة للبشر العاديين، لكن أهذا يقال بعد كل ما عمله المسيح وكل ما قاله. ففيه تحققت كل نبوات العهد القديم (فتح عيون العمي/ أقام موتى/ ما تكلم أحد بمثل هذا قط..) سبق المسيح وقال في (يو31:5) بنوع من التنازل إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً. وهو قال هذا بمعنى أن حسب الناموس يلزم شهادة إثنين ومن يشهد لي هو الآب. ولكن الآن لا داعي للتنازل فهو يكشف كل الحقيقة (فقد إقتربت أيامه على الأرض أن تنتهي)، فهو وحده الذي يدرك من هو وأما هم فلا يعلمون. وشهادته هو هي شهادة الله فهو والآب واحد.

بضم هذا الكلام هنا مع (يو31:5) نفهم أن قوله "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق فهو النور، والنور يراه كل أحد إلاّ العميان، يكفي أن يروه ويكون لهم هذا شهادة. عموماً النور لا يحتاج لمن يشهد له بل لمن يراه. ولكنهم حولوا الموضوع لشهادة. وهو هنا يشير للوحدة مع الآب. فالآب هو مصدر هذا النور فهو يلدهً ويشهد له. ولأن المسيح نور فمن له العين الروحية كان لابد وسيكتشفه ومن ليست له عين روحية لن يتعرف عليه وهذا ما حدث لهؤلاء الفريسيين= أما أنتم فلا تعلمون= إذاً العيب ليس في النور لكن في غياب العين الروحية. وغياب العين الروحية سببه إتجاهات وميول رديئة وشهوة حسد وطلب ماديات العالم. لذلك لم يميزوا أن أعمال المسيح تقطع بأنه من الله. ربما لم يفهم أحد من قاله المسيح هنا، وعن علاقته بالآب ولكن تلاميذه حفظوا ما قيل وفهموه بعد صعوده.

 

الآيات (15،16): "أنتم حسب الجسد تدينون أما أنا فلست أدين أحداً. وإن كنت أنا أدين فدينونتي حق لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني."

هم قالوا له شهادتك ليست حق فهم أدانوه وحكموا عليه أنه كاذب وهم تناسوا أن موسى أيضاً شهد لنفسه إذ قال أنه مرسل من الله وهكذا فعل كل الأنبياء. وهم سألوا المعمدان أن يشهد لنفسه (يو22:1). والمسيح يرد عليهم أنتم حسب الجسد تدينون= فهم ليست لهم معرفة روحية. هم بمعرفتهم القاصرة لم يدركوا طبيعته. وإعتمادهم على المقاييس البشرية جعلهم لم يروا فيه سوى أنه إبن يوسف النجار وأنه ناصري، فهم يحكمون على الروحيات بالجسديات وهذا خطأ. فالطبيعة الجسدية تملى عليهم أحكامهم وهي طبيعة ناقصة المعرفة، والدينونة مرتبطة بالمعرفة فكيف ندين ونحن لا نعرف. بل هم لهم ميول منحرفة ويحسدون المسيح. أما أنا فلست أدين أحداً= فهو جاء في مجيئه الأول ليخلص لذلك لم يدين الزانية. ولكن المسيح يعلن أن دينونته للعالم ستكون في مجيئه الثاني وأنها لن تكون حسب الجسد مثلهم بل حسب الحق فهو فاحص القلوب والكلى. وبهذه الدينونة سيدان العالم والخطية والشيطان. والمسيح الآن أمامهم لا يدينهم إذ كان كلامهم عن جهل (لو34:23) ولكن إذا إستمرت مقاومتهم له عن حسد (مر10:15) حفاظاً على مراكزهم ومجدهم الكاذب فسيكونون قد إنحازوا للشيطان وهو سوف يدينهم بالحق في المجيء الثاني (يو11:19)= دينونتي حق فدينونة الحق تفصل بين الحق والباطل وهو حق لذلك دينونته حق. لأني لست وحدي بل أنا والآب=إذاً فشهادته لنفسه مستمدة من علاقته بالآب، والآب يشهد له.

 

الآيات (17،18): "وأيضاً في ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق. أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الآب الذي أرسلني."

 أنا الشاهد لنفسي= (أنا هو) الشاهد لنفسي فبهذا يؤكد المسيح شخصيته الإلهية ومساواته للآب. ناموسكم= لو حاكمهم بحسب الناموس لأدانهم (تث19:18) فهم لم يسمعوا له. شهادة رجلين= (تث6:17). هنا المسيح يضع نفسه على مستوى الآب تماماً. هنا نرى الوحدة الذاتية القائمة بينه وبين الآب. فهو سبق في الآية السابقة وقال لأني لست وحدي، بل أنا والآب الذي أرسلني. والمسيح أجابهم لأن منطقهم البشري كان سليماً حين قالوا "أنت تشهد لنفسك" (آية13). وشهادة الآب كانت [1] يوم المعمودية. وهذه سمعها المعمدان [2] أعماله وأقواله.

 

آية (19): "فقالوا له أين هو أبوك أجاب يسوع لستم تعرفونني أنا ولا أبي لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً."

هم لم يفهموا أنه يتكلم عن شخص الآب، فهم لم يعرفوا المسيح ولا الآب. لكن غالباً هم فهموا أنه يتكلم عن الله لذلك لم يسألوا من هو أبوك بل سألوه أين هو أبوك في إستهانة بكلامه وبهذه العلاقة بينه وبين الآب. وأنه يتعذر على المسيح أن يأتي بشهادة من الآب. هم بسؤالهم أين أبوك الأرضي هم ينكرون أبوة الآب له. والمسيح برده عليهم قال لهم أنتم لستم تعرفون أبي أتهمهم بالجهل فهم لا يعرفون الله، إذ ظنوا أنهم يعرفون الله، فهم إذ لم يعرفوا المسيح المنظور، لن يعرفوا الآب غير المنظور فالمسيح هو الصورة المنظورة للآب غير المنظور. وأعمال المسيح هي أعمال الآب ولكنهم لم يروا في المسيح سوى بشريته. فهم سدّوا عيونهم وأذانهم بأعمالهم وحسدهم وشرورهم فسدَّ الله لهم عيونهم وأذانهم إذ لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم. سبق المسيح وقال تعرفونني من أين أنا (يو28:7) فهذه عنه كإنسان. ولكن هنا يشير للاهوته وعلاقته بالآب وهذه لا يعرفونها. لو عرفتموني لعرفتم أبي= فالمسيح هو النور الذي به نعرف الآب. "لا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو6:14).

 

آية (20): "هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يعلم في الهيكل ولم يمسكه أحد لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد."

الخزانة= مكان خزائن جمع الأموال من التبرعات في دار النساء أي حيث يسمح للنساء بالدخول ولا تعني أنه مكان مخصص للنساء فقط. حيث كانت تنار المنارات في عيد المظال. وهذا المكان مواجه لمكان إنعقاد السنهدريم. وهنا عند الخزانة كان يجتمع عادة رؤساء الكهنة والفريسيين وهذا المكان مزدحم جداً، إذاً فالمسيح واجههم في عقر دارهم لذلك قال في (يو19:18،20) أنا كلمت العالم علانية. وبهذا نطق المسيح بالحكم ضد اليهود داخل هيكلهم. ومع قوة الكلمات التي قالها المخلص أمام الفريسيين وأنها في نظرهم تستوجب الموت لم يستطيع أحد أن يمد يده عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت فهو الذي سلَّم نفسه بإرادته وسلطانه في ساعة يعرفها. هو قيد أياديهم حتى تأتي ساعته.

 

الآيات (21-29):              (أنــا هــو)

الآيات (21-24): "قال لهم يسوع أيضاً أنا امضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم حيث امضي أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا. فقال اليهود ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث امضي أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا. فقال لهم انتم من اسفل أما أنا فمن فوق انتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت لكم أنكم تموتون في خطاياكم لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم."

أنا أمضي= أنا ذاهب لأبي في السماء. ستطلبونني= ولكن كالعذارى الجاهلات، بعد أن يكون قد مر الوقت. قال لهم يسوع أيضاً= أيضاً تعني ومن أجل ذلك. وهي عائدة على الآية السابقة.. ولم يمسكه أحد، أي نيتهم في قتله، وهذه خطية سيموتون بسببها وهم الخاسرون. تموتون في خطيتكم= يسوع هنا يوجه الوعيد بالهلاك لمن يصر على رفض الإيمان بأن يرفضه وقالها بالمفرد. فالخطية هنا هي رفض المسيح (يو36:3) لأن المسيح أتى ليرفع الخطايا فمن يرفض الإيمان يموت في خطيته. بل تدبير مؤامرة وراء مؤامرة لقتله. ستطلبونني= وسأكون في السماوات. (هي نبوة على اليهود أنهم سيظلوا يتوقعون مجيء المسيح حتى نهاية الأيام) وهم حينما قال لهم هذا القول أنه يمضي ولا يقدرون أن يأتوا إليه قالوا لعله يذهب إلى اليونانيين وهم هنا نجدهم في حقدهم يزدادون سخرية ويقولون ألعله يقتل نفسه= وكان هذا رداً منهم على قول المسيح تموتون في خطيتكم فهو شعروا بأن المسيح وجه لهم إهانة ويحاولون ردها فعند اليهود عقوبة المنتحر الهاوية أي نار جهنم. وكانوا يدفنون الموتى فوراً لكنهم يتركون المنتحرين بلا دفن حتى الغروب عقوبة لهم ويقطعون أياديهم اليمنى التي فعلت ذلك. وهم بهذا يشوهون صورة المسيح أمام الجموع. والمسيح رد لن أذهب إلى الهاوية كما تعتقدون بل لأنني من السماء من فوق فأنا ذاهب إلى حيث أتيت، وأنا من فوق فلا أرتكب مثل هذا الفعل. والمعنى أن عجزهم اللحاق به ليس لأنه ذاهب إلى الهاوية بل أنه ذاهب إلى السماء. أنتم من أسفل= طبيعتكم ترابية. أنتم من العالم= المتغير والزائل والذي يسوده الشر. والذي إنحرف عن الله وإنفصل عنه أما العالم كخليقة فقيل عنه "هكذا أحب الله العالم" وقيل عن العالم عند خلقته أنه حسن (تك1) وكان نزول المسيح إلينا ليجذبنا إلى فوق إلى السماء حيث ذهب ليعد لنا مكاناً. ومن يتحد بالمسيح سيذهب معه إلى فوق. ومن يريد أن يذهب معه للسماء يلزمه الإيمان والتوبة عن خطاياه ولكن هؤلاء اليهود رافضين تماماً، لذلك فلن يرتفعوا إلى فوق بل سيموتون في خطاياهم لأنه لم يقبلوا فداءه فبقيت خطاياهم في أعناقهم. إن لم تؤمنوا أني أنا هو= هنا المسيح يبلغ قمة إستعلانه الشخصي الإلهي. أنا هو= باليونانية إيجو إيمي وبالعبرية يهوه ونفس التعبير قاله يهوه عن نفسه (أش10:43) فإسم يهوه حين يترجم لليونانية يكون إيجو إيمي وحين يترجم للعربية يكون "أنا هو" فإذا أتت أنا هو بدون صفة ورائها (مثل أنا هو النور)، فهي قطعاً تعني يهوه. إذاً أنا هو هو إسم الله. وشرط الخلاص أن نؤمن أن المسيح هو يهوه نفسه أنا أمضي وستطلوبنني= المسيح يتكلم الآن في اليوم الأخير من عيد المظال. وفي هذا اليوم يحتشد كل اليهود ثم يمضي كل واحد إلى موطنه على أن يأتي في عيد المظال القادم. والمسيح يعلم أنه لن يكون موجوداً بالجسد وقت عيد المظال القادم فهو سيكون في السماء لأنه سيصلب في الفصح أي بعد ستة شهور من كلامه هذا. وكأن المسيح يقول لهم لو أتيتم في عيد المظال القادم تطلبونني لن تجدونني. ومازال اليهود حتى الآن يطلبون مسيحاً أرضياً يعطيهم الملك لذلك لن يجدوه. وكل من يطلب المسيح وله رجاء فيه في هذا العالم فقط يصير أشقى جميع الناس.

 

آية (25): "فقالوا له من أنت فقال لهم يسوع أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به."

اليهود حينما سمعوه يقول أنا هو إرتبكوا وقالوا له من أنت. وكأنهم لم يسمعوا شيئاً مما قاله عن نفسه من قبل، أو يقصدون الإستخفاف بكلامه أو تكذيبه. قال لهم يسوع أنا من البدء ما أكلمكم به= أي أنا منذ الأزل يهوه (أنا هو) الذي أكلمكم الآن، والآن صرت يهوه المتجسد الذي يكلمكم الآن. وقد تعني أنا لي الآن وقت طويل أخبركم عن نفسي ولن تسمعوا المزيد ولكن عبارة من البدء تحيرهم فهي تعني الأزل. ومنذ بدء كلامي معكم أخبرتكم عن نفسي أني "أنا هو" وأنا هو كائن منذ البدء أي منذ الأزل. وشخص المسيح الآتي لخلاص العالم ظهر في كلامه وأعماله. كأن المسيح يقول بين الكلمات إن حاجتكم الآن ليس لإعلانات جديدة بل لقلوب جديدة تفهم الإعلانات.

 

الآيات (26،27): "إن لي أشياء كثيرة أتكلم واحكم بها من نحوكم لكن الذي أرسلني. هو حق وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم. ولم يفهموا انه كان يقول لهم عن الآب."

مهما أشاع الفريسيون من إشاعات ضده فهو يخبرهم بالحق ويعلن الحق. والمسيح هنا يقول أن له كلام وحكم عليهم، كلام كثير يدينهم على ما في قلوبهم وأفكارهم ونياتهم لإهانتهم له ولإنحراف قلوبهم. ولكن هذا ليس وقته بل هناك يوم للدينونة. ما سمعته منه= منذ الأزل ومازلت أسمع فهو فيّ وأنا فيه، هو كلمة الله الذي أعلن إرادة الله للعالم. والمسيح لا يتكلم إلاّ ما يسمعه من الآب. والآب لا يريد أن تكون الدينونة الآن. لذلك المسيح لن يتكلم الآن.

 

الآيات (28،29): "فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان. فحينئذ تفهمون أني أنا هو ولست افعل شيئاً من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي. والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين افعل ما يرضيه."

يخبرهم المسيح هنا بأنهم لن يؤمنوا وسيصلبوه= متى رفعتم إبن.. تفهمون= فهو لن يترك العالم بدون فهم. فمن رأي الظلمة وشق الحجاب والزلزلة وقيام الأموات.. الخ وإنفتح قلبه آمن. وربما آمن البعض والبعض الآخر لم يؤمنوا. ولكن ما فعله اليهود بالمسيح ظل عبر العصور تهمة ملصقة بهم أنهم صلبوا رب المجد. وكلمة رفع في رفعتم إبن الإنسان تعني في المفهوم اليهودي الهوان والمجد، الصليب والصعود (تك13:40،19). وبالصليب إرتفعنا. وفي تقديم الحمل نقول رفع الحمل (في القداس) والكاهن يرفعه فوق رأسه فمن يُقَدَّم ذبيحة هو له كل المجد. لست أفعل شيئاً من نفسي= كما تظنون أنني إنسان عادي. لا بل أنا كلمة الآب. أفعل ما يرضيه= طعامي أن أصنع مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله فإرادته هي إرادة الآب. وإرادة الآب خلاص النفوس. كل حين= بعض البشر يفعل إرادة الله بعض الوقت، لكن المسيح كان يفعل إرادة الله كل حين. والثابت في المسيح يحسب باراً بسبب هذا. أبي لم يتركني وحدي= منذ اللحظة التي أتيت فيها إلى العالم، هناك إتحاد دائم بينهما. كما علمني أبي= كل تعاليم المسيح هي نطق الآب فيه. فهو كلمة الآب ويتكلم بكلامه. وستفهمون بعد ذلك الوحدة بيني وبين الآب، وأنا لا أنطق بشئ إلاّ بما في ذهن الآب فهو يتكلم فيّ (عب2:1). فالإبن قبل التجسد كان كائناً عند الله، كائناً معه، إبناً في حضن أبيه. وبعد التجسد صار الآب عند المسيح كائناً معه متكلماً فيه. والمسيح الإبن ينفذ إرادة الآب فما يريد الآب إعلانه يعلنه الإبن. هذا معنى علمني. وبنفس المفهوم نفهم أن الساعة لا يعلمها إلاّ الآب. والإبن لا يعلمها. فالآب لا يريد إعلانها. إذاً الإبن لن يعلنها. وبعد كلامه هذا آمن به كثيرون (آية30) فهناك أقلية نقية.

 

الآيات (30-32): "وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون. فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به أنكم أن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي. وتعرفون الحق والحق يحرركم."

آمن به كثيرون.. قال يسوع لليهود الذين آمنوا به

آمن الأولى تعني الإيمان بالمسيح فعلاً believe in him أما آمن الثانية فتأتي بمعنى صدَّق believe him. الأولى تشير لمن آمن بالمسيح فعلاً والثانية تشير لمن آمن بالمسيح حسب رأيهم أن المسيح هو الذي سيحررهم من الرومان، مسيا الدنيا والسياسة. والمسيح عرف ما في ضمائرهم وأنهم أضمروا قتله لو لم يحررهم من الرومان لذلك بادرهم المسيح بأقوال هي تشجيع لمن آمن ليكون إيمانه ثابت حقيقي أو للآخرين تكون لهم فحص ضمير وكشف. كلمات المسيح هنا لمن آمن حقيقة تثبيت حتى لا يكون إيمانهم وقتي ضعيف زائف بل إيمان قوي. وكلماته هنا لمن آمن بطريقة خاطئة فيها كشف لحقيقة إيمانه. فالمسح يريد الإيمان بشخصه والثبات في كلامه بدون أغراض أرضية. إيمان يؤدي لمعرفة الحق الذي هو الله.

إن ثبتم في كلامي= فالمسألة ليست تصديق كلام بل إيمان به، بل إتباع المسيح تماماً والثبوت في كلامه أي يتخذوه منهجاً وطريقاً ويتبعوه تماماً ويسلمون له الإرادة والحياة وينفذوا كلامه، هؤلاء يكونون تلاميذ للمسيح= بالحقيقة تكونون تلاميذي= والتلاميذ سيعرفون الحق ومن يعرف الحق يتحرر= والحق يحرركم. إذاً التلمذة هي تلمذة مبادئ وحق وحياة حسب كلامه هو وليس بحسب أفكارهم هم. وهكذا يتحررون من المعرفة الخاطئة التي تعلموها. والمسيح هنا يكشف أنه ليس المهم أن يتحرروا من الرومان بل أن يتحرروا من جهلهم وكبريائهم وخرافاتهم. فالمسيح يهتم بحياتهم مع الله وليس بالسياسة. فإذا صاروا تلاميذ للمسيح فإنهم يتتلمذون للحق، يعرفونه ويسيرون بمقتضاه= تعرفون الحق= تعرفون ليس معرفة معلومات. فالمعلومات لا تحرر. ولكن المعرفة هي علاقة محبة مع المسيح. وكلمة تعرفون تعني الإتحاد "وعرف آدم امرأته فولدت "لأنهما صارا جسداً واحداً" ونعرف الحق أي نتحد بالحق. فنعرف الحق (أي المسيح) ليس معرفة من الخارج، بل معرفة الإتحاد، معرفة من واقع الإتحاد. ولاحظ قول بولس " وأوجد فيه.. لأعرفه" (في9:3،10) والسيد يقول "إثبتوا فيّ وأنا فيكم" ومن يفعل سيعرفه وتكون له حياة، فهو الحياة. فالمعرفة إذاً حياة (يو3:17). ليس المعرفة السطحية بل معرفة الحب التي تقود للطاعة هي ليست معرفة جمع المعلومات بل العشرة والإختبار مع الله، وهذا يولد الحب، هي معرفة إختبارية فيها نتذوق الحق في القلب. وهذا يأتي بطاعة الوصية. وكلما أعرف المسيح وأعاشره بالأكثر أحبه فمن يحبه يطيع وصاياه (يو23:14). ولكي نطيع شيئاً ما يجب أن تعرف هذا الشيء، والمعرفة لاحظ هي ثبات في المسيح. والثبات يأتي من الإنفصال عن الخطية فلا شركة للنور مع الظلمة. ومن يسير بمقتضاه يتحرر من سيرته الداخلية التي أبعدته عن الله وزيفت له خصائص المسيا. فالمسيح هو الحق الذي يحرر فمن يعرف المسيح بهذا المفهوم ويتذوق الحب والحرية والحياة سيتحرر من العبودية لملذات العالم الباطل لكن هذا يستلزم طاعة وصايا المسيح. والتلمذة للمسيح هي تسليم مطلق للمسيح وهذا يعطي المعرفة والحق والحرية والعالم ليس فيه حق مطلق وإن وجد فهو نسبي، لذلك قال بيلاطس للمسيح وما هو الحق (يو38:18) حين قال المسيح "جئت للعالم لأشهد للحق" والمسيح سيعرف الناس بالآب ويعرف الناس الحق فهو الطريق والحق، أي هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق، وهو الذي أعطانا الحرية بموته. فالثبوت في كلام المسيح يفتح البصيرة والذهن ويستعلن الحق الذي به نحيا مع الله وفي الله. والحق يحرر المشيئة من التعلق بالباطل والخطية. وهو حق السلوك والعمل والحب والبذل. من يعرف الحق يتحرر من عبوديته لهذا العالم الباطل. فالحق هنا هو في مقابل الباطل الذي هو العالم. وهناك فرق بين الحق والصدق. فالصدق هو ما يشعر به المتكلم بحسب رؤيته. لذلك هو نسبي. أما الحق فهو الواقع الحقيقي، هو المطلق. والحق يلد الحرية والحرية تدعم الحق. والحق يحرر من عبودية الموت والخوف وعذاب الضمير والحرية الزائفة حرية الشهوات. من يعرف المسيح حقيقة يعرف الفرح الحقيقي فيتحرر من لذات العالم الباطل.

 

آية (33): "أجابوه إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحراراً."

المسيح بكلامه هذا استثار فيمن كان إيمانه غير صحيح، أفكاره الخاطئة. هؤلاء الذين أظهروا تصديقاً لكلامه وإيماناً من نوع believe him لكنهم يؤمنون ليس بالمسيح الذي يحرر من الخطية، بل هم يطلبون مسيح يخلصهم من الرومان، هؤلاء بدلاً أن يفكروا في كلمة الحق يحرركم ظنوه يتهمهم بالعبودية السياسية فثارت النزعات الوطنية فيهم وشعورهم المتكبر بأنهم أولاد إبراهيم الذي كان حراً لم يستعبد لأحد وهم الشعب المختار الذين هم فوق العالم، مفروزين عن العالم. ومن هنا بدأوا سلسلة من الإتهامات للمسيح. وهنا بينما هم يتشدقون بالحرية نجدهم كاذبين، فهم تحت الحكم الروماني الآن. (هم كان لهم حرية دينية وظلوا متمسكين بميراثهم وتقاليدهم، وربما كانت هي المقصودة هنا). لكن واضح الكبرياء والتزييف فهم سألوا أيجوز أن ندفع الجزية لقيصر، إذاً هم يدفعون الجزية لقيصر. بل كانوا تحت الحكم اليوناني والفارسي والبابلي، بل تحت عبودية شعوب صغيرة، وربما هم في غرورهم ظنوا أن هذه العبودية هي عبودية مؤقتة، ولذلك يبحثوا عن مسيا يخلصهم من الرومان. ولكن أتى لهم مسيا يحدثهم عن الخلاص من الخطية فرفضوه. بينما أن الخطية في الحقيقة هي التي تسلب الإرادة والأختيار. والذي يخطئ يصير عبداً للخطية. فالعبودية حقيقة هي للخطية. إذاً الجنس البشري كله فقد حريته حين أخطأ. والمسيح لا يريدهم أن يخلطوا ما بين الحرية من الخطية والحرية السياسية.

 

الآيات (34-36): "أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية. والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى إلى الأبد. فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً."

كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية= ليس إنسان بلا خطية ولكن المقصود هنا هو من يفضل الخطية ويختارها تاركاً طريق الله ويقيم عهداً مع الخطية، وتقوده شهواته. تبدأ الخطية بسقطة ثم يتعود الإنسان عليها فتصبح عادة فإستعباد. في البداية يظن الإنسان أنه يستطيع تركها في أي وقت، ومع الوقت يستعبد لها ولا يقدر أن يتركها، ويفقد الإنسان سيطرته على إرادته. والذي يفعل الخطية فهو يحيا حياة الإثم والتعدي، إذ ترتبط بالعالم ويفقد حريته ثم نفسه ويكون قد فقد حرية البنين وصار عبداً للخطية وإبليس يسيطر عليه ويتولى قيادته (1يو8:3). وبالتالي هي القداسة والعبودية هي الخطية. الحرية تقودنا إلى الله والخطية تقودنا إلى إبليس. والمسيح أتى ليحررنا من يد إبليس ويعيدنا إلى حق البنين وميراث بيت الله أي الشركة في ميراث الإبن. وهدف الحياة هو العلاقة مع الله، والخطية تجعلني أفقد هدف الحياة. وهناك حرية مخادعة حين يقول خاطئ "أنا حر أفعل ما أشاء" وهو في الحقيقة مستعبد للخطية. ولكن الحرية الحقيقية هي علاقة مع الله تنشئ حرية من ربط الخطية. الحق الحق أقول= هذا لا يقوله سوى الرب أما الأنبياء فكانوا يقولون "هكذا يقول الرب" أما المسيح فيتكلم بإسم نفسه. العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد= الإبن له حق البنين في الميراث أمّا العبد فلا يقيم في بيت سيده إقامة دائمة مثل الإبن، فهو إمّا يهرب من نفسه أو أن صاحب البيت يطرده. وهكذا من إستعبد للخطية فإنه لا يقيم في ملكوت الله إلى الأبد. ومن يحيا تحت ظل أكثر القوانين حرية فهو مستعبد لو عاش في الخطية. أما لو حرره الإبن فهو سيتمتع بحرية حقيقية ويتمتع بميراث البنين. إذاً الحرية التي يتكلم عنها المسيح والتي جاء من أجلها هي أسمى من الحرية من الرومان التي يطلبونها. فبالحقيقة= ليس كحرية اليهود الزائفة أو حرية الخاطئ المزعومة الذي يزعم أنه بحريته يخطئ. ونلاحظ أنهم قالوا أنهم أولاد إبراهيم أهل بيت الله والمسيح قال لن تبقوا في البيت بسبب شروركم فالإنسان لا يبقى إبناً لله وللخطية بآنٍ واحد. وهناك من يحيا في بيت الله بروح العبيد طالباً أجرة (كالأخ الأكبر للإبن الضال). هذا يترك بيت الله بسبب تجربة أو طلبة مادية لم تتحقق. إن حرركم الإبن.. تكونون أحراراً= مهما قلتم أنكم أحرار (سياسياً أو وطنياً). لكنكم محتاجين للحرية من الداخل. وهذه لا تأتي سوى بالمسيح المخلص، فهو وحده يفك الإنسان من أسر الخطية والشيطان. هو يربط القوى الذي ربط الإنسان.

 

الآيات (37-40): "أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم. أنا أتكلم بما رأيت عند أبي وانتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم. أجابوا وقالوا له أبونا هو إبراهيم قال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم. ولكنكم الآن تطلبون ان تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله هذا لم يعمله إبراهيم."

المسيح ينفي عن اليهود أنهم أولاد إبراهيم بالحقيقة (غل7:3،29)، فأولاد إبراهيم يعملون أعمال إبراهيم ولهم إيمان إبراهيم ولكنه قال إنكم ذرية إبراهيم= أي نسله بالجسد ولكن هذا لا يحررهم من إبليس والخطية. أي لم يتبق لليهود سوى تاريخ يتمسحون به وهم غرباء عنه، وهذا يتضح من أنهم صاروا عمي وصم لم يسمعوا ولم يعرفوا المسيح الذي فرح به إبراهيم. بل يطلبون قتل المسيح لأنه يبكتهم ويريد أن يعرفهم طريق الحياة وذلك لأن قلوبهم مملوءة حسداً وضعه إبليس، ووضع في قلوبهم خطط قتل للمسيح وهم إنصاعوا وراءه فهم بهذا مستعبدين لإبليس وليسوا أحراراً. فالمسيح جاء ومعه خطة الآب للخلاص الذي سيتممه بموته. وهم إستلموا خطة القتل من إبليس أبيهم كما رسمها لهم فهو قاتل وأبو كل كذاب. أما إبراهيم فتشفع من أجل خطاة سدوم وعمورة حتى لا يموتوا. كلامي لا موضع له فيكم= لقد أغلقتم قلوبكم بسبب حقدكم وحسدكم لي وتعصبكم الأعمى ضدي. كل هذا ملأ قلوبكم فما عاد فيها موضع لكلامي. فكلامي نزل على أرض محجرة. أتكلم بما رأيت عند أبي= فهو يعلن عن الحق والحياة الأبدية التي يريدها الآب للبشر. ونلاحظ في (38) أن المسيح نسب لنفسه الكلام ونسب لهم الأعمال فهو يكلمهم عن الآب وهم يخططون لقتله. ونلاحظ في (40) إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله= فهو الإنسان يسوع المسيح الوسيط بين الله والناس. أبونا هو إبراهيم= السيد لم يوافق على هذه العبارة فالبنوة لإبراهيم كما قال السيد هنا (وكررها بولس الرسول بعد ذلك) ليست بحسب الجسد، إنما بأن يعمل الإنسان أعمال إبراهيم ويكون له نفس إيمانه. هي نبوة روحية وليست جسدية.

 

آية (41): "انتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله."

هم يدعون هنا أنهم أولاد الله، ولو كانوا حقاً أولاد الله لعرفوا المسيح.

أبناء زنا= أي لم تختلط دمائنا بالوثنيين، فالإختلاط بهم يسمونه زنا، وعبادة الأوثان زنا روحي. وهم يدَّعون كذباً أنهم لم يعبدوا الأوثان، فالأنبياء أتهموهم بهذه التهمة.

 

الآيات (42-44): "فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني. لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. انتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب."

هم قالوا أنهم أولاد الله والمسيح يرد عليهم بأنهم ليسوا أولاد الله لأنهم لو كانوا أولاد الله لعرفوه إذ هو إبن الله، ولو عرفوه لأحبوه لكنهم أرادوا قتله وبهذا أثبتوا أنهم يتبعون إبليس القتال الذي قتل آدم وبنيه عموماً البنوة لله هي بصنع مشيئته "من هو أخي وأختى وأمي.." خرجت من قبل الله وأتيت= (خرجت من الله بترجمة أدق) والخروج يشير للبنوة الإلهية للمسيح وأتيت تفيد التجسد. والخروج من.... له 3 حالات في اليونانية:

1.    بمعنى الخروج والإبتعاد وهذا التعبير إستخدمه التلاميذ عن إيمانهم (يو30:16) وهذا بقدر معرفتهم في ذلك الوقت.

2.  خروج مع بقاء بجانب كزمالة. وهذه إستخدمها المسيح ولكن ليعبر بها عن وجهة نظر التلاميذ عن المسيح (يو27:16) فهو يعبر عن قدر فهمهم.

3.  خروج من الداخل مع البقاء في الجوهر (يو28:16) وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه والمستخدم هنا في آية (42). ويشير المعنى أن الإبن هو من الله في وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد والتجسد وهو باقي مع الله بالرغم من تجسده وبالرغم من خروجه، هو خروج دون إنفصال عن الآب في الجوهر.

خرجت= خروج النور من الشمس، هذا له صفة الإستمرارية دون إنفصال. أتيت= تفيد إستعلانه كإبن الله المتجسد لنا على الأرض. لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني= فهجومهم عليه هو هجوم على الله الذي يدّعون أنه أبوهم، فالمسيح يمثله تمثيلاً ذاتياً وكلياً كنائب له، وهو أتى بمشيئة الآب ليمجد الآب وليس ليطلب مجد نفسه. لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي= كلامي هنا تأتي بمعنى حديثي معكم، وهم غير قادرين أن يدركوا أقوال المسيح أي حديثه. أما قولي فهي في أصلها اللوغوس والسماع للوغوس يعني الإدراك بالروح لشخص المسيح وأنه كلمة الله. ولماذا لم يدركوه لأنهم لم يحبوا الآب (يو42:5،43). وكانوا في كبريائهم يطلبون مجد أنفسهم (يو44:5) أما المتواضع فيسكن الله عنده (أش15:57) فيكون له الأذن الروحية التي تميز صوت الله. (يو3:1-5+ رؤ7:2). فإن لم يكن للإنسان أذن روحية تسمع كلمة الله فتكشف طبيعتها الإلهية فلن يفهم هذا الإنسان حديث المسيح ولا ما يقوله فكلامه روحي (رؤ7:2) ومن ليس له هذه الأذن فسيرى المسيح مجرد إنسان بل مجدف على الله إذ يساوي نفسه بالله لذلك يستحيل أن يفهم أحد الإنجيل إن لم تكن له الأذن الروحية. لذلك فالفهم عند المسيح لا يتوقف على الذكاء العقلي بل على خضوع الإنسان لمشيئة الله، والطاعة لوصاياه، وحينئذ تحدث إنارة الله في الداخل فيعرف الإنسان ويفهم. لذلك فهناك بسطاء جداً من ناحية علمهم لكنهم كانوا يعرفون الله (التلاميذ كانوا صيادين).

أنتم من أب هو إبليس= المسيح هنا يدافع عن الله الذي نسبوا أنفسهم له، فهو لا يريد أن ينتسب هؤلاء القتلة إلى الله. والمسيح يعلن أيضاً عن الأب المحرك لهم (راجع مت37:13-39). شهوات أبيكم تريدون أن تفعلوا= الشيطان له القدرة أن يجعل الناس الذين يخضعون له كأب، تفعل ما يشتهيه من شر. وشهوة الشيطان تنبع من عداوة شخصية لله ولكل من يتبعه. وتريدون تأتي بمعنى الإصرار وهكذا نرى أبناء إبليس مصرين في عناد وشراسة أن يرتكبوا الخطايا بينما أولاد اله نراهم ودعاء مسالمين.

ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء= منذ تسبب في موت آدم وحواء ثم نسلهما، وعلم قايين قتل هابيل ولذلك نقول في القداس (والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس). وقوله قتالاً وليس قاتلاً تفيد إستمراريته في قتل الناس. ولم يثبت في الحق= لم يرسخ في الحق الذي خلقه الله فيه وطمع في الأكثر جداً.

لأنه ليس فيه حق= الله هو الوحيد الذي فيه الحق فهو الحق. ويكون معنى كلام المسيح أن لله خلق الشيطان في الحق ولكنه رفض أن يثبت في الحق. وطالما إختار الإنفصال عن الله، لم يعد يعرف الحق فالحق ليس من طبعه لذلك صار كذاب وأبو الكذاب (تترجم أبو الكذب) فهو مخترعه. فالكذب هو فقدان الحق. ومن هو الكذاب إلاّ الذي ينكر الحق. وصار الشيطان يغرس الكذب في نفوس آدم وحواء (راجع حواره مع حواء "لن تموتا" ويغلف كلامه بمنطق ما هو الألذ وما هو الأسهل، وما هو الأسرع والأكثر فائدة والمعقول، وللآن يكذب على الناس أن الله لن يدين الناس وليسلكوا بحسب هواهم فحللوا الزنا بل والشذوذ، وهو يجعل الإنسان ينسى حقيقة الموت والدينونة. وحينما يرفض الإنسان مشورة إبليس المزيفة يتلاشى من أمامه أما إذا قبلها يجد الشيطان مسكناً فيه، وهذا منتهى أمل الشيطان أن يجد مجالاً في الإنسان فهذا يوسع من دائرة تخريبه. والإنسان إمّا يتبع الحق الذي هو المسيح. أو يتبع إبليس الذي هو الكذب. يتكلم مما له= من فضلة القلب يتكلم اللسان. وماذا في داخل إبليس سوى الكذب والقتل. والمولود من إبليس الكذاب ينجذب للكذب فليس فيه بذرة الحق. أما المولود من الله فينجذب للحق. فكل واحد ينجذب للمصدر المولود منه.

 

الآيات (45،46): "وأما أنا فلأني أقول الحق لستم تؤمنون بي. من منكم يبكتني على خطية فان كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي."

أمّا= المسيح يعطي المقابل لإبليس، فالمسيح هو النقيض لأبيهم. وهنا المسيح يشرح لهم لماذا لم يقبلوه بكل الصراحة. هذا لأن طبيعتهم صارت متساوية مع إبليس وهو الذي يقودهم فلا ينجذبون للحق. من منكم يبكتني على خطية= كلمة يبكتني هنا تعني إقامة دليل على المتهم. الخطية هنا تجمع كل أنواع الكذب ونفاق إبليس ضد الحق. فقول المسيح من منكم يبكتني على خطية يتساوى مع إني أقول الحق وأعمل الحق. وإذا لم يعثروا له على خطية صار لزاماً عليهم أن يعترفوا بأنهم يقاومون الحق، وبأن المسيح فعلاً من الله بل هو الله، فهل يوجد إنسان بلا خطية؟ بل الكل زاغوا وفسدوا (رو12:3). يبكتني= أي يقيم دليل على خطأ صدر مني. وبهذا القول يثبت المسيح أنه فوق مستوى البشر. فمن هو الذي بلا خطية، هذا إستعلان لمستواه الإلهي.

 

آية (47): "الذي من الله يسمع كلام الله لذلك انتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."

الذي من الله يسمع= يقصد السماع الروحي أي السماع بالقلب ويلازمه التنفيذ. سماع وطاعة. وقارن مع (1يو6:4). ومن هو من إبليس يقول الكذب الذي يسمعه منه ويضمر القتل للآخرين.

 

الآيات (48-50): "فأجاب اليهود وقالوا له ألسنا نقول حسنا انك سامري وبك شيطان. أجاب يسوع أنا ليس بي شيطان لكني اكرم أبي وانتم تهينونني. أنا لست اطلب مجدي يوجد من يطلب ويدين."

نجدهم بدلاً من أن يسمعوا ويفهموا يشتمون الرب يسوع. سامري= هي إهانة وشتيمة للمسيح. فالسامري في نظر اليهود كافر مصيره جهنم، ويقصدون أيضاً بالسامري عدو الشعب والأمة اليهودية. فلأنك تشتمنا فأنت عدو للأمة اليهودية كالسامريين. وهم بهذا يردون على المسيح لأنه قال لهم أنكم لستم أولاداً لإبراهيم. وبك شيطان= وهم طالما إتهموه أنه يصنع معجزاته بواسطة الشيطان (مت25:10، 34:9، 24:12+ مر22:3+ لو15:11،18-20) وقالوا هذا عن المعمدان (مت16:11-18). وهم أخذوا يشتمون لأنهم لم يجدوا حجة يردون بها على المسيح ولا استطاعوا أن يمسكوا عليه خطية. والمسيح لم يرد على قولهم سامري له فهو أتى من أجل السامريين، وأيضاً وللجميع موضع في المسيح، فهم يعرفون أنه جليلي وإبن ليوسف، وهو لن يدخل في منافسة الأنساب لكن لم يسكت عن قولهم بك شيطان وقال أنا ليس بي شيطان= لأن هذه الإهانة تلحق بالآب الذي فيه. فالمسيح لا يرد على الشتائم بل يظهر الحق. لكني أكرم أبي وأنتم تهينونني المسيح يشرح لليهود أنهم بقولهم أن فيه شيطان يهينون الآب، فالمسيح أتى ليعمل ما يريده الآب، فإن أهانوا المسيح يكونون قد أهانوا الآب الذي أرسله وهو يعمل ما يريده. وقوله أكرم أبي= حتى لا يظنوا أنه يطلب كرامة لنفسه فيقولون عنه أنه متعجرف. الذي يطلب مجدي هو الآب= فهو الذي يدين من يهينني. أنا أمجده وهو يمجدني وسيدين من يهينني.

 

آية (51): "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد."

في مقابل الدينونة الرهيبة لمن يهين الإبن الذي جاء ليكرم الآب، فإن من يؤمن ويحفظ كلام المسيح له حياة أبدية ولن يكون للموت سلطان عليه. يحفظ= أي يؤمن بكلامي ويثبت فيه ويستوعبه ويطيعه. يرى الموت= تشير كلمة يرى لرؤية طويلة بلا نهاية ودائمة فيها يتأمل الإنسان ويعاين رعب الموت. بل ويحيا في الجسد خائفاً من الموت. والمسيح قال لن يرى الموت ولم يقل لن يذوق الموت فهو نفسه ذاق الموت (عب9:2) أي مات بالجسد ولكن يرى الموت تعني أنه لن يموت موتاً روحياً أي ينفصل عن الله. وكل من له رؤية للمسيح لن يرى الموت لكنه سيذوق الموت. لذلك ما عاد الموت يخيف أولاد الله. ورأينا هذا في مواكب الشهداء.

 

الآيات (52،53): "فقال له اليهود الآن علمنا إن بك شيطاناً قد مات إبراهيم والأنبياء وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد. ألعلك اعظم من أبينا إبراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا من تجعل نفسك."

الآن علمنا= كم مرة نتصور أننا علمنا والحقيقة أننا لا نكون نعلم شيئاً. بك شيطان= يجعلك مجنوناً وتتصور أن من يسمعك لن يموت بينما أن الآباء ماتوا كلهم. وقد مات إبراهيم= الذي كلمه الله، بل مات كل الآباء الذين كلمهم الله. والمسيح كما قلنا لم يقل أن من يؤمن لن يذوق الموت فهو نفسه قد ذاقه ولكنه لم يرى الموت ولن يراه كل مؤمن. فالمسيح يتكلم عن الموت الأبدي واليهود يتكلمون عن الموت الجسدي، المحتم أن يراه كل إنسان. من تجعل نفسك= بالنسبة لإبراهيم وللآباء. ولو أجاب المسيح على هذا السؤال سيكون مضطراً لشرح جوانب لاهوتية هم غير أهل لها، فأجاب بما لا يمس مجد الآب. ولاحظ تفوق المرأة السامرية على هؤلاء. فهي حين تحيرت في شخصه قالت "ألعلك أعظم من أبينا يعقوب" وهذا لتتعرف على شخصه المبارك، أما هؤلاء فشتموه وأهانوه.

 

الآيات (54،55): "أجاب يسوع إن كنت امجد نفسي فليس مجدي شيئاً أبي هو الذي يمجدني الذي تقولون انتم انه إلهكم. ولستم تعرفونه وأما أنا فاعرفه وأن قلت أني لست اعرفه أكون مثلكم كاذبا لكني اعرفه واحفظ قوله."

المسيح في تواضع وإخلاء ذات يقول من جهة بشريته أنا لا أمجد نفسي فأنا أخليت ذاتي. وكون أني قلت "إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت" فهذا ليس معناه أنني أمجد نفسي بل أقول الحقيقة. والآب هو الذي سيعطيني مجدي الذي لي قبل أن أخلى ذاتي. أنا لا أطلب مجداً في منافسة مع الآب، بل هو أعطاني مجداً. الآن ظاهراً في أعمالي وسيمجدني أيضاً بعد ذلك= أبي هو الذي يمجدني. والمسيح حين أخلى ذاته فهو أخلى ذاته من مجده لا من ألوهيته. الذي تقولون أنتم إنه إلههكم= من يسميه اليهود إلههم هو أبو المسيح وهو والمسيح ذات واحدة لذلك يقول لستم تعرفونه أما أنا فأعرفه معرفة المسيح لله هي معرفة الذات للذات ومعرفة المثيل للمثيل. وهم لا يعرفونه فهم لو عرفوا الله لما رفضوا إبنه. ومن أقوى الأدلة على معرفة الإبن للآب طاعته الكاملة له حتى الصليب. فهو يعرف إرادته وينفذها والعكس فاليهود لا يعرفون الله ولا عرفوا إبنه بل صلبوه بجهالة وإصرار. أكون مثلكم كاذباً= لو جاري المسيح اليهود في وطنيتهم الزائفة وتمسكهم بالسبت والثورة على الرومان لكان كاذباً إذ سيخالف إرادة الآب التي يعرفها حق المعرفة. ومن الكذب أن لا يذكر الإنسان كل الحقيقة. وكان أسهل على المسيح أن لا يهاجم اليهود ويكشف لهم ضعفهم ليتوبوا. وكان أسهل عليه أن لا يخبرهم بعلاقته بالآب حتى لا يتشككوا ولكنه لا يكذب بل يقول الحق. وحتى لا يصح أنه في إتضاع ينكر علاقته بالآب. أحفظ قوله= هي معرفة كاملة ناشئة عن الإتحاد، وطاعة كاملة حتى إلى الصليب.

 

آية (56): "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح."

أبوكم إبراهيم= هذه في مقابل أنه هو إبن الله. هنا المسيح يقول أنه بحسب الجسد فإبراهيم أبوكم ولكنه بالنسبة لي فهو مجرد شاهد رأى خلاصي وفرح.. ولكن ماذا رأى إبراهيم؟ في (تك11:22-14) بعد أن قدم إبراهيم إبنه ذبيحة يقول أنه دعا إسم المكان يهوه يرأة (الرب يُرى) ولكن الكتاب أمسك عن ذكر ما رآه إبراهيم. وغالباً فالله أظهر لإبراهيم تفسير ما صنعه معه وأن ما حدث هو رمز كامل للفداء الذي سيقوم به إبن الله الوحيد والذي به يخلص إبراهيم، وكل من كان على إيمان إبراهيم أي أولاد إبراهيم بالروح، وهذا ما جعل إبراهيم يتهلل فهو فهم معنى أن قبائل الأرض تتبارك في نسله أي المسيح الذي سيصلب ويقوم ليعطينا قيامة من الموت. ولذلك أشارت العذراء في تسبحتها "كما كلّم أبائنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد" (لو46:1،54،55+ أع25:3،26+ عب13:6-15+ 17:11-19). ونلاحظ هنا أن إبراهيم قدّم إبنه إذ آمن أن الله قادر على أن يقيم من الأموات ثم عاد به حياً، فهو رأى القيامة مرتين، مرة بالإيمان، ومرة بالعيان ولاحظ أن هذه القيامة حدثت بعد 3 أيام من طلب الله تقديم إسحق ذبيحة. كما نفذ المسيح وصية الله مُقَدِّماً نفسه على الصليب وهو مؤمن بالقيامة من الأموات.

 

الآيات (57-59): "فقال له اليهود ليس لك خمسون سنة بعد أفرايت إبراهيم. قال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن. فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى هكذا."

كان عمر المسيح 33سنة في ذلك الوقت ولكن هيبته جعلتهم يعطونه سن 50سنة. والمسيح قال إبراهيم رأي يومي.. فقالوا أفرأيت إبراهيم= هم تصوروا أنه يقصد أن إبراهيم رآه بالجسد وبالتالي فهو رأى إبراهيم بالجسد. ولكن ما كان يقصده المسيح أن إبراهيم رأى أنني فيّ ستكمل المواعيد. ولذلك فحينما أعلنوا عدم فهمهم أكمل يسوع بوضوح وأعلن عن أزلية وجوده وأنه كائن قبل إبراهيم. ولم يقل "كنت أنا" فبهذا يصير زمنياً ولكنه قال "أنا كائن" وبهذا يشير لإسمه يهوه أي الكائن. فهنا في مقارنته مع إبراهيم يقرن الخالق بالمخلوق، الأبدي الأزلي مع الزمني (إبراهيم). وهم حاولوا قتله وأمسك الله أيديهم فالوقت لم يأتي بعد وهم كانوا سيرجمونه بالحجارة. ولاحظ أن الهيكل كان يبنى في ذلك الوقت وبالتالي كانت الحجارة موجودة بوفرة. ونلاحظ أن إختفاء المسيح من وسطهم لم يكن المرة الأولى (لو28:4-30+ يو30:7،32،42 ثم تكرر في يو39:10+ يو36:12) وإختفاء المسيح يشير لعماهم الروحي فهو وجد في وسطهم ولم يعرفوه ونجد العكس في الإصحاح القادم فالمسيح يفتح عيني أعمى فهو أتى لهذا ليفتح عيني كل من يقبله. وإختفاءه يشير لأنه لم تأتي ساعته للموت. ولكن حين أتت الساعة أسلم ذاته بإرادته.

قبل أن يكون (معناها الأصلي يصير) إبراهيم، أنا كائن (أصلها كينونة وأنا كائن أي أهية= إسم الله)


 

الإصحاح التاسع

في (22:10) يذكر يوحنا بعد حوادث ص (9،10) "وكان عيد التجديد". وبهذا نفهم أن أحداث ص9، ص10 جرت في وقت عيد التجديد. بينما أن أحداث ص7،8 جرت في عيد المظال. وعيد المظال يأتي في شهر تشرى (شهر7) العبري وهو يوافق سبتمبر/ أكتوبر. أمّا عيد التجديد فيأتي بعده بشهرين في شهر كسلو (شهر9) العبري وهذا يأتي خلال شهر ديسمير أي في الشتاء. ومدة عيد التجديد 7أيام ونسمع عنه في (2مك9:1) وفيه إحتفل المكابيين بتجديد وتطهير الهيكل. ولم نسمع أن المسيح غادر أورشليم بعد أحداث ص8 أي بعد عيد المظال. إذاً هو غالباً بقى فيها حتى عيد التجديد. ويوحنا وضع هذه المعجزة هنا، ففي إصحاح (8) سمعنا أن المسيح نور العالم، وهنا التطبيق العملي فهو يعطي إستنارة جسدية وروحية للمولود أعمى. وإنتهى الإصحاح بقول السيد المسيح "إبراهيم رأي يومي وفرح" وهذا المولود أعمى رأي المسيح وإستنارت عيناه وفرح، وهكذا كل من يرى المسيح يفرح. لذلك وضع يوحنا هذه المعجزة هنا. وكان اليهود يسمون عيد التجديد بعيد الأنوار ويحتفلون فيه بعودة الله للحلول في وسطهم. وكان هذا رمزاً لحلول المسيح في وسطهم فهذا معنى إسم عمانوئيل. وعلاقة تعاليم الرب في هذه المناسبة مرتبطة بالمناسبة وهي عيد التجديد فهو يربط المفهوم اليهودي الذي تثيره إنتصارات المكابيين بمفهوم الخلاص الحقيقي الذي أتى من أجله، أتي لهم كراعً صالح ليدشن هيكله الجديد بدمع ومع أنوار عيد الأنوار أو عيد التجديد قال المسيح أنا نور العالم (5:9). وعندما فُتِحَ باب الخراف في الهيكل لتدخل خراف العيد للذبائح اليومية وقف المسيح وقال أنا هو باب الخراف للهيكل الجديد. (رو36:8). وفصل المولود أعمي يقرأ في الأحد السادس من الصوم الكبير يوم أحد التناصير لإرتباطه بالمعمودية ويقرأ الأحد الرابع من شهر طوبة بعد عيد الغطاس لإرتباطه أيضاً بالمعمودية. والمعمودية تعطي إستنارة. لذلك في طقس المعمودية في الكنيسة يلبس المعمد ثياب بيضاء (تبرير) وزنار أحمر (رمز لدم المسيح) ويمسك الشمامسة شموعاً مضاءة (رمز الإستنارة).

لماذا يُخلق إنساناً عاجزاً أو ناقصاً (أو لماذا يتألم الإنسان)

بسبب الخطية دخل الموت ودخل المرض والألم إلى العالم بعد أن فقد وضعه الطبيعي مع الله، فصارت أي جرثومة قادرة أن تهلك الإنسان وربما يكون هذا عن إهمال من الإنسان أو لشئ خارج عن إرادته مثل هذا الأعمى فهو قد ولد هكذا. ولكن نلاحظ أن الله في محبته يعوض الذي ينقصه حاسة بقدرات زائدة في باقي حواسه، بل يحنو الله نفسه عليه. ويكون السؤال أيهما الأفضل أن يولد الإنسان بكامل قدرات جسمه أو بنقص معين في جسمه وحنو زائد من الله. ولقد قال الأنبا أنطونيوس للقديس ديديموس الضرير (طوباك يا ديديموس إذ خسرت عينين ترى بهما التراب ولكن لك عينين ترى بهما السماء) فالمسيح لا يعطي عطاء ناقصاً، بل كل ما يسمح به لي هو لخلاص نفسي (1كو22:3) عموماً فهذا الأعمى ليس له ذنب فيما هو فيه لذلك أتى له المسيح من نفسه دون أن يسأله، ليشفيه ولتظهر أعمال الله فيه. ولكن ما معنى أن تظهر أعمال الله فيه؟! [1] أن يتمجد المسيح وتظهر أعماله فيؤمن الناس. لكن هل ليتمجد المسيح وتظهر قدراته الفائقة كان لابد أن يتعذب هذا الأعمى طوال عمره؟! هنا لابد أن نفهم ما معنى أن تظهر أعمال الله فيه.. [2] فما حدث أن شفاء هذا الأعمى صار لخلاص نفسه. فهو تعرف على المسيح وآمن به كإبن الله، بينما فشل اليهود المبصرين في هذا. هذه هي أعمال الله التي ظهرت.. ليست شفاءه من العمي الجسدي بل شفاءه من العمي الروحي (وهذه هي الخليقة الجديدة). فآمن وخلص. وكما كان عمي هذا الأعمى سبباً في خلاصه، هكذا كان قصر زكا سبباً في خلاصه هو وأهل بيته. إذاً نرى أن العاهات سبب بركة لصاحبها، وهذا هو حنو الله الزائد على أصحاب العاهات. الله قادر أن يحول العيوب التي فينا إلى خير لنا، فهو يخرج من الجافي حلاوة "حقاً كما نقول في القداس الغريغوري (حولت لي العقوبة خلاصاً) راجع (1كو22:3). وكانت هذه الحالة لشفاء الأعمى رمزاً لما عمله المسيح فالأعمى كان رمزاً لهذا العالم الذي يحيا في ظلام لا يعرف الله. فآدم أخطأ ولكننا كلنا حوكمنا بذنبه وصرنا نولد بالخطية مشوهين روحياً كما ولد هذا الأعمى مشوها [3] ولذلك أتى المسيح إلينا ليظهر فينا أعماله ويفتح بصائرنا. هو صار نموذج لإرادة الله في فتح أبصار البشر، بل تجديد الخليقة كلها. وكما فتحت أعين هذا الأعمى في مياه بركة سلوام تنفتح أعيننا في مياه المعمودية. وبعد هذا لا يصير آدم هو المسئول عن خطيتي بل أنا المسئول عنها. فبعد أن تنفتح أعيننا في المعمودية ثم نترك المسيح نكون نحن المسئولين عن خطيتنا. لقد شفانا المسيح من أثار خطية آدم بفدائه وفتح أعيننا لنرى الله. إذاً لتظهر أعمال الله فيه تعني:-

1.    أن يتمجد الله حين تظهر هذه المعجزة.

2.    أن يظهر المسيح أنه أتى ليصحح ما أفسدته الخطية وليظهر أن هذه هي رغبة الآب.

3.    أن يشفي هذا المولود أعمى جسدياً وروحياً فيخلص.

فعمل الله في كماله لا حدود له، وهو يخرج من النقص كمال ومن الشر خير.

 

الآيات (1-5): "وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى. أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن اعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم."

من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى= فاليهود يرجعون كل مرض وكل عاهة تصيب الإنسان إلى خطية قد إرتكبها وبسببها يعاقب، أو خطية لأبواه وينال هو جزاؤها، أو خطية إقترفها هو ذاته في حياة أخرى عاشها قبل ولادته في هذه الحياة بمقتضى عقيدة تناسخ الأرواح أي العودة إلى التجسد، التي كانت شائعة في ذلك الوقت في بلدان الشرق الأوسط ولا سيما في مصر وفلسطين والهند. ولذلك قال الفريسيين للأعمى بعد أن شفي "في الخطيئة ولدت أنت بجملتك" (34:9). فالفلسفات نشرت فكرة تناسخ الأرواح وأيضاً فهم اليهود الخاطئ للآية "يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء حتى الجيل الثالث والرابع" جعلهم يتصورون أن الله قد يعاقب مولود نتيجة أخطاء أبويه. ومع أن الله صحح هذا المفهوم (حز4:18) إلاّ أن الفكرة ظلت مستمرة ومعنى أن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، أن الله يبحث في الأبناء.. هل خطيا أبائهم مازالت موجودة.. حينئذ يعاقب. وهو قال الجيل الثالث والرابع حين تكون الخطية صارت شائعة فتكون العقوبة عامة. ولاحظ أنه لم يقل أعاقب الأبناء بل أفتقد أي أبحث هل الخطية مازالت موجودة. ولكن في بعض الأحيان ينشأ طفل بمرض ناتج عن خطية أبواه وذلك مثلاً من أمراض النجاسة، أن أب ينهك صحته فيخرج إبنه ضعيفاً (حز5:20+7:34+ تث9:5). والمسيح لم يجب عن هذا السؤال ليتركنا نفكر ليس عن سبب الألم الذي نحن فيه ولكن كيف نحول الألم لعمل إلهي. والمسيح لم يلغي أن هناك علاقة بين الخطية والمرض فمن المؤكد أن هناك علاقة ولكن من العسير أن ندركها نحن بعيوننا فلا يصح أن نقول على كل متألم أنه متألم نتيجة خطيته. علينا أن لا نفكر فيمن أخطأ بل نصلي للمتألم ولكن من السهل أن نؤمن أن كل شئ يؤول إلى مجد الله فكل الأمور تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. وكون أن هناك علاقة بين المرض وبين الخطية يتضح من قول المسيح لمقعد بيت حسدا "لا تخطئ فيكون لك أشر" أنا نور العالم= المسيح هو المرسل (سلوام تعني المرسل). فهذه البركة تشير لشخص المسيح الإلهي فهو المرسل من الآب لخلاص البشر. وهذه البركة كانت ترمز في النبوات إلى عرش ومملكة بيت داود (أش6:8+ نح15:3+ لو4:13) فالنبوات كانت تقول عن المسيح أنه مرسل من الله. والمسيح هو نور العالم ومازال موجوداً في العالم ولن يفارقه، ويعطي نوراً وإنفتاحاً لكل إنسان يؤمن. هو جاء ليكمل عمل الخليقة بإعطائها عيون روحية بدلاً مما فقدتها بالخطية ورافعاً حجاب الظلمة الذي كان يحجز رؤية الإنسان لله. هو يعطي نوراً للعالم وبصيرة في قلب الإنسان. وبين هذا عملياً بشفاء الأعمى. أعمل أعمال الذي أرسلني= في كل عمل أو معجزة يقوم به المسيح فهو يستعلن محبة الله لنا وإرادته من نحونا فهو يفتح عيني الأعمى ليعلن أن إرادة الله الآب هي أن نبصر ويقيم لعازر ليعلن أنه يريد لنا القيامة والحياة. ما دام نهار= ما قبل المسيح كان ليل يغطي الإنسان إذ فقد رؤيته لله وحين جاء المسيح نور العالم صار نهار والمسيح صنع معجزات شفاء كثيرة وعلَّم تعاليم محيية طوال فترة وجوده بالجسد على الأرض والمعنى المباشر الذي يقصده السيد، أنه طالما أنا في الجسد فلأعمل أعمال شفاء لتؤمنوا. ونحن لازلنا نستمتع بنهار المسيح فهو مازال معنا "ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (مت20:28) وهو يعمل مع كل واحد ليفتح بصيرته قبل أن يأتي ليله، وليل الشخص يعني يوم موته وهناك ليل عام وهو يوم الدينونة حين تنتهي فرصة كل إنسان خاطئ أعمى من أن يستنير بنور المسيح. (فلننتهز الفرصة مادام نهار قبل أن نموت). ما دمت في العالم فأنا نور العالم فالمسيح لنا هو نور الحياة، هو يضئ في ظلمة حياتنا. ينبغي أن أعمل= المسيح مشتاق أن يعمل، ويغير طبيعتنا إلى الخليقة الجديدة. فلنسلم له حياتنا طالما نحن أحياء (مادام هناك نهار). ما دام نهار= المقصود به وقت العمل. أما الليل فهو التوقف عن العمل إذاً النهار هو حياة المسيح على الأرض بالجسد قبل صلبه.

 

الآيات (6،7): "قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طيناً وطلى بالطين عيني الأعمى. وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل فمضى واغتسل وآتى بصيراً."

هذه عملية خلق أو هي خلقة تصحيحية. فالمسيح هنا يخلق عينين (تك7:2+ أش8:64) كأن عجنة الطين التي خُلِقَ منها الأعمى عادت ليد خالقها الأول يشكل لها من ذات الطين عينين راجع (أر18). ولعاب المسيح يصنع شفاء فهو ينقل من المسيح سر الحياة الجسدية والسليمة والكاملة فهو حي ومحيي وكل جزء من جسده فيه حياة وشفاء. إذهب إغتسل في بركة سلوام= وكان على الأعمى أن يؤمن ويطيع ويغتسل ولو فكر لإمتنع فلو إغتسل لسقط الطين. وبركة سلوام هي بركة تستمد مياهها من نبع عالٍ إسمه حالياً "نبع مريم" وقد حُفِرتْ البركة بقصد توصيل المياه داخل أسوار أورشليم خلال قناة تحت الأرض ليكون هناك مياه في أورشليم أثناء حصارها. وربما حفرت من أيام سليمان. ومعنى كلمة سلوام= المرسل لأن مياهها مرسلة من مكان آخر، وليست نابعة من مكانها، بل منحدرة ومرسلة إليها من نبع آخر أعلى كأن المسيح يقول أن من يشفي الأعمى أي المسيح نفسه هو مرسل من الله. والإغتسال فيه معنى المعمودية والمعمودية هي موت وقيامة مع المسيح المرسل من الله= سلوام (رو3:6-5) وهذا هو الخلق الجديد. وسماها إشعياء "شيلوه" (6:8) بمعنى مرسلة. وقد ردمت مع الزمن وأعيد إكتشافها. وهي لها إتصال وثيق بخدمة الهيكل لذلك إعتبرت مياهها مقدسة وكانت تستخدم مياهها في طقوس عيد المظال. والرب أرسل الأعمى ليغتسل فيها، والإغتسال في مياه مقدسة هو المعمودية. فالماء له دور في الخلقة الجديدة لذلك أرسله المسيح إلى الماء. وكانت المياه مياه جارية لإنحدار القناة من البركة العليا للبركة السفلى. والمعمودية تسمى الإستنارة في العهد الجديد. وهذه البركة ترمز للمسيح (أش6:8) وبالذات لخلاص المسيح الهادئ، وفي (أش6:8) نجد مقارنة بين خلاص المسيح الهادئ وبين المياه القوية والكثيرة التي كانت ترمز للقوى الإنسانية التي يتصورها اليهود لخلاصهم، فهم يريدون مسيحاً يقود جيوش. وهذه النبوة تشير لأن اليهود رفضوا المسيح "رذلوا مياه شيلوه الجارية" ولاحظ أن المسيح ذهب للأعمى دون أن يسأله أحد، رمزاً لأنه أتى لتجديد خلقة البشر دون أن يسأله أحد (أش1:65) نلاحظ أن الطين يفسد العين السليمة، أي الطين يزيد حجم المشكلة. وهكذا في بعض الأحيان نتصور أن الله يعقد المشكلة. كما حدث للشعب فالبحر أمامهم وفرعون وراءهم.

 

الآيات (8-12): "فالجيران والذين كانوا يرونه قبلاً انه كان أعمى قالوا أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي. آخرون قالوا هذا هو وآخرون انه يشبهه وأما هو فقال أني أنا هو. فقالوا له كيف انفتحت عيناك. أجاب ذاك وقال إنسان يقال له يسوع صنع طيناً وطلى عيني وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل فمضيت واغتسلت فأبصرت. فقالوا له أين ذاك قال لا اعلم."

إنسان يقال له يسوع= في أصلها اليوناني الإنسان الذي يقال له يسوع. فالأعمى رأى المسيح أنه في وضع يفوق كل الناس. أليس هذا هو= فشكله قد تغير. وهكذا كل من عرف المسيح وإستنارت عيناه. ولاحظ أن المولود أعمى لم يرى المسيح حتى ذلك الوقت.

 

الآيات (13-15): "فأتوا إلى الفريسيين بالذي كان قبلاً أعمى. وكان سبت حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه. فسأله الفريسيون أيضاً كيف ابصر فقال لهم وضع طينا على عيني واغتسلت فأنا ابصر."

السنهدريم مكون من الفريسيين ورؤساء الكهنة. لذلك فالفريسيين هم فرع من السنهدريم. وهؤلاء رأوا أن المسيح كسر السبت في عدة نواحٍ فهو تفل على الأرض وصنع طيناً وهذا عمل، وعالج الأعمى وهذا عمل والأعمى سار حتى بركة سلوام. والربيين قالوا من يضع دواء في العين يوم سبت فهو حرام، ولكنهم لم يروا المعجزة في روعتها فصاروا هم عمياناً وأبصر الأعمى. هنا نرى أعمى بالجسد وقد صار مبصراً ونرى عميان بالبصيرة يرون الماديات ولا يرون الحقيقة.

 

آية (16): "فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت آخرون قالوا كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات وكان بينهم انشقاق."

هنا بدأ إنشقاق بين الفريسيين.

 

الآيات (17-23): "قالوا أيضاً للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث انه فتح عينيك فقال انه نبي. فلم يصدق اليهود عنه انه كان أعمى فابصر حتى دعوا أبوي الذي ابصر. فسألوهما قائلين أهذا ابنكما الذي تقولان انه ولد أعمى فكيف يبصر الآن. أجابهم أبواه وقالا نعلم أن هذا ابننا وانه ولد أعمى. وأما كيف يبصر الآن فلا نعلم أو من فتح عينيه فلا نعلم هو كامل السن اسألوه فهو يتكلم عن نفسه. قال أبواه هذا لأنهما كانا يخافان من اليهود لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا انه إن اعترف أحد بأنه المسيح يخرج من المجمع. لذلك قال أبواه انه كامل السن اسألوه."

إنه نبيٌ= بعد أن كان المسيح في نظره مجرد "إنسان إسمه يسوع". فبعد أن إنفتحت عيناه صار يسوع نبي. كان يخبئ الكلمة في قلبه، ولم يستطع كتمانها أكثر من ذلك، وشهادته هذه تأكيد للنور الذي دخل قلبه، ولاحظ عدم خوفه من الفريسيين= السنهدريم= اليهود. لم يصدق اليهود= هو ظنوها مؤامرة بين المولود الأعمى والمسيح فطلبوا سؤال أبويه وهم خافا حتى لا يخرجوا من المجمع.

 

الآيات (24-25): "فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له أعطي مجداً لله نحن نعلم إن هذا الإنسان خاطئ. فأجاب ذاك وقال أخاطئ هو لست اعلم إنما اعلم شيئاً واحداً أني كنت أعمى والآن ابصر."

إعط مجداً لله= عبارة تشير إلى أن هناك إجراء خطير سيتخذ ضدك وهذا الإجراء له شقين [1] شق ديني= يحرم المتهم من الله والحياة الأخرى. [2] شق مدني= يعزل عن المجتمع ولا يتعامل معه أحد (بيع أو شراء) وهم يخيفونه بهذه العبارة (يش18:7) والمعنى إعترف لعل الله يرحمك في الحياة الأخرى، فهم يطالبون المتهم بالإعتراف بالحق خوفاً من الله. وأن قراراً سيصدر بقطع المتهم أو إعدامه، فعليه قبل هذا أن يعترف بخطيته ويعطي بهذا مجداً لله ليحتفظ بحق الرحمة في الدهر الآتي بعد أن يكون قد حُرِم من كل حقوق الحياة كواحد من شعب الله في الحاضر (قتل أو قطع). وهم هنا يريدون أن يرعبوا هذا الأعمى البصير حتى يسحب إعترافه بأن المسيح نبي وهم يوصوا للأعمى بما يقول إذ يقررون أمامه بأن المسيح خاطئ، وأن هذا حكمهم وهم السنهدريم أي الهيئة الرسمية، حتى يلتزم بتغيير شهادته. أنا أعمى والآن أبصر= إن أقوى رد على محاولات التشكيك في المسيح هي إختباراتنا الشخصية.

 

الآيات (26-28): "فقالوا له أيضاً ماذا صنع بك كيف فتح عينيك. أجابهم قد قلت لكم ولم تسمعوا لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً ألعلكم انتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ. فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك وأما نحن فأننا تلاميذ موسى."

هم يريدون أن يستنطقوه بأن المسيح صنع سحراً إو إستخدم شياطين ليشفيه أو يقول كلاماً مناقضاً لما قاله من قبل فيمسكونه عليه. وبدأ الأعمى البصير يهاجمهم ويسخر منهم فشتموه وإتهموه بأنه تلميذ المسيح وليس تلميذاً لموسى. (هذا الأعمى الشحات وبخهم= أعلنها للأطفال الصغار وأخفاها عن الحكماء). تلاميذ موسى= كانوا يقولون أنهم تلاميذ موسى ويقولون هذا بصلف وكبرياء وإستعلاء. فإن كانوا يتباهون بأن الله كلَّم موسى فإنه من المؤكد أنهم سمعوا شهادة المعمدان بأن السماء إنفتحت للمسيح والآب تكلم يوم عماده. تلميذ ذاك= بهذا هم فصلوه من المجمع.

 

الآيات (29-34): "نحن نعلم أن موسى كلمه الله وأما هذا فما نعلم من أين هو. أجاب الرجل وقال لهم إن في هذا عجباً أنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. منذ الدهر لم يسمع إن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً. أجابوا وقالوا له في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا فأخرجوه خارجاً."

الله لا يسمع للخطاة= (أي8:27،9+ مز15:34،16+ أم27:1-29، 29:15+ أر11:11) نرى الفريسيين متشككين ويحاولون تشكيك ذلك الأعمى المستنير وما يثير هؤلاء الفريسيين أن المسيح لم يحصل منهم على تصريح بما يفعله، لا منهم ولا من مدارسهم. وهم سلطانهم من موسى، وموسى من الله، وهم يتكلمون بفم موسى أي بفم الله، ولكن المسيح بأعماله يهدم كل ذلك، والأعمى رأى وفهم أما هم فتحجروا. وما منعهم من الفهم هو إحساسهم بضياع سلطانهم. وكان منطق الأعمى المستنير، وإن لم تعرفوا من أين هو فيكفي هذه المعجزة لأن تعلموا من هو ومن أين هو، فهو لابد من الله فلا يمكن أن يسمع الله للخطاة (مز18:66). وكالعادة إذ لم يجدوا رداً بدأوا يشتمونه. في الخطايا ولدت أنت= أي أنت ولدت أعمى بسبب خطاياك وخطايا أبوك وأمك وهذا هو الرأي اليهودي ولكن ما قولهم إذ فتح المسيح عينيه الآن. ثم طردوه من جماعة اليهود. وكان الحكم بالطرد إمّا لفترة 30يوماً أو لمدة طويلة. والطرد كان يحرمه من مزاياه الدينية والاجتماعية. لاحظ تخبط اليهود "أما هذا فما نعلم من أين هو (29:9) "هذا نعلم من أين هو (27:7) "المسيح متى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (27:7).

 

الآيات (35-38): "فسمع يسوع انهم أخرجوه خارجاً فوجده وقال له أتؤمن بابن الله. أجاب ذاك وقال من هو يا سيد لأومن به. فقال له يسوع قد رأيته والذي يتكلم معك هو هو. فقال أؤمن يا سيد وسجد له."

فوجده= أي فتش عليه حتى وجده، فالمسيح يبحث عن كل من خسر شيئاً لأجله ليعطيه إختباراً أعمق لذلك هو أب الأيتام وقاضي الأرامل ومعين من لا معين له. والمسيح فتح له باب الحياة الأبدية بأن دعاه للإيمان، وهو إذ طردوه شابه المسيح المرفوض وحمل معه صليبه، ولقد ظنه الأعمى من قبل أنه نبي، وها هو يؤمن أنه إبن الله. الذي يتكلم معك هو هو= هو الثانية تعني الكينونة (أنا الكائن).

 

الآيات (35-38): "فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون. فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له ألعلنا نحن أيضاً عميان. قال لهم يسوع لو كنتم عمياناً لما كانت لكم خطية ولكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية."

أتى المسيح للعالم كنور ليفضح الظلام. حتى يبصر الذين لا يبصرون= مثل الأعمى وكل الذين آمنوا وتابوا، فالأعمى آمن وسجد. ويعمي الذين يبصرون= أي الذين يدَّعون لأنفسهم البصر والبصيرة والعلم والمعرفة، العارفين للحق كالفريسيين، هؤلاء قاوموا ورفضوا الإيمان لأن غلظة قلوبهم أعمت بصائرهم. هؤلاء هم من أسماهم المسيح من قبل الحكماء (حكماء في أعين أنفسهم) والفهماء (لو21:10+ مت25:11+ رؤ17:3). وقولهم ألعلنا نحن أيضاً= فيها كبرياء وترفع على الآخرين فهم يشعرون أنهم العلماء العارفين، وهذا يزيد عماهم. ونرى هنا أن الأعمى قبل نورين، نور الجسد ونور الله فأبصر وإستنار معاً. والفريسيين بإرادتهم ورفضهم إنحجب عنهم النور (يو19:3+ مت14:15+ لو51:1-53). فالنور هو بهجة العيون السليمة وأذى للعيون الكليلة المريضة. والمسيح نور ومن يقبله وترحب به عينيه يتزايد نورها، وكل عين لا تقبله يرفع عنها النور. لدينونة أتيت= لإظهار ما في القلوب، وتمييز الأبرار من الأشرار= وضع لسقوط وقيام كثيرين (لو34:2) المسيح لم يأتي في مجيئه الأول ليدين، لكن من يرفض الإيمان به يدان= لدينونة أتيت ومن يؤمن به ينجو من الدينونة. المسيح أتى لينير قلوب العميان لجهلهم فيبصرون، ويفضح المتكبرون الرافضون. لو كنتم عمياناً لما كانت لكم خطية= أي لو كان عماكم ناشئ عن جهل بالكتاب المقدس لما أدنتكم، ولكنكم تعاندون. (قارن مع رو19:2). والمسيح وصفهم من قبل بأنهم يبصرون ولكنهم في سبيلهم لأن يكونوا غير مبصرين. وما الذين يجعل المبصر لا يرى سوى أعماله الشريرة وكبرياؤه وخطاياه، ومع هذا فهم يقولون نحن نبصر ونحن نور للذين في الظلمة كما فعل الفريسيين، فهم في الحقيقة عميان والخطية أعمت عيونهم. فخطيتكم باقية= طالما أنتم مصرين على خطيتكم ولا تريدون أن تأتوا لتبصروا. ولكن لو شعرتم بأنكم عميان وأتيتم لتشفوا فسيضئ لكم النور وتغفر لكم خطاياكم. ولكنهم ينكرون المسيح ليس جهلاً ولكن تجاهلاً للحقيقة. ألعلنا نحن أيضاً عميان= الإنسان الذي يشعر بالإكتفاء وعدم الإحتياج للمسيح يتقيأه المسيح (رؤ16:3،17). تقولون أننا نبصر= تدعون المعرفة وبعنادكم ستظلون كما أنتم.

ملحوظة: نرى الأعمى وإيمانه يتدرج فأولاً هو قص ما حدث بأمانة وقال عن يسوع أنه الإنسان مفضلاً إياه على باقي البشر ثم أعلن أنه نبي ثم أنه من الله فلو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً. ثم يؤمن به كإبن لله ويسجد له وهذه هي الإستنارة. هكذا فالله يقود النفس في طاعته والإعتراف به والشهادة له في إتزان وهدوء ونمو روحي عجيب. ولاحظ القول "أليس هذا هو المولود أعمى" فهكذا في حالة توبة أي إنسان يستغرب الناس التغيير الذي حدث فيه ويقولون أليس هذا هو فلان ولكن ما غَيَّرَهٌ أنه قابل الرب فشفاه.

هؤلاء الرعاة أهملوا الأعمى حين كان منهم ولما شفاه المسيح طردوه فهم رعاة غير أمناء. والمسيح الراعي الصالح أتى لهذه النفوس التي كسروها لذلك فالإصحاح التالي يكلمنا عن الراعي الصالح في مقابل هؤلاء السراق واللصوص، الرعاة غير الأمناء.


 

الإصحاح العاشر

فصل إنجيل الراعي الصالح يقرأ كلما إحتفلت الكنيسة بتذكار أحد البطاركة أو الأساقفة القديسين وفي يوم سيامة أو تجليس البطريرك فالمسيح يرعى كنيسته عن طريقهم. (لذلك يقرأ هذا الإنجيل 38مرة في السنة). ولاحظ أن الآيات (1-6) هي مثل يضربه السيد المسيح أما بعد ذلك فليس مثلاً.

 

الآيات (1-6): "الحق الحق أقول لكم إن الذي لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف بل يطلع من موضع آخر فذاك سارق ولص. وأما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف. لهذا يفتح البواب والخراف تسمع صوته فيدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها. ومتى اخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته. وأما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء. هذا المثل قاله لهم يسوع وأما هم فلم يفهموا ما هو الذي كان يكلمهم به."

الحديث هنا هو إمتداد للإصحاح التاسع. فالأعمى الذي أبصر قد أخرجوه خارج الجماعة لكنه دخل بإيمانه لحظيرة الخراف التي راعيها هو الرب يسوع. واليهود طردوا هذا الإنسان البسيط لأنه آمن بالمسيح فصاروا رعاة فاسدين للحظيرة اليهودية (أر1:23-6+ حز34+ زك11+ أر6:50). هم طردوه ففتش عنه الراعي الصالح حتى وجده. والمسيح ألقى بتعاليمه عن الراعي الصالح لعلهم يتذكرون ما قاله الأنبياء. والمسيح قدم نفسه بكونه النور والخبز والكرمة.. وهنا يقدم نفسه بكونه الراعي الصالح.

الراعي والرعية:

الراعي في فلسطين غير الرعاة في مصر وأوروبا. فهم في فلسطين يربون الأغنام لا ليأكلوها، بل من أجل صوفها، ولذلك كانوا يربونها لفترات طويلة، فيكون هناك عشرة طويلة بين الراعي وخرافه. فينشأ نوع من المودة والألفة والحب بين الراعي والرعية.

والأرض في فلسطين أرض تلال ومناطق وعرة بها وحوش لذلك تحتاج ليقظة من الراعي في النهار والليل، وهم دائماً في نوبات حراسة، ولنسمع في (لو8:2) "رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم". ولأن الماء قليل في فلسطين فالرعاة يأخذون خرافهم للماء. ومن أجل هذه الرعاية صار يطلق على الملوك والبطاركة والأساقفة لقب راعي، بل أطلق الإسم على الله، فهو راعي إسرائيل. ومن أجمل المزامير عن ذلك (مز23) "الرب راعيَّ فلا يعوزني شئ" فهو المسئول عن حياتي وحمايتي وكل أعوازي "على ماء الراحة يوردني" فالخروف يخاف من المياه الجارية لئلا يبتل ويثقل صوفه فيغرق. لذلك يشرب من المياه الراكدة. فيأتي الراعي ويضع حجراً كبيراً في طريق المياه الجارية فتهدأ سرعتها فتشرب الخراف، وبهذا تسمى المياه، مياه الراحة. والراعي له عصا يطرد بها الوحوش والذئاب وله عكاز (عصا طويلة مثنية في نهايتها حتى لا يؤلم الخروف) يرد بها الخروف لطريقه إذا ضل وهذا العكاز يستعمله الراعي في أن يمرر خرافه من تحتها لتدخل الحظيرة مساءً فيعرف عددها وبذلك لا يضيع خروف، وإن ضل خروف، يذهب وراءه ليرد هذا الخروف الضال.

ومناسبة تشبيه المسيح نفسه بالراعي، طرد المولود أعمى من المجمع وقسوة الرعاة من اليهود الفريسيين عليه. فهو كان أمامهم يستعطي، ماذا صنعوا له وماذا قدموا له من رحمة. والآن إذ رحمه المسيح وشفاه طردوه، فهم رعاة قساة القلوب. ولذلك أتى المسيح الراعي الصالح. والمسيح بتشبيه نفسه بالراعي الصالح يذكرهم بالنبوات السابقة عن رفض الرعاة السابقين لعدم أمانتهم، ومجيء راعي صالح هو المسيح. وراجع (أر1:23-6) "ويلٌ للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي يقول الرب.. هأنذا أعاقبكم.. ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر.." والمسيح هو غصن البر. ومعنى الكلام.. أنتم أيها الفريسيون يا من تدعون المعرفة والبر وتتهمونني بأنني خاطئ، قارنوا بين موقفكم وموقفي كرعاة ستجدوا أنني الراعي الصالح لهذا الخروف المسكين.

وأذكروا النبوات فأنتم دارسين للكتاب، فستكتشفوا أنني من تنبأ عنه الأنبياء بأنني الراعي الصالح. أنتم أيها الفريسيون طلبتم أن تخدمكم الرعية، أما أنا فأتيت لأَخْدِم لا لأُخْدَم. راجعوا النبوات فستكتشفوا أن الله أوقفكم عن الرعاية. وسأكون أنا من تنبأ عنه الأنبياء بأنني الراعي الجديد الصالح= "عبيد داود يرعاها" وطبيعة الحظائر في فلسطين (للغنم) تكون عبارة عن أرض مربعة يحيط بها سور منخفض من الخشب لا تستطيع الخراف أن تقفز من فوقه، ولها باب واحد. والراعي أو البواب ينام بجسمه ليسد مدخل الباب ليلاً ليشعر بأي خروف يحاول الخروج أو أي وحش يريد الدخول. فيكون الراعي هو الباب وهو البواب. أي يكون هو راعي الغنم وهناك بواب ينام في مدخل الباب. وهذا البواب لا يُدْخل للحظيرة سوى الراعي. ولاحظ أن السراق واللصوص يقفزون من على السور.

اللصوص= هم من يسرقون علانية وبوضوح.

السراق= من يسرقون في الخفاء.

وهؤلاء هم الأنبياء الكذبة وهؤلاء الفريسيين الحاليين.

وحينما يقول السيد في مثله الذين أتوا قبلي فهو يقصد هؤلاء. وقطعاً هو لا يقصد الأنبياء الحقيقيين، الذين دخلوا من الباب. فالأنبياء الحقيقيين كان المسيح هو رجاءهم وهم تنبأوا عن المسيح. والمسيح هو الذي أرسلهم وتكلموا بإسمه.

وفي الصباح يترك الرعاة كل قطعانهم في مكان واحد فتختلط كل الخراف مع بعضها البعض، وفي المساء يقف كل راعي في مكان ويصدر صوتاً مميزاً فتجتمع خرافه حوله، لأن الخراف تعرف صوت راعيها وتميزه من طول مدة العشرة معه، هي ألفت صوته وتدربت على سماعه. ونحن لكي نميز صوت المسيح علينا أن نعاشره فترات طويلة. وأما من لا يعاشر الله لن يستطيع أن يميز صوته فسيقع في حيرة.

وكلمة صالح هنا تشير لمن يعطي بلطف وإحسان وبطريقة لطيفة جميلة. ولا تعني الصلاح بمعنى البر والتقوى والفضيلة.

ولاحظ أن المسح كراعٍ للخراف صار من نفس طبيعتنا أي خروف مثلنا ليشعر بكل ما نشعر به من ضعف (رؤ17:7+ رؤ6:5).

والمعاني التي في المثل الذي ضربه يسوع :

الحظيرة= هي إسرائيل قديماً والكنيسة حالياً. هي ملكوت الله.

الباب= باب الحظيرة هو المسيح الموصِّل للآب (رؤ1:4+ تك12:28-17) فالمسيح هو السلم، هو على الأرض ورأسه في السماء. نرى المسيح ونلمسه إذ صار منظوراً لنا فنعرف الآب وندخل الحظيرة. والباب هو الإيمان بالمسيح. والرعاة السارقين هم من يدخلون بتعاليم غير تعاليم الكنيسة. الباب هو التعليم الصحيح عن الله.

راعي الخراف= الذي هو ليس سارقاً أو لصاً وهو يدخل من الباب أي المسيح. وكل الأنبياء والرسل هم رعاة صالحون. وكل خادم إن دخل من الباب يكون راعي صالح والمسيح هو راعي الرعاة ورئيس الرعاة (1بط4:5) وراعي الخراف العظيم (عب20:13). هو الوحيد الذي قَدَّم نفسه عن خرافه لذلك هو صالح.

البواب= هو حارس يحمل سلاحاً، فهو المسيح الديَّان الذي يغلق ولا أحد يفتح (إش22:22) أو هو الروح القدس الذي يفتح قلوبنا لنقبل التعليم الصحيح فنقبل صوت الراعي وكلمته ويسكن فينا المسيح، والروح يقود الكنيسة. ويشير البواب للخادم الأمين الذي يقود النفوس للمسيح. وقد يشير البواب لأسقف إذا وجد خادم تعليمه صحيح يسمح له بالدخول والتعليم. وإذا وجد خادم منحرف في عقيدته يمنعه.

الخراف= هم شعب الله. والله يدعو خرافه للإيمان ويخرجها للإنطلاق إلى ملكوته.

يذهب أمامها= هذا عكس الرعاية الطبيعية لأن الراعي يسير خلف الغنم ليراها ويحميها ولكن المسيح كل شئ مكشوف أمامه. والمسيح سار أمامنا وإفتتح الطريق إلى السماء ودخل كسابق، بل هو الطريق. هو ذاق الموت وعرف القيامة والصعود كسابق لنا.

الراعي الغريب= الذي لم يدخل من الباب، هذا لم يرسله الله، ليس له التعاليم الصحيحة أو هم من رفضوا المسيح كالفريسيين. ولنلاحظ أن خدمة الرعاية هي دعوة من الله (عب4:5). والغريب لو دخل لحظيرة الخراف يحدث هياج للخراف. أما مع الراعي الحقيقي فهدوء وإطمئنان.

يطلع من موضع آخر= لأن سور الحظيرة (حظيرة الخراف) منخفض الإرتفاع فالسارق لا يدخل من الباب بل يقفز من على السور. إشارة للهراطقة.

تعرف صوته= كما عرفت المجدلية المسيح من صوته. وفي المجيء الثاني سيعرف المسيح من عرفوا صوته أي عرفوه من قبل. الآخرين سيخدعوا بمعجزات كاذبة. أما الخراف الحقيقية فهي تعرف المعلم الذي عنده التعليم الصحيح وتنفر من المعلم الذي عنده تعليم خاطئ.

يدعو خرافه بأسمائها= الرعاة يعطون خرافهم أسماء للتدليل، والراعي يعرف كل واحد من خرافه بإسمه ويناديه به وفي أثناء السير إلى المرعي، لو حدث، وشرد خروف في طريق خطر يناديه الراعي بإسمه فيعود إلى طريقه مع القطيع. هو يدعوها بأسمائها وليس بصفاتها أو ألوانها أو إحتياجاتها. وهذا دليل على العلاقة الشخصية للمسيح بكل نفس " دعوتك بإسمك" (إش1:43). "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (أر5:1)

-   في الشتاء يلبس الرعاة عباءات ثقيلة لها أحزمة من الجلد يضعون فيها الخراف الصغيرة لتدفئتها. والراعي يعطي رعاية خاصة للخراف الضعيفة المرتعشة.

-   والرعاة إعتادوا أن يسيروا في بعض الأحيان أمام الخراف خاصة في الأماكن الوعرة والقطيع يسير خلف الراعي منكس الرأس شاعراً بالأمان طالما الراعي أمامه، وإذا حدث وسمعوا صوتاً مخيفاً يرفعون رؤوسهم لينظروا ماذا سيفعل الراعي، فهم يتبعونه في السلام وفي المخاطر. وروحياً نفهم هذا أن القطيع يسير وراء الراعي منكس الرأس، أننا نسير وراء المسيح دون أن نحمل هماً لشئ فالمسيح أمامنا يقودنا وإذا حدث شئ مخيف لننظر إليه للمعونة.

-   والخراف تتبع الراعي وفي بعض الأحيان يعجبها نوع من الخضرة فتتعطل لكنها ترفع رأسها لتنظر أين الراعي وتعود ثانية للقطيع وأكثر ما يحزن الراعي أن تنكسر رجل خروف من قطيعه أثناء إبتعاده.

-   والراعي يكون مسلحاً دائماً لرد أي خطر عن خرافه من أي عدو، بل ويعرض حياته للخطر لأجلها (داود حارب أسداً ودباً لينقذ خرافه). وفي بعض الأحيان إذ يشرد الخروف يرمي الراعي حجراً عليه بمقلاع فيخاف ويرجع للقطيع (هذه فائدة التجارب التي يسمح بها المسيح). ونلاحظ أن عادة ما يسير الراعي في فلسطين وراء قطيعه وفي الأماكن الخطرة يسير أمام قطيعه كدليل.

والمؤمن يشبه بالخروف في :

1) عدم الأذى                                  2) الوداعة

3) الطاعة (هي منقادة بالكامل للراعي)         4) الضعف (الراعي هو يحميها)

5) إحتياجه للراعي (هو يغذيها ويرويها)               6) قبول التعليم

7) النفع للآخرين والخدمة (صوف ولبن)

لم يفهموا= أن المسيح هو الراعي الصالح وأن الأجراء هم من يهتمون بمصالحهم الشخصية ونفعهم أو بالمديح والسراق هم الهراطقة المخادعون والرعاة القساة القلوب والأنبياء الكذبة ومثيري الفتن.

 

الآيات (7-10): "فقال لهم يسوع أيضاً الحق الحق أقول لكم أني أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص ولكن الخراف لم تسمع لهم. أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى. السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم افضل."

هنا المسيح يطبق ما قاله من قبل على نفسه. باب الخراف= ولم يقل باب الحظيرة، فالمسيح يهتم بخروف واحد ليدخله، لقد إنتقل من عهد مع شعب لعهد مع نفس، فهو يبحث عن الخروف الواحد الضال، ومن يؤمن يدخل من الباب، باب الحياة ليجد حياة سماوية مع الآب في مرعى دسم، وبهذا ألغى عمل الكاروبيم الماسك سيفاً الواقف على باب الجنة. لن يدخل أحد للكنيسة أو للسماء إلاّ بالمسيح (يو6:14) المسيح حين يأتي بنا للآب يسمى نفسه (باباً) وحين يرعانا يسمى نفسه (راعي). أنا هو الباب= أي قبول المسيح شخصياً.

سرّاق ولصوص= (مثل الكرامين يفسر من هم السراق واللصوص). الفريسيين الذين تجاهلوا المسيح بأعماله وأقواله ليفرضوا عوائدهم وليستمروا في مكاسبهم فهم يريدون أن يسرقوا شعب المسيح، وينطبق لفظ سراق ولصوص علىمن إدَّعوا أنهم مرسلين من الله ليقودوا ثورات دموية ضد الرومان مثل يهوذا الجليلي وثيوداس. وهؤلاء إدعى كل منهم أنه المسيا. جميع= هنا يقصد بها من قال عنهم سابقاً "من يطلع من موضع آخر" (1:10).

لم تسمع لهم= لأن لهم أذن يميزوا بها صوت الراعي (يو31:3-34+ 1يو5:4،6). وهؤلاء مثل سمعان الشيخ وحنة النبية وزكريا والتلاميذ والرسل السبعين وبعض الشعب بل والجنود فرحوا بالمسيح بالرغم مما قاله الفريسيين.

إن دخل أحد= يدخل كالعذارى الحكيمات ولا يكون كالجاهلات ينتظرن حتى ينتهي الوقت. ومن يؤمن به يدخل ويجد الخلاص.

ويخرج= لينطلق إلى المراعي الحقة السماوية. يدخل للعمق ويخرج ليخبر الآخرين وفي الحالتين يتغذى فالمروِي هو أيضاً يُروَى= يجد مرعى= غذاء روحي للحياة. ويدخل ويخرج تشير للحرية، يخرج من الحظيرة للمرعى تابعاً الراعي أو داخلاً للحظيرة آخر النهار. وكلمة يخرج قيلت عن الأعمى إذ أخرجوه خارج المجمع، والمسيح يدعونا لنخرج من العالم وندخل إلى حظيرته. والمسيح أدخل الأعمى لحظيرة المؤمنين وهكذا يدخل كل من ترك العالم وفي نهاية رحلة حياتنا على الأرض نخرج من العالم فعلاً لندخل للسماء. والدخول يكون من خلال الباب الذي هو المسح والخروج يكون في الطريق الذي هو المسيح إلى السماء. فلا دخول للآب السماوي إلاّ بالمسيح (أف18:2،19). وكل راعي لا يقدر أن يدخل الغنم إلى المرعى الدسم يكون سارقاً لوظيفة الراعي. والمسيح يكرر نبوة زكريا (زك4:11،5). السارق لا يأتي إلاّ ليسرق ويذبح= يستغل رعيته. والشيطان ينطبق عليه أنه سارق ولص (2كو13:11-15). فهناك فارق شاسع بين راعي يعطي حياته لرعيته (كالمسيح) ورعاة هدفهم هو الإستفادة من رعيتهم.

أما أنا فأتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل= هو أتى لا ليأخذ بل يبذل نفسه عن الخراف ويعطيها حياة هي حياته هو. في مقابل الذبح والهلاك عند السرّاق واللصوص يقدم المسيح الحياة والأفضل، أي ملكوت الله (رو2:5) يأخذون الحياة بفيض وغزارة (حب الترجمة اليونانية) وهي صفة الملكوت. فالحياة التي يعطيها المسيح تنبع إلى حياة أبدية وليس حياة جسدية تموت بموت الجسد. هو يعطي حياة لها شبع السرور بالروح والنعمة وهي نفسها تبلغ إلى الملء هناك في الأبدية. حياتهم حياة روحية على الأرض ستكون لهم أفضل من الحياة المادية وحياتهم الأبدية هناك ستكون أفضل من الهلاك الأبدي. ولاحظ ماذا يعطي الراعي الصالح [1] حرية= يدخل ويخرج. [2] شبع= يجد مرعى. [3] خلاص= فيخلص. لذلك قال المسيح للمولود أعمى "أتؤمن بإبن الله" لأن هذا هو طريق الخلاص الوحيد.

صفات الرعي الصالح:

1-   يبذل نفسه عن الخراف                                                             آيات 11-13

 فهو الذي بذل حياته عن خرافه

2-   يعرف خرافه الخاصة وخرافه تعرفه                                               آية 14

 وهو يعرف إحتياجها فهو خروفاً مثلها. وهي تعرفه فهو يتعايش معها وفي وسطها وينتمي لها.(2تي12:1)

3-   يضع نفسه عن الخراف                                                            آية 15

 هو يضع نفسه مكاني في كل شئ(حياة/ موت/ ضعف/ عبودية/ ألم/ جوع وعطش/ فقر/ استهزاء/ لعنة/ دينونة)

4-   لا يلتزم بحظيرة معينة بل يجمع خرافاً أُخَر لتكون له رعية واحدة.                         آية 16

 هو أتي ليجعل الإثنين واحداً. يجمع الكل فيه (يهوداً وأمما)

 

الآيات (11-13): "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف. وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها. والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف."

هنا نرى تحقيق نبوات أرمياء (1:23-8) + حز (34). فحينما فشل الرعاة الذين أقامهم الله في رعاية شعبه أتي هو الراعي الصالح ليرعى شعبه. والصالح هنا في أصلها اللغوي تعنى (جميل/ طيب/ حسن/ جيد). والمعنى أنه راعي له شخصية جميلة النفس. هو يحب خرافه محبة شديدة ويبذل نفسه عنها. وهو له شخصية جميلة محببة عند خرافه، وإذا تعرفه خرافه تحبه تاركة الرعاة الغرباء.

أنا هو= إسم الله، فالمسيح هو الراعي الصالح وهو الحامل لإسم الله. والله كان له رعاة كثيرون مثل داود، ولكن داود كراعٍ إفترس نعجة من قطيعه (التي لأوريا) وموسى كان راعٍ ولكنه تذمر من حمل المسئولية (عد11:11-15) وبالنسبة لهم يصير المسيح هو الراعي الصالح صلاحاً مطلقاً عدا أن موسى وداود كانوا أيضاً خرافاً عند الراعي الأعظم. وأفضل الرعاة لم يقدم نفسه للموت عن رعيته والمسيح فعل ليعطي حياة لخرافه (زك7:13+ مت31:26،32) وصاحب الخراف يرعاها لأنه يمتلكها ويحبها. وهو صالح لأنه يطلب لها الصلاح. أمّا الأجير فهو يرعى الخراف لأجل نفسه ويأخذ أجرة وهو غير مستعد أن يموت لأجل الخراف. ولو ظهر خطر مفاجئ كظهور ذئب (الذئب هناهو أي ضيقة أو أي آلة يستخدمها الشيطان أو الشيطان نفسه أو أي إضطهاد في العالم) فهو يهرب بحياته فيفتك الذئب بالخراف ويبددها، لأن الخراف إذ ترى الذئب يخطف واحداً واحداً منها تجري وتهرب فتتبدد الرعية. والراعي الصالح يكلف رعاة أمناء لرعاية رعيته (أر4:23+ 15:3+ 1بط1:5-4). ولنلاحظ أن الأجير ليس هو من يتقاضى أجراً عن خدمته فالفاعل مستحق أجرته وخادم الإنجيل من الإنجيل يعيش. ولكن الأجير هو من يفضل الأجرة على الخدمة وعلى محبته لرعيته.

 

الآيات (14،15): "أما أنا فإني الراعي الصالح واعرف خاصتي وخاصتي تعرفني. كما إن الآب يعرفني وأنا اعرف الآب وأنا أضع نفسي عن الخراف."

المسيح نزل من السماء ومعه ذخيرة من العلاقة الفعالة التي تربطه وتجمعه بأبيه. يريد أن يجعلها هي نفسها فعالة في علاقته بالذين أحبوه وآمنوا به لنصير نحن مربوطين فيه وفي الآب. هنا المسيح يرفع مستوى المعرفة بينه وبين خرافه. والمعرفة وحدة. ومعنى كلامه كما أنا منتمياً لأبي في الألوهية فأنا سأنتمي لخرافي بجسدي البشري. كما أنني من خاصة الآب فيحبني هكذا هي العلاقة بيني وبين خاصتي. ولكن لنفهم أن العلاقة بينه وبين الآب هي علاقة جوهرية شخصية أقنومية بلا حدود ولا فواصل. ولكن العلاقة بيننا وبينه يحدها إننا محدودين فهو يحبنا بلا حدود لكننا نحبه على قدر إستطاعتنا كذلك في المعرفة فهو يعرف معرفة مطلقة. ومعرفتنا نحن محدودة بحدود قدرتنا الهزيلة، وحدتنا معه محدودة، هي جزئية وتنمو "إنمو في معرفة ربنا يسوع المسيح" (2بط18:3+ يو26:17). هو يعطي ونحن نأخذ فإن كان تعوزنا معرفة لله فهذا راجع لنقص محبتنا (أف17:3-19). الأصل هو علاقة المسيح بالآب وصورة لها علاقة المسيح بخاصته. ولنلاحظ أن محبة المسيح للآب ظاهرة في طاعته وبذله نفسه حتى الصليب= أنا أضع نفسي عن الخراف. أي هو يضع نفسه للموت عن خرافه. ومن أحبه كالشهداء وضعوا أنفسهم لأجله. والمسيح وضع نفسه لمحبته لخرافه ولطاعته للآب. والطاعة ناشئة عن المحبة. فلا معرفة حقيقية لله بدون محبة وبذل.

 

آية (16): "ولي خراف آخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن أتى بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد."

المسيح بموته جذب إليه الجميع (يو32:12). وإتسعت دائرة الرعية. فلم تعد مقصورة على اليهود بل صارت الحظيرة تضم العالم كله (يو51:11،52). لاحظ أنه لم يقل من "حظائر أخرى" فالأمم كانوا مشتتين وسط الأوثان وبلا حظائر فلا حظيرة سوى حظيرة واحدة لله.

رعية واحدة= كل فرد من الرعية يتحد بالمسيح وبعد ذلك يتحد الكل معاً. والراعي الواحد= هو الرب يسوع.

تسمع صوتي= سماع صوت االرب هو خبرة روحية وهو الإيمان والقبول والإنجذاب للمخلص. هو حب للمخلص كخاصة له. الخراف تصير خاصة له. وكان آدم يسمع صوت الله ويطيعه قبل السقوط. ثم بعد السقوط كلمه الله لكنه كان يسمع ويخاف ويختبئ والآن فالتائب يصير له صوت الله للفرح عِوَضْ الخشية. ولكن لكل إنسان حاسة يسمع بها صوت الله ولكن يتوقف سماع صوت الله على حالة كل إنسان وخضوعه لله، ويتغير صوت الله في شدته وحنانه وقربه حسب حالة الإنسان. والخاطئ يسمع صوت الله فإن قرر أن يستجيب يحيا. والموتي في اليوم الأخير سيسمعون صوت الله فيقومون. وخراف المسيح تميز صوته عن صوت العالم والخطية. فصوت الراعي يتميز بأنه هادئ ومفرح للنفس. وكان الرعاة في فلسطين يجمعون قطعانهم المختلفة داخل حظيرة عامة عند الغروب حتى تسهل حراستها. وفي الصباح يأتي كل منهم وينادي على قطيعه بأصوات معينة فتخرج أغنامه وحدها على صوته. وهكذا في المساء أيضاً فبعد أن تكون الأغنام قد إختلطت في المرعى بغيرها يقف الراعي في ناحية وينادي عليها بصوته فيتجمع قطيع كل راعٍ عند راعيه فيقودها للحظيرة.

 

الآيات (17،18): "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً هذه الوصية قبلتها من أبي."

المسيح ببذل نفسه، فرح الآب= لهذا يحبني الآب= لأنه جعل محبة الآب للإنسان محسوسة.

لهذا يحبني الآب= هنا ذبيحة المسيح هي موضع فرح الآب ومحبته للإبن كإنسان أطاع حتى الموت ليفدى البشر. الإبن موضع حب الآب أزلياً لكنه هنا يعلن فرحة الآب بعودة البشر لأحضانه بعمل المسيح الفدائي. بهذا الآية يعلن [1] حب الآب لنا [2] علاقته بالآب فلا يتشككوا فيه [3] سلطانه المطلق إذ هو في محبته أسلم نفسه لأجلنا [4] الفداء موت وقيامة= أضع نفسي لآخذها= فهو لن يرى فساداً. هنا الراعي لا يموت فقط لأجل الخراف بل يقوم ليقيمها معه. هنا نرى سلطان المسيح وأنه يبذل ذاته بإرادته حباً للآب ولرعيته. قيمة ذبيحة المسيح أنها طوعية. هو الراعي الذي أتى ليفتش على خروفه الضال ليرده، أتى إليه حتى أعماق الموت ليقيمه حياً، لقد صار الراعي هنا ذبيحة. الموت هو الذئب الذي كان يخافه الرعاة السابقون. ولكن الراعي الصالح أتي ليفترس هذا الذئب أو ليميت الموت (عب14:2،15). وهنا يلتفت المسيح نحو الآب ليقدم له ذبيحته التي هي ذبيحة حب وطاعة للآب فهي إستجابة لوصية الآب. ونرى هنا سلطان المسيح على الموت والحياة معاً. والمسيح يضع هذا السلطان في توافق مع الآب= هذه الوصية قبلتها من أبي= الوصية هي الموت عن العالم في حب للعالم وبذل نفس عن العالم. وهنا نرى التساوي والوحدة بين الآب والإبن فلأنهما واحد فما يريده الآب يريده الإبن= لي سلطان أن.. فالإنسان العادي له سلطان أن يضع نفسه للموت ولكن ليس لإنسان أن يقيم نفسه. ولكن للمسيح هذا السلطان فكل ما هو للآب هو للإبن. في هذه الآية نرى موت المسيح وقيامته بسلطانه وإرادته. فهو يريد أيضاً أن يموت عن العالم. لكن الآب يريد والإبن ينفذ.

 

الآيات (19-21): "فحدث أيضاً انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام. فقال كثيرون منهم به شيطان وهو يهذي لماذا تستمعون له. آخرون قالوا ليس هذا كلام من به شيطان ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان."

بعد كل تعليم للمسيح ينقسم السامعون إلى من يؤمن ومن يرفض.

 

الآيات (22-24): "وكان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء. وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان. فاحتاط به اليهود وقالوا له إلى متى تعلق أنفسنا إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً."

موسم عيد التجديد هو موسم أمطار في شهر ديسمبر لذلك كان المسيح يتمشى في الهيكل في رواق سليمان= ورواق سليمان كان في دار الأمم وهو مسقوف دخله السيد ليحتمي من المطر والبرد. وسمى هكذا فكان هو كل ما بقى بعد أن خرب هيكل سليمان على يد البابليين. هذه الآيات وما بعدها تقرأ في عيدي الصليب. فبالصليب تجددت أورشليمنا الداخلية أي حياتنا وصرنا هياكل لله، المسيح فينا حياتنا. بينما هناك شتاء خارجنا أي برودة روحية وعيد التجديد هو إحتفال وضعه يهوذا المكابي يوم جدد الهيكل الذي خربه أنطيوخس إبيفانيوس اليوناني (رمز لتجديد الإنسان بالمسيح بعد أن إستعبده إبليس وأفسد طبيعته). وهذا العيد يأتي في 19ديسمبر، وهو إحتفال بتجديد الهيكل والإنتصار على اليونانيين. ولذلك كانت خيالات اليهود في هذا اليوم أن يعيد المسيح هذه الإنتصارات ويهزم الرومان هذا العيد يثير فيهم ذكريات سياسية فظنوا أن المسيح يفعل هذا. واليهود أمورهم الدينية كانت متداخلة مع الأمور الوطنية. إلى متى تعلق أنفسنا= هم في عيد التجديد تلتهب خيالاتهم بأن يعيد المسيح أمجاد المكابيين. ولذلك ألحوا عليه أن يكشف عن شخصه ويمسك راية القائد المحرر. فهم كانوا على إستعداد أن يثوروا ضد الرومان وراءه حتى إلى الموت ولكنهم لم يكونوا على إستعداد للتوبة وتجديد حياتهم. ولو المسيح أجاب على سؤالهم بأنه هو المسيح لقالوا حررنا من الرومان ولو قال لا أنا لست المسيح لكان كاذب لذلك فبينما أجاب بوضوح للسامرية وللمولود أعمى أنه إبن الله، لم يجب هنا بوضوح وإلاّ حدثت ثورة ضد الرومان.

تعليق على آية (22):

الملك أنطيوخس إبيفانيوس اليوناني الذي حكم الشام سنة 174-164ق.م. إستولى على أورشليم وخربها وقتل 40.000 يهودي وباع 40.000 آخرين عبيداً، وذبح خنزيرة على باب الهيكل لينجسه وكان يقتل من لا يأكل الخنزير أو يختن طفله. ولما قامت ثورة المكابيين تخلصت من حكم اليونان وطهرت الهيكل. وكان عيد التجديد تذكاراً لهذا التطهير.

 

آية (25): "أجابهم يسوع أني قلت لكم ولستم تؤمنون الأعمال التي أنا اعملها باسم أبي هي تشهد لي."

كلام المسيح سيكون دينونة لمن يرفض، فكلامه كان مسنوداً بأعماله، وكلها تشهد بأنه من عند الآب فلا داعي أن يتكلم الآن جهراً. ومن يرفضه سيدان، لكنهم يريدون مسيحاً بحسب فكرهم (لو21:24). السيد وضع يده على المشكلة فهم لا تنقصهم المعرفة بل الإرادة أن يؤمنوا.

 

الآيات (26-28): "ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم. خرافي تسمع صوتي وأنا اعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي."

لكل إنسان أذن روحية يسمع بها صوت الله وهي إمّا تنشغل بصوت الله وتتمرن على تمييزه فتتعرف عليه بسهولة وتطيعه، وإمّا تنشغل بملاهي الدنيا ولا تعود تسمع صوت الله ولا تطيعه. وهؤلاء اليهود سلموا أنفسهم وأذانهم لمجد الدنيا وإعلاء شأن الوطن ومحبة المال وحسدهم للمسيح وعنادهم لهذا ضعفت حاسة السمع عندهم لذلك حين ظهر المسيح لم يتعرفوا عليه ولم يفهموه لذلك صاروا ليسوا من خرافه. أما الخراف فتعرف راعيها الذي يرعاها ويقودها لمراعٍ خضر فهي قد إختبرته لذلك تتبعه فالخراف تميز صوت راعيها فتتبعه، والشرط لهذا أن تكون منشغلة بالله وبخلاص نفسها وليس بملذات وخطايا العالم، أما الشهوات فتغلق الأذان الروحية، وحتى لو سمع الإنسان ذو الأذن المغلقة فإنه لن يطيع. ولنرى ماذا يعطي الراعي الصالح لمن يسمع [1] حياة أبدية [2] لن تهلك إلى الأبد [3] لا يخطفها أحد فهو قادر أن يحفظها.

ونلاحظ أن الخراف تسمع صوت المسيح راعيها، وتسمع أي تؤمن وتقبل المسيح وتطيعه. وتسمع بالأذن الداخلية ولاحظ الترتيب [1] تسمع صوتي [2] أنا أعرفها= أعطيها من محبتي فتكتشف محبتي وتعرفها [3] فتتبعني.

لستم من خرافي= هو رأي أن لا نصيب لهم في الحياة الأبدية لإصرارهم على عدم الإيمان وليس لهم عذر لكبريائهم. ولكن منهم من سمع وآمن. خرافي تسمع صوتي. فصاروا بنو الله الحي وأبناء للملكوت. هؤلاء هم البسطاء.

 

آية (29): "أبي الذي أعطاني إياها هو اعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي."

أبي الذي أعطاني إياها= كانوا لك وأعطيتهم لي (يو6:17). فالفريسيون يدعون السيادة على الشعب لأنهم تسلموها من أبائهم الذين تتلمذوا على موسى. ولكن المسيح يُعلن هنا أن خرافه هو قد إستلمها ممن هو أعظم من موسى أي من الآب أبيه. وهذه النفوس إنتقلت من يد المالك إلى يد الفادي ليخلصها. الإبن خلقها، فبه كان كل شئ. (يو3:1) والآب إجتذبها (يو44:6) وأعطاها للإبن (هذه الآية) ليجعلها الإبن جسده وهو رأسها (اف30:5) وبجسده يعيد الخضوع للآب (1كو28:15) والروح يثبتنا في الإبن.

لا يقدر أحد أن يخطف= الذين فداهم المسيح قدّسهم بالروح القدس وقدمهم للآب (أف18:2،19). هؤلاء صاروا محفوظين في يد الآب لا يستطيع الشيطان أن يمسهم. والله الآب يحفظ أولاده بوسائل نعمته الكثيرة. ولكن هناك من يسقط لإستهانته بخديعة الخطية، فالله لا يحفظ الإنسان ضد مشيئة الإنسان ولكن من يتمسك بإيمان في وسائل حماية الله ونعمته تحفظه نعمة الله. وكل من هو من رعية المسيح تحفظه نعمة الله الآب. ومن يتمسك بهذه الوعود بإيمان سيشعر بالإطمئنان والسلام. المسيح هنا يربط بين عمله وعمل الآب ليظهر الوحدة بينهما. فالمسيح أمامهم إنسان عادي، ولم يتصوروا أنه إبن لله. لذلك يربط المسيح أمامهم بينه وبين الآب. فالآب أعطاه النفوس ليحفظها ويخلصها. فالآب يحفظ الخراف والمسيح يحفظها إذاً هم واحد.

 

الآيات (30-33): "أنا والآب واحد. فتناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه. أجابهم يسوع أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني. أجابه اليهود قائلين لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فانك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً."

أنا والآب واحد= آية تشهد بلاهوت المسيح، وأن الآب والإبن طبيعة واحدة، وهكذا فهمها اليهود الذين سمعوا فأرادوا رجم المسيح. والمسيح قال هذا في ختام كلامه السابق، أي أن عمل الفداء والرعية والحفظ وإعطاء الحياة الأبدية متكامل بينه وبين الآب، الآب يريد والإبن ينفذ ويأتي بالمفديين للآب. هم رعية الإبن والآب يحفظهم، هي قوة واحدة لله مشيئة وعملاً. فالآب يحفظ والمسيح يحفظ، نحن في يد المسيح كما في يد الآب قارن آية (28،29) نجد الآب والإبن يحفظاننا. وهذا تعبير عن وحدة القوة الإلهية. واليهود حين فهموا من كلامه أنه جعل نفسه إلهاً لم يقل لهم أنتم فهمتم كلامي بطريقة خطأ. بل أكمل كلامه، فهو فعلاً واحد مع أبيه. وهنا نرى أن اليهود فهموا ما لم يفهمه الأريوسيون وأمثالهم من شهود يهوه وأدفنتست وغيرهم. من عند أبي= تأكيد أنه والآب يعملان معاً. الآب يريد والإبن ينفذ. أعمالاً كثيرة= هذه الأعمال تشهد أنها من عند الآب. لأجل تجديف= إذاً اليهود فهموا الكلام كما أراده المسيح تماماً. تجعل نفسك= تدعي الألوهية.

 

الآيات (30-33): "أجابهم يسوع أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له انك تجدف لأني قلت أني ابن الله."

ناموسكم= كلمة ناموس تطلق على العهد القديم كله. وقد تطلق على أي جزء. ولكن الأساس هو سفر التثنية، ثم صارت عامة المسيح يستشهد بمزمور (82). والوحي الإلهي هنا يعطي صفة الآلهة للمجمع الذي يجتمع على أساس الحكم بكلمة الله (القضاة) وموسى سُمِّى إلهاً (خر16:4). آلهة= قضاة يحكمون بحسب كلمة الله التي أعطاها لهم. وإله حين تقال عن قاضٍ أو عن موسى تعني أنه له سلطان على الآخرين وهم تحت أمره. فالذي أُعِطى كلمة الله ليعيش ويحكم بها كمدعو من الله (عب4:5) هو في الناموس اليهودي محسوب بصفة إله من نحو الناس. وهذا يرفع شأن الناموس، وأن له قيمة إلهية كعهد الله مع الناس حتى بالرغم من أن الناس أي القضاة نقضوا عهد الله (مز1:82-8) لذلك قيل عنهم "مثل الناس تموتون" أي بسبب خطيتهم يفقدون ميراث الحياة الأبدية. وسيكونون مثل الشيطان "كأحد الرؤساء تسقطون" ورد المسيح على اليهود يعني إن كان القضاة الأشرار الذين صارت إليهم كلمة الله قيل عنهم آلهة فلماذا ينكرون عليه اللقب (بينما هو كلمة الله لكنهم لا يدرون). والمسيح إستخدم أيضاً من المزمور قوله وبنو العلي كلكم فلماذا ينكرون عليه قوله إني إبن الله. والناموس بهذه الآيات "ألم أقل إنكم آلهة.. وبنو العلي تدعون" سبق ومهد للأذهان إمكانية دعوة إنسان هو يسوع المسيح لحمل صفة اللاهوت. وأعطت للإنسان الذي هو أنا وأنت أن نكون أولاداً لله. وقول الكتاب عن البشر أنهم بنو العلي كما قيل عن أولاد شيث أنهم أولاد الله= بنو الله (تك1:6)، هي بنوة نسبية. وبمقارنة قول المسيح أنا والآب واحد وأنه إبن الله قال اليهود للمسيح وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً. بهذا نرى إبن الله المساوي له والواحد معه في جوهره وقد صار إنساناً ليعطينا التبني لله عوضاً عن العبودية. الذي قدسه= خصصه وكرسه وأرسله لفداء العالم.

 

الآيات (37،38): "إن كنت لست اعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت اعمل فان لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا إن الآب في وأنا فيه."

الرب يسوع هنا ينتقل من الإقناع الفكري حينما لجأ لتفسير (مز82) إلى الإقناع العملي، أي ليحكموا عليه من أعماله. فأعماله واضح أنه يعملها بالآب (يو24:15). ولكن المسيح يُطوِّب من يؤمن بكلامه فقط دون رؤية المعجزات (يو29:20) "طوبى لمن آمن ولم يرى" والتلاميذ صاروا أنقياء بسبب الكلام (يو3:15). وهم آمنوا بسبب الكلام (يو8:17) والعجيب أن اليهود حين يصنع المسيح آية يطلبون منه كلاماً (قل لنا إن كنت أنت المسيح 24) وإن تكلم يطلبون آية (30:6) وهكذا دائماً يقفون الموقف المعاكس.

آمنوا بالأعمال= أي صدقوا أنها من عند الآب. ولو الإنسان حسن النية سيؤدي إيمانه بالأعمال إلى إيمانه بشخص المسيح وأن الآب فيه وهو في الآب. الإيمان بالأعمال سيعطي إستنارة ووعي داخلي تؤدي للإيمان بشخص المسيح= تعرفوا وتؤمنوا أي إيمان يقيني يصل إلى درجة أن الشخص يكون كمن يرى.

 

آية (39): "فطلبوا أيضاً أن يمسكوه فخرج من أيديهم."

إلحاحهم على قتل المسيح يظهر مدى الضيق الذي ألّم بهم بسبب الحق الظاهر في حياته وأعماله. ولأن ساعته لم تكن قد جاءت كانت يدهم تعجز عن الإمساك به.

 

الآيات (40-42): "ومضى أيضاً إلى عبر الأردن إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولاً ومكث هناك. فآتى إليه كثيرون وقالوا إن يوحنا لم يفعل آية واحدة ولكن كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقاً. فآمن كثيرون به هناك."

هنا يعود يوحنا ويذكر شهادة المعمدان عن المسيح، وأنها كانت مع أعماله سبباً في إيمان البعض. وبسبب شدة مقاومة اليهود ذهب المسيح إلى عبر الأردن ليخفف من غيظهم وهناك بعيداً عن مقاومة اليهود والفريسيين آمن به كثيرون. وبلاد عبر الأردن هي بلاد بيرية (هي مملكة الأردن حالياً) (مت1:19+ مر1:10) وهناك تقاطرت حوله الجموع تستمع إليه وذلك بسبب شهادة المعمدان له والتي كانت لا تزال تملأ أسماعهم وقلوبهم، ومما زاد من قوة أعمال المسيح أن يوحنا المعمدان لم يكن يعمل أعمالاً إعجازية. فالجماهير قارنت المسيح بمعجزاته مع المعمدان الذي لم يعمل معجزات فآمنت. وهذا الكلام يمهد لأعظم آية صنعها المسيح وهي إقامة لعازر والتي مهد بها الرب لإستعلان سلطانه على الموت والحياة بالقيامة من الأموات. وهناك في بيرية تذكروا كل نبوات المعمدان التي تحققت والتي ستتحقق بالصليب "هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم". إذاً: يوحنا لم يفعل آية واحدة= هذه تعني [1] المسيح أفضل من يوحنا [2] يوحنا شهد للمسيح

 

الصفحة الرئيسية