مقدمة عن فكر بولس الرسول عن الخلاص في المسيحية
تفسير رسالة رومية
كنيسة السيدة العذراء بالفجالة
مقدمة عن فكر بولس الرسول عن الخلاص في المسيحية
مقدمــة:
1. السقوط والموت.
2. بالفداء كانت القيامة الأولى من موت الخطية (رؤ 5:20 + يو 25:5)
3. المجيء الثاني للمسيح وبه نبدأ القيامة الثانية ونحيا فى المجد.
4. فترة الحياة على الأرض ما بين السقوط والمجيء الثاني. هذه قال عنها إشعياء أنها لحيظة، أي فترة بسيطة جداً بالنسبة إلى الحياة الأبدية. بل إن هذه الفترة يستغلها الله ليؤدب الإنسان فتصير إرادته كإرادة الله فيخلص ويحيا للأبد.
الله خلق الإنسان ليحيا إلى الأبد:
1. أول آية نقابلها في الكتاب المقدس هي "في البدء خلق الله..." (تك1:1) وهذه ليست مصادفة، فالوحي بهذا يريدنا أن نفهم خيرية وصلاح ومحبة الله، الذي يريد أن يخلق حياة، فهو لا يخلق موت، ولا يريد أن يخلق الإنسان ليموت بل لكي يحيا حياة أبدية يتمتع فيها بمجد الله.
2. إستمر الله يخلق العالم ستة أيام، واليوم ليس 24 ساعة كما هو الآن، بل كان اليوم يقدر بمئات أو آلاف الملايين من السنين، وذلك قبل أن يخلق آدم. وذلك حتى يجد آدم المحبوب الأرض وإذا هي جنة. وليس من المعقول أن يظل الله يخلق العالم آلاف الملايين من السنين، ثم يخلق آدم ليعيش عدة سنين ويموت، بل أن عمر الإنسان الآن لا يتعدى 120 سنة. إذاً المنطق يقول أن الله خلق العالم فى آلاف الملايين من السنين، ثم خلق آدم ليحيا إلى الأبد.
3. الله أوصى آدم أن يأكل من جميع شجر الجنة (تك16:2). وكان من ضمن شجر الجنة شجرة الحياة (تك24:3). إذاً كان المتاح أمام آدم أن يأكل من هذه الشجرة فيحيا إلى الأبد حسب إرادة الله.
4. بعد الطوفان أعطى الله لنوح علامة قوس قزح كدليل على إرادته في أن يحيا الإنسان، وأن الله لن يعود يهلك العالم (تك9: 8-17) ولكننا نجد علامة قوس قزح موجودة حول العرش الإلهي في المنظر شبه الزمرد (رؤ3:4). وإذا فهمنا أن الزمرد بلونه الأخضر يشير للحياة. يكون معنى وجود علامة قوس قزح حول العرش، أن إرادة الله للإنسان أن يحيا للأبد، وأنه أماته مرة، ولن يميته ثانية بعد أن يقوم في القيامة الثانية.
5. حينما مات الإنسان كان الحل الإلهي بالفداء ليحيا الإنسان إلى الأبد فهذه إرادة الله، التي لابد وستنفذ.
السقوط والموت:
الله خلق الإنسان حراً، والإنسان بحريته سقط في الخطية، لأن آدم إختار أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر التي أوصاه الله أن لا يأكل منها (تك17:2)، وكان ذلك بدلاً من أن يأكل من شجرة الحياة. وكان الأكل من شجرة معرفة الخير والشر يعنى تذوق الشر، ولضعف جسده أحب الشر وفى هذا إنفصال عن الله والله حياة، وفى الإنفصال عن الله موت. لذلك مات آدم، كما حذره الله، ليس لأن الله يريد لآدم أن يموت، بل لأن آدم بحريته إختار طريق الموت، كما نقول في القداس الغريغوري "أنا إختطفت لي قضية الموت". كان هذا لأن آدم خُلِقَ حراً، وبحريته كانت له إرادة غير إرادة الله (مت37:23). وبهذا ما عاد آدم قادراً أن يحيا حياة أبدية، بل فقد القدرة على أن يصنع البر، كل هذا لإنفصاله عن الله الحي القدوس البار. وبهذا فسد الجنس البشرى (رو12:3).
والخطية سببت اللعنة. "ملعونة الأرض بسببك" (تك17:3). هذه لآدم وأما قايين فكانت عقوبته أشد "ملعون أنت من الأرض" تك11:4. ولذلك سمعنا أن آخر كلمات العهد القديم كانت "لعن" (ملا6:4). والمعنى أن الله خلق حياة وفرح (معنى جنة عدن، جنة الإبتهاج) وبسبب خطية الإنسان دخلت اللعنة.
ويقول بولس الرسول "لأن الجميع قد أخطأوا..." (رو3: 23-24). وقوله الجميع يشير أنه لا يوجد استثناء، فكل أولاد آدم صارت لهم طبيعة خاطئة. ففي البداية كانت الطبيعة البشرية مخلوقة بلا عيب وبدون أي خطيئة، فالله خلق آدم بلا دنس، خلقه كاملاً بلا عيب، ولديه الإرادة والإمكانية الحرة لكى يحيا حياة مقدسة فى الجنة، ولكن بخطيئته صارت طبيعته مريضة فاسدة، وصارت طبيعتنا مريضة وخاطئة وفاسدة لأنها نابعة من طبيعة جسد المعصية الأول. وصار الإنسان غير قادر من تلقاء نفسه أن يتمم ناموس الله أو أن يسلك فى البر، لذلك إحتاج الإنسان لطبيب يشفى طبيعته.
وهذا الذي حدث للإنسان شرحه السيد المسيح في مثل السامري الصالح. لقد صار الإنسان الساقط كمن تركه اللصوص (الشياطين) على قارعة الطريق بين حي وميت (لو30:10) مطروحاً، عاجزاً، مجروحاً غير قادراً أن يصعد مرتفعات البر كما كان قبلاً، حتى أتى المسيح الذي هو الطبيب الشافي، السامري الصالح، ووضعه فى فندق (الكنيسة) وصار تحت العلاج، يُكمّل البر بمعونة النعمة الشافية التي شفت طبيعته، فأصبح قادراً أن يصنع البر تلقائياً بطبيعته الجديدة المتعافية.
ويقول داود النبي "أنا قلت يا رب إرحمنى، إشف نفسي لأني قد أخطأت إليك" (مز4:41). فالنفس إعتلت وضعفت وفسدت وجرحت بالخطية. وصارت تحتاج لله الذى قال "أنا الرب شافيك" (خر26:15). والمسيح أتى كطبيب ليشفى قائلاً: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضـى لم آت لأدعـو أبراراً بل خطـاة" (مت9: 12-13).
إذاً دخل الموت واللعنة بسبب الخطية، ولكن الله لم يقف عاجزاً، فكان الفداء، وجاء المسيح ليموت ويقوم ويعطينا حياته نحيا بها حياة ابدية، وبهذا تكمل خطة الله الأزلية فى أن يحيا الإنسان للأبد، لقد إفتدانا المسيح من لعنة الناموس لننال البركة عوضاً عن اللعنة غل3: 13-14.
ولذلك أيضاً سمعنا الوعد "من يغلب يأكل من شجرة الحياة"، هذه التي لم يأكل منها آدم فمات (رؤ7:2) وهذه معناها أن كل من يختار المسيح تاركاً شرور هذا العالم يعطيه الله أن يأكل من شجرة الحياة، أي يحيا إلى الأبد. لذلك نجد أن آخر آيات الكتاب المقدس "آمين تعال أيها يسوع" (رؤ21:22) فبمجيئه الثاني تبدأ حياتنا الأبدية في السماء وتنفذ إرادة الله. ونلاحظ أن الفداء أعطانا الحياة الأبدية على مرحلتين:-
الأولى: هي ما يسمى بالقيامة الأولى، فيها نحيا على الأرض، وفيها نقوم من موت الخطية (يو25:5). ولكن وسط ضيق العالم، هذا الذي يستخدمه الله في أن يؤدب أولاده فيكون لهم نصيب في القيامة الثانية.
الثانية: وهذه تأتى بعد مجيء المسيح الثاني للدينونة، وفيها تكون القيامة العامة التي بعدها ندخل السماء في المجد ونحيا للأبد.
ونلاحظ أن الفترة منذ سقوط الإنسان وحتى المجيء الثاني الذي يأتي المسيح فيه للدينونة، أى الفترة التي نعيشها على الأرض في ضيق لا تتعدى بضعة آلاف من السنين، وهذه الآلاف من السنين هي لا شئ بالنسبة للأبدية اللانهائية. وكأن خطة الله في أن يحيا الإنسان للأبد لم تتعطل سوى فترة بسيطة جداً. وهذا ما عبر عنه إشعياء النبي بقوله "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك" (أش7:54).
"بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدى أرحمك قال وليّك الرب" (إش8:54).
هذه اللحيظة المذكورة في إشعياء، هي فترة الآلام والضيق والموت الجسدي الذي عانى منه الإنسان منذ سقوط آدم وحتى المجيء الأول للمسيح الذي به بدأت مراحم الله التي ستكمل بالمجيء الثاني.
اللعنة والبركة
بسبب خطية آدم سمع آدم قول الله "ملعونة الأرض بسببك" (تك3: 17-19). فما هي لعنة الأرض؟ لسنا نعلم تماماً أبعاد هذه اللعنة، لأننا لم نرى الأرض في طبيعتها الجميلة قبل أن تلعن. لكن لنا أن نتصور أن الله كصانع خيرات لا يمكن أن يخلق سوى جنة كلها فرح، فكلمة "عدن" تعنى إبتهاج وفرح. إذاً كل ما نراه الآن من أشياء أليمة هو من آثار اللعنة… مثل الأمراض، الأوبئة، الزلازل، البراكين، الفيضانات المهلكة، الحر والبرد الشديدين وهما يهلكان المزروعات، الآفات الزراعية كالحشرات، التصحر والجفاف. ونرى قبل كل هذا فساد الجنس البشرى الذي رأيناه في صورة وحشية حين قتل قايين أخوه هابيل. ثم رأينا بعد ذلك أن هذا الطبع الوحشي الذي صار للإنسان بسبب خطيته قد إنعكس على الحيوانات التي صار لها طبيعة وحشية. وربما بسبب طبع الإنسان الوحشي سمح له الله بأن يأكل اللحم (تك3:9) بعد أن كان قد أعطاه ثمار الأرض فقط ليأكل (تك29:1). وكان هذا أيضاً طعام الحيوانات (تك30:1). من هذا نرى أن فساد الجنس البشرى إمتدت آثاره لكل الخليقة الجامدة بل والحيوانية. قد يفسر البعض هذه الآثار تفسيراً علمياً كالزلازل.. وكالحشرات التي تصيب المزروعات، ولكن لو راجعنا سفر حجى النبي لرأينا، أن كل هذه ما هي إلا عقوبات في يد الله يستعملها ضدنا حين نخطئ.
لذلك يقول بولس الرسول كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت (رو12:5). نقول كأنما يعنى أن ما يظهر أمامنا ونلمسه من آثار الخطية هو الموت. ولكن أثار الخطية هي أبعد من هذا بكثير، فهناك ما يمكننا أن ندركه، وهناك أيضاً ما لا يمكننا أن ندركه.
ولقد شرح بولس الرسول هذا بطريقة أخرى حين قال "إن الخليقة أخضعت للبُطل" (رو20:8). ونرى في (رو8: 20-22) أنه حين يستعلن المجد في أولاد الله ستتجدد الخليقة وستعتق من عبودية الفساد، هذا الفساد كان إنعكاساً لفساد الإنسان الذي كان بسبب الخطية.
وكما إمتدت آثار اللعنة بسبب خطية الإنسان، هكذا إمتدت آثار بركة الصليب. هذه البركة التي أتى بها المسيح بعد أن إفتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا (غل13:3). فكان للمؤمنين البنوة والميراث الأبدي، والبركة في حياتهم على الأرض... إلخ.
بل رأينا بركة القديسين تمتد لتبارك الأرض وتغيّر طبيعة الوحوش:
1) شاول الطرسوسي تغيرت طبيعته الوحشية فصار بولس الرسول.
2) شعب روما الذي كان يتلذذ بإلتهام الوحوش للناس، تحول لكنيسة روما.
3) قيل أنه بسبب الأنبا بولا كان الله يفيض مياه النيل.
4) تحول الثعبان فى مغارة الأنبا برسوم العريان إلى حيوان أليف، فقد وحشيته.
لقد صارت البركة تشع من القديسين وتمتد آثارها فيما حولها، كما كانت آثار اللعنة والخطية تمتد وتشع وتخرب ما حولها.
وبعد المسيح صار طريق الخطية واللعنة والموت أو طريق البر والحياة والإيمان بالمسيح متاح لكل إنسان (تث30: 19-20).
صار لعنة لأجلنا:
هذه تشبه "والكلمة صار جسداً" (يو14:1) أي اللاهوت صار جسداً وهذه لا تعنى تحولاً للاهوت إلى جسد، بل تعنى أن ما صار ظاهراً أمامنا هو الجسد. وحين يقال أن المسيح صار لعنة لأجلنا فهذا يعنى أنه وهو القدوس البار الذي بلا خطية، صار ظاهراً أمامنا لابساً اللعنة فهو مصلوب، والكتاب يقول "ملعون كل من علق على خشبة" (غل13:3) + (تث23:21). حاملاً على رأسه إكليل شوك، والشوك من آثار الخطية ولعنتها (تك18:3)، والمسيح عروه على الصليب، والعرى من أثار الخطية (تك7:3). إذاً حين قال بولس الرسول "كأنما بخطية واحد..." (رو12:5). كان الرسول يعّبر بتواضع عن عدم فهمه تماماً لكل آثار الخطية وإنعكاسها على الأرض والخليقة، وكل الفساد الذي حدث. إن الكون يحوى قوى وحقائق لا نعرف عنها إلا القليل ولعل بينها تأثير الفرد في الآخرين وفى البيئة. سواء كان هذا بخطية الفرد أو بقداسة الفرد.
فالقداسة تنتقل تأثيراتها للغير كما رأينا، وكما نعرف أن شفاعات القديسين واضحة للجميع، وصلوات البعض تأثيرها يمتد للآخرين.
وكان إصلاح فساد الجنس البشرى بتجسد المسيح الذي أعطى جسده للبشر قوة النصرة على الشر الذي فيهم وفى العالم، وصار يخلق في البشر طبعاً جديداً يرتقى إلى الحياة كاملة النقاء في الأبدية. أما الذين يرفضون فعله فيسكنهم الشر والقلق "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش22:48).
ماذا قدم المسيح لنا؟
1- الفداء:
يقصد به دفع الثمن أو البديل. وهذا ما حدث على الصليب. والكلمة تشير في معناها للمبلغ المدفوع فداء عن شخص. والمعنى هنا قيام الرب يسوع بالموت عن البشرية. ذلك لأن الموت الأبدي دخل إلى البشرية بالخطية التي إمتزجت بها. والجسد الذى أخذه الرب كان كاملاً له روح وجسد وكان واحداً مع اللاهوت اللامحدود، فصار الإله المتأنس أى الذى له كل صفات الإنسان. وغير محدود لإتحاد اللاهوت بالناسوت. فلما مات هذا الإنسان كان قادراً في لا محدوديته أن يكون بديلاُ للبشرية كلها.
فكانت خطية الإنسان غير محدودة لأنها كانت في حق الله والله غير محدود لذلك ما كان يمكن لإنسان أو ملاك أن يفدى آدم وذريته، لأن كل ذرية آدم أخطأوا، بل ولدوا بالخطية، والملائكة محدودة. ولا يوجد غير محدود، وبلا خطية غير الله، وما كان ممكناً أن يفدى الإنسان سوى إنسان مثله. لذلك كان التجسد.
وعن هذا الفداء كانت النبوات:
من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم (هو 14:13)
الأخ لن يفدى الإنسان ... إنما الله يفدى نفسي (مز49 :15،7)
الرب قد فدى يعقوب وفى إسرائيل قد تمجد .. هكذا يقول الرب فاديك (إش 6:44، 23، 24)
2- الكفارة
لقد تعرى الإنسان بالخطية وإفتضح. والله ستر على آدم بأقمصة من جلد. والجلد أخذه آدم من حيوان قدمه ذبيحة، أخذ الله جلدها وألبسه وكان هذا ليعطى الله فكرة عن المسيح القادم ليقدم نفسه على الصليب ذبيحة ليسترنا ويغطينا. وكلمة كفارة معناها تغطية.
والمسيح يسترنا بإتحادنا فيه وإستتارنا فيه، هنا نرى الفادى قد إتحد بالمفتدَى. ومن يستره المسيح بأن يثبت في المسيح لا يعود الآب يراه في ضعفه وخطيته، بل يرى المسيح الذي يغطيه فيخلص، لذلك يطلب منا المسيح "أثبتوا فيّ وأنا فيكم" (يو4:15) فهذا هو طريق الخلاص. والله سبق وشرح فكرة الكفارة بوضوح في طقوس يوم الكفارة، حيث يرش دم ذبيحة الكفارة على غطاء تابوت العهد المسمى بكرسي الرحمة فيكفِّر عن الشعب لتطهيرهم من جميع خطاياهم (لا 30:16).
3- التبرير
الفداء = المسيح يموت بدلاً منا
الكفارة= المسيح يسترنا ويغطينا بأن يوحدنا فيه = صولحنا مع الله بموت أبنه
التبرير= المسيح يعطينا حياته لنعيش أبراراً أي نكتسب بر المسيح أي بعد أن إستترنا في المسيح لبسنا رداء بره إذ تجددت طبيعتنا، وصرنا نسلك في البر بسهولة بحياته التي أعطاها لنا.
وهكذا أصلح المسيح البشرية التي فسدت بالخطية، بعد أن عجز الناموس عن أن يبرر اليهود وعجز الضمير عن أن يبرر الأمم.
المسيح إنتصر على الموت وقام بحياة منتصرة. هذه الحياة أعطاها لنا لننتصر على الخطية ونسلك فى البر. وهذا معنى نخلص بحياته (رو10:5).
وهذا التبرير تنبأ عنه إشعياء "بالرب يتبرر ويفتخر كل ..." (إش 25:45) "قد قربت برى. لا يبعد وخلاصى لا يتأخر" (إش 13:46) "أما خلاصي فإلى الأبد يكون وبرى لا ينقض" (إش 6:51) وقوله برى يعنى أن البر هنا هو بر الله وليس بر الإنسان الذاتي.
إذاً نحن صولحنا مع الله بموت إبنه (رو 10:5) وذلك بالفداء والكفارة أي بإتحاد الفادى بنا، ثم صرنا نسلك بالبر وأصلحت طبيعتنا إذ أعطانا المسيح حياته التي قام بها من الموت فصرنا "نخلص بحياته" (رو10:5).
والكتاب المقدس يدور حول محور واحد
هو إصلاح البشرية التي فسدت بالخطية. ولنلقى نظرة سريعة على قصة الكتاب المقدس:-
1. أسفار موسى:- نرى فيها أن الله يخلق الإنسان ليحيا للأبد، ثم يخطئ الإنسان فيموت، فيرسل له الله مخلصاً (رمزاً للمسيح). ويخلص الشعب من العبودية بخروف الفصح (الصليب) ويعبرون البحر (المعمودية) ويأكلون المن (الإفخارستيا) ويشربون شراباً روحياً (حلول الروح القدس). كل هذا شرحه بولس الرسول فى (1كو10: 1-6 + 1كو5: 7-8). ثم يكون توهان الشعب في البرية هي قصة حياتنا على الأرض التي تنتهي بدخولنا إلى كنعان السماوية عبوراً بنهر الأردن (الموت).
2. الأسفار التاريخية:- نرى فساد الشعب إذ لم يكن ملك يحكم الأرض (قض 1:19 و 25:21). ثم تتكون المملكة. رمزاً للملكة التي كونها المسيح.
3. الأسفار الشعرية:- نرى فيها علاقات المؤمن بالله وبالعالم ففي الأمثال نرى كيف نتصرف بحكمة، وفى الجامعة نرى بطلان العالم، وفى النشيد نرى الحب بين الله والنفس المؤمنة، وفى سفر أيوب نرى تأديب الله للنفس. لكن علينا أن نحيا بروح الصلاة (المزامير).
4. الأسفار النبوية:- يمكن تلخيصها في إظهار فساد الشعب رمزاً لفساد الجنس البشرى. ولكن دائماً هناك رجاء في مخلص يأتي.
5. ثم يأتي العهد الجديد لنرى يسوع المخلص الفادي الذي تجسد ومات وقام ليعطينا حياته، ومن يسمع صوته تكون له الحياة أو ما يسمى بالقيامة الأولى (يو 25:5). ويسوع هذا هو الذي سوف يأتي ليدين العالم وبمجيئه الثاني تبدأ الحياة الأبدية في المجد، هذه التي يشتهيها كل مؤمن، وبها تتحقق إرادة الله في أنه خلق الإنسان ليحيا للأبد. هذا ما جعل يوحنا يصرخ في رؤياه "آمين تعال أيها الرب يسوع" حينما سمع السيد المسيح يقول "أنا آتى سريعاً" (رؤ 20:22).
البر وشفاء الطبيعة القديمة:
"تدعون إسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت21:1). وهكذا نرى أننا لا نستطيع أن نخرج من حالة العرج والكساح والجراح المتقيحة إلى حالة الشفاء التام والعودة إلى المشي الطبيعي إلاّ بدوام تلقى المعونة والعناية من الطبيب السماوي. لأن الطبيب لا يكتفي بأن يجعل الجراح تلتئم، بل يعطى للمريض عناصر ضرورية لكمال صحة جسده بوجه عام، وطريقة تغذيته من الطعام كي تستمر حالة الشفاء التي وصل إليها، إن عناية الله الصالحة تمد كل من يعيش في الجسد بكل العناصر والوسائل التي يستخدمها الطبيب في عملية الشفاء. إن شفاء الله لنا ليس فقط في كونه يمحو خطايانا التي ارتكبناها، ولكن بالأكثر كي يجعلنا نتجنب السقوط في الخطيئة أيضاً.
وكون الإنسان غير قادر من نفسه على أن يلتزم بالناموس فهذا يتضح من قول بولس الرسول "إن كان بالناموس بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب" (غل21:2). ولكن المسيح مات ليعطيني أن أموت معه عن طبيعتي القديمة،وقام لكي أقوم معه بطبيعة جديدة. وهذا ما يتم في المعمودية. وبعد أن يحل الروح القدس على المعمد في سر الميرون يعطى الروح القدس للمؤمن أن يثبت في هذه الحياة الجديدة، وهى حياة المسيح، ويعطيه أن تكون له حياة المسيح، وتكون له قوة ليسلك في البر. بل يعطيه إرادة قوية ليسلك في هذه الحياة الجديدة، فإرادة الإنسان ليست كافية وحدها كي يتجنب الإنسان السقوط في الخطايا، بل أن تلك الإرادة نفسها تحتاج إلى سند ومعونة من النعمة الإلهية، لذلك يقول بولس الرسول "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فى13:2). عمل الروح القدس هذا المبنى على أساس فداء المسيح هو ما يسمى بالنعمة ولكن النعمة لا تلغى حرية إرادة الإنسان. ولذلك يجب على كل مؤمن أن:-
1) يجاهد ويضبط شهواته ولسانه وأفكاره.
2) يصرخ طالباً المعونة الإلهية في صلاة بلا إنقطاع.
حقاً إن الله هو الشافي لطبيعتنا ولكن علينا أن نعمل نحن قدر إستطاعتنا كما يقول بولس الرسول "إننا عاملون معه" (2كو1:6). ونلاحظ أن النعمة لا تلغ حرية الإنسان، بل هي لمن يطلبها ويستخدمها بإرادة متضعة غير مفتخر لا بقوته ولا بقدرته بل بالله الذي يرحم.
إذاً بر الله ليس هو في وصايا الناموس التي تبث الخوف كما من مؤدب (غل24:3). والتي يقف أمامها الإنسان شاعراً بعجزه عن أن يتممها (أع10:15). بل بر الله هو في الطبيعة الجديدة التي يعطيها الله لأولاده. وهذه الطبيعة الجديدة تجد السند والمعونة من نعمة المسيح التي بها يستطيع الإنسان تكميل وصايا الناموس. هذه النعمة هي التي تعطينا أن نصير أولاداً وأبناءً لله. "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله" (يو12:1). الأمر الذي لم يكن عليه الإنسان بحسب الطبيعة، ولا يمكن أن يبلغه إطلاقاً ما لم يكن قد أخذ سلطاناً بالنعمة بعدما قبل المسيح، وبهذه النعمة تصير له طبيعة جديدة. وما يميز هذه الطبيعة الجديدة، المحبة، المحبة التي يسكبها فينا الروح القدس المعطى لنا (رو5:5). والمحبة إن وُجدت تكون لله ولكل إنسان حتى لأعدائنا، وتكون علامة على حصولنا على الطبيعة الجديدة. لأن المحبة لا يمكن الحصول عليها بطبيعتنا القديمة ولا بإمكانياتنا البشرية، هي عطية من الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يغير طبيعتنا، ويعين ضعفاتنا ويسند إمكانياتنا، ويشفى طبيعتنا المريضة التي ولدنا بها من آدم. بالخطية ولدتني أمي (مز5:51). وهو العامل في الأسرار المقدسة التي تثبتني في المسيح وهو الذي يبكتني إن أخطأت (يو8:16). بإختصار هو الذي يثبتني في المسيح فتكون لي حياة المسيح فأخلص. لذلك فالروح القدس هو نعمة النعم. الروح القدس هو نعمة الله الذي بربنا يسوع المسيح. الروح القدس هو يعطى معونة وقوة لنسلك في الحياة الجديدة التي هي حياة المسيح. فهو الذي يعين ضعفاتنا رو26:8.
في المسيح:
هو تعبير يستخدمه بولس الرسول كثيراً. وهذا التعبير متفق مع قول السيد المسيح "إثبتوا فيّ وأنا فيكم.. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير" (يو15: 4-5). وهذا التعبير يعنى عند بولس الرسول أننا بالمعمودية صرنا أعضاء في جسد المسيح. كلنا صرنا جسد واحد هو جسد المسيح، والمسيح هو الرأس "وهو رأس الجسد الكنيسة" (كو18:1).
لأننا جميعاً بروح واحد إعتمدنا إلى جسد واحد (1كو13:12) (أى دخلنا في جسد المسيح وأصبحنا فيه بالمعمودية) وجميعنا سقينا روح واحد (هذا عن حلول الروح القدس في سر الميرون). وقوله سقينا عن حلول الروح القدس متفق مع قول المسيح "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب.. من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح" (يو7: 37-39). إذاً كل مؤمن إذ يعتمد يصبح عضواً فى جسد المسيح. وكل الأعضاء تتكامل معاً لتكوِّن جسد المسيح، وكما أن للجسد البشرى أعضاؤه (يد/ رجل/ أنف.. ولكل منها وظيفة تكمّل الأخرى) هكذا جسد المسيح مكون من أعضاء، ولكل عضو موهبته وعمله المكلّف به (أف10:2 + 1كو12: 4-30 + أف4: 11-12). إذاً الكنيسة كيان متكامل والمسيح هو الرأس.
لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه (أف30:5).
أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً (1كو27:12).
ومن هو في المسيح فهو قديس. "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع" (1كو2:1 + فى1:1). وفى المسيح ننال كل نعمة "نعمة الله المعطاة لكم فى يسوع المسيح. إنكم في كل شئ إستغنيتم فيه.." 1كو1: 4-5. وطالما نحن فى المسيح يسوع فلقد صارت أعضاؤنا هي أعضاؤه هو. "ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح. أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية حاشا" (1كو15:6). لذلك فالزانى يخطئ فى حق جسد المسيح (1كو18:6). وبنفس المفهوم يقول الرسول "وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو16:2). ومن هو فى المسيح فهو له الطبيعة الجديدة "إذاً إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة" (2كو17:5). ولاحظ تكرار الفكرة فى (أف1:1-14). "المؤمنين فى المسيح يسوع... الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح... كما إختارنا فيه... إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح... الذى فيه لنا الفداء بدمه... الذى فيه أيضاً نلنا نصيباً... الذى فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس".
وفى (أف10:2) "لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة..". وفى (أف2: 21-22). "الذى فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً فى الرب الذى فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله فى الروح".
ولاحظ هذه الآيات "يسلم عليكم فى الرب كثيراً أكيلا وبريسكلا" (1كو19:16). "محبتى مع جميعكم فى المسيح يسوع" (1كو24:16) + "أمام الله فى المسيح نتكلم" (2كو19:12). فالرسول بولس يرى أن أى علاقات بين الأعضاء هى من خلال ثباتهم فى المسيح، حتى السلام وعلاقات المحبة، والكلام. هذا لأنه إن لم نكن ثابتين فى المسيح يسوع فسلامنا لبعضنا البعض ومحبتنا بل وكلامنا سيكون خالياً من المحبة، وسيكون غاشاً. وبنفس المفهوم نسمع الرسول يقول "أشتاق إلى جميعكم فى احشاء يسوع المسيح" (فى8:1). ونسمع أنه لا فرح إلا فى المسيح "إفرحوا فى الرب" (فى4:4).
ونسمع فى (1كو1:3) قوله لأهل كورنثوس أنهم "أطفال فى المسيح" (1كو1:3). فالمؤمن يولد فى المعمودية ويصير بهذا فى المسيح، ويبدأ كطفل فى المسيح ثم ينمو وينمو. وهذا ليس عجيباً، ألم يكن المسيح نفسه ينمو فى الحكمة والقامة والنعمة ويتقدم فيهم (لو40:2،52). وراجع الآيات (2تس3:1 + 2كو15:10+ أف15:4+1تس10:4).
ولكن ثباتنا فى المسيح له شروط نسمع عن أحدها فى (غل6:5،15:6) "لأنه فى المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة". مما سبق نرى أن بولس الرسول يرى أنه بالمعمودية نصير أعضاء ثابتة فى المسيح، كل عضو له عمل وله مواهب. بل كل واحد فينا، أعضاؤه هى أعضاء المسيح، نحن أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه، بل صار لمن هو ثابت فى المسيح، فكر المسيح. بل العلاقات بين الأعضاء لا تكن صحيحة إلاّ لو كنا فى المسيح، حتى السلامات والإشتياقات. وأن المؤمنين مقدسين طالما هم فى المسيح. وقطعاً نحن بثباتنا فى المسيح يسوع إبن الله نصير أبناء لله. وبإتحادنا فى المسيح يحل علينا الروح القدس.
ومن هو فى المسيح يتحول إلى صورة المسيح "يا أولادى الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم" غل19:4 + "لأن كلكم الذين إعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل27:3) + " بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رو14:13) + "ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو10:3) ومن يكون له صورة المسيح هنا على الأرض، ستكون له صورة المسيح فى مجده فى السماء (1يو2:3) وكل من يلبس المسيح إبن الله فإنه يصير بإتحاده بإبن الله، إبناً لله. له صورة المسيح. وهذه العطية، عطية البنوة لله تعطى بالروح القدس إذ هو روح التبنى (رو8: 15-17 + غل4: 4-7). وهو روح التبنى إذ أنه يثبتنا فى المسيح الإبن (2كو21:1) "ولكن الذى يثبتنا معكم فى المسيح وقد مسحنا هو الله" "والروح أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رو16:8) وحينما يشهد لنا الروح أننا أولاد الله نصرخ للآب قائلين "يا آبا الآب" (غل6:4). والأبناء يرثون الأمجاد مع إبن الله الذى صار وارثاً لكل شئ لأجلنا (رو17:8 + غل7:4 +عب2:1).
ماذا يعنى إثبتوا فىَّ وماذا يعنى وأنا فيكم:
1 إثبتوا فىَّ = نحن فى المسيح
خلق الله آدم وأخذ منه ضلعاً كون منه حواء وبهذا صارت حواء جزءاً من آدم. والأولاد هم جزء من آدم وجزء من حواء وبالتالى هم جزء من آدم.
آدم آدم رأس الخليقة
آدم آدم وحواء الأولاد كل العالم
وبهذا يكون آدم رأس الخليقة، فكل منا هو جزء من آدم، وطالما مات الأصل تموت الأجزاء. وبهذا يصير آدم رأس لجسد ميت.
المسيح رأس الكنيسة
كل منا يصير فى المسيح
الكنيسة
المسيح أتى ليكون رأساً لجسد حى فكل منا ينتمى لجسد المسيح بالمعمودية. وبهذا يصير المسيح رأس للكنيسة. ويصير كل مؤمن معمد يسلك فى وصايا المسيح داخل هذا المثلث الجديد. وكل مؤمن معمد بهذا يصير فى المسيح. كل من هو فى داخل المثلث (جسد المسيح) يصير فى المسيح. وكل من هو فى المسيح يصير جزء من جسد المسيح. وتشبيه بولس الرسول أن كل منا هو عضو فى الجسد، فأحدنا رجل والآخر يد وهناك من هو عين وهكذا. راجع (1كو12) وكلنا نتكامل. فلكل واحد منا عمله الذى يتكامل مع عمل الآخرين. وهذا الجسد حتى إن مات أعضاؤه فسيقومون وتكون لهم حياة أبدية لأن المسيح أعطاهم حياته وهذا معنى وأنا فيكم.
2 وأنا فيكم = المسيح فينا
المسيح مات وقام ليعطينا حياته. "لى الحياة هى المسيح" (فى21:1)
"مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ" (غل20:2)
"فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو10:5)
"والآن نحن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا" (رو11:6)
لقد صرنا بذرة حية حتى لو دفنت فى الأرض،فبسبب الحياة التى فيها تخرج شجرة حية (1كو15: 35-38)
وإذا كان المسيح يحيا فينا فهو يستخدم أعضائنا كآلات بر (رو13:6)
لذلك يقول بولس الرسول:
"ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح. أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية" (1كو15:6)
والحياة التى نأخذها هى حياة المسيح القائم من الأموات فالرسول يقول:
"لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته" (رو5:6)
لذلك فالحياة التى نأخذها هى حياة أبدية فالرسول يقول:
"عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد" (رو9:6)
وهذه الحياة نأخذها بعد المعمودية مباشرة (رو4:6)
وطالما هى هكذا فلماذا نحرم منها الأطفال إذا كانت ستعطيهم حياة أبدية.
كيف نصير فى المسيح:
هذا يتم بالمعمودية ... "لأننا جميعاً بروح واحد إعتمدنا إلى جسد واحد" (1كو13:12).
وما هى المعمودية؟
U "أم تجهلون أن كل من إعتمد ليسوع المسيح إعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت. حتى كما أقيم المسيح من الأموات هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلِب معه ليبطل جسد الخطية كى لا نعود نستعبد أيضاً للخطية. لأن الذى مات قد تبرأ من الخطية. فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه" (رو6: 3-8).
U "مدفونين معه فى المعمودية التى فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذى أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتاً فى الخطية وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا" (كو2: 12،13).
U "وهكذا كان أناسُُ منكم لكن أغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم بإسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كو11:6).
U "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمالٍ فى بر عملناها بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا"(تى4:3-6)
U مما سبق نفهم أن المسيح مات على الصليب ليحمل خطايانا، ولكن من الذى يستفيد من الصليب؟ أحد الشروط هو المعمودية. فمن يعتمد يموت مع المسيح ومن مات لا تحتسب له خطية، وذلك حتى فى القانون المدنى، فمن يموت أثناء محاكمته تنتهى وتسقط القضية بالنسبة له. ومن مات فى المعمودية يتبرأ إذن من كل خطاياه السابقة. بل يقوم بحياة جديدة، وطالما هو متحد بالمسيح رو5:6 تصير حياته الجديدة هى حياة المسيح القائم من الأموات، وبهذا يصبح عضواً مبرراً ومقدساً فى جسد المسيح. وهذا ما يصنعه الروح القدس فى سر المعمودية فهو يعطينا أن نموت مع المسيح ونقوم ثابتين فى المسيح، لأننا جميعاً بروح واحد إعتمدنا إلى جسد واحد 1كو13:12. لذلك تسمى المعمودية ولادة من الماء والروح يو5:3. وكما كان الروح يرف على المياه فخرجت منها حياة فى بدء الخليقة تك2:1 هكذا الآن، فالروح يرف على مياه المعمودية فيخرج المعمد منها وله حياة جديدة، وهذا معنى "جدة الحياة" رو4:6.
U "لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت إبنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته" (رو10:5).
U ومعنى هذا أننا نتصالح مع الله إذ تغفر خطايانا وتسقط عنا، وهذا يتم لنا بالمعمودية، إذ يصلب الجسد العتيق مع المسيح ويموت. ولكن الموت مع المسيح فى المعمودية لغفران الخطية هو نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو أننا نقوم مع المسيح، ويعطينا المسيح حياته، وهذا معنى نخلص بحياته. وهو حين يعطينا حياته فهو يعطينا أن نسلك كما سلك هو، أى نسلك فى بر، إذاً هو يعطينا حياته وبره. المسيح يعطينا أن نقوم معه فى حياة جديدة مقامة معه. فنحن ندفن مع المسيح بالمعمودية، أى يدفن إنساننا العتيق ونخرج من مياه المعمودية مشتركين فى قيامة المسيح لنسلك فى الحياة الجديدة التى ظهرت أولاً فى قيامة المسيح رأس الخليقة الجديدة. وكون أن المسيح يعطينا حياته لنحيا بها يشرحها بولس الرسول هكذا:-
U "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل20:2) + "لى الحياة هى المسيح" (فى21:1) وهذا هو معنى أننا نخلص بحياته. ولكن نفهم أيضاً "نخلص بحياته" على أنها تعنى أن المسيح هو حى عن يمين الآب يشفع فينا. هو حى بجسده الذى أخذه من البشر (رو34:8).
U ولكن شفاعة المسيح هى للمؤمن التائب (1يو2: 1-2). وكانت هذه دعوة يسوع .. "توبوا" (مت17:4). وشفاعة المسيح عنا ليست صلاة للآب، بل مجرد وجوده بجسده أمام الآب فيه شفاعة كاملة 1تى5:2 + عب10: 19-22.
U "مع المسيح صلبت" (غل20:2) إذاً حتى يكون لى حياة المسيح، يجب أن أصلب شهواتى (غل24:5).
هل المعمودية تعطى موتاً تاماً للإنسان العتيق؟
U قطعاً هذا لا يحدث وإلا لإنتفت حرية الإنسان. فبالمعمودية يموت الإنسان العتيق ولكن أنا لى كل الحرية لأحييه من جديد، وأيضاً لى القوة أن أبقيه ميتاً، وهذه القوة يعطيها الروح القدس ونسميها النعمة.
U فالإنسان العتيق يستمر فى مشاغباته، ويظل الجسد بشهواته مقاوماً لعمل الروح، وهذا لا ينتهى سوى بالموت. حقاً النعمة تعطينا قوة جبارة تجعل شهوات الجسد كأنها ميتة، ولكن أى تهاون من الإنسان فى جهاده أو أى إستهتار وتهاون مع الخطية يجعل شهوات الجسد تثور داخله، لذلك يقول الرسول:
U "أما أنا فجسدىٌ مبيع تحت الخطية .. لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل. فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ. ويحى أنا الإنسان الشقى من ينقذنى من جسد هذا الموت" (رو14:7-24).
U "وإنما أقول أسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل5: 16-17).
U وبنفس المفهوم فنحن بالمعمودية نصبح أولاداً لله، ولكن نسمع فى (رو23:8) وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن فى أنفسنا متوقعين التبنى فداء أجسادنا. فما حصلنا عليه حتى الآن من الروح القدس، إنما هو باكورة أو عربون، وما حصلنا عليه من تبنى هو أيضاً باكورة أو عربون، فإبن الله الكامل لا يخطئ (1يو9:3). ولكننا مازلنا ونحن فى الجسد لابد وأن نخطئ (1يو8:1).
U ونرى فى الآيات الآتية أننا حصلنا على الروح القدس. "الذى ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح فى قلوبنا" (2كو22:1) + (2كو5:5) وأيضاً "ختمتم بروح الموعد القدوس الذى هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى" (أف1: 13-14). ولاحظ أن بولس يوجه كلامه لأهل غلاطية وهو معمدين، بل قال لهم فى (غل5:3) "فالذى يمنحكم الروح ويعمل قوات فيكم ..." فالرسول يوجه كلامه إلى مسيحيين منحهم الله روحه القدوس. إذاً فهم معمدين. ومع ذلك يقول لهم أن الجسد يشتهى ضد الروح ويقاوم الروح .. حتى تفعلون ما لا تريدون (غل17:5). ومعنى الجسد هنا طبعاً ليس مادة الجسد، فأنها صالحة فى حد ذاتها وإلا لما أتخذ المسيح له جسداً مثلنا. ولكن المقصود هو العثرات الجسدانية التى لا يقدر الإنسان أن يتحرر منها لا بتداريب المتنسكين ولا بأعمال الإماتة، ولا حتى بالموت نفسه، فالخلاص منها لا يكون إلا بنعمة المخلص يسوع المسيح. هذا هو معنى "الجسد" بحسب ما قصد الرسول بولس أن يبينه فقال "ولكنى أرى ناموساً آخر فى أعضائى يحارب ناموس ذهنى ويسبينى إلى ناموس الخطيئة الذى فى أعضائى" (رو23:7). ونلاحظ أنه يتكلم بصيغة الفعل المضارع وليس الماضى. فالحاضر هو الذى يضغط عليه وليس ذكريات الماضى. أنه يرى الناموس الآخر لا يحارب فقط، بل يسبى قسراً إلى ناموس الخطيئة الكائن (وليس الذى كان) فى أعضائه (رو23:7). ومن ثم صرخ "ويحى أنا الإنسان الشقى، من ينقذنى من جسد هذا الموت" (رو24:7).
U إذاً قول بولس الرسول "الجسد يشتهى ضد الروح" (غل17:5) المقصود به أعمال الجسد وليس مادة الجسد، أى الأعمال التى تصدر عن الأهواء الجسدانية أو نقول مباشرة أنها الخطيئة المذكورة فى (رو12:6) "إذاً لا تملكن الخطيئة فى جسدكم المائت كى تطيعوها فى شهواته" (رو12:6). فالشهوات سوف تحاربنى ولكن لى سلطان أن أملكها علىّ إن أستسلمت لها، ولى أيضاً سلطان أن أرفضها طالباً معونة النعمة الإلهية فلا يصير لها سلطان علىّ.
U إذاً المقصود بالجسد هو الإنسان العتيق، وهذا الإنسان العتيق هو المولود من الأب والأم بحسب الطبيعة هأنذا بالأثم صورت وبالخطية حبلت بى أمى (مز5:51). وهذا الإنسان العتيق هو الذى يصدر منه العثرات الجسدانية.
كيف نثبت فى المسيح وكيف تكون لنا حياة المسيح؟
U نحن بالمعمودية صارت لنا حياة المسيح وصرنا أعضاء ثابتين فى جسد المسيح. ولكن من ينقاد لأهوائه وشهواته مرة ثانية يوقظ هذا الإنسان العتيق الفاسد فيفقد ثباته فى المسيح، فنحن نعلم أنه لا شركة للنور مع الظلمة ولا إتفاق للمسيح مع بليعال (2كو6: 14-15). لذلك يقول بولس الرسول:
U "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ" (غل20:2)
U إذاً بقدر ما نمارس صلب النفس، بقدر ما نرى المسيح حياً فى داخلنا وبر المسيح ظاهراً فى حياتنا. لكن حياة المسيح فينا التى ننال إمكانياتها وبذرتها فى المعمودية هى قوة الحياة الجديدة التى نسلك بها كأولاد الله فى هذا العالم.
U "وأما ثمر الروح فهو محبة فرح.. ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل5: 22-24).
U واضح أن ثمر الروح لا يظهر إلاّ فيمن صلبوا أهوائهم وشهواتهم وحسبوا أنفسهم كأموات. وهذا ما قاله السيد المسيح "الذى يثبت فىّ وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير" (يو15: 4-5). ومن حسب نفسه ميتاً عن أهواء وشهوات وخطايا العالم، هذا يثبت فى المسيح، فيأتى بثمر كثير هو ثمار الروح. ولاحظ أيضاً قول الرسول:
U "وأما من جهتى فحاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذى به قد صلب العالم لى وأنا للعالم" (غل14:6).
U "حاملين فى الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكى تُظَهر حياة يسوع أيضاً فى جسدنا المائت.." (2كو4: 10-11) + "إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه" (2تى11:2).
U "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً" (2كو16:4) + "ونحن أمواتاً بالخطايا أحيانا مع المسيح" (أف5:2).
U الملخص أن المسيح إفتدانا وبالمعمودية غفرت خطايانا، وأعطانا المسيح حياته. ولكن من يصلب أهواءه وشهواته يثبت فى المسيح، فتكون له حياة المسيح فيتبرر أى يحيا باراً ويخلص.
الخلاص بالإيمان
U نحن الأقباط الأرثوذكس نتمم المعمودية للأطفال الصغار. ولكن ماذا عن الكبار الذين لم يعتمدوا صغاراً؟
U هنا نقول أن الشرط الأول للخلاص هو الإيمان، ويلى هذا المعمودية، لذلك يقول السيد المسيح "من آمن وأعتمد خلص" (مر16:16). وبهذا المفهوم فإن من أعتمد طفلاً ثم ترك إيمانه بعد ذلك، يهلك ولا تفيده معموديته. وبطرس بعد عظته يوم الخمسين حين آمن 3000 نفس عمدهم (أع41:2) وبولس بعد أن آمن سجان فيلبي عمده مع أهل بيته (أع 33:16) والسيد المسيح يشدد على أهمية المعمودية وبدونها لا ندخل الملكوت (يو5:3) ولكن الإيمان هو المدخل لكل بركات العهد الجديد، لذلك يقول بولس الرسول:-
U بر الله بالإيمان بيسوع المسيح ... متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذى بيسوع المسيح .. الذى قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة (رو3: 22-25).
U راجع الإصحاح الرابع من رسالة رومية لترى أن إبراهيم قد تبرر بإيمانه وليس بأعماله. وإيمان إبراهيم هذا كان إيماناً بالله الذى هو قادراً أن يعطى حياة [لشيخوخته ولمستودع سارة فيأتى منهم إبناً بل لو مات الابن فالله قادر أن يحييه (عب17:11-19)] هذا الإيمان بالله القادر أن يعطينا حياة كما أعطى حياة للمسيح وأقامه من الأموات، هذا الإيمان هو المدخل للتبرير.
U فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رو1:5).
ولكن هل يعنى بولس الرسول بأن الخلاص هو بالإيمان، أن الأعمال لا ضرورة لها للخلاص؟! قطعاً هو لا يعنى ذلك، بل نراه يشدد على أهمية الجهاد. فما هو الجهاد؟!
الجهاد والأعمال الصالحة
الجهاد هو أن يغصب الإنسان نفسه على شئ صالح، لكنه لا يريد أن يفعله. فمثلاً شهوة الجسد أن ينام ويتلذذ بشهوات العالم، أمّا الجهاد فهو أن يقف ليصلى وجسده منهك. الجهاد هو أن يصوم وهو يحب أن يأكل، ولكنه يغصب نفسه على ذلك. وهناك جهاد سلبى وجهاد إيجابى. والجهاد السلبى هو أن يمنع الإنسان نفسه عن الخطية بأن يحسب نفسه ميتاً. والجهاد الإيجابى هو أن يغصب الإنسان نفسه أن يعمل أعمال البر (صلاة وصوم وخدمة وعبادة وتسبيح ..) لذلك يقول السيد المسيح أن ملكوت السموات يغصب والغاصبون يختطفونه (مت12:11).
وعن الجهاد السلبى يقول بولس الرسول:-
U كذلك أنتم أيضاً إحسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن احياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذاً لا تملكن الخطية فى جسدكم المائت لكى تطيعوها فى شهواته ولا تقدموا أعضائكم آلات إثم للخطية (جهاد سلبى). بل قَدّموا ذواتكم كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر (جهاد إيجابى) فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة (رو6: 11-14).
U "فأميتوا أعضاءكم التى على الأرض الزنا والنجاسة ..." (كو3: 5-10).
U "فأطلب إليكم .. أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة.. ولا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 1،2) وهذه معناها أن يسلك المؤمن كميت أمام شهواته وخطاياه.
U "كما هو مكتوب من أجلك نمات كل النهار. قد حسبنا مثل غنم للذبح" (رو36:8).
U "أقمع جسدى وأستعبده ... حتى لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1كو27:9).
U "فإثبتوا إذاً فى الحرية التى حررنا بها المسيح ولا ترتبكوا بنير عبودية" (غل1:5).
U "لا تصيروا الحرية فرصة للجسد" (غل13:5).
U "أما أنت يا إنسان الله فإهرب من هذا" (يقصد محبة المال) (1تى6: 10-12).
U "أما الشهوات الشبابية فإهرب منها" (2تى22:2).
U "لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا ولنحاضر بالصبر فى الجهاد .. لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب12: 1-4).
U كان هذا عن الجهاد السلبى. ويقـول بولس الرسول عن:
الجهاد الإيجابى أى لزوم أن نعمل أعمالاً صالحة:
U "قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعى حفظت الإيمان ..." (2تى4: 8،7).
U "أما الذين بصبر فى العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة فبالحياة الأبدية.. الذى سيجازى كل واحد حسب أعماله" (رو2: 7،6).
U راجع (رو12: 9-21) نرى الرسول هنا يحدثنا كيف تكون أعضائنا آلات بر.
U "لكى تمجدوا الله أبا ربنا يسوع المسيح بنفس واحدة وفم واحد" (رو6:15).
U "إن كان لى نبوة ... ولكن ليس لى محبة فلست شيئاً" (1كو13: 2-13).
U "إتبعوا المحبة ولكن جدوا للمواهب الروحية" (1كو1:14).
U "كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين فى عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً فى الرب" (1كو58:15).
U "إسهروا، إثبتوا فى الإيمان. كونوا رجالاً. تقووا. لتصر كل أموركم فى محبة" (1كو16: 14،13).
U فإذ لنا هذه المواعيد لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح (جهاد سلبى) مكملين القداسة فى خوف الله (جهاد إيجابى) (2كو1:7).
U "إن من يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد" (2كو6:9). وهذه تعنى أن من يزرع أعمالاً صالحة سوف يجنى بركات بقدر ما يزرع.
U "لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية. فإن الذى يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً فلا نفشل فى عمل الخير لأننا سنحصد فى وقته إن كنا لا نكل" (غل6: 7-10).
U "لأنه فى المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة" (غل6:5 + غل15:6).
U "إتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة. جاهد جهاد الإيمان الحسن وإمسك بالحياة الأبدية" (1تى6: 12،11).
U "وأريد أن تقرر هذه الأمور لكى يهتم الذين آمنوا بالله أن يمارسوا أعمالاً حسنة" (تى8:3).
U "إتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب" (عب14:12).
U "دم المسيح .. يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى" (عب14:9).
والمقصود بالخدمة أى العبادة والوجود فى حضرة الله وتسبيح الله كالملائكة فدم المسيح يطهرنا من الأعمال الميتة أى الخطايا، يطهر القلب والضمير ويحيى النفس ويقيمها ويؤهلها أن تقترب من حضرة الله لتخدم بالصلاة والحب والتسبيح بقوة الروح القدس.
U "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله إهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله" (كو3: 1-3).
والخلاصة:
من إعتمد وعاش مجاهداً يصلب أهوائه وشهواته (جهاد سلبى) ويكون مجاهداً فى أعمال صالحة (جهاد إيجابى) هذا يثبت فى المسيح ويقول مع بولس الرسول "لأن لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح" (فى21:1).
وهنا يثور سؤال .. الآن مطلوب منى أن أميت شهوات الجسد وأن أعمال أعمالاً صالحة، فهل أنا لى القدرة من ذاتى على ذلك. وهل جهادى هو الذى يدخلنى السماء؟! قطعاً لا. فالسيد المسيح يقول:
U "بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو5:15) ويرددها بولس هكذا:
U "أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى" (فى13:4). "والمسيح أرسل لنا الروح القدس ليعيننا فى جهادنا. فنحن نجاهد ولكن الروح يعين ضعفاتنا" (رو26:8). وقوة الروح القدس نسميها النعمة.
U "بالنعمة أنتم مخلصون" (أف5:2).
U "ليس من أعمال كى لا يفتخر أحد" (أف9:2).
فأعمالنا العاجزة وقلبنا المخادع النجيس (أر9:17) غير قادر أن يدخلنا إلى ملكوت الله أو يخلصنا. ولكن النعمة هى التى تعطينا الخلاص. ولكن النعمة لا تعمل مع المتكاسلين بل مع المجاهدين. لذلك سمعنا عن الجهاد وإلتزامنا أن نعمل أعمالاً صالحة. فمن يجاهد يستحق أن تعطيه النعمة معونة وقوة بل إن هذه القوة تعطيه أن يصير خليقة جديدة على شكل وصورة المسيح "إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة" (2كو17:5).
مثال:
إنسان له نظرة شهوانية ويقرر التوبة، يقول لنفسه إن عينى قد ماتت مع المسيح وليس لى الحق أن أنظر (هذا معنى قول السيد المسيح أنه عليه أن يقلع عينه). وإذ يجاهد بجدية واضعاً عينيه فى التراب وبحريته يختار طريق الموت عن شهوات العالم، تتدخل النعمة، ويعطيه الروح القدس شهوة ميتة فيجد نفسه وإذ له طبيعة جديدة لا تشتهى أن تنظر. هذه الطبيعة ليست منه بل هي هبة مجانية من الله لتعينه. وتعطيه النعمة أن تكف عينه أن تنظر لتشتهى العالم بشهواته، بل تبدأ فى أن تشتهى أن ترى مجد الله وتقول مع داود النبى "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن فى بيت الرب كل أيام حياتى لكى انظر إلى جمال الرب وأتفرس فى هيكله" (مز4:27). هنا تحولت العين من كونها آلة للإثم إلى كونها آلة للبر وهذه هى الخليقة الجديدة. وهذا يتكرر مع كل عضو في أجسادنا فنصير خليقة جديدة ونلبس المسيح. وبهذه الطبيعة ندخل للسماء. ونلاحظ إن النعمة لا تعمل وحدها بدون جهاد الإنسان. وإلا لو كان هذا صحيحاً فلماذا لم تحول النعمة كل البشر أو على الأقل كل المؤمنين إلى قديسين!!
عمل النعمة:
النعمة هى عمل الروح القدس فى الإنسان، هى القوة التى تعينه وتغير طبيعته. وهى تعطى لمن يجاهد طبيعة جديدة، وتكون فيها الطبيعة القديمة ميتة، أى أن الإنسان العتيق ميت وهذا ما يسميه بولس الرسول ختان القلب بالروح. (رو29:2). أى موت الخطية و محبتها فى القلب.
U "لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون .. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 12،13). فى هذه الآية نرى عملنا (تميتون). بجانب عمل النعمة (بالروح تميتون). فالنعمة تؤازر وتعين من يجاهد فى أن يميت ذاته. ومن يفعل يصير إبناً لله.
U "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو14:8). والروح القدس يدعو ويقود "توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى" (أر18:31). ويبكت المؤمن إن أخطأ (يو8:16) ثم يعطى معونة وقوة (رو26:8). ومن يتجاوب معه يعطيه أن يصير خليقة جديدة وبهذه الخليقة الجديدة نخلص وندخل السماء. لذلك نسمع "بالنعمة أنتم مخلصون" (أف5:2) فالطبيعة القديمة مهما عملت من أعمال صالحة لا يمكن أن تدخل السماء (1كو50:15). لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله ولا يرث الفساد (الطبيعة القديمة) عدم الفساد (مجد السماء).بل أن النعمة تعطى قوة حتى أن الخطية تصبح غير قادرة أن تسود علينا.
U "فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو14:6). إذاً فالنعمة هى القوة الحافظة لمن يجاهد ويعمل. ولكن على من يشعر بعمل النعمة، إذ يجد نفسه يحيا حياة صالحة والخطية لا تسوده، أن لا يفتخر بأعماله، فأعماله ليست هى السبب بل النعمة.
U "ليس من أعمال كى لا يفتخر أحد" (أف9:2).
U وفى هذا يقول معلمنا يعقوب "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هى من فوق نازلة من عند أبى الأنوار" (يع17:1). فإذا كان الصلاح الذى فىَّ هو من الله، فلماذا أفتخر بما لم أصنعه بنفسى، ويقول بولس الرسول "إن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ" (1كو7:4). وهذا معنى قول السيد المسيح "فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك" (مت3:6). أى إذا فعلت صدقة (عمل بر أى عمل يمينى) فلا تفتخر ولا تشعر ببرك الذاتى (فإن فعلت فهذا عمل يسارى).
ماذا قَّدم المسيح لنا؟
معنى الخلاص:
1. صرنا بالمعمودية نموت مع المسيح، تموت حياتنا السابقة أى إنساننا العتيق وبهذا غفرت خطايانا. وصارت لنا حياة المسيح وبره، أى صرنا خليقة جديدة رافضة للخطية، تشتهى عمل البر.
2. النعمة تعطينا معونة، إن أردنا وجاهدنا بصلب الجسد مع الأهواء والشهوات. والنعمة تعطينا قوة حافظة ضد الخطية، فلا تعود الخطية تسود علينا، بل تكون لنا حياة النصرة على الخطية والشهوات.
3. بموتنا مع المسيح فى المعمودية ننال التبنى بقيامتنا متحدين بالمسيح الإبن وثباتنا فيه. ونحصل على كمال التبنى حين يعطينا الله الجسد الممجد بعد القيامة (رو23:8 + أف 14:1). وهذا ما نراه فى (1كو15: 42-44). والمسيح كان كسابق لأجلنا (عب6: 18-20). وهذا ما نصليه فى القداس الغريغورى "أصعدت باكورتى إلى السماء"
وقطعاً لن يدخل السماء إلا كل من حصل على الطبيعة الجديدة التى هى على صورة المسيح، وشروط هذا: [1] الإيمان [2] المعمودية [3] الجهاد وهل هذا ممكن لنا؟ لابد أن نعلم أن قدرة الله التى أقامت المسيح ومجدت جسده حين جلس عن يمين الآب. هذه القدرة هى متجهة لنا نحن البشر وإلى طبيعتنا لنقوم ونرتفع إلى مجد الله بالمسيح.
لا أزال شاكراً لأجلكم ذاكراً إياكم فى صلواتى. كى يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان فى معرفته. مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه فى القديسين. وما هى عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته. الذى عمله فى المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه فى السماويات ... وأقامنا معه وأجلسنا معه فى السماويات فى المسيح يسوع (أف16:1 -6:2).
فنحن الآن ننتظر على الرجاء التبنى الكامل، وما يسميه بولس الرسول فداء الأجساد (رو23:8). وهذا معنى قوله لأننا بالرجاء خلصنا ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر (رو24:8، 25) فالخلاص يتم على مراحل، فهو بدأ بميلاد المسيح ثم صلبه ثم قيامته وصعوده، ثم إرساله للروح القدس الذى يعطينا النعمة لنحصل على الطبيعة الجديدة التي ندخل بها السماء ولكن هذه الطبيعة الجديدة ونحن على الأرض ما زالت ناقصة، فنحن نحيا لنجاهد على رجاء أن نحصل على الجسد الممجد فى السماء وهذا هو كمال الخلاص.
وطالما صرنا أبناء بثباتنا فى المسيح فنحن وارثين للمجد من خلال إبنه الذى جعله وارثاً لكل شئ (عب2:1) (وهذا الميراث الذى حصل عليه المسيح بجسده كان لحسابنا. وإن كنا أولاد فإننا ورثة أيضاً (رو17:8 + عب20:6).
4. الخلاص ليس معناه أن نتخلص من الألم والتجارب ونحن مازلنا على الأرض بل يعنى إمكانية أن نفرح ونتعزى وسط التجارب والآلام (كو24:1) ولاحظ قول بولس الرسول "إفرحوا فى الرب كل حين وأقول أيضاً إفرحوا" (فى4:4) هذه الآية قالها بولس الرسول، وهو فى سجنه مقيداً بالسلاسل، ولكن مع هذا تطغى على الرسالة نغمة الفرح.
أ. جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى فى المسيح يسوع يضطهدون (2تى12:3) هنا نرى الألم ضرورة ونحن في هذا العالم.
ب. لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله (في29:1) هنا نرى الألم وقد صار هبة وليس ضرورة فقط.
ج. وأنتم صرتم متمثلين بنا وبالرب إذ قبلتم الكلمة فى ضيق كثير بفرح الروح القدس (1تس6:1) هنا نرى أن الله لا يتركنا وحدنا فى الألم، بل يعطينا عزاء وفرحاً. ونفس هذا المفهوم نجده فى رسالة كورنثوس الثانية الإصحاح الأول.
د. إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه (رو17:8). ومن يحتمل بصبر سيكون له نصيب فى مجد المسيح (رو18:8).
أما الراحة النهائية من الآلام فلن تكون هنا على الأرض بل فى السماء حيث يمسح الله كل دمعة من عيوننا (رؤ4:21). وبنفس المفهوم "وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند إستعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته (2تس7:1).
5 من إعتمد فمات مع المسيح وقام معه، وجاهد وقمع جسده وصلبه، يثبت فى المسيح، ويعطيه المسيح حياته، ويكون خاضعاً للروح، والخطية لا تسود عليه، بل بالنعمة يسود هو على الخطية، مثل هذا لا تكون عليه دينونة "إذاً لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم فى المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رو1:8).
6 نال المؤمن بركات عظيمة بعد المعمودية إذ إتحد بالمسيح. لأن المسيح كان جسده متحداً بلاهوته. وصار المسيح بهذا كرأس للكنيسة مصدراً لكل البركات الإلهية من مجد سماوى ومجد أرضى وقداسة وحياة أبدية وحكمة ونعمة وإمتلاء من الروح وهذا ما شرحه النبى زكريا فى الإصحاح الرابـع أى رؤيا المنارة، والكوز على رأسها. فالمنارة هى الكنيسة والزيت هو الروح القدس الذى تحصل عليه الكنيسة من المسيح ورمزه هنا الكوز. والكوز يمتلئ من زيتونتان، فى إشارة لامتلاء المسيح من الروح القدس يوم المعمودية فى الأردن لحساب كنيسته.
بل أن المسيح حل فيه كل ملء اللاهوت فى جسده كما يقول الرسول "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً. وأنتم مملوؤون فيه" (كو2: 10،9) وهذا يشير لأن إتحاده هو بلاهوته، وإتحادنا نحن به جسدياً صار مصدراً لكل البركات، وهذا ما أسماه الرسول "كل ملء الله" (أف19:3) أى نمتلئ من كل البركات الإلهية بحسب إمكانياتنا. وهذا يمكن تشبيهه كما يلى:
الخزان الصغير يمثل الإنسان المؤمن الثابت فى المسيح:
[1] بالإيمان [2] بالمعمودية [3] بالتوبة [4] بالتناول
وهذا الخزان الصغير متصل بالكبير ويمتلئ منه إشارة لإتحادنا بالمسيح المتجسد بواسطة المعمودية، وبحياتنا النقية وبالتناول. وبهذا الإتصال نمتلئ. ولكن ما يحدد إمتلاءنا:
1. محدودية طبيعتنا (خزان صغير).
2. الإيمان والنقاوة وقبول الصليب بشكر وعدم التذمر.
هل يمكن للمؤمن أن يرتد ويهلك:
بعد كل هذا الذى أعطاه الله للمؤمن، هل ممكن أن يرتد ويهلك؟
U فإنى لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن أباءنا كانوا تحت السحابة وجميعهم إجتازوا فى البحر .. وإعتمدوا .. وأكلوا طعاماً روحياً (رمزاً للتناول) وجميعهم شربوا شراباً روحياً (من الماء المنسكب من الصخرة رمزاً لحلول الروح القدس) لكن بأكثرهم لم يُسرّ الله لأنهم طرحوا فى القفر. وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا حتى لا نكون مشتهين شروراً كما إشتهى أولئك (1كو10: 1-6). نفهم من هذا أن المعمد الذى نال الروح القدس وتناول من جسد الرب ودمه، إذا إشتهى شروراً وترك الرب وإرتد يمكن أن يهلك كما هلك الآباء فى البرية ولم يدخلوا كنعان (رمز كنعان السماوية).
U ديماس تلميذ بولس الرسول الذى أشار إليه كأحد تلاميذه (كو14:4) قال عنه بولس الرسول "ديماس تركنى إذ أحب العالم الحاضر" (2تى9:4).
U فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يُرى أحد منكم أنه قد خاب منه (أى فقده) (عب1:4).
U كونوا متمثلين بى معاً أيها الإخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة. لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح الذين نهايتهم الهلاك (فى3: 17-19).
U فإنه إن أخطأنا بإختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق .. بل قبول دينونة مخيف .. مخيف هو الوقوع فى يدى الله الحى (عب10: 26-31).
U راجع (رو11: 17-22) لترى إمكان قطع المؤمن من الزيتونة أى الكنيسة جسد المسيح.
U ونرى فى (عب 6: 4-8) عقوبة المرتد الرهيبة "لأن الذين إستنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس .. وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة ... وقريبة من اللعنة التى نهايتها الحريق".
U بولس يقول عن نفسه "أقمع جسدى وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسى مرفوضاً" (1كو27:9).
عمل الروح القدس فى المؤمن:
الروح القدس الذى حل فينا يعطينا أن نصبح خليقة جديدة، فهو الذى يعمل فى الأسرار. وفى سر المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه، ويكون لنا سلطان على الخطية (رو14:6). وإن أخطأنا يبكتنا (يو8:16) فهو الذى يتوبنا فنتوب (أر18:31). وهو الذى يعطى المعونة (رو26:8) ويعطينا أن تكون لنا ثمار (غل5: 23،22). ويعطينا المواهب (1كو11:12) وهو الذى يعلمنا ويذكرنا بكل كلام السيد المسيح (يو26:14). وهو الذى يُعرِّفنا المسيح، ويخبرنا بمحبته وصفاته (يو14:16). ويفتح أعيننا على أمجاد السماء (1كو9:2-12). وما ننظره الآن من أمجاد السماء ننظره كما في لغز (1كو12:13) وننتظر وليس لدينا سوى الإيمان والرجاء والمحبة، هؤلاء هم الذين يثبتون الآن (1كو13:13) لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان (2كو7:5).
والروح القدس هو الذى يعطينا القوة والنصح والمحبة 2تى7:1 وهو الذى يثبتنا فى المسيح (2كو21:1) وذلك من خلال عمله فى أسرار الكنيسة. وهو بهذا يعطينا البنوة ويشهد بالبنوة داخلنا (رو16:8).
U إن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر. وإن كان روح الذى أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيى أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم (رو8: 10،11).
U وعلامة من هو فى المسيح أنه يهتم بالروحيات "الذين حسب الروح فبما للروح (يهتمون)" (رو5:8) وعلامة أخرى أن يكون لهم ثمر (غل5: 22،23) والروح حين يعطى قوة تميت الإنسان العتيق، تموت محبة الخطية فى القلب، وهذا ما يسميه الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2). فالختان الجسدى هو قطع جزء من الجسم وتركه ليموت. والختان الروحى هو قطع محبة الخطية من القلب وهذا يتم بالنعمة أى بعمل الروح القدس. ومن ينقاد بروح الله يصير إبناً لله (رو14:8) (هذا لأن الروح سيثبته فى المسيح الإبن. وهذا الإبن بالروح يميت أعمال الجسد فيحيا (رو8: 12،13) والروح يعين ضعفاتنا (رو26:8). إذاً هو الذى يعطى المعونة أى النعمة لمن يحاول ويجاهد. ومن يشعر بعمل النعمة فيه عليه ألا يفتخر بأعماله.
U فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال وإلا فليست النعمة بعد نعمة (رو6:11) ونحن صرنا هيكلاً للروح القدس (1كو16:3+ 1كو19:6). وبمقارنة الآيتين نستنتج أن الروح القدس هو الله. والسيد المسيح قال عن الروح أنه يعلمنا (يو26:14) وهذا ردده بولس الرسول فى (1كو13:2) "التى نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس.
U ولكن حين ظهر لطف الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس .. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية (تى3: 4-8).
U إنما أقول أسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد (غل16:5). ومن هنا نفهم أن من يستجيب لعمل الروح القدس فيه الذى يقنعه ويبكته ولا يقاوم عمل الروح، يعطيه الروح قوة فلا يكمل شهوة الجسد.
U وما نأخذه من الروح القدس الآن هو عربون ما سنحصل عليه فى السماء (2كو22:1 + 2كو5:5). وما نحصل عليه الآن نحصل عليه بالإيمان (غل20:2) وبالرجاء (رو8: 24،25) وبالمحبة (غل6:5).
معنى كلمة عربون:
ونحن الآن على الأرض حصلنا على التبنى "لأن كل الذين ينقادون بروح الله هم أبناء الله (رو14:8). ولكن فى السماء سنأخذ الأجساد الممجدة التى لا تخطئ (1كو15 + فى21:3). وهذا ما يسميه بولس الرسول التبنى فداء الأجساد (رو23:8). ولكن الآن مازالت أجسادنا غير ممجدة ومازالت تخطئ. أما إبن الله الكامل لا يخطئ (1يو9:3).
والروح القدس يجعلنا قادرين على حفظ الوصية
يقول السيد المسيح "الذى عنده وصاياى ويحفظها فهو الذى يحبنى .. إن أحبنى أحد يحفظ كلامى .. (يو14: 21،22).
ويقول بولس الرسول "ليس الختان شيئاً وليست الغرلة شيئاً بل حفظ وصايا الله (1كو19:7).
وهنا نرى إهتمام السيد المسيح ورسوله بولس بأن نحفظ الوصايا. ولكننا نفهم من كلام السيد المسيح أن حفظ الوصايا هو لمن يحب المسيح. وهذا ما يفعله الروح القدس "لأن محبة الله قد إنسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5:5) فالروح يعطينا أن نحب الله ومن يحب لا يخالف وصايا من يحبه. الحب يحول قلوبنا الحجرية إلى ألواح قلب لحمية (2كو3:3) نقش عليها الروح القدس الوصايا بالحب. وهذا ما تنبأ عنه حزقيال النبى فى (حز19:11،20) بأنه سيكون لنا قلوباً لحمية لنسلك بها فى فرائض الرب عوضاً عن القلوب الحجرية. ومن نقش على قلبه وصايا الله بالحب لا يحتاج لألواح حجرية منقوش عليها الوصايا كألواح موسى. فالله نقش الوصايا على ألواح حجرية تتناسب مع قلوب شعب إسرائيل الحجرية إذ فقدوا حب الله.
وهذا ما تنبأ به أرمياء قائلاً عن العهد الجديد أنه حينئذ سوف تكتب الشريعة على قلوبنا وأذهاننا (أر31: 31-34 + عب8: 10-12) إذاً كان النبي أرمياء يتنبأ عن العهد الجديد، حين ينسكب الروح القدس فى قلوبنا ويعطينا محبة الله التي بها نطيع وصاياه.
ومن أجل كل ما سبق صار أهم سؤال نسأله لله هو أن يملأنا من روحه القدوس، كما يقول الرسول إمتلأوا بالروح (أف5: 18-20).
الإمتلاء بالروح:
الإمتلاء بالروح هو نعمة النعم، والنعمة تعنى عطية الله المجانية لنا. ولكن كما قال الأباء فالنعمة لا تعطى إلا لمن يستحقها، ويجاهد ليحصل عليها فما هو الجهاد المطلوب للحصول على نعمة الإمتلاء من الروح القدس؟
يقول السيد المسيح يعطى الروح القدس للذين يسألونه (لو13:11).
نعمة مجانية جهاد إيجابى
فهذه النعمة المجانية وهى الإمتلاء من الروح القدس تستلزم جهاد هو الصلاة. والمطلوب الصلاة بلجاجة.
ويقول بولس الرسول إمتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح
(أف 5: 18-20) نعمــة شاكرين على كل شئ
خاضعين بعضكم لبعض فى خوف الله
جهــاد
ويقول بولس الرسول عن ثمار الروح القدس (غل5: 22،23). وهذه تعطى لمن يصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (جهاد سلبى) (غل24:5) ويقول بولس الرسول لا تطفئوا الروح وهذه عكس إمتلئوا بالروح ويقول أيضاً لا تحزنوا الروح (أف4: 17-32 + 1تس 17:5). ومن هذه الآيات نفهم ما الذى يطفئ الروح فينا وهو الكلام البطال والسلوك فى الخطايا. لذلك نفهم مما سبق أنه لكى نمتلئ من الروح:
1. الصلاة والطلب من الله بلجاجة.
2. الامتناع عن الكلام البطال وترديد المزامير والتسابيح.
3. الشكر فى كل حين وعدم التذمر.
4. التوبة عن الخطايا، وأن نحيا فى خوف الله.
5. صلب الأهواء والشهوات أى نحيا كأموات عن الخطايا.
وفيما يلى المزيد من التفاصيل والدراسة عن الإمتلاء.
طريق الإمتلاء بالروح
مما سبق رأينا عمل الروح القدس فى المؤمن. لذلك يوصى بولس الرسول أهل أفسس ويوصينا معهم قائلاً إمتلئوا بالروح (أف18:5). ويوصى تلميذه تيموثاوس قائلاً أذكّرك أن تضرم موهبة الله التى فيك بوضع يدى (2تى6:1). والإضرام معناه الإمتلاء، فكلما إمتلأنا إزدادت ثمار الروح فينا. فكيف نمتلئ أو كيف يملأنا الله من الروح القدس؟
1. الروح القدس يعطيه الله للذين يسألونه (لو13:11 + لو9:11 + لو1:18 + يو14:14 ، 24:16). وهكذا أوصى بولس الرسول أهل تسالونيكى "صلوا بلا إنقطاع" (1تس17:5 +أف18:6 + 1كو13:16 + فى6:4 + كو2:4) والروح حلّ على التلاميذ وهم مجتمعون للصلاة (أع4:2) لذلك تصلى الكنيسة 4مرات يومياً (مرة فى صلاة الساعة الثالثة وثلاث مرات فى نصف الليل)، لطلب الروح القدس قائلة "أيها الملك السمائى المعزى..". ونسمع فى (رو26:8) بأن الروح يشفع فينا بأنات لا ينطق بها، وهذه تعنى أن الروح يعطينا مشاعر وأفكار، ربما لا نستطيع أن نعبر عنها، بل نئن فقط. ولكن هذا يعنى أن الروح يعلمنا أن نصلى بتلذذ، وأن نصلى صلاة حقيقية، صلاة بالروح [هذا معنى قول الرسول بولس، "الله الذى أعبده بروحى" (رو9:1)] فالروح يعين ضعفاتنا، فنصلى لله ونسجد ونسبح، بل نعمل كل أعمال المسيح التى أوصانا بها بقوة الروح القدس يه20. إذاً فلنغصب نفوسنا على الصلاة (جهاد) حتى وإن لم نكن نشعر بلذة. وهذا يعطينا إمتلاء (نعمة). وحينما نمتلئ نصلى فى الروح وبلذة، بل حينما نمتلئ فلنكف عن الصلاة لنسمع الروح ونفهم رسالته.
2. التسبيح المستمر وترتيل المزامير (1كو26:14 + أف19:5 + كو16:3 + عب15:13). ونلاحظ أن المزامير هى موحى بها من الروح القدس (2تى16:3 + 2بط21:1). وداود النبى نفسه يقول ان لسانه قلم كاتب ماهر، أى أن الكاتب الماهر هو الروح القدس، والروح القدس هو الذى يضع كلمات المزامير على لسان داود فيرددها داود (مز1:45).
3. الشكر المستمر (أف5: 20،4 + كو3: 17،15 + 1تس18:5).
4. أن لا نقاوم الروح (أع51:7 + رو14:8) ولا نطفئه (1تس 19:5) ولا نحزنه (أف30:4). ومن يسلك بحسب الإنسان العتيق سالكاً فى شهوات هذا العالم يحزن الروح القدس. فالروح يبكت على خطية وعلى بر (يو8:16) فمن يسمع ويمتنع عن الخطية ويسلك فى البر لا يحزن الروح ولا يطفئه. إذاً علينا أن لا نسلك بحسب الإنسان العتيق متشبهين بأهل العالم (أف4: 17-32 + أف5: 3-18). وبولس يعطى وصايا من يتبعها لا يحزن روح الله (أف6: 1-3 + رو13: 8-10 + كو3: 18-25 + 1تس4: 3-8). وراجع إصحاحات(12-14) من رسالة رومية. بل يطلب الرسول أيضاً الإمتناع عن كل شبه شر (1تس22:5). والإمتناع عن الشر هو الجهاد السلبى. وهكذا يطلب من تلميذه الهرب من الشهوات الشبابية (2تى22:2). وكما رأينا فى (غل5: 22-24) فإن ثمار الروح القدس تظهر فيمن صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. وهكذا قال القديس باسيليوس الكبير "إن الروح القدس حاضر فى جميع الذين يستحقونه ولكنه لا يُظهر قوته إلا فى الذين تطهروا من الأهواء.
5. علينا أن نسلك فى الجهاد الإيجابى. فالرسول يطلب أن نتبع طريق المحبة للجميع (أف4: 1-4 + 5: 2،1 + 32:4 + 1كو13:16 + 1كو13 + كو3: 12-14). ويطلب أن نتمسك بالحسن (1تس21:5 + فى4: 9،8). ويطلب من تلميذه تيموثاوس قائلاً "اعكف على القراءة والوعظ والتعليم" (1تى13:4). فبالقراءة والوعظ نمتلئ "فالمُروى هو أيضاً يُروَى (أم25:11). ويطلب الرسول أن نهتم بما فوق (كو1:3-4) فالإهتمام بالأرضيات يطفئ الروح. ويطلب أن نتمم خلاصنا بخوف ورعدة (فى12:2) فالمستهتر يطفئ الروح.
6. فى الآيات (كو3: 5-10) يطلب الرسول أن نميت أعضائنا التى على الأرض، الزنا والنجاسة ... إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه. هنا نرى صورة لما حدث فى الفداء فبعد موت المسيح قام ثم صعد ثم أرسل الروح القدس. وهكذا يحدث معنا فمن يختار طريق الموت عن شهواته يعطيه الروح القدس أن يقوم مع المسيح ثم يحيا فى السماويات لكن على الأرض، ثم يمتلئ من الروح القدس.
7. نلاحظ أن الروح القدس حل على التلاميذ إذ كانوا مجتمعين بنفس واحدة، فالمحبة التى تجمعنا فى نفس واحدة خصوصاً لو إجتمعنا للصلاة بهذه الروح، هذه المحبة بها نمتلئ من الروح القدس (أع2: 1-4 + فى2:2).
8. ما يساعدنا على الإمتلاء بالروح هو إخلاء الذات والتواضع (فى2: 3-9). ولنرى كيف يتحدث بولس الرسول عن نفسه فهو يقول "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تى15:1) ويسمى نفسه بالسقط (1كو15: 7،8). هنا نرى شعور بولس بعدم إستحقاقه لما هو فيه من نعمة. وهذا ما أشار إليه أشعياء النبى أن الله يسكن عند المتواضع (أش15:57).
9. من البديهيات أن الروح القدس يحل على المعمد بعد مسحه بزيت الميرون وإن كان كبيراً يجب أولاً أن يعلن إيمانه وتوبته ثم يعتمد. وهذا ما طلبه بطرس يوم الخمسين أن يتوبوا وأن يعتمدوا. فبالتوبة يتجدد فعل الروح القدس الذى حصلنا عليه (أع38:2). وسر الميرون هو البديل عن وضع اليد (أع6:19). وهكذا يطلب بولس الرسول تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم (رو2:12).
10. تكريس القلب للمسيح. وأن نُخضع له كل شئ فى حياتنا (عواطفنا وإهتمامتنا ...) ولا نهتم بالماديات بل بما هو فوق، بما لا يُرى (2كو18:5) ونُسلّم له ذواتنا ونقبل الصليب بلا تذمر. ومن يريد أن يمجد المسيح فى حياته يملأه الروح القدس ليمجد المسيح فيه، فهذا هو عمل الروح القدس "ذاك يمجدنى" (يو14:16) لكن من يريد أن يمجد نفسه فلن يمتلئ. إذاً لكى نمتلئ علينا أن نطلب أن نمجد المسيح فى حياتنا.
11. يقول السيد المسيح "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب، من آمن بى تجرى من بطنه أنهار ماء حى. قال هذا عن الروح" (يو37:7-39). إذاً الأساس هو الشعور بالاحتياج، وهذا عكس حال ملاك كنيسة لاودكية (رؤ17:3). والصلاة هي التعبير عن العطش إلى الله. وبهذا العطش مع الصلاة بإيمان يجري داخلنا ينبوع ماء حيّ. ولاحظ إرتباط الإيمان بالإمتلاء من الروح القدس. فمن يبدأ بإيمان بسيط ويصلى يمتلئ من الروح القدس، ويكون من ثمار الروح القدس إيمان جبار (غل5: 22،23).
علامات الإمتلاء من الروح القدس:
1. الشعور بحضور المسيح وسطنا، فالروح يشهد للمسيح "لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه فى الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم" + يو18:14 + يو16:16 "ثم بعد قليل أيضاً تروننى". إذاً هو يفتح أعيننا الداخلية فنرى المسيح حاضراً ونعرفه فنحبه.
2. الإمتلاء من الحكمة، فالحكمة ناشئة من الثبات فى المسيح أقنوم الحكمة.
3. الإمتلاء من ثمار الروح (غل22:5،23) ونتيجة الفرح التسبيح المستمر.
4. السلطان على الخطية (رو14:6).
5. الامتلاء من القوة. قارن موقف بطرس وخوفه من خادمة فأنكر، وموقفه بعد حلول الروح وعظته التي آمن بسببها 3000 نفس.
نبذة عن الروح القدس:
"عن كتاب الصليب والمعمودية للدكتور نصحي عبد الشهيد"
لم يكن ممكناً أن يجئ الروح القدس المعزى إلى الكنيسة قبل أن يتم تدبير المسيح نفسه، أي تتميمه للخلاص بصعوده للسموات، أى دخوله بجسده الممجد الذي أخذه من طبيعتنا للسماء (أع2: 32،33). فالطبيعة البشرية أصبحت عن طريق جلوس المسيح عن يمين الآب، أى حين صار لجسد المسيح الذي أخذه من البشر مجد اللاهوت، صارت الطبيعة البشرية ممجدة بمجد اللاهوت.
لذلك قال المسيح خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى" (يو16: 7،8،13،14). إذاً كان لابد للمسيح أن يجلس أولاً عن يمين الآب وبشفاعته ينسكب الروح.
والروح القدس هو الذي يعلن شخص الرب يسوع، فيجعلنا نرى المسيح ظاهراً في قلوبنا "لا أترككم يتامى إنى آتى إليكم" (يو18:14) فالروح يجعل حضور المسيح فينا، وتنفتح عيوننا الداخلية فنرى المسيح الحي الممجد ساكن فى داخلنا "ثم بعد قليل أيضاً تروننى" (يو16:16). ويصير المسيح شخصاً حقيقياً حاضراً بالنسبة لنا. لأن الروح بملئه لنا يحضر فى أعماقنا صورة المسيح الحي الممجد (2كو18:3). أي أننا ننظر مجد المسيح وننظره في قلوبنا فنتغير إلى صورة المسيح التى يكشفها الروح لقلوبنا (غل19:4). لذلك لا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع رب إلا بالروح القدس (1كو3:12). وحين نعرف المسيح وندرك محبته لنا سنحبه ونسلّم له الحياة.
يقول معلمنا بولس الرسول أن المسيح هو رئيس كهنة الخيرات العتيدة (عب11:9). والخيرات هى الروح القدس (قارن مت7: 7،11 مع لو13:11). فبالروح القدس نتذوق طعم الحياة الأبدية، وما نأخذه الآن هو العربون. والسيد المسيح يحثنا أن نطلبه فى الصلاة "يعطى الروح القدس للذين يسألونه" (لو13:11).
والروح القدس يعلن لنا الآب فنصرخ يا آبا الآب (غل9:4) وبهذا فهو يعلن لنا سر الثالوث، فهو يعلن لنا الآب والإبن، والروح القدس هو الذى يعد الكنيسة كعروس لعريسها المسيح لتتحد معه فى عرسه الأبدى فى مجد لا يوصف.
والروح يعطى قوة لمن يريد أن يموت عن الخطية تساعده على الموت عنها فعلاً (رو13:8) وهذا ما أسماه الرسول ختان القلب بالروح. إذاً فلنبدأ بالتغصب، ومن يغصب نفسه ويمتنع عن الخطية يتحنن الرب عليه، وينقذه من أعدائه (الخطية الساكنة فينا والشيطان) ويملأه من الروح القدس المعين، حينئذ يستطيع أن ينفذ كل وصايا الرب بالحق وبدون تغصب وبدون صعوبة أو تعب، وهذا ما عناه الرسول حين قال "إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة (2كو17:5).
والهدف من إنضمامنا إلى جسد المسيح بالمعمودية هو أن نحصل على ملء الروح الموجود فى الكنيسة والساكن فيها منذ يوم الخمسين. والإمتلاء هو إمتداد ونمو للعطية التى نلناها يوم المعمودية فى سر الميرون. وهذا طلب الرسول أن نمتلئ بالروح أى نفتح قلبنا وكياننا كله للروح القدس لكى يملأنا. فالروح منسكب بملئه بإستمرار من المسيح وينتظر القلب المستعد والنفس المطيعة الخاضعة للمسيح الرأس حتى يفيض فيها بملئه. والإمتلاء لا يحدث مرة واحدة، بل مرات وكل العمر (أع4:2 + أع31:4) ويتكرر بحسب الحاجة خاصة فى المواقف التى فيها شهادة وكرازة بإسم المسيح (مت10: 17-20).
والروح القدس يعطينا كل هذا من خلال الصلاة والأسرار الإلهية. وبقدر إمتلائنا من الروح القدس بقدر ما نعرف المسيح حقاً ونثبت فى المسيح ونحيا فى المسيح، ويحيا المسيح فينا ونمتلئ سلاماً يفوق كل عقل (فى7:4) ونمتلئ محبة لله وللجميع حتى لأعدائنا. ونمتلئ فرحاً يعيدنا للحالة الأولى فى الفردوس (جنة عدن = جنة الفرح).
الأرثوذكسية هى الموقف الوسط الصحيح
بين إنحرافين فى التفكير
تنادى بعض الطوائف بأن الخلاص لا يعتمد على دين أو إيمان الشخص بل يتوقف على أعماله فقط. وتنادى بعض الطوائف بأن الخلاص يعتمد على النعمة فقط ولا أهمية لأعمال الإنسان، بل من يؤمن ينال الخلاص بالنعمة.
والرد على الطائفة الأولى:
نلخصه فى آية واحدة قالها بولس الرسول "لأنه إن كان بالناموس (اليهودية) بر فالمسيح إذاً مات بلا سبب" (غل21:2) فإن كان الخلاص لا يعتمد على الإيمان بالمسيح فلماذا تجسد المسيح وصلب؟! والسيد نفسه وضع هذا الشرط للحياة "من آمن بى ولو مات فسيحيا" (يو25:11). وبولس الرسول يقول بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب6:11).
والرد على الطائفة الثانية:
تجده تحت عنوان "الجهاد والأعمال الصالحة"
الرأي الصحيح الأرثوذكسي كما نفهمه من الكتاب المقدس هو لزوم الجهاد مع النعمة ولنأخذ أمثلة على ذلك:-
1. يطلب الله من نوح أن يبنى فلكاً ليحميه من الماء المنهمر بغزارة والذى سيطفو عليه الفلك، فهل كان نوح فى ذلك الوقت يملك الخبرات الفنية (التكنولوجيا) التى بها يبنى هذا الفلك الذى سيكون بمثابة غواصة؟ قطعاً لا. ولكن كان على نوح أن يبذل كل جهده فى بناء الفلك. ولقد إستمر فى هذا (الجهاد أو العمل) عشرات السنين. هذا هو جهاد نوح. ثم يأتى دور النعمة وهذا ما نسمعه فى الآية (تك16:7) "وأغلق الرب عليه" الله بنعمته أغلق على نوح، وأكمل ضعفات ونقص خبرة نوح وحفظه من الغرق. لكن كان لابد أن يجاهد نوح ويبنى الفلك.
2. فى معجزة الخمس خبزات والسمكتين، طالب السيد تلاميذه أن يحضروا ما يجدونه، هذا هو الجهاد، أما المسيح فبنعمته أطعم الآلاف وتبقى 12 قفة فلماذا طلب المسيح من التلاميذ أن يأتوا بما يجدوه، أما كان قادراً على عمل المعجزة بدون الخمس خبزات والسمكتين؟! لكن السيد أراد أن يظهر أن على الإنسان أن يفعل ما يقدر أن يفعله وهذا ما نسميه الجهاد.
3. عندما أقام المسيح لعازر، لماذا طلب من الناس أن يرفعوا الحجر؟ هذا هو الجهاد، هذا أقصى ما يستطيعه البشر؟ أمّا المسيح فبنعمته أقام الميت وأعطاه حياة.
4. فى معجزة تحويل الماء إلى خمر، طلب المسيح أن يملأوا الأجران، وكان ملء الأجران عملية شاقة، فكانوا يحملون الأوعية إلى أقرب عين ماء ويملأوها ويأتون ليصبوها فى الأجران، وهكذا عدة مرات حتى تمتلئ الأجران. فإن كان المسيح قد حّول الماء إلى خمر فهو قطعاً كان يمكنه تحويل الهواء إلى خمر بدون تعب (وجهاد) الخدام، وكان بهذا سيريح الخدام. ولكن سيبقى السؤال، وأين الجهاد لتأتى النعمة؟
وإذا فهمنا أن هذا الماء كان للتطهير يكون المعنى أنه علينا أن نعمل ما يمكننا عمله، وبقدر إستطاعتنا لنطهر أنفسنا (جهاد سلبى وجهاد إيجابى) والمسيح بنعمته يعطينا أن نصير خليقة جديدة مملوئين من الروح القدس. ومن إمتلأ من الروح يمتلئ فرحاً، والخمر ترمز للفرح. لذلك يقول بولس الرسول "أميتوا أعضاءكم التى على الأرض" (كو5:3) ومن سيطيع هذا سيعطيه الله أن يصير خليقة جديدة بعمل النعمة.
5. فى معجزة صيد سمكة يجد بطرس بداخلها أستاراً نرى مثالاً حياً للجهاد والنعمة. فلو قال له المسيح "يا بطرس أنت صياد إذهب وإصطاد سمكاً وبعه وبالثمن إدفع الضريبة "كان هذا يعنى أن الخلاص بالأعمال دون تدخل المسيح. ولو أتى المسيح بالأستار لبطرس من الهواء دون تعب من بطرس لكان الخلاص بالنعمة. لكن نجد أن السيد المسيح يستغل موهبة بطرس كصياد، وبنعمته يصطاد بطرس سمكة بها المال المطلوب لدفع الجزية.
6. مثال من تعاليم المسيح عن النعمة والجهاد
يقول السيد المسيح أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم (مت44:5).
والمحبة هى عطية من الله، وهى ثمرة من ثمار الروح القدس (غل22:5 ،23) وهى تنسكب فى قلوبنا بالروح القدس (رو5:5). إذاً هى نعمة من الله أى عطية مجانية، فكيف يأمرنا السيد المسيح بأن نحب أعدائنا بالرغم من:
1. أنه طلب صعب جداً على البشر.
2. المحبة هى عطية منه. فلماذا لم يعطيها لنا دون أن يأمرنا؟!
السبب أنه حتى نحصل على النعمة وهى هنا محبة الأعداء، علينا أن نجاهد، فلا نعمة دون جهاد. وما هو الجهاد المطلوب هنا؟
1) أن نبارك من يلعننا= أى نتكلم عليه كلاماً طيباً مباركاً، قد يكون عكس ما هو فى قلوبنا، وهذا لا يأتى سوى بالتغصب فملكوت السموات يغصب (مت12:11) والتغضب هو ما نسميه الجهاد.
2) أن نحسن لهم= حتى لو بالتغصب، نقدم لهم خدمات يحتاجون لها.
3) أن نصلى لأجلهم= حتى لو بالتغصب.
ففى هذه الآية نرى أن الحصول على محبة الأعداء أى النعمة نحصل عليها بأن نغصب أنفسنا ونجاهد ضد طبيعتنا الفاسدة التى تكره الآخرين خصوصاً لو كانوا أعداء لها. فإن جاهدنا وغصبنا أنفسنا تنسكب النعمة فينا، فنجد أنفسنا قادرين بسهولة أن نحب أعدائنا وهذا ما يسميه الرسول "الخليقة الجديدة" (2كو17:5).
7. مثال من تعاليم بولس الرسول (أف5: 18-21).
"إمتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير شاكرين فى خوف الله"
نعمة جهاد جهاد جهاد
فالإمتلاء من الروح هو عطية من الله، هو عطية مجانية. إذاً هو نعمة. هذا ليس فى إمكان بشر. لكن حتى نمتلئ، وحتى يسكب الله فينا هذه النعمة نرى ما يلزم أن نجاهد فيه لنحصل على النعمة.
1. أن لا تخرج كلمة ردية من أفواهنا، ولا تكون اجتماعاتنا للهزل، بل تكون اجتماعات صلاة وتسبيح.
2. الشكر فى كل حين، حتى وسط الآلام. وبلا تذمر.
3. السلوك فى خوف الله والإمتناع عن كل شر وكل خطية.
لو كان الخلاص بالنعمة فقط دون أن يكون للإنسان دور، فلماذا لم يجعل الله كل الناس قديسون بعمل نعمته، أو على الأقل لماذا لم يجعل كل المؤمنين قديسين؟! لو إفترضنا أن الخلاص هو بالنعمة فقط، هذا سيكون مبرراً للخطاة يوم الدينونة أن يقولوا "لم تعمل فينا النعمة كما عملت فى القديسين وبهذا ينسبون لله المحاباة وعدم العدل. ولو كان العمل هو عمل النعمة فقط دون جهاد من المؤمن، فهل يخلص الجميع، ونحن نعلم أن الله يريد أن الجميع يخلصون (جميع الناس) (1تى4:2)؟ كما قلنا سابقاً فإن عمل النعمة لا يعطل حرية الإنسان. فالإنسان بحريته وله كامل الحرية والإرادة أن يقبل الله أو أن يرفض الله ويعطل إرادة الله الصالحة من نحوه. وهذا ما قاله السيد المسيح "يا أورشليم ... كم مرة أردت أن أجمع أولادك ... ولم تريدوا" (هنا نرى أن أورشليم كان لها حرية شخصية فى رفض الله ولكنها عطلت إرادة الله الصالحة من نحوهم).
والنتيجة ... "هوذا بيتكم يترك لكم خراباً" (مت23: 37،38).
ونفهم من قول بولس الرسول "إننا عاملون معه" (2كو1:6) أن أمر خلاصنا متوقف على إرادتنا وجهادنا، ومن يريد ويجاهد ويغصب نفسه تعطيه النعمة طبيعة جديدة بها يخلص. فملكوت السماوات يغصب (مت12:11).
وهذا ما كلن الرسول يعنيه بقوله "أقمع جسدى وأستعبده (جهاد سلبى) حتى بعد ما كرزت للآخرين (جهاد إيجابى) لا أصير أنا نفس مرفوضاً" (1كو27:9). ويتصور البعض أن قول الرسول بالنعمة أنتم مخلصون (أف5:2) ليس من أعمالي كي لا يفتخر أحد (أف9:2). أن هذا فيه إثبات لعدم ضرورة الأعمال. وهنا ينبغى أن نفهم أن هناك نوعين من النعمة:-
1. نعمة لا دخل للأعمال فيها، مثل تجسد المسيح وفدائه وإرسال الروح القدس على الكنيسة. فالمسيح مات عنا ونحن خطاة (رو8:5). وكوننا خرجنا للعالم فوجدنا أنفسنا مسيحيين. نحن لم نعمل شيئاً لنحصل على كل هذا.
2. النعمة التى هى القوة التى تغيرنا من طبيعتنا القديمة إلى طبيعة جديدة وخليقة جديدة على صورة المسيح، نحيا فى بر. هذه النعمة لا تعطى إلا لمن يستحقها أى لمن يجاهد. ولكن جهادنا فى حفظ أنفسنا طاهرين لا يساوى أكثر من خمس خبزات وسمكتين، أما الخليقة الجديدة بالنعمة فهذه تساوى إشباع الجموع.
فمن يجاهد ويغصب نفسه بجهاد سلبى (يميت أعضاؤه وشهواته ويصلبها كمن هو مصلوب مع المسيح) وبجهاد إيجابى (صلاة/ صوم/ خدمة/ تسبيح ...) يعطيه الله بنعمته الطبيعة الجديدة. ويحيا المسيح فيه (غل20:2) ويتحول إلى صورة المسيح (غل19:4). بهذه الطبيعة نخلص وليس بأعمالنا. ونحن لذلك لا نفتخر بأعمالنا. ولا نعِّرف شمالنا ما تفعله يميننا، بل نجاهد صارخين لله أن يملأنا من الروح القدس أى بنعمته، والروح القدس هو الذى يعطينا أن نكون خليقة جديدة بها نخلص.
الضمير والناموس والنعمة:
1. بسقوط آدم فسدت الطبيعة البشرية. وهكذا صار كل أولاد آدم. لكن الله كان قد طبع وصاياه على قلب الإنسان، وهذا ما يسمى الضمير أو الناموس الطبيعي. وكان هذا هو الحافظ للإنسان من الإندفاع فى طريق الشر، وكان للإنسان قدرة فى معرفة الله من خلال الطبيعة (رو20:1) مستخدماً عقله. ولكن بفساد الإنسان تحجر قلبه وتقسى وفقد طبيعة الحب التى تجعل الوصايا مطبوعة فى القلب. وبهذا فسد الضمير.
2. أعطى الله الناموس بيد موسى مكتوباً، وذلك بدلاً من الضمير الذى فسد. وكان هذا الناموس كمساعد للإنسان نعمة من الله (حز20: 11،12). ولكن الناموس لم يكن قادراً أن يغيّر طبيعة الإنسان، بل كان لكبح جماح شهواته، كان الناس يخافون من إرتكاب الشر خوفاً من عقوبات الناموس، لذلك قال الرسول عن الناموس أنه مؤِّدب (غل24:3) ونصلى فى القداس الغريغورى "أعطيتنى الناموس عوناً".
3. جاء المسيح متجسداً، ومات لنموت معه فى المعمودية، وقام لنقوم معه فى المعمودية، نموت عن الطبيعة القديمة، ونقوم بطبيعة جديدة متحدة بالمسيح، وفى سر الميرون يحل فينا الروح القدس ويثبتنا فى المسيح ويعطينا نعمة تعمل فينا لتغيّر طبيعتنا لطبيعة جديدة بها نستطيع أن نعمل بسهولة ما عجز عنه المؤمن فى ظل الناموس، وأصبحنا نجاهد ضد الخطية بسهولة (عب1:12). ولكن لكى تعمل فينا النعمة علينا أن نجاهد.
أ- جهاد سلبى (نميت شهواتنا ونصلبها ونحيا كأموات أمام الخطية).
ب- جهاد إيجابى (فى صلوات وأصوام ...).
والروح يعطى معونة لمن يفعل هذا ويجاهد "إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد" (رو8: 13-16 + رو26:8 + رو29:2). والروح يعطينا طبيعة جديدة على شكل صورة المسيح (غل19:4) وبهذه الطبيعة نخلص (غل15:6) وقول الرسول "بالنعمة أنتم مخلصون" (أف8:2) يعنى أننا نخلص بهذه الطبيعة الجديدة التى أعطتها لنا النعمة وليس بأعمالنا (أف9:2). وكمثال لهذا:-
إنسان مؤمن يعانى من شهوة النظر (بطبيعته القديمة الخاطئة) ويسمع صوت الإنجيل أميتوا أعضاءكم التى على الأرض (كو5:3) فيكف ويجاهد حتى يكف عن النظر، واضعاً عينيه فى الأرض، صارخاً لله أن يعينه، حاسباً نفسه ذبيحة حية، وأنه ليس من اللائق لمن حسب نفسه ذبيحة حية أن يستمتع بنظرات خاطئة. إلى هنا فعمله هذا لن يدخله السماء، بل يجعله أهلاً أن تنسكب النعمة عليه وتغير طبيعته، ولا يعود يشتهى أن ينظر نظرات خاطئة، ويطرح عنه الخطية بسهولة، لقد صارت له طبيعة جديدة، لقد صار خليقة جديدة بها يدخل السماء. هذا معنى بالنعمة أنتم مخلصون (أف8:2). وليس من محاولاته الأولية لذلك عليه أن لا يفتخر بجهاده وبما عمله (أف9:2).
تأمل فى مزمور (118: 19-20) :
إفتحوا لى أبواب البر (هذه شهوة قلب المرنم للتبرير بالمسيح أى بالنعمة)
هذا الباب للرب (بر المسيح، والمسيح هو الباب. وهذا التبرير هو عطية من الرب ... ولكن لمن؟)
الصديقون يدخلون فيه (لن يدخل من الباب حتى يتبرر إلا من يغصب نفسه ويدخل من الباب الضيق بأن يحسب نفسه ميتاً عن شهوات العالم الخاطئة، مجاهداً فى صلاته)
ومن يغصب نفسه يُحسب صديقاً. والصديق يُحسب أهلاً للدخول من الباب فيتبرر بالنعمة. والتبرير بالنعمة هو الخليقة الجديدة التى بها يدخل المؤمن للسماء. هذا ما إشتهاه داود دائماً إذ كان يصرخ قلباً نقياً إخلق فىّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد فى داخلى (مز10:51).
الأسرار والخلاص:
كما رأينا فى (رو6: 3-5) أن سر المعمودية يعنى الموت عن الإنسان العتيق وقيامة إنسان جديد، يحيا فى حياة جديدة "هوذا الكل قد صار جديداً" (2كو17:5). فالمعمودية إذاً هى موت وحياة، وهى من الماء والروح.
ولكن الإنسان فى خلال رحلة حياته معرض للسقوط، والقديس يوحنا يعترف بهذا ويقول "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا (1يو8:1). لذلك أسس السيد المسيح سراً آخر هو سر التوبة والإعتراف. حيث يكمل القديس يوحنا قائلاً "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1يو9:1). وحيث أن الإعتراف يطهر من كل إثم يسمى الآباء، التوبة والإعتراف، معمودية ثانية. ولكن سر الإعتراف يجب أن يسبقه توبة. والروح القدس الذى يعمل فى الأسرار هو الذى يبكت ويدفع الإنسان ويُتَوِّب "توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى" (أر18:31) وهو الذى يبكت الإنسان لوأخطأ (يو8:16). وهو الذى يعين فى طريق التوبة (رو26:8). وهو الذى يعطى الغفران فى سر الإعتراف حينما يصلى الكاهن التحليل (يو20: 22،23). فهو الذى يحرك مشاعر التوبة وذلك بتوبيخه وتبكيته للخاطئ وإقناعه له بأن يترك خطيته (أر7:20) فيذهب للكاهن معترفاً بخطيته، وهناك يعطى الروح غفراناً. ونلاحظ أنه بالخطية نفقد ثباتنا فى المسيح فنموت، وبالإعتراف تغفر الخطية فنحيا. لذلك سمعنا قول السيد فى مثل الإبن الضال "إبنى هذا كان ميتاً فعاش" (لو24:15) ولكن كما قلنا أن بولس الرسول يطلب منا أن نصلب ذواتنا ونميت شهواتنا الخاطئة وأعضائنا، بل ونقدم أجسادنا ذبائح حية وذلك بقرار توبة "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو2:12 + غل20:2 + غل24:5 + كو5:3 + رو11:6). فالتوبة هى قرار بأن أموت عن الخطية وهو قرار يدعمه الروح القدس بالنعمة. وبالنعمة نحيا كأموات عن الخطية وأحياء فى المسيح. إذاً فسر التوبة والإعتراف هو أيضاً موت وحياة. هو سر يعمل فيه الروح القدس.
ويأتى بعد هذا سر الإفخارستيا. ونلاحظ أن القديس كيرلس له قسمة رائعة (رقم 19 فى الخولاجى) يقول فيها "وعند إصعاد الذبيحة على مذبحك تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك". والكنيسة الأرثوذكسية تتناول الجسد منفصلاً عن الدم. فنحن حين نتناول الجسد المكسور نشترك مع المسيح المصلوب فى موته،وحين أقبل أن أُصْلَبْ مع المسيح، أى أصلب أهوائى مع شهواتى، يعطينى الروح القدس قوة ونعمة أصير بها ميتاً عن الخطية، هذا ما يعنيه القديس كيرلس بقوله تضمحل الخطية فى أعضائنا". ثم بعد تناول الجسد نتناول الدم، والدم فى الكتاب المقدس يشير للحياة. فمن يقبل أن يُصلب مع المسيح تكون له حياة المسيح. "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ" (غل20:2). إذاً بالتناول نشترك مع المسيح فى صليبه (تضمحل الخطية فى أعضائنا). ونشترك معه فى حياته "من يأكلنى يحيا بى" (يو57:6). وراجع أيضاً (يو6: 32-58). وبهذا نفهم أن سر الإفخارستيا هو أيضاً سر موت وحياة، موت عن الإنسان العتيق وحياة وثبات فى المسيح. وسر الميرون يُعِطى للمعمد أن يحل عليه الروح القدس الذى يعمل كل هذه الأعمال. ومن (غل5: 22-24). فلا تظهر ثمار الروح، أى لا يمتلئ من الروح إلا كل من قبل أن يصلب جسده مع أهوائه وشهواته. لذلك أيضاً فهذا السر هو موت عن أهواء الخطية لنحيا ممتلئين بالروح. وسر الكهنوت هو خادم كل الأسرار. إذاً فالأسرار قد أسسها الرب لتعين وتعطى المؤمن موتاً عن إنسانه العتيق وتعطيه قيامة بالإنسان الجديد، وثباتاً فى جسد المسيح. ومن هو ثابت فى المسيح يكون جسده ميتاً عن شهواته، أى إنسانه العتيق ميتاً، ولكنه تكون له فى الوقت نفسه حياة المسيح. فعمل الروح يعطى موت عن الإنسان العتيق وحياة جديدة فى المسيح "إن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحيوة بسبب البر" (رو10:8). بإختصار فالأسرار كلها هدفها تثبيتنا فى جسد المسيح السرى، بأن نموت عن العالم ونحيا فى المسيح. والأسرار هى نعمة غير منظورة نحصل عليها تحت أعراض منظورة. فالمعمودية هى غفران للخطايا، وهى موت عن الحياة الماضية وقيام إنسان جديد حاصل على التبنى. وأمّا المنظور فهو الغمر والتغطيس فى الماء مع الصلوات. وتعريف المعمودية بأنها موت وقيامة مع المسيح فنجده فى (رو6: 3-10)، فهل فعلاً كل من أعتمد يصير ميتاً عن العالم؟ نقول لا … فإنه يلزم الجهاد بأن نحسب أنفسنا أمواتاً. لذلك يُكمل الرسول بقوله "كذلك أنتم أيضاً إحسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا" (رو11:6). إذاً لا نعمة بدون جهاد.
وسر الميرون هو سر حلول الروح القدس على المعمد، فهل كل من يُمسَح بالميرون أو وضعت عليه اليد يكون ممتلئاً من الروح القدس؟ قطعاً لا. وإلا لما قال بولس الرسول لتلميذه "فلهذا السبب أذكّرك أن تضرم أيضاً موهبة الله التى فيك بوضع يدىَّ (2تى6:1).
وهكذا فى التوبة والإعتراف، فمن يعترف تغفر له خطيته (1يو9:1). لكن هذا لمن يجاهد بأن يحسب نفسه ميتاً عن الخطية (كو5:3 + رو13:8 + رو11:6).
وهكذا في التناول، فالتناول ثبات في المسيح، ولكن هذا الثبات لمن يحسب نفسه ميتاً عن الخطية (كو5:3+ رو13:8+ رو11:6).
وهكذا فى سر الزواج، فالروح القدس يجمع بين الزوجين فى محبة روحانية، ويجعلهما متوافقين وفي محبة. ولكن هذا لمن يجاهد ويصلى ويصوم ويتناول تائباً عن خطاياه، أما من ليس له علاقة بالله ويحيا فقط ساعياً وراء ملذات العالم وشهوات جسده، لا يعمل فيه الروح القدس هذا العمل فيكره زوجته وتدب الخلافات بينهما.
لذلك نفهم أننا من خلال الأسرار نحصل على نعمة تعطينا حياة ثابتة فى جسد المسيح، لذلك فهى أساس الخلاص. لكن هذه النعمة تزداد بجهادنا وتضمحل بإستهتارنا وتهاوننا. وهذا ما قصده الرسول بقوله "لا تطفئوا الروح" (1تس19:5) وبقوله "لا تحزنوا الروح" (أف30:4) وهذا يعنى أن من يسلك فى شهوات العالم يطفئ الروح ويحزنه فيفقد عمل النعمة فيه. [إذاً النعمة التى نأخذها من الأسرار هى رصيد يمكننا أن نزيده بالجهاد ويمكننا أن نخسره إذا لم نجاهد].
مفهوم الألم والتجارب
بولس الرسول الذى كرز فى أوروبا كلها تقريباً، هذا الإناء المختار والذى كتب نصف أسفار العهد الجديد نرى أنه عانى معاناة شديدة جداً:-
1. كان يعانى من ضعف فى عينيه (غل15:4 + غل11:6). وكان جسده يفرز صديداً مستمراً (أع12:19) يجعل رائحته منفرة (غل4: 13،14). ولعل هذه هى ما قصدها بولس بالشوكة فى الجسد الذى ضربه بها ملاك الشيطان (2كو7:12).
2. كان اليهود يقاومونه فى كل مكان، بل والوثنيون أيضاً (راجع سفر الأعمال).
3. بل حتى من المؤمنين كان هناك من يقاومونه (فى1: 15،16).
4. أثاروا ضده شائعات أنه ليس برسول وليس فى مستوى تلاميذ المسيح، لذلك كان مضطراً أن يُدافع عن نفسه لتثبيت تعاليمه والإيمان الذى يبشر به (غل1: 1،11).
5. أثاروا ضده أنه ينتفع بالعطايا العينية لذلك أصر أن تكون العطايا العينية لفقراء أورشليم عن طريق أناس يعرفونهم (2كو8: 16-24).
6. هو لخص بعض الآلام التى عانى منها فى (2كو11: 23-28).
7. بل هو فرض على نفسه قمعاً للجسد (1كو27:9).
فلماذا يا رب كل هذه الآلام لهذا الرسول الأمين ؟ !
1) كان بولس محبوباً بشكل غير عادى (أع20: 37،38).
2) حسبه البعض إلهاً وقدموا له ذبائح (أع14: 8-15 + 6:28).
3) كان يختطف إلى السماء (2كو12: 1-6).
4) كان يصنع آيات عجيبة حتى أنه أقام ميتاً (أع20: 7-11).
لذلك خاف عليه الله أن ينتفخ فيضيع بولس الرسول العظيم، لذلك سمح له الله بهذه التجارب (2كو7:12). وبولس فهم هذا فقال "أنه بضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أع22:14). بل هو فهم أن الآلام صارت هبة من الله (فى29:1). لذلك يقول أن كل الأشياء تعمل معاً للخير (رو28:8) وهو حَسِبَ أن كل الأمور الحاضرة والمستقبلة هى لصالح قضية الخلاص. فما يسمح به الله من آلام مصمم خصيصاً من أجل خلاص نفوس أولاده الأحباء. وهذا معنى "أبلوس أم بولس أم صفا أم العالم أم الحيوة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة كل شئ لكم" (أى لخيركم وخلاص نفوسكم) (1كو22:3).
وراجع قصة أيوب، فالله سمح بآلام أيوب ليتنقى من خطايا لا يعرفها أيوب. وهذا ما فعله بولس الرسول مع خاطئ كورنثوس إذ أسلمه للشيطان ليهلك الجسد (بالأمراض مثلاً) ولكن تخلص الروح فى يوم الرب (1كو5:5). وبهذا نجد بولس يسلّم الخاطئ لملاك الشيطان لينقيه من خطية موجودة فيه، والله يسلّم بولس الرسول لملاك الشيطان أيضاً لكن ليحميه من خطية هى الإنتفاخ، وهو معرض للسقوط فيها. وبهذا نرى أن للتجارب فائدتين:-
1- تنقية من خطية موجودة.
2- حماية من خطية يكون الإنسان معرضاً لها.
والمعنى أن التجارب يسمح بها الله لخلاص الإنسان. بل أن بولس رأى أن الآلام هى شركة صليب مع المسيح إستعداداً لشركة المجد "إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه" (رو17:8). ويقول أيضاً "إن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً (2كو17:4) فالآلام فى رأى بولس الرسول إذاً هى إعداد للمجد الأبدى.
وهذا ما كان يقصده القديس غريغوريوس واضع القداس الغريغورى حينما قال "حولت لى العقوبة خلاصاً". فالألم والمرض كانا نتيجة وعقوبة للخطية. ولكن بعد المسيح صارا خلاصاً أى سبب خلاص، بل حتى الموت الذى كان عقوبة للخطية صار القنطرة الذهبية التى نعبر بها من هذا العالم المظلم إلى نور ومجد وفرح الأبدية.
تأمل فى الآية (رؤ14:7):
المتسربلون بالثياب البيض "هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم فى دم الخروف". الضيقة العظيمة هى هذا العالم الذى نعيش فيه بضيقاته وآلامه فلماذا يسمح الله بالضيقات فى هذا العالم؟ رأينا فيما سبق أنها نتيجة حتمية بسبب دخول الخطية إلى العالم. لكن الله سمح بها لأولاده الأحباء لأجل تنقيتهم. فلو وجد شخص عادى قطعة حديد يعلوها الصدأ لرماها إذ سيجدها بلا فائدة ولا تصلح لشئ. أما لو وجدها إنسان خبير ماهر سيأتى بمبرد ويقوم بتلميعها فتصبح صالحة لأشياء عديدة، فالآلام والتجارب هي هذا المبرد الذي ينقى الإنسان، ولكن هل حقاً أن الآلام هى التى تعطينا النقاوة والثياب البيض التى ندخل بها للسماء كما نرى فى هذه الآية، هل الآلام قادرة على تنقية أحد؟! قطعاً لا. بل كما نرى من هذه الآية أن التنقية هى بدم المسيح، والثياب البيض هى علامة النقاوة، ثيابنا أى حياتنا صارت بيضاء (علامة البر) بدم المسيح.
إذاً ما هى فائدة التجارب؟
1. كما هو مكتوب فإن محبة العالم عداوة لله (يع4:4). ونحن بعد السقوط صار فينا إنحراف، إذ أصبحنا نشتهى العالم بملذاته وشهواته وأمجاده. الله أعطانا العالم لنستعمله ولكنه صار هدفاً لنا. كان المفروض أن يكون هدفنا هو السماء ومجد الله، لكن بسبب الخطية صارت شهواتنا لملذات العالم لذلك صار من يشتهى العالم معادياً لله، فالله من محبته يسمح بهذه الآلام حتى نزهد فى هذا العالم ونشتهى الراحة فى السماء، وأمجاد السماء.
2. فى حالة كحالة بولس الرسول. فالله خاف على بولس أنه بسبب ما رآه ويراه من أمجاد السماء وحب الناس له ومعجزاته، يبدأ يرى فى نفسه أنه يقوم بأعمال عظيمة فينتفخ. ولكن إذ يرى آلامه يُدرك ضعفاته، ويتعمق فى داخله فكر أنه لا يعمل كل هذا بنفسه بل أن ما يعمله إنما هو عمل الله. هو عمل النعمة التى تؤازره أما هو فضعيف فلا ينتفخ (1كو10:15 + 1تى15:1).
3. دم المسيح هو الذى ينقى ويبيض، ولكن ينقى من؟ هل ينقى كل إنسان؟ قطعاً لا بل هو ينقى كل من يحتمى به، راجعاً بتوبة حقيقية كالإبن الضال الذى ألبسه أبوه الحلة الأولى (الملابس البيضاء). فكانت فائدة المجاعة التى حدثت له وفائدة الآلام لنا أن نترك ملذات العالم ونعود لأحضان الله فنتطهر بدم المسيح.
4. لذلك قال القديس بولس الرسول "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى (يقصد بالتجارب والآلام) فالداخل يتجدد يوماً فيوماً (2كو16:4). ومن هنا نفهم أن الآلام هي معونة من الله لتساعدنا لتجديد الداخل. لذلك قال بولس الرسول أنها صارت هبة من الله "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله" (في29:1).
1 روما سميت هكذا لأن الذي أسسها هو رومليوس سنة 753 ق.م. فحملت إسمه. وبنيت علي مكان مرتفع، علي أكمة من الأكام السبع تم اتسعت لتمتد فتشمل كل الأكام.
2 إتسع نطاقها ونفوذها حتى صارت عاصمة الدولة الرومانية التي استولت علي حوض البحر المتوسط كله. وصارت روما ملتقى ساسة العالم وقادته، ومركزاً للعلوم والآداب والفلسفة، واشتهرت بالقانون الروماني الذي لا يزال يُدَرّس في أغلب جامعات العالم. وكبلد مفتوح امتلأت روما بقبائح الرجاسات الوثنية القادمة من كل العالم، ويظهر ذلك بوضوح من الإصحاح الأول. بل نعرف من التاريخ أن شعبها في وثنيته كان لهم طبعاً وحشياً ويتلذذون بإلقاء العبيد للوحوش تأكلهم، ويتلذذون بصراعات العبيد حتى الموت وذلك في ملاعبهم.
3 يقدّر سكان روما في القرن الأول بحوالي 2 مليون. وكان ثلث سكانها من العبيد. وكان بالمدينة عدد كبير من اليهود الذين قادهم بمبيوس القائد الروماني كأسري حينما إستولي علي سوريا سنة 63 ق.م وأسكنهم قسماُ في المدينة. ثم تحرر هؤلاء اليهود وتكاثروا حتي أصبحوا حوالي 16ألف نسمة في عهد بولس الرسول. وكان هؤلاء اليهود في سلام وراحة معظم وقتهم في روما، إلا في عهد طيباريوس سنة 19م. وفي عهد كلوديوس قيصر سنة 49م. الذي أمر بطردهم جميعاً من روما (أع 2:18). وذلك غالباً بسبب شغب اليهود ضد المسيحيين، فكان أن طرد طيباريوس اليهود والمسيحيين.
4 نشأة المسيحية في روما
أ جاء في سفر أعمال الرسل أنه في يوم الخمسين حضر يهود أتقياء من كل أمّة من بينهم "رومانيون مستوطنون يهود ودخلاء أع 10:2" هؤلاء قبلوا الإيمان بالسيد المسيح وعادوا من أورشليم إلي روما يكرزون بين إخوتهم اليهود. وإذا عرفنا أن من آمن واعتمد يوم الخمسين كانوا 3000 شخص من كل الجنسيات، وليكن بينهم عدة مئات من روما، هؤلاء كانوا الخميرة للمسيحية. وكان الروح القدس يعمل بشدة مع الكارزين في الكنيسة الأولي لذلك سريعاً ما إنتشرت المسيحية في روما. والرسالة إلي رومية كتبت حوالي سنة 57م أي بعد ما يقرب من 23 سنة من عظة بطرس يوم الخمسين. في هذه المدة نمت الكنيسة في روما.
ب إذ تميزت الدولة الرومانية بالحرية وسهولة الانتقال فيما بينها وخاصة بين البلدان المختلفة والعاصمة، وكانت روما ملتقى كبار القادة والتجار، فقد دخلها بلا شك جماعة منهم سواء من أصل يهودي أو أممي، جاءوا يشهدون للرب في روما. من بين هؤلاء أناس سمعوا تعاليم بولس الرسول في بعض مدن إخائية ومكدونية (بلاد اليونان)، ومدن أسيا الصغرى وآمنوا بهذه التعاليم، ويؤكد ذلك سلام القديس بولس علي كثيرين ذكرهم بأسمائهم في الإصحاح الأخير من الرسالة، مما يدل علي أنهم كانوا من تلاميذه ومعارفه مع أنه لم يكن قد ذهب إلي روما قبل كتابة هذه الرسالة. ولاحظ قول بولس الرسول في (رو 6:1،7) "الموجودين في رومية..." إذاً هم ليسوا من أهلها الأصليين بل إنتقلوا إليها أو نزحوا إليها مؤخراً.
ج إذ طُرِد كثير من اليهود إن لم يكن جميعهم من روما بأمر كلوديوس إلي مدن أخري ثم عادوا إليها مرة أخري، كان بعضهم قد آمن بالسيد المسيح مثال ذلك أكيلا وبريسكلا اللذان إلتقيا مع بولس الرسول في كورنثوس (أع 1:18،2) وآمنا علي يديه. هذان وغيرهما قد إشتركوا في تأسيس الكنيسة هناك (رو 5:16) فكان لهما كنيسة في بيتهما. وهما حملا أخبار كنيسة رومية لبولس ومنهما عرف مَنْ مِنَ المؤمنين الذين آمنوا علي يديه قد سكن في روما فأرسل يسلِّم عليهم في الإصحاح 16 من رسالته.
د واضح من الرسالة أن أحداً من الرسل لم يكن قد أنشأ هذه الكنيسة حتي كتابة هذ الرسالة، فقد كان مبدأ بولس الرسول "كنت محترصاً أن أبشر هكذا، ليس حيث سُمِّيَ المسيح لئلا أبني علي أساس لآخر (رو2:15). وإذ يكتب في نفس الرسالة معلناً شوقه الشديد للتوجه إليهم، وانه منع مراراً وأخيراً قرر زيارتها (رو9:1،10) + (رو22:15-24). هذا يؤكد أن أحداً من الرسل لم يكن قد زار روما من قبل. ونري أشواق بولس لزيارة رومية أيضاً في أع 21:19 وإجابة الله علي أشواقه نجدها في (أع1:23). ولقد توجه بولس إلي روما فعلاً ولكن كأسير ولكنه كرز فيها من خلال سجنه اولاً. وهو قد وجد فيها مسيحيين (أع 13:28-15).
ج كان بولس الرسول يشعر أنه رسول الأمم (غل7:2،11) لذا أحس بالمسئولية تجاه هذه المدينة كعاصمة العالم الأممي في ذلك الحين.
ح يقول الأخوة الكاثوليك أن بطرس توجه إلي روما سنة 41م بعد أن أخرجه الرب من السجن (أع7:12-17). وفي (أع17:12) يقول أن بطرس خرج وذهب إلي موضع آخر. ويقول الكاثوليك أن روما هي الموضع الأخر. ويقولون أن بطرس إستمر في روما 25 سنة وكان أول أسقف لها. ولكن غالبية الدارسين في الشرق والغرب لا يقبلوا هذا الرأي. فمن جهة كان بطرس حاضراً في أورشليم حتى المجمع الرسولي الذي إنعقد سنة 50 م تقريباً (أع 15). وكان في إنطاكية سنة 55م حيث إجتمع مع بولس هناك (ابط13:5). ولو كان بطرس هو الذي أسس كنيسة روما لما كتب بولس رسالته إلي رومية ولما أعلن إشتياقه لزيارتها فهو لا يبشر حيث سُمِّيَ المسيح. ولو كان بطرس في روما لكان بولس الرسول قد ذكر إسمه أول الأسماء التي يسلم علي أصحابها (رو 16). ورسائل الأسر التي كتبها بولس وهو في سجنه في روما لا يذكر فيها اسم بطرس. لكن تنظيم كنيسة رومية تم بعد ذلك بواسطة بولس وبطرس فيما بين سنة 62 ، سنة 67م
5 زمان ومكان كتابة الرسالة
كتب الرسول هذه الرسالة وهو يتوقع زيارته لروما .وقد قرر ذلك فى طريقه الى أسبانيا (رو23:15-24). وذلك بعد ذهابه إلى أورشليم حاملاً معه عطايا مسيحيي مكدونية واخائية إلى إخوتهم فقراء أورشليم (رو15: 25،26 + اكو1:16-16 + 2كو1:8-4). بهذا يكون قد كتبها أثناء رحلته التبشيرية الثالثة من كورنثوس، فى بيت رجل إسمه غايس وصفه الرسول أنه مضيفى ومضيف الكنيسة كلها (رو23:16). وهو أحد اثنين قام الرسول بتعميدهما(1كو14:1) أملاها الرسول على ترتيوس، فبولس الرسول كان نظره ضعيفاً جداً .وقد حملتها إلى روما الشماسة فيبى، خادمة كنيسة كنخريا(1:15) وكنخريا ميناء شرقي كورنثوس. وإذ ذهب بولس الرسول إلى أورشليم فى ربيع سنة 58م، لذا يرى غالبية الدارسين أنها كتبت ما بين سنة57، سنة 58م.
6 الأباطرة الذين عاصرهم بولس الرسول
1 طيباريوس فى أيامه آمن بولس مات سنة 37م حكم 18سنة
2 كاليجولا مات سنة 41م
3 كلوديوس مات مسموماً سنة 54م
4 نيرون ( فى أيامه إستشهد بولس) مات منتحراً سنة 68م
7 جدول تواريخ خدمة بولس الرسول
قبول بولس للإيمان المسيحي 36 م
أول زيارة لبولس لأورشليم 38
ثانى زيارة لبولس لأورشليم 44
بدء أول رحلة تبشيرية 45
ثالث زيارة لبولس لأورشليم + أول مجمع للرسل في أورشليم 49
بدء ثاني رحلة تبشيرية 50
رابع زيارة لأورشليم 54
بدء ثالث رحلة تبشيرية 54
خامس زيارة لأورشليم وهي آخر زيارة 58
السجن في قيصرية 58 – 60
الترحيل إلي روما خريف60 - 61
أول سجن لبولس في روما 61 - 63
البراءة وبدء كرازته في أوروبا ثانية 67
إعادة القبض عليه وسجنه 67 أو 68
الإستشهاد 68
8 أهمية الرسالة وغايتها
أ- لأهمية هذه الرسالة كان القديس يوحنا ذهبي الفم يقرأها مرتين أسبوعياً. وكانت هذه الرسالة هي السبب المباشر لتوبة وتغيير القديس أغسطينوس. ولقد سميت هذه الرسالة كاتدرائية الإيمان المسيحي إذ تحوي عناصر الإيمان المسيحي. ويسمون الإصحاح الثامن من هذه الرسالة قدس أقداس الكاتدرائية. هذه الرسالة قدمها بولس الرسول كمقال يمس إيمان الكنيسة ويعبّر عن الحياة الإنجيلية بدقة حتى دعيت "إنجيل بولس"
ب- لأنه كان مزمعاً أن يتوجه لزيارة روما، أراد الرسول أن يعالج المشاكل الموجودة في روما قبل توجهه إليها.
ج- كان أعضاء الكنيسة الأولي في روما خليطاً من اليهود المتنصرين والأمم المتنصرين، وربما كان العنصر اليهودي غالباً. وكان كلام الرسول موجهاً لكلا العنصرين حتى يتعايشوا في محبة وسلام وينعموا بوحدانية الروح كأعضاء في جسد واحد لأن اليهود بتربيتهم المتعصبة المتزمتة وتعصبهم الشديد لجنسهم وثقافتهم وفكرهم الديني لم يقدروا ان ينزعوا أنفسهم بسهولة عن شعورهم بالإمتياز عن غيرهم حتى بعد قبولهم للإيمان المسيحي فكانوا يستخفون بالأمم المتنصرين تحت دعوي:
1 أنهم أبناء إبراهيم وأصحاب الوعد كنسل إبراهيم
2 أنهم مستلمو الناموس الموسوي دون سواهم.
3 أنهم شعب الله المختار وحدهم.
ولذلك فخلال هذا الفكر الذي عاشوه في ماضيهم اليهودي تأصّل فيهم الكبرياء عن عدم فهم للبنوة لإبراهيم ولا غاية الناموس ولا معني اختيار الله لشعبه فظنوا أنهم حتى بعد قبول الإيمان بالمسيا يبقون في مرتبة أسمي من غيرهم. وأمّا الأمم فقد أخذوا موقفاً مضاداً كرد فعل للفكر اليهودي، فإحتقروا اليهود ونظروا إليهم كشعب جاحد وأن الباب قد أغلق علي اليهود لينفتح علي مصراعيه للأمم، بالإضافة لإعجابهم بفلسفتهم وعلومهم وعظمتهم.
وكتب بولس رسالته ليشرح لليهود معني البنوة لإبراهيم وأن بنوتهم لإبراهيم أو الناموس لن يكونا سبب خلاص لهم. وكتب للأمم أن فلسفتهم لن تخلصهم. وأن لا فضل لإنسان في قبوله الخلاص وقبوله الإيمان بل هي نعمة ورحمة من الله. فالناموس يشير للخطية لكنه لا يعطيني قوة لكي أتجنبها. أما فلسفات الأمم فلقد قادتهم للسقوط في النجاسات. لذلك تحدث الرسول عن إحتياج الجميع يهوداً وأمم للخلاص، وتحدث عن عمومية الخلاص. وأن الباب قد إنفتح للأمم كما لليهود خلال الإيمان. وشرح بولس مفهوم الإيمان ضرورته للخلاص.
د نراه في هذه الرسالة يدعو لإحترام الحكام ودفع الجزية بالرغم من إضطهادهم للكنيسة.
9 المواضيع الرئيسية في الرسالة:
1. الأيمان والخلاص المجاني
عاش القديس بولس قبل الإيمان بالسيد المسيح في صراع داخلي مر. ففي الخارج يظهر إنساناً معتداً بجنسه وبره وفريسيته، بكونه عبرانياً أصيلاً من شعب الله المختار وفريسياً وحافظاً للناموس، يمارس الطقوس في جدية ويحفظ الطقوس والوصايا، لكنه في أعماق نفسه الدفينة متي صارح نفسه يجد أنه ضعيف للغاية أمام الخطية وعاجز عن التمتع بالحياة المقدسة الداخلية، محتاج لا إلي وصايا وتعاليم بل بالحري إلي تجديد طبيعته. ولاحظ إفتخاره ببره قبل إيمانه بالمسيح.. من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم في (4:1-6) وصعوبة الحياة المقدسة في ظل الناموس عَبَّرَ عنها التلاميذ أنفسهم بقولهم لمن أرادوا الزام الأمم المتنصرين بالناموس "فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير علي عنق التلاميذ لم يستطع أباؤنا ولا نحن أن نحمله" (أع10:15). ولقد وجد الرسول بولس في الإيمان بربنا يسوع، وبالإيمان وحده لا بأعمال الناموس الحرفية من ختان وغسلات وتطهيرات أنه يدفن مع المسيح ويقوم في مياه المعمودية ليصير "خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً" (2كو17:5).
هنا نري أن وضع البشر قبل المسيح يشبه وضع التلاميذ عندما حاولوا صيد السمك طوال الليل بلا فائدة. ولكن لما دخل الرب يسوع المركب تغير الوضع وإصطادوا سمكاً كثيراً. لقد عجز العالم أن يعيش في البر قبل المسيح وتساوي في ذلك الأمم الذين ليس لديهم ناموس مع اليهود الذين لهم الناموس، والفارق أن الناموس كان يخيف اليهود فيمتنع البعض عن الخطية خوفاً، لذلك قال الرسول أن الناموس مؤدبنا إلي المسيح (غل24:3). ولكن هذا لا يمنع من أنه كان يوجد داخل النفس كبت وإشتياق للخطية، وهذا ما عبر عنه التلاميذ في (أع10:15). لكن لما جاء المسيح ودخل حياتنا وأعطي الخلاص بالإيمان نال المؤمنين التبرير الحقيقي. ولقد إختبر بولس الحياة الجديدة في المسيح يسوع لا كتغيير مظهري ولا إعتناقاً لتعاليم جديدة إنما ما هو أعظم.. لقد تمتع بقوة الإيمان الحي وتغيير شامل في حياته الجديدة فيه تقديس للقلب والأحاسيس والفكر والعواطف وكل طاقات النفس والجسد بالروح القدس الذي يسكن فيه... (تقديس أي تكريس وتخصيص لله..."يا ابني إعطني قلبك" (أم26:23) هذا التغيير يتحقق خلال تغيير مركز الإنسان من حالة العداوة مع الله خلال ناموس الخطية (لأنه لم يوجد الإنسان الذي إستطاع تنفيذ كل أوامر الناموس) إلي حالة البنوة لله (التي نحصل عليها بالإيمان بالرب يسوع والمعمودية التي بها نثبت ونتحد بالمسيح الإبن فنصير أبناء لله الآب) الأمر الذي كان ناموس موسى عاجزا عنه.
وحينما يتحدث الرسول هنا عن الإيمان وحده دون الأعمال فهو لا يتحدث عن الجهاد الروحي النابع عن الإيمان الحق (جهاد ايجابي وجهاد سلبي) ولا يتحدث عن أهمية الأعمال والجهاد حتى تعمل النعمة في المؤمن المعمد بل هو يتحدث عن
أ- الأعمال الناموسية في حرفيتها، فقد كان الخلاف بين عنصري الكنيسة الأولي من متنصرين يهود ومتنصرين من الأمم لا في أمر الجهاد الروحي وإنما أعمال الناموس، إذ طالب اليهود المتنصرين التزام الأمم بأن يتهودوا أولاً بالختان وممارسة الغسلات اليهودية والتطهيرات حتى يُقبلوا في الإيمان المسيحي. والرسول يهاجم هذه الحركة التي ترد المؤمن إلي حرفية الناموس ومظهرية إتمام أعماله.
ب- أعمال الإنسان قبل الإيمان بالمسيح فمهما عمل الإنسان من بر دون إيمان بالمسيح، فهذا لا فائدة منه، فالداخل نجس (أر9:17).
ج- الأعمال التي يعملها المؤمن ويتفاخر بها علي أنها السبب في خلاصه، وهذا يعتبر بر ذاتي، سقط فيه اليهود إذ كانوا يبحثون عن بر أنفسهم (رو3:10) أما الرسول فلقد ركز علي الإيمان الحي العملي العامل بالمحبة (غل6:5) والذي به يرتبط المؤمن بربنا يسوع ويتحد معه بالمعمودية (رو5:6) ويصلب معه (رو6:6) ويقوم معه (رو5:6) ويحيا معه (رو8:6) ويتمجد معه (رو17:8) ويرث معه (رو17:8) ويتألم معه (رو17:8). لقد مات إبن الله عوضاً عنا لأجل غفران خطايانا والآن يحيا فينا لأجل تحريرنا من سلطان الخطية. نحن الآن نحيا بحياته فينا فنخلص (غل20:2 + رو10:5). حياته فينا هي التي تعطينا أن نصبح خليقة جديدة لا سلطان للخطية عليها.
2. عمومية الخلاص:
إيمان الرسول بولس بالسيد المسيح زعزع أساسات فكره المتعصب، فبعد ما كان مثل كل اليهود يعتنق فكرة أن العالم كله قد خلق من أجل الرجل اليهودي ولخدمته، أدرك حب الله الشامل لكل البشر بغض النظر عن جنسيته أو جنسه أو إمكانياته أو سلوكه، جاء المسيح لليهودي كما للأممي، للرجل كما للمرأة، للطفل كما للشيخ، جاء يطلب الخطاة والفجار ليقدسهم له. جاء لأجل الجميع. لذا تكررت كلمة "الجميع" أو ما يماثلها حوالي 70 مرة في هذه الرسالة. وفند الرسول حجة اليهود أنهم أبناء إبراهيم أب الأباء، فطالبهم بالبنوة الروحية له بحمل إيمانه، بل رفعهم للبنوة لله وهذه تهب الحرية الداخلية. وفند حجتهم أنهم مستلمو الناموس معلناً أن غرض الناموس أنه كان فقط كمرآة تفضح الخطايا والعيوب ولكن لا قوة للناموس أن يغير طبيعتنا. الناموس أعلن الحكم عليهم بالموت، ولكن قادهم إلي المخلص واهب الحياة. وهذا هو هدف الناموس (رو4:10). وأخيراً فند حجتهم أنهم شعب الله المختار ليعلن بسط الله ذراعيه للعالم كله ليضم له شعباً لم يكن يعرفه، ويجعل من الأمم التي كانت غير محبوبة، محبوبة له بإيمانها به بعد جحود طال زمانه... فالله خالق الكل والمهتم بخلاص الجميع.
10 - كلمات تكررت في الرسالة:
هناك مصطلحات تكررت في هذه الرسالة وهي "النعمة والبر والقداسة" والرسول لا يقدم تعاريف نظرية ومفاهيم فكرية، إنما تشعر وكأنه يود أن يدخل بكل مؤمن إلي التمتع بهذه النعم والعطايا الإلهية التي إختبرها هو.
أولاً: النعمة charisma
إذ يعالج الرسول بولس موضوع "عمومية الخلاص" يكثر الحديث عن النعمة كمقابل لأعمال الناموس الحرفية، فقد أراد اليهود أن يتبرروا بأعمال الناموس لكن جاء السيد المسيح ليهب النعمة المجانية لكل البشر للتبرير (أف5:2-9) ولقد استخدم الرسول كلمة "نعمة" مقابل كلمة "أجرة". فما نناله من الله ليس أجرة عن عمل نمارسه، إنما هو هبة مجانية قدمها الله خلال ذبيحة الصليب وهي نابعة عن فيض حبه الإلهي. ولاحظ أننا لو تكلمنا عن الأجرة في حديثنا مع الله، فمن صلي أو صام ثم يطلب أجرة يذكر له الله خطاياه.. وأجرة الخطية موت. أما من يشعر ويؤمن أنه حصل علي البنوة، صار إبناً لله وحصل علي النعمة التي غيرت طبيعته، تجده يصوم ويصلي عن حب إبن لأبيه غير طالباً اجرة من أبيه، ومن يطلب الأجرة فهو مازال يعيش بالفكر الضيق اليهودي. أمّا من عاش شاعراً بمحبة المسيح، متمتعاً بعمل النعمة فيه التي غيرت مركزه كإبن، لا كعبد يطلب أجرة عن أعماله، فهذا له حياة أبدية (رو23:6 + رو15:5).
ويلاحظ أن كلمة نعمة "خاريزما" هي تعبير عكسري، يستخدم عندما يتولي الإمبراطور العرش أو يحتفل بعيد ميلاده حيث يهب جنوده عطايا مجانية خلال كرم الإمبراطور وسخائه، هي ليست في مقابل عمل معين عملوه. وكأن السيد المسيح إذ إرتفع علي عرش الصليب وملك علي النفوس قدم نعمة لكل البشر، هي عمله الخلاصي الذي يتركز في حلوله في النفس لتثبيت المؤمن فيه بروحه القدوس فينعم بالأحضان الأبوية. هذه هي عطيته أن يتمتع المؤمن بالثالوث الأقدس في استحقاقات الدم الثمين، ليحمل الصورة الإلهية وينعم بسمات سماوية فائقة. والسؤال هنا.. أي عمل عمله الإنسان ليستحق كل هذا؟ بل كانت أعمال الإنسان كلها نجاسة!! لذلك نفهم أن فداء المسيح وإرسال الروح القدس للكنيسة هي نعمة مجانية ليست في مقابل أي عمل عمله إنسان ما.
ويري القديس البابا أثناسيوس الرسولي أن هذه النعمة الإلهية التي تجلت في كمال قوتها بالصليب ليست بالأمر الجديد، فعند الخلقة اقام الله بالنعمة الخليقة من العدم إلي الوجود وبنعمته ميّز الإنسان عن باقي الخليقة، بل خلقه علي صورته ومثاله. بل من نعمته وهبه الوصية حتي لا يفقد الفردوس. بل يحيا فيه للأبد بلا حزن ولا ألم ولا قلق بل في فرح دائم. وعندما فقد الإنسان النعمة الإلهية جاء إبن الإنسان متجسداً ليرد للإنسان ما فقده بتجديد طبيعته بنعمة أعظم.
وهناك تعريف لأحد الدارسين "النعمة هي قوة الله المودعة في يدي الإنسان مجاناً.. لكنها لا تُعطي بدون شرط، وهي تهيئ الإنسان بالروح القدس لتقدمة الخلاص للتمتع بالحياة الأبدية الجديدة النهائية، المعلنة والمدبرة في الكتاب المقدس.. بواسطة يسوع المسيح والمقدمة للعالم كله"
لذلك نفهم أن هناك نوعين من النعمة
1. عمل المسيح وفدائه (تجسده وصلبه وقيامته) وإرسال الروح القدس هذه نعمة مجانية موجهة لكل العالم، وهي متاحة لكل من يؤمن.
2. النعمة التي هي قوة التغيير التي تغير المؤمن وتصيره خليقة جديدة وهي عمل الروح الذي يسكن في المؤمن، حتى يغيره إلي صورة المسيح (غل19:4). هذه النعمة متوقفة علي جهادنا. فالنعمة لا تنزع حرية الإرادة. من هنا نفهم أن جهادنا الروحي (السلبي والإيجابي) نحن لا نقدمه كثمن للنعمة وإنما كإعلان عن جدية قبولنا وتجاوبنا مع نعمة الله المجانية، أما المقاومون والمعاندون فإنهم يخسرون عمل النعمة فيهم، الذين يمتنعون عن الجهاد الروحي، أو الذين يجرون وراء شهواتهم الحسية أو خطاياهم معاندين صوت الروح القدس، هؤلاء يخسرون عمل النعمة فيهم، بل ويشتكون من سطوة الخطية عليهم. إن الجهاد ضروري لخلاصنا حتي لا نخسر نعمة الله المجانية. لكننا لا نحسب جهادنا أو أعمالنا الصالحة براً ذاتياً من جانبنا. فالمؤمن لا يعرف شماله (الإفتخار بعمله) ما تفعله يمينه (جهاده وأعماله الصالحة).
إذاً لنقبل نعمة الله ومبادرته بالحب.. هذه النعمة تعمل فينا لتقديس مشيئتنا وأعمالنا. وبجديتنا في تقديس المشيئة والعمل ينفتح القلب أكثر لقبول العمل الإلهي، وهكذا نرتفع من مجد إلي مجد، ونمارس الحياة المقدسة بجهاد وتعب خلال النعمة المجانية.
النعمة إذاً هي عطية الله الآب وتدبيره الخلاصي التي يقدمها لنا في إبنه يسوع المسيح الذي بالصليب حملنا فيه لننعم بما له. ووهبنا روحه القدوس روح الشركة الذي يسكن فينا، الذي يرفعنا إلي الأحضان الأبوية كأبناء مقدسين في الحق. بهذا إرتبطت كلمة النعمة في ذهن بولس الرسول بعمل الله الخلاصي المجاني، غايتها أن ترفعنا من حالة ما تحت الناموس أي تحت أحكامه إلي حالة البنوة ومركزنا الجديد (رو2:5)
وهناك حالات من عطايا الله ونعمته التي يعطيها للبعض مثل نعمة الرسولية التي وهبها الله لبولس الرسول (رو15:15)
وفي الفقرة القادمة نري رسماً يوضح حالة الإنسان ما قبل الناموس وما بعد الناموس وما بعد النعمة نري فيه ضرورة الجهاد حتى تعمل النعمة عملها في كبح الشهوات الخاطئة وتجعل الخطية كأنها ميتة (رو3:8). لكن إذا قَصّر الإنسان في جهاده تنطفئ النعمة (1تس19:5) وبهذا تسود الخطية الإنسان.
عمل النعمة:
* إنسان ما قبل المسيح وما قبل الناموس
+ الضمير هو الناموس الطبيعي
نجد هنا أن ناموس الخطية له قوة ضاغطة على الإنسان.
والضمير يقاوم الخطأ ولكن ناموس الخطية له سطوة.
* الإنسان في عهد ناموس موسى
+ صار الناموس بما له من قوة تأديب وعقاب مساعداً للناموس الطبيعي ضد ناموس الخطية. لذلك قال بولس الرسول أن الناموس مؤدبنا إلى المسيح (رو24:3) "أعطيتني الناموس عوناً"
* المؤمن المسيحي
ثانياً: التبرير
الخاطئ خاطئ بطبعه، وكلنا خطاة بالوراثة من أبينا آدم. فأنا كنت في آدم حين أخطأ. وحيث أنني ولدت من آدم فأنا جزء منه، جزء خاطئ مولود بالخطية (مز5:51) وليس في سلطاني أي شئ لأفعله لكي أغيّر هذه الطبيعة أو هذه الحقيقة، حتى لو حاولت تحسين سلوكي. فلو كان جدي قد مات وهو في سن الثالثة، ما كنت أنا قد وجدت أصلاً بل كنت أنا قد مُتُّ فيه أيضاً، فأنا كنت في آدم حين أخطأ ففسدت طبيعته وورثت أنا منه طبيعته ونتائج خطيته. (هذا ما يسمي وحدة البشرية، فكل البشرية خارجة من شخص آدم). وصار مستحيلاً علي أي إنسان أن يحيا باراً. ليس فقط لا يصنع الشر بل أيضاً يصنع البر، صار مستحيلاً علي أي إنسان أن يمتنع عن السلبيات أو أن يفعل الإيجابيات. وشعر الإنسان بفشله في أن يتبرر أمام الله "ليس بار ولا واحد" (رو10:3). وخلال الناموس الطبيعي صرخ أيوب التقي فكيف يتبرر الإنسان عند الله (أي2:9+ أي14:15-16 +25: 4-6 + مز134)
والله أعطانا الناموس عوناً، لكن الناموس كشف الخطايا كالمرآة ولكن لم يكن ليستطيع أن يغير من طبيعتنا فنصنع البر، ولذلك لم يستطع أي إنسان في ظل الناموس الموسوي أن يلتزم به، فإنه إذ يكسر الإنسان وصية واحدة ولو بالفكر أو بالنية يحسب كاسراً للناموس ولا يتبرر. بل كان الناموس نير لم يستطع أحد من الآباء حمله (أع10:15) لكن اليهود حاولوا أن يتبرروا في أعين أنفسهم، حاسبين أن البر يكمن في إنتسابهم لإبراهيم أبيهم جسدياً أو حفظهم حرفياً لأعمال الناموس أو إنتمائهم لشعب الله المختار إياً كانت حياتهم.. وكانت النتيجة انهم سعوا وراء بر الناموس الذي يقوم علي حفظه شكلياً (رو22:10). ولم يفهموا أن الناموس كان غرضه أن يشعروا بضعفهم وعجزهم وإحتياجهم لمخلّص. وهذا ما أدركه داود إذ صرخ "قائلاً قلباً نقياً إخلقه فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في أحشائي" (مز51).
والبر في الكتاب المقدس يعني عمل الصلاح والخلو من الخطيئة. ولذلك فالبر هو صفة الله وحده القدوس الذي بلا خطية. لذلك حين سأل الشاب السيد المسيح قائلاً أيها المعلم الصالح، كان رد المسيح "ليس صالحاً إلا الله وحده" وهذا ليلفت نظره أن البر هو صفة الله وحده. أما اليهودي فكان يفتخر بأنه بار بحسب الناموس (في6:3 + رو19:3،20). ومن هذا نفهم أن اليهود لم يكونوا فقط يفتخرون ببرهم، بل يحبون أن يعطوا أنفسهم ألقاباً رنانة تدل علي صلاحهم وبرهم. ونفهم أيضا من رد المسيح علي الشاب أنه يصحح هذه المفاهيم، فالبر في المفهوم اليهودي كان هو الإلتزام بوصايا الناموس، وكانوا يحاولون الإلتزام بها رغماً من فساد الداخل ووجود الكبت داخلهم وإشتهاء الخطية. وكان من يلتزم خارجياً بوصايا الناموس يسقط في خطية البر الذاتي وهي كبرياء أعمي إذ كانوا لا يروا فساد الداخل لذلك شبههم السيد بالقبور المبيضة من الخارج وداخلها عظام أموات ونجاسة، فاليهود إذ ظنوا أن التزامهم بحرفية الناموس يبررهم كان ذلك سبباً في إعجابهم بذواتهم، وبهذا فهم نسبوا البر لذواتهم. لذلك فهنا السيد المسيح يلفت نظر الشاب أن البر هو لله وحده. والمعني من وراء هذا.. لا تبحث عن البر والصلاح في تنفيذ وصايا بل في وجود الله داخلك. ويعني أنه لا داعي أن تقول عني صالح إن لم تؤمن بأنني الله، وإيمانك بأنني الله هو الذي سيعطيك الحياة الأبدية. وهذا ما أتي المسيح لأجله. فالمسيح أتي لا ليعطينا وصايا جديدة بل يعطينا حياته ويكسونا ببره بعد أن يطهرنا بفدائه، ألبسنا المسيح رداء بره فصار العدل الإلهي ينظر إلينا من خلال بر المسيح. بإختصار التبرير في المسيحية هو إكتساب بر المسيح، لأن الإنسان لم يستطع أن يكون باراً بالطبيعة (بالناموس الطبيعي) ولا بالناموس الموسوي. فناموس موسى لا يؤدي للخلاص، بل هو كان مؤدبنا إلي المسيح، بينما كان للخطية سلطان رهيب في ظل الناموس، ومن يمتنع عن الخطية يمتنع خوفاً من عقوبات الناموس مما يسبب كبت. أما بر المسيح فهو تجديد شامل للحياة وتطهير للضمائر بدم المسيح (عب14:9 +22:10). ونري في رسالة رومية تبرير المسيح المجاني (24:3،25+ 9:5 +غل16:2). ومعني الخلاص المجاني والتبرير المجاني أن المسيح قدم نفسه ذبيحة عنا ليس لبر فينا، بل مات عنا ونحن بعد خطاة (رو8:5) وقولنا أن الله بار فهذا يعني أنه قدوس، وأنه بار في وعوده لنا (رو3:3،4) رغم ان البشرية لم تتجاوب مع عمله الخلاصي.
كيف يتبرر الإنسان
الله هو الذي يبرر أي يعطي بره للإنسان، وهذا ما عمله المسيح إذ مات عنا فإستوفي حق العدالة الإلهية عنا، فغفرت خطايانا، وقام ليقيمنا معه، معطياً لنا حياته وبره نحيا بهما، فالبر هو تجلي سمات المسيح في حياتنا. الحياة في بر مستحيلة علي الإنسان دون عمل المسيح ونعمته.
التبريئ والتبرير
يبرئ: أي يصير الشخص بلا إتهام.
يبرر: أي يحيا الإنسان يعمل أعمال بر عن شغف وحب وحرارة.
مثال:- رجل ضبط امرأته في وضع خيانة له فسلمها للقضاء ليحكم عليها. هذا كان وضعنا قبل المسيح. ولنتصور أن القضاء حكم علي المرأة بالبراءة (هذا عمل دم المسيح الغافر) لكن هذا لا يكفي المرأة إذ هي ما زالت محرومة من بيتها وأولادها. هنا يأتي المعني الكامل للتبرير، فهذا ليس معناه غفران الخطايا فقط بل أن المسيح أعطانا حياته متحداً بنا لنحيا في بر كأولاد الله، من أهل بيته (هذا يشبه رجوع المرأة لبيتها). التبرير إذاً ليس فقط هو غفران الخطايا، بل كون أن المؤمن يصير مزكي عند الله، من أهل بيت الله، إبنا لله، وأولاد الله يحيون ليصنعوا البر فهم علي صورة الله، وهذا لا يمكن أن يكون بقوة عمل الإنسان بل بأن يحيا المسيح الإله فينا معطياً لنا حياته. وهذه الأعمال البارة التي يقوم بها المؤمن هي التي تنفعه يوم الدينونة حيث يجازي الله كل واحد بحسب أعماله (رو6:2-8). إذاً التبرير هو في معناه الكامل رفع الغضب عنا وسكب رضي الأبوة الإلهية بكل عطاياها، وهذا كان بأن المسيح غفر خطايانا بدمه والآب صالحنا في الحال لنفسه.
ولكن ليس معني أن المسيح أعطانا حياته لندخل إلي بره أن نتهاون أو يكون إيماننا لفظياً (فينطبق علينا قول الكتاب هذا الشعب يسبحني بشفتيه فقط أمّا قلبه فمبتعد عني بعيداً (مت8:15). لكن الله يطلب الإيمان العامل بالمحبة (غل6:5). ولنلاحظ أهمية الجهاد حتي يكون لنا هذا البر. ولاحظ الآية "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل20:2) من هنا نفهم أن شرط ان يحيا المسيح فيّ أن أقبل صلب أهوائي وشهواتي الخاطئة. وكما أن الروح القدس يبكتنا علي خطية فهو يبكتنا علي بر أي يبكتنا لو لم نصنع البر. فالروح يبكت أولاً علي خطية أي يقنعنا بفساد طريق الخطية ثم يعطينا معونة حتي نترك خطيتنا ثم يبكت علي بر أي يقنع الإنسان المؤمن بأن يصنع البر وحين يقتنع يعطيه المعونة ليفعل البر "فالروح يعين ضعفاتنا" (رو26:8). فالروح القدس الذي فينا يحولنا دائماً لصورة المسيح البار (غل19:4) نرفض الشر ونصنع البر. فالبر في سلبيته هو توقف عن عمل الشر وفي إيجابيته هو حمل سمات المسيح عاملة فينا. ولاحظ أهمية أن نجاهد بأن نعمل أعمال بر، فالروح لا يعين المتراخين. لذلك فهذه الرسالة التي تكلمنا عن البر المجاني، تهتم بأن تظهر أهمية أن نجاهد لنعمل البر (إصحاحات12-15).
طريق التبرير والتقديس والتمجيد:
هنا ننتقل لمرحلة العيان ونرى الله وجهاً لوجه
القيامة والحصول علي الجسد الممجد (1كو43:15) هذا هو المجد العتيد ان يستعلن فينا (رو18:8).
الموت بالجسد (رو24:7).
من يسكن الله فيه فهذا هو المجد (زك5:2) ولكن مالنا من المجد الآن فهو مخفي غير ظاهر.
من يتقدس يصير مسكناً للثالوث (يو23:14) + (1كو16:3).
التقديس هو أن نتخصص ونتكرس لله وتصير أعضائنا تعمل لحساب مجد إسمه.
كلما نسير في طريق التبرير تموت أعضائنا عن الخطية فلا تكون آلات إثم بل تتخصص لله وتكون آلات بر (رو13:6).
التبرير طريق التقديس
بهذا يتحقق "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل20:2) .
الروح يأخذ من بر المسيح وحياته ويعطي للمؤمن (2كو21:5) الروح يبكت علي بر (يو8:16) أي يقنع المؤمن بأن يعمل أعمال بر إيجابية.
عمل الروح القدس (النعمة) يعطي للمؤمن قوة ليصلب شهواته فيُصلَبْ مع المسيح.
الروح القدس يقنع المسيحي بفساد طريق الخطية (أر7:20).
الروح القدس يبكتنا علي كل خطية نرتكبها (يو8:16) ثم سر الإعتراف.
بالمعمودية نصير أولاداً لله ثم بالميرون يحل علينا الروح القدس.
بالمعمودية غفران الخطايا وبهذا يتبرأ الإنسان من خطيته (رو7:6).
الخطوة الثانية هي المعمودية وهي موت وقيامة مع المسيح (رو3:6-8).
المدخل للتبرير هو الإيمان "وإذ قد تبررنا بالإيمان" (رو1:5).
ثالثاً: التقديس
القداسة سمة خاصة بالله نفسه الذي يدعو نفسه القدوس (لا44:11،45 + 26:20 + 2:22 + ابط16:1). وهو يسكب هذه السمة علي خليقته المحبوبة لديه فيحسبهم قديسين ناسباً نفسه إليهم بدعوته قدوس القديسين (دا24:9) ويسمي شعبه سواء في العهد القديم أو الجديد أمة مقدسة (خر6:19 + ابط9:2). والروح القدس يسمي روح القداسة هو الذي يهبنا الحياة المقدسة بأن يدخل بنا إلي الثبوت في المسيح القدوس، فنحمل سماته فينا ويتحقق القول أن نكون قديسين كما أنه قدوس (لا44:11 + 1بط16:1). هذه الهبة المجانية تُعطي للمجاهدين لا ثمناً لجهادهم، وإنما من أجل تجاوبهم مع فيض نعمة الله المجانية ليسلكوا في القداسة. والرسول يدعو المؤمنين المجاهدين "مدعوين قديسين" (رو7:1) ليس لأنهم بلغوا الحياة المقدسة في كمالها وإنما لأنهم يسيرون فيها مشتاقين البلوغ إلي كمالها. وقولنا أن الله قدوس تعني أنه المرتفع عن كل العالم والأرضيات والماديات. والمكان الذي يحل فيه الله يصير مقدساً بمعني أنه لا يُقترب منه إلاّ بشروط (خر5:3) لذلك ابتدأت تتسحب القداسة علي كل ما يخص الله علي الأرض، فالهيكل وأدواته والكهنة والأعياد والسبت، والشعب وأورشليم بل كل أرض فلسطين هي مقدسة. فالله نقول عنه قدوس بمعني الذي يتسامي عن الأرضيات، وما يقال عنه مقدس فهو الذي صار مخصصاً لله. والإنسان المقدس أي الذي يصير مخصصاً لله بفكره وحواسه وأعضاؤه، منشغلاً بالسماويات وبالله، مكرساً نفسه لله. والتقديس يأتي بعد التبرير فيستحيل أن يقال عن قديس أنه لم تغفر خطاياه. القديس تتحول أعضاؤه تدريجيا لآلات بر مخصصة لله بدلاً من أن تكون آلات إثم تعمل لحساب العالم.
آية(1): "بولس عبد ليسوع المسيح المدعو رسولاً المفرز لإنجيل الله."
بولس= هي كلمة لاتينية معناها الصغير، فمن عادة العبرانيين تسمية الشخص بإسمين. وبولس كان إسمه أيضا شاول وتعني مطلوب من الله. ويقول أغسطينوس أن بولس كان نحيف الجسم قصير القامة. وهو فضّل استخدام إسم بولس من قبيل التواضع ومشيراً لأنه أصغر الرسل.
عبد ليسوع المسيح= كان معلمي اليهود يتفاخرون بألقاب مثل سيدي أو معلمي واليهود عموماً يتفاخرون بيهوديتهم والأمم بفلسفاتهم، أما بولس فيعلمهم أنه يفتخر بكونه عبداً للمسيح. وإذا كان الكل عبيداً للمسيح فلماذا يتفاخر اليهودي علي الأممي أو الأممي علي اليهودي. وهو عبد للمسيح لأن المسيح إفتداه وإشتراه بدمه وفكه من الأسر وصار ملْكاً لهُ. ونفهم أن العبودية للمسيح تحرر، ولا يمكن أن يكون الإنسان عبداً للمسيح حقيقة ما لم يختبر في الوقت نفسه الحرية الحقيقية. إن عبد المسيح لا يستعبد لأي إنسان آخر ولا حتي لشهوات جسده الخاصة، ولا يستطيع أحد أن يبعده عن تأدية واجبه، ولا تسيطر عليه عادة معينة، ولا يستطيع العالم أن يغريه بمفاتنه أو أن يجذبه إليه. أنه يعيش في الأرض كإنسان سماوي، وبعد أن كان عبداً للخطية صار كاهناً وملكاً. هو يعيش في الجسد ولكن يسلك في الروح ليسوع المسيح. وهذا ما جعل حتى إخوة المسيح بالجسد يفتخرون بأنهم عبيد له، ولم يفتخروا بكونهم أقرباء له بالجسد (يه1 + يع1:1). فبولس بعد أن ظهر له المسيح في الطريق شعر أنه صار مكرساً للمسيح يسوع من كل قلبه ونفسه وجسده. المدعو رسولاً= كأن لا فضل له في إيمانه ولا إرساليته بل هي دعوة من الله. وهو يسمي نفسه رسولاً مثل الإثني عشر. وتظهر أهمية هذه العبارة خصوصاً في الرسائل التي حاول أهلها ان يتنكروا لأحقية بولس الرسول في الخدمة وبهذا يشككوا في تعاليمه. وكان بولس مضطراً لأن يثبت أنه مرسل من الله لإثبات صدق تعاليمه لتثبيت المؤمنين.
المفرز لإنجيل= مفرز تعني بريسي بالآرامية ومنها فريسي (فريزي) أي مختار أو معين. أي أن بولس إنتقل من فريسيته اليهودية إلي فريسية أخري بنعمة الله، هي فريسية الإنجيل، أي أن الله إختاره وأفرزه لكي يبشر بالإنجيل. وكان الفريسيون اليهود مفروزون لدراسة الناموس، وكلمة فريسي تناظر دكتوراه في اللاهوت. وكان بولس أحد هؤلاء الفريسيين. والله بسابق علمه أفرزه وعينه للتبشير بالإنجيل. وكانت تلمذته لغمالائيل نوع من الإعداد، ولكن الله سبق وأفرزه من البطن (غل15:1 + أع2:13 + أر4:1 ،5) لإنجيل الله= إنجيل تعني بشارة مفرحة. وهنا يقول إنجيل الله. وفي مواضع أخري يقول إنجيل يسوع المسيح (رو9:1 إنجيل ابنه). فالله هو مصدر الخلاص بيسوع المسيح، جوهر الإنجيل أو جوهر البشارة المفرحة هي في مجيء الرب يسوع وفدائه للبشرية. الله قد سبق منذ القديم وأعد برنامج الخلاص المفرح للبشر الذي تحقق بمجيء المسيح له المجد.
والقديس إمبروسيوس لاحظ أن اسم المسيح في هذه الآية قد استخدمه الرسول قبل إسم الله في الترتيب، وإستخدم هذا في الرد علي آريوس أن الله والمسيح متساويان. وهذا يتضح أيضاً من كون أن الإنجيل هو إنجيل الله وإنجيل ابنه في نفس الوقت (آية1، آية9).
آية (2): "الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة."
الكتاب المقدس موحى به من الله. وهذه الكرازة بالخلاص سبق الله فوعد بها في القديم بواسطة الأنبياء، فقبل أن يعمل الله أعمالاً عظيمة يسبق ويهيئ لها زماناً طويلاً، هذا بالإضافة إلي أن نبوات الأنبياء عن الخلاص بالمسيح تشير لأن هذا الخلاص هو خطة أزلية، وأن الله قد أعد خلاص البشر منذ الأزل. وبولس هنا يطمئن سامعيه أن إنجيله الذي يبشر به قد وضعت أساساته منذ البدء. وأن كرازة بولس لا تتعارض مع الكتاب المقدس لليهود بل هي تفسره وتشرحه.
آية (3): "عن إبنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد."
عن إبنه= عن راجعة للآية السابقة، فوعود الأنبياء كانت عن المسيح ابنه. الذي صار من نسل داود= وقارن مع (رو3:8) لنرى سبق وجود الإبن قبل التجسد. ويلاحظ في كلمة إبنه انها في أصلها اليوناني مسبوقة بأداة تعريف، إشارة إلي بنوة المسيح الوحيدة الفريدة، التي بالطبيعة وليست بالتبني مثلنا. وهذا الإبن الأزلي الذي هو إبن الله صار إبناً للإنسان = من جهة الجسد= فالمسيح له بنوتان، بنوة لله وبنوة للإنسان هو إبن الله وإبن الإنسان. من نسل داود= فالعذراء مريم من نسل داود. وقيل عن المسيح أنه من ذرية داود (رؤ16:22).
صار= أخذ حالة جديدة علي حالته، إتحد لاهوته بناسوته كإتحاد الحديد بالنار، ولكن لاهوته لم يتأثر ولم يتحول إلي ناسوت، وناسوته كان ناسوتاً كاملاً، شابهنا في كل شئ ماعدا الخطية وحدها. لقد إنتقل من حالة إبن الله غير المنظور (بلاهوته) إلي حالة إبن الله المنظور في الجسد. ولم يظهر للناس سوي أنه إنسان عادي. حينما أخذ جسداً أخفي لاهوته، ولكن لاهوته ظل كاملاً دون أن يزيد أو ينقص، فهو كامل مطلق لأنه الكل. ولكن بقيامته ظهر أنه إبن الله.
آية (4): "وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع المسيح ربنا."
تَعَّينَ= أي ظهر ما كان مخفياً. هذه لا تعني أنه صار فيما بعد إبن الله. بل لقد ظهرت لنا بنوته لله بواسطة قوة فائقة للطبيعة ويشهد لهذه البنوة قيامته من الأموات. كلمة تعَّين تعني أتضح انه /ظهر/ شُهِدَ لهُ/ صدق علي أنه/ تبين أنه/ إعترف بأنه/ تحقق بأنه ابن الله.
بقوة= الإعلان عن بنوة المسيح لله وإثبات لاهوته جاء بقوة. فالقيامة كانت بقوة بالقيامة من الأموات= فالقيامة من الأموات والإنتصار علي الموت عمل قوي جداً. من جهة روح القداسة= روح القداسة ليس هو الروح القدس. فالروح القدس لم يكن هو الذي أقام المسيح، لأن المسيح كان لاهوته متحداً بناسوته، والذي أقامه هو لاهوته. ولماذا قال روح القداسة؟ هذا يعني أن سبب قيامة المسيح هو إنتصاره علي الخطية، إذ كان بلا خطية، فالخطية هي التي تأتي بالموت، ولأن المسيح كان بلا خطية "من منكم يبكتني علي خطية" ولأنه إنتصر علي إبليس في حروبه ولأنه قال "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شئ" لهذا انتصر علي الموت بسبب قداسته. المسيح كان وهو علي الأرض مخفياً لاهوته في ناسوته، ولم يظهر لاهوته إلا في أنتصاره علي الموت وعلي الجحيم الذي فتحه واخرج منه نفوس الأبرار. فقوله روح القداسة هذا يشير لأن الذي أقام المسيح لاهوته، ولكن ذلك راجع لقداسة المسيح بالجسد وكلمة تعيَّن هنا هي في مقابل كلمة صار في الآية السابقة.
آية (5): "الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم."
الذي به لأجل إسمه= قارن مع (أف5:1،6،12). الذي به= نحن لا نحصل علي شئ من الآب إلا من أجل المسيح. لذلك يطلب منا المسيح أن نطلب من الآب بإسمه (يو24:16،26). ولذلك تضيف الكنيسة علي الصلاة الربانية "بالمسيح يسوع ربنا" فنحن لا يمكن قبولنا أمام الآب ولا قبول طلباتنا إلاّ بالمسيح. ومعني كلام الرسول هنا أنه أخذ ما أخذ من خلاص ورسولية بالمسيح. وما الهدف؟ لأجل إسمه= أي ما أخذنا فلنعمل به ونتاجر به لأجل مجد اسمه. وماذا أخذ بولس الرسول؟ نعمة ورسالة= نعمة (إرجع للمقدمة) ورسالة= أي إرساليته كرسول للأمم.
نعمة= هنا بولس يشير لعمل النعمة فيه التي حولته من مضطهد للكنيسة إلي مسيحي حصل علي الخلاص، بل وإلي رسول. إن الله دعاه ويداه ملوثتان بالدماء ليغير طبيعته فيصير في المسيح خليقة جديدة (2كو17:5). وعمله كرسول كان من أجل الأمم ليطيعوا الإيمان: لإطاعة الإيمان= نري بولس الذي يشعر بنعمة الله التي غيرته، يري أن الله قادر أن يغير الأمم أيضاً فيؤمنوا ويطيعوا الله. إطاعة الإيمان= تعني أننا يجب أن نتقبل قضايا الإيمان وحقائقه بكل خضوع، فحقائق الإيمان هي أمور موحى بها وليست للمناقشات العقلية، علينا ان نخضع الذهن لإعلانات الله بالصلاة في جميع الأمم= الرسالة هي لكل الأمم بلا إستثناء.
آية (6):"الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح."
ومن بين هؤلاء الأمم فإنكم يا أهل رومية مدعوين لكي تكونوا من خاصة المسيح. ولا فضل لأحد في هذه الدعوة بل هي نعمة الله المجانية التي لو قبلها أحد لآمن بالمسيح. وهذه النعمة هي به ولأجل اسمه (آية 5).
آية (7): "إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح."
مدعوين قديسين= المسيحية عند بولس هي قداسة، والإيمان بالمسيح هو تقديس، والمؤمنين بالمسيح قديسين، أي مفروزين عن العالم ليلتصقوا بالله، ويكونوا مخصصين له. وقد قبلوا روح الله ليعينهم علي ذلك، وعلي أن يحيوا بالتقوي والطهارة والقلب العابد. والقداسة هي سلم نصعد عليه فليس الكل قد وصل للكمال، بل القداسة درجات. وقوله مدعوين= إذاً هم مثله، فهو أيضاً مدعو (آية1). فهو يفتخر بخدمة أحباء الله المدعوين.
نعمة لكم وسلام= كلمة نعمة هي تحية اليونانيين وكلمة سلام هي تحية اليهود، فهو يكتب للإثنين. ولكن بمعني آخر فالنعمة هي عمل الروح القدس في المؤمن والذي نتيجته السلام، لذلك فالنعمة تسبق السلام رو 1:5 والنعمة هي أعمال رحمة الله عموماً، الفداء وإرسال الروح القدس، وكل الخير الذي أعطاه الله لنا، والخير الأعظم هو إرسال الروح القدس، ومن نعمة الله غفران خطايانا ومنحنا رتبة البنوة. ومن الله أبينا والرب يسوع المسيح= هذه تشير لتساوي الآب والإبن فالنعمة والسلام يصدران عن كليهما.
آية (8): "أولاً أشكر الهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم."
الرسول يبدأ بالجانب الإيجابي ليشجعهم، فهو هنا يمدح إيمانهم قبل أن يبدأ الهجوم. وبولس لم يراهم، ولكنه فرح بنمو الكنيسة في كل مكان، لذلك علينا ان نصلي لنمو الكنيسة وإنتشار الإنجيل. ولنتعلم من بولس أن نبدأ دائما بالشكر علي ما يعطيه لنا الله، وما يعطيه من خير للآخرين كأنه أعطاه لنا. إلهي= جميل جداً أن يقول إلهي. هذه مثل "أنا لحبيبي وحبيبي لي" هو يشعر بالعلاقة الخاصة التي تربطه بالله، هو إلهي وقد إمتلكني، وأنا عبده الذي يشعر بمحبته فأسلم نفسي له كعبد لثقتي في محبته. والله يرد في المقابل ويقول أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب.
بيسوع المسيح= فنحن غير مقبولين أمام الآب إلا بالمسيح موضع سروره. إيمانكم= هم لهم إيمان ولكننا سنري أن بولس يريد أن يصحح مفاهيمهم ويخلصهم من تعاليم الناموس. ولكن واضح أن إيمانهم ذاع وانتشر في كل العالم.
آية (9): "فان الله الذي أعبده بروحي في إنجيل إبنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم."
أعبده بروحي= وقارن مع عبادتكم العقلية (رو1:12). وطالما نسمع هنا عن عبادة بالروح، فقطعاً توجد عبادة بالجسد. هذه هي عبادة الفروض والواجبات، هي ممارسات بدون قلب. كمن يصوم ويتباهي أمام الناس أو حتى أمام نفسه بأنه صام أكثر من الجميع، وهكذا في مطانياته وصلواته ولكن مثل هذا يُعِّرفْ شماله ما تفعله يمينه. وخطورة هذا النوع من العبادة أنه لو صادفت هذا الإنسان تجربة، سريعاً ما يلوم الله أنه سمح له بهذه التجربة، ولم يذكر له خدمته وعبادته وأصوامه وصلواته.. وهذه جربها بولس الرسول في يهوديته (فهذه طريقة الفريسيين في العبادة) ولم تشبعه ولم تعطه فرحاً وسلاماً.
أمّا العبادة بالروح، فهي عبادة يقودها الروح، هي عبادة في القلب، ولا تظهر أمام الناس، بلا مظاهر ولا إدعاء، بل في إنسحاق للقلب وخضوع لصوت الروح القدس، والروح القدس لا يجبر أحد علي شئ، بل هو يقنع الإنسان المؤمن إقناعاً عقلياً بكل ما سيقوم به في عبادته (لذلك فلقد سميت عبادة عقلية رو1:12) وبهذا تكون العبادة بحرية الإرادة أي بكامل حريتنا، وبإرادتنا، وبإختيارنا، من كل القلب وبكل رغبة وشوق ويضع الإنسان كل طاقاته الروحية والنفسية والجسدية في خدمة الله والروح يقود كل شئ، والإنسان يكرس كل شئ لله.
فمثلاً يفتح الروح عيني المؤمن علي صورة المسيح المصلوب، ويقنع المؤمن قائلاً هل تتمتع بالطعام اللذيذ والمسيح متألم، هنا يقدم الإنسان صوماً لا ليتباهي به بل ليشترك مع المسيح في ألمه، هنا يكون كأم رفضت أن تأكل لمرض إبنها، وذلك عن حب، ليس طمعاً في أجر ستحصله منه لذلك فمن يقدم هذا النوع من العبادة، لن يطالب الله حين وقوعه في تجربة، بأن يرفع عنه التجربة مذكراً الله بأعماله. فمن يعبد بالروح هو يقدم عبادته لله عن حب ليس طمعاً في اجر. ومثل هذا يتلذذ بعبادته وتشبعه عبادته، فالحب مشبع. وهكذا في الصلاة، فالإنسان يبدأ بأن يغصب نفسه (جهاد) تم تبدأ النعمة عملها فيتلذذ الإنسان بصلاته ولكن في مرحلة التغصب، يسمع المؤمن صوت الروح القدس، معلناً له حب المسيح له، لقد بذل المسيح لأجلك، أفلا تقف للصلاة وتفرح قلب الله بك. ولو إستجاب وإقتنع بصوت الروح القدس لوجد لذة في صلاته. فهل لو كان يتلذذ في صلواته سيطالب الله بأجر مع أن الله قد أعطاه هذه اللذة. لاحظ أن بولس الرسول في مسيحيته قد إختبر هذا النوع من العبادة، فإختبر الفرح والسلام الذي يفوق كل عقل. بل أن الروح القدس في هذا النوع من العبادة يعطي للمؤمن أن يشعر بمشاعر وأحاسيس حب الله فيبادله حباً بحب، وربما لا يجد كلمات يعبر بها عن هذا الحب الذي ملأ قلبه فيئن فقط (رو26:8). والعبادة بالروح لا تكون بالضرورة باللسان فقط، بل في شركة عميقة مع الله، هي شركة بلا إنقطاع تنفيذاً لقول الرسول "صلوا بلا إنقطاع" (1تس17:5). هي شركة في الإستيقاظ وهي في النوم "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش2:5) وهي في المنزل وفي الكنيسة، في العمل وفي الطريق.
ولكن من قصة إيليا (امل12:19،13) نسمع أن إيليا إستمع لصوت الله في الهدوء، فكيف نسمع صوت الله وسط ضجيج العالم. لابد لنا من وقفة هادئة في المخدع يومياً، في صلاة وفي تأمل للكتاب حتى نسمع صوت الروح القدس في داخلنا. وكيف نسمع صوت الروح القدس ونحن غارقين في الخطايا التي تغلق حواسنا الروحية، إنما لأنقياء القلب فقط إمكانية رؤية الله وسماع صوته (مت8:5) فلن نسمع صوت الروح في داخلنا ما لم نقدم توبة أولاً. وكيف نسمع صوت الروح القدس إن كنا في صلاتنا نتكلم طوال الوقت، لذلك علينا ان نصمت بعض الوقت لنعطي فرصة للروح القدس أن يتكلم. وحساسية أذاننا تزداد مع الوقت، وتضيع الحساسية إذا عاندنا صوت الروح القدس، وتزداد الحساسية حين نخضع لصوته. وإذا استمعنا لصوته يعطينا الإقناع العقلي. إذاً العبادة بالروح هي عبادة عقلية.
ومن يقدم عبادة بالجسد لا يري في نفسه غير أنه كامل، إذ أنه يفعل كذا وكذا، أما من يقدم عبادة بالروح، فإن الروح القدس يفتح عينيه علي خطاياه وعدم إستحقاقه، لذلك يقول بولس الرسول "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي15:1). وبينما من يقدم عبادة بالجسد نجده يلوم الله إذا وقعت له تجربة، نجد من يعبد الله بالروح، إذا جاءت عليه تجربة يقول أنا أستحق هذا وأكثر، لأنه يري خطاياه، بل سيشعر بفرح لأنه طالما أن الله يؤدبه، إذاً هو يحبه (عب6:12). بل إن أتاه خير يشعر بأنه لا يستحقه، كما صرخ بطرس "أخرج يارب من سفينتي" (لو8:5) إذ شعر بأنه خاطئ لا يستحق كل هذه الخيرات.
بلا إنقطاع أذكركم= الذي يصلي بالروح لا يهتم بنفسه بل هو مشغول بالآم وخلاص نفوس الآخرين، يشكر علي توبة فلان، ويبكي علي خطية فلان، لأنه سيهلك بسببها، ويصرخ لشفاء فلان، يطلب السلام للعالم المضطرب المتألم. مثل هذا سيتشبه بالله في إهتمامه بالناس.
في إنجيل إبنه= هذه العبادة بالروح تظهر أيضاً في كرازتي وخدمتي وتبشيري بإنجيل المسيح.
آية (10): "متضرعاً دائماً في صلواتي عسى الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن آتي إليكم."
هو يشعر بالمسئولية تجاه روما، فهو خائف علي الكنيسة من التهود. ولكن لنتعلم أن ليس كل ما نريده يوافق مخططات الله.
آية (11): "لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم."
أمنحكم هبة= سؤال.. هل لو كان بطرس موجوداً في روما منذ 16 سنة وقد أسس كرسيها كما يقول الكاثوليك، هل كان يصح أن يقول بولس هذا وأين بطرس؟ ولماذا لا يمنحهم بطرس هذه الهبة؟. والهبة التي يريد بولس أن يمنحها هي هبة روحية= لأنها من عمل الروح القدس، وهي تثبيتهم في الإيمان الصحيح وإبعادهم عن التهود، وهي أيضاً البركة الرسولية.
آية (12): "أي لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني."
نلاحظ هنا رقة وإتضاع بولس الرسول، فهو يظهر هنا إحتياجه لهم، وأنه سيتعزي بإيمانهم (فالمروِي هو أيضاً يروَي أم25:11) وهم سيتعزون أي يفرحون بإيمانه. ولكننا نلمح هنا أن الرسول يقول أن إيمانهم مختلف عن إيمانه، فإيمانهم إستلموه من مسيحيين من أصل يهودي ومتأثرين بيهوديتهم. لذلك ففي (15:1) يقول أنه مستعد لتبشيرهم أي تصحيح إيمانهم. فحتي الأمم منهم إستلموا الإيمان علي يد يهود، وهو يريد أن يصحح الإيمان ويلغي ما هو متهود فيه مثل لزوم الختان للخلاص.. الخ.
آية (13): "ثم لست أريد أن تجهلوا أيها الإخوة أنني مراراً كثيرة قصدت أن آتي إليكم ومنعت حتى الآن ليكون لي ثمر فيكم أيضاً كما في سائر الأمم."
الرسول لا يريد الخدمة السهلة، بل هو يريد أن يذهب ليصحح لهم إيمانهم. ولنلاحظ أنه كثيراً ما نطلب طلبات جيدة، كما طلب الرسول هنا والله يؤجل الإستجابة لوقت مناسب يراه الله (هذا أسماه ملء الزمان) ثمر= حيثما يزداد الشر يريد الرسول أن يذهب ليكون له ثمر أي مؤمنين إيماناً صحيحاً، وهذا لكي تعلن قوة الإنجيل بالأكثر.
آية (14): "أني مديون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء "
الرسول يشعر أن الله وكّله علي وكالة وأعطاه نعمة لأجل كل الأمم، وهو شعر بأن هذا دين في رقبته يود لو صفي حسابه معهم بأن يجعلهم يؤمنون. وهو شعر بأن هناك ديناً في رقبته:
1. فهو مقدِّر لعظمة ما أخذه من نعم.
2. لمحبته لكل الناس وإشتياقه لخلاصهم.
3. هو يشعر بأن ما أخذه لا يستحقه إذ يشعر ببشاعة ماضيه ومع كل هذا أخذ. لذلك شعر بنوع من الإلتزام نحو الذين لم يتذوقوا حريته التي في المسيح والمجد الذي أخذه. لذلك قال "إذ الضرورة موضوعة عليَّ فويل لي إن كنت لا أبشر" (1كو16:9). البرابرة= كان اليونانيين والرومان يعتقدون انهم هم الحكماء وباقي الناس برابرة.
عموماً فمن يتذوق يشعر بأنه يريد أن الكل يتذوق. بل يشعر بحزن إن حُرِمَ أحد من نعمة الله "من يعثر وأنا لا ألتهب، من يضعف وأنا لا أضعف".
آية (15): "فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضاً."
ما هو لي: أي أنني مكلف بهذا، أن أكرز بالإنجيل بين الأمم، ما هو لي أي أن هذا هو عملي الذي خلقني الله لأجله. أنتم الذين في رومية= هو يريد ان يبشر في روما مركز الوثنية والخطية ومستعد لإحتمال أي ألم في سبيل ذلك. أيضاً= هو تعبير يشير لصعوبة التبشير في روما التي تمجد القوة، وهو سيذهب ليبشر بنجار مصلوب وهو موت العبيد الذين إرتكبوا أبشع الجرائم، قال أحد فلاسفة الرومان: "أتمني أن لا تخطر فكرة الصلب علي بال إنسان روماني شريف"
لتبشيركم= إذا فإيمانهم محتاج لمراجعة جذرية، بسبب التقاليد اليهودية التي دخلت لإيمانهم. ولشعوره بالدين نحوهم هو مستعد للذهاب إليهم.
آية (16): "لأني لست استحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني."
لست أستحي= قال في غلاطية حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع.. (غل14:6). والرسالة هنا موجهة للرومان أغني وأعظم دولة في العالم. وهم في رومية يفتخرون بالقوة والعظمة ويعيشون في زهو وكبرياء. لكن بولس لا يستحي بالإنجيل الذي يبدو في ظاهره ضعفاً، هو لا يستحي بأن يبشر بأن نجاراً مات مصلوباً بين لصين، وهذا يدعو لإشمئزاز الرومان، وربما كان مسيحيو روما يشعرون بالإستحياء من هذه الفكرة شاعرين بالزهو أنهم من سكان روما القوية سيدة العالم والرسول أراد ان يكسر من زهوهم، وحتي لا يستحوا قال: لا أستحي وهو لا يستحي لأنه شاعر بقوة عمل الله. أما أهل غلاطية فهم بؤساء وفي مذلة لذلك يقول لهم أفتخر. عموماً فالطريق الذي يبدأ بلا أستحي ينتهي بأفتخر. ولو سألني أحد أتعبد المصلوب؟ أقول نعم فهذا الصليب علامة محبته الإلهية غير المتناهية لي وعنايته بي.
لأنه قوة الله للخلاص= هو لا يخجل من إنجيل الله لأنه يشعر بقوة هذا الإنجيل. فالإنجيل ليس رسالة نظرية أو فلسفة فكرية تعليمية، إنما هو عمل إلهي جبار، وحركة حب إلهي لا تتوقف لتبلغ بالإنسان إلي شركة الأمجاد الإلهية. هو قوة يشعر بها بولس الرسول وسيشعر بها كل مؤمن. هو قوة مجالها خلاص الإنسان، قوة تعمل في الفكر والإرادة والنفس والشعور والجسد. بعظة واحدة من بطرس آمن 3000 لأن الكلمة لها قوة جبارة غيرت الدولة الرومانية نفسها للمسيحية. فالإنجيل قائم علي عملية تغيير كبري بواسطة المسيح، تعطي الخلاص وتهبه للذين يؤمنون بالمسيح. لليهودي أولاً= زمنياً فقط، فاليهود كانوا أسبق في إرتباطهم بالله. وقد أخذوا المواعيد بالخلاص وأئتمنوا علي ناموس الله أولاً. ولهذا فعليهم واجبات أكثر فلا محاباة، هم عليهم الإيمان بالمسيح أولاً ثم أن يبشروا هم الأمم ثم لليوناني: فالأمم أيضا مدعوين.
آية (17): "لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا."
فيه معلن بر الله= هذا الإنجيل الذي أبشر به هو قوة الله للخلاص (آية 16) وكيف يخلص؟ بأن يجعل المؤمن باراً. وهل يستطيع كل مؤمن أن يصبح باراً؟ قطعاً فعمل نعمة الله التي تبرر عمل قوي جداً جداً. الله يعطي للمؤمن المعمد والممسوح بزيت الميرون، أن يحل عليه الروح القدس الذي له قوة جبارة في تغيير حياة المؤمن، من حياة الخطية إلي حياة البر، وتغيير شاول الطرسوسي نفسه إلي بولس الرسول خير شاهد لذلك (راجع معني التبرير في المقدمة). ولنفهم أنه علينا أن نغصب أنفسنا كمؤمنين لنفعل البر (جهاد إيجابي) والنعمة تعطينا أن نتلذذ ونتعزي بعمل البر. ولاحظ أننا نصير أبراراً بحياة المسيح فينا. ولاحظ أن بر الناموس كان "إعمل فتحيا" أمّا في المسيحية فالتبرير يبدأ بالإيمان بالمسيح فلا بر خارج عن الإيمان بالمسيح. ثم يأتي دور المعمودية التي فيها نموت ونقوم مع المسيح بحياته. ويأتي بعد ذلك دور حلول الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح، وبقدر ما نثبت في المسيح ننمو في البر. ونحن نثبت في المسيح بقدر ما نصلب أنفسنا مع المسيح ونجاهد (جهاد سلبي وجهاد إيجابي) لذلك فمدخل التبرير في المسيحية هو الإيمان معلن بر الله بإيمان. بإيمان لإيمان= الإيمان ينمو ويزداد (2تس3:1+ لو5:17). والله قسم لكل منا قدر من الإيمان (رو3:12) ونحن أمّا ننمي هذا القدر أو ننقصه وكل إيمان نبلغه يعبِّر عن مستوانا الروحي الذي وصلنا إليه، وطوبي للجياع والعطاش إلي البر .. (مت6:5). مثل هؤلاء ينمو باستمرار مستواهم الروحي وبالتالي ينمو إيمانهم من إيمان لإيمان أعمق وأعلي وهذا متوقف علي جهادنا (سلبي وإيجابي) وعلي خضوعنا وتسليمنا الحياة بين يدي الله بشكر وبلا تذمر، بهذا ينمو الإيمان، بل ننمو في المجد، ومن مجد إلي مجد (2كو18:3). وقطعاً فكلما نزداد في درجتنا الإيمانية سنزداد في عمل البر وحياة البر. ولاحظ أن الإيمان هو ثمرة للإمتلاء من الروح القدس (غل22:5، 23) والإمتلاء من الروح يأتي بالجهاد (راجع المقدمة).
أما البار فبالإيمان يحيا= هذه من نبوة حبقوق 4:2. وكان حبقوق يقصد بها أن بابل ستؤدب شعب الله فقط لكنها لن تبيده لسبب بسيط هو أن هذا الشعب شعب الله. والذين عبدوا الأوثان ستبيدهم بابل، أمّا الأبرار الذين يؤمنون بالله فسيحيون، بابل ستؤدبهم فقط لَيكْملوا، لكنها لا تستطيع أن تبيدهم. لكن بولس فهم الآية أن البر يكون بالإيمان وليس بالأعمال (أعمال الناموس) كما فهم اليهود. وبولس عاش في يهوديته يمارس أعمالاً جيدة لكنه لم يتذوق حياة البر النابعة عن إصلاح الداخل الذي حدث له بالإيمان. خلال أعمال الناموس كان يشعر بفساد الداخل، وأنه يعمل أعمالاً صالحة ولكن مع وجود كبت، وحنين للخطية. أما في ظل الإيمان فوجد نفسه يعمل البر بسهولة وبرغبة صادقة.
تأمل:- في الآية كما قصدها حبقوق وبنفس مفهومه، فمن يقع في تجربة الآن. عليه أن ينظر لله بإيمان بأن الله سيرحمه ويتحنن عليه، ويحول الضيقة لخيره فهو صانع خيرات. وهذا عكس من يخاصم الله وقت التجربة. في هذه الآية نجد أن المؤمن ينمو بإستمرار في بر المسيح، ولكن هذا لا يعني أننا نصير بلا خطية، فطالما نحن في الجسد فنحن معرضون لأن نخطئ ولكن التوبة والإعتراف يغفران الخطية.
آية (18): "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم."
لأن: هذه تعني أن هذه الآية متعلقة بما قبلها. والمعني ان خطايا الناس أغضبت الله= غضب الله معلن من السماء= لذلك كان هذا التبرير بالإيمان ضرورياً. هذا الغضب ظهر ضد كل من لا يسلك في صلاح ووقار من نحو الله. وضد من خالف الناموس الطبيعي الأخلاقي ولكل من تنكر للحق وضل وراء العبادة الوثنية وحياتها وممارساتها الفاجرة. وبولس هنا يرسم في الآيات التالية صورة للعالم بدون بر الله أي بدون المسيح، والإنحدار الذي وصلت إليه البشرية مما إستوجب غضب الله. وكانت البشرية بحالها هذا تستحق الإفناء كما حدث في الطوفان، ولكن الله وعد نوح بأنه لا يكرر الطوفان إذ هو يريد حياة العالم. والرسول بدأ بشرور الأمم في هذا الإصحاح قبل أن يذكر شرور اليهود حتى لا يُتهَم بأنه معادي لليهود.
لكن كان الأمم قد كسروا الناموس الطبيعي واليهود قد كسروا الناموس الموسوي لذلك صار الكل في حاجة لتدخل إلهي كي يتبرروا بالإيمان بالمسيح. وبهذا صار هناك طريقين للبشر، إمّا الإيمان بالمسيح للتبرير والنهاية مجد، أو السير في خطايا تغضب الله والنهاية هلاك (أنظر الرسم). الله أعلن البر في المسيح ليبطل الغضب. ومن يؤمن يتبرر ومن لا يؤمن ينصب عليه الغضب. وكان البر بالمسيح معلن في الكتاب (آيات 16، 17).
الذين يحجزون الحق بالإثم= هذه الخطايا التي كان الوثنيون يمارسونها حجزت الحق أي جعلته غير ظاهر ولا واضح، تعبدهم للأوثان الباطلة وعدم تعبدهم لله الحق عطل ظهور الحقيقة، وهذه عكس "ليري الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات". عموماً طريق الخطية يقود للعمي أمّا طريق النقاوة فهو طريق الإمتلاء من الروح القدس الذي يفتح الحواس الروحية، ومن حواسه الروحية مفتوحة فهو حي، والعكس. لذلك قيل "لك إسم أنك حي وأنت ميت" (الخطية أغلقت حواسك الروحية) (رؤ1:3) وعكس ذلك إذ عاد الإبن الضال تائباً قيل" ابني هذا كان ميتاً فعاش". والروح القدس أيضاً هو روح النصح (2تي37:1). وهو الذي يعلمنا كل شئ (عب11:8) لذلك حين جاء المسيح وهو الحق لم يعرفه اليهود بسبب خطاياهم، لكن كان هناك من عرفه. فحب المال والحسد أعمي عيون رئيس الكهنة. وما يقال علي العينين يقال علي بقية الحواس. وفي قصة القديس أغسطينوس، يقول في إعترافاته انه في خطيته قبل أن يؤمن وجد الكتاب المقدس، كتاباً عادياً أقل من باقي الكتب (كانت عينه مغلقة عن رؤية الحق، كانت خطاياه تحجز عنه رؤية الحق). أما بعد الإيمان والتوبة كان يقرأ الكتاب المقدس وهو يبكي. والسيد المسيح يقول تعرفون الحق والحق يحرركم (يو32:8). فمن لا يختار المسيح الحق سيختار العالم والخطية أي الباطل، ويكون مستعبداً له، يكون هذا الباطل سيداً وإلهاً له (كالمال مثلاً). أما من عرف المسيح تنفتح عينه علي مجد المسيح فيحسب كل الأشياء التي في العالم نفاية (في8:3) والبداية نقاوة القلب بالتوبة. والعكس فمن ملأت الخطية قلبه ورفض الله ينحدر لمستوي متردي، فالمصريين وغيرهم عبدوا الحيوانات واليونانيون عبدوا الأمراض.
آية (19): "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم."
إنهم يحجزون الحقيقة بسبب إنكارهم لله وعبادتهم الفاجرة للأوثان فهل لهم أن يعتذروا بأنه لم يكن لهم ناموس؟ الإجابة لا عذر لهم.
لأن المعرفة الحقيقية عن الله يستطيع العقل البشري أن يتوصل لها. فالله أعد عقول البشر ليهتدوا إليه، الله غرس بذرة الإيمان في كل إنسان. والله أعطي أيضاً لكل إنسان ضمير يعرف به الحق (رو14:2،15). فمجرد التأمل في خلقة الإنسان أو العالم أو الكون يثبت ضرورة وجود هذا الإله. وكثيرون من الفلاسفة شعروا بهذا وقالوا أن الإوثان خرافة وانه لابد أن يكون هناك إله وراء هذه الطبيعة ينبغي أن نعبده. وهذا الشعور بوجود إله ندركه من خلال أعماله هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. ولاحظ قبول الأطفال لله ومحبتهم له وتصديقهم للحقائق الإلهية. إذاً إن كان الله قد أعطي لليهود ناموس موسي، فهو أعلن عن نفسه للوثنيين خلال الطبيعة المنظورة (مز1:19) فالله لا يبقي نفسه بلا شاهد.
آية (20): "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر."
أموره غير المنظورة= invisible nature أي قدراته الإلهية. فالله أظهر قوته في خليقته التي صنعها من أجل محبته لنا. لكن تظل طبيعته الإلهية غير منظورة للإنسان، ولا يمكن بعيوننا الجسدية أن ندرك كماله، ولكن يمكن ان ندركه من خلال أعماله: المصنوعات السرمدية= أزلية أبدية، أي بلا بداية ولا نهاية، والمعني ان الله لم يخلقه أحد، هو واجب الوجود، هو القوة وراء كل المخلوقات والمصنوعات حتي أنهم بلا عذر= هذه عن الوثنيين. وهم بلا عذر لأنه إذا كان يمكن إدراك الله بعقولنا فلا عذر لهم ولا لأي إنسان يُنكر وجود الله. ونلاحظ أن بولس الرسول كرر هذه القول بالنسبة لليهود في الإصحاح الثاني، فلا عذر للوثنيين ولا عذر لليهود. لا عذر للوثنيين الذين عبدوا المخلوق وتركوا الخالق، ولا عذر لليهود الذين أخطأوا في حق الله. وكم وكم نحن بلا عذر نحن المسيحيين ونحن هياكل للروح القدس.
آية (21): "لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وإظلم قلبهم الغبي."
هم بلا عذر لأنهم علي الرغم من أنهم بواسطة ما في المصنوعات وما في الخليقة من عجائب، وهذه أعطتهم أن يدركوا ويعرفوا أن وراء كل هذا لابد من وجود إله= لأنهم لما عرفوا الله. = كلام الرسول يعني انهم أو أن الإنسان أولاً عرف الله، وأدرك وجوده، وعرف حكمته التي خلق بها هذه الأشياء. فما الذي حدث؟ كيف بدأ الإنهيار؟ لم يمجدوه أو يشكروه= من أجل هذه المراحم العديدة التي وهبها لهم. فشكر الله وتمجيده يرفعني في طريق النمو والعكس فالتذمر وتمجيد النفس (الذات) عوضاً عن تمجيد الله تجعلني أنحدر. ويظل الإنحدار حتى يصل الإنسان لظلام القلب= إظلم قلبهم الغبي. ومن هنا تظهر أهمية التسابيح الكثيرة في الكنيسة وكثرة ترديد صلاة الشكر في كل الأوقات وكل المناسبات. وكما يقول ماراسحق السرياني "كل عطية بلا شكر هي بلا زيادة". وحينما شفي المسيح العشرة البرص عاد واحد منهم فقط ليشكر، فقال المسيح فأين التسعة (لو12:17-19). ولاحظ ان المسيح لم يكن يريد عودتهم لأنه محتاج لشكرهم بل حتى يعطيهم ما هو أكثر، كما حدث مع هذا الأبرص الذي عاد، إذ حصل علي الخلاص الروحي. بجانب الشفاء الجسدي. فالله يفرح بمن له روح الشكر ليزيده من بركاته. والعكس فالتذمر أهلك اليهود في برية سيناء. الشكر يجعل القلب طيعاً في يد الله، فيسهل علي الله أن يتعامل معه ويعطيه إستنارة ليعرف أكثر فيمجد أكثر وهكذا. أما التذمر فهو يقسى القلب فلا يعود يري الله، ويظلم هذا القلب، ومثل هؤلاء فهم يسيروا وراء الأكاذيب ومن ثم يتشبثوا بالباطل، ويفقد القلب وعيه ويصير بلا تمييز ويغيب عنه نور الله. فالله يعطي المعرفة بطرق شتي لتنتهي إلي شكره وتمجيده علي مراحمه. وعدم الإحساس بمراحم الله هو أصل كل الشرور. فإن لم يكن للمعرفة ثمر يرفع الله هذه المعرفة، فيكون هذا وبالاً علي الإنسان، فيبدأ يمجد نفسه عوضاً عن أن يمجد الله. بل إنحدر الإنسان فصار يمجد العجول والقرود والفئران… والآن هناك من يمجد المال والشهوات.
آية (22): "وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء."
بينما هم يعتقدون في أنفسهم أنهم حكماء، فإنه لسبب عدم إدراكهم الحقيقة إدراكاً صحيحاً قد أصبحوا أغبياء وجهلاء. فالمصريين أصحاب كل علم عبدوا العجل. واليونانيين عبدوا الأمراض والشهوات البشرية بل أن هناك الآن من يعبد الشيطان. ولاحظ أن هذا الكلام موجه لمن آمن من الوثنيين وظل يفتخر بفلسفات الوثنيين، وكأن الرسول يقول لهم إلي أين قادتكم فلسفاتكم؟ لقد قادتكم للإنحطاط.
آية (23): "وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات."
من يعبد الله يكون له كرامة ويقابل هذا، الهوان لمن يعبد الأوثان والحيوانات. فعوضاً عن الإلتصاق بالله الذي له كل المجد- وهذا يقود الإنسان للخلود- إنحط الإنسان وعبد الفانيات فصار مصيره الزوال.
آية (24): "لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم."
ولأجل أنهم سلكوا هذا السلوك المشين وأهانوا الله لذلك فقد نزع الله منهم نعمته وتركهم ليسلكوا بحسب شهواتهم الرديئة في كل نجاسة. أسلمهم الله من يده لشهواتهم. الله لم يجعلهم يفعلون هذا. بل هو تركهم وتخلت نعمته الحافظة عنهم فإنحطوا لهذه الدرجة، هم صاروا كمريض رفض علاج الطبيب فتدهورت حالته. الله أسلمهم أي تركهم لما إشتهته قلوبهم ولما أرادوا أن يعملوه، رفع الله عنهم يده فأكملوا شهوة قلوبهم في النجاسة = أي عدم الطهارة في العلاقات الجنسية والتي تصل للشذوذ الجنسي فأهانوا أجسادهم. ولنلاحظ أن الخطية لها أضرار بدنية فضلاً عن الأضرار الروحية.
آية (25): "الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد أمين."
أستبدلوا حق الله= هؤلاء إستبدلوا الإله الحقيقي الحق الذي أستعلن لهم في وعيهم العام بالآلهة الوثنية الكاذبة غير الحقيقية. ثم كرسوا قلوبهم ووجهوا عبادتهم إلي الخليقة والمخلوقات. وهكذا بدلاً من أن يكرموا ويعبدوا الخالق الذي خلق وكوَّن كل المخلوقات، والذي يلزم أن نقدم له التمجيد إلي الأبد، عبدوا المخلوقات. لقد ظهر تقدير الله للإنسان في أنه خلقه علي شبهه وعلي صورته بينما ظهرت حماقة الإنسان وظلام قلبه في أنه صنع الله علي حسب صورٍ فانية. ولاحظ انحدار الإنسان الذي جعل آلهته بهذه الصور، فإذا كانت هذه صورة الآلهة فكم تكون قيمة الإنسان الذي يعبدها. ولاحظ أنه يطلق علي الآلهة الوثنية الكذب فهي شخصيات وهمية غير حقيقية، بل هي تخفي الحق ولا تفيد ولا تضر. وأنظر لمن يتصور أن أي شهوة خاطئة قادرة ان تشبعه فيجري وراءها العمر كله ولكنه لا يشبع، كمن يبحث عن ماء لا يروي أو عن آبار مشققة لا تضبط ماء تاركاً الله المشبع ينبوع المياه الحقيقي (أر13:2) فهذه المياه التي لا تروي هي الكذب.
الذي هو مبارك= حينما ذكر إهانات الوثنيين لله لم يحتمل إهانتهم له وبارك الله.
آية (26): "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان لأن إناثهم استبدلن الإستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة "
من أجل أنهم عبدوا المخلوقات دون الخالق فقد منع الله نعمته عنهم إذ هم لا يستحقونها. لاحظ قول المزمور "الرب يعطك حسب قلبك" (4:20) فالله نزع عنهم حمايته بسبب قساوة قلوبهم فتسلطت عليهم الأهواء الجسدية المخجلة غير الشريفة. أهواء الهوان= كل إنحرافات الشهوة، شهوات الخزي والعار، الذي وصل للزنا مع الحيوانات، وهذا ما حذَّر الله الشعب منه (خر19:22) (إذ هو منتشر في كنعان) قبل أن يدخلوا كنعان. غالباً كان هذا ما يقصده الرسول هنا وإستحي من ذكره.
آية (27): "وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق."
الفحشاء= الفعل القبيح كالشذوذ الجنسي. ونلاحظ أن الشذوذ الجنسي لا ترتكبه الحيوانات. نائلين في أنفسهم جزاء= هم ضروا أنفسهم وإنحدرت كرامتهم، وهم يستحقوا هذا فهم الذين إختاروا طريق الإنفصال عن الله. ونري الآن وباء الإيدز يحصد هؤلاء الشواذ جنسياً.
آية (28): "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق."
هم لم يرغبوا أن تكون لهم المعرفة الحقيقية عن الله، لذلك تركهم الله فصار عقلهم عاجزاً عن أن يميز بين الحق والكذب. وكان نتيجة ذلك أن فعلوا ما لا يجب وما هو غير لائق أخلاقياً. إن النعمة هي عطية الله للإنسان فإذا أساء الإنسان التصرف وأفسد سلوكه إستحق ان يرفع الله عنه نعمته ويسلمه إلي أهوائه وفضائحه. والمسئولية لا تقع علي الله بل علي الإنسان، كالمريض الذي رفض الإنصياع لنصائح طبيبه واختار أن يعالج مرضه بنفسه علي الرغم من جهله بذلك. فإذا ساءت حالة المريض لا يلام الطبيب. وكما يتخلي الطبيب عن تقديم النصائح لمريض يخالفه دائماً هكذا يتخلي الله عن الخاطئ المصِّر علي خطيته.
آية (29): "مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً."
الإثم= الشر علي وجه العموم، كما يشار بكلمة البر للصلاح علي وجه العموم.
شر= يشار هنا إلي الإضرار بالغير دون ان يحصل المرء علي كسب شخصي.
خبث= الميل النفسي الآثم نحو الآخرين. حسد= يقود للقتل (قايين وهابيل)
الخصام= هو الإضرار بالغير دون أن يصل الأمر للقتل بل السعي لتكدير الآخرين.
ثالبين = من ثلب = عاب شخصاً في غيابه وشهَّر به ليفسد سمعته.
الآيات (30،31): "نمامين مفترين مبغضين لله ثالبين متعظمين مدّعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين. بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة."
مدّعين = أي متعاظمين في أقوالهم ينسبون لأنفسهم ما ليس لهم.
مفترين= المفتري هو مختلق الكلام. مبتدعين شروراً= يبتكرون أنواع جديدة من الشر. والمبتدع هو من يأتي ببدع جديدة في الشر كالهرطقات.
لا فهم = يرفضون كل نصيحة. لا عهد= لا يلتزمون بعهودهم مع الآخرين.
آية (32): "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون"
الرسول هنا يشير إلي الأمميين الذين عرفوا أن حكم الله هو بموت من يفعل هذه الخطايا. ومع هذا فهم يرتكبونها. وهذا دليل علي قساوة القلب، بل هم يفرحون بأن غيرهم يرتكبها، وهذا الفرح هو فرح بنمو مملكة الشيطان. وهم يفعلون هذه الخطايا بكل رغبة وشوق ورضي، إذاً فخطأهم خطأ متعمد يصدر عن نية وقصد لا عن غفلة وجهل. هنا نري أن الإنسان إستمر في الإنحدار والإنحطاط لدرجة تشبّه فيها بالشيطان الذي يفرح بأن يخطئ إنسان ما. بل صار الآن بعض الناس يعبدون الشيطان.
تعليق: قيل إن من أعظم الفلاسفة اليونان من كانوا يرتكبون الشذوذ الجنسي، بل أن منهم ما جعله شريعة محرماً إياه علي العبيد، كأن فيه فضل يمتاز به الأحرار دون العبيد. إلي هذا المدي إنحدر هؤلاء الفلاسفة ولم تنفعهم فلسفتهم.
هذا الإصحاح نري فيه أن الإنسان إما ينمو في الروح أو ينحدر لأسفل.
1. من ينمو في الروح:- هذا من يجاهد فينمو إيمانه، وينتقل من درجة إيمانية لدرجة أعلي (آية17) هو يعبد الله بالروح (آية9) وهو يعمل أعمال بر (آية17). ونهاية هذا الصعود، نجد الإنسان يتشبه بالله الذي يفرح بإيمان وبر أولاده. وهنا نجد الرسول يفرح ويشكر الله علي إيمان أهل رومية (آية8)
2. الإنحدار: حالة الإنسان كمن يصعد علي منحدر في سيارة، فهو إما يصعد، وإما ينحدر لو ترك السيارة (هذا هو من أهمل جهاده).
والإنحدار هنا يصل بالإنسان لأحط الدرجات (آية27) وهؤلاء يظلم قلبهم (آية21) وينحدروا إلي مستوي أقل من الحيوانات وفي النهاية نجد هؤلاء وقد تشبهّوا بالشيطان.
ملحوظة: هو نوع من خداع النفس أن يتصور إنسان أنه وصل إلي مرحلة روحية معقولة، وأنه أحسن من كثيرين فيكفّ عن جهاده، مثل من تصور وهو يقود سيارته أنه وصل علي المنحدر لإرتفاع معقول، فيرفع قدمه عن البنزين ويكفّ عن القيادة، مثل هذا لابد وأن يبدأ في الإنحدار سريعاً.
بإيمان لإيمان:- هذا هو النمو (أية17) فالإيمان ينمو كما قلنا. ولكنه كيف ينمو؟
1. بالعشرة مع الله، وتطبيق وصاياه فنعرفه (مت24:7-27). وكلما عرفناه وإختبرناه يزداد إيماننا به. والعشرة هي بالصلاة والتسبيح ودراسة الكتاب.
2. بالشكر وسط الضيقات التي يسمح بها الله لنري يده ونعرفه (كو7:2) كما سمح الله لبني إسرائيل في سيناء ببعض التجارب كالماء المّر حتى يروا يده.
إدانة الآخرين:- هذا الإصحاح يحدثنا عن أن اليهود كانوا يدينون الأمم ولكن حتى نستفيد من الإصحاح لأنفسنا، فعلينا أن نفهم أن هذا الإصحاح موجه لنا قبل أن يوجه لليهود. ولنفهم أن هناك خطأ شائع يغضب الله أن الناس اعتادوا أن يتجاهلوا أخطاءهم معتمدين علي أن الناس لا تعرفها، ولكنهم لا يرون عذراً لغيرهم فيما يرتكبونه من أخطاء. لأنه من السهل أن أدين الآخرين ومن الصعب أن أدين نفسي. بينما أن الله يريدنا أن لا ننشغل بخطايا الآخرين إنما نقدّم توبة عن خطايانا (مت1:7-5). وعلينا أن نفهم أننا إن كنا لا نخطئ بنفس خطايا الآخرين فذلك ليس راجعاً لقداستنا بل لأن الله يستر علينا، أما من يهزأ بمن يخطئ فالله يرفع ستره عنه من أجل كبريائه، حينئذ سيخطئ نفس الخطأ، وذلك ليكتشف أنه له نفس الضعف، إنما من كان يستر عليه هو حماية الله. أيضاً لتنكسر كبريائه فيشفي من أعظم خطية ويتضع.
وليس معني هذا أن نحكم علي الخطأ بأنه صحيح أو العكس، فهذا أيضاً لا يرضي الله (أم15:17 + أش20:5). ولكن هذا لمن يُسأل عن رأيه في قضية ما. ولكن النصيحة العامة أن ندين الموقف ولكن لا ندين الشخص، بل نحاول أن نجد له عذراً (ظروفه/ مرضه/ مشاكل أسرية..) فنحن لا نعرف ظروف الآخرين.
ولكي نتجنب الإدانة علينا أن نكون مثل قائد سيارة، فهذا عليه أن ينشغل بالطريق وليس بالراكبين معه. هكذا نحن علينا أن ننشغل بالمسيح وبالسماء، (نتأمل في مزمور ونردد تسابيح أو صلاة يسوع)، ومن يفعل: [1] يري قداسة الله [2] يدرك مدي نجاسته هو شخصياً فيبكت نفسه [3] سيزداد حباً في المسيح الذي غفر له كل هذا [4] لا يعود ينشغل بخطايا الآخرين، فهو مشغول بالأهم أي حب المسيح.
ونري في هذا الإصحاح مواصفات دينونة الله، وهذه لا يملكها البشر فكيف يدينون الآخرين وليس لهم صلاحيات هذا العمل.
1. دينونة الله هي حسب الحق أما الإنسان فيدين حسب الظاهر ولا يعرف أعماق الآخرين .. (آية 2).
2. الله يطيل أناته فهو يود لو قَدَّمَ الإنسان توبة.. (أية4). فلو قدم الخاطئ توبة لغفر له الله فكيف أدين من غفر له الله، أو كيف أعلم هل قدم هذا الخاطئ توبة أو لم يقدم، والله لا يفرح بعقوبة الخاطئ بل بتوبته (حز23:18).
3. دينونة الله عادلة.. (أية5) وبدون محاباة ..(11).
4. دينونة الله ليس بحسب ما يعلمه الإنسان بل بحسب أعماله… (آيات6،13) أما الإنسان فسينخدع بمن يعلم كثيراً ويتكلم كثيراً… (آيات17-29).
5. الله يدين الأعماق الداخلية للضمير والفكر وسرائر الناس… (آيات15،16) ولنفهم أن إدانة الآخرين هي إعلان عن التعب الداخلي. ونري في قصة داود وناثان، أن داود أخطأ في موضوع أوريا ثم حكم بموت الخاطئ أمام ناثان النبي، فهو بهذا أدان نفسه. فعندما ندين الآخرين نحكم علي أنفسنا بأنفسنا. وفي موقف المسيح من الزانية دَرْسْ لنا، فهو بمحبته سامحها ولكن طلب منها أن لا تخطئ ثانية، فالله يطيل أناته، أما الإنسان فهو يريد أن يتشفى. والمسيح وجه كلامه لليهود "من منكم بلا خطية فليرمها بحجر"… ولذلك إستقالوا كقضاة. ولنلاحظ أن المسيح وحده هو الذي بلا خطية (يو46:8) لذلك فمن حقه أن يدين.
هذا الإصحاح موجه حقاً لليهودي، ولكنه موجه أولاً للمسيحي، فالمسيحي الذي بلا حياة هو أشر من الأممي واليهودي (عب1:2-3 + عب26:10-32). وعلي الخدام أن لا يسحبهم المجد الزمني وتلهيهم الكرامات عن الحياة الداخلية الملتهبة بالروح والحق.
وبولس بدأ بالأمم حتى لا يتهمه اليهود بالخيانة لشعبه، لكنه في هذا الإصحاح والإصحاح الثالث أظهر فساد اليهود، بل كل البشر، وإحتياج الكل للمسيح.
آية (1): "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين لأنك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها."
لذلك: عائدة علي ما فات. فبولس هنا يكلم اليهود الذين يدينون الأمم علي أعمالهم، بينما هم يعملون نفس الأعمال، بالرغم من معرفتهم بالناموس. فالناموس مرآة تكشف ضعف اليهودي، ولكنه بدلاً من أن يري فيها ضعفاته ويتوب تقسى قلبه وإغتصب مكان الديان، وحاكم الآخرين وإحتقرهم. لقد ظن اليهود أن معرفتهم بالناموس، وكون أن الله ميزهم بإعطائهم الناموس فهذا سيجعل لهم وضعاً خاصاً يوم الدينونة، ويتغاضي الله عن أخطائهم لذلك يقول الرسول هنا أن الله ليس عنده محاباة (آية11). وكيف لا يدينهم الله، وهم عرفوا من الناموس غضب الله علي الخطية والخطاة. بلا عذر= قال الرسول عن الأمم أنهم بلا عذر (20:1) إذ لهم العقل والضمير (الناموس الطبيعي). وهنا نري أن اليهود هم أيضاً بلا عذر إذ لهم ناموس موسى بالإضافة للناموس الطبيعي. والناموس يعطي إستنارة أكثر، وإن كان الأممي أخطأ ضد ناموس الضمير غير المكتوب فاليهودي قد أخطأ وتعدي علي ناموس الله المكتوب فمسئوليته أعظم وعقابه أشد فالناموس لا يبرر من يسمعه بل من يعمل به (13:2). أمّا المسيحي فهو بلا عذر أيضاً ودينونته أشد من الكل إذ له فوق الناموس الطبيعي وناموس موسى ناموس روح الحياة (2:8) أي النعمة التي تعطي قوة التغيير. علي المسيحي أن لا يحتج بأنه كإنسان ضعيف له الحق أن يخطئ، وإلاّ ما فائدة الفداء وما فائدة حلول الروح القدس، وما هو عمل النعمة التي تعطي خلقة جديدة.
آية (2): "ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه."
الله حق ويدين بحسب الحق (يو16:8). أمّا الأسس التي يدين الإنسان عليها فهي ليست بحسب الحق، بل باطلة. فالله وحده هو الحق. فالحق مشوش عند الإنسان إذاً مقاييسه أيضاً غير صحيحة، أما الله فهو وحده الذي يعرف الحق المطلق. أمّا الإنسان فمعرفته بالحق نسبية وذلك لأن خطايانا تعمي عيوننا، وهذا معني يحجزون الحق بالإثم (18:1).
آية (3): "أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله."
إذا ظن اليهودي أن الله لن يدينه علي أعماله الشريرة بسبب كونه يهودي وإبناً لإبراهيم، وأنه من الشعب المختار، فهذا خطأ. ونلاحظ أننا ندين الآخرين أمام الناس لنظهر نحن أبراراً، إذ لسنا نعمل هذه الأعمال. لكن هل لو تبررت أمام الناس سوف أتبرر أمام الله بالرغم من أن نفس الخطأ فيَّ.
آية (4): "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة."
أم أنك أيها اليهودي.. (أو أيها المسيحي) تستغل غني رحمة الله وصلاحه وعظيم صبره وطول أناته، دون أن تعلم أن كون الله يعاملك بلطف أي بشفقة بدلاً من أن يصب غضبه عليك بسبب أعمالك الرديئة، إنما هو يقصد أن يقودك ويدفعك للتوبة عن أعمالك الرديئة. أما من يستغل طول أناة الله ويستهتر، فالله يعلن غضبه عليه لأن الله قدوس لا يحتمل الخطية.
آية (5): "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب وإستعلان دينونة الله العادلة."
الله يطيل أناته، ولكن إستهتارنا يزيد غضبه، والرسول لم يقل الله يذخر لك بل تذخر لنفسك= إذاً الدينونة هي نتيجة العمل الخاطئ. (تذخر من تدخر). يوم الغضب= يوم تظهر دينونة الله العادلة علي جميع الناس، أمّا الآن فهو وقت اللطف وطول الأناة والتوبة. لو قال الرسول أن الله يذخر لنا، فهذا يعني أن الله يعاقب نتيجة إنفعال، أمّا قوله أننا نذخر لأنفسنا فهذا إشارة لأن العقاب هو العدالة. وهو إستعلان= حيث ينال كل إنسان ما يستحقه علناً.
آية (6): "الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله."
هنا رد علي الإخوة البروتستانت فالمجازاة حسب الأعمال وليس الإيمان.
آية (7): "أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الأبدية."
الرسول في هذه الآية والآيات التالية يركز علي حرية الإرادة الأنسانية، ويبدأ في هذه الآية بمن لهم النصيب الصالح، فالله يود لو كان هذا نصيب الجميع، أمّا الإنسان فيود أن يدين كل أحد.
وبالنسبة لمن يعمل الأعمال الصالحة في صبر= أي بإستمرار ضد المشقات والإغراءات وفي تأن ومثابرة، طالباً من الله المجد والكرامة والبقاء فإن هؤلاء سينالون الحياة الأبدية = هم جاهدوا ضد الخطية لإيمانهم وثقتهم بأمجاد الحياة الأبدية لذلك سينالوا الحياة الأبدية. ونلاحظ أنه لا يعمل الأعمال الصالحة إلا من له إيمان بلغ لمستوي الشركة مع المسيح ليتبرر.
آية (8): "وأما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم فسخط وغضب "
أما الذين هم من أهل التحزب= أي التعصب والخصام. هؤلاء هم الذين رفضوا الإيمان ورفضوا المسيح فأسِلموا إلي شهواتهم وغرائزهم ليفعلوا ما لا يليق. ويقصد بأهل التحزب هنا اليهود المتعصبون لجنسهم محتقرين الأمم، مفضلين هذا علي إنتصار الحق أي دخول الأمم للإيمان. يطاوعون الإثم= رفضهم لحق المسيح يجعلهم يسقطون مباشرة في الإثم.
آية (9): "شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر اليهودي أولاً ثم اليوناني "
كل من يفعل الشر فسيواجه شدة وألام. وضيقات. لليهودي أولاً ثم اليوناني= لأن اليهود حصلوا علي عهود الله أولاً قبل الأمم وأخذوا إمتيازات أكثر ومعرفة أكثر، ثم علي اليوناني وسائر البشر.
آية (10): "ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولاً ثم اليوناني "
وعلي عكس هذا فإن الله يهب مجداً وكرامة وسلام. لكل من يفعل الصلاح لليهودي أولاً= لأن اليهود أصحاب فضل، فالخلاص جاء منهم آباءهم إبراهيم وأسحق ويعقوب كانوا أفضل البشر، والشعب اليهودي بمعرفته السابقة بالله كانوا الشعب الوحيد الذي يعرف الله وله علاقة بالله فخبراتهم الروحية أكثر. لهذا فهم لهم إمكانيات التفوق والعمق الروحي ومن يُرضِي الله منهم يكون أولاً. ثم لليوناني= فالكل له نفس البركات.
آية (11): "لأن ليس عند الله محاباة "
الله سيعامل كل الشعوب بالعدالة، اليهود كالأمم، دون تفريق لأن الله لا يقبل الوجوه. بل إن الله سيدين بالأكثر من نال معرفة أوفر أما المحاباة فهي صفة للإنسان لأنه يحابي لمنفعته.
آية (12): "لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان "
من أخطأ بدون الناموس= الله وهب كل إنسان نور الطبيعة أي الضمير وبه يميز الإنسان الطبيعي بين الخير والشر. لذلك وجدنا وسط الوثنيين مبادئ فيها فكرة عن العدل والشفقة والطهارة ومنع القتل والسرقة والكذب والضمير سيشهد ضد كل واحد حتى لو حاولنا أن نسكته. وأضيف لليهود نور الناموس، وأضيف لنا كمسيحيين فوق كل هذا نور الإنجيل. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد. وكلما إزدادت الإمكانيات إزدادت المسئولية، وبالنسبة لليهود فالناموس ليس مجالاً للإفتخار بل للعمل به، ولكشف النفس والتوبة. وهذا هو الفرق بين أن يكون الإنجيل للمعرفة والإفتخار أو يكون حياة معاشة. ولقد صار الناموس حملاً زائداً علي اليهود بسبب زيادة المسئولية، لكن كان غرض هذا الحمل المضاعف أن يكتشفوا عجزهم عن أن يقوموا وحدهم بتنفيذ متطلبات الناموس، وأن يشعروا بإحتياجهم لمخلص. لكن للأسف تحول الناموس عند اليهود إلي أداة إفتخار. بدون الناموس يهلك= فالخطية قاتلة، وسبباً كافياً للموت حتى بدون الناموس. فالسرطان كمرض كان يميت قبل أن يكتشفه الأطباء ويشخصونه. وسدوم وعمورة هلكوا دون أن يكون هناك ناموس مكتوب.
يدان= أي مع وجود ناموس تصبح الخطية تعدّي علي حق الله وبالتالي تزداد عقوبة المتعدي فهو [1] يموت بسبب الخطية [2] يحاسب علي تعديه. لذلك قال السيد المسيح يكون لسدوم وعمورة حالة أكثر احتمالاً يوم الدين من هؤلاء الذين رفضوا دعوة المسيح (مت15:10).
آية (13): "لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون."
هناك من يحفظ الناموس ويعظ به ولكن لا يعمل به فدينونته ستكون أشد، مثل هذا قد يتبرر عند الناس بسبب معرفته ولكن ليس لدي الله. لكن من سيتبرر هو من يعمل بحسب الناموس. يسمعون= كان اليهود يقرأون الناموس كل سبت. الذين يعملون بالناموس= لذلك فالله سيبرر الأممي الذي يعمل أعمالاً صالحة (أهل نينوي/ كرنيليوس). وبنفس المفهوم فأنا لن أخلص لمجرد أنني أدعي مسيحي، أو لأنني دارس الكتاب المقدس، بل لأنني أعيش بحسب الإنجيل، ولا يعرف قوة الإنجيل إلاّ من يعيشه. فمن يعمل يختبر المسيح ويعرفه، فلا ينهار من تشكيك الشيطان في محبة الله (مت24:7-27).
آية (14): "لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم "
كما أن من يخطئ بدون ناموس يهلك (بحسب ناموس الطبيعة أي الضمير) هكذا من يفعل ما في الناموس بدون ناموس يحيا بعمله الصالح (كرنيليوس) (أع34:10،35). وهكذا رأينا في آبائنا البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب أنهم بدون ناموس مكتوب، كان الناموس مكتوباً علي قلوبهم، كان هذا عمل الضمير. وهذا معني هم ناموس لأنفسهم= أي علي الرغم من أن ليس لهم ناموس مكتوب فهم لهم ناموس الضمير. وبهذا الناموس عمل الأمم الذين ليس لهم ناموس، عملوا أعمالاً صالحة مقودين بناموسهم الفطري، ولكن كما أن ناموس موسى بدون المسيح لا يخلِّص، هكذا هذا الناموس الفطري (الضمير) لا يخلِّص بدون المسيح. فكلاهما مرشد ويؤدب لكن لا يخلِّص. والمقصود من الآية "أنتم أيها اليهود ليس لكم فضل أن عندكم الناموس، فالأممي الذي التزم بوصايا الله التي يمليها عليه ضميره يتساوى باليهودي الملتزم بالناموس".
آية (15): "الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة."
مكتوباً في قلوبهم= مثل إبراهيم ويوسف.. شاهداً أيضا ضميرهم= كل أممي له ما يدينه من قبل الله أي ضميره. إذاً دينونة الله العادلة ستكون علي الكل أمماً ويهود. محتجة= مدافعة بالحجة والبرهان. مشتكية= ضمائرهم تحتج داخلهم ان أخطأوا. هنا الضمير بدل الناموس المكتوب. ويوم الدينونة سيقف ضمير كل إنسان شاهداً ضده حينما يدينه الله. فلقد سبق ضميره وإحتج عليه، ولذلك سيتقبل حكم الله عليه. ولنلاحظ أن الناموس عمله أنه ينير بصائر الناس ليميزوا بين الحق والباطل، لكن هذا العمل مكتوب في ضمائر الجميع ويظهره الأمميون بتصرفاتهم الأخلاقية وبإحتجاج ضمائرهم داخلهم.
آية (16): "في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح."
يدين الله سرائر= الناس تدين ما يُعمَل في العلن، أما الله فيدين السرائر أي الأعمال الخفية والأفكار والأسرار. والذين يحافظون علي الناموس سوف يحكم الله ببرهم في اليوم الذي يدين فيه الأعمال العلنية بل والخفية للبشر، بحسب الإنجيل الذي كرز به بولس، والذي فيه كرز بيسوع المسيح كديان لكل العالم والقاضي الأعلى للشعوب، وهو يدين بالحق= إنجيلي.
آية (17): "هوذا أنت تسمى يهوديا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله "
هوذا أنت تسمي يهودياً= كان إسم يهودي يثير عند صاحبه الكبرياء فهم يظنون في أنفسهم أنهم أفضل من باقي الناس، محبوبين عند الله، مكرمين لذلك كانوا يصلون "اللهم أشكرك أنك لم تخلقني أممياً ولا امرأة ولا عبداً" فهو يشعر أنه فوق العالم. هنا يوبخ الرسول إستعلائهم وشهوتهم للعظمة. ولاحظ إستخفافهم بالمسيح والناس. ولاحظ قولهم للأعمي "ولدت في الخطية أنت بجملتك وأنت تعلمنا" (يو34:9). وكان الناموس للإفتخار دون أن ينفذوه. ويفتخرون بالله كما لو كان إلههم وحدهم، فهم تكبروا علي الأمم وأسموهم كلاب. ولكن الناموس للتنفيذ وليس للإفتخار. وراجع (لا26 + تث28) لتري عقوبة من لا ينفذ الناموس. قيل عن اليهود الذين يفتخرون بالناموس، أنهم كمجرم محكوم عليه بالإعدام ويفتخر بقانون الجنايات.
آية (18): "وتعرف مشيئته وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس."
تعرف مشيئته= الخبرة النظرية في معرفة مشيئة الله. تميز الأمور المتخالفة أي تميز بين الخير والشر. إذ تثقفوا بثقافة الناموس.
آية (19): "وتثق انك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة."
وتثق= تنتفخ. أنك قائد للعميان= هذه كلماتهم عن أنفسهم وهي تدينهم بالأكثر. فكانوا يسمون أنفسهم قائد للعميان/ نور للذين في الظلمة/ مهذب للأغبياء/ معلم للأطفال. وهذه لابد أن تكون صفات المعلمين فعلاً. لكن علي المعلم أن لا يفتخر بل يَعْلَمْ أن الله يعمل من خلاله (العميان والأغبياء والذين في الظلمة كان يقصد بهم الأممين). وكان اليهود يستهويهم الألقاب لذلك حين قال الشاب للسيد المسيح أيها المعلم الصالح، كانت إجابة المسيح تحمل معني "يا أبني أنا لست مثل هؤلاء الذين يعجبون بالألقاب" (لو18:18،19) والمسيح بكت من يقبل مجداً من الآخرين ولا يعطي المجد لله (يو44:5).
آية (20): "ومهذب للأغبياء ومعلم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس."
معلم للأطفال= الذين في طفولة الحياة الروحية.
الآيات (21،22): "فأنت إذا الذي تعلم غيرك الست تعلم نفسك الذي تكرز أن لا يسرق أتسرق. الذي تقول أن لا يزنى اتزني الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل."
الرسول يوبخهم إذ أنهم إهتموا بالوعظ دون الحياة ففقدت الكلمة قوتها (1تي12:4،13،16). أتسرق الهياكل= أباح اليهود سرقة هياكل الأوثان. ولنلاحظ أنه علي من يعلِّم غيره أن يعلِّم نفسه أولاً ليكون قدوة.
آية (23): "الذي تفتخر بالناموس ابتعدي الناموس تهين الله."
هم يفتخرون بأن الله أعطاهم الناموس. ولكنهم لم يدركوا أنهم حينما يخالفونه فهم بهذا يهينون الله الذي أعطاه.
آية (24): "لأن اسم الله يجدف عليه بسببكم بين الأمم كما هو مكتوب."
هم بعصيانهم يتسببون في أن إسم الله يهان بين الأمم (أش5:52 + حز20:36-23 + 2 صم24:12). لذلك نصلي ليتقدس إسمك. فإنه لا يوجد حل وسط، إما أن يتقدس إسم الله فينا أو يجدف عليه بسببنا.
وإسم الله يتقدس فينا عندما نتقدس نحن ونعمل ما يليق بالقداسة. ليري الناس أعمالنا الصالحة فيقدسوا إسم الله. والعكس يجدفوا علي إسم الله بسبب أعمالنا الشريرة أي توجه له الإهانة.
ملحوظة: الله كان يتمني أن يفيض من خيراته علي شعبه الملتزم بناموسه وتكون هذه علامة علي أن الله خَيِّرْ. وتكون هذه كرازة بالله الطيب الخيِّر. وهذا ما حدث لأبيمالك إذ رأي خيرات الله لإسحق فخاف من إله إسحق فإسحق أظهر لأبيمالك محبة الله ومجد الله لأبنائه (تك26:26-31).
فالله أعطاهم الناموس ليلتزموا به فيفيض عليهم من خيراته أمام الأمم، وبهذا يتمجد اسم الله وسط الأمم، ويكون هذا كرازة وسط الأمم. وهنا الرسول يوبخ اليهود لأنهم فشلوا فيما خلقهم الله لأجله وأعطاهم الناموس لأجله أي في أنهم يكونوا سبباً لمجد إسم الله.
آية (25): "فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس ولكن أن كنت متعدياً الناموس فقد صار ختانك غرلة."
فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعدياً علي الناموس، فسيفقد الختان كل قيمة له أمام الله، ويصير كما لو كان غرلة= المقصود أنه يصير كمن هو غير مختتن، فإن الختان هو علامة الإنتماء لله كذلك العمل بالناموس هو علامة إنتماء لله، فكسر الختان أي الإبقاء علي الغرلة يتساوي بالإمتناع عن عمل الأعمال الصالحة، فكلاهما يعني عدم الإنتماء لله. والمقصود هو أن المهم تكميل أعمال الناموس لا الإهتمام بمظاهره فقط كالختان.
آية (26): "إذا أن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس أفما تحسب غرلته ختاناً."
وبنفس المفهوم السابق، إن كان الأمم غير المختونين يحفظون بالتمام وصايا الناموس، فما لا شك فيه أن غرلتهم ستحسب لهم كما لو كانت ختاناً. فالله يطلب أن يكون الإنسان ملتزماً بالعمل الفاضل حتى يصير في علاقة مع الله، والعمل الفاضل يجعله منتمياً لله (نينوي/ كرنيليوس).
آية (27): "وتكون الغرلة التي من الطبيعة وهي تكمل الناموس تدينك أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس."
وهذا ما حدث مع كرنيليوس. فالأممي الذي حفظ الناموس الطبيعي أفضل من اليهودي غير الحافظ للناموس. فكرنيليوس بغرلته أفضل من قيافا المختون ورئيس الكهنة.
آية (28): "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً."
اليهودي في الظاهر= هو يهودي أعمال الناموس أي طقوسه، فهو في الظاهر مختون، ويتطهر بالماء… الخ. ولكنه يتعدي علي الناموس، إذ لا يحفظ وصاياه. وبسببه يجدف علي اسم الله في الأمم. ولنفهم أن الله لا يهتم بالمظاهر، بل بالقلب التقي الذي يخاف الله ويحفظ وصاياه. إذاً القصد من قوله اليهودي في الظاهر هو هذا اليهودي المكتفي بالأعمال الظاهرية.
آية (29): "بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله."
اليهودي في الخفاء= أي الذي يعمل ويحفظ وصايا الناموس لا ليراه الناس، بل ليراه الله، هذا يهتم بقلبه بمجد الله. وهذا ما يمدحه الله. أما اليهودي في الظاهر فهو يأخذ مديحه من الناس لأنه يهتم بأن يظهر أمام الناس ليرضي الناس. إذاً لنسعي ان يمدحنا الله عوضاً عن أن نسعي للمجد الباطل من الناس.
هو اليهودي= اليهودي الكامل، أو إسرائيلي حقيقي (يو47:1). وهذا ما تعمله النعمة الآن في المسيحي، فالإيمان حَلَّ محل الناموس الذي أخفق اليهود في أن يستخدموه للحصول علي علاقة مع الله.
ختان القلب= عَّرفه الرسول في (كو11:2، 12) بأنه خلع جسم خطايا البشرية بالروح= قارن مع (رو13:8) فهذا يتم بالروح لمن يميت أعضائه التي علي الأرض (كو5:3) ويكون ميتاً أمام الخطايا (رو11:6). وهذا يتم بالروح وليس بالناموس الذي ليس له قوة علي التغيير. أمّا النعمة فتقطع حب الخطية من القلب وتميتها كما يقطع الختان جزء من الجسم ويتركه ليموت. لكن هذا لمن يصلب الجسد مع الأهواء والشهوات (غل24:5). لا بالكتاب= بحسب طقوس الناموس فالختان هو وصية بالناموس. الروح يعطينا ان نكون خليقة جديدة (2كو17:5).
لم يقل بولس في الإصحاح الثاني أن الناموس بلا نفع أو أن الختان بلا نفع، بل إن من يختتن ولا يعمل بالناموس فقد صار كالأغرل. إذاً هو لا يقلل من شأن الناموس، بل يفضح اليهود الذين لم يعملوا به. ولكن بولس حين قال أن الله سيعامل اليهودي كما الأممي، وأن الكل واحداً أمام الله، تصوَّر أن اليهود في ثورتهم سيتساءلون. ألم يكرم الله اليهود ويعطيهم الختان كعلامة عضوية (تث29:33 + خر5:19 + أش8:41). والناموس أسماه الكتاب أقوال حية (أع38:7). والكتاب بلغتهم والأنبياء منهم. إذاً إن كان الله سيعامل اليهودي كالأممي فلماذا الناموس؟! وما فائدة الختان؟! وهذا هو ما بدأ الرسول به الإصحاح. السؤال الذي تصوَّر أن اليهود سيسألوه.
آية (1): "إذاً ما هو فضل اليهودي أو ما هو نفع الختان."
إذا كان الأممي قادراً علي أن يرضي الله إن عمل أعمالاً صالحة وذلك بواسطة الناموس الطبيعي المُعطَي له. وما دام الكل قد سقط في الدينونة سواء أمم (بمخالفتهم الناموس الطبيعي) أو يهود (بمخالفتهم لناموس موسى). فما فائدة الختان أو ماذا يميز اليهود؟
آية (2): "كثير على كل وجه أما أولاً فلأنهم استؤمنوا على أقوال الله."
أول مزايا اليهود أن الله إستأمنهم علي أقواله. إذاً هم كانوا أفضل من الأمم أمام الله، فالله لم يكن ليستأمن أحد علي أقواله إن لم يكن جديراً بذلك. وكان اليهود هم أول من يستأمنهم الله علي كلامه.
وهنا الرسول يذكر ميزة واحدة لليهود وأكمل باقي مميزاتهم في (رو4:9) استؤمنوا علي أقوال الله= قيل أنهم صاروا أمناء مكتبة المسيحية. كانت التوراة فيها نبوات كاملة عن المسيح. كان الكتاب في أيديهم بنبواته عن المسيح شاهداً أن خطة الله لخلاص العالم كانت خطة أزلية. وهم كانوا بلا شك أمناء علي كتابهم وسلموه لنا دون تحريف. والله إختار إبراهيم المؤمن وحده وسط عالم وثني إنحرف عن الحق، كان إبراهيم أحسن الموجودين في العالم، وأعطاه الختان الذي كان علامة عهد الله معهم، فهم فعلاً كانوا مميزين عن باقي الشعوب المحيطة. والله إختارهم كشعب خاص له يخرج منهم المسيح والعذراء والرسل والأنبياء وكل أبرار العهد القديم، كل هؤلاء الأبرار خرجوا في ظل الناموس. ولنلاحظ أن الله أعطي الضمير لكل الناس شاهداً للحق داخل قلوب البشر ولما فسد الضمير أعطي الله الناموس عوناً للبشر، لكنه أعطاه لمن يقدِّره، أي لأحسن الناس وكان هؤلاء هم اليهود. وكان هذا حتى يأتي المسيح وبنعمته يُقْبَلْ كل البشر، إذ بالنعمة سيتغير الجميع عن طبيعتهم القديمة الفاسدة ويصيروا خليقة جديدة (2كو17:5). أي أن الخلاص لهم ومنهم ولكنه ليس حكراً لهم. ولكن فضل اليهود كان قبل مجيء المسيح، أما بعد المسيح فالكل واحد (غل28:3).
آية (3): "فماذا أن كان قوم لم يكونوا أمناء أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله."
الله فاض علي اليهود من خيراته، ولكنه لما جاء يطلب الثمر لم يجد سوي العقوق وعدم الأمانة. ولكن عدم أمانتهم في المحافظة علي عهود الله ووعوده لا تبطل أمانة الله في خطته لخلاص البشرية، عدم التزام اليهود بالناموس لن يعطل خطة الله في أن المسيح سيأتي من نسل اليهود. ذلك لأنه إذا وجد بعض من هؤلاء اليهود قد أظهروا عدم أمانة، فإن عدم أمانتهم لا تعطل أمانة الله ولا تبطل حب الله للحق، ولا تعطل صدق الله في وعوده. بولس هنا لا يسئ للناموس، بل لليهود مخالفي الناموس، بولس لم يقل أن الناموس بلا نفع، بل هو له نفع لو إقترن بعمل الصلاح. فماذا إن كان قوم= الرسول لم يقل الكل، بل إن كان قوم. فهو لا يعمم الخطية أمّا نحن فيوجد عندنا عيب أن ننسب الخطأ والعيب الكل.
آية (4): "حاشا بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت."
حتى لو وُجِدَ العالم كله خاطئ لكن الله سيظل صادقاً. والرسول لم يلجأ لتاريخ اليهود في كتابهم لإظهار خطاياهم وعدم أمانتهم في مقابل بر الله، بل لجأ لكلام داود النبي في المزمور لكي تتبرر في كلامك وتغلب متي حوكمت فبالرغم من خطيتي وخطايا البشر وخطايا اليهود، فالله لم يعبأ بها بل أرسل إبنه الوحيد لأنه وعد بذلك. هنا يثبت بولس بناء على كلام داود صدق الله وأمانته وأنه صنع كل شئ لتبريرهم ولم يؤمنوا. تغلب متي حوكمت= لو حاول خاطئ أن يبرر نفسه بأنه له عذر، فالله سيظهر له أنه عمل كل شئ له حتى يخلص ولكنه هو الذي رفض. والله عمل لليهود كل شئ ولم ينتفعوا بأعماله.
ملحوظة: لا يصح أن نضطرب إذا رأينا أناساً يتركون الإيمان، فهناك يهوذا الذي خان الرب بعد كل ما رآه. وأيضاً هناك الشهداء الأمناء للمسيح.
آية (5): "ولكن أن كان اثمنا يبين بر الله فماذا نقول العل الله الذي يجلب الغضب ظالم أتكلم بحسب الإنسان."
بولس هنا يرد علي بعض الذين فهموا كلامه وإستغلوه بطريقة خاطئة، حينما قال "حيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جداً" (رو20:5) وأيضاً يرد الرسول علي من قال من الوثنيين "أنه بسبب خطية اليهود ظهر بر الله وتجسد. إذا فلنزداد في الخطية ليظهر بر الله بالأكثر" فهناك من يستغلون أي شئ لتبرير خطاياهم وللإستمرار فيها. ولقد تعود الإنسان منذ أخطأ آدم أول مرة علي نفي الخطية عن نفسه بل وتحميلها لغيره. ومعني الآية إذا كان إثمنا يظهر بر الله (بطريقة الـCONTRAST) فالله يصير ظالماً لأنه يغضب علي إثمنا وتصرفاتنا الخاطئة. أنا هنا (بولس يقول) أتكلم وأفكر كما يفكر الإنسان العادي الذي يحاول أن يبرر خطيته. فالشر لا يمكن أن يكون علّة للخير، لكن الله بحكمته يخرج من الشر خيراً… يخرج من الجافي حلاوة.
آية (6): "حاشا فكيف يدين الله العالم إذ ذاك."
حاشا= هذه مثل إذهب عني يا شيطان، هي طرد للفكر الردئ. فإنه من غير الممكن أن يكون الله ظالماً. فهو إن كان بره يزداد ويظهر بخطيتي فكيف يدين وكيف يحكم علي البشرية ويجازي كل واحد حسب أعماله. إذاً فهذا الفكر مرفوض.
آية (7): "فانه إن كان صدق الله قد إزداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ "
معني الآية:- أن الله لن يستطيع أن يدين العالم إن كانت خطيتي تزيد بره. والرسول قال في (آية4) وكل إنسان كاذباً.. ويقول هنا قد إزداد بكذبي فالله هو الحق، والإنسان قد خُلِقَ ليحيا لله أي حسب الحق. فمن لا يعيش لله إنما يعيش لنفسه فقد ترك الحق وصار كاذباً لأنه صار يحقق إرادة نفسه، لا إرادة الله. صار يعيش بغير ما خُلِقَ ليعيش به. ولنلاحظ. أن أي إنحراف عن الحق هو كذب وضلال. ومن يجري وراء شهوته فهو في ضلال. إذاً فالخطية عموماً هي كذب أي اللاحق. وكل خطية فيها شئ من الكذب.
آية (8): "أما كما يفترى علينا وكما يزعم قوم أننا نقول لنفعل السيات لكي تأتي الخيرات الذين دينونتهم عادلة."
أما كما يفتري علينا= هناك قوم إفتروا وظلموا بولس ونسبوا له هذه الأقوال. وقد إُتهِمْ رب المجد نفسه بأنه يتعاون مع بعلزبول. وإلقاء التهم علي خدام الرب هي لعبة شيطانية قديمة. فهم إفتروا علي بولس الرسول بأنه يدعو المؤمنين أن يفعلوا السيئات والأفعال الرديئة. وهؤلاء من العدل أن يدينهم الله فهم جعلوا من أنفسهم أداة في يد الشيطان. لنفعل السيآت= هم يبررون أنفسهم فيما يفعلون.
الآيات 9-18: هي إدانة للكل يهود ويونانيين حتى يستد كل فم، ويطلب الكل الرحمة. الرسول يظهر هنا أن الكل أخطأ سواء يهوداً أم أمم، وصار البشر كلهم بأشد الإحتياج للمسيح فيتبرر الكل بالإيمان. والتبرير نعمة مجانية لا يسوغ معها الإفتخار بأعمال الناموس، وليس لأحد فضل في هذا التبرير. حقاً الخلاص من اليهود (يو13:4) لأنهم لهم العهود ومنهم جاء المسيح. ومن آمن أو من يؤمن بالمسيح منهم حتى الآن يقبله الله.
آية (9): "فماذا إذاً أنحن أفضل كلا البتة لأننا قد شكونا أن اليهود و اليونانيين أجمعين تحت الخطية."
أنحن= يقصد اليهود الذين دخلوا الإيمان ومنهم بولس نفسه. وهو هنا يتساءل هل نحن أفضل من الوجهة الروحية والأخلاقية من الأمم. وهو يجيب بلا. لأنه سبق وأوضح إدانة الكل سواء يهود أم أمم.
شكونا= إتهمنا وأقمنا الحجة.
الآيات (10،11): "كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم ليس من يطلب الله."
ليس بار ولا واحد (مقتبسة من جا20:7) ليس من يفهم (مقتبسة من مز2:14، 2:53) وأيضا ليس من يطلب الله= لا يوجد شخص بار، ولا واحد. لا يوجد إنسان ما له فكر نقي غير ملتصق بالظلام، ظلام الخطيئة، أو قادر أن يدرك ويتفهم الحقائق الأخلاقية والدينية. ليس هناك إنسان ما يبحث بشوق ورغبة شديدة لكي يعرف الله. وليس من يَجِّد ويبحث في طلب معرفة الله. وهذا ناتج عن التعلق بالشهوات الخاطئة.
وحينما يخطئ الإنسان تنطمس عيون ذهنه فلا يعود قادراً أن يري ويدرك الأسرار الإلهية. مثال ذلك آدم إذ أخطأ لم يعد قادراً أن يدرك محبة الله فإختبأ وهرب من وجه الله. وحتى الآن ليس من يفهم وليس من يطلب الله، فكم من المؤمنين يجدوا لذتهم وفرحتهم في الجلوس مع الله، من الذي إكتشف هذا؟ ليس كثيرين للأسف. ولكن الكثيرين للأسف أيضاً لا يعرفون سوي ملذات العالم وإغراءاته. لكن كلما يتنقى القلب يستطيع الإنسان أن يبصر ويدرك لذة الله (أنقياء القلب يعاينون الله) وهذا ما تفعله التوبة.
آية (12): "الجميع زاغوا وفسدوا معا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد."
راجع (مز3:14 + 3:53). حينما تركوا الله وتركوا طريق الفضيلة فسدوا.
آية (13): "حنجرتهم قبر مفتوح بألسنتهم قد مكروا سم الأصلال تحت شفاههم."
راجع (مز9:5) (سبعينية) + (مز3:140) حنجرتهم قبر مفتوح= حنجرة هؤلاء الأشرار تشبه قبراً مفتوحاً فهم يدبرون الموت للقريب. والكلام خارج منهم له رائحة عفونة. بألسنتهم قد مكروا= يتكلمون كلمات معسولة لأجل أغراض خبيثة. ولاحظ قول السيد عن الشيطان أنه الكذاب وأبو الكذاب، فهؤلاء يتاجرون بالكذب والخداع، وكلامهم الرديء يقطر من شفاههم الخاطئة كالسم. وفي هذا إشارة لأنهم بكلامهم يسيئون للناس ويشهرون بهم فيقتلونهم أدبياً، وربما إساءة السمعة تؤدي للقتل الجسدي. أصلال= جمع صل وهي الأفعى السامة.
الآيات (14-18): "وفمهم مملوء لعنة ومرارة. أرجلهم سريعة إلى سفك الدم. في طرقهم اغتصاب وسحق. وطريق السلام لم يعرفوه. ليس خوف الله قدام عيونهم."
فمهم مملوء لعنة ومرارة (مز7:10) كلمات لعنة علي الله والبشر. (راجع أش7:59 + أم16:1 + أش7:59،8 + مز1:36) بالترتيب. ومن ليس عنده خوف الله يرتكب أي شر.
آية (19): "ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله. "
كل ما يقوله الناموس فهو يقوله للخاضعين للناموس أي اليهود، وهو بهذا يفضحهم ليكسر كبريائهم. أي أن الناموس الذي يفتخرون به ها هو يدينهم(لكن هو يفتح الجرح ويظهر مدي سوء الداخل دون أن يقدم العلاج). وبهذا ينتهي بولس بأن الجميع قد أغلق عليهم في العصيان يهوداً وأمم، اليهودية بناموس موسى والوثنية بناموس الضمير عجزتا عن خلاص أتباعهم، وصار العالم في حاجة لإستعلان بر الله في البار الوحيد يسوع المسيح.
نلاحظ في الآيات السابقة أن بولس إستخدم آيات الناموس ليستد فم اليهود المتكبرين ولا يعترضوا.
آية (21): "لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه لأن بالناموس معرفة الخطية."
يقول معلمنا يعقوب أن من أخطأ في واحدة فقد صار مجرماً في الكل (يع10:2). فمَن مِن البشر لم يخطئ في واحدة. فالناموس وضع ليحكم علي الخطايا ويدين الخطاة، ولكنه عاجز أن يبرر أحد ليقف أمام الله بلا لوم. وكان وضع الناموس لمحاصرة الخطية والخطاة تمهيداً لظهور بر الله الذي وحده له القدرة علي محو الخطية وتبرير الخاطئ بأن يولد من جديد. لأن بالناموس معرفة الخطية= الناموس ليس علّة الخطية ولكن بواسطة الناموس تكشف وضعنا في الحياة الروحية. الناموس هنا كالمرآة أظهرت ما عليه البشرية من خطية وفساد. ولم يستطع الناموس أن يبرر الإنسان، لأن البشر عجزوا عن أن يتمموا وصاياه. وهكذا بالناموس تأكد ما يستحقه البشر جميعاً من قصاص الله نتيجة الخطية. ومن المنطقي أن المجرم لا يستطيع أن يلجأ لقانون العقوبات (أي الناموس) الذي يدينه طالباً العفو، أمّا المنطقي أن يطلب الرحمة والغفران.
آية (21): "وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس والأنبياء."
فشل الإنسان في أن يتبرر بناموس موسى وبالناموس الطبيعي وصار العالم في ظلام دامس وفقد الكل البر، كان هذا ليل اليوم السابع للخليقة. وأما الآن= أشرقت شمس البر أي أتى المسيح ليقدم لنا بر الله بإتحاده بنا فنحمل سمات الإبن فينا ويصير بره براً لنا. بر الله بدون الناموس = بر الله أي الله مصدر كل بر فيّ.
بدون الناموس=
1. لأن اليهود إستغلوا الناموس ليثبتوا بر أنفسهم (رو31:9،32 +3:10،4) فإنتفخوا. ومثال لذلك نري بولس نفسه يقول عن نفسه أنه من جهة الناموس بلا لوم، أما في ظل النعمة فقال عن نفسه أنه أول الخطاة. ولنفهم أن علامة التوبة أن نمقت أنفسنا (حزقيال43:20). ولماذا يمقت التائب نفسه، لأن التائب تنفتح عينه فيري كم هي نجسة خطاياه التي يفعلها، وأيضاً تنفتح عينه ليري نقاوة الله. ولكن هذا يتحول لمحبة وتسبيح للمسيح الذي قبلني مع كل قذارتي ومع أنني لا أستحق. ومن يغفر له أكثر يحب أكثر. وهذا عكس بر الناموس الذي يسبب الكبرياء.
2. بر الله بدون الناموس، كان بالإيمان والمعمودية التي فيها يموت الإنسان العتيق مع المسيح، ويقوم مع المسيح، يعطيه المسيح حياته ليكون خليقة جديدة.
3. الناموس هدفه أن نصل للمسيح وطالما ظهر المسيح إنتهي دور الناموس إذ قد وصل إلي غايته العظمي. إذاً دون عمل الناموس ظهر البر الذي يهبه الله.
4. البر الذي للمسيح هو للكل يهوداً وأمماً، فكان لابد أن يكون بدون الناموس ليتبرر الأمم الذين لا يعرفون ناموس موسى.
مشهوداً له من الناموس والأنبياء = أي سبق الناموس والأنبياء وأخبروا عن المسيح والبر الذي بالمسيح (أش12:46،13 + 1:61-11 + 6:64 + دا 24:9). إذاً كان البر الذي بالمسيح في فكر الله الأزلي وظهر في ملء الزمان.
آية (22): "بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق."
هذا البر يُعطَي من الله بواسطة الإيمان بالمسيح يسوع (الإيمان هو المدخل (راجع المقدمة للتبرير). ولكن هناك خطوات متعددة). فبدون المسيح لا نقدر أن نفعل شيئاً (يو5:15). ولاحظ أن الإيمان ليس هو الإيمان النظري بأن الله واحد مثلث الأقانيم… لكن الإيمان بأن المسيح قادر أن يعطيني حياة، وأن عمله في حياتي هو عمل قوي، وأنه إله حنون كل ما يسمح به للخير. وهذا معناه أن الخبرات الإيمانية تزداد يوماً فيوم (راجع تفسير رو17:1) والإيمان يزداد:-
1. بالصلاة يا رب أعن عدم إيماني.
2. بالعشرة مع الله (صلاة/ تسبيح/ كتاب مقدس).
3. بالشكر وسط الضيقات وبلا تذمر (كو7:2).
وهذا البر يُعطَي إلي كل الذين يؤمنون.. النعمة ستصل إلي كل من يؤمن ومنسكبة من السماء علي كل من يؤمن من اليهود والأمم بلا فرق = ولهذا لا معني أن يرفضوا بعضهم بعضاً أو يحتقروا بعضهم أو يتفاخروا علي بعضهم البعض. وهناك من فسر قول الرسول علي كل أن البر سيكون كتاج وإكليل يوضع علي رأس المؤمن.
آية (23): "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله."
ليس هناك تمييز لأن الجميع قد أخطأوا وإفتقروا للمجد الذي يمنحه الله. ولقد لمع وجه موسى حين رأي جزءاً من مجد الله، فماذا كان عليه مجد آدم في الفردوس. ونحن بالخطية خسرنا صورة هذا المجد وخسرنا نعمة الله، بل فقدنا رؤية الله (أش15:45). ولنفهم أن المجد هو وجود الله وسطنا (زك5:2). فمجده يظهر وسط أولاده، لا بل ينعكس عليهم (1يو2:3). هذا هو مجدنا الحقيقي أن يكون الله وسطنا ويسكن فينا. والمسيح أتي ليعيد لنا صورة المجد (يو22:17)، ويسكب علينا من نعمته وبره. نحن الآن في مجد غير ظاهر لسكني الله فينا ولكن هذا المجد سيستعلن فينا في الأبدية (رو18:8).
إذ الجميع أخطأوا = نحن فقدنا صورة المجد بسبب الخطية، صرنا لا نحتمل أن نري مجد الله بسبب الضعف الذي حدث في طبيعتنا بسبب الخطية، فآدم لم يحتمل أن يري الله بعد أن أخطأ، لذلك إختبأ، وإستمر الضعف، حتى أن موسى حينما طلب أن يري مجد الله، قال له الله لا يراني الإنسان ويعيش (خر20:33) هذه مثل من يريد أن ينظر للشمس ولكن ضعف عينيه لن يحتمل نور الشمس. ولذلك قال بولس الرسول أن لحماً ودماً لن يرثا ملكوت الله (1كو50:15). فكيف نرث المجد ونحن غير قادرين علي أن نراه. هذا لن يكون إلا بعد أن نلبس الأجساد الممجدة.
آية (24): "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح."
متبررين: راجع المقدمة.
مجاناً= ليس لأن الثمن رخيص، بل لأنه لا يُقَّدر بمال. يُقال أنهم صنعوا دواء للسرطان تكلف مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية وأرادوا أن يجربوه. وكانت امرأة هناك لها إبن مصاب بالسرطان، وذهبت إلي هذا المستشفي طالبة العلاج لإبنها. فقالوا لها عندنا دواء تحت التجربة فقالت لهم فلنستعمله، وشفي الولد، فسألت عن ثمن العلاج، ولما كان الثمن باهظاً، وهي لا تتصور الثمن، قالوا لها أن هذا الدواء مجاناً. لذلك قال السيد "من يرد فليأخذ ماء الحياة مجاناً" (رؤ17:22). فقط علينا أن نؤمن فنخلص بالنعمة (الإيمان مدخل وهناك خطوات أخري. راجع المقدمة).
آية (25): "الذي قدَّمه الله كفَّارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله."
كفَّارة= من COVER أي غطاء. فالمسيح غطانا بدمه، ولم يعد الآب يري من هو ثابت في المسيح، في وضعه الضعيف، بل يري المسيح نفسه فيرضي علي من هو ثابت فيه. ويشرح هذا تماماً تابوت العهد في العهد القديم فكان موضوعاً في التابوت لوحي الشريعة وهما يناديان بالموت لكل من خالف وصية مكتوبة فيهما، ومن هو الذي لم يخالف؟ولكن كان التابوت له غطاء (كافورت من COVER) والغطاء مغطي بدم ذبيحة الكفارة، وكان الله يرضي علي الشعب ويغفر خطاياهم حين يري الدم. كان هذا رمزاً لما عمله المسيح بصليبه، وهذا معني أن المسيح حيُُّ ليشفع فينا (عب25:7) + ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلي الأقداس فوجد فداءً أبدياً (عب22:9). الذي قدمه الله = بمعني قدم الله الآب المسيح ليكون قُدّامه دائماً، فيغفر برحمته، ويعطي بره لمن يؤمن، وليكون وساطة للصلح بينه وبين الإنسان، والمدخل لكل ذلك هو الإيمان لإظهار بره= بسفك دمه أظهر المسيح عدل الله، الله الذي لا يحتمل الخطية، ولابد للخطية من عقاب، هذا العقاب تحمله المسيح. بره= عدله السالفة = السابقة. من أجل الصفح = لقد أمهل الله الأباء ولم يعاقبهم علي خطاياهم. وكان هذا بإمهال الله = فالله لم يُرِد أن يهلك البشرية حتى يأتي المسيح ليصلح حال البشر. ونفهم من هذه الآية أن دم المسيح وفدائه شمل الأباء الأبرار من آدم للمسيح بأثر رجعي.
آية (26): "لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع."
لإظهار بره = لإظهار عدله، فالله لم يُسامح البشر مجاناً بل تحمل هو عقوبة الخطية. فالعدل والرحمة تلاقيا علي الصليب. في الزمان الحاضر= أن المسيح بذل دمه كفارة، لكي يظهر عدله في الوقت الحاضر الذي هو ملء الزمان (غل4:4). ليكون باراً= لا يوجد بار سوي الله، ولقد ظهر بره في فداء المسيح [1] عدله في عقاب الخطية إذ هو قدوس [2] في تحقيق وعوده التي وعد بها البشر أنه سيخلصهم ويفديهم (أش22:44،24). ولاحظ أن الآية السابقة تظهر أن المسيح برر الأباء الذين أتوا من قبله، بدمه، وهذه الآية تظهر أن التبرير بدمه سيكون لكل من يؤمن حتى إنقضاء الدهر. لأنه هكذا هو بار، ورحمته ستشمل كل البشرية وهذا التبرير سهل المنال لكل من يؤمن (هذا هو المدخل) ويكون شاعراً بالإحتياج لهذا التبرير.
آية (27): "فأين الإفتخار قد انتفى بأي ناموس أبناموس الأعمال كلا بل بناموس الإيمان."
إين الإفتخار= بعدما فهمناه أن التبرير يكون بالإيمان بدم المسيح فبماذا نفتخر، أنفتخر بناموس موسى؟ هذا الذي يحكم علينا بالموت!! أو نفتخر بناموس الأعمال؟ هل نفتخر بأعمالنا؟ وهل أعمالنا كانت تعطي لنا حياة؟!. بل نفتخر بعمل المسيح الذي أعطانا حياة نحصل عليها بالإيمان ناموس الإيمان= ناموس أي قانون. فالإيمان ليس فوضي، بل له قانون نلتزم به، هو ناموس الحب والحرية، هو إيمان عامل بمحبة (غل6:5). وهو تدبير الروح الجاد المدقق.
ولاحظ أن قول بولس هذا هو قول رجل عيناه مفتوحتان، فهو كان يقول "من جهة الناموس أنا بلا لوم" (في6:3) وبعد النعمة إنفتحت عيناه، فقال "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي15:1) وإذ شعر بخطاياه فهم أن أعماله لا تخلِّص ولا تعطي حياة.
آية (28): "إذاً نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس."
لأنه لو كان للناموس فاعلية لظهرت قبل مجيء المسيح. والناموس هنا أي التطهيرات والغسلات والختان. ولكن هذا لا يُفهم منه أن الرسول يريد أن يبطل الوصايا الأخلاقية كالوصايا العشر مثلاً.
آية (29): "أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضاً بلى للأمم أيضاً."
بولس يوضح لليهود أن إحتقارهم للأمم يهين مجد الله، لأنهم يريدونه إلهاً لهم وحدهم، ولا يريدونه إلهاً للجميع، فإن كان إلهاً للجميع، يحاسب الجميع ويضبط الجميع وخالق الجميع، فهو كإله للجميع فإنه عليه أن يهتم بالجميع ويخلِّص الجميع بذات الطريق أي الإيمان. أم الله لليهود= بولس هنا يكلم اليهود الذين آمنوا بالمسيح قائلاً، إذا كنتم قد فهمتم أن الخلاص ليس بالناموس ولا بالأعمال، بل بالإيمان، فالأمم أيضاً يمكنهم الخلاص بنفس الشرط أي الإيمان.
آية (30): "لأن الله واحد هو الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان "
الله واحد لليهود وللأمم، وسيبرر كليهما بالإيمان بالمسيح يسوع.
آية (31): "أفنبطل الناموس بالإيمان حاشا بل نثبِّت الناموس."
هذه الآية تظهر إرتباط العهدين، فالله أوحي بهما كليهما. والسيد المسيح قال "ما جئت لانقض بل لأكمل" (مت17:5،18). وكما فهمنا فإن الناموس يعجز عن تحقيق الخلاص. ولكن بولس يثبته فلماذا؟
1. لأنه بالإيمان تتحقق غاية الناموس في أن يتبرر الإنسان (رو4:8) ولكن ليس بالناموس وحده بل بالمسيح. بل إن غاية الناموس هو المسيح (رو4:10). فمن يتبع الناموس لابد وسيصل للمسيح، وأكبر دليل علي ذلك هم تلاميذ المسيح، الذين عاشوا في بساطتهم متبعين وصايا الناموس بلا كبرياء لذلك عرفوا المسيح، أمّا الكهنة والفريسيين فهم عاشوا ليثبتوا بر أنفسهم فلم يعرفوا المسيح.
2. الناموس يفضح خطايانا وتظهر ضعفاتنا وعدم قدرتنا أن نحفظ وصاياه فنلجأ للمسيح، الناموس يعلن إحتياجنا الدائم للمسيح.
3. بالمسيح نكون كاملين كما أراد الناموس.
4. الناموس سبق وتحدث عن المواعيد التي حققها المسيح.
5. المسيح صلب ليصفح عن خطايا تعدياتنا ضد الناموس.
6. الناموس مرشد لنا في جهادنا. فعلينا أن نتبع الوصايا الأخلاقية فيه.
نفهم مما سبق أن العكس هو الصحيح، فعدم الإيمان بالمسيح يبطل الناموس لأن الناموس يشهد للمسيح.
في الإصحاحات (4-11) يرد الرسول علي آراء اليهود ومعتقداتهم ويفند حججهم فهم يفتخروا ببنوتهم الجسدية لإبراهيم، وبأن لهم الناموس والشريعة، وأنهم هم الشعب المختار، شعب الله المختار. ومما سبق فهمنا من الرسول أنه علي كل واحد ألا يفتخر إلا بالإيمان بالمسيح، فهذا الإيمان هو الذي يبرره وبالتالي يكون له حياة. وكلام الرسول بهذا، في هذه الإصحاحات (4-11) يعني أن على اليهود ألا يفتخروا بأنهم أبناء إبراهيم بالجسد ولا بناموسهم ولا بكونهم الشعب المختار ولا بالختان.. الخ بل بالإيمان بالمسيح، وبهذا فهم يتشبهون بأبيهم إبراهيم الذي تبرر بالإيمان.
ولماذا إختار إبراهيم بالذات؟ ولم يختار نوح أو هابيل… مع أن هؤلاء وغيرهم كثيرين كانوا أبراراً.
1. لأن اليهود كانوا يتفاخرون بإبراهيم (يو33:8). ولكن تفاخرهم هذا أدي لعجرفتهم وكبريائهم دون أن يحاولوا أن يتشبهوا به.
2. الله وعد إبراهيم أن يجعله أباً لجمهور كثير من الأمم، ولم يكن هذا الوعد إلا لإبراهيم.
3. إبراهيم هو حلقة الوصل بين أهل الغرلة وأهل الختان. عاش متبرراً بالإيمان وهو بعد في الغرلة (تك6:15 + تك10:17) وحصل علي الختان كعلامة للعهد. لكنه تبرر قبل الختان، أي بدون ختان. وبدون أعمال الناموس، فلم يكن هناك ناموس أيام إبراهيم.
4. بولس يري أن الفداء والتبرير بالإيمان لم يبدءا بالمسيح ولكنهما بدءا من أيام إبراهيم، حينما كشف له الله أنه يخرج حياة من الموت (من جسده المائت). وكان فداء المسيح هو النهاية التي رأينا فيها أن المسيح يبرر الخطاة الذين هم أموات بالخطية (لو32:15) وهذا التبرير كان بالإيمان الذي بدأ بإبراهيم.
إيمان إبراهيم
إبراهيم قيل عنه أنه تبرر بالإيمان (تك6:15). وكان هذا قبل الختان بحوالي 25 سنة (تك10:17). وقبل أن يقدم إبنه ذبيحة (تك22).و أيضاً قبل ناموس موسى بحوالي430 سنة. وكان هذا لمصلحة الأمم، فبهذا صار من حق الأمم أن يتشبهوا بإبراهيم الذي تبرر بالإيمان قبل الناموس وقبل عهد الختان، وقبل الأعمال أي تقديم إبنه ذبيحة. ولذلك أسماه الله أب لجمهور من الأمم = إبراهيم. فكل من يشابه إبراهيم في إيمانه يتبرر. وإيمان إبراهيم كان يتلخص في أن الله قادر أن يخرج من الموت حياة.
1. هو خرج من أور أعظم المراكز التجارية أيامها، وكانت علي الخليج، إلي المجهول، خرج بإيمان أن الله سيعطيه حياة.
2. إيمان إبراهيم ظهر في صراع رجاله مع لوط ورجاله، فترك للوط كل ما أراد مؤمنا أن الله يعطيه حياة إذ أن لوط ورجاله إستولوا علي الأراضي الجيدة تاركين الأراضي الصحراوية لإبراهيم.
3. ظهر إيمان إبراهيم في أن الله لابد وسيعطيه إسحق طالما وعد بذلك، حتي مع شيخوخته ومماتية مستودع سارة
4. ظهر إيمانه في تقديم إبنه إسحق ذبيحة، مؤمناً بأن الله سيقيمه إذ أن الله وعده أنه بإسحق يكون له نسل.
ومن يتشابه إيمانه الآن بإيمان إبراهيم، أي أن الله قادر أن يخرج من الموت حياة يصير إبناً لإبراهيم بالإيمان. وهذه قصة الفداء. فأي إنسان هو ميت بالخطية، ومن يؤمن بالمسيح ويعتمد يموت إنسانه العتيق مع المسيح في المعمودية ويخرج ثابتاً في المسيح وله حياة المسيح. فهذا هو إيمان إبراهيم، أن الله يخرج حياة من الموت. فإيمان إبراهيم يتطابق مع قصة الخلاص وخطة الله للخلاص. وحتى الآن فمن هو غارق في خطاياه ويريد أن يحيا بدلاً من موته كخاطئ، عليه أن يبدأ بإيمان في أن يحسب نفسه ميتاً عن الخطية فتدب فيه حياة المسيح (رو11:6). فالخاطئ ميت ولكن الله قادر أن يخرج حياة من هذا الموت، كما أخرج حياة من مستودع سارة المائت. بل المسيح أتي من مستودع بلا أمل في خروج حياة منه، إذ هو مستودع عذراء. لكن الروح القدس أعطي جسداً حياً هو جسد المسيح في بطن العذراء. وبنفس الطريقة فالروح القدس يرف علي وجه مياه المعمودية، فيعطي للمعمد حياة، هي حياة المسيح كما كان الروح القدس في القديم يرف فوق المياه فخرجت حياة في العالم (تك2:1). وهذا هو الفارق بين إسحق وإسمعيل في ولادتهم فإسحق هو إبن الموعد أي ليس بحسب الطبيعة كإسمعيل، لكن بحسب ما آمن به إبراهيم، أن الله يخرج حياة من الموت. ومعني كلام بولس هنا أن هذا هو الخلاص أي الإيمان بأن الله يخرج حياة من الموت. وهذا لكل من يؤمن "من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يو25:11) فمن يؤمن بالمسيح تكون له حياة. والله فرح بإبراهيم لأن إيمانه كان متطابقاً مع خطة الله للخلاص، لذلك جعل الله إبن إبراهيم رمزاً لإبنه الذي سيعطي حياة من الموت، لذلك يقول بولس الرسول نحن أولاد الموعد كإسحق (غل28:4). وكان الختان علامة ظاهرية أو ختم لإيمان إبراهيم. والختم هو تصديق علي معاهدة بين طرفين. لقد ظل إبراهيم سنوات طويلة يؤمن بالله. وجاء الله ليقول لإبراهيم "سأضع علامة في جسدك شاهدة لإيمانك" وهذه العلامة هي الختان. هي قطع جزء من جسدك وتركه ليموت وبهذه العلامة تدخل في معاهدة معي وتصير من شعبي، ومن يدخل في معاهدة مع الله ويصير من خاصته تكون له حياة. وبالتالي فإن هذه العلامة هي نفس إيمان إبراهيم، هي موت (جزء اللحم المقطوع) وحياة (حياة إبراهيم إذ دخل في عهد مع الله)
وصار الختان رمزاً للمعمودية التي هي موت وحياة. وهذا ما يعمله الروح القدس، فهو يميت حب الخطية في القلب، وهذا ما أسماه الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2 + رو13:8).
آية (1): "فماذا نقول أن أبانا إبراهيم قد وجد حسب الجسد."
قد وجد = ماذا إستفاد. حسب الجسد= يقصد حسب أعماله، أي الختان وتقديم إبنه ذبيحة. ولكن لماذا لم يقل حسب الأعمال؟ بدلاً من قوله حسب الجسد. [1] هو يريد أولاً ان يهاجم الإفتخار بالأعمال. [2] هو يريد أن يهاجم اليهود الذين يفتخرون ببنوتهم لإبراهيم بحسب الجسد وكل ما يفكرون فيه هو ميراثهم الأرضي لأراضي كنعان، ولكنهم لا يفكرون في الميراث السماوي، هذا الذي ينالونه بالإيمان، مثل إبراهيم. هو يريد أن يقول لهم، ماذا أخذتم ببنوتكم الجسدية لإبراهيم، حتى تفتخروا بها، أو بأعمالكم. لو كان إبراهيم قد إفتخر بأعماله أمام الله مثلاُ في أنه ترك أور، لكان الله قد حسب هذا ديناً عليه ولأعطاه مكاناً أفخم من أور، ولإنتهي الموضوع بهذا. أما بسبب إيمانه فلقد جعل الله إبراهيم عظيماً في الأرض وفي السماء. ولقد قيل أن الله برره بإيمانه وليس بأعماله (تك6:15). وكلام بولس هذا يفسح المجال للأمم ليؤمنوا فيتبرروا هم أيضاً. أما إصرار اليهود علي أن إنتمائهم لإبراهيم هو بالجسد فهذا يضعف صلتهم به، فالصلة الروحية أقوي وهي باقية في السماء. فماذا نقول = بعد أن قلت ما قلته عن الإيمان والتبرير بالأعمال، تعالوا نأخذ مثالاً، أنتم كلكم تحبونه وتعرفونه، ألا وهو إبراهيم أبونا.
آية (2): "لأنه أن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر ولكن ليس لدى الله."
إبراهيم قطعاً كان أحسن الموجودين أيامه، ومع هذا فعليه أن لا يفتخر أمام الله لا بختانه ولا بأعماله الصالحة لماذا؟ [1] من ناحية الختان فالله هو الذي أمره بأن يختتن [2] الله هو الذي أعطاه ويعطي كل أحد أن يعمل الأعمال الصالحة (يع16:1،17). وإن افتخر أحد فهو يفتخر بما ليس له، فالله صاحب الفضل (1كو7:4). ومن يفتخر فهو يعرف شماله بما تعمله يمينه. [3] بل عليه أن يفتخر بإيمانه بالله الذي أعطاه كل هذه البركات. ولو قورن إبراهيم بمعاصريه من البشر فهو الأحسن، ولكن إن إفتخر فليفتخر أمام الناس، مثلاً بالختان فهذا معناه أنه في عهد مع الله. أو بأعماله، فالناس يهتمون بالمظاهر، (ولكن الله يهتم بالقلب). ولكن لا يفتخر أمام الله بكل هذا، لأن الله هو مصدر كل عمل صالح. بل يفتخر بإيمانه الذي به إرتمي في حضن الله ليغتصب المواعيد من الله ويحسب باراً في عينيه.
آية (3): "لأنه ماذا يقول الكتاب فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً"
في (تك6:15) قيل فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً= إيمانه حُسِبَ له كما لو كان قد تمم كل أوامر الناموس. ولكن بالرجوع لرسالة يعقوب (يع21:2-23). نجده يستخدم نفس الآية لإثبات أن إبراهيم قد تبرر بالأعمال ولكن معلمنا يعقوب يقول "أن الإيمان عَمِلَ مع أعماله وبالأعمال أكمل الإيمان.." فهل هناك تعارض بين ما قاله يعقوب وما قاله بولس؟! أبداً. فبولس يناقش موضوع مختلف عن الموضوع الذي يناقشه يعقوب. بولس يرد علي اليهود المنتفخين بأعمالهم في بر ذاتي (مثال الفريسي والعشار) وبولس يقول لا تفتخروا علي الله بأعمالكم، فهل يعقل أن يقف اليهودي ليفتخر علي الله بأنه مختون والله هو الذي قال له إعمل كذا وكذا.. إذا أراد أن يفتخر فليفتخر علي جيرانه الغلف (1كو7:4). بالإضافة أنه يجب أن نعلم أن كل عطية صالحة هي نازلة من فوق (يع16:1،17).
روحياً، يجب أن نقف أمام الله ونقول كل عمل صالح أنا عملته أنت الذي أعطيتني إياه. وبولس مع أنه مؤمن لم يمتنع عن العمل بل قال "جاهدت الجهاد الحسن.."
أما يعقوب فهو يعالج نقطة أخري، فهو يرد علي من قال أنا آمنت وإتكل علي هذا وإمتنع عن أن يعمل أعمالاً صالحة. مثل من يقول "أنا آمنت إذاً أنا دخلت السماء". ومعني كلام يعقوب "لو كان إيمانك صحيحاً لظهر هذا في أعمالك". أمثلة: من يؤمن أن هناك قيامة، لماذا يحزن بيأس علي إنتقال أحد أحبائه. ومن يؤمن بأن هناك ميراث سماوي في المجد لماذا يحزن علي ضياع أشياء أرضية. ومن يؤمن بأن الله موجود لماذا يخطئ كأن الله لا يراه. هذه أمثلة علي الإيمان الحي.
فيعقوب يناقش أهمية أن يكون لك أعمال بعد الإيمان، وبولس يقول أن أعمالك مهما كانت فهي لا تخلِّص دون إيمان، بدون إيمان أعمالك بلا فائدة. كلام يعقوب علي أهمية الأعمال نفهمه من المثال الآتي:- طالب دخل كلية الطب (مثل إنسان آمن بالمسيح) مثل هذا لابد أن يذاكر لينجح ويصبح طبيباً (مثل المؤمن يجب أن يعمل بجانب إيمانه، وهذا معني كلام يعقوب. أما الطالب الذي لا يذاكر فسيفشل ويرفت (والمؤمن المستهتر يهلك). إذاً معني كلام بولس ويعقوب أن عليَّ أن أومن أولاً، لكن بعد الإيمان عليَّ ألا أكف عن العمل. فبولس كان مؤمناً وجاهد الجهاد الحسن (2تي7:4،8). وأعمال بولس كانت نابعة عن إيمان، فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب6:11). ولكن بعد الإيمان لابد من أن نعمل ونجاهد.
والطبيعة تعلم هذا، فالأرض لا تطرح أرغفة خبز، بل قمحاً يجب أن تجري عليه أعمالاً كثيرة ليتحول إلي خبز. وحينما تكاسل أهل تسالونيكي وإمتنعوا عن العمل، أرسل لهم الرسول يقول لهم "من لا يعمل لا يأكل" (2تس10:3) فالطبيعة تعلمني ان أعمل حتى آكل فلماذا يعلِّم البعض في الناحية الروحية أن النعمة كافية للخلاص ولا داعي للعمل. ويقول بولس الرسول "ليس الزارع شيئاً ولا الساقي لكن الله الذي ينمي" (1كو7:3) لكن الأرض لا تعطي الزرعة بدون أن يزرع أحد ويروي أرضه. وسفر التكوين يعلمنا أن الأرض كانت خربة إذ لم يكن إنسان يعمل الأرض (تك5:2). والله خلق آدم ليعمل الجنة ويحفظها (تك15:2). ونحن كخليقة جديدة في المسيح مخلوقين لأجل أعمال صالحة… (أف10:2).
ومن يغصب نفسه (كمن يصلي بالغصب) تنسكب فيه النعمة فيفرح ويتعزي. ولكن علي الإنسان ألاّ يفتخر بعمله فالله هو الذي ينمي. فالفلاح لا يفتخر أمام الله بأن الأرض أخرجت زرعاً فالله هو الذي أخرج الزرع. ربما يفتخر الفلاح علي زميله بأنه أكفأ منه، ولكن ليس علي الله. ولكن هذا يحدث مع البعض منا في وقت التجربة، إذ يقول البعض لله "لقد صليت لك وصمت لك… ومع هذا سمحت بهذه التجربة لي.. أو لم تعطني خيراً كنت أرجوه" مع أن الصلاة ليست تفضلاً منا بل هي تفضل من الله علينا، إذ يسمح بأن نقف أمامه كالملائكة، فنحن الذين نأخذ في الصلاة كرامة ونحن لا نستحق. جميل أن يقول بطرس للسيد "أخرج يا رب من سفينتي فأنا رجل خاطئ" (لو8:5) إذاًً علينا أن نعمل ولكن علينا أن نقول دائماً أننا لا نستحق، ولا نعرِّف شمالنا (الإفتخار بالعمل) ما تعمله يميننا (العمل الخير) ونقول مع داود "يا رب من يدك أعطيناك".
وفي (رؤ2:2) الله يقول أنا عارف أعمالك… إذاً لا داعي لأن تذكرني بها حينما أبدأ في العتاب معك.
من يفتخر بأعماله يحسبها الله له كدين علي الله ويعوضه كثيراً، فمثلاً إن كان إبراهيم قد إفتخر علي الله بأعماله، لكان الله قد بارك له في ماشيته وأمواله وأولاده ولأنتهت قصته بذلك، لكن إيمان إبراهيم ماذا أعطي له؟ لقد أعطى الله نفسه له "أنا ترسٌ لك" (تك1:15) وبهذا صار إبراهيم يتغني مع عروس النشيد "أنا لحبيبي وحبيبي لي".
والإيمان الذي يبرر هو:-
1. حب الله وتقديرنا لسموه والإلتجاء إليه.
2. إيماننا أنه يبرر الخاطئ.
3. أنه الشفيع لدي الآب الذي يصالحنا معه وبأنه المخلص.
4. به نقدر علي كل شئ، وبه نتحول من كوننا أشرار إلي أبرار، فهو يخرج من الموت حياة.
(آية 4): "أمّا الذي يعمل فلا تُحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين."
أما الذي يعمل= هل معني هذا أن لا نعمل؟ قطعاً لا. فمن الخطأ أن نمسك آية واحدة ونبني عليها عقيدة. فنسمع في (لو7:10) أن الفاعل مستحق أجرته. وفي (مت42:10) من سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد… لا يضيع أجره. وفي (رؤ13:14) الأعمال تتبع المؤمنين + (رؤ12:20،13) وراجع المقدمة. ولكن المطلوب أن لا نعِّرف شمالنا ما تعمله يميننا. فالرسول يقصد بمن يعمل "الذي يفتخر بأعماله أمام الله، أو الذي يظن أن أعماله تخلصه" (أنظر إلي جمال طقس قداس الكنيسة الأرثوذكسية، فنحن دائماً نردد "يا رب إرحم" بمعني أننا لا نستحق شئ، ولا نطلب سوي رحمتك يا رب). لا تُحسب له الأجرة علي سبيل نعمة= ولنأخذ إبراهيم كمثال:-
إبراهيم كتب عنه في (تك6:15) "فآمن إبراهيم…" ولم نسمع أنه قال لله، أنا عملت كذا وكذا فأين أجري، هو أطاع الله في إيمان ولم يطلب أجراً… لذلك كانت أجرته أكبر من تصور مخلوق، كانت أجرته الله نفسه، فالله يقول له في (تك1:15) أنا ترسُُ لك، أجرك كثير جداً.. وفي ترجمة أخري "أنا أجرك العظيم جداً" + أن الله برره.
بل علي سبيل دين= مثال:- موظف مرتبه 20ج يومياً. حدثت له مشكلة ما ضايقته، فيقول لله، لقد خدمتك سنين هذه مقدارها (نفس خطأ الأخ الأكبر للإبن الضال لو29:15). فلماذا تسمح لي بهذا التجربة. هنا فالله يحسب له خدمته علي سبيل أن الله مديون له، ويقول كم يوم خدمتني وكم كان أجرك فيهم، وسأعطيك أكثر مما خدمتني به، وسيكون المبلغ عدة جنيهات، وقارن بالأجر الذي حصل عليه إبراهيم، ولاحظ أن العشار الذي صلي بشعور عدم الإستحقاق خرج مبرراً لأنه قال يا رب إرحمني أنا الخاطئ، أمّا الفريسي فلم يتبرر. والفريسي الذي إستضاف رب المجد (وتكلف في المأدبة الكثير) لم يتبرر، والمرأة الخاطئة تبررت.
آية (5): "وأمّا الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له براً."
أما الذي لا يعمل = هذه تعني من يعمل ولكنه لا يفتخر بعمله أمام الله، بل يقول لله "أنت يا رب الذي تعمل فيَّ". لكنها لا تعني أنه ليس علينا أن نعمل، وإلا لماذا قال بولس نفسه "جاهدت الجهاد الحسن…" بولس هنا يرد علي اليهود الذين يتشامخون بأعمالهم وناموسهم. ونحن لا نفتخر بل نثق أن الله هو العامل فينا (يو5:15 + في3:2 + 1كو9:3 + يع26:2). يؤمن بالذي يبرر الفاجر= الفاجر في نظر الله ميت، فالخطية تعني موت (لو32:15 + رؤ1:3). ويؤمن بالذي يبرر الفاجر يعني أن الله قادر أن يخرج من الموت حياة، وهذا هو نفس إيمان إبراهيم. فالله قادر أن يحول الفاجر إلي قديس [ قيل عن الفنان العظيم مايكل أنجلو أنه كان ينظر بإعجاب لقطعة من الرخام قائلاً ما أجملها، فتساءل الواقفون عن سر إعجابه بها، وهي مازالت رخام خام، فقال أنا لا أنظر إليها بحالتها الآن، بل ماذا أستطيع ان أعمله بها] فإذا كان مايكل أنجلو قادراً أن يخرج تمثالاً رائعاً من الرخام، فما الذي يستطيعه الله فيَّ. والله أخرج من الأمم الوثنيين شعوباً مقدسة. هذا النوع من الإيمان، أن الله يبرر الفاجر، أو أن الله يخرج من الموت حياة، هو مدخل التبرير (أنظر المقدمة). الإيمان هو الباب الذي ندخل منه لحياة البر.
الآيات (6-8): "كما يقول داود أيضاً في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال. طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية."
غفرت آثامهم وسترت خطاياهم= نري في هذه الآية غفراناً للخطية وستر عليها أي تبرير، فما عادت الخطية ظاهرة. ونري أيضاً أن الغفران والستر لم يحدثا نتيجة أي عمل. الله ستر بكفارته (دم تيس الكفارة عند اليهود). والكفارة هي بدم المسيح الذي يستر علينا بكفارته فأي عمل كان يساوي دم المسيح، لذلك فما أعطاه المسيح لنا كان نعمة أي عطية مجانية أحصل عليها بالإيمان كمدخل. ودم المسيح غطي وستر علي كل خطايانا. ليس معني هذا أنه لا توجد خطية، لا بل هناك خطية، ولكن أيضاً هناك ستر. إذاً التبرير لا يعني محو الخطية من الوجود، بل أن الله لا يحسبها علينا. وداود لا يذكر أي أعمال في مقابل هذا الستر، بل غفرت هذه الخطايا بالنعمة، ونال صاحبها التطويب. فمن آمن وتبرر يتأهل بالأكثر للبركة التي خلالها ينزع الخزي ليحل المجد. وداود في هذا يشير لنفسه، فالله ستر علي خطيته بنعمته، دون أن يكون هذا التبرير في مقابل أعمال صالحة. بل أن تبرير الله مبني علي رحمته وفضله ومحبته، لذلك كم تغنَّي داود بمراحم الله الذي برره ولم يهلكه.
الآيات (9،10): "أفهذا التطويب هو على الختان فقط أم على الغرلة أيضاً لأننا نقول انه حُسب لإبراهيم الإيمان براً. فكيف حُسب أو هو في الختان أم في الغرلة ليس في الختان بل في الغرلة."
إذاً إبراهيم تبرر بالإيمان، قبل الختان بمدة تتراوح بين 14-25 سنة وقبل الناموس بمدة 430 سنة، أي أن التطويب الذي ناله إبراهيم والتبرير الذي أخذه كان وهو في الغرلة، وقبل أن يختتن. إذاً هذا التطويب يخص الأمم كما يخص اليهود. إذاً هو لكل من آمن (راجع مقدمة هذا الإصحاح نقطة رقم 3).
الآيات (11،12): "وأخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان الذي كان في الغرلة ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة كي يُحسَب لهم أيضاً البر. وأباً للختان للذين ليسوا من الختان فقط بل أيضاً يسلكون في خطوات إيمان أبينا ابر أهيم الذي كان وهو في الغرلة."
أخذ إبراهيم علامة الختان، كعلامة خارجية، كختم يؤكد ويظهر إيمانه، وأنه تبرر نتيجة إيمانه. وإبراهيم آمن وتبرر وهو في الغرلة. وهكذا صار إبراهيم أباً روحياً لكل هؤلاء الذين لم يختتنوا ولكنهم آمنوا. وحُسِب لهم هذا الإيمان براً. وصار أيضاً أباً لليهود الذين لم يقتصروا علي الختان، ولكنهم سلكوا في الإيمان الذي سلك فيه إبراهيم وهو في الغرلة، فلا يدعي اليهود أولاداً لإبراهيم إن لم يسلكوا في خطواته ويعملوا أعماله (يو39:8،44). ونلاحظ بنفس المفهوم أن لا يدعي مسيحياً إلا من يتبع نفس خطوات المسيح. ونلاحظ أن أبوة إبراهيم لمن هم في الغرلة تسبق أبوته لمن هم في الختان. ونري أنه لا تعارض بين أعمال الناموس (الختان) وبين الإيمان. بل جاء الختان كختم مؤكداً الإيمان ولكنه جاء لاحقاً له. الختان صار علامة تميز المؤمن عن باقي الأمم، علامة علي إيمانه، وكل من يحمل هذه العلامة عليه أن يلتزم بالإيمان. ونلاحظ أن الختان يعني أننا ولدنا بطبيعة فاسدة يلزمها الختان الروحي الذي يرمز له الختان الجسدي. وهذا الختان صار بهذا رمزاً للمعمودية.
آية (13): "فأنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثاً للعالم بل ببر الإيمان."
رأينا من قبل أن إبراهيم تبرر بالإيمان وهو غير مختون، وفهمنا من هذا أن الختان لم يكن شرطاً للتبرير. فالختان أتي بعد إعلان الله عن إبراهيم أنه تبرر بالإيمان بحوالي14-25 سنة. وهنا يضيف الرسول في الآيات التالية أن إبراهيم تبرر أيضاً بدون ناموس، فالناموس أعطاه الله لموسى بعد إبراهيم بحوالي430 سنة، أي أن إبراهيم لم يري الناموس أصلاً، وهذا يقوله الرسول رداً علي اليهود الذين يقولون أنه لا تبرير بدون ناموس. ويريدون أن يتهود الأمم قبل أن يصيروا مسيحيين. ليس بالناموس كان الوعد= الله أعطي وعداً لإبراهيم وهو في الغرلة ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض (تك18:22). وكان هذا الوعد بالبركة لإبراهيم قبل الناموس بـ430 سنة. (ومعني الوعد هو مجيء المسيح الذي فيه يتبارك كل أمم الأرض). ويعلق بولس الرسول في (غل16:3) أن الكتاب قال نسلك ولم يقل أنسال، فهو يتكلم عن واحد فقط وليس كل نسل إبراهيم. ولاحظ في إصحاح 22 من سفر التكوين أن إبراهيم حين آمن بوعد الله، زاد الله الوعد بأن يكون من نسله المسيح. إذاً وعد الله لإبراهيم لم يكن أبداً بواسطة ناموس موسى.
آية (14): "لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد."
الوعد لإبراهيم بأن يرث كان في (تك4:15،5) والوعد بأن يتبارك في نسله كل الأمم كان في (تك18:22). وهذا وذاك قبل الناموس بـ430 سنة تقريباً. ووعود الله كانت بناء علي إيمان إبراهيم فقط، فلو قلنا أن هناك شروطاً أخري لينفذ الوعد مثل الناموس، فمعني هذا أن الوعد ظل معطلاً لمدة 430 سنة حتى يأتي الناموس علي يد موسى، في حين أن الوعد لم يستلزم إلا الإيمان فقط، بل أن حتى الوعد لإبراهيم ما كان إبراهيم قد إستفاد به، إذ لم يكن هناك ناموس أيام إبراهيم بل أنه لم يوجد أي إنسان إستطاع الإلتزام تماماً بالناموس، فهل معني هذا أن وعد الله كان بلا معني وغير قابل للتطبيق، بل حتى موسى نفسه واضع الناموس لم يلتزم بالناموس تماماً.
آية (15): "لأن الناموس ينشئ غضباً إذ حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعدٍ."
الناموس كامل ومقدس، وليس هناك عيب في الناموس، لكن بسبب ضعف الإنسان لم يوجد من يلتزم بالناموس، وأصبح من يخطئ مع وجود الناموس فهو يتعدّى علي وصايا الله، ومن يتعدّى علي وصايا الله يغضبه = الناموس ينشئ غضباً= إن كسر وصية واحدة كافٍ لإغضاب الله فبدون الناموس يخطئ الإنسان، ولكن الغضب ينشأ بالأكثر حيث يوجد ناموس. فربما مع عدم وجود ناموس يبرر الإنسان نفسه ويقول لا أعلم، ولكن ما عذر الإنسان بعد أن أعطي الله الناموس. فمع وجود الناموس فالخطية بالإضافة لكونها خطية صارت تعدي علي الناموس (غل10:3). ونلاحظ أن الوعود كانت في ظل إيمان إبراهيم وليس الناموس فالناموس مثل القانون، لا يكافئ من لا يقتل، لكنه يعدم من يقتل.
آية (16): "لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة ليكون الوعد وطيداً لجميع النسل ليس لمن هو من الناموس فقط بل أيضاً لمن هو من إيمان إبراهيم الذي هو أب لجميعنا."
لهذا هو= يقصد الوعد (آية 14)
من الإيمان = الوعد كان بسبب إيمان إبراهيم ، ولكن لماذا أعطي الله الوعد بالإيمان؟
1. كي يكون علي سبيل النعمة: وليس الدين. فلو أعطي الله لإبراهيم حسب أعماله، لأعطي له غني مادي (ماشية وأموال) تعوضه عن تركه لأور.
2. ليكون الوعد وطيداً: فلم يكن عهد الأعمال وطيداً (ثابتاً وراسخاً) بسبب ضعف الجسد المستمر وسقوطه. لذلك:- فإنه خطأ شديد أن نقول أنني سأدخل السماء بسبب أعمالي الجيدة، فلو كانت البركة في مقابل الأعمال، لما كانت ثابتة ووطيدة، فلم يوجد من هو كامل.. لذلك فلنصرخ دائماً قائلين يا رب أرحم… وهذا هو المنهج الأرثوذكسي كما نراه في القداس.
3. ليكون لجميع النسل= فلو كان بالناموس لكان محصوراً في اليهود (رو4:9) وأما حين يكون بالإيمان فسينتفع به كثيرون من اليهود وكذلك الأمم. ولذلك غيَّر الله إسم إبرام إلي إبراهيم = أب لجمهور من الأمم، (تك3:17-5). أي يكون أباً لكل من يمتثل بإيمانه =أب لجميعنا.
4. لو كان الوعد بالناموس لجلب غضب ولعنة، فالكل سقط في التعدي فالناموس يبعدنا عن ميراث المواعيد، لذا كان من الإيمان ليُرفع الحظر.
آية (17): "كما هو مكتوب إني قد جعلتك أباً لأمم كثيرة أمام الله الذي آمن به الذي يحيي الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة."
في الآية السابقة قال أن إبراهيم صار أب لجميعنا، وهنا يقول لماذا؟ لأن الله قال له قد جعلتك أباً لأمم كثيرة (تك5:17 سبعينية) أمام الله= أي في إعتبار الله صرنا أولاداً لإبراهيم، الله وهو يقول هذا لإبراهيم جعلتك أباً لأمم كثيرة = كان الله يضع في إعتباره، أننا سنكون بإيماننا أولاداً لإبراهيم ونرث بركته… هذا لكل من آمن بحسب شكل إيمان إبراهيم = الذي يحيي الموتى = فهو آمن بأن الله قادر أن يحيي مستودع سارة الميت، وأن يخلق من العدم، ويقيم إسحق بعد أن يقدمه محرقة (عب19:11). والمسيح أقام لعازر من الموت، وأقام الشعوب الوثنية من موت الخطية بالإيمان، وهكذا كل خاطئ فالله قادر أن يقيمه من موت الخطية (قصة الإبن الضال "إبني هذا كان ميتاً فعاش" + (أف5:2، 14:5 + مت9:3) ففي (مت9:3) فالحجارة الميتة يقام منها أحياء. وإن كان الله قد وهبنا الوجود من العدم أفلا يهتم بنا ونحن الآن موجودين. يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة = فكل الأمم الوثنية الميتة التي آمنت قد رآها الله قبل آلاف السنين أنها صارت حية بإيمانها، وصارت أولاداً لإبراهيم، وإبراهيم أباً لها بالإيمان. وكون إبراهيم أباً لأمم كثيرة فهذا يعني الأمم الوثنية وليس اليهود فقط.
آية (18): "فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أباً لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك."
الله أعطي المواعيد لإبراهيم وإبراهيم آمن وصار له رجاء في أن يكون له نسل من سارة، وهذا الرجاء عكس الرجاء الطبيعي، إذ أن إبراهيم بلغ عمراً يجعله يفقد الرجاء في أن يكون له إبن، وامرأته سارة بلا رجاء طبيعي فمستودعها ميت ولا تصلح للإنجاب. هكذا ليتنا نؤمن بأن الله قادر أن يتمم مواعيده مهما كانت العوائق. والله يفرح حينما يكون لنا رجاء أن نصير قديسين، وليس فقط أن نهزم خطية ما. الله قادر أن يشفي طبيعتنا إن كان لنا إيمان المرأة النازفة الدم التي لمست هدب ثوبه. إن طلبنا بإيمان أكيد فالله يستجيب.
آية (19): "وإذ لم يكن ضعيفاً في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتاً إذ كان إبن نحو مئة سنة ولا مماتية مستودع سارة."
لأنه لم يكن ضعيفاً في إيمانه، فإنه لم يقس الأمور بما يتفق وحالته وإستعداده للإنجاب. هكذا علي المؤمن أن لا يقيس قدرة الله بالمنطق البشري. بل لنلاحظ أن القوة التي أعطاها الله لإبراهيم إستمرت معه فعاد وأنجب من قطورة. إن عدم الإيمان هو الذي يدفع الإنسان للتفكير في المعطلات والمشكلات (المستودع= الرحم).
آية (20): "ولا بعدم إيمان إرتاب في وعد الله بل تقوّى بالإيمان معطياً مجداً لله."
الريبة تأتي من العقل والشكوك التي تملأهُ. وكلمة إرتاب هي خطية (رو23:14 + يع6:1،7). فهي حالة عدم إيمان. وحينما يطرح الإنسان الشك، يأتيه اليقين إتياناً ليملاً الفراغ الذي إحتله الشك. ولاحظ أن القلب المملوء ثقة يمجِّد الله. فالله يتمجد في الإيمان. وإبراهيم لم يعتريه أي شك في وعد الله. وتقوي بالإيمان= تعلق فكره وقلبه بالله كمنفذ. ومن يفعل يزداد إيمانه ويتقوي. فمن يبدأ بإيمان ضعيف يقوي الله له إيمانه.
آية (21): "وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً."
حينما تقوي إيمانه إزداد يقينه أن الله سيفعل ما وعده به.
آية (22): "لذلك أيضاً حسب له براً."
لنراجع عناصر إيمان إبراهيم
1. الله يحيي الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة.
2. علي خلاف الرجاء آمن علي الرجاء.
3. لم يعتبر مماتية جسده أو مماتية مستودع سارة عائقاً يمنع وعد الله من أن يتحقق.
4. لم يرتاب في وعد الله بل تيقن أن ما وعد به الله يفعله، هذه الثقة وهذا الإيمان هو الذي يبرر، هو المدخل للتبرير (المقدمة).
آية (23): "ولكن لم يكتب من أجله وحده أنه حسب له."
في ختام الإصحاح يطبق ما قاله عن إبراهيم علينا لنكون أولاداً لإبراهيم ونتبرر بالإيمان.
آية (24): "بل من أجلنا نحن أيضاً الذين سيُحسَب لنا الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات."
سيُحسَب لنا= مكتوبة بصورة المستقبل. فكل من يؤمن، كل الأيام وإلي إنقضاء الدهر يتبرر. والتبرير مستمر في الكنيسة.
آية (25): "الذي أُسْلِمَ من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا."
الذي أُسْلِمَ = أسلم بإرادة الآب كما بإرادته هو ليكفر عن خطايانا [وقارن مع "ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً" يو18:10] وأقيم ليهبنا حياته، وبره عاملاً فينا. القوة التي أقامت المسيح من الأموات هي التي تعمل فينا لتقيمنا من الأموات، موت الخطية الآن ثم من موت الجسد في القيامة العامة. فالمسيح وفَّى ديوننا بموته، وبقيامته وهبنا بره عاملاً فينا إذ نحمل الحياة الجديدة المقامة في داخلنا. من هذه الآية نري أن الخلاص يتم علي مرحلتين، وقارن مع (رو10:5) فالآيتين بنفس المعني. ثم قارن عمل المعمودية بهما (رو3:6-5)
المرحلة الأولى |
المرحلة الثانية |
1- أسلم من أجل خطايانا 2- لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت إبنه 3- بالمعمودية نموت مع المسيح |
1- وأقيم لأجل تبريرنا 2- فبالأولي كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته 3- وبالمعمودية نقوم مع المسيح
|
1- (رو25:4) 2- (رو10:5) 3- (رو3:6-5 )
الخلاص يتم علي مرحلتين:
1. غفران الخطايا= كان هذا بأن المسيح أُسْلِمَ للموت عنا ليحمل خطايانا فنتصالح مع الآب. وبالمعمودية نموت مع المسيح فتغفر خطايانا (فمن يموت في أثناء نظر قضيته تسقط عنه القضية) ونحن بموتنا مع المسيح في المعمودية سقطت عنا خطايانا وحكم الموت وتصالحنا مع الله. ولكن هذا الوضع يشبه إنساناً سرق خبزاً ليأكل، فحُكِمَ عليه، وجاء من دفع عنه ثمن الخبز فحصل علي البراءة. لكن إذا خرج من السجن سيسرق ثانية ليأكل بسبب جوعه. لذلك كانت القيامة ليعطينا المسيح حياته لنسلك في البر.
2. التبرير= غفران الخطايا كان هو الحكم بالبراءة. ولكن بالقيامة مع المسيح في المعمودية يعطينا المسيح حياته وبره، فنسلك بالبر ولا نعود نسقط. نحن نقوم في حياة جديدة (رو4:6). المسيح يحيا فيّ (غل20:2) فأصير باراً، بالمسيح الذي يحيا فيّ. إذاً فالقيامة صارت لحسابي فالمسيح أعطاني حياته المقامة من الأموات. والروح القدس الذي نحصل عليه في سر الميرون يثبتنا في المسيح فتثبت فينا حياته فنعمل البر.
لذلك فالمعمودية هي موت وقيامة مع المسيح.
في الموت نصطلح مع الآب إذ تغفر خطايانا.
وبالقيامة يكون لنا حياة المسيح فنخلص بحياته.
وهذا ما سوف نراه في الإصحاح الخامس آية (10).
آية (1): "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح."
فإذ= إذاً هذه الآية عائدة علي ما قبلها. وآخر آية في الإصحاح السابق كان عن أننا تبررنا. تبررنا= (راجع المقدمة). بالإيمان= هذا هو المدخل. لنا سلام مع الله= هناك سلام من الله وهو سلام داخلي يفوق كل عقل. (في7:4). ولكن السلام مع الله فهذا يعني تغيير شامل لمركزنا من حالة العداوة إلي حالة البنوة والصداقة والحب. نختفي في المسيح لنحسب أبراراً فيه ومصالحين وهذا يعني المصالحة مع الله "الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (2كو19:5) صرنا نحيا كأبناء في سلام حقيقي مع الآب. مثال:- زوجة خائنة طردها زوجها وصارت في الشارع، بل سلمها للقضاء لتأديبها (هذا كان حالنا قبل المسيح) وبرأتها المحكمة (هذه تساوي أُسْلِمَ لأجل خطايانا 25:4). ولكنها مازالت مشردة. فإذا أعادها زوجها لبيتها وأولادها ومركزها السابق لعاشت في سلام مع عائلتها (= سلام مع الله) وكان هذا عن طريق قيامة المسيح (أقيم لأجل تبريرنا). فبالقيامة إتحدنا بالمسيح. وصرنا أبناء لله. بربنا يسوع المسيح= كل ما حصلنا عليه كان بفداء المسيح. فإن كان المسيح قد فعل كل هذا وإذا كنا قد آمنا، فلماذا يوجد البعض في حالة خصام مع الله، لماذا لم يثبت الكل في هذا البر وهذا السلام؟ الإجابة ببساطة أن الإيمان هو المدخل لكن بعد الإيمان هناك جهاد مطلوب. جهاد سلبي بأن لا نعود لحياتنا السابقة ولخطايانا القديمة. وجهاد إيجابي في صلوات وأصوام. لنحافظ علي حالة السلام.
آية (2): "الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله "
الزمن لم يعد مرعباً. فالماضي.. نحن نذكر موت المسيح عنّا. والحاضر… نحن في سلام. والمستقبل.. نحن نحيا على رجاء مجد الله. وبواسطة الإيمان حملنا المسيح وأدخلنا إلي حالة النعمة= أتحاد مع المسيح/ حلول الروح القدس/ مجد معد في المستقبل ومجد غير مرئي الآن/ سلام مع الله أي صرنا من أهل بيت الله (الكنيسة). الدخول إلي= تعني أننا لم نكن في هذه الحالة قبل الإيمان وذلك أننا قد ولدنا بالطبيعة أبناء للغضب (أف3:2). والمسيح نقلنا من حالة الغضب والمعصية التي ولدنا فيها إلي النعمة التي صرنا إليها.
مقيمون= تعني إستمرارية هذه النعمة هنا وفي السماء، هي حق مكتسب في هذه الحياة وللأبد، لقد أصبحنا أولاد الله ولن يطردني من هذه البنوة سوي تركي أنا لبيت أبي. هي حق لن يستطيع أحد أن ينزعه مني، لا الموت ولا الشيطان، بل أن الموت سيؤكد هذه النعمة إذ سنشترك في المجد الإلهي.
ونفتخر علي رجاء مجد الله = هذه الحالة التي نقيم فيها الآن والتي هي موضع فخر للمؤمنين، لأننا ننتظر علي أساسها ونرجو ما سوف يهبه الله من مجد للمؤمنين فيما بعد. وبهذا ينتهي التبرير والتقديس للتمجيد.
الآيات (3-5): "وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق ينشئ صبراً. والصبر تزكية والتزكية رجاء. والرجاء لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا."
بل نفتخر أيضاً في الضيقات= لاحظ أنه كان يتكلم علي المجد، لكن قبل أن نتصور أننا وصلنا المجد، نجده يذكرنا بأننا مازلنا علي أرض الشقاء (كانت خيمة الاجتماع وهي رمز للكنيسة علي الأرض، حوائطها وسقفها في منتهى الجمال، ولكن أرضيتها تراب. وهذا يعني أننا ونحن في الكنيسة الآن حينما نتأمل السماء نفرح بجمالها، ولكننا نعود نذكر أننا مازلنا علي الأرض بآلامها، ولكن التأمل في السماء يعطي فرحاً وتعزيات، أما السماء فيمثلها الهيكل وأرضياته من ذهب، فلا ألم في السماء). والمعني أنه لابد أن تكون هناك ألام ونحن علي الأرض. ولكن لماذا نفتخر في الآلام؟ هب أن الله أعطاني موهبة ما، وبها فرحت، فأنا لابد وسأشكر الله علي محبته. والضيقة والألم هما أيضاً علامات حب الله لي فمن يحبه الرب يؤدبه (عب6:12). وهذا التأديب هو لإعدادي للسماء، لذلك نفتخر بالضيقات فهي علامة حب ولنفهم أن الله صانع خيرات، لا يمكن أن يسمح إلا بما هو خير. إذاً فالضيق خير حتى لو لم نفهم الآن لكننا سنفهم فيما بعد (يو7:13) مثل إبن فاشل أتي له أبوه بعصا للتأديب ونجح وصار رجلاً لامعاً مثل هذا الرجل سيظل يفتخر بهذه العصا العمر كله، فهي السبب فيما هو فيه من مجد. وبنفس المفهوم فأيوب الآن في السماء يذكر آلامه بكل فخر، فهي السبب في دخوله للمجد. لذلك علينا بالإيمان الآن أن نفتخر ونشكر الله علي الضيقات فهي طريق المجد، هي تنشئ ثقل مجد أبدي (2كو17:4) عموماً:- الله لا يسمح بأي شئ في حياتي إلا لو كان لازماً لخلاص نفسي (1كو21:3،22). لذلك فنحن نشكره كصانع خيرات. والضيقات بهذا المفهوم هي خير نشكره عليه.
عالمين أن الضيق ينشئ صبراً= الصبر هنا ليس هو بالتمرين ولا شجاعة إنسانية ولا هو برود أعصاب أو إنتظار لعوض مادي. بل هو عطية إلهية. فالله لا ينزع الضيقات، بل يعطينا أن نرتفع فوقها، الله يُغيِّر الفكر والقلب فنتقبل الضيقات، إذ نراها لازمة للخلاص، بل هي طريق الشركة مع المسيح المتألم، أما أولاد العالم فكثرة الضيق تضيع صبرهم. ولكن متي تأتي عطية الصبر وسط الضيق؟
1. عليَّ أن أفكر هكذا: إذا كنت أنت يا رب قد إحتملت كل هذا لأجلي فلأحتمل معك يا رب لنكون شركاء ألم، وشركاء الألم هم شركاء مجد (رو17:8). فلنكن كأم يتألم إبنها وتقول "يا ليتني كنت أنا بدلك" لذلك علينا في ضيقاتنا أن نتأمل في ألام المسيح ونقول يا ليتني كنت أنا.. وبهذا نحتمل الألم. فكلما زاد الحب يزداد إشتهاء الألم مع المسيح. وهذا ما دفع الشهداء للألم، وبعد أن إنتهى عصر الإستشهاد بدأ عصر الرهبنة حباً في مشاركة المسيح الألم. ولاحظ أن الله مازال يتضايق ويتألم بسبب خطايا البشر.
2. إذا فهمنا أن الله يستخدم الألم كأداة تطهير وإعداد للسماء سنفهم أن الألم هبة من الله كما قال بولس الرسول (في29:1). فالألم هو أداة خير، ولخلاص النفس وشركة مع المسيح المتألم في الألم وفي المجد.
3. عليَّ ألاّ تخرج كلمة تذمر من فمي، بل شكر دائم، فالألم علامة محبة من الله (عب6:12). عليَّ أن أصمت وأحتمل الألم دون كلمة تذمر واحدة. ومن يفعل تنسكب العطية الإلهية وهي الصبر في داخله كنعمة إلهية بالإضافة لإصلاح الفساد الداخلي، الذي سمح الله بسببه بهذا الألم.
مثال:- مريض محتاج لعملية جراحية، يجب أولاً أن يخدروه حتى تنجح العملية، أمّا لو أجروا له العملية وهو مستيقظ فلسوف تفشل العملية. هذا المريض هو أنا، فالله يريد أن يشفيني من مرض روحي، وذلك يكون بالألم الذي يسمح به الله، فإن صمت بدون تذمر (يكون هذا مثل من خدروه) ينجح العلاج. والعكس. وليس فقط الإمتناع عن التذمر بل الشكر وسط الضيقة. وهذا هو الإيمان بأن الله لا يسمح إلاّ بالخير.
4. إذا فهمنا كل هذا فلُنسَلِّم حياتنا لله، أي لا نعترض علي ما يسمح به وهنا تأتي نعمة الصبر.
يوحنا شريككم في الضيقة وفي ملكوت المسيح وصبره (رؤ9:1 + 2كو3:1-8) وردت كلمة التعزية 10مرات، وكلمة الضيقة والألم 10مرات بمعني أن الله يعطي العزاء وسط الضيقة وبقدر الضيقة. وهذا معني الآية شماله تحت رأسي (الضيقة) ويمينه تعانقني (التعزيات) (نش6:2 + مثال الثلاث فتية في أتون النار (سفر دانيال) فالله طريقته هي أن لا يخرجني من الضيقة، بل يأتي ليحمل الصليب معي وتكون هذه هي التعزية. وبهذا يعني الصبر الثبات والإحتمال.
ومن يري أولاد الله في تعزياتهم وسط الضيقات قد يقول أنهم غير متألمين. هذا كمن يطلب من شخص أن يحمل شخصاً آخر في الماء حينئذ سيقول لا أستطيع لأنه لا يفهم قانون الطفو. أما لو حاول فسيحمله بسهولة لأن الماء يحمل معه. وهكذا فمن يري أولاد الله وسط ضيقاتهم لا يفهم كيف يحتملون الألم، من أين هذا الصبر؟
والإجابة أن المسيح يحمل معهم، أو بالأحرى هو يحملهم. إذاً هو قوة غير مرئية للآخرين لكن يشعر بها المؤمن الذي يتألم لكن بشكر. وإذا أتت التجربة قد يخاف الإنسان، أو قد نخاف الآن أن تأتي علينا تجربة. ولكن هذا الشعور طبيعي. كشعور العطش إذا نقص الماء في الجسم، ولكن شعور العطش يدفعني للبحث عن الماء، فأحيا. وشعور الخوف يدفعني للإلتجاء لله ليحميني فأجد التعزيات. ولكن بدون الإلتجاء لله لن تأتي التعزيات. راجع(2كو5:12-10). الله دائماً يخرج من الجافي (الألم) حلاوة (التعزيات والصبر)، بل وإصلاح طبيعتي كإعداد لي لدخولي السماء.
والصبر تزكية= التزكية هي نجاح المرء في امتحان وإجتيازه له بنجاح. وفي العالم من يجتاز إمتحاناً بنجاح يرتقي لدرجة أعلي، أي يزداد ويعلو في مستواه. وهكذا من يصبر علي الألم ينجح في إمتحانه، ويتخلص من شوائبه التي بسببها سمح الله بالتجربة، فالتزكية تعني التخلص من الشوائب، كتزكية الذهب بالنار. فمن يقابل الضيقات بثبات دون تذمر يعطيه الله الصبر والتعزيات، وإذا صبر علي آلامه يتزكي أي يتنقى ويرتفع بهذا مستواه الروحي. ويظل يرتفع بالضيقات حتى يشترك مع المسيح في مجده.
لذلك فأبناء الله يفهمون أن الخلاص من الضيقة ليس هو إنتهاء الضيقة بل إرتفاعهم فوقها، وبالتعزيات التي تملأهم يجتازون في الضيقة بكل ثقة أنها لخيرهم، ويرافقهم فيها تعزيات المسيح. بل أن من يتألمون بصبر ينالون أعظم الإختبارات هذه التي لا يختبرها الذين هم بلا تجربة. ولهذا دعيت الضيقات إمتحان، فهي كما يُمتَحن الذهب بالنار ليتنقي
والتزكية رجاء= مع الألم تزداد التعزيات ويزداد النقاء، ومن يتنقي يري الله (مت8:5) لذلك قال الأنبا بولا "من يهرب من الضيقة يهرب من الله". وبزيادة التعزيات، ومع النقاوة نستطيع أن نري الله أي نشعر بمحبته وأبوته (وهذه لا يختبرها غير المتألم). وبهذا يزداد الرجاء. لذلك يطالبنا معلمنا يعقوب بالفرح في التجارب (يع2:1،12). والتزكية ليست أساس الرجاء، بل هي رفيق له. وكلما إزدادت التزكية، أي كلما تنقي الإنسان إنفتحت عيناه وإزداد رجاؤه. وكلما تنقي الإنسان تزداد عطايا الروح فالإيمان والمحبة والرجاء يزدادوا. وهذا الرجاء لا يخزي لأن محبة الله..= قد يسأل إنسان.. وكيف لنا أن نعرف أن الله مازال سخياً في عطاياه، أو ما الدليل أن الله سيدخلني السماء؟ نحن في داخلنا رجاء، فما الذي يؤكده؟ الإجابة هنا واضحة أن الرجاء لن يخزي إذا إمتلأ القلب محبة لله، بل أن الإنسان قد إكتشف محبة الله، "فنحن نحبه لأنه أحبنا أولاً" (1يو19:4). وهذا عمل الروح القدس، الذي يشهد للمسيح (يو14:16). ويعطيني أن أفهم مقدار حبه لي، ويعطيني أن امتلئ من حبه، فهو يسكب حبه سكيباً داخل القلب. فإذا وجدنا هذا الحب يملأ القلب فرجاؤنا لن يخزينا، لأنه من المؤكد أن لنا نصيب في السماء، فالمحبة لا تسقط أبداً (1كو8:13) وهذه المحبة تتحول إلي فرح يملأ القلب يطغي علي أي ألم، ويتحول الحب ليس فقط لله، بل لكل إنسان حتى أعداءنا، ويتحول لشهوة أن نقضي كل أيامنا وأوقاتنا مع الله، وفي طاعة وصاياه. والله يعطي هذه المحبة بفيض= إنسكبت= فهي محبة تلهب قلوبنا، محبة نارية لله. وهذه المحبة تعطي ثقة في وعوده، وهذا يزيد الرجاء. هذه المحبة هي التي دفعت الشهداء للإستشهاد حباً في المسيح. هذا الحب يعطينا لذة في تنفيذ الوصايا الصعبة وإحتمال الآلام، ولكن هذا هو معني قول السيد إحملوا نيري فهو خفيف، فالمسيح الذي نحبه يحمل كل الحمل عنا. هذه المحبة وهذا الرجاء عكس الإطمئنان الزائف الذي عند بعض الناس، الذين يقولون أننا سنخلص لأننا مسيحيين. فإنتمائي بالإسم للمسيح لا يكفي. والمحك… هل نحتمل الضيقة بصبر، هل القلب يستمر في محبته مع فقدان الخيرات المادية، هل نطيع الوصايا، هل لمحبتنا في المسيح نحن علي إستعداد لترك شرور وملذات العالم؟ مثل هؤلاء لا يتذوقون الحب الناري، بل هم من قال عنهم الكتاب أنهم مطمئنين علي غير سبب للاطمئنان (أش10:47،8 + دا 25:8). إذاً من لا يزال متمسكاً بشره، ليس له الحق في الإطمئنان.
لأن محبة الله قد إنسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطي لنا
1. الله محبة (1يو8:4) وهذه تعني أن المحبة هي جوهر الله وهو يشعها في كل مكان وفي كل إتجاه. ولكل الخليقة.
2. وقبل أن تكون هناك خليقة كان الآب يفيض هذا الحب للإبن لذلك نسمع في (أف6:1) أن الإبن هو "المحبوب".
3. والروح القدس هو روح المحبة، يحمل الحب من الآب للإبن.
4. بالتجسد والفداء، إتحد المسيح بنا وصار الروح القدس الذي يحمل المحبة من الآب للإبن، يحمل هذه المحبة لمن إتحدوا بالإبن وصاروا أبناء.
5. حين إنسكبت محبة الله في قلوبنا بالروح القدس. صرنا نحب الله كما عبَّر بولس الرسول عن ذلك في (رو35:8-39).
6. وعلامة هذا الحب حفظ الوصية (يو15:14-21).
7. المحبة في القلب تحوله من قلب حجري إلي قلب لحمي (حز19:11).
8. وبذلك فبدلاً من أن تكتب الوصايا علي ألواح حجرية كما في العهد القديم صارت تكتب علي القلوب بالحب (أر31:31-33). لذلك فمن يحب الله يحفظ وصاياه. وهذه تشبه زوجة تحب زوجها، هذه لا تحتاج لمن يقول لها وصية لا تزني (غل23:5) فهي لمحبتها لزوجها، لا يمكن أن تفكر في خيانة زوجها.
ونلاحظ عمل الثالوث معنا فالآب يعطينا الحب الأبوي "أبانا الذي في السموات" والإبن هو عريس نفوسنا وهو كأخ بكر وسط إخوته. إذاً الآب والإبن يعطياننا كل أنواع الحب التي تحتاجها النفس. أما الروح القدس فيعطينا أن نحب الله بشدة. وبهذا تكون أسوياء. فعلم النفس يقول أن الشخص لا يكون سوياً إلاّ بأن يُحِّب ويُحَّب. وهكذا نفهم كيف يحيا الراهب في وحدته.
آية (6): "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار "
في آية 5 رأينا الروح القدس يسكب محبة الله فينا. وهنا نري عمل الروح القدس كيف يسكب المحبة. فالروح القدس يفتح أعيننا فنري بشاعة خطايانا، وكلما شعرنا بها سنشعر بما قدمه لنا المسيح، الذي مات لأجل فجار ليغفر لهم ويجعلهم محبوبين لدي الله. ومن يغفر له أكثر يحب أكثر (لو47:7). فالروح القدس لا يقدم معرفة فكرية فقط، بل معرفة إختبارية، بها نختبر حب المسيح، فنحبه لأنه أحبنا أولاً. وطريقة الروح القدس هي الإقناع (أر7:20)، فهو يقنع المؤمن بأن المسيح أحبه بأنه يفتح عينيه علي خطيته، وعلي صليب المسيح الذي غفر به كل خطايانا فيلتهب القلب بمحبته ونشتهي أن نرد الحب بالحب.
لأن المسيح = تترجم وبالأكثر المسيح. إذ كنا بعد ضعفاء= عاجزين عن إنقاذ أنفسنا من الخطية التي لها سلطان ساحق علينا (كمثال لهذا… الشعب في مصر لا أمل لهم في النجاة من عبودية فرعون وأرسل الله لهم موسى، والعبودية لفرعون هي رمز للعبودية للشيطان). هكذا أرسل الله لنا المسيح في أرض عبوديتنا. ومات في الوقت المعين= أي في ملء الزمان حينما أتم الناموس مهمته، وحينما ظهر فشل اليهود في الإلتزام بالناموس. بل لاحظ أن الناس وصلوا في خطيتهم أن صاروا فجار. ومع هذا مات المسيح عنهم.
آية (7): "فأنه بالجهد يموت أحد لأجل بار ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضاً أن يموت."
تعريف يهودي:- البار= هو من يقول لصاحبه ما هو لي فهو لي وما هو لك فهو لك (أي يحكم بالحق). الصالح= من يقول ما هو لي فهو لك، فهو بذلك قادر علي العطاء. التعريف المسيحي= البر هو بالمسيح والصلاح هو بحمل المسيح فينا. ومعني الآية أنه من الصعب وبالجهد يموت أحد لأجل صالح أو بار. ولكن المسيح بين محبته في أنه مات عنا ونحن خطاة فجار.
آية (8): "ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا."
هل هناك حب أعظم من هذا أن يموت المسيح لإسترضاء الآب نحو هذا العالم والإنسان الخاطئ (1يو10:4).
آية (9): "فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب."
المعني لا تستصعبوا الخلاص الآن، فهو الآن أسهل بعد الصليب. فأيهما أسهل، خلاص روما التي كانت تقدم البشر للوحوش للتسلية، أم خلاصها الآن. وبنفس المفهوم فخلاصي أنا الآن أسهل. علينا ألا نصدق الشيطان الذي يوحي لنا بأن الخلاص صعب، فإذا كان الله حَوّل وحوش روما إلي قديسين فهل لا يحولني أنا الآن إلي قديس. لقد مات المسيح عن فجار لم يسمعوا عنه من قبل ليبررهم ويخلصهم، أفلا يبحث عن خلاصي أنا الآن.
نخلص= الخلاص عند بولس عمل مستمر بدأ بالصليب ولا ينتهي، لذلك فهو يستعمل 3أفعال في صيغ الماضي والحاضر والمستقبل للتعبير عن الخلاص:-
1. الماضي:- لأننا بالرجاء خلصنا (رو24:8).
2. المضارع الدائم: بالنعمة أنتم مخلصون (أف5:2،8).
3. المستقبل:- هذه الآية + (رو13:10 + 1كو 5:3).
فعمل الخلاص بدأ بميلاد المسيح وينتهي بالمجيء الثاني. وخلاصي أنا بدأ بالمعمودية أو بالإيمان لمن يتعمد كبيراً وسيستمر حتى نلبس الجسد الممجد في السماء (رؤ10:12).
آية (10): "لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت إبنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته."
أنظر تفسير الآية (رو25:4). جاء المسيح ليصنع الصلح مع الله بأن أرضي الله بطاعته حتى الموت فصولحنا مع الله بموته، إذ بالمعمودية نموت معه وبدمه ستر خطايانا. ونحن أيضاً نخلص بحياته أي بقيامته من الأموات وصعوده للمجد مع أبيه. ونخلص بحياته تعني:-
1. أعطانا حياته التي أصبحت هي القوة لنا لنسلك في البر. وحياته هذه هي التي إنتصر بها علي الخطية وعلي الموت. صار يحيا فينا ونحن نمتلئ بنعمة حياته. وكلما نسلِّم أنفسنا للموت تظهر حياته فينا (عب24:7،25 + غل20:2 + في21:1 + 2كو11:4).
2. المسيح قائم أمام الآب ليشفع فينا، ليحملنا فيه إلي حضن الآب.
3. هذه الحياة هي حياة أبدية فالمسيح لن يموت ثانية، وبهذا فإن متنا بالجسد فسنقوم فحياته التي أعطانا إياها هي حياة أبدية (كبذرة تدفن في التربة لكنها بعد فترة تخرج كشجرة جميلة).
آية (11): "وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة."
صار الله موضوع حبنا وفخرنا، نفرح به أكثر من فرحنا بالملكوت، نفرح بالله أكثر من عطاياه. ولكن لا يمكن لأحد أن يصل لهذا إلا لو إمتلأ قلبه حباً لله. وهذا يأتي:-
1. بالتأمل في محبته وفدائه لي أنا الخاطئ.
2. بالعشرة الطويلة معه لنعرفه.
3. بتنفيذ وصاياه.
4. بطلب الروح القدس ليملأني وبلجاجة.
آية (12): "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا إجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع."
كأنما= يقولها بولس بتواضع إعلاناً منه بأنه غير فاهم تماماً لكل أثار الخطية، هو لا يري أمامه سوي إنتشار الخطية والموت (راجع الدراسة عن فكر بولس الرسول عن الخلاص في المقدمة)
نقول في القداس الباسيلي "يا الله العظيم الأبدي… الذي جبل الإنسان علي غير فساد" ونفهم من هذا أن الخطية غريبة عن الجنس البشري… ثم دخلت الخطية إلي العالم بإنسان واحد هو آدم. وبالخطية الموت= لأن الخطية إنفصال عن الله. فلا شركة للنور مع الظلمة. ونحن ورثنا من آدم طبيعة منفتحة علي الخطية وعلي الشيطان أي صرنا نميل للخطية. صار إحتمال الخطية وارد ولكنه ليس حتمي، بدليل وجود شخصيات بارة كإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب، والله دعا إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء. ولكن آدم سلَّمنا طبيعة تعرف الخير والشر وتميل للشر، وليس لها قوة كبيرة علي مقاومته. ولاحظ قول بولس إذ أخطأ الجميع= فالكل أخطأ ويموت بمسئوليته الشخصية والمعني الموجه لنا.. لا داعي أن نقول أن آدم هو السبب فيما حدث لنا من موت لأن الكل قد أخطأ. ونلاحظ أن الإنسان لم يرث طبيعة محتم عليها السقوط وإلا لما كان يدينه. ولذلك قال الله لقايين عن الخطية "إليك إشتياقها وأنت تسود عليها" (تك7:4). ونلاحظ أننا نموت لا بخطية آدم، بل بطبيعة آدم وبسبب خطايانا التي نصنعها بإرادتنا نحن. فنحن نخطئ بطبيعة آدم وبإرادتنا نحن. وبذلك صارت الخطية منتشرة في الطبع البشري. وفي آدم سقطت أنا ومُتْ. وكما أنه بخطية واحد دخل الموت للجميع هكذا ببر المسيح وفدائه صارت حياة لكل من يؤمن.
آية (13): "فأنه حتى الناموس كانت الخطية في العالم على أن الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس."
قبل الناموس كانت الخطية موجودة وقاتلة، ولكن كان يمكن للإنسان أن يعتذر بأنه لا يعرف. ولكن بعد الناموس صارت الخطية تعدي، فصارت تميت: [1] لكونها خطية. [2] أنها تعدي علي ناموس الله.
كانت الخطية في العالم علي أن الخطية لا تُحسَب = أي لا تحسب أنها تعدي، قبل الناموس كانت الخطية منتشرة لكنها غير معروفة أو محددة بناموس مكتوب وجاء الناموس ليحاصرها. ولكن حتى قبل الناموس كان الموت يسري علي الجميع بسبب خطية آدم وأخطاء الجميع. فالموت هو نتيجة طبيعية للخطية، ولكن بعد الناموس صارت العقوبة أكبر بسبب الخطية + التعدي، لهذا قيل عمن يرفض دعوة التلاميذ "ستكون لسدوم وعمورة حالاً أكثر إحتمالاً يوم الدين" (مت15:10). كمثال: ربما يأتي إبني بتصرفات خاطئة تنشئ غضباً ولكن إذا قلت له يوماً لا تفعل كذا ثم خالف سيكون الغضب أكثر جداً. أو السيجارة كانت خطأ (أن يحرق إنسان أمواله علي لا شئ)، ولكن الآن بعد أن عرف أن السجائر تسبب السرطان فصار من يدخن ليس فقط يحرق أمواله، بل أيضاً صحته، صار كمن ينتحر. وإكتشاف الطب لضرر السجائر مشابه لعمل الناموس الذي شخص الخطية وحددها.
آية (14): "لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدّي آدم الذي هو مثال الآتي."
قد ملك الموت = لكونهم حاملين طبيعة قابلة للموت. من آدم إلي موسى وسيكون حساب هؤلاء بحسب ناموس الطبيعة (الضمير) الذي وضعه الله في كل إنسان. ولكن حتى لو وُجِدَ من لم يخطئ فهو أيضاً يموت بسبب طبيعته التي حملها من آدم. قد ملك الموت = كان الناس يعيشون في مملكة إسمها مملكة الموت والقانون الذي يسود فيها هو الخطية. وجاء المسيح ليؤسس مملكة الحياة ويسودها قانون البر.
وذلك علي الذين لم يخطئوا علي شبه تعدي آدم = هذه تعني:-
1. أي علي كل البشر الذين لم يسقطوا في نفس خطية آدم.
2. بل حتى علي الأطفال الذين لم يعرفوا خطية، هؤلاء ماتوا بالرغم من أنهم لم يتعدوا علي شريعة الله كآدم.
3. تعني أن الناس صارت تخطئ نظراً لطبيعتها الخاطئة، ولأن الخطية صارت ساكنة فيهم (رو20:7) أما آدم فلم تكن الخطية ساكنة فيه قبل أن يسقط.
الذي هو مثال الآتي: أي هو مثال ليسوع المسيح الذي سيأتي بالجسد:-
1. المسيح أخذ جسداً كآدم.
2. آدم صار رأساً للبشرية والمسيح صار رأساً للكنيسة.
3. كان آدم مثالاً للمسيح إذ قضي فترة من عمره بلا خطية، لم تكن الخطية ساكنة فيه قبل السقوط، فشابه المسيح الذي بلا خطية. ولاحظ أنه نوح كان أكثر شبهاً بالمسيح، فنوح صار رأساً للخليقة الجديدة (رمز الكنيسة الخارجة من مياه المعمودية). ولكن نوح من يوم ميلاده كانت الخطية ساكنة فيه لذلك أخذ الرسول هنا آدم كرمز للمسيح إذ قضي آدم فترة بلا خطية.
4. كما بواحد الذي هو آدم صار الحكم علي الجميع، هكذا بواحد الذي هو المسيح صار البر لكل المؤمنين. وكما سقط الكل مع آدم مع أنهم لم يأكلوا معه. هكذا مع المسيح تبرر الجميع دون فضل منهم.
آية (15): "ولكن ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد إزدادت للكثيرين."
خطية آدم إنتقلت أثارها لكل البشرية. وفداء المسيح إنتقل أثره لكل المؤمنين. ولكن عطية المسيح لم يكن من الممكن أن تساوي خطية آدم. ولكن عطية المسيح فاقت بكثير أثار خطية آدم:-
1. لم يعد البشر لما كان عليه آدم، فمثلاً لو رجعنا لنفس وضع آدم، لكان الأمر يحتاج لفداء جديد لكل خطية. ولكن فداء المسيح صار غفراناً لكل خطايا الناس، ولكل زمان، ولكل مكان… لكل من يؤمن ويعتمد.
2. آدم لم يكن إبناً لأنه لم يكن متحداً بالمسيح، فالمسيح لم يكن قد تجسد بعد ولكن بعد تجسد المسيح إتحدنا به فصرنا أبناء.
3. بالخطية خسرنا حياة آدم وصرنا نموت، وبالنعمة صارت لنا حياة المسيح، لقد صارت حياتنا هي حياة المسيح فينا (غل20:2 + في21:1).
4. كان آدم يحيا في الأرض، والآن نحن نحيا في السماء (أف6:2).
5. خطية واحدة لآدم، كان الحكم عليه بسببها الموت، أما الآن فالتوبة والإعتراف يمحوان أي خطية من خطايانا المتكررة. فدم يسوع المسيح يطهرنا من كل خطية (1يو7:1-10). الغفران صار مستمراً لكل تائب.
مات الكثيرون = يقصد مات الجميع (ماعدا إيليا وأخنوخ). ولكنه يقول الكثيرون:
1. فالكل قد يكونوا قليلون
2. ليظهر بشاعة الخطية وأثرها الرهيب.
آية (16): "وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية لأن الحكم من واحد للدينونة وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير."
معني الآية بترجمة أبسط "ولكن العطية التي حصلنا عليها من المسيح لا تعادل الدينونة التي وقعت علينا بسبب آدم، فالدينونة التي وقعت علينا هي الموت. ولكن ما حصلنا عليه هو المجد والميراث والحياة الأبدية والبنوة.. الخ". لأن الحكم من واحد للدينونة= الواحد هو آدم والموت هو الدينونة أما الهبة فمن جري خطايا كثيرة للتبرير= أمّا الهبة التي أعطاها المسيح كانت لغفران خطايا كثيرة (بل هي خطايا كل البشر في كل مكان وكل زمان) وذلك ليتبرر الإنسان، ويصير باراً (ليس غفران الخطايا فقط بل إمكانية صنع البر) إذاً النعمة والخطية ليسا متشابهان لأن المسيح والشيطان ليسا متساويان. الموت دخل بسبب خطية واحد، ولكن هبة المسيح صارت لغفران كل خطايا العالم.
آية (17): "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح."
قدم المسيح خيراً كثيراً، أكثر بكثير مما سببه سقوط آدم والخطية:-
فيض النعمة=
1. نلنا التحرر من العقاب.
2. نلنا التحرر من الشر.
3. الميلاد الجديد.
4. الحياة المقامة.
5. صرنا إخوة للإبن وشركاء الميراث.
6. إتحدنا به.
7. صرنا أبراراً.
8. صارت لنا حياة المسيح.
9. غَرَسَ النعمة في حياتنا.
10. الله لم يمنح البراءة فقط من الخطية بل التبرير (راجع المقدمة عن التبرير).
11. صرنا هياكل للروح القدس ومنزلاً للآب والإبن.
آية (18): "فإذاً كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة."
بخطية واحدة هي خطية آدم صار الموت للكل وهكذا ببر واحد أي المسيح صارت الحياة لكل المؤمنين. لتبرير الحياة= ننال حياة مبررة في المسيح، حياة لا تتبع الخطية والموت والدينونة. بر واحد= طاعة المسيح حتى الصليب.
آية (19): "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً "
لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد= أي آدم الذي سلم لذريته الطبيعة التي زَلَّت، الطبيعة الفاقدة النعمة والقابلة للموت، وكان الموت الجسدي صورة منظورة للموت الروحي. والله سمح بهذا الموت أن يسود علي الإنسان ليخاف ويتهذب وينصلح حاله، وفي حالة تأدبه يصلح أن يتقدس فيتحصن من السقوط والموت الأبدي. جعل الكثيرون خطاة هو يقصد الكل ولكنه يقول الكثيرون، لأن الخطية ليست عملاً إلزامياً فحرية الإرادة هي التي تجعل الإنسان خاطئاً، وكذلك حرية الإرادة هي التي ستجعل طالب البر باراً. معصية الإنسان= المعصية هنا هي التعدي علي وصية الله التي سلمها لآدم.
هكذا بإطاعة الواحد= أرسل الله المسيح ليحمل طبيعة الإنسان ليرتقي بها إلي فوق الطبيعة الخاطئة التي للإنسان الساقط. فغرس في طبيعة الإنسان النعمة عوضاً عن الخطية. ووهبها روح الحياة الأبدية والقداسة لتقوي علي سلطان الموت وتدوسه. كان هذا كله بإطاعة الواحد، أي إطاعة المسيح حتى الموت موت الصليب (في8:2). ولنلاحظ أن الطبيعة المبررة التي فينا تعطينا أن نطيع الوصية كما أطاع هو. فالنعمة لا تنزع الخطايا فقط، بل تهب البر. نحن ورثنا عن آدم عصيانه وحملنا هذه الطبيعة فينا. لذا جاء السيد المسيح بنعمته، يقدم لنا طاعته لنحياها ونحمل طاعة المسيح فينا.
آية (20): "وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية ولكن حيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جداً."
وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية (الترجمة الأدق التعدي) وقوله دخل يشير إلي أنه وقتي وليس أصيلاً (غل23:3) ولكن ما الذي جعل الخطية تكثر:-
1. الممنوع مرغوب والمنع جعل الشهوة تزداد. وهذا بسبب طبيعة العصيان التي صارت فينا (هذه عكس طاعة المسيح).
2. الخطية كانت غير معروفة، ولكنها صارت معروفة ومحددة، بل صارت تعدي علي ناموس الله وكسر لوصايا وضعها الله.
ولم يكن السبب لعيب في الناموس بل لإهمال من قبلوه، وكان لابد لله أن يعلن عن الخطية ليتحاشاها الإنسان ولا يهلك. ولنلاحظ أن الناموس كان كالمرآة، فالمرآة لا تسبب العيب الذي في وجه الإنسان بل هي تكشفه. هي تكشفه لكن لا تصلحه، وهذا هو الفارق بين الناموس والنعمة.
ولكن حيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جداً= كان هذا بمجيء المسيح في عالم ساده الإثم والخطية. ومعني الآية أنه في الأماكن التي تكثر فيها الخطية يزداد عمل الله وتزداد النعمة جداً. وحيث كثر عمل الشيطان فان الله لا يترك له المجال، بل يزداد عمل الله جداً ليسند الإنسان بقوة وليحفظ الله أولاده. ولنلاحظ تركيب الآية.
حيث كثرت الخطية…. إزدادت النعمة جداً.
لو كانت الخطية 5وحدات…. لكانت النعمة 10وحدات.
لو كثرت الخطية إلي 10 وحدات لإزدادت النعمة إلي 100وحدة.
آية (21): "حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا."
تقريباً هي نفس المعني في (آية17)
أمامنا هنا مملكتان. مملكة تسودها الخطية ونهاية شعب هذه المملكة الموت. ومملكة يسودها البر ونهايتها حياة أبدية. في المملكة الأولي الخطية تملك علي الناس (رو12:6). والثانية تملك النعمة علي الناس فيها. وهم يعيشون في بر (رو14:6). ولاحظ كم هي مرعبة هذه الخطية فهي تملك كمَلِك يتسيد (تسودكم14:6) وهي تقتل (رو11:7). فهي تقود الناس إلي الموت. لو كانت الخطية سهلة لما كان الأمر يستدعي تجسد المسيح وفدائه. فالخطية تعمل للموت، والناموس يساندها، ويحكم علي الخاطئ بالموت. أما بعد المسيح وبعد أن قَدَّم المسيح نعمته، لم نعد نخاف الخطية ولا نرهب الموت، بل ننشغل بالأمجاد المعدة لنا. بر الله ألغي الموت فإنكسرت شوكة الخطية وفقدت سلطانها الذي تحصنت فيه. والعكس فالنعمة أورثت الروح مُلْك الحياة الأبدية ببر الله. وهكذا تماماً كما ملكت الخطية وسيطرت علي الجنس البشري، وظهر سلطانها ومُلْكَها في الموت- فدولة الموت هي دولة الخطية- هكذا أيضاً تملك النعمة بواسطة عطية البر حتى تسود الحياة الأبدية بواسطة يسوع المسيح ربنا. فالنعمة تقود للحياة الأبدية. ودولة البر (التبرير) هي دولة الحياة الأبدية.
مقدمة:
نري في هذا الإصحاح عمل المعمودية، وأنها دفن مع المسيح وموت ثم قيامة معه، صلب للإنسان العتيق ليقوم الإنسان الجديد. ويلزمنا هنا أن نضع تعريفات تساعدنا علي الفهم:-
الإنسان العتيق:- يقول داود النبي "بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" (مز5:51) وفي (رو20:7) نسمع قول الرسول الخطية الساكنة فيَّ، وفي (رو6:6) نسمع تعبير الإنسان العتيق، وكذلك في (كو9:3 + أف22:4). وفي (رو6:6) نسمع تعبير جسد الخطية. من كل هذا نفهم أننا ولدنا بطبيعة خاطئة شريرة وذلك قبل الإيمان والمعمودية. هذه الطبيعة الخاطئة لها دوافع شريرة وتقود الإنسان ليفعل الشر، وهي تستخدم أعضاء جسد الإنسان كآلات إثم، أي لتنفيذ الشر. والإنسان العتيق هذا يموت في المعمودية ويولد بدلاً منه إنسان جديد.
الإنسان الجديد:- (كو10:3) ونسمع في (2كو16:4) عن الإنسان الداخلي "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفني فالداخل يتجدد يوماً فيوم" الإنسان الجديد الداخلي يقوده الروح القدس.
الإنسان الخارجي:- هو أعضاء الجسم (اليد والرجل والعين… الخ) والله يسمح بأن يتألم الجسد (الإنسان الخارجي) حتى يتجدد الداخلي (2كو16:4) وتشبيه الرسول الخطية بإنسان أو بجسد يعني أنها تمثل كائن حي يتصرف ليسقطنا. ونلاحظ تكرار كلمة عبد في الآيات(15-23) ثمان مرات. وهذا يشير لسطوة الخطية التي تسود الإنسان وتستعبده، هي تستعبد أعضاء الإنسان الخارجي ليطيعها ويصنع الخطية، وتصبح الأعضاء ألات إثم. وبالمعمودية يموت هذا الإنسان العتيق ويولد إنسان جديد يقوده الروح القدس، وهو أيضاً قادر أن يستعبد أعضاء الجسم ويقودها لتصنع البر، وبهذا تصير أعضاء الإنسان الخارج آلات بر. إذاً الإنسان الداخلي، سواء العتيق أو الجديد قادر أن يقود أعضاء الجسم. والمعمودية تعطي موتاً للإنسان العتيق، ولكنه يشبه الموت الإكلينيكي الذي فيه يتوقف القلب، ولكن المخ لا يزال يعمل، وبالصدمات الكهربائية يعود القلب للعمل. وهكذا الإنسان العتيق لو أثرته بالشهوات أو الكلمات أو الصور الخليعة… الخ يعود لينشط. وأيضاً الإنسان الجديد إذا أعطيته غذاؤه ينشط. بعد المعمودية. أنا حُرْ في أن أُنَشِّطْ أي من الإنسانين الداخليين. الإنسان العتيق ينشط بممارسة الشر، وإثارة الشهوات… الخ والإنسان الجديد ينشط بالصلاة والتسابيح ودراسة الكتاب والخدمة… ألخ هذا هو غذاء كل منهما.
قصة:- أب وأم من أمريكا أرادا الذهاب لنزهة لأسبوع فإتصلا بجليسة الأطفال لتأتي لطفلهما الرضيع، فوعدتهما بأن تأتي، فسافرا وتركا طفلهما الرضيع، ونسيت جليسة الأطفال الموضوع، وعادا الأب والأم بعد أسبوع ليجدا إبنهما وإذا به جثة هامدة لماذا؟ لأنهما نسيا أن يطعماه.
ونحن في المعمودية يولد لنا إنسان داخلي فهل نطعمه ونغذيه أم نتركه يموت. أي الإنسانين الداخليين نغذيه. الموضوع في يدنا. فالمعمودية لا تلغي حريتنا. ولكن بالمعمودية المسيح يحررنا من الطبيعة الخاطئة فلا يجوز أن نعود لعبوديتها مرة أخري فإن العبودية لها تقود للموت. ولاحظ أننا إمّا في نمو، والإنسان الجديد ينمو والإنسان العتيق يضمحل أو العكس ننحدر وينمو الإنسان العتيق ويضمحل الإنسان الجديد.
الإنسان العتيق:
نحن مولودين هكذا بطبيعة منفتحة علي الشر والخطية والشيطان. طبيعة منحرفة. فيها الإنسان العتيق يستخدم أعضاء الجسد الخارجي كآلات إثم. القائد هنا هو الخطية.
بالمعمودية
مات الإنسان العتيق ووُلِدَ الإنسان الجديد، حياته هي حياة المسيح القائم من بين الأموات. وهذا الإنسان الجديد منفتح علي الله، حواسه مفتوحة علي السماء. ولا يشبعه سوي الله. ويستخدم أعضاء الجسد الخارجي كآلات بر لخدمة الله الذي يحبه، القائد هنا هو الروح القدس هذا يتم بالمعمودية للصغار أو بالإيمان أولاً والمعمودية ثانياً للكبار. بالمعمودية تموت الطبيعة الفاسدة. مثل هذا الإنسان يجد للنعمة سلطان جبار، قادرة أن تحفظه من الخطية بل تقوده لعمل البر بلذة.
ونحصل علي طبيعة الإنسان الجديد كالآتي :
1. من أمن وإعتمد خلص (إيمان + معمودية).
2. أميتوا أعضاءكم… (جهاد سلبي).
3. تغذية هذا الإنسان الجديد (جهاد ايجابي).
"إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق" (كو1:3)
المرتد عن الإيمان (من يثير الإنسان العتيق)
هذا هو من يثير شهواته ويجعل جسد الخطية يستيقظ. ويهمل جهاده (سلبي وإيجابي). فهو يغذي جسد الخطية بخطاياه ويحرم الإنسان الجديد من غذاؤه (إهمال الصلاة والكتاب المقدس ووسائط النعمة..) هنا يعود جسد الخطية ليقود أعضاء الإنسان ويجعلها آلات إثم، مثل هذا الإنسان لا يشبعه سوي العالم ولا يعود يري الله، فلا يطلب الله ليشبعه فهو لا يفهم سوي شهوات العالم هذا الإنسان يجد الخطية سلطان جبار.
يقول بولس الرسول أن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد (غل17:5).
والرسول يقصد بالجسد هنا الشهوة الخاطئة، أو الخطية الساكنة فيَّ والروح يقصد به الروح القدس الذي يقود الإنسان الجديد. ولكن بولس لا يهاجم الجسد الخارجي بأعضائه، بل يهاجم الإنسان العتيق المنفتح علي الشر ويستعبد أعضاء الإنسان الخارجي فتتلذذ بالشر. وحين يكون الإنسان العتيق هو القائد، يكون هذا الإنسان شهواني أما لو كان الإنسان الجديد هو القائد، يكون هذا الإنسان روحاني. والرسول لا يهاجم الجسد بأعضائه الخارجية، فالجسد ليس نجاسة وإلاّ ما كان المسيح أخذ جسداً مثلنا. بل أن عظام إليشع أقامت ميت. وحتى الآن فعظام القديسين تصنع معجزات.
عمل النعمة وعمل الخطية
هناك ظاهرة طبيعية تفسر ما يحدث تسمي ظاهرة الرنين، فهناك آلاف الموجات اللاسلكية تمر في الجو حولنا، ولكن إذا حدث توافق بين دوائر الراديو ودوائر أي محطة إرسال يحدث تقوية لإشارات هذه المحطة ونجد الراديو يذيعها.
هناك عشرات المحطات تبعث بإرسالها ويستقبلها الإيريال بحسب مفتاح إختيار المحطات نوفق دوائر الراديو مع إحدى المحطات. وحينما يحدث توافق تتضخم إشارات المحطة رقم 12 مع الاختيار لمحطة رقم 12 فيذيع الراديو صوت محطة رقم 12.
بنفس الفكرة السابقة حينما تتطابق إرادتي مع إرادة الله تتضخم النعمة داخلي. وحينا تتطابق إرادتي مع إرادة الشيطان تشتعل الشهوات الخاطئة داخلي والموضوع في يدي. الاختيار في يدي. فحينما تكون أعمالي وجهادي لحساب مجد الله تنسكب النعمة داخلي نعمة فوق نعمة (يو16:1) والعكس.
وهكذا إذا حدث توافق بين إرادتي وبين الخطية أجد أن الخطية لها قوة جبارة قاهرة. وإذا حدث توافق بين إرادتي وبين إرادة الله، أجد أن النعمة لها قوة جبارة تجعلني غير قادر علي عمل الشر، بل أعمل البر بلذة. لذلك سأل السيد المسيح المقعد "هل تريد أن تبرأ" (يو6:5) ويقول السيد "كم مرة أردت ولم تريدوا (مت37:23). فمن يغذي الإنسان الجديد بالصلاة والكتاب المقدس "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت4:4). ويغذي إنسانه الجديد بإرادته، فتتفق في هذا إرادة الإنسان مع إرادة الله الذي يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2) إذا حدث هذا الإتفاق، يكون للنعمة قوة جبارة حافظة تمنع السقوط.
الآيات (1،2): "فماذا نقول أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة. حاشا نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها."
سبق بولس وقال أنه حيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جداً. وربما أثار هذا القول بعض الناس فتساءلوا أنبقي في الخطية لكي تكثر النعمة والإجابة حاشا= أي لا يجب أن ننطق بهذه الأقوال التي لا ترضي الله. هذا سؤال من لا يعرف الثمن الذي دُفِعَ لتزداد النعمة ألا وهو دم المسيح. وهو سؤال يدل علي عدم فهم لما حدث علي الصليب. فالمسيح لم يمت لأجل خطيته فهو بار بلا خطية، بل هو مات بجسد البشرية كلها، وأنا واحد من هذه البشرية، فهو مات من أجلي. فصار موته موتي= نحن الذين متنا والذي مات هو الإنسان العتيق. ومن يعتمد فهو يموت مع المسيح فتموت خطيته. فالمعمودية أماتت الخطية فينا وأعطتنا أن نكون خليقة جديدة. ولكي تظل الخطية ميتة، علينا أن نستمر في الجهاد بأن نقف أمام الخطية كأموات. المسيح مات بجسد بشريتنا، وأنا أشترك مع المسيح في موته بالمعمودية. وقوة هذا الموت تعمل فينا:
1. بالإيمان.
2. بالمعمودية.
3. بإرادتنا بأن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية (رو11:6) وبهذا تظهر حياة يسوع فينا (2كو11:4،12).
وبقوة هذا الموت تموت الخطية في أعضائنا بقوة الروح الذي فينا (كو5:3 + رو13:8). هذا ما عناه بولس الرسول حيث قال مع المسيح صلبت (غل20:2). وفي (غل24:5) نري العمل الإرادي للإنسان بوضوح " ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات"… هؤلاء نجد فيهم ثمر الروح (غل22:5،23) ومن ثمر الروح.. النعمة. لذلك يقول بولس الرسول "أقمع جسدي وأستعبده". ولكن من يعود بإرادته ويعيش في الخطية يثور فيه جسد الخطية مرة ثانية وبقوة. وكل إنسان حر في أن يختار، إذا إختار أن يموت مع المسيح ويحسب نفسه مصلوباً عن عالم الخطية سيجد قوة تعمل في داخله هي قوة موت المسيح، ويجد أن الخطية تضمحل في أعضائه وإذا إختار أن يعيش للخطية لن يختبر هذه القوة بل سيشعر أن الخطية تسود عليه بقوة وتقهره.
فالنعمة هي عمل الروح القدس، والروح القدس يملأ من صلب جسده وهناك سلمَّ قانوني سار عليه المسيح وينبغي أن نسير عليه نحن أيضاً فالروح القدس حلَّ على الكنيسة بعد الصعود. والصعود أتي بعد القيامة والقيامة أتت بعد الموت.. والموت أتي بعد الصلب.
وهذا ما هو مطلوب منا.. فلكي نتذوق الحياة السماوية (الصعود) ينبغي أن نقوم مع المسيح، أي يحيا المسيح فيَّ، أي أحيا بحياة المسيح القائم من الأموات (قيامة) وليتم هذا يجب أن أقف كميت أمام الخطية (الموت) وهذا بأن أحكم علي جسدي بالصلب عن أهوائه وشهواته، هذا معني "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل20:2)، والسيد المسيح يقول "من أراد أن يبني برجاً فليحسب حساب النفقة" والبرج هو أن نحيا حياة سماوية. والنفقة هي جسد مائت مصلوب. ونلاحظ أن المسيح عاش علي الأرض مختبراً حياة الموت، ومن أراد أن يكون له تلميذاً فليحمل صليبه ويتبعه في ممارسة الموت الإختياري. ولقد قبل المسيح المعمودية رمزاً لموته قبل أن يموت علي الصليب، وكان هذا علامة لقبوله الموت بإرادته. وهذا هو معني أن تزهر عصا هرون الميتة. وهذا معني "من أحب نفسه يهلكها". والمرأة التي سكبت الطيب (مر3:14-9). قال عنها المسيح أن عملها هذا سيكون كرازة، لأن الكرازة هي أن يسكب الإنسان نفسه حتى الموت لأجل المسيح. العالم يري أن هذا إتلاف، ولكن الله يستحق أن أترك لأجله كل شئ.
ونلاحظ أن الرسول تكلم من قبل عن بنوتنا لإبراهيم، وهنا يرفعنا لدرجة أعلي هي البنوة لله في المعمودية ليعيش الكل كأبناء لله (أمم ويهود) في جدة الحياة أي الحياة الجديدة المقامة مع المسيح. فنحن بالمعمودية نموت مع المسيح (عن الخطية) ثم نقوم بحياة المسيح (المسيح يحيا فيَّ) يعطيني بره، فأحيا لأصنع براً. وتكون أجسادنا آلات بر. وقوة قيامة المسيح تعمل فيَّ لأصنع البر. هذا هو مفهوم الحرية، أي ممارسة الحياة المقدسة بالنعمة الإلهية، بروح البنوة لله.
ولكن هل يوجد إنسان بلا خطية، نقول لا. فكل منا له خطاياه (1يو8:1،10) لكن أولاد الله يسقطون عن ضعف ويقومون سريعاً مقدمين توبة، يقومون سريعاً كمن هم غرباء عن هذا العمل، ولا يطيقون أن يحيوا في الخطية.
الآيات (3،4): "أم تجهلون أننا كل من إعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة."
إعتمد ليسوع المسيح= هي في أصلها إعتمد في يسوع المسيح إعتمدنا لموته= إعتمدنا في موته. صرنا بالمعمودية مشتركين في صليب موته. (هذه تشبه جنين في بطن أمه، لو ماتت الأم يموت الجنين معها) فبالمعمودية أصير في المسيح. وبطن الأم هنا هي المعمودية التي فيها نموت مع المسيح.
إنساننا العتيق قد صلب ومات كما صلب المسيح علي الصليب ومات. المسيح مات ودفن بالجسد، أما نحن فنموت بالنسبة للخطية. فجوهرنا لا يموت، بل إنسان الخطية أي الشر هو الذي يموت. فأنا مت مع المسيح وفيه بجسد الخطية ثم قمت معه. فلا ينسب للمسيح موت دون قيامة فهو القيامة. بمجد الآب= أي أن بالقيامة ظهر مجد الآب وتحققت كل مواعيد الله ونراها الآن بالإيمان. جدة الحياة= أي الحياة الجديدة. نقوم مع المسيح في حياة جديدة فاضلة ونوجه سلوكنا بما يتفق وهذه الحياة الجديدة. هي حياة بإمكانيات جديدة، هي حياة المسيح القائم من الأموات. جدة الحياة هذه في مقابل حالة الموت التي كنا نحياها كخطاة. وجدة الحياة تعني حياة تتجدد ولا تشيخ. هي حياة لها قوانين جديدة وأهداف جديدة ومبادئ جديدة وأصدقاء جدد. ولاحظ قوله فدفنا معه بالمعمودية فالدفن في المعمودية يشير لأهمية عقيدة التغطيس في المعمودية.
آية (5): "لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته "
متحدين معه= المعمودية هي فرصة الإتحاد الحقيقي مع المسيح بشبه موته= لأن المسيح مات بالجسد، أما نحن فنموت عن الخطية، الذي يموت فينا هو الإنسان العتيق. إذاً طريق حياتنا صعب فهو طريق موت. لكنه مبهج، فهو أيضاً طريق قيامة. الخطية تموت والبر يعيش ويقوم ونحيا في حياة سماوية (أف6:2) الإنسان القديم ينتهي والجديد السماوي يعيش. إننا نقوم في هذه الحياة الجديدة لنحيا بحياة المسيح القائم من بين الأموات فنحن إتحدنا معه في موته وفي قيامته، فالحياة التي فيَّ هي حياته المقامة من بين الأموات. ومن يسمع صوته الآن ويتوب يقوم من موت الخطية وهذه هي القيامة الأولي، ومن يعيشها تكون له القيامة الثانية أي يقوم من بين الأموات لحياة أبدية في مجد الله في المجيء الثاني (يو24:5-29). إذاً إن كنا قد إتحدنا معه بالمعمودية التي تشبه موته، فإنه كنتيجة طبيعية لذلك سنصبح أيضاً واحداً معه، مع المسيح، متحدين معه بقيامته، علي أساس أن نظل أمواتاً عن الخطايا، فنظل ثابتين فيه. ونلاحظ أن هناك نوعين من الموت:
[1] الموت [2] الإماتة
الموت:- هو عمل المسيح فينا بدفن خطايانا السابقة. وهذا هو هبة منه.
الإماتة:- فلكي نبقي أمواتاً عن الخطية بعد المعمودية يلزمنا الجهاد حتى الدم (عب4:12). ويكون الجهاد موضع إهتمامنا حتى يعيننا الله (كو5:3 + رو11:6). ونلاحظ أنه لم يقل نصير بشبه قيامته. بل نصير أيضاً بقيامته فهو قدم لنا عربون القيامة المقبلة خلال حياتنا الزمنية. هذه هي القيامة الأولي جدة الحياة. إن كان السيد المسيح يهبنا أن نموت معه في المعمودية، إنما ليقدم لنا إمكانية السلوك هكذا، والجهاد كل أيام غربتنا حتى لا نفقد نعمة المعمودية أو ثمرها فينا. فإن المعمودية لا يقف سلطانها عند حد محو خطايانا السالفة، بل تهبنا أماناً من جهة المعاصي اللاحقة، لكن هذا يحتاج لإظهار تغيير النية (إماتة عن الخطايا، وتجديد للذهن) فالمعمودية موت وقيامة بحياة جديدة.
آية (6): "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية."
ليبطل جسد الخطية= أي شرور الإنسان. ولا يقصد الجسد لذلك قال كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية = ولم يقل نستعبد للجسد فالجسد ليس عنصر ظلمة يجب الخلاص منه ومقاومته فهو من صنع الله الصالح، إنما نحن أفسدناه بإنحراف الأحاسيس والعواطف. وعندما تنزع هذه الأعمال المسببة للموت يظهر الجسد في أمان. وليس الجسد هو الذي يصلب مع المسيح بل السلوك الأخلاقي، أو الطبيعة الفاسدة التي طرأت عليه وأحاسيس الخطية. ولنلاحظ أن شريكنا في الطريق هو المسيح الذي نموت معه، فيعطينا حياة معه ويهبنا قوة وغلبة ونصرة وفكر جديد وتسبحة جديدة. وإذ يموت جسد الخطية فنتحرر من الخطية التي كانت مالكة علينا. ويقوم إنسان جديد يمجد الله، كبذرة زرعت لتخرج شجرة جميلة.
الإنسان العتيق وجسد الخطية = هو الطبيعة الشريرة التي ولدنا بها من بطون أمهاتنا، قبل الإيمان والمعمودية. ولما مات العتيق ما عاد قادراً أن يستعمل أعضاء الجسد الخارجي كآلات إثم = ولا نعود نستعبد أيضاً للخطية.
آية (7): "لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية."
هذه تعني
1. بالموت تسقط الخطية عن المتهم.
2. بالموت تمت عقوبة الناموس فينا.
3. مات الإنسان العتيق وما عاد قادراً أن يستعمل الأعضاء كآلات إثم. بل صار الجديد يستعملها كآلات بر.
إذاً بالمعمودية يموت الإنسان مع المسيح وبهذا فهو تقبل حكم الموت عن خطاياه. ويقوم مع المسيح متحصلاً علي حكم البراءة من خطاياه (رو25:4) والذي مات يكف عن أن يخطئ ولا يتعرض لسلطان الخطية. بهذا الموت تنقطع الصلة بين الإنسان والخطية، إلا إذا شاء الإنسان من جديد أن يعود بجسده إلي ما كان عليه أولاً، أي يعود به إلي عبودية الخطية.
آية (8): "فان كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه."
خاف بولس أن يستثقل المؤمن الطريق لأنه موت مع المسيح، لذلك يوضح أن موتنا عن الخطية ليس حرماناً أو خسارة بل ممارسة لقوة الغلبة والنصرة التي لنا بالمسيح غالب الخطية والموت. هي حياة سنحياها في نصرة مع المسيح. نحن قمنا معه بإستحقاق بره وقداسته. وأخذنا حياة من حياته، بهذه الحياة ننال الفرح هنا وحياة أبدية هناك.
آية (9): "عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً لا يسود عليه الموت بعد."
المسيح هزم الموت وألغي سلطانه وهو الآن في مجد أبيه وقد أعطانا حياته نحيا بها بالإيمان، ومعني كلام الرسول أنه لو أردنا أن نحيا للمسيح ولا نعود للخطية فهذا ممكن، ولا يكون للخطية سلطان علينا ما دمنا معه. ومع أن الخطية عنيفة جداً إلا أن المسيح هدم سلطانها، فلا نخاف أن نسير معه في الطريق. والآية تعني أنه مادام المسيح لن يعود للموت بعد أن قام، هكذا لا يصح أن نعود للخطية بعد أن قمنا معه وصرنا نحيا بحياة المسيح، فلماذا نحكم علي إنساننا الداخلي الجديد بالموت مع أنه يحيا بحياة المسيح. والآية تعني أن الحياة التي حصلنا عليها بالمعمودية هي حياة أبدية، فحياة المسيح هي حياة أبدية، فهو لن يموت ثانية. ونحن حتى وإن متنا بالجسد فسنعود ونقوم بهذه الحياة الأبدية التي أخذناها وهذا معنى "من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يو25:11).
آية (10): "لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة والحياة التي يحياها فيحياها لله "
ماته للخطية= لم يمت المسيح عن ضعف خاص به إنما بسبب خطايانا، لكي يحطم خطايانا ويبدد قوتها ويحل سلطان الخطية فلا يعود لها علينا سلطان ما دمنا في إتحاد معه. وهو مات مرة واحدة ولم يسد عليه الموت بعد. والحياة التي يحياها فيحياها لله = بعد أن قام صار يحيا حياته لكي يمجد الله بأن يهب نفوس البشر حياة مقدسة، يعطينا حياته وبره وبهما نمجد الله. يهبنا الموت عن الخطية والحياة للآب كأبناء له. والرسول يريد أن يقول… إن كنا قد حصلنا علي حكم براءة أبدية فبأي منطق نعود للخطية ثانية، هذا يكون كمن يعود للقبر بعد أن قام حياً.
الآيات (11-14): "كذلك أنتم أيضاً أحسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته. ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر لله. فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة."
نري فيها مفهوم التكريس الحقيقي. فيها يشرح الرسول أننا يجب أن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية وأحياء لله في المسيح. إن كان المسيح مات عنا ليبطل لنا سلطان الخطية فإنه لا يليق بنا إلاّ أن نُسَلِّم القلب عرشاً له. إذاً لنمت عن الخطية فلا تملك علينا بعد ولنحيا لله بالمسيح يسوع الذي يملك فينا ويقيم مملكة داخل قلوبنا، مقدمين كل أعضاء جسدنا وكل طاقاتنا لحساب ملكوته كآلات بر بعد أن كانت خاضعة للشهوات كآلات إثم للخطية.
آية 11: أمواتاً عن الخطية= المعني أن تحكم علي نفسك بأنك إنسان ميت أمام الخطية وبلا خوف فلم يعد لها سلطان علينا، بل لقد تبرأنا منها، تبرأنا بما تبنا وإعترفنا عنه. وبعد ذلك نقطع كل صلة لنا بها. وأحياء لله= كما أن المسيح يحيا لله (آية10) هكذا يجب عليكم أن تعيشوا متحدين بالمسيح، بحياة جديدة. بالمسيح يسوع ربنا= فبدونه لا نقدر أن نعمل شيئاً (يو5:15) فلا يمكن أن نحيا لله بدون المسيح، وفيه نتراءى أمام الله ونعيش أمام الله.
آية 12: وعلي ذلك فلا يجب أن تتسلط الخطية وتملك علي جسدكم الذي مات عن الخطية. أي لا يجب أن نطيعها منجذبين ومندفعين بشهوات هذا الجسد. ومن يفعل ويقرر أن لا يندفع وراء شهواته سيجد أن النعمة تعينه فالروح القدس يجعل الشهوات تهدأ والجسد يكون كميت أمامها. ولكن لو عاد الإنسان وتهاون وبدأ يداعب الخطية تستيقظ حالاً شهواته، فالإنسان كان وسيظل حراً. إذاً خذوا قراركم وإستعملوا القوة والسلطان الذي يعطيه الروح القدس، ولو سقطتم سارعوا بالتوبة. ولاحظ أنه قال لا تملكن الخطية= ولم يقل لا تدعها توجد هناك، فهي موجودة بالفعل، مادمنا نحمل جسداً قابلاً للموت فستحاربنا الخطية. ولكن ليتك لا تملكها. هي فقدت قدرتها علي أن تملك، فلا تُمَلكِّهْا أنت فلو بدأت تطيعها ستملك. كأن عبداً قد تحرر بثمن باهظ فنقول له لا تعود تستعبد لأحد ثانية فهو الآن حر لا سيد له. ومن الذي تملك عليه الخطية؟ هو من يجري وراء شهوات العالم فيحيي الإنسان العتيق فتملك عليه الخطية. كثعبان متجمد من الثلج، لو أدفأته في جيبي، فأول ما سيستيقظ يلذعني فأتسمم وأموت. هذا الثعبان المتجمد هو الخطية التي قتلتها النعمة.
آية 13: أعضاءكم: هي الرجل واليد والعين.. والفهم والذكاء والإرادة بل وكل الملكات الجسدية والنفسية والروحية. فلا تقدموها كآلات ووسائل للإثم، حتى لا تحاربكم الخطية وتنتصر عليكم بواسطة هذه الأعضاء. فلنحذر أن نخضع أي حاسة من حواسنا الجسدانية للخطية… مثال:-
لو غضبت لا تحرك لسانك بالشتيمة ولا يدك للضرب، فحينما لا يكون هناك آلات للخطية ستتلاشي الخطية يوماً فيوم.
والرسول لا يكتفي بمجرد التحذير من الوقوع في الخطية، ولكنه يضيف ناحية إيجابية في حياتنا الروحية. فعلي المؤمنين ليس فقط أن ينقطعوا عن الشر بل يقدموا ذواتهم أي كيانهم كله كتقدمة مكرسة لله. وهو قبل أن يطلب تقديم أعضاءنا آلات بر لله يطالبنا بتقديم ذواتنا كأحياء من الأموات. قد حصلنا علي حياة جديدة مقدسة. بمعني أنه لن تتقدس أعضاءنا الجسدية ما لم يتقدس كياننا ككل، ونقبل أن نكون كالمسيح أحياء لله آية10 أي نحيا لمجد الله. ثم نكرس كل عضو من أعضاء جسدنا لله لكي تكون آلات فضيلة، تستخدم في إظهار مجد الله. وذلك بممارسة الأعمال الفاضلة. وهذا معني أن الروح يبكت علي خطية (تموت أعضائنا عن الخطية) ثم علي بر (نصنع براً). والرسول هنا يؤكد أن الدعوة للموت مع المسيح ليست هي دعوة لتحطيم كيان الجسد بل تقديسه [اليد عوضاً أن أستعملها في الضرب والسرقة (آلات إثم) تموت عن الخطية فلا تمارس هذه الأعمال ثم أستخدمها (كآلات بر) في الصلاة ومساعدة المحتاج، وخدمة الله] فالإنسان العتيق هو الذي يُصْلَب لا أعضاء الجسد. والدعوة للموت مع المسيح ليست دعوة سلبية للخسارة والتبديد، إنما هي دعوة إيجابية للربح. فالموت هنا هو ربح إذ فيه تمتع بالمعية مع المسيح المصلوب القائم من الأموات القادر أن يقيم أعضائنا كآلات بر واهباً إياها تقديساً من عندياته. نحن قد تسلمنا من آدم جسداً إنفتحت حواسه وأعضاؤه وملكاته (فكره وإرادته…) علي الشيطان (ولكنها غير مجبرة علي الخضوع له). أما المسيح فجاء ليميت فينا هذه الطبيعة المجروحة المفتوحة علي الشيطان. وأمات الخطية في الجسد ففقدت الخطية تسلطها علي أعضاء الإنسان، وحرر المسيح أعضائنا وجعلها مفتوحة علي الله لتسمعه وتراه.
آية 14: وأنتم تستطيعون أن تبلغوا هذه الدرجة من الحياة الروحية لأن الخطية لا سلطان لها عليكم= لن تسودكم (لن تتملك عليكم) لأن النعمة سوف تدينها (رو3:8). لأنكم لستم بعد تحت سلطان الناموس. الذي كان عمله أن يفصل بين الخير والشر دون أن يهب القوة علي بلوغ حياة البر. لكنكم الآن أعضاء في مملكة البر، غُفِرَتْ لكم خطاياكم السابقة وأصبحتم بواسطة هذه النعمة قادرين علي السير بأمان في طريق القداسة والفضيلة، وهذا يؤكد علي الإمكانيات الجديدة التي صارت لنا خلال النعمة التي تعمل فينا في مياه المعمودية كما في جهادنا اليومي. الإمكانيات الواهبة للغلبة.
تحت النعمة: النعمة هي قوة عاملة فينا تميت فينا محبة الخطية. وهي من عناية الله ورعايته وتدبيره ليقود الإنسان لميراثه الأبدي. ولو خضع الإنسان لتيار النعمة لا تعود الخطية تسود عليه. فالنعمة هنا هي قوة الله السرية الخفية التي تسكن أعضاء الإنسان العائش تحت خضوع النعمة والذي يضبط شهواته ويميت أعضاءه عن الشهوات الخاطئة (رو1:12). والروح القدس يعطي لمن يريد قوة وإقناع (أر7:20) لترك الخطية والحياة في بر (إقناع أولاً ثم قوة للعمل ثانياً (رو26:8).
آية (15): "فماذا إذا أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة حاشا."
أيكون بعد كل ما قيل أن نفهم الحرية في المسيح أنها عودة للخطية. إذا أخطأ إنسان وقال أنا حر فهو بالحقيقة مستعبد للخطية، الحرية الحقيقية هي عبودية لله وفيها يجد الإنسان أن قوة تسانده ليفعل البر، هي عبودية الحب الإختياري وليس عبودية العنف الإلزامي. ولنلاحظ أن النعمة والخطية لا يجتمعان، فلا يقدر أحد أن يخدم سيدين (مت24:6 + يو34:8،36). هناك من أساء فهم ناموس النعمة والحرية وقال نخطئ لأننا أحراراً، ولكن هذا كمن يستغل كرم صديقه بالخيانة والإساءة إليه، فداء المسيح حررني، وعليَّ أن لا أستعبد للخطية ثانية (يو36:8).
آية (16): "ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة انتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر."
من نوجه حياتنا وذواتنا له نكون عبيداً له ونلتزم بطاعته فلا يوجد سوي سيد واحد. والله كسيد يبرر ويعطي حياة لو أطعنا. أمّا الخطية كسيد فتقود للموت. وبحسب ما رأيناه في مقدمة الإصحاح فالإنسان الداخلي هو الذي يقود الأعضاء الخارجية. ونحن أحرار في أن نجعل أحدهما ينمو والآخر يضمحل أو العكس. ومن هو فيهما القوي سيقود الأعضاء الخارجية. فلو جعلت الإنسان الجديد ينمو، هذا الذي حصلت عليه في المعمودية، فهو سيقود الإنسان الخارجي لطاعة الله وليتبرر. ولو قاد الإنسان العتيق الإنسان الخارجي لقاده للخطية والموت. ولنلاحظ أن هناك من يستعبد لشهواته الخاطئة، وهناك من يستعبد للبر مثال خادم صحته منهكة ولكن مُصِـّرْ علي الخدمة، ولا يستطيع ترك خدمته، أو مريض مُصِـّرْ علي الصيام، ويجد لذته فيه.
آية (17): "فشكرا لله أنكم كنتم عبيدا للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها."
أطعتم من القلب= الحرية التي نمارسها ليس عن قوة أو إضطرار إنما تمارس خلال الحب بكمال إرادتنا. صورة = كلمة تفيد طبعة أصيلة للتعليم.
آية (18): "وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيداً للبر."
إذ تحرروا من الخطية إرتبطوا بالبر، لا يستطيعون إلا أن يعملوا البر كأنهم عبيد للبر، ويجدوا لذتهم في ذلك. فالحرية في المسيح هي عبودية للبر.
آية (19): "أتكلم إنسانياً من أجل ضعف جسدكم لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدا للنجاسة والإثم للاثم هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيداً للبر للقداسة"
أتكلم إنسانياً= أكلمكم بحسب ضعف طبيعتكم التي لازالت جسدية لدرجة أنكم تتكلمون وتعتقدون أن عمل الفضيلة كما لو كان فيه عبودية عِلماً بأن عبودية البر هي في حقيقتها حرية للجسد والروح. فلأنكم لم تنموا بعد في النعمة قد تتصورون أن المسيح أو الكنيسة تريد أن تستعبدكم. وهذا يحدث مع المبتدئين روحياً، فلو قلنا لشاب أن هناك يوم روحي نقضيه في الصلوات والاجتماعات فسيعترض من كثرتها ولكن نقول له بلغته، ليكن، أنت تتصور أن هذه الصلوات والاجتماعات فيها عبودية، ولكنها عبودية للبر، وإذا مارس هذه مرة بعد مرة سيكتشف لذة طريق الله وأنها ليست عبودية بل هي تنمي الإنسان الداخلي فيحيا في السماويات. وهناك من يعترض ويقول أن الكنيسة تستعبدنا بكثرة صلواتها وأصوامها. فنرد عليهم قائلين "موافقين… ولكن أيهما أفضل أن تستعبدك الكنيسة بأصوامها وصلواتها، أم تُستَعبد للخطية بفضائحها، لكن عليك أن تعلم أنك لو إستعبدت نفسك للبر بحريتك فسيقودك هذا للحرية الحقيقية، كما يحدث الآن ويأتي شخص تذوق لذة الصيامات طالباً أن يصوم ويعمل مطانيات في الخمسين المقدسة.
عبيداً للنجاسة= أي لخدمة الخطية التي تنجس الإنسان. وليس أقسى من أن يستعبد الجسد للخطية أو أحط من أن يُرسَل الإبن ليرعي مع خنازير قد متم = أي بإختياركم، فالشيطان لا سلطان له علي إجبارنا. وهذا ما يبرر الله في هلاك الخطاة، فهم يبيعون أنفسهم لعمل الشر.
الإثم للإثم= إن خطية واحدة تجعل القلب أكثر ميلاً للأخري. وكل عمل خاطئ يُثبِّت ويُقوِّي العادات الخاطئة. فمن يسلك في طريق الخطية تزداد حياته شراً ويزداد قلبه قساوة. ومن يزرع الريح يحصد الزوبعة (هو7:8) هذا يصير عبداً للنجاسة والإثم لخدمة الإثم.
قدموا أعضاءكم عبيداً للبر والقداسة= عندما تكفّ أعضاؤنا عن خدمة الخطية، يجب أن لا تبقي عاطلة بل لتُستخَدم في خدمة الله. وهذا يبدأ بالتغصب فملكوت الله يغصب (مت12:11) ولكن من يفعل يقوده الروح القدس للقداسة، أي يتخصص الإنسان كله لله، وهذا يلازمه السلام والفرح. ولنلاحظ أن العبودية للفضيلة ليست إلاّ حرية.
آية (20): "لأنكم لما كنتم عبيد الخطية كنتم أحراراً من البر."
لما كنتم عبيداً للخطية كنتم تحررون أنفسكم من الإلتزام بمطالب البر وكنتم تسمون أنفسكم أحراراً. ولكنكم كنتم في أشد درجات الإنحطاط وفي النهاية هلاك. في الواقع هذه ليست حرية بل هي حرية مسلوبة. إذاً أيهما الأفضل أن تستعبدوا للبر فنهايته حياة والآن فرح، أم تستعبدوا للخطية وتعيشوا الآن في مرارة والنهاية هلاك.
آية (21): "فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن لأن نهاية تلك الأمور هي الموت."
هنا مقارنة بين العبودية للإثم والعبودية للبر. فالأولي قاسية مخزية نهايتها الموت وتثمر عاراً والثانية تثمر قداسة وحياة أبدية. والسؤال هنا لهم ماذا إنتفعتم من حياة الخطية، بل أنتم تستحون الآن من حياتكم السابقة عندما تتذكرونها، بل كنتم معرضين للموت بسبب خطاياكم.
آية (22): "وأما الآن إذ أعتقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية"
أمّا الآن حيث أنكم قد تحررتم من الخطية بالمعمودية وأخضعتم أنفسكم لله فإنكم قد إكتسبتم بكل تأكيد نمواً وتقدماً في حياة القداسة= لكم ثمركم للقداسة = أنتم الذين تستطيعون أن تحكموا علي ثمركم الآن في ظل حياة القداسة، من ثمركم المرّ أيام الخطية. ولاحظ قول بولس أننا بدون قداسة لن نري الله (عب14:12) والنهاية حياة أبدية.
آية (23): "لأن أجرة الخطية هي موت وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا."
لقد كنتم آنذاك عبيداً يائسين. لأنت أجرة الخطية التي تدفعها (اللذة الوقتية) لمن يتعبدون لها هي الموت. أما العطية هبة الله هي عطية مجانية وليست أجرة، هذه التي يهبها الله لعبيده، وهي حياة أبدية تتحقق لنا بواسطة إتحادنا بالمسيح يسوع ربنا. وكلمة أجرة التي أستخدمها الرسول هنا هي بمعني أجرة زهيدة تعطي لعبد وتأتي بمعني أدام (طعام أو غموس) يعطي للعبد لسد الرمق. وهي كلمة تشير للمتعة الوقتية الزهيدة للخطية ونهايتها الموت. أما هبة الله فهي عطية الله الوفيرة بكل الحب والابتهاج، وهي مجانية.
يحدثنا هذا الإصحاح عن ثلاثة مواضيع
1. بفداء المسيح، وبالنعمة التي حصل عليها المؤمن إنقطعت صلته بالناموس الآيات (1-6).
3. لماذا كان الناموس أصلاً؟ كان أداة لكشف الخطية الآيات(7-13).
3. ولماذا أخفق الناموس لأنه لم يستطيع علاج الخطية الساكنة فيّ الآيات(14-25).
آية (1): "أم تجهلون أيها الاخوة لأني أكلم العارفين بالناموس أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حياً"
كانت المشكلة الكبيرة في الكنيسة الأولي، أن المسيحيين من أصل يهودي أرادوا أن الأمم يتهودوا قبل إنضمامهم للكنيسة وأن يلتزموا بالناموس مثل الختان. وبولس لا يريد أن يهاجم الناموس ولكنه يريدهم أن يفهموا أن الفرح الحقيقي هو بفداء المسيح وبره، ويتمسكوا لا بشكليات الناموس بل بالنعمة التي حصلوا عليها. وأن يفهموا أن الناموس كان درجة بدائية في التعامل مع الله، أما النعمة فهي إرتقاء في التعامل مع الله. وهو بهذا يحطم كبرياء اليهود في أنهم أصحاب الناموس، دون أن يهاجم الناموس لأن الناموس مقدس إذ هو ناموس الله، لكنه كمرحلة أولي سلَّمنا إلي المسيح الذي هو الدرجة الأعلى في التعامل مع الله. وعمل الناموس بهذا قد انتهى إذ سلَّمنا للمسيح. فالناموس كان يفضح الخطية ولكنه لا يعالجها، لذا فهو لا يبرر الخطاة. ووضع أمامنا الرسول مثال عريسين وعروسة واحدة العريسين هما الناموس والمسيح والعروسة هي أنا. وكانت العروسة مرتبطة بالعريس الأول. فإذا مات أحدهما العريس أو العروسة يتحرر الطرفان إذ انتهى هذا الزواج، ولما كان الرسول لا يريد أن يقول أن الناموس يموت، إذ هو ناموس الله، قال أن العروسة ماتت مع المسيح في المعمودية. ولاحظ أن في إرتباط العروسة مع الناموس كان الناموس يحكم عليها بالموت لأنها خاطئة، والناموس يدين. ولكن بموت العروسة خرجت من دائرة الناموس، إذ لا سلطان عليها منه، فأقسى النواميس لا يستطيع إلا أن يقتل الجسد ولا سلطان له بعد ذلك. وبهذا تحررت وصارت من حقها أن ترتبط بآخر الذي هو المسيح. بعد أن تحررت من الناموس.
آية (2): "فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل "
المرأة مرتبطة برجلها طالما هو حي وفقاً لتعاليم الناموس. فالمرأة هي الأمة اليهودية، أو هي أنا، والأهم أن الأمم لا داعي لتهودهم إذ هم أصلاً متحررين من الناموس وغير مرتبطين به. وموت أحد الطرفين يلغي العقد بين المرأة وحرف الناموس وطقوسه. لكن طبعاً ليس من أخلاقيات الناموس. ولا النبوات التي تشهد للمسيح.
آية (3): "فإذاً ما دام الرجل حياً تدعى زانية إن صارت لرجل آخر ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى أنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر "
الرجل الآخر هو أعمال النعمة الإلهية التي لا تتفق مع حرفيات الناموس، من ذبائح وختان وتطهيرات. ومن يموت زوجها أو إذا سقط العقد (بموتها هي) لا تصير زانية إن صارت لرجل آخر (المسيح).
آية (4): "إذاً يا إخوتي أنتم أيضاً قد متم للناموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر للذي قد أقيم من الأموات لنثمر لله."
لا يقدر أن يقول إن الناموس مات، فهو ناموس الله المقدس (رو31:3 + 14:7). ولكن قال إن الذي مات هو الإنسان ليحيا للمسيح ولكنه بموته تحرر من حكم الرجل الأول أي الناموس بحرفيته. والمسيح لم يكسر الناموس بل أكمله عنّا ومات عنا ودخل هو كعريس للجماعة التي حكم عليها العريس الأول بالموت. إذاً موتنا للناموس لحساب إتحادنا مع المسيح لا يعني إنهيار الناموس بل تحقيق غايته بتقديمنا للرجل الآخر الذي أقيم من الأموات لنقوم معه. قد ُمتُّمْ للناموس فالناموس قد حكم عليّ بالموت بسبب خطيتي، ولكني بالمعمودية مُتْ مع المسيح وإتحدت بجسد المسيح الممات علي الصليب. لكي تصيروا لآخر= لكي ترتبطوا بآخر أي المسيح الذي قام من الأموات (2كو15:5). ولكي نحصل بإتحادنا به (كثمرة لهذا الزواج) ثمار حياة فاضلة يتمجد بها الله = لنثمر لله والإنسان الحي يثمر كما يثمر النبات الحي، ونحن صرنا أحياء بحياة المسيح فينا. بينما في علاقتنا بالناموس لم نثمر لا لسبب خاص بالناموس بل بسبب طبيعة العصيان التي كانت لنا. والنتيجة أن الناموس حكم عليهم بالموت. فثمار الخطية موت وثمر الحياة مع الله بر وحياة أبدية. والآن إذا كنا عروس للمسيح فهي خيانة له أن نتركه ونكون لغيره، لذلك قيل إن محبة العالم عداوة لله (يع4:4).
قَدَّم الرسول 3 أسباب تجعل الناموس بلا صلاحية ولا سلطان إزاء المؤمن المسيحي:-
1. المسيح ونحن فيه أكمل الناموس. هو كان الإنسان الكامل، وطالما أنا ثابت فيه أحسب كاملاً بالرغم من خطاياي، وبهذا أدخل السماء. ونحن نثبت في المسيح بالإيمان والمعمودية وحياة التوبة والجهاد. وهذا معنى أن المسيح كان مولوداً تحت الناموس (غل4:4) أي أنه أكمل الناموس. بل هو الوحيد الذي أكمل الناموس لأصير فيه كاملاً.
2. المسيح بموته أكمل الفداء وأكمل حكم اللعنة والموت وجعلنا بلا خطية والناموس لا سلطان له إلاّ علي الخطاة.
3. قمنا مع المسيح، وبحياة المسيح، والناموس لا يتعامل إلا مع المحكوم عليهم بالموت، كأموات للناموس صرنا أحياء في المسيح.
آية (5): "لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نثمر للموت."
لما كنا في الجسد= المقصود بالجسد أنه حينما كان الإنسان العتيق هو الذي يقود ويستعبد أعضائي. ولم يقل لما كنا في الناموس حتى لا يستهين أحد بالناموس. وأيضاً يعني بقوله في الجسد، لما كنا بدون نعمة تساندنا.
الخطايا التي بالناموس= أي الخطايا التي كشفها الناموس، فالأمراض كانت موجودة وتميت الناس دون أن يعرفها أحد، ثم جاء الطب وكشفها. لكن الناموس يكشف ويأمر ولكنه لا يعين تعمل في أعضائنا= لأن السبب في الخطية ليست الأعضاء أصلاً، إنما الأفكار، والخطية الساكنة فيَّ أي الإنسان العتيق الذي يقود الأعضاء. والرسول يريد أن يقول أنه الآن نتيجة لهذا الاتحاد الروحي الجديد مع المسيح سوف نثمر للحياة الفاضلة ذلك لأنه عندما كنا نحيا حياة جسدية كانت أهواء الخطايا تعمل في أعضاء جسدنا. وكانت تتخذ دافعاً لها لما يحرم الناموس فعله. وكانت لها قوة وتأثير سيئ علي أعضاء جسدنا. نثمر للموت= نعمل خطايا تقودنا للموت (يع15:1).
آية (6): "وأما الآن فقد تحررنا من الناموس إذ مات الذي كنا ممسكين فيه حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف "
تحررنا= الكلمة اليونانية تشير أنه لم يعد هناك أثر أو فاعلية لأننا متنا= إذ مات الذي كنا ممسكين فيه = الذي مات هو الإنسان العتيق الذي كان ممسكاً بالخطية (وليس الناموس وليس الجسد). ممسكين فيه = في قبضته. كان الإنسان العتيق مُمْسِكاً ومُسْتَعِبْداً أعضاء جسدي ويقودها. والآن فالقيد الذي كنا ممَسكين به إنكَسَر وتبدد (مات) حتى إن الخطية التي كنا ممسكين بها لا تعود تمسك بنا.
حتى نعبد بجدة الروح= لم نعد بعد نستعبد للحالة القديمة حين كان الناموس الحرفي يسود. إنما صارت لنا عبادة الروح. وفي عبادة الروح صار الروح القدس يعطي للإنسان إمكانيات جديدة فوق مستوي الناموس [لا تزن صارت لا تنظر لتشتهِ، ولا تقتل صارت لا تغضب، وبينما ندر وجود بتوليون في العهد القديم إزداد عددهم بكثرة في العهد الجديد، وزاد عدد الشهداء، وعلَّمنا المسيح أن نحب الأعداء] فلم يَعُدْ ما يحكمنا الآن هو الناموس الذي يدين، بل ما يقودنا الآن الروح الذي يعين (رو26:8). صرنا لا نعتمد علي الشكليات كاليهود (2كو3:3،6).
عتق الحرف= عتق = قِدَمْ أي الحرفية التي يريد اليهود أن يعيشوا بها. الحرف= أي الشريعة. ووردت القصة الآتية في جريدة الأهرام وهي تعبر عن حرفية اليهود ومظهريات عبادتهم دون روح. فالناموس يمنع العمل يوم السبت، فكان أن اليهود يستأجرون عمال مسلمين من الفلسطينيين ليعملوا لهم، حتى في إضاءة الأنوار وإطفائها. أما عبادتنا نحن المسيحيين فهي بالروح والحق (يو24:4).
آية (7): "فماذا نقول هل الناموس خطية حاشا بل لم اعرف الخطية إلا بالناموس فأنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته."
بعد أن أعلن فرحته إذ تحرر من الناموس يتساءل مع السامع، هل الناموس به عيب= هل الناموس خطية= هل هو شريعة للشر، وكيف يكون كذلك والله هو الذي وضعه. حاشا= أبداً فهو بدونه كان الإنسان قد إنحط للحيوانية. وما يجب أن نفهمه أن الناموس كالمرآة فاحص للإنسان هو يفضح الخطية ولكن لا يعالجها، هو يفتح الجرح ويعده للشفاء الذي كان بالمسيح. هو عاجز عن أن يعطي معونة للإنسان هذه التي تعطيها النعمة. فالمرآة (الناموس) تظهر العيوب، والنعمة هي طبيب التجميل الذي يعالج. كان الناموس مؤدبنا إلي المسيح (غل24:3). ولكن الناموس كشف طبيعة العصيان التي فيَّ. وبهذه الطبيعة صار كل ممنوع مرغوب. وكان هذا ليس عيباً في الناموس ولكن في طبيعة الإنسان، الذي عندما يشتهي شيئاً ويُمْنَعْ عنه تلتهب الشهوة فيه بالأكثر. لا تشته= هذه هي الوصية العاشرة.
آية (8): "ولكن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية أنشأت فيّ كل شهوة لأن بدون الناموس الخطية ميتة."
الخطية كانت ميتة بالنسبة لإنتباه الإنسان، أي أن الإنسان لم يكن منتبهاً إليها كعنصر شرير مفسد وقاتل. ولكنها كانت موجودة بالفعل يمارسها الإنسان دون أن يعيها أو يعي خطورتها، وكانت تقتله دون أن يدري. هذه الآية تشبه ما قاله السيد المسيح "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية" (يو22:15).
بدون الناموس الخطية ميتة = لا يعني الرسول أن الخطية لم يكن لها وجود بدون الناموس، بل يعني أن عملها ونشاطها كان أشبه بحالة من الموت بدون الناموس:- مثال ثعبان في الشتاء يكون متجمداً ويكون أشبه بميت وحينما تسطع الشمس بحرارتها (الناموس) يتحرك الثعبان ويعود للحياة. هنا يُشْكَرْ الناموس الذي يفضح استعداد الإنسان للخطية، لقد أظهر الطبيعة المتمردة التي فيَّ، وزادت خطية العناد. هذا معني الممنوع مرغوب. هذا ما جعل الوصية تثير فيَّ شهوة الخطية. ويُلام الإنسان الذي حَوَّل إستعداد الخطية إلي فعل تعدٍ بإرادته وحب إستطلاعه للشر. ولكن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية= متخذة فرصة تعني أنها قد أعلنت الحرب ضدي وأثارت فيَّ شهواتي بدافع أن كل ممنوع مرغوب (هذه هي طبيعة العصيان والتمرد التي صارت في الإنسان بعد السقوط) كما أقول لإنسان إفتح كل هذه الدواليب، ما عدا هذا الدولاب، ستجده يفتحه وربما أول دولاب يقوم بفتحه). وهذا ما جعل سليمان يقول أن المياه المسروقة حلوة (أم17:9). ولنعلم أن الإنسان بالناموس الطبيعي أي الضمير كان يعرف أن الخطية خاطئة، وجاء الناموس يحددها ويحدد الشهوة بدقة. وكان الإنسان يعرف الشهوة قبل الناموس (سدوم وعمورة /زوجة فوطيفار..) لكن الناموس كشفها للخارج وقننها (صارت لها قوانين). ولنلاحظ أن بولس الذي كان بلا لوم من جهة البر الذي في الناموس كان شاعراً بأن فيه كل شهوة. كانت الخطية الساكنة فيه هي التي أنشأت فيه كل شهوة بسبب الطبيعة الفاسدة. والخطية إنتهزت فرصة بالوصية، هذه إقتبسها بولس الرسول من تصرف الحية مع حواء أي يمكن تعديل الآية ووضع كلمة إبليس بدلاً من الخطية. ومنذ سقط آدم صار كل ممنوع مرغوب بسبب طبيعة التمرد والعصيان التي صارت في آدم.
ولكن هل يُعاب الناموس= أبداً ولنقارن بين الشعب اليهودي والأمم الذين وصلوا لإنحطاط غير عادي. إذ قال فلاسفتهم أن الشذوذ الجنسي هو ميزة للسادة لا يجب أن يتمتع بها العبيد، وبهذا إنحطوا بدرجة أقل من الحيوانات، أمّا الناموس فحفظ اليهود وقلل خطاياهم بقدر الإمكان وسيطر عليهم نسبياً فصاروا أفضل من الأمم، وهذا معني أعطيتني الناموس عوناً. فاليهود بلا ناموس كانوا سينحطون لدرجة أقل من الحيوانات كالأمم.
آية (9): "أما أنا فكنت بدون الناموس عائشاً قبلاً ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمت أنا."
كنت عائشاً قبلاً= لم يقل حياً. فقوله عائشاً هذه تشبه قول إنسان فقير لا يعرف ملذات الحياة ، أو إنسان مريض لا يستمتع بشيء "أهي عيشة وبس". هو كان يتصور في أوهامه أنه حي وفي حالة جيدة ولكنه كان ميتاً بسبب الخطية حتى مع عدم وجود وصية، فالخطية قاتلة. ولكن لما ظهر نور الشمس (الناموس) داخل الحجرة (قلبي) ظهرت القذارة التي في الداخل، وإنتعش الثعبان المتجمد بسبب حرارة الشمس، هذا معني عاشت الخطية= أي إنتعشت بعد أن كانت غير ظاهرة لي. ومت أنا علمت أن بسبب الخطية وإنحرافي الداخلي الذي إكتشفته أنني سأموت. قبل الناموس كانت الخطية موجودة والشهوة موجودة، وبسببهما أهلك الله العالم بالطوفان وأحرق سدوم وعمورة، ثم جاء الناموس ليضيف للإنسان إتهاماً أشد. فمن لا يطيع الوصية يسقط في التعدي. وصار الإنسان يعلم أنه سيموت بسبب التعدي، ولكنه كان غير قادر علي إصلاح حاله، ولا إصلاح إنحرافه الفاسد وميله للإرتداد.
آية (10): "فوجدت الوصية التي للحياة هي نفسها لي للموت "
هنا الرسول يبرئ الوصية من أي عيب والدليل أن كثيرين صارت لهم حياة بسببها من أبرار العهد القديم. ولكن العيب كان في من يخالفها.
آية (11): "لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني."
بإستبدال كلمة الخطية بكلمة إبليس، نجد أن هذا ما فعله إبليس حين خدع حواء بواسطة الوصية، وكان ذلك بمزج جزء من الحق بجزء من الكذب. وهكذا يفعل إبليس دائماً (فمن يريد أن يحلل لنفسه شرب الخمر يدَّعي أن بولس قال أن قليل من الخمر يصلح المعدة، وهذا لم يقله بولس أبداً راجع 1تي23:5). والشيطان أيضاً إتخذ منع الوصية لبعض الخطايا بأنه أثار الإنسان ليعملها. الخدع مستمرة منذ قالت الحية لحواء لن تموتا فخدعتهم وقتلتهم. لقد قادتني الوصية إلي الموت لأن الخطية التي كانت ساكنة فيَّ إتخذت دافعاً من الوصية وخدعتني فأماتتني. كما أثارت الحية في حواء شهوة أن تصير مثل الله متخذة فرصة بوصية الله لآدم وحواء.
آية (12): "إذاً الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة "
هو يبرر الناموس ويلقي التهمة علي الإنسان. ويقول أن الناموس مقدس وكل وصية من وصاياه هي مقدسة وعادلة وصالحة. والله أعطي هذا الناموس الصالح لأجل إصلاح الإنسانية. وكل أهدافه خيرة.
آية (13): "فهل صار لي الصالح موتاً حاشا بل الخطية لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتاً لكي تصير الخطية خاطئة جداً بالوصية "
فهل صار لي الصالح موتاً؟ هل صارت الوصية الصالحة سبباً لموتي. وهل القاضي الذي يحكم بالموت علي مجرم عدلاً يصبح قاتلاً. بل الخطية لتظهر خطية = الخطية إختفت وراء الوصية، تخدع الإنسان وتصور له الخطية بلذتها أنها خيراً، وتخفي عنه أن عقوبتها الموت. منشئة لي بالصالح (الوصية) موتاً = إذ تخدعني فأنجذب من شهوتي فأموت.
لكي تصير الخطية خاطئة جداً بالوصية = لقد ظهرت بشاعة الخطية من نتائجها (الموت واللعنة والحزن والخراب والألم…) ظهر كم هي رديئة هذه الخطية إذ أنها بواسطة الناموس الذي هو مقدس وصالح، قد حملت لي الموت (وذلك بسبب: [1] طبيعة التمرد التي صارت فيَّ [2] مخالفة الوصية صارت تعدي). لكن العيب ليس في الوصية بل في من تسلم الوصية ولم يصدق أنها لصالحه. فالشمس تخرج من بستان الزهر رائحة جميلة وتخرج من كومة القاذورات رائحة عفنة. الشمس نفسها التي تذيب الشمع تقسي اللَبِنْ. كلمة واحدة تكون فرصة حياة لشخص وسبب موت لآخر. بل قيل عن المسيح نفسه أنه قد وضع لسقوط وقيام كثيرين (لو34:2).
الآيات (14-25): "فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية. لأني لست اعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده فأني أصادق الناموس أنه حسن.فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ. فإني أعلم أنه ليس ساكن فيّ أي في جسدي شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست افعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه افعل. فان كنت ما لست أريده إياه أفعل فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيّ. إذاً أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي. فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية."
قال البعض أن بولس الرسول في هذه الآيات يعبر عن حالته ما قبل النعمة. وفي إصحاح 8 يعبر عن حالته ما بعد النعمة. وهذا كلام غير صحيح. فما الداعي لأن يكتب بولس الرسول عن حالته ما قبل النعمة. ويقولون هل يعقل أن بولس الرسول بعد النعمة يقول الخطية الساكنة فيّ!! ونقول أن بولس كتب لتيموثاوس عن نفسه قائلاً "الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي15:1)، ويكتب لأهل غلاطية أن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون (غل17:5). وهذا الصراع سيستمر طالما نحن في الجسد. ولكن لأن بولس الرسول كان ممتلئاً من الروح وعينه مفتوحة رأي خطايا إشمئز منها، لا نراها نحن فقال الخطاة الذين أولهم أنا. الموضوع ببساطة أن هناك درجات للمؤمنين. فكلما قدم الإنسان توبة يسلك في النور فتقل خطاياه وتزداد النعمة داخله، ولكن لابد من وجود خطايا مهما كانت صغيرة، وهذه تحدد كمية الفرح والسلام اللذان يتمتع بهما المؤمن، ويئن المؤمن مشتاقاً للخلاص من هذا الجسد ليتخلص من أهواء الخطايا الموجودة وبذلك يحصل علي الفرح الكامل ولذلك يقول الرسول" ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت" (رو24:7) وبنفس المفهوم في رسالة فيلبي يقول "لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح فهذا أفضل جداً" (في23:1) وهذا أفضل جداً لأن الفرح سيكون كاملاً، ويكون الإنسان قد تخلص تماماً من أهواء الخطية، فهل كان بولس في رسالة فيلبي أيضاً يعبر عن حالته ما قبل النعمة.
فالمتأخر روحياً كثير السقوط، نادراً ما ينتصر، إنسان شهواني، قلَّما يتذوق الفرح. أما المتقدم روحياً يقل سقوطه ويكثر إنتصاره، ويكون إنساناً روحياً، أي خاضع للروح القدس، مملوء نعمة، خطاياه من النوع البسيط لكنه بسببها محروم من الفرح الكامل. فالروحاني تزعجه أي خطية وأي شر، بل وشبه شر، ويئن بإستمرار من وجود هذا داخله. وراجع قول يوحنا "إن قلنا أن ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" (1يو8:1). فهل كان يوحنا حينما قال هذا يعبر عن حالة ما قبل النعمة. لابد وأن توجد خطايا، ولكن الناس درجات. فالإنسان كلما ينمو روحياً يضمحل إنسانه العتيق وينمو الإنسان الجديد والعكس صحيح. وكلما نما الجديد صار هذا الإنسان إنساناً روحياً. أي خاضعاً بدرجة عالية للروح القدس.
ناموس الخطية هذا مغروس في طبيعتنا البشرية، يقف دائماً عائقاً عن التأمل في ذلك الصلاح الذي يسحر أنظار القديسين، وهو يعوقنا عن رؤية الله. ولنذكر أن الله علمنا أن نصلي قائلين أبانا الذي في السموات… وإغفر لنا ذنوبنا.." وهذه يصليها حتى القديسون، فمن هو الذي يدعي أنه غير خاطئ وبلا ناموس للخطية. وفي القداس نقول "يعطي لمغفرة الخطايا"، فهل وصل إنسان إلى أنه غير محتاج للتناول لأنه بلا خطية. ولنرى بكاء الأنبا أنطونيوس وحزنه الشديد إنه إستيقظ بعد طلوع الشمس فتأخر عن الصلاة، وإعتبر هذا خطية. إذاً الناس درجات.
آية 14: فإننا نعلم = إذا ما هو آت مرتبط بالآية السابقة، وكانت تقول إن الخطية سببت الموت وليس الناموس. فالناموس روحيٌ= أي أوحي به الروح القدس. ولو أطاعه إنسان لصار روحي يسلك في حياة روحية فاضلة.
أما أنا فجسديٌ= أي من التراب، وتسكن فيَّ الخطية، الإنسان العتيق يستعبد أعضائي. مبيع تحت الخطية= الإنسان العتيق يستعبد أعضائي فأنا مولود بالخطية، هذه الحالة ليست ما قبل المسيح، بل ما قبل التوبة. وفيها يكون الإنسان مستعبد لسيد هو الخطية، وشهوات جسده. الخطية تمتلكه كما يمتلك السيد عبده. إذاً الخطية مني أنا وليست من الناموس. لقد سعيت وراء الشهوات البشرية الجسدية وإستعبدت للخطية فصرت ساقطاً تحت ناموسها فحُسِبْتُ جسدياً. هذا الإنسان لا تحركه سوي شهوات جسده (حقد /حسد /مال/ إمتلاك /جنس…)
الناموس روحيٌ= أي بوحي من الروح القدس ويقود الإنسان في الاتجاه الروحي، ولكنه فقط يدين ويظهر الفساد الداخلي، أوامر دون معونة أمّا النعمة فالروح القدس يسكن فينا ليعين ضعفاتنا، لذلك فالناموس يدين، أما النعمة فتعين.
ماذا فعل فيَّ ناموس الخطية؟
1. شوه معرفتي:- آية15 هي شوهت التمييز بين الخير والشر من كثرة السقوط والإعتياد عليه، فصار الزنا يسمي حباً والرشوة تسمي هدية هذه حالة عمي روحي. صار الإنسان مسلوب التفكير، صار كمن لا يعرف، غير قادر علي الإحجام عن الخطية وعمل البر عوضاً عن الشر.
2. أفقدتني الإرادة الصالحة العاملة:- أية15 "ما أبغضه فإياه أفعل" هي شوهت البصيرة أولاً وسيطرت علي الإرادة فصارت شهوة جسدي هي التي تقودني. ولاحظ أن قوله "ما أبغضه فإياه أفعل". أي لست مجبراً ولذلك سأحاسب علي عملي إذ لست مجبراً.
3. أفسد جسدي:-
في 1. رأينا ناموس الخطية يشوه المعرفة الروحية.
وفي 2. رأيناه يحطم الإرادة القوية.
وهنا نراه في أية17 يعطي سكني الخطية في الإنسان، في داخله، ويصير ناموسها عاملاً في أعضائه، فصارت الأعضاء آلات إثم تعمل لحسابه.
وماذا عن عهد النعمة؟
1. المعمودية هي إستنارة (نقرأ إنجيل الأعمى يوم أحد التناصير. عموماً الروح القدس يفتح الحواس ويدربها (عب14:5). عموماً الحواس الروحية تنفتح علي السماء، فأنقياء القلب يرون الله ويميزوا صوته (مت8:5 + يو4:10).
2. الله يعين الإرادة الضعيفة، فالروح القدس يعين (رو26:8). والله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل (في13:2). ولكن هي تدعيم وليس إجبار.
3. صرنا هياكل للروح القدس ليسكن فينا.. هذه هي الخليقة الجديدة.
آية15: كما قلنا فهذه حالة عمي روحي، كما يقول أحد "مش عارف أنا بأعمل كده ليه" هو مستعبد بالكامل للذته. هو يعرف أن هذا خطأ لكنه كأنه لا يعرف، فهناك دافع داخلي يدفعه ليخطئ، مثل من أتوا به للمسيح، وكان عليه شيطان يرميه في النار وفي الماء. الخطية صيرته كمجنون.
لأني لست أعرف= ليست المعرفة النظرية، فإنه بناموس الطبيعة يعرف الإنسان الخطية، ولكنه يقصد "صرت كمن بلا معرفة" غير قادر أن أمتنع عن الخطية، مثل السكير الذي يشرب الخمر وهو يعرف ضررها، كما قال الشاعر "داوني بالتي كانت هي الداء". أفعل ما أفعله بعماء وأنا سَكِر بأهواء الخطية. فأنا لا أفعل هذا الذي أريده من أعماق قلبي، بل أفعل هذا الذي أبغضه لأنني واقع تحت ظلام الخطية (هذا هو حال المدمن، أو من يعرف أن السيجارة ستقتله ومازال يدخن). إذاً من ذا الذي يفعل فيَّ ما لا أريده. فالنفس تكره ما أنا فاعله ولا تريده، وهذا يشهد للناموس أنه حسن. إذاً هي الخطية الساكنة فيَّ، التي تكوِّن في الإنسان ذاتاً أخري غير ذاته، إنسان أخر يثير حرباً، ويستعبد أعضائي، وأنصار هذا الإنسان الشهوات الزائفة، هو روح الشهوة التي إن زاغت عن ما هي معدة له أثارت حرباً علي الإنسان وإستمالت حواسه. وبالنسبة للمتقدمين روحياً فهذه الآية تفسَّر علي الأفكار وليس الأفعال، فالأفكار لا إرادية (2كو5:10). وهذا نفس ما إشتكي منه داود (مز12:19،13). ونلاحظ أننا لا نقدر أن نمنع الفكر عن أن يأتينا من الخارج إلي ذهننا، لكننا قادرون أن نمتنع عن طاعته أو ممارسته. والإنسان الجسداني حينما يبدأ تحوله ليصبح إنساناً روحياً يسقط أولاً في ممارسة بعض الأعمال الخاطئة، ثم يمتنع عن الأعمال ويتبقي بعض الشهوات، ثم يقتصر الأمر علي بعض الأفكار.
آية16: ما لست أريده= أي ما يشهد لي الناموس الطبيعي (عقلي وضميري) بفساده. فإذا كنت أشعر بعدم الرضي وعدم الإرتياح لما أفعله من إثم، فأنا إذاً أتفق مع وصايا الناموس. وهناك سؤال.. إذا كان عقلي يصادق الناموس فلماذا أفعل عكس ما يقوله ويشهد به عقلي؟ السبب أن الإنسان العتيق لم يمت بالكامل، أو أكون أنا أثرته وجعلته يستيقظ وأكون أهملت تغذية الإنسان الجديد بكلمة الله.
آية17: الخطية الساكنة فيَّ هي كدكتاتور مستبد، هي التي تفعل ما أفعله وتلزمني به. فما أفعله ليس راجعاً لإرادتي وعقلي، وإنما من أصل الشهوة الراسبة فيَّ والتي أنحرفت وورثتها أنا من آدم. ولكن الله قادر أن يدعم إرادتي (في13:2).
آية18:- أي إني أعلم أنه لا يوجد في داخلي شئ صالح. وعندما أقول فيَّ فإني أقصد في ذاتي بعد أن صرت تحت سيطرة وسلطان إنساني العتيق الذي ينجذب بسهولة إلي الخطية. وليس فيَّ شئ صالح لأنه من ناحية إرادتي للخير ولعمل الفضيلة، هذه الإرادة تحت سلطاني وفي مقدوري، إلاّ أن فعل الصلاح وفعل الخير والفضيلة أمر ليس في متناولي. هنا نري أن الرسول يميز بين الإرادة والفعل، فالإرادة تقابل الرغبة والإختيار. ومن عمل النعمة في المسيحية تقوية الإرادة.
آية19: المشكلة في العجز عن تنفيذ الرغبة الصالحة وفعل الإرادة الصالحة، هي في الخطية الساكنة فيَّ وليست في جسدي، فجسدي الذي صنعه الله هو جسد صالح، ولكن سكنت فيه الشهوة الخاطئة، وصارت تستميله لصنع الشر، وتضعف إرادته لصنع الخير. ولما جاء المسيح حملني معه ليصلب الخطية ويسكن هو فيَّ، في داخلي فأقول "أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في (غل20:2). فإن كنا قد سبق وسلمنا أعماقنا للخطية، فلنحسب أنفسنا أمواتاً، فلنمت مع غالب الخطية فيملك هو فينا ونستتر نحن فيه (كو3:3،4).
آية20: لنعلم أن الإنسان طالما هو في الجسد، في زمن الجهاد، لن يُعصَم من الخطأ، بل عليه أن يستمر في جهاده ليعينه الله في ضعفه حتى يكمل أيام غربته بسلام.
آية21: أجد الناموس= الناموس هنا هو قانون حياتي، أو نظام حياتي. ونتيجة لسكني الخطية فيَّ، أجد في نفسي التي تريد أن تفعل الخير. أجد أن هناك قانوناً في داخلي يجعل الشر أقرب إلي الخير. علي الأقل سيحدث في الداخل أفكار خاطئة علي الرغم من عدم التنفيذ. مثال:- بولس حينما ضُرِب قال لرئيس الكهنة ليضربك الله أيها الحائط المبيض. ففي داخله إرادة أن لا يشتم لكنه وجد الشتيمة قد خرجت، أما المسيح الكامل فلم يفعل هذا.
آية22: علي أنه من الواضح أنه علي الرغم من سلطان الشر، فإن عقلي وقلبي اللذان يمثلان الإنسان الباطن يشعران بسرور بما يوصي به ناموس الله. علي الرغم من أن ناموس الخطية يطلب العكس. والإنسان الباطن لبولس ولأي مؤمن تائب هو الإنسان الجديد المولود بالمعمودية (2كو16:4 + أف16:3) هو الإنسان الذي يقوده الروح القدس والمتصل بالله.
أية23: علي إني أشعر بأن هناك ناموساً آخر وقوة أخري تسيطر عليَّ وتتحكم في أعضائي، هذه القوة، وهذا الناموس هما ناموس الخطية وقوتها. هذا الناموس يقف موقف المعارض والمقاوم لكل ما يقتنع به عقلي وقلبي وضميري، كناموس صالح.
ناموسي ذهني= هو ضميري (مازال في ضمير كل إنسان بصيص من نور) ولاحظ رقة البحارة مع يونان، ونري فيهم صورة للضمير الذي وضعه الله في العالم كله. وهو ناموس (قانون) لأننا لو طلبنا من أي إنسان في العالم كله وصايا لتحكم مجتمعه، فناموس الخطية العامل فيه (شهوته) قد تجعله يضع قانوناً يبيح الزنا، ولكن ذهنه سيقول لا لئلا يحدث هذا مع زوجته أو إبنته… لذلك سنجده يضع قانوناً يقول "لا تزن" وبهذا سيتفق مع الوصايا العشرة. إذاً العقل بلا شك يسيطر علي جموح الشهوة.
آية24: هذه الآية تعني أن الرسول يريد أن يتحرر من هذا الجسد الحالي الذي هو خاضع لناموس الخطية، ليحصل علي الجسد الممجد وليعيش في كمال الحرية وكمال البر والفرح والمجد. وهو يجد أن جسده هذا يعوقه عن كل هذا وعن رؤية السماء بأفراحها. فيئن ويشتاق للحصول علي هذا الجسد الممجد والطريق الوحيد، هوموت هذا الجسد الحالي (1كو42:15،43) وهذه الآية متطابقة مع الآية "لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً". لذلك فهذه الآية "ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت" قيلت من بولس وهو في عهد النعمة، فلا يمكن لإنسان مهما كان أن يشتهي الموت فيما قبل عهد النعمة. ونفس المعني نجده في (رو23:8) أنه يئن متوقعاً التبني، أي يشتاق أن يغادر جسده الحالي ليلبس الممجد، ويعيش في عشرة القديسين ويري الله.
أية25: إني أقدم الشكر لله الذي خلصني بواسطة يسوع المسيح ربنا. هو يشكر وسط شكواه، فالشكر والتسبيح يعطيان لذة وعلاج ضد المخاوف والأحزان. وهنا نري ناموسين يعملان في بولس:-
ناموس ذهنه وناموس الخطية (الخطية الداخلية تستعبد أعضاءه) فبالنعمة الإلهية تقدست حياته. ولكن مازالت الخطية تحاربه، لأنه مازال في الجسد. وهذا هو مفهوم النصرة الإلهية، فالنصرة مرتبطة بالجهاد الذي لا ينقطع ضد الخطية الساكنة فينا (عب4:12). وخلال هذا الجهاد يسندنا الرب الساكن فينا ومن يغلب سينال مكافأته (رؤ2،3) وحسب جهاده. فبولس نفسه كان يقمع جسده ويستعبده. ولاحظ أن الله لم يخلق إنساناً قديساً وإنساناً شريراً، فحتى رسوله بولس يقول أن هناك أهواء خطية تجذبه وتبعده عن الأمور السماوية لينشغل بذهنه في أشياء أرضية. وهو بناموس ذهنه يفرح بالله ويسعي علي الدوام أن يكون متحداً به وحده، ويقول أن ناموس الخطية هذا لم يستطع أن يمنع فرحه بناموس الله. ولكن الفرح ليس كاملاً فناموس الخطية الكائن في أعضائنا يمنعنا عن الفرح الكامل، وهذا سر شهوة القديسين للإنطلاق.
ولاحظ أن الرسول هنا يشكر علي أشياء روحية، أنه بذهنه يخدم ناموس الله، هذا لأن عينه مفتوحة، فهو يشكر علي أشياء روحية (المجد المعد لنا والتبني…) أما ذوي العيون المغلقة فهم يشكرون علي أشياء مادية، وما الذي فتح عين الرسول؟ أنه ثابت ومتحد بالمسيح= أشكر الله بيسوع المسيح ربنا. وهذه تعني أنه ثابت في المسيح. ومن يثبت في المسيح يمتلئ بالروح، ومن يمتلئ بالروح تنفتح عيناه فيدرك عطايا الله الروحية.
آية (1): "إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح."
إذاً= الحالة الجديدة في المسيح بعد المعمودية. رأينا في ص7 صراع مرير بين الروح والجسد. ورأينا في (1:5) السلوك بالروح يهب سلاماً. لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح حياة وسلام (6:8). وهنا نرى أن بولس الرسول يستعلن قوة الروح القدس العامل في الإنسان لفكه من رباطات الخطية وإعطائه النصرة. لا شئ من الدينونة الآن= ومما سبق وقلناه من أننا قد مُتنا للناموس (4:7) إذاً تمت الدينونة، نستنتج أنه لم يعد هناك أي نوع من الدينونة على الذين قد إتحدوا مع المسيح وهم ثابتين فيه= على الذين هم في المسيح. السالكين ليس حسب الجسد= بالرغم من أني أنا جسديٌ ومبيع تحت الخطية، أي أن ناموس الخطية مازال يعمل فيّ، ومعنى هذا أنني معرض للسقوط إلاً أن ناموس الحرية أيضاً يعمل فيَّ. ومع جهاد المؤمن يضمحل ناموس الخطية فيزداد الفرح والسلام، وبهذا يشتاق المؤمن للفرح الكامل في السماء وهذا يعني إختفاء ناموس الخطية بالكامل وموت الإنسان العتيق بالكامل وحصولي على التبني الكامل، وهذا ما أسماه الرسول "التبني فداء الأجساد" (رو23:8) وهذا لن يكون إلاّ في السماء. ومعنى هذا أنه طالما نحن مازلنا في الجسد على الأرض فنحن معرضين للسقوط ولكن السالك في النور يقوم من خطيته تائباً بسرعة. فالمستعد للتوبة باستمرار هو سالك بالروح لأنه يستجيب للروح الذي يبكت على خطية (يو8:16) وهو يستجيب لإقناع الروح الذي يقود للتوبة "توبني فأتوب لأنك أنت ربي" (أر18:31) إذاً السالكين ليس حسب الجسد= هم الذين لا يسيرون وراء شهوات الجسد خاضعين للإنسان العتيق بلا تفكير في التوبة. فبر المسيح لا يعمل في المتهاونين الذين باستسلامهم مرة أخرى للشهوات الجسدية الخاطئة يوقظون الإنسان العتيق.
بل حسب الروح= أي الذين يلتزمون بوصايا الروح القدس ومطالبه، وحين يبكتهم على خطية يقدمون توبة سريعة. فالمسيح علمنا أن نصلي وإغفر لنا ذنونبا. إذاً لابد من وجود خطايا وذنوب حتى للقديسين. وهذا السالك بالروح من سماته النمو في الروح، وترك الخطايا الجسيمة. هو ربما يسقط في خطايا بسيطة وسريعاً ما يتوب عنها. ويكون واضحاً إنقياده للروح القدس، محباً للصلاة والكتاب المقدس والتسابيح. ولنعلم أن نعمة المسيح تحرر جميع القديسين يوماً فيوم لمن يخضع ويسلم حياته للروح القدس. ولكن علينا أن نتمم خلاصنا بخوف ورعدة، نضع دائماً خطايانا أمامنا فنتواضع. نحن لا نخاف من أن الله يتركنا ولكن نخاف من ضعفي أنا إذ أن الإنسان العتيق يمكن أن ينفجر في أي لحظة مع إهمالي الجهاد، وإنسياقي وراء شهواتي.
آية (2): "لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني من ناموس الخطية والموت."
لأن= هي رد علي سؤال "لماذا لا دينونة؟" في الآية السابقة. ناموس روح الحياة. راجع (المقدمة) وكلمة ناموس= قانون بلا شواذ، مثل قانون الجاذبية وهو كل جسم تتركه يسقط علي الأرض إن لم يكن هناك قوة تسنده. وهذا يحدث في أي مكان في العالم. وهكذا ناموس الخطية ، ففي أي مكان في العالم، لو أهين إنسان ستشتعل في داخله انفعالات الغضب والكراهية والمرارة وحب الانتقام. وحتى لا يسقط الجسم المتروك علي الأرض بفعل قانون الجاذبية يحتاج لمن يسنده. وهكذا روحياً فناموس روح الحياة، الذي جعله الله كناموس آخر يعمل ضد ناموس الخطية والموت. فناموس موسى لا قدرة له أن يسندني، هو فاضح للخطية وليس معالج لها، وأما ناموس الروح فيظهر المسيح الغالب الذي يشرق علينا بالإمكانيات الإلهية التي تعمل فيمن يؤمن. وهذا لا يتم بالإجبار بل بروح الإقناع (أر7:20)الروح يسكن فينا ويفتح حواسنا، ويدعم إرادتنا ويبكتنا علي خطايانا. إذاً هذه القوة تسند المؤمن حتى لا يسقط. هي قوة النعمة التي تزداد بالجهاد. فالخمس عذارى ملأن مصابيحهن بالزيت (النعمة ) ومسئولية الملأ هي مسئولية كل مؤمن، أن يجاهد لكي يمتلئ. لقد قدم لنا هذا السفر قوة إمكانيات الحياة المقدسة في الرب وتمتعنا ببر المسيح غالب ناموس الخطية فناموس روح الحياة يعطي للمؤمن أن يسلك بحسب الروح لا بحسب الجسد. فيحسب الإنسان بكليته (جسداً ونفساً وروحاً) إنساناً روحياً .
ناموس روح الحياة= هو ناموس= أي قانون، فكل من يعتمد يحصل علي هذه القوة. روح= هذه القوة ناشئة من الروح القدس الساكن فينا بسر الميرون. الحياة= فهو يعطينا حياة للنفس والجسد والروح . حياة بر عوضاً عن موت الخطية، حياة بنوة عوضاً عن حياة العبودية للخطية، فنحن بالمسيح حصلنا علي غفران للخطايا + خليقة جديدة وطبيعة جديدة. الروح القدس محيي ويعطي حياة للنفس والجسد معاً للمتحدين مع المسيح، هذه القوة قد حررتنا من ناموس الخطية، ومن قوة الخطية وجذبها ومن الموت. فناموس الروح هو تمتع بعطية الروح ، لأنه يحطم فينا عنف الخطية ويسندنا في صراعنا ضدها.
ما عجز عنه موسى (عبور الأردن) تممه يشوع= ما عجز عنه الناموس تممه يسوع المسيح. ما الفرق بين ناموس موسى الذي اسماه الرسول روحي (14:7) وناموس روح الحياة ؟ الأول أعطاه الروح القدس ليدين والثاني يهب الذين يتقبلونه الروح بلا حدود . ولذلك هو ناموس حياة، يحرر ويحي ويبرر ويعين ويعطي قوة للمؤمن ليسلك روحياً ويصارع الخطية ، ويعطي قوة لعمل الخير ويدعم إرادة الإنسان فلا يتعرض المؤمن للدينونة والحكم.
اعتقني= أعطاني قوة اغلب بها ناموس الخطية والموت فأتحرر من عبوديتي للخطية التي حتماً ستقودني للموت.
آية (3): "لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد."
لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه= الناموس كان هدفه أن يحيا الإنسان في بر، ولكنه عجز عن أن يتمم هذا، لا لعيب في الناموس ولكن بسبب ضعف الإنسان، ضعف جسد الإنسان = في ما كان ضعيفاً بالجسد. فلم يستطع أحد أن يلتزم بالناموس ويتممه إلاّ الرب يسوع وحده. أمّا سبب ضعف الإنسان كان أن الخطية سكنت فيه وإستعبدت أعضاءه أمّا ناموس روح الحياة فقد حررني فيما عجز عنه ناموس موسى، لأن ناموس موسى لم يعطى الروح القدس لأحد. والروح القدس هو الذي يستطيع أن يتغلب وينتصر علي اهتمامات الجسد، فهو يعين ضعفاتنا (آية26) فالله إذ أرسل ابنه= لما عجز الناموس عن أن يبرر الناس، أرسل الله ابنه ليعمل عمل الفداء، ثم يرسل الروح القدس، يعطي نعمة نتبرر بها.
في شبه جسد الخطية= أي جسد كامل مثل جسدنا، ولكن لاحظ دقة بولس فهو لم يقل في شبه جسد إنسان، فهو كان كاملاً كإنسان، ولكن بلا خطية ومثال لهذا الحية النحاسية فهي تشبه الحية الحقيقية ولكنها بلا سم يقتل. وكما كانت الحية النحاسية قادرة علي الشفاء، هكذا المسيح استطاع أن يبرر المؤمنين. دان الخطية في الجسد= المسيح حمل كل خطايا البشرية في جسده، ومات بجسده ليحكم علي الخطية ويميتها ويدينها. وبقدر جهاد الإنسان في أن يميتها تساعده النعمة في ذلك، لذلك يطلب الرسول قائلاً "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية" (رو11:6) وبهذا يبرأ الإنسان وكلما كانت الخطية ميتة فيَّ فهذا علامة علي أنني مملوء نعمة وجهادى مقبول وكلما كانت الخطية متفجرة فيَّ فهذا علامة علي أنني محتاج لجهاد كثير لأمتلئ من النعمة. وإذا كانت الخطية ميتة داخلي فلا دينونة عليَّ (آية1)
ولأجل الخطية= أرسل الله المسيح ليكسر شوكة الخطية فيَّ. موت الخطية في الإنسان المعمد هذا ما لا يستطيعه الناموس لكن هذا عمل النعمة.
آية (4): "لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح."
لكي يتم حكم الناموس فينا= بر الناموس حسب ترجمة اليسوعيين والترجمة الإنجليزية. فالناموس كان هدفه أن يتبرر الإنسان، ولما عجز الناموس أرسل الله ابنه ليدين الخطية أي يميتها في المؤمن فيتبرر، وبهذا يتحقق ما أراده الناموس أن لا نصنع الشر ونفعل البر. هذا الذي أصبح بإمكاننا أن نعمله بالروح القدس الساكن فينا.
آية (5): "فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون ولكن الذين حسب الروح فبما للروح."
الرسول هنا لا يقارن بين الجسد كأعضاء بين الروح. ولكن بين إنسان عتيق يقود الأعضاء وبين إنسان جديد مولود من المعمودية يقوده الروح القدس. الأول أسماه الذين هم حسب الجسد (من أيقظ إنسانه العتيق وأهمل جهاده فإنكمش إنسانه الجديد). والثاني أسماه الذين حسب الروح (هذا الإنسان يجاهد ويستجيب للروح القدس) الأول صار كأنه جسد بلا روح يسلك بحسب شهوات جسده فصار جسدانياً شهوانياً والثاني صار كمن هو روح بلا جسد. واهتمامات الجسد هي الملذات والكرامة والشهوات. واهتمامات الروح هي إرضاء الله والتفكير في الروحيات والخدمة لحساب مجد الله والاهتمام بالأبدية.
آية (6): "لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. "
اهتمام الجسد= إرضاء الشهوات والمتع والملذات، هذا ينطبق أيضاً علي من يهتم بعمله كل الوقت، ولا وقت عنده لله. ولكن مثل هذا الإنسان ينفصل عن الله، فيموت= اهتمام الجسد هو الموت. ولاحظ أن هذا الإنسان لا يهتم سوى بما سوف يفني، فكل ما للجسد سوف يفني. ولو ترك الإنسان شهواته تقوده تموت نفسه ثم جسده (1تي6:5) ثم يخسر أبديته. ولكن اهتمام الروح هو حيوة وسلام= من يهتم بأن يرضي الله ويعمل من أجل أبديته يفرح بالصلاة والصوم، فالروح يسكب فيه فرح وسلام ويصير حياً أمام الله، يختبر سلام الله الذي يفوق كل عقل ثم تكون له حياة أبدية، إذ بجهاده هذا ظل ثابتاً في المسيح، والعلامة أن الروح سكب فيه سلام (رو1:5).
آية (7): "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع."
لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله= الجسد ليس عدواُ لله، فالله حين خلقه وجده حسنٌ جداً. لكن المقصود هو الإنسان العتيق، واهتمام الجسد أي تغذية الإنسان العتيق بإثارة شهواته وعدم الاهتمام بغذاء الإنسان الجديد، الذي يتغذى علي كلام الله. ولكن عدو الله هو هذا العالم ورئيسه (الشيطان). والجسد إذا إنحاز للعالم صار عدواً لله بالتبعية . فالله خلقني في العالم لأستعمل العالم ولا أنسي تبعيتي لله فأظل أعبده، أمّا لو تحول العالم إلى هدف وصارت الشهوة وإرضاءها، أو المال والمقتنيات إلهاً، يصير من يتبع هذا الإله أداة في يد الشيطان يهين بها الله، ويتعدى علي وصاياه ويصير في عداوة مع الله، لذلك سمعنا أن محبة العالم هي عداوة لله (يع4:4) ولكن هل معني هذا ألاّ نأكل ونشرب ونعمل؟ لا بل نعطي لقيصر ما لقيصر وما لله لله. المهم أن يكون هناك نصيب للروح. فالجسداني الذي هو في عداوة مع الله ينسى الروحيات لانشغاله بالجسديات. والإنسان الروحي يصوم لا لعيب في الطعام، بل هو يضغط علي نفسه ويمنع نفسه مما يحبه وذلك حتى ينمو في الروح. لذلك طلب الله من البدء أن يعمل الإنسان 6 أيام ويتفرغ لله يوماً واحداً. إذاً المطلوب التوازن. وعدم الاهتمام بأمر وترك باقي الأمور. فشعب تسالونيكي حينما قالوا نهتم بالروحيات ونترك أعمالنا غضب بولس الرسول وقال "من لا يشتغل لا يأكل" (2تس10:3). ولذلك قيل في آية (6) اهتمام الجسد هو موت لماذا؟ لأن هذا هو عداوة لله.
مثال: لماذا اٍعتبر السيد المسيح المال إلهاً يعبد؟ علي الإنسان أن يعمل ليتكسب ويعيش، ويدخر ليزوج أولاده. لكن بدون هَمْ، وبدون أن يضع في قلبه أنه كلما زادت أمواله إطمأن قلبه علي المستقبل، بهذا هو خلط بين المال كأداة أعيش بها، أو هو هدف أسعى وراءهُ. أمّا الروحي فهو يعلم أن المال قد يضيع في لحظة، والله هو الضامن للمستقبل، الله وحده. إذ ليس خاضعاً لناموس الله= أي أن الإنسان العتيق لا يستطيع أن يخضع لناموس الله فطبيعته عاصية متمردة.
لأنه أيضاً لا يستطيع= فالجسد بدون الروح القدس مستحيل أن يخضع لله ولوصاياه. وكيف نمتلئ من الروح؟ هذا بأن نهتم بالروح بالصلاة والصوم ودراسة الكتاب، واجتماعات الكنيسة والقداسات والتسابيح والمزامير..الخ .
آية (8): "فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله."
الذين هم في الجسد= ليس لهم الطبيعة الجديدة، خاضعين لإنسانهم العتيق، يسعون وراء شهوات الجسد. فهذا قد أطفأ الروح وجعل إنسانه الجديد ينكمش، هذا الذي يقوده الروح القدس. وهذا أيقظ الإنسان العتيق الذي هو بطبيعته متمرد علي الله. هذا لا يستطيع أن يرضي الله فمن هو في الجسد فهو ليس في الروح ولا هو ثابت في المسيح.
آية (9): "وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكنا فيكم ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له."
الذين تركوا تيار الشهوات العالمية يصيروا كروح بلا جسد أما أنتم ..في الروح= اعتمدوا وحل عليهم الروح القدس (بالميرون ) ابتعدوا عن تيار الشهوات. هؤلاء يهتمون اهتمامات روحية وبهذا يضرمون الروح القدس فيهم ويمتلئوا منه (2تي6:1) وبهذا يصيروا خاضعين للروح القدس. المهم أن يسأل كل إنسان نفسه، هل أنا باٍهتماماتي الجسدية أطفئ الروح، أم هل أنا باٍهتماماتي الروحية أضرمه ومن يضرم الروح يسكن فيه الروح ويقوده. وكيف نعلم هل نحن في الجسد أم الروح =إن كان أحد له روح المسيح فهذا يكون مملوء من الروح القدس. فهدف الروح القدس أن يجعلنا نلبس المسيح وأن يتصور المسيح فينا (غل19:4+ رو14:13) فمن له صفات المسيح من محبة ووداعة وتواضع..(هذا معني روح المسيح) فهذا إنسان يسكن فيه روح الله.
آية (10): "وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأمّا الروح فحياة بسبب البر."
إن كان المسيح فيكم= إن كان المسيح متحداً بنا وثابتاً فينا. وهذا طبعاً لن يحدث إلاّ لمن يسلك بالروح ويميت الجسد (أي الإنسان العتيق) فالجسد ميت= هذه تعني: [1] الإنسان العتيق ميت بالمعمودية. [2] الإنسان يميت نفسه، أي يمارس أعمال الإماتة، منع كل الشهوات + أصوام + مطانيات. [3] الله يعمل من ناحيته علي إذلال الجسد حتى لا تثور الشهوات كما سمح لبولس بشوكة في الجسد + إن كان إنساننا الخارج يفني فالداخل يتجدد يوماً فيوم (2كو16:4) + فاٍن من تألم في الجسد كُفَّ عن الخطية (1بط 1:4). [4] يظل الجسد في ألم وضيقات وأخيراً يموت الجسد. ولكن هل معني هذا أن الإنسان الروحي مات نهائياً؟ قطعاً لا لأن الروح ستكون حية، لأنه عاش في بر= تبرر= وأمّا الروح فحياة بسبب البر ولماذا يسمح الله بكل هذا الألم؟ بسبب الخطية= حتى لا تثور شهوات الجسد. ومن هو ثابت في المسيح ستكون شهواته الخاطئة ميتة. لذلك نسمع في القسمة (رقم19) في الخولاجي "فالتناول يثبتنا في المسيح" "وعند اٍصعاد الذبيحة علي مذبحك تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك" ولكن حتى يعمل التناول فينا هذا العمل علينا أن نميت أنفسنا عن الخطية. أما الروح فحيوة= أي الإنسان الجديد القائم مع المسيح من الأموات. ومن هو حي بالروح حين يأتيه موت الجسد ينتقل من حياة إلى حياة أبدية. ولاحظ أننا نبدأ حياتنا الأبدية هنا علي الأرض حينما تكون لنا حياة المسيح.
آية (11): "وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم."
هل تتصور أن موضوع القيامة صعب؟ هذا ما يصوره لنا الشيطان. خصوصاً القيامة من موت الخطية والرسول هنا يؤكد أن الذي أقام المسيح من الأموات قادر أن يقيمك من موت الخطية أولاً، ثم في القيامة العامة سيقيمك بجسد ممجد. ونفس الفكرة نجدها في (أف19:1) أى أن نفس القوة التي أقامت المسيح من الأموات قادرة أن تعمل فيكم لتقيمكم في القيامة الأولى والقيامة الثانية يحيي أجسادكم المائتة= لذلك نسمي الروح القدس الروح المحيي .
ملخص: ماذا أعطاني ناموس الروح :
1) أعطاني روح الغلبة والنصرة فنواجه حرب الخطايا بقوة.
2) اعتقني من الدينونة إن سلكت حسب الروح فتكون لي حياة أبدية.
3) صرنا أبناء بعد أن كنا عبيد. المسيح حمل مالنا (موت وخطية وعبودية) وأعطانا ما لهُ (صرنا أبناء وأحباء). وبهذا صار لنا الميراث.
4) صار لنا الروح القدس معيناً.
لذلك اعتبرنا الرسول مديونون للروح القدس وليس للجسد.
آية (12): "فإذاً أيها الاخوة نحن مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد."
رأينا ماذا يعطينا الروح، أما الجسد فيعطيني لذة لحظات يعقبها كآبة وتعب. لذلك ومن أجل عظم ما أعطاه لنا الروح فنحن مديونون للروح. والذي يشعر انه مديون للروح ماذا يعمل [1] يستعمل وزناته ليمجد إسم الله (الوزنات= الصحة /المال /الذكاء..) [2] أن لا نجعل الشهوات تسودنا ثانية، ونخضع للروح القدس.
آية (13): "لأنه أن عشتم حسب الجسد فستموتون ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون."
أن عشتم حسب الجسد فستموتون= أي إن عشتم عبيداً لشهوات أجسادكم فإنكم ستتعرضون للموت الأبدي (الانفصال الأبدي عن الله).
أن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد
هذا عمل النعمة هذا قراري وهذا هو جهادي
والنعمة تعمل مع من أن أميت أعضائي (كو5:3)
يجاهد + (رو11:6)
النعمة= الروح يعين ضعفاتنا. أمّا جهادى أنا أن أقف أمام الخطية كميت. وهذه الآية تساوى تماماً قول الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2) والجهاد المطلوب[1] سلبي (نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية) [2] اٍيجابي (صلاة وتسبيح وصوم ومطانيات..)
وهناك طريقين للجهاد:
1. بالعزيمة وقوة الإرادة تزيد كل يوم الأصوام والصلوات.. ولكن هذه عبادة بالجسد، تشبه الفريسية. وسنطالب الله بالأجر.
2. عبادة الروح (راجع تفسير رو9:1) أن نتسمع صوت الروح القدس في هدوء يطالبنا ويقنعنا بما نعمل، فلا نطالب بأجر بل نجد لذة فيما نفعله. ولكن علينا أولاً أن نغصب أنفسنا، فملكوت السموات يغصب (مت12:11) ثم نطلب المعونة من الروح فيبدأ الإقناع فنصوم ونزهد في الملذات لأننا نجد لذة وتعزيات في العبادة بالروح.
آية (14): "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله "
نحن نحصل علي البنوة بثباتنا في المسيح الابن، ونحن نتحد بالابن في سر المعمودية، وننفصل عنه بالخطية ونعود للثبات بسر التوبة والاعتراف والتناول من جسد الرب ودمه، وكل الأسرار، فاٍن العامل فيها هو الروح القدس. والروح أيضاً هو الذي يبكتنا لو أخطأنا ًومن ينقاد بروح الله يظل ثابتاً في المسيح، ويظل أبناً لله بالتالي.
آية (15): "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب."
روح العبودية= كان هذا في ظل الناموس. كان الإنسان يمتنع عن الشر خوفاً من عقوبة الناموس، وإذا عمل شيئاً صالحاً يطلب الأجر عنه فالعبد يعيش خائفاً، طالباً الأجر، بل هو يعمل من أجل أجر زهيد يعطيه له سيده نظير عمله. وهناك من يعيش مع الله هكذا، يطلب من الله طلبات متواضعة كالمال والصحة.. الخ. وإذا لم يأخذ طلباته يذكر الله بأعماله طالباً أجره عنها. والآية السابقة حدثتنا عن أن من ينقاد بالروح يصبح أبناً لله روح التبني= ماذا يفرق الابن عن العبد؟ الابن يعمل في محبة، ولا يطلب من الله نظير عمل عمله بل بدالة البنوة وطلباته لأبيه ليست متواضعة فهو يطلب مجد السماء، بل هو يطلب الله نفسه "أنا لحبيبي وحبيبي لي". في العهد القديم كان العقاب زمنياً والمكافأة زمنية أيضاً. والآن صارت لنا مكافأة هي الله نفسه ننعم به أباً أبدياً، والروح القدس يشهد في داخلنا بهذه البنوة. وبهذه الروح، روح البنوة نصرخ يا آبا الآب.
آبا= بالعبرية abba (آبا) الآب patr (باتير)= أي يا بابا الذي هو الآب. وهي عبارة تشير لوحدة اليهود والأمم (اليونانيين) فكلمة آبا تشير لبنوة اليهود لله وكلمة باتير تشير لبنوة الأمم لله. فالبنوة صارت لكليهما فاليهود يخاطبون الله بقولهم abba واليونانيين يخاطبونه patr.
روح العبودية للخوف= هناك نوعان من الخوف:
1. خوف مقدس طاهر وأمثلته: طالب يخاف من الفشل وهذا يدفعه لمزيد من الجهد لاستذكار دروسه.
2. خوف مرضي مثل من يدخل الامتحان ولا يجيب أسئلة الامتحان بسبب خوفه الفظيع، مع أنه يعرف الإجابة.
وروحياً: [1] خوف مقدس طاهر قيل عنه تمموا خلاصكم بخوف ورعدة ( في12:2) + لا تستكبر بل خف (رو20:11). هنا نخاف الله ولكن ليس عن فزع بل خوف المحب الذي يخاف أن يحزن قلب محبوبه، هو خوف يدفع للجهاد.[2] خوف مرضي قيل عنه أنه يُطرَد بالحب الكامل (1يو 4: 18).
آية (16): "الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله."
الروح القدس يعطي لقلوبنا وأرواحنا أن تشعر بالبنوة، هذه الشهادة المعزية لا تعطي إلا لمن لهم طبيعة البنين، أي ثابتين في المسيح. والروح القدس يعطينا الإحساس بأن محبة المسيح تحصرنا فنتحمل الألم. ولكن حتى نسمع صوت الروح القدس فهذا يحتاج لجلسة هادئة مع الكتاب المقدس، والصلاة بهدوء والسكوت بعض الأحيان. وإذا فعلت هذا في ألمك ستسمع صوت الروح قائلاً "أنا جانبك فلماذا تخاف أنت إبن الله، فهل يترك الله أولاده ويتخلي عنهم لا تخف وتشدد".
آية (17): "فان كنا أولاداً فأننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه."
نرث الله لأننا صرنا أبناء له، ونرث ماذا.. نرث مجده ونرث مع المسيح حيث أنه قد وضع نفسه كأخ لنا (يو22:17،24،26) آية عجيبة. أن نرث الله ونرث مع المسيح ولكنها تفسر ما قاله الرسول في (عب2:1) فالمسيح تمجد بجسده هذا معني صار وارثاً لكل شيء وذلك لحسابنا، فنحن جسده. وهو الذي قال حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً" (يو3:14) وقال أيضاً من يغلب يجلس معي في عرشي (رؤ21:3) بل سيصير لنا صورة مجده (في21:3 +1يو2:3) هذه الأمجاد لا يمكن تصورها أو تخيلها فهناك "ما لم تره عين.." حقاً من يفتح الله عينيه علي ما هو معد في السماء فسيدرك أن العالم وما فيه ما هو إلا نفاية (في8:3). ولقد حسب اليهود أنهم وحدهم ورثة، وبولس في هذه الآيات يؤكد أن الميراث لكل البنين الذين يقولون يا آبا الآب وهم ظنوا الميراث أرضي زمني ، لذلك فالرسول يقول بل هنا آلام.
أن كنا نتألم معه= قبل أن نعيش في أفكار المجد والميراث، يذكرنا هنا الرسول، بأننا مازلنا علي الأرض وفي الجسد، ومادمنا في الجسد فهناك قطعاً آلام. ولكن يُكْمِلْ لمن يحتمل الألم بشكر، أن الألم.. لكي نتمجد أيضاً معه= لشرح هذا لنذكر قصة داود الهارب المطارد من شاول الملك وهو في آلام فظيعه وكان يرافقه بضعة أصحاب صدقوا وآمنوا بوعد الله لداود، أنه سيصبح الملك، فلازموا داود طوال فترة آلامه. وحينما تمجَّد داود مجَّدهم معه، فكان منهم القادة والوزراء..الخ، فهل نصرّ علي ملازمة المسيح في فترة آلامنا علي الأرض. والميراث هو لمن يتألم مع المسيح وبشكر. ولنعلم أن الله يسمح بالألم لنكف عن الخطية (1بط1:4).
آية (18): "فأني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا."
الآلام الحاضرة هي لا شيء ولا تُذكَر بجانب الأمجاد المعَّدة لنا:
1. مهما كان الألم فهو بسيط جداً بجانب المجد المعد.
2. زمن الآلام أيام والأمجاد فهي للأبد، بلا نهاية.
3. الآلام هنا هي حتى نكمل، وهي شركة آلام مع المسيح، ويصاحبها تعزيات (2كو3:1-8) حتى أن من تذوق الآلام مع التعزيات إشتهي الآلام، لذلك اعتبرها بولس الرسول هبة (في29:1) ولكن لنعلم أن التذمر يوقف التعزيات. وهذا ما جعل السيد المسيح يقول "احملوا نيرى (الآلام التي أسمح بها + الوصايا التي آمركم بها) فهو خفيف (مت29:11،30).
4. كلما ازداد الألم إزداد المجد "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً (2كو17:4).
المجد العتيد أن يستعلن فينا= العتيد= الآتي. يستعلن= أي المجد الذي نحن فيه الآن غير مرئي، وأما في الأبدية سيصير مرئياً. فنحن حَلَّ علينا الروح القدس وهو كألسنة نار، فهل يري أحد هذه النار. والتناول من الجسد والدم المتحدان باللاهوت، هذا في وسطنا يومياً، لكن هل يري أحد اللاهوت؟ إذاً نحن في مجد لكن غير مستعلن ، وسيستعلن في الأبدية ولنرجع لقصة داود مع شاول فلقد كان شاول في مجد ظاهري (جيش وخدم وخضوع الناس له، وقوة ظاهرية..) وداود كان في ضعف ولكنه في مجد، لأن الروح كان يملأ داود، وأما شاول فقد نُزِعَ منه الروح القدس. ثم مات الملك شاول وجاء داود فإستعلن المجد الذي كان فيه خفياً.
آية (19): "لأن انتظار الخليقة يتوقع إستعلان أبناء الله."
الخليقة هي العالم بكل ما فيه من جمادات فالله خلق العالم لأجل الإنسان، والله خلقه فوجده حسن ، كان العالم جميلاً جداً. لكن حينما فسد الإنسان إنعكس فساده علي الأرض لذلك سمعنا قول الله "ملعونة الأرض بسببك.. شوكاً وحسكاً.." (تك17:3،18) وحين قاوم الإنسان إلهه قاومته الخليقة، كما إظلمت الشمس حين صُلِبَ رب المجد. فالفيضانات المدمرة والتصحر المهلك، والزلازل المدمرة القاتلة عكست فساد الإنسان بل أن وحشية الناس ( قايين /شعب روما بملاعبه التي يعذبون فيها العبيد..) انعكست علي الحيوانات فصارت وحوشاً تأكل بعضها. صارت الخليقة كالمرآة تعكس حال الإنسان. وعكس هذا فقداسة برسوم العريان انعكست علي الثعبان ففقد وحشيته. وبسبب الأنبا بولا قيل إن الله يفيض مياه النيل. لهذا تصور بولس الرسول هنا إن الخليقة تنتظر أن يستعلن مجد أبناء الله فينعكس هذا عليها، وتستعيد صورتها الجميلة الأولى وبهائها.
إستعلان أبناء الله= حين يعلن المجد المستتر الآن في أبناء الله. وهذا لن يحدث إلاّ في الأبدية حينما يعود الإنسان للأحضان الإلهية.
آية (20): "إذ أخضعت الخليقة للبطل ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء."
لقد استعبدت الخليقة للبطل VANITY أي صارت بلا قيمة صارت كسراب، مهما كنز الإنسان، فهو إمّا يضيع أو يتركه الإنسان ويموت. ولكن كان هذا علي رجاء، أن هذا الوضع سينتهي. وكان ما حدث مع الشعب حينما ذهبوا لسبي بابل رمزاً لما حدث مع الخليقة فالله وعد الشعب بأن يذهبوا للسبي تحت عبودية لملك بابل نبوخذ نصر ولكن كان ذلك لمدة محدودة هي 70 سنة، وبعدها يتحرروا بيد كورش ملك فارس. والخليقة والبشر إستعبدوا في يد إبليس (نبوخذ نصر) لكن لمدة محددة حتى يأتي المسيح (كورش) الذي يحررها من يده. ولكن ستظل الخليقة في صورتها الحالية حتى إستعلان مجد أولاد الله وهذا لن يحدث إلاّ في المجيء الثاني. وكما أصدر الله أمراً بأن يستعبد الشعب لملك بابل ولكن علي رجاء العودة، أصدر الله أمراً بإخضاع الخليقة للباطل (إبليس) مع رجاء في فك سبي الإنسان وتجديد الخليقة ( أر8:25-12) وهذا الأمر وذاك كانا بسبب الخطية ومن يعود للخطية يستعبد ثانية.
ونلاحظ أن سليمان النبي أكد علي هذه الحقيقة أن العالم هو باطل الأباطيل فبسبب الخطية فقدت الخليقة صورة الحق والجمال لكن على رجاء، فإذا كانت الخليقة الجامدة لها رجاء أن تتجدد صورتها، فهل يتركني أنا الإنسان المخلوق علي صورته.
وراجع (2بط10:3 + مز25:102،26 + إش6:51 + رؤ1:21)، ومن كل هذا نفهم أن الأرض ستزول وتنحل العناصر محترقة، ولكن هذا يفهم بأنه كما يموت الإنسان قبل أن يكتسب صورة الجسد الممجد، هكذا ستنتهي صورة العالم الحالي الملعونة، تمهيداً لكي يستعيد بَهاءَهُ.
آية (21): "لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله."
الرجاء الذي تنتظره الخليقة أنها هي ستعتنق وستتحرر من عبودية البطل والفساد ولا تعود فاسدة. سيكون لها نصيب في حرية مجد أولاد الله= أي ستنتهي صورة العبودية التي تعاني منها =حرية. وستنتهي حالة الفساد= مجد. كل هذا من أجل خاطر أولاد الله. إذ قال الآباء، إن الأب يلبس المربية وخدام البيت ملابس جديدة يوم ميلاد الابن، أو في عيد ميلاده أو عرسه وهذا لا يفهم منه أن الأرض ستعود فردوساً يحيا فيه الإنسان كما أيام آدم، فهذا ضد فكر الكتاب المقدس (فملكوت السموات ليس أكلا ًولا شرباً رو17:14) وهناك لا يزوجون ولا يتزوجون (مت30:22). ولا جوع ولا عطش (رؤ16:7) ولكن الرسول يريد أن يظهر فاعلية عمل المسيح، فالخليقة ستتجدد والإنسان سيتمجد، فهل نرتبك بألام الحياة والطبيعة لها رجاء، بل هي ستتجدد من أجلك أنت يا ابن الله.؟ ولكن نحن لن نعيش في الأرض ثانية بل في السماء، لكن الله خلق الأرض والسماء ولن يستغني عنهما بل سيكون لهما صورة جديدة. المهم أن الصورة الحالية للأرض ستختفي، ولن نعرف ماذا سوف يحدث تماماً، ولكن هناك صورة جديدة للخليقة سوف تولد وهذا معني تئن وتتمخض (آية22) ولكننا لن نحتاج لنور الشمس مثلاً، فالمسيح بنوره سينير لنا، ولن يكون هناك ليل (رؤ5:22).
آية (22): "فأننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن."
بولس الرسول يصور الخليقة الجامدة علي أنها شخص وهذا قد فعله الأنبياء في العهد القديم، فهم صوروا الطبيعة كأن لها أحاسيس تعبر بها عن بركات الله في فرح وتهليل، أو تئن وتتألم مع غضب الله. وهذا ما يسمي بالتصوير الشعري أمثلة:- الأنهار تصفق بالأيادي (مز8:98) والتلال تقفز والجبال تتحرك.. المعني أن بركات الله كأنها أثارت الخليقة غير الحسية فتهللت (حب11:2 + أي38:31). ولكن هناك أحداث فعلية فغضب الله مثلاً يظهر في الطبيعة (طوفان /حريق سدوم وعمورة /إظلام الشمس يوم الصليب..). ورأينا الطبيعة تطيع الله، بل ورجال الله. فالبحر والريح أطاعا المسيح (مر39:4). والشمس والقمر أطاعا يشوع (12:10،13). بل الوحوش أيضاً كان للقديسين سلطان عليهم (دانيال ) والسواح سكن بعضهم مع الوحوش، والغربان عالت البعض. وهذا ليس قاعدة عامة بل الله يسمح بهذا ليساند الإيمان ولتأكيد عطاياه الإلهية والأمجاد المرتقبة. تئن وتتمخض= تئن بسبب فسادها والذي هو انعكاس لآلام البشر بسبب فسادهم. ولكن من وسط هذا الفساد ستولد صورة جديدة لذلك يشبه الخليقة بأم علي وشك الولادة (المخاض هو آلام الوضع) والذي سيولد هو صورة الخليقة الجديدة التي ستكون بلا نقائص (زلازل وبراكين..). فأولاد الله حينما يكونون في مجد سينعكس هذا أيضاً علي الخليقة فالخليقة كمرآة تعكس حالة أولاد الله. والله أسلمنا للباطل لنئن في آلام نتنقى بها ونتأدب حتى نليق بحالة المجد المرتقب. كما سلم الله اليهود لنبوخذ نصر ليتأدبوا، فلما عادوا، عادوا وقد شفوا من الوثنية تماماً.
آية (23): "وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضا نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا."
ليست الخليقة وحدها هي التي تئن، بل نحن أنفسنا علي الرغم من أننا قد أخذنا باكورة الروح= بنوة / محبة / سلام / فرح.. إلاّ أننا بسبب الخطية التي مازلنا نعاني منها، وبسبب فساد طبيعتنا التي لم نتخلص منها كلية، وبسبب فساد العالم حولنا، مازلنا نئن خصوصاً بعد أن تذوقنا العربون، صرنا نشتهي كمال عطايا الروح في السماء. حينما تتحرر أجسادنا بالكامل من الفساد، ونحصل على كمال التبني بعد أن تقوم أجسادنا من الموت، فالمسيح بدمه أمَّنَ خلاص نفوسنا وأجسادنا لتشترك أجسادنا في مجد أولاد الله. وإن عبارة فداء أجسادنا تعني قيامة الأجساد من الموت، وبلا موت بعد ذلك. بل نقوم بأجساد ممجدة في حالة تبني كامل ( بلا خطية 1يو9:3) في فرح كامل. سيكون لنا صورة جسد المسيح الممجد (1كو42:15،53+ في21:3+ 1يو2:3).
الآيات (24،25): "لأننا بالرجاء خلصنا ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً. ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فأننا نتوقعه بالصبر."
لأننا بالرجاء خلصنا= بدأت قصة الخلاص بميلاد وفداء المسيح وستنتهي بحصولنا علي الجسد الممجد في السماء. وبالنسبة لي تبدأ فصول عمل الخلاص بالمعمودية وتنتهي بحصولي علي الجسد الممجد. وهذا الخلاص وهذا التبني الكامل، والأجساد الممجدة هي حالات أخروية لن تعلن إلاّ في الدهر الآتي، وما نحياه الآن في قصة الخلاص نحياه بالإيمان الذي به نبدأ طريق الخلاص. وبالرجاء نبدأ نتذوق هذه البركات، وهذا العربون، فالرجاء يفتح القلب لمعاينة هذا الخلاص. ولكن دون أن نرى شيئاً محسوساً. كل ما حصلنا عليه هو عربون مثل اضمحلال الخطية في جسدنا هو عربون الحياة بلا خطية في الجسد الممجد في السماء، شهادة الروح القدس فينا بالبنوة هي عربون البنوة الكاملة في السماء. الإيمان يتطلع إلى الوعد، والرجاء يتطلع إلى الموعود به. وبعض الناس يفسرون هذه الآية أنه تم لنا الخلاص، لكن كيف؟ فلو كان الخلاص مؤكداً ما كان هناك معني للرجاء، فهل سمعنا طالب في كلية الطب يقول لي رجاء أن ادخل كلية الطب. ولو كان الخلاص مؤكداً، هل كان بولس الرسول يقول تمموا خلاصكم بخوف ورعدة (في12:2) فالخلاص بدأ ومستمر وسيكمل، لذلك يستعمل بولس فعل الماضي والحاضر والمستقبل للتعبير عن الخلاص (راجع تفسير رو9:5). ولكن قوله خلصنا أن المسيح تمم عمل الخلاص ونحن بدأنا، لكن علينا أن نكمل العمل بخوف.
الرجاء المنظور ليس رجاء= لو كان الخلاص منظوراً ما كان هناك معني للرجاء. لكننا مع وجود الرجاء (الأمل) وهذا يعطينا فرح، فهناك آلام يسمح بها الله لنَكْمُلْ ونصلح للسماء، فالعالم هو الضيقة العظيمة (رؤ14:7) ونحن نصبر بسبب الرجاء، نتحمل الألم لأن عيوننا تثبتت علي ما نرجوه والصبر هو عطية من الله أيضاً= فأننا نتوقعه بالصبر.
آية (26): "وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها."
رأينا في الآية السابقة ان الله يعطينا الصبر لإحتمال آلام هذا العالم، بينما عيوننا مثبته في رجاء نحو الخلاص المعد في السماء. ولكن الله لا يعطينا الصبر فقط بل أرسل لنا الروح القدس ليرافقنا في خلال رحلتنا في هذا العالم وحتى نصل للسماء، ويعيننا في ضعفاتنا.
فيماذا يعين الروح ضعفاتنا:-
1. هو الروح المعزى في وسط الضيقات، لمن يشكر. ولكن من يتذمر يتقسى قلبه ويحرم نفسه من التعزيات والبركات السماوية.
2. هو روح النصح (2تي7:1) نحتاجه وسط مشاكل هذا العالم، ليعطينا نصيحة مناسبة.
3. يبكت علي خطية بأن يقنعنا علي تركها، ولو إقتنعنا يعطي قوة ننتصر بها علي ضعفات الجسد وشهواته. ثم يبكت علي بر، أي يقنعنا بعمل البر وحينما نقتنع يعطينا قوة نسلك بها في حياة البر.
4. يذكرنا دائماً بإحسانات الله فنشكره عليها، وبعقاب الأشرار المعد لهم فنخاف خوفاً مقدساً علي أبديتنا، ويذكرنا بكل تعاليم السيد المسيح ويعطينا قوة علي التنفيذ ( مثل محبة الأعداء وعدم الانتقام..).
5. يعطينا قوة نجابه بها المخاطر، ويعطينا كلمة أمام الملوك والرؤساء.
6. إن توانينا في عبادة الله وتكاسلنا فهو ينشطنا ويشدد عزيمتنا.
7. هو يعطينا ما نصلي به (هو1:14،2) فالروح يعطينا كلاماً نقوله لله وإذا طلبنا طلبات ليست في مصلحتنا أو لا يوافق الله عليها.. أمثلة (طلب بولس الشفاء لنفسه وهذا ليس في مصلحته/ طلب خيرات زمنية قد تبعدنا عن الله/ طلب مجد كطلب ابني زبدى أو طلبهم ناراً تحرق من رفضوا المسيح ظناً منهم أن هذا يمجد الله والله لا يرى أن هذا يمجده/ قد يطلب أحد الرهبنة وهذا ليس طريقة..) يكون دور الروح القدس أن يقنع المؤمن أن ما يطلبه ليس بحسب مشيئته ( أقنعتني يا رب فإقتنعت (أر7:20 + إن طلبنا شيئاً بحسب مشيئته فإنه يستجيب لنا (1يو14:5). بل قد يقنعني الروح القدس بما يريده الله فأطلبه، أو يقنعني بأن طلبي ليس في مصلحتي فأتخلى عنه. عموماً سواء هذا أو ذاك سأصلى من قلبي لتكن مشيئتك.
الروح أيضاً يعين ضعفاتنا= ولكنه كمن يرى رجلاً يحمل حملاً فيتقدم ليعينه. فالروح لن يعين سوى من يحاول ويجاهد في العمل. لا أن نجلس كسالي نطلب المعونة ونتوقع أن الروح القدس يتمم كل شيء. فبدون الله لا نقدر أن نفعل شئ. وبدوننا لا يريد هو أن يفعل شيء. ولنلاحظ أنه يعين حتى في أتفه الأمور ويقوينا ويشدد قوانا الطبيعية الضعيفة. وكلمة يعين في أصلها اليوناني هي "يساعد مع" فالروح لا يعين من لا يرفع يده بالصلاة فمعونة الروح متوقفة علي إرادة وجهاد وتغصب الإنسان في الصلاة، فمن يغصب نفسه يعينه الروح بأن يعطيه لذة في الصلاة.
لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله= لاحظ أن المتألم يصلي لكي تحل مشكلته أو يشفي من مرضه، آية25 انتهت بأننا نصبر وسط آلام هذا العالم وآية26 رأينا فيها الروح القدس يعين ضعفاتنا. ثم نسمع عن الصلاة وسط الألم فكيف يعين الروح القدس من يصلي؟ الروح يرشد من يصلي عن طريق الإقناع مثلاً كما حدث مع بولس أن الشفاء ليس في مصلحته وانه ضد إرادة الله التي هي الخير بالنسبة له، فهو صانع خيرات. ولكن نحن لا نعلم هذا الخير، ولا نعلم ما يجب أن نطلبه في صلواتنا. فهناك قديسون صلوا ليس بحسب مشيئة الله، فبولس صلي طالباً أن يري روما، وموسى اشتهي أن يري فلسطين. وأرمياء طلب عن اليهود، وصموئيل عن شاول وابراهيم عن سدوم، هنا نجد قلوب مقدسة تحب الآخرين، ولكنهم لا يعرفون ما يصلون لأجله، وقد نصلي لأمور ضد خلاصنا، كما صلي بولس حتى تنزع منه الشوكة (المرض). حسناً قال السيد المسيح ليعقوب ويوحنا "لستما تعلمان ما تطلبان" فغموض المستقبل يجعلنا لا نعرف ما نصلي لأجله، ونصلي لأجل طلبات قد يكون فيها ضرر كبير لنا.
وعمل الروح القدس في داخلنا أنه يقودنا في الصلاة ليعطينا ماذا نقول ويقنعني بإرادة الله أو بأن ما أطلبه ليس في مصلحتي فاسلم بإرادة الله، وقد يبدأ الإنسان صلاته بأن يطلب طلب ما، ومع استمرار الصلاة يقنعه الروح القدس بقبول إرادة الله فيقول لتكن مشيئتك، وحين يسلم الإنسان أموره لله يصير مقبولاً أمام الله. فالصلاة لا تغير مشيئة الله بل هي تغير مشيئتي بعمل الروح القدس حتى تتطابق مشيئتي مع مشيئة الله. ولكن حتى نسمع صوت الروح القدس مطلوب أن نهدأ ونسكت لنسمع. لا تتكلم طول الوقت أثناء الصلاة، بل إهدأ لتسمع صوت الروح القدس. يقول السيد المسيح "كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه" (مت22:21). فهل لو طلبت شيئاً خطأ، أو ليس في مصلحتي يعطيه الله لي؟ لا. لكن علينا أن لا نتعامل مع آية واحدة. وضع أمامك هذه الآية "وهذه هي الثقة التي لنا عنده إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا" (1يو14:5). فالله لن يستجيب إلا لو كانت صلاتنا متطابقة مع مشيئته. وكيف نعرف مشيئته؟ هذا هو عمل الروح القدس الذي يقنعني بالتسليم الكامل له. وبهذا أصير مقبولاً لدي الله. وهذه هي شفاعة الروح القدس. فحينما نقول أن المسيح شفيع لنا لدي الآب (1يو1:2)، فهذا ليس معناه أن المسيح يطلب من الآب عنا، فهذه شفاعة توسلية وهذا عمل السمائيين، أما المسيح فشفاعته كفارية، بمعني أننا بسبب خطايانا فنحن غير مقبولين أمام الآب، لكن المسيح غطانا بدمه (كَفَّرَعنا) فصرنا مقبولين أمام الآب. وبنفس المنطق فإختلاف مشيئتي عن مشيئة الآب يجعلني غير مقبول لديه، أمّا الروح القدس الذي يقنعني بأن أسلم مشيئتي للآب فهو بهذا يجعلني مقبولاً لدي الآب، وبهذا فهو يشفع فيّ لدي الآب= الروح نفسه يشفع فينا. بأنات لا ينطق بها : الذي يئن هو أنا فالروح لا يئن، فالروح يضع فينا مشاعر حب وشكر لله واشتياق وحنين للسماء، ويعطينا ما نقوله في الصلاة. والروح لا يخلق البلاغة والفصاحة في صلواتنا بل الاشتياق لله. والنفس قد تكون متألمة بسبب تجربة تلم بها ويقف صاحب التجربة ليصلي، ويعطيه الروح أن يضع كل ثقته في الله الذي يحبه بالرغم من التجربة، بل أن التجربة هي طريقه للسماء، ويلتهب قلبه بالحب لله ولا يجد ما يعبر به نحو الله، يعبر به عن مشاعره، لا يجد كلمات تعبر عن هذه المشاعر فيئن. والله يسمع هذه الأنات التي تعبر عن تجارب النفس مع الروح القدس. الله يسمع هذه الأنات المقبولة (آية 27) كما سمع صراخ موسى دون أن يصرخ ودون أن يتكلم كلمة (خر15:14) وسمع صراخ إسمعيل في عطشه دون أن يفتح فاه (تك17:21) وسمع أنات أم صموئيل (1صم13:1)، والله يسمع أي يعرف من يتجاوب مع الروح القدس. وفي آية27 "نسمع بحسب مشيئة الله" فعمل الروح القدس يجعل مشيئتي تتطابق مع مشيئة الله. ونلاحظ أن هذا هو ما حدث مع المسيح. ففي وقت التجربة أصرخ لله أياماً وشهور والروح القدس يقنعني خلال كل هذه المدة أن أسلم مشيئتي لله. وكلما تقدم الإنسان روحياً يختزل هذا الوقت جداً. ومع المسيح إختزل هذا الوقت إلى لا شيء يذكر، ولاحظ صلاة المسيح "إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت". وكما اختزل الوقت بين طلبتي وبين تسليم مشيئتي بالكامل لله كلما ارتفعت قامتي روحياً. فالمؤمن يبدأ صلاته وهو مُصِّرْ علي طلب ما وينهي صلاته وقد سَلَّمَ الأمر تماماً ليدي الله في ثقة ويذهب وقلبه مملوء سلاماً. والروح يشفع فينا أي يعطينا أن نكون مقبولين أمام الله فتنسكب فينا بركاته ومنها السلام الذي يملاً القلب فمعني أن الروح يشفع هو أنه يجعلنا نتصل بالله بطريقة صحيحة (والاتصال هو الصلاة) .
آية (27): "ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين."
الذي يفحص القلوب= الله هو فاحص القلوب والكلي (رؤ23:2) أي هو عارف بكل ما في قلبي. يعلم ما هو اهتمام الروح= الروح القدس هو الذي يعطي الإقناع كما قلنا بشيء معين. وهو وحده الذي يعرف هل اقتنعت قلبياً بما حاول أن يقنعني به أم لا. لأنه حسب مشيئة الله يشفع. أي أن الروح القدس يحاول مع الإنسان الروحي أن يغير قراره في الصلاة، ويغير طلبته لتتطابق مع مشيئة الله وهذه هي الشفاعة فصلاتي لن تغير مشيئة الله، بل تغير مشيئتي لتتطابق مع مشيئة الله فأصير مقبولاً لدي الله. يشفع في القديسين= عمل الروح القدس هذا لن يجدي مع الإنسان الجسداني فهذا لا يسمع أصلاً للروح القدس.
ملحوظة: ليس المهم أن نتكلم كثيراً في الصلاة بل أن نتسمع صوت الروح القدس في داخلنا، ونئن بما يمليه علينا.
آية (28): "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده."
نعم إننا نئن ولكننا من ناحية أخرى نعلم أنه بالنسبة لهؤلاء الذين يحبون الله فإن كل شيء يتعاون ويتضافر ويعمل معهم من أجل خيرهم وصلاحهم ولبنيان نفس المؤمن الحقيقي. حتى ما نراه من أمور معاكسة أو مضادة، وحتى المؤلم منها (كشوكة بولس الرسول) فهي تعمل لأجل خلاص نفس المؤمن. وهذه الآية متعلقة بالسابقة. فالروح يقنعني في وقت ضيقتي بأن ما يحدث في حياتي فهو للخير فأقول لتكن مشيئتك. نحن نعلم= أي هذه أمور بديهية لا تحتاج إلى إثبات أن الله صانع خيرات، ولا يستطيع أن يعمل شراً لأولاده. وحتى ما أراه شراً فالله قادر أن يخرج من الجافي (الألم) حلاوة (خلاص نفس1كو22:3).
تعمل معاً= الشيء وحده قد يبدو سيئاً وغير مفهوم بسبب غرابته وقسوته (نقصد الألم) ولكن حينما يضاف إلى الأعمال الأخرى والظروف الأخرى التي أتت والتي سوف تأتى فإن كل هذه الظروف معاً تعمل لأجل هدف واحد، تعمل للخير بإنسجام، وما هو الخير= خلاص نفسي.
تأمل علمي لشرح الآية :-
حينما تؤثر عدة قوي علي جسم يتحرك هذا الجسم في إتجاه محصلة القوي. وهذه لها طريقة لحسابها والمؤمن الذي يحب الله يتعرض لمجموعتين من القوي:-
الأولى= أعمال إحسانات الله وخيراته الزمنية والروحية.
الثانية= أعمال مقاومات إبليس والتجارب والضيقات ولكنها بسماح من الله (قصة أيوب)
وإحسانات الله هدفها جذب المؤمن لله. وإبليس حين يهاجم بتجاربه فهو يقصد أن يبعد الإنسان عن الله، لكن الله يسمح بها لينقي المؤمن:-
1. شوكة بولس هي من إبليس..... والله سمح بها ليحميه من الكبرياء (2كو7:12).
2. آلام أيوب كانت من إبليس..... والله سمح بها ليشفيه من بره الذاتي.
3. خاطئ كورنثوس حَكَمَ عليه بولس بان يُسلم للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع (1كو4:5).
لاحظ أن إبليس يوجه ضرباته وتجاربه للمؤمن حتى يتذمر علي الله ولكن الله في محبته يسمح بهذا من أجل خلاص نفس المؤمن. وكل الأمور التي تجري في حياتي هدفها أن أسير في إتجاه (المحصلة) وهي لها إتجاه واحد هو خلاص نفسي، هو الخير دائماً لمن يحبون الله.
مثال: لو كانت كل عطايا الله خيرات زمنية (مال /صحة /أمجاد زمنية ..) لتعلقنا بالأرض ولرفضنا فكرة الموت. ولو كانت عطايا الله كلها خيرات روحية (تلذذ بالصلاة /مواهب شفاء..) لإتتفخ الإنسان وتكبر ولفقد خلاص نفسه. لذلك نقول. أن إبليس هدفه من التجارب التي يصيب بها المؤمن أن يفصله عن الله، والله يسمح بها فهو وحده الذي يعلم ما الذي يحتاجه الإنسان ليخلص، وهو وحده الذي يعلم كيف يحمي أبنائه من أي انحراف حتى لا يهلكوا. والله وحده هو الذي يعلم تفسير كلمة معاً كيف يوجه الإحسانات والتجارب كليهما في اتجاه خلاص نفس أحباؤه. لذلك يوجه الشيطان ضرباته ليفصل المؤمن عن الله، والله يستهزئ به ويضحك عليه، إذ أنه بهذا يتمم ما أراده الله بالضبط (مز1:2-4) وحتى وقت الضيق فالله لا يترك أولاده وحدهم، بل يعطيهم تعزيات ليجتازوا الضيقة بسلام "شماله تحت رأسي (الضيقات) ويمينه تعانقني (تعزياته)" (نش3:8) "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" ( مز19:94).
الذين يحبون الله= أمّا الذين لا يحبون الله فهناك قانون آخر يحكمهم هو "ملعونة الأرض بسببك" فهم يعانون ويتألمون بلا فائدة كثمرة لخطاياهم، وبسبب لعنة الأرض.
وما يفسد عمل الله هو التذمر علي ما يسمح به الله، فهذا قد يوقف التدبير الإلهي، بل قد يرفع الله عن الإنسان التجربة التي كانت لخلاص نفسه ولبنيانه، ويرتد المتذمر إلى مشيئة نفسه، وتتخلى عنه العناية الإلهية. ويضيع من أمامه طريق الترقي لبلوغ القصد الإلهي الأسمى. فكل ما نراه في حياتنا من الأمور التي يقال عنها شر، هي إمّا تفطمنا عن العالم أو تقربنا للسماء وتؤهلنا لها. ونلاحظ في (حز13:10) أن كل البكرات (الظروف التي تؤثر في حياتنا ومصيرنا) كأنها بكرة (يعني وحدة الهدف والتناسق والإنسجام والتعاون معاً) والهدف الواحد لمن يحبون الله هو خلاص نفوسهم. الذين هم مدعوون= الذين يحبون الله، قد دعوا واختيروا بحسب علم الله السابق. حسب قصده= قصد الله نراه في آية29 "ليكونوا مشابهين صورة ابنه". فإن كان الله قد دعاهم وهذا هو قصده فكيف لا تعمل كل الأمور من أجل صالحهم وخيرهم.
آية (29): "لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين."
سبق فعرفهم= إذاً إختيار الله ودعوته ليسا عن محاباة، بل هو يعرف من سيقبله كمخلص، ويقبل دعوته، وبمعرفة الله الكاملة عرف استحقاقاتهم. سبق فعينهم= عينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه= أي يكتسبوا نفس الصورة الروحية والأخلاقية التي للابن. المسيح شابهنا في موتنا لنشبهه في حياته. نشبهه في صفاته وقداسته، بل ومجد حالة ابن الله. إذاً هو الذي يدعو وهو الذي يبرر، وهو الذي يمجد ولكن ليس في سلبية من جهتنا. فالله يدعو الكل (1تي4:2) ولكن قد يريد الله ولا يريد الإنسان فلا تكمل إرادة الله "أنا أردت.. لكنكم لم تريدوا" (مت37:23). فماذا نعمل لنشابه صورة ابنه؟
يقول بولس الرسول في (رو2:12) "تغيروا عن شكلكم.. ولا تشاكلوا هذا الدهر" إذاً بقدر ما نتغير عن شكل هذا الدهر نتشكل كأبناء لله، نشبهه في قبوله للألم والصليب، وفي قداسته وطهارته ورفضه للخطية فنشبهه في عدم موته. إذاً من تم اختيارهم، أختيروا للقداسة أي لمشابهة المسيح، فليس هنا مجال لأن يقول أحد طالما أنا مختار فلأخطئ كما أريد (2تس13:2). ونحن قد وُلدنا علي صورته في المعمودية بموت العتيق فينا وقيامة الجديد مع المسيح.. وعمل الروح القدس فينا أن يُصوِّر المسيح فينا (غل19:4). فنحن نتغير إلى صورة المسيح المتألم علي الأرض لنأخذ صورة جسد مجده في السماء (2كو18:3+ كو10:3+ 1كو49:15+ في21:3+ 1يو2:3).
ليكون بكراً بين إخوة كثيرين= [1] بكر أي هو الابن الوحيد القدوس للآب، هو عقل الله وحكمته (1كو24:1). هو به كان كل شيء وبغيره لم يكون شيء ممّا كان (يو3:1) فهو أول ومؤسس الخليقة كلها.
[2] كلمة بكر تعني فاتح رحم أمه العذراء ولا تعني بالضرورة وجود إخوة يكون هو بكراً لهم. [3] هو بكر الخليقة الجديدة مات وقام، ونحن بالمعمودية نموت ونقوم معه، فنحن ندخل الخليقة الجديدة به وفيه (كو15:1). فهو مؤسس وأول الخليقة الجديدة. وهو السابق لنا في دخول السماء في الأمجاد، هو أول من دخلها. هو البكر لأنه هو الأول كإبن لله ونحن تاليين له باتحادنا به وتشابهنا معه في صورته.
[4] هو بديل آدم البكر، بكر الخليقة، فالمسيح صار آدم الأخير ونحن صرنا أبكاراً باتحادنا بالمسيح. صرنا وارثين كأبكار (عب23:12). [5] هو بديل إسرائيل ابن الله البكر، فلقب البكر انتقل إليه، إذ فقد إسرائيل بكوريته بسبب خطيته. وكذلك فإسرائيل حمل لقب البكر لأن المسيح سيأتي منه ويصير هو البكر الحقيقي وسينوب عنه.
آية (30): "والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً."
سبق فعينهم= هو يُعَيِّنْ الذي يعرف أنهم يقبلون نعمته في كمال حريتهم. كما قال الله لأرمياء "قبلما صورتك في البطن عرفتك" ("ر5:1). دعاهم= بواسطة الكرازة للإيمان والآن هذه الدعوة هي دعوة داخلية ومن يقبلها يتبرر ومن يتبرر يتمجد.
آية (31): "فماذا نقول لهذا إن كان الله معنا فمن علينا."
فماذا نقول لهذا= هذه كلمة تعجب. فأشياء العالم متي عرفناها ينتهي تعجبنا، أمّا محبة الله فكل ما نعرفها نزداد عجباً. إن كان الله معنا= يسكن فينا روحه القدوس ومتحدين بالمسيح، فالله يساندنا، يحفظنا ويحرسنا هو في صفنا. فمن يمكنه أن يعمل ضدنا، ولا حتى الشيطان يقوي علي هذا. فمن علينا= لا أحد يستطيع أن يؤذينا طالما نحن في حمايته وحصانته. بل إن كان الله معي فحتى الأمور التي هي ضدي تتحول لحسابي. إن سلبت مال المؤمن تصير بالأكثر صرافاً لمكافأته، وإن تحدثت عنه بشر يُحسب هذا الشر مصدر بهاء جديد في عيني الله، وإن حرمته من الطعام أشبعه الله من تعزياته، وإن قدمته للإستشهاد فسينعم بإكليل الحياة الأبدية.
آية (32): "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء."
إن الله الذي وهبنا إبنه الوحيد وقدمه للموت من أجلنا، كيف لا يهبنا معهُ جميع العطايا والنعم التي يحتاجها خلاصنا. إن كان الله قد وهبنا المسيح فكيف لا يهبنا معه كل ما نحتاجه لكي يتحقق خلاصنا. وإن كان الله بذله عنا ونحن أعداء، فهل يحجب الخلاص الآن عن التائب. ولكن مازال إبليس يخدع البعض كما فعل مع الأخ الأكبر للإبن الضال، الذي إشتكي من أن أبيه لم يعطه جدياً بينما الميراث كله له، فمازال إبليس يصنع نفس الشيء معنا ويصور لنا أن الله لا يحبنا إذ قد حرمنا من أشياء مادية (مال /صحة /مركز /ترقية..) ونبدأ نشتكي مرددين ما وضعه الشيطان في أذاننا من شكوي علي الله. والرسول هنا يتعجب من هذا!! هل نتخاصم مع من أعطانا إبنه! هل نشتكي أنه لم يعطنا كذا وكذا وهو أعطانا إبنه لنحصل بهذا علي ميراث السماء! هل من أعطانا إبنه يبخل علينا بأي شيء يكون فيه فائدة لنا! لكن لنفهم أنه يهبنا كل شيء يعدنا للسماء، أما ما يبعدنا عن السماء فلن يعطيه لنا لمحبته لنا. وهذا الإيمان بمحبة الله وهذا الفكر بأنه يعطينا ما يجعلنا نصل للسماء سيعطينا النصرة علي الآلام والمضايقات. بعد هذا الحب يجب أن نقبل أي صليب، بل نطلب أن نرتفع بصليبنا إلى الأحضان الأبوية. ولا نطلب شيئاً آخر، فنحن أمام هذا الحب وبسبب خطايانا نخجل أن نطلب أي شيء.
آية (33): "من سيشتكي على مختاري الله. الله هو الذي يبرر."
الشيطان هو المشتكي (رؤ9:12،10) الله هو الذي يبرر= أي يمنح أولاده بره الخاص أي نعمته المجانية. حينما يبرر الناس أنفسهم تبقي الشكوى قائمة، ولكن حين يبرر الله يستر تماماً، وتبطل كل شكوي، الله يغفر تماماً كل خطايا الذين بررهم.
آية (34): "من هو الذي يدين المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا."
نحن هنا أمام صورة محكمة.. المتهم هو أنا.. الذي يدين (القاضي) وهو المسيح فالآب أعطى الدينونة للإبن (يو22:5) والذي يشتكي (المدَّعي /النيابة) هو الشيطان (رؤ9:12،10). الذي يشفع فينا (المحامي) هو أيضاً المسيح الذي مات عنّا وقام، فلو لم يقم لكنا قد بقينا حيث نحن، وهو ممجد عن يمين العظمة الإلهية ويتشفع أمام الله لأجلنا. فحبيبنا الذي يشفع فينا هو نفسه القاضي الذي يديننا. الذي يحكم علينا هو نفسه الذي غسلنا بدمه. هذا المشهد جعل بولس الرسول ينشد نشيد المحبة الآتي.
آية (35): "من سيفصلنا عن محبة المسيح أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف."
أمام كل ما عمله المسيح من تجسد وفداء وألام لتبريرنا وإرسال الروح القدس وإعطائنا ناموس روح الحياة لم يجد في نفسه إلاّ تسبحة الحب هذه ليرد الحب بالحب. من سيفصلنا عن محبة المسيح= محبتنا نحن للمسيح. أشدة أم ضيق= ظهر هذا في تسليم الشهداء أنفسهم للموت حباً في المسيح. (لما أتى الجنود ليحرقوا القديس بوليكربوس وجاءت له فرصة للهرب، طلب منه شعبه أن يهرب، فقال، المسيح كان معي 86سنة لم أرى فيها منه خيانة فهل أخونه أنا الآن بعد 86سنة). الشدائد موجهة لنا حتى نترك المسيح، ولكن الروح القدس يسكب محبته فينا لله فنجوز في الضيقات التي تفرض علينا كل يوم منتصرين بسبب هذه المحبة. لم تعد الضيقات ولا الآلام تحطم النفس بل سبباً لدخول موكب الغلبة والنصرة تحت قيادة المسيح المتألم.
آية (36): "كما هو مكتوب أننا من أجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح."
هذه الآية مأخوذة من (مز22:44) كل النهار= يعني كل الزمان الذي نحياه ونتألم فيه. نمات= قد تعني موتاً نحن معرضون له من أعداء المسيح بسبب تمسكنا بالمسيح، وهذه الصورة لأننا نحن نتعرض علي الدوام للمخاطر والموت من الذين يضطهدوننا وينظرون إلينا كأننا غنم معدة للذبح= حسبنا مثل غنم. وقد تفهم علي أننا نقدم أنفسنا كذبائح حية في خدمة، وأصوام وصلوات غير مبالين بآلام الجسد بل نخدم الله حتى النفس الأخير.
آية (37): "ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا."
يعظم انتصارنا= في ترجمة أخرى "أعظم من منتصرين". هذه طريقة غريبة للانتصار تشبه إنتصار المسيح، الذي إنتصر علي الرياسات بالصليب. طريقة العالم في الانتصار هي الانتصار بالنار والسيف، أمّا طريق المسيحي في الانتصار هي عن طريق احتماله النار والسيف بإيمان وصبر، بل بهذا يصبح أعظم من منتصر، فكل ما يكسبه منتصر في معركة عالمية يخسر أمامه شيء، أمّا نحن فماذا نخسر؟! بعض الآلام.. ولكن هذه الآلام هي النار التي تنقي الذهب. حتى خسارة الجسد فهي ليست خسارة فهو تراب وأرضي. فالخسائر قليلة جداً والمكاسب ثقل مجد أبدي ومجد وكرامة وسلام هنا علي الأرض. إن من يحاربنا يحارب الله نفسه.
تأمل في الحسد:- هل نخاف من الحسد؟ حسد الناس لا يضر لأنني محفوظ في يد الله. (يو11:17،12). فمن يحفظه الآب والابن هل يقدر أحد أن يؤذيه. ولكننا نصلي في صلاة الشكر.. "كل حسد وكل تجربة وكل فعل الشيطان" فكل نعمة نحصل عليها تزيد حقده ضدنا، ويدبر المؤامرات ضدنا والله يسمح بهذا ولكن نخرج من هذه المؤامرات بمكاسب عظيمة، وما يشرح هذه الفكرة ما حدث مع الملك يهوشافط راجع القصة في (2أي20) فهو لقداسته أهاج الشياطين التي أهاجت أعداؤه ضده، لكن ماذا كانت نتيجة المؤامرة؟! غنيمة عادوا بها وظلوا ينقلونها عدة أيام هذا معني أعظم من منتصرين. ولكن نحن بتواضع نقول لله "لا تدخلنا في تجربة"، أمّا لو سمح الله بتجربة فسنعود أعظم من منتصرين وهكذا تواضع الأنبا أنطونيوس أمام الشياطين.
الآيات (38،39): "فأني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة. ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا."
لا موت ولا حياة= صار الموت غير مخيف فهو انتقال إلى أحضان القديسين في رفقة الملائكة. فأهوال الموت أو ملذات الحياة غير قادرة أن تفصلنا عن محبة المسيح. لن ننفصل عنه لا في هذه الحياة ولا بعد الموت. ولا ملائكة ولا رؤساء ولا ..= الرؤساء والقوات هم رتب للملائكة. والملائكة نوعان: [1] أبرار وهؤلاء لا يريدون أن يفصلونا عن محبة المسيح. [2] أشرار وهم الشياطين وهؤلاء لا يقدرون أن يفصلونا. الأبرار يفرحون بتوبتنا والأشرار مقيدين بالصليب. ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة= فالله ضابط الكل، حياتي في يده وهو يحبني وفداني. ولا علو= علو النجاح والرخاء والمجد الكاذب (لأنه غير دائم) والمناصب. ولا عمق= عمق الشدائد والخزي والعار. وقد يشير العلو لما في السماء من عواصف وأنواء. وقد يشير العلو لما في السماء من عواصف، والعمق لما في أعماق البحار أو أعماق السجون. لا شيء يرفعنا إلى فوق أو ينزل بنا إلى اسفل قادر أن يفصلنا عن محبة المسيح. ولا خليقة أخرى= حتى إن وجدت خليقة أخرى لا نعرفها فلن تقدر علي هذا محبة الله التي في المسيح يسوع= ثباتنا في المسيح هو الذي أعطانا هذه المحبة لاشيء إذاً يفصلنا عن محبة الله.. إلاّ شيء واحد.. الخطية بلا توبة. فالخطية تطفئ الروح القدس الذي يسكب الحب فيَّ، وتنطفئ حواسي الروحية فلا أعود أرى المسيح، وبالتالي أفقد محبته. الروح القدس الذي قال عنه الرسول أنه يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5) هو الذي سكب كل هذا الحب في قلبه.
يناقش بولس الرسول اليهود في هذه الرسالة في ثلاثة مواضيع:-
1. بنوتهم لإبراهيم بالجسد كإمتياز خاص لهم. وأوضح لهم أن بنوتهم له بالإيمان أهم، والأهم بنوتهم لله، هذه التي كانت بالمسيح.
2. الحاجة ليست للناموس، بل أن غاية الناموس هو المسيح. فالناموس عجز عن التبرير، بل لم يستطع سوي أن يكشف عن الخطية فقط، أما الإيمان بالمسيح فيبرر.
3. إمتياز اليهود كشعب مختار، وهذا ما يناقشه في الإصحاحات (9-11) وهذا أمر حساس بالنسبة لليهود، والرسول بحساسية شديدة يود أن يكسبهم دون أن يغلق الباب أمام الأمم. والرسول لا ينكر أن الله قد إختارهم كشعب له، إنما أكد أن هذا الأمر لا يقوم علي إمتياز فيهم أو عن إستحقاق خاص لهم، إنما محبة الله "الذي يرحم من يشاء" وخلال هذا الفهم أعلن الله أيضاً حبه للأمم فإختارهم أيضاً. وفي ص (11) يحذر الأمم من أن يتكبروا علي اليهود، فاليهود هم الزيتونة الأصلية والأمم قد طعموا فيها. وفي نهاية الأيام سيقبل اليهود الإيمان بالمسيح بعد جحودهم لزمان طويل. وفي ص (11) تحذير للأمم من كبريائهم، فالكبرياء يعرض صاحبه أن يقطع من شجرة الزيتون (شعب الله سواء في العهد القديم أو العهد الجديد).
إن الرسول في هذا الإصحاح لا يعالج مشكلة حرية الإرادة عند البشر، بل حق الله في إختيار الأمم، كما كان له الحق في اختيار اليهود، لكن المشكلة أن اليهود أنكروا علي الله حقه في إختيار الأمم. والرسول يريد أن يثبت إن إختيار الأمم من حق الله. لقد رحم الله اليهود دون فضل منهم سوي رحمة الله، وهذه المراحم لها حق العمل في غيرهم أيضاً، ولكن الرسول خلال الرسالة يؤكد علي حرية الإرادة الإنسانية وتقديس الله لها، بل هو واهبها.
آنية الكرامة وآنية الهوان:
يقول بولس الرسول في هذا الإصحاح أن الله كخزاف (صانع آنية الفخار من الطين) حرّ في أن يصنع آنية للكرامة من كتلة من الطين، وأن يصنع آنية هوان من كتلة أخري (آية21). فالله حر أن يخلق موسى آنية كرامة وأن يخلق يهوذا الإسخريوطي آنية هوان، وفهم البعض هذا الرأي بطريقة خاطئة ففهموا أن هذا ضد حرية الإنسان، فالله إختار وحدد مثلاً أن فلان يكون آنية هوان، ومهما فعلت فلابد أن أهلك، فالله إختار هذا.
وهذا مفهوم ساذج. والمهم أن نعرف لماذا كتب بولس الرسول هذا الكلام فاليهود يقولون عن أنفسهم نحن شعب الله المختار وحدنا، وليس من حق الله أن يختار الأمم ليكونوا شعباً له. وبولس يرد قائلاً بل من حق الله أن يُعيِّنْ اليهود كشعب مختار فترة من الزمان والأمم كإناء للهوان فترة من الزمان ثم هو حرّ في أن يقبل الأمم وقتما يشاء. إذاً الموضوع الذي يناقشه بولس هنا ليس هو حرية الإنسان بل حرية الله. فالمهم أن نفهم المناسبة التي قيلت فيها الآية حتى نفهمها.
وما نريد أن نؤكده، فهذا مفهوم الكتاب المقدس كله، أن الله ليس ضد حرية الإنسان، فالله لا يُعيِّنْ إنسان للخلاص وإنسان للهلاك، بل أن الله يريد أن الجميع يخلصون 1تي 4:2. وما يعطل إرادة الله هذه هو حريتي أنا وإرادتي أنا. مت 37:23.
أمّا حرية الإنسان فهي واضحة من تمرد كثيرين وشعوب كثيرة علي الله بل وإهانتهم لله (الشعوب الشيوعية لفترة من الزمان)، ومع ذلك فالله يشرق عليهم بشمسه ويعطيهم طعاماً وشراباً.
وإذا كان الله هو الذي يحدد من يهلك ومن يخلص، فكيف يحاسب الله الناس يوم الدينونة، وكيف تنطبق الآية تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت. ما نود أن يُفهم أن الله مثل المدرس، يعرف من سينجح ومن سيرسب في الإمتحان، ولكنه يبذل مجهوده بأمانة في التدريس لكل واحد في فصله فالله أعطي الكل فرص للخلاص، ولكن إستجابة كل واحد لعمل الله يكون بحسب حريته هو، الله يعطي كل واحد وزنات، وسيطلب من كل واحد بحسب ما أعطاه، من أعطاه خمس سيطلب منه خمس ومن أعطاه إثنتين سيطلب منه إثنتين.
الله يريد أن يخلق الكل آنية مجد والدليل أن الله خلق الإنسان علي صورته ولما فسد الإنسان جاء المسيح وأرسل الروح القدس ليعيدنا ثانية إلي صورة الله كو 10:3 + غل 19:4. فالله إذاً لا يريد أن يخلق إنساناً ليكون آنية هوان. ولنأخذ أمثلة.
الشيطان: الله خلق الشيطان في أجمل صورة ليكون آنية مجد، ولكنه هو بنفسه إختار أن يكون آنية هوان، ولاحظ المرثاة التي قالها الله بحزن إذ سقط الملاك الكاروبيم وأصبح شيطاناً بعد أن كان كامل الجمال. ولاحظ الأوصاف التي قالها الله عن الشيطان وكيف كان (أش12:14+ حزقيال11:28-15). فإرادة الله أن يكون كل خليقته آنية مجد وأن كل خليقته تخلص. ولكن إبليس إختار الخطية، والله تركه ليكون آنية للهوان.. ولكن كان له أيضاً دور في خطة الله الأزلية لخلاص أولاده فكان الشيطان أداة تأديب لأولاد الله. فمثلاً كان الشيطان هو الذي دبر خطة الصليب لفداء البشر. وهو الذي سمح له الله بأن يضرب بولس ليمنعه من الكبرياء. ويؤدب أيوب ليتنقي ويبرأ من خطيته.
يهوذا: هل إختار الله يهوذا ليكون آنية هوان؟ أبداً. فالله إختاره من بين التلاميذ الإثني عشر، وأعطاه كما أعطي بقية التلاميذ، نفس المواهب، وتتلمذ علي يد السيد المسيح ثلاث سنوات كالباقين، وسمع تعاليم المسيح، ورأي معجزاته، بل شفي مرضي وأخرج أرواح نجسة، لكن يهوذا هو الذي إختار أن يكون آنية هوان بعد أن خلقه الله وأعده المسيح ليكون آنية مجد. كان الله يعلم أن يهوذا سيعمل هذه الخيانة لكن هل يمكن أن يقال أن المسيح أعده ليكون آنية هوان، ولاحظنا أن يهوذا حصل علي نفس فرص التلاميذ الإثني عشر.. ولكن خطأ يهوذا كان جزءاً من خطة الخلاص، فالله قادر أن يخرج من الجافي (خيانة يهوذا) حلاوة (الخلاص).
ويهوذا دخله الشيطان لأنه رفض بحريته كل فرص الخلاص، التي عرضها عليه السيد المسيح، ولاحظ آخر محاولة للمسيح أنه يأخذه في حضنه بل يعطيه اللقمة في فمه معلناً محبته للنهاية، بل كان عتاب المسيح له الذي يكسر القلب "أبقبلة تسلم إبن الإنسان" ربما دفعه هذا العتاب للتوبة، ولو فعل لقبله الله. ولما رفض يهوذا كل فرص الخلاص تخلي عنه المسيح، فصار صيداً سهلاً للشياطين، فالمسيح كان يحفظ تلاميذه من الزلل (يو12:17) "حينما كنت معهم كنت أحفظهم" ولما رفع المسيح حمايته عنه بعد أن ترك هو المسيح بكامل إرادته صار آنية للهوان (ما حدث كان يشبه ما قيل عن شاول الملك أن روح الرب فارقه فدخله روح رديء (1صم14:16).. ولكن حينما دخله الشيطان إستخدمه الله أيضاً كجزء من الخطة الأزلية للخلاص، فكل خليقة الله، كل واحد له دوره في خطة الخلاص. فالله خلق الإنسان حراً ولا يجبره علي شئ، ولكنه يعرف مدي إستجابته للفرص التي يعطيها له الله،فمن إستجاب لهذه الفرص كان له دوره في خطة الخلاص كآنية مجد، ومن رفض يد الله الممدودة له صار له دوره في خطة الخلاص أيضاً ولكن كآنية هوان (أم4:16) وما الذي يمنع الفخاري من عمل كتلة من الطين آنية للمجد؟ أن توجد زلطة أو قطعة حجر في الطين، وهذا يماثل وجود حب الخطية في قلب إنسان، وهذا هو الذي يحوله لآنية هوان.
فالله يعطي لكل واحد فرص متساوية للخلاص، حتى تنطبق الآية "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت". ولكن كما رأينا لكل واحد دوره في خطة الخلاص حتى لو كان إناء هوان. الله خلق الكل لغرضه والشرير أيضاً ليوم الشر (أم4:16).
فرعون: موسى يطلب منه خروج الشعب فيرفض وتبدأ الضربات. الله لم يجعله يعاند، لكن بعد أن عاند عدة مرات، إستغل الله عناده.
قسى الله قلب فرعون= أي تركه علي قساوته نتيجة لعناده مع الله. ولكن الله إستغل عناده وقلبه القاسي ليخرج من هذا خير لكلا الشعبين اليهودي والمصري، فاليهود عرفوا من هو يهوه إلههم، وعرفوا إمكانياته الجبارة وأن آلهة المصريين هي لا شئ أمامه، والمصريين عرفوا تفاهة آلهتهم أمام الله. ما يمكن أن نقوله أن الله لم يخلق أو يجعل فرعون معانداً، لكن الله إستغل عناده وغباوة قلبه ليكون آلة وجزءاً من خطة الخلاص، فالله يستغل أخطاء البشر لتنفيذ خطته للخلاص.
شاول الطرسوسي/ بولس الرسول:- شاول الطرسوسي كان إناء هوان وهو يضطهد الكنيسة ويقتل المسيحيين، ولكنه لم يعاند دعوة الله فتحول لآنية كرامة. وهكذا بتوبة أي إنسان وإستجابته لنداء الله يتحول من آنية هوان لآنية كرامة. فالله يحاول مع كل إنسان ليتوب ويتحول إلي آنية كرامة "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" (أر18:31) إذاً الله يدعو كل واحد للتوبة، ومن يستجيب يصير آنية كرامة.
قصة الشعب المختار:- الله إختار اليهود لأنهم "أحسن الوحشين" ولأن آبائهم إبراهيم وإسحق ويعقوب كانوا الأفضل في هذا العالم. وذلك ليعد هذا الشعب ليأتي منه المسيح، ولكن اليهود فهموا هذا علي أنهم هم شعب الله المختار والباقين مرفوضين (بل أسموهم كلاب). ولكن حين يأتي المسيح يأتي للكل، فالله هو إله العالم كله. هذا يشبه إختيار قطعة أرض وتنظيفها وإعدادها وزراعة نوع من القمح الممتاز، ومعالجة هذا النوع، حتى الوصول به لأفضل سلالة ممكنة. وبعد ذلك يأتي التوسع في زراعتها في كل الحقول. وما كان للأمم أن يعترضوا لماذا لم يأتي منهم المسيح، فالمسيح لا يمكن أن يأتي من كل شعوب العالم في وقت واحد، ولابد أن يأتي من شعب تم إعداده. وليس لليهود أن يعترضوا علي خلاص الأمم، فالله إله الجميع، إختارهم ليكونوا شعبه في وقت معين ولهدف معين، انتهى بمجيء المسيح. وأولاً وأخيراً ليس لأحد أن يعترض علي الله فحكمته فوق الجميع (رو33:11-36).
خلاصة الموضوع انه لا يصح أن يقول أحد مبرراً خطيته أن الله خلقه هكذا كآنية هوان، فكل واحد يعلم في داخله أنه يخطئ بإرادته.
آية (1): "أقول الصدق في المسيح لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس."
بعد أن تأمل بولس الرسول في النعمة التي حصل عليها والتي هو فيها مقيم والمجد الذي ينتظره بعد ذلك. يقف فجأة ليتذكر إخوته وكيف حرموا أنفسهم مما حصل عليه. بولس الذي كان يخدم ويتألم حتي يصل أولاده لصورة المسيح، نجده هنا وقد تشبه بالمسيح في مشاعره ومحبته:
1. الذي بكي علي أورشليم.
2. الذي يريد أن الجميع يخلصون [لو41:19، 42+ 1تي4:2]. أقول الصدق في المسيح= قوله في المسيح تلخص كل ما أخذه بولس الرسول بالإيمان. وتعني أنه بإرتباطه بالمسيح وإتحاده به صار لا يستطيع أن يقول سوي الصدق. وضميري شاهد لي بالروح القدس= ويشهد علي قولي هذا ضميري الذي إستنير بالروح القدس.
آية (2): "إن لي حزناً عظيماً ووجعاً في قلبي لا ينقطع."
لقد إتهموا بولس بمعاداة اليهود (أع28:21 +22:22 + 24:25). وهو هنا يؤكد محبته العميقة لهم. بل إن حبه لليهود ورغبته في خلاصهم لهو دليل علي محبته لله التي أعلنها في نهاية ص 8. وحزنه راجع لعدم إيمانهم فهم إخوته.
آية (3): "فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد."
هذه العبارة تشير لمحبته الشديدة لإخوته. حسب الجسد= فهناك إخوة الآن حسب الروح. فالروح جمعنا كلنا في جسد المسيح الواحد. هذه الآية تؤكد رغبة الرسول الشديدة في رجوع اليهود وإيمانهم بالمسيح.
وفي نهاية ص8 سمعنا من الرسول أن لا شئ يفصله عن محبة المسيح، فهل يقصد بأنه مستعد لأن يضحي بالمسيح؟ قطعاً لا، فهو فرحان ويفتخر بما حصل عليه، ولكنه في محبته يقول أنه يتألم ألماً شديداً لحرمان إخوته مما يتذوقه هو. مثال:- أب ذهب في مأمورية في بلد بعيد وهناك تذوق أطعمة لذيذة جداً، هنا يقف ليفكر في زوجته وأولاده المحرومين من هذه الأطعمة، ويقول يا ليتني ما جئت إلي هنا حتي لا أتذوق هذا وأحبائي محرومين منه. وهناك تفسير لطيف للقديس فم الذهب لهذه العبارة، بأن إبراهيم قَدَّمَ إسحق إبنه ذبيحة وهو مؤمن أن الله قادر أن يقيمه، وبولس يقدم نفسه هنا ذبيحة عن إخوته مؤمناً أن الله لن يسمح لبولس أن يُحرم من المسيح، ولكنه سيزداد بهاءً ومجداً في عيني الله لأنه يمارس عمل محبة، بل في إيمان اليهود بالمسيح مجداً لله، فبولس بهذا يطلب مجد الله حتى لو علي حساب نفسه لمحبته في المسيح. هنا بولس يشبه موسي الذي قال إغفر خطيتهم وإلاّ فأمحني من كتابك (خر32:32).
آية (4): "الذين هم إسرائيليون ولهم التبني والمجد والعهود والإشتراع والعبادة والمواعيد."
حزن بولس علي الإسرائيليين لأنهم إبتعدوا عن الخلاص الذي أعده المسيح، مع أنهم أحفاد يعقوب الذي أخذ إسم إسرائيل كتكريم له، وهم حصلوا علي إسم أبيهم كتكريم لهم (تك8:32) وقد تبناهم الله، وظهر لهم في مجد. وأعطي لهم العهد القديم والناموس…
إسرائيليون= كلمة إسرائيل أي يملك كالله. وإسرائيل ملك إلي حين. ولكن إسرائيل الحقيقي (الكنيسة) لا تملك في الزمنيات، بل تنعم بشركة المجد الإلهي مع ملك الملوك (رؤ6:1). وإسرائيل هو لقب فخر وعزة عند اليهود ويشير للقوة والمجد عكس يعقوب الذي يشير ليعقوب الضعيف الهارب.
التبني= قال الله عنهم إسرائيل إبني البكر (خر22:4 + هو1:11 + تث1:14 + أر9:31). ولكنهم مارسوا العصيان (أش2:1 + مل6:1). لذلك إحتاجوا لتغيير شامل بسكني روح التبني فيهم، وطريق هذا التبني الإيمان بالمسيح.
المجد= هم الشعب الوحيد الذي رأي مجد الله عياناً (خر17:24) وأيضاً بعمود نور وعمود سحاب (خر34:40-38 + 1مل11:8). وكان مجد الله يظهر من بين كاروبي تابوت العهد، ولما أخذ الفلسطينيون تابوت العهد قالت إمراة فينحاس "زال المجد من إسرائيل" والمسيح الآن هو مجد شعبه يسكن فيهم.
العهود= الله دخل في عهود مع شعبه ولكنهم تجاوزوها (هو1:8 + خر18:17) لذلك صار المؤمنون في حاجة للإلتقاء مع الله علي مستوي عهد جديد ينقش داخل القلب بالروح القدس. ولا ننسي أن الله دخل في عهود مع الأباء إبراهيم وموسي. ولكن هذه العهود كانت حول ميراث كنعان، أما العهد الجديد فالميراث الموعود هو السماء.
الإشتراع= هي شريعة أعطاها الله نفسه، وليس كباقي الشعوب الذين وضع الناس شرائعهم، هم نالوا شريعة لكنهم لم يحفظوها.
العبادة= مبادئ وأصول خدمة الله من طقوس وصلوات وسجود وتسبيح وأعياد، وذبائح (والكل رمز للعهد الجديد).
والمواعيد= هم نالوا وعوداً كثيرة مثل ميراث أرض كنعان، والوعد بميلاد إسحق، وكلها مواعيد مفرحة. وأهم وعد حصل عليه اليهود هو أن المسيح يأتي منهم، لذلك فمن يؤمن منهم بالمسيح هو الذي يظل إسرائيلي حقاً، ومن يرفض المسيح فهو ليس إسرائيلي بالحقيقة، لذلك قال المسيح عن نثنائيل أنه إسرائيلي حقا لا غش فيه حين أتي إليه ثم آمن به يو 47:1 فما كان يميز اليهود أنهم أولاد وعد، فإذا رفضوا الموعود به يصيروا هم مرفوضين.
آية (5): "ولهم الأباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين."
ولهم الأباء= الأباء البطاركة (إبراهيم وإسحق ويعقوب..) ومنهم المسيح= جاء منهم بالجسد ولذلك خصهم الله بكل هذا التكريم، ويكفيهم هذا فخراً. المسيح حسب الجسد.. الكائن علي الكل إلهاً= نري هنا المسيح الإله المتأنس. بلاهوته المتحد بناسوته. الكائن علي الكل إلهاً= تعني أن الله هو إله اليهود والأمم أيضاً.
آية (6): "ولكن ليس هكذا حتى أن كلمة الله قد سقطت لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون."
ليس هكذا= أي ليس كما يتصور أحد أن كلمة الله قد سقطت، إذ أن ما يبدو للعين أن الله قد رفض اليهود بعد كل هذه البركات والمواعيد التي حصلوا عليها. ولكن لنفهم أن وعود الله لليهود لم تسقط، بل هي مستمرة لمن يؤمن منهم بالمسيح، الذي هو هدف ناموسهم. فإسرائيل الحقيقي تفهم بمعني روحي وليس لمن هم حسب الجسد (رو28:2،29). وإسرائيل الروحي هو من بقي أميناً علي ميراثه الإيماني الذي تسلمه من الأباء، فآمن بالمسيح، الذي هو منتهى الوعد والبركة لإبراهيم ولإسرائيل، وأمّا من رفض المسيح، فهم نسل إبراهيم حسب الجسد، وليس هم أصحاب ميراث الوعد ببركة إبراهيم (7:9،8). ورأينا في (رو28:2،29) أن إسرائيل الحقيقي هو من ختن قلبه بالروح، والروح لا يفعل هذا إلا لكل مؤمن معمد بالماء والروح فمن لا يؤمن بالمسيح، لا يكون بعد إسرائيلياً حقيقياً، وهؤلاء اليهود الذين آمنوا بالمسيح وأيضاً الأمم المؤمنين به أسماهم الرسول إسرائيل الله (غل16:6). وحينما يضاف إسم الله لشئ، ففي المفهوم العبري هذا يعني تضخيم الشيء، كما نقول جيش الله= جيش ضخم، وهكذا جبل الله.. وحينا يقول إسرائيل الله يعني الكنيسة التي ضمت كل العالم يهوداً وأمم.
آية (7): "ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد بل بإسحق يدعى لك نسل."
يفتخر اليهود بكونهم نسلاً لإبراهيم، والرسول يرد عليهم، أن ليس كل أولاد إبراهيم بالجسد هم أولاد وعد، فإسماعيل مثلاً لا يُدعي نسلاً لإبراهيم علي أساس الوعد، ولاحظ أن الوعد كان بإسحق الذي هو رمز للمسيح فكلاهما من مستودع لا يمكن أن ينجب (يلد) بحسب الطبيعة فالوعد إذاً خاص بمجيء المسيح الذي هو ليس بحسب الطبيعة. لذلك فإن الإسرائيلي الحقيقي هو من آمن بالوعد أي آمن بالمسيح. لذلك قال السيد عن نثنائيل أنه إسرائيلي حقاً إذ قال عن المسيح أنه إبن الله وملك إسرائيل. هنا الرسول يقدم إسحق رمزاً للبنوة، لأنه ليس حسب قوة الجسد ولا ناموس الطبيعة، بل علي حسب قوة الوعد الإلهي، إذاً نسل إبراهيم هم الذين ينعمون بالولادة لا حسب الجسد بل حسب الإيمان. هكذا نحن أيضاً نولد بواسطة كلمة الله، ففي جرن المعمودية تُشَكِّلْنا وتلدنا كلمة الله أف 26:5. إذاً نحن نولد من جديد مثل إسحق بعد أن غلبتنا شيخوخة الخطية. ومازلنا نولد بالمعمودية لا خلال الجسد ولا بهوي إنسان، إنما بالروح القدس بقوة الكلمة.
آية (8): "أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله بل أولاد الموعد يحسبون نسلاً."
ما يميز إسرائيل أنهم أولاد إسحق أي إبن الموعد، وإسحق هو نبوة عن الموت الذي يحوله الله إلي حياة، وهذا عمل المسيح بفدائه. إذاً أولاد الله ليسوا هم من يولدوا بحسب النواميس الطبيعية بل وفقاً لمواعيد الله.
آية (9): "لأن كلمة الموعد هي هذه أنا آتى نحو هذا الوقت ويكون لسارة إبن."
إذاً إبراهيم الميت جسدياً وسارة ميتة المستودع ليسا هما أبوا إسحق، بل إسحق هو إبن الوعد. وبهذا نفهم أن أولاد الله هم أولاد الوعد. ليسوا أولاداً بحسب الطبيعة بل بنعمة الله.
الآيات (10-12):"وليس ذلك فقط بل رفقة أيضاً وهي حبلى من واحد وهو إسحق أبونا.لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو. قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير."
ما زال الرسول يدافع عن وجهة نظره، في أن الله له الحرية أن يختار الأمم، فهو لا يختار بحسب الأعمال ولا بحسب الختان ولا الناموس والرسول لم يكتفي بمثال ميلاد إسحق فلربما قالوا إن إسمعيل إبن جارية وأن أولاد قطورة أصغر سناً، وقطورة أيضاً جارية، أما نحن اليهود فنحن أولاد سارة الحرة. لذلك ضرب الرسول مثالاً آخر عن يعقوب وعيسو فهما من أب واحد وأم واحدة، بل من بطن واحد لإنهما توأمين (عيسو يمثل اليهود الأكبر سناً والأكثر خبرة في معرفة الله ورُفِضوا لعدم الإيمان) والله رفض عيسو مع أنه بالجسد إبن إسحق. لأن بسابق معرفته، هو يعرف من هو الصالح روحياً (رو 29:8). بالإضافة إلي أن يعقوب جاء أيضاً بكلمة وعد "كبير يستعبد لصغير تك 23:25" وأيضا رفقة لم تكن تنجب، وإستجاب الله لصلاة إسحق من أجلها تك 21:25. فيعقوب هو إبن صلاة، وموعود بالبركة (كبير يستعبد لصغير).
لماذا إختار الله يعقوب دون عيسو؟
1. بسابق معرفته،فهو عَرِف من سيتجاوب مع محبته ويقبل دعوته، حتي لو تعرض للسقطات والضعفات فنيته صادقة. ورفضه لعيسو يقوم علي رفض عيسو لله ومقاومته له. (رو 29:8). ومن خلال قصة يعقوب وعيسو في الكتاب المقدس ندرك فعلاً صحة إختيار الله من وحشية وإستهتار عيسو وقداسة يعقوب.
2. وهما لم يولدا بعد= أراد الرسول هنا أن يبرر أن الإختيار تم قبل أن يتعاملا مع الناموس أو الختان أو غيره، بل بنعمة الله المجانية. فالله أظهر محبته وهو يعلم أن يعقوب سيقبل دعوته المجانية وعمله الإلهي فيه. لكنه إختاره قبل أن يكون له أعمال.
3. اليهود يعجزون أن يفسروا سبب إختيار يعقوب، وهكذا يعجز الكل عن أن يدركوا سر إنفتاح باب الإيمان للأمم كما لليهود.
4. الرسول هنا لا يقلل من دور الإيمان في الجهاد، لكنه يؤكد أن خلاص الإنسان لا يتحقق بالعمل الصالح خارج دائرة الإيمان. ولكن الله سيجازي كل واحد بحسب أعماله (مت27:16). وكل واحد يأخذ أجرته بحسب تعبه (1كو58:15). والأموات أعمالهم تتبعهم (رؤ13:14).
5. الرسول يظهر لنا الله كأنه حر في إختياره المسبق حتي لا يجهد أحد نفسه في فحص أمور الله التي لا يمكن أن تفحص. ومن يريد أن يفكر فليضع بديهية قبل أن يفكر وهي أن الله عادل في أموره. ولو عرفنا كل أسباب حكمه لقلنا آمين. ولكن الله غير ملزم أن يشرح لنا كل الأسباب في إختياره حتي نقبل أحكامه بلا فحص، ولا نضعها تحت قياسات عقلنا القاصر بل نقبلها بالرضى والشكر. ولثقتنا في عدل الله في إختياره فإننا نعلم أن الله يختار من يختاروا الله. عموماً فنحن لن نفهم كل أحكام الله الآن "لست تعلم ما أنا فاعل الآن لكنك ستفهم فيما بعد" (يو7:13).
6. بحث بولس الرسول يريد أن يصل إلي أن الله لا يعطي بره علي أساس أعمال بل علي أساس الوعد، والإيمان مربوط بالوعد، فالله يدعو والإنسان يؤمن. فالإيمان هو إستجابة للدعوة. والأعمال مربوطة بالإيمان والدعوة. وبعد أن جاء المسيح فلا إختيار إلا في المسيح وبالتالي الإيمان به. وما قبل المسيح كان الإختيار لمن سيأتي منهم المسيح. أما بعد المسيح فكل مؤمن هو مختار.
آية (13): "كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو."
والحق أن مواعيد الله هذه قد صدقت وتمت وفقاً لما ذكره النبي ملاخي (2:1). فأحب الله يعقوب ونسله، وكان لهم الهيكل وميراث كنعان، وأبغض الرب عيسو.
آية (14): "فماذا نقول ألعل عند الله ظلماً حاشا."
إذا كان الإختيار والتفضيل يعتمد أساساً علي الله الذي يدعو الإنسان، فهل يكون الله قد سلك بالظلم ضد عيسو؟ حاشا= ليحذر أن يخطر علي بالنا شئ كهذا. فنحن لا يمكننا أن ندرك كل أسرار حكمة الله. الله ليس بظالم حتى وإن بدا حكمه غير مفهوم لنا.
الآيات (15،16): "لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف. فإذا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم."
حين سأل موسي الله أن يري مجده (خروج33) أجابه الله بهذه الإجابة، وكأنه أراد أن يقول له "مع كل تقديري لجهادك وتعبك. لكن رؤية مجدي هي عطية مجانية إلهية تُعطي، وليس ثمناً للأعمال، لكنها قطعاً لا توهب للمتراخين والمتكاسلين". والله وحده يعرف من هو الذي يستحق عطايا محبته. الله الذي يرحم= فالله لا يعطي بحسب الأعمال بل بحسب رحمته، فلا توجد أعمال في هذه الدنيا يستحق صاحبها أن يري مجد الله. وليس معني هذا عدم أهمية الأعمال فالله يطلب أن نصلي لكي يعطينا (مت37:9،38) فعلة وخدام ليزداد الحصاد. والرحمة هنا في معناها العام تعني عطايا الله وخيراته التي حصل عليها إسرائيل دون الأمم لفترة من الزمن.
ولاحظ أن الله لم يقل أرحم من أرحم وأهلك من أهلك، فهو يستخدم سلطانه في الرأفة والحب والرحمة، فالله لا يريد هلاك الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز23:18). والله محبة لكنه لا يلزم أحد بمحبته ولذلك لم يلزم عيسو بها.
ونلاحظ أن الله يوزع مراحمه علي الكل، ولو منع رحمته عن أي إنسان ما عاش لحظة، فهو يرحم الجميع ويشرق شمسه علي الأبرار والأشرار ويعطي كل واحد قوته. وحتي أعمالنا الصالحة هو أعطانا برحمته أن نعملها (يع17:1) وليس أن أعمالنا الصالحة تستدر مراحمه. لكن الرسول مازال مهتماً بإبراز حرية الله في الإختيار، فهو يختار بمراحمه وليس بحسب أعمال أحد. يريد أن يظهر سلطان الله المطلق في إختياره مختاريه (وهو يقصد الأمم طبعاً).
ليس لمن يشاء ولا من يسعي= هذه تشبه قوله في (1كو7:3) "ليس الغارس شيئاً ولا الساقي بل الله الذي ينمي" فهل يفهم من هذه الآية أن الله ألغي عمل الغارس والساقي. وهل الزرع يمكن أن ينمو دون غارس أو ساقي. لكن المهم قوة النمو التي هي من قبل الله، ولكن قوة النمو هذه يلزمها زارع وساقي. لا يمكن أن نضع أمامنا آية بمعزل عن باقي الكتاب. فأمامنا آيات أخري مثل "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" + " الذي يصبر إلي المنتهي فذاك يخلص" + "كن أميناً إلى الموت" فهذه الآيات فيها طلب أن نقبل الله بإرادتنا الحرة. ومعني هذا أننا لا نستطيع أن نتجاهل دور الإنسان الإيجابي في تمتعه بالخلاص المجاني. والله يريد إرادتنا الحرة أو مشيئتنا الإختيارية مع سعينا الجاد. فالكتاب وحدة متكاملة لا نتعامل مع جزئياته أي لا نتعامل مع آية واحدة دوناً عن باقي الكتاب.
وهنا بولس الرسول لا يتكلم عن مشكلة تخص الأفراد، بل عن قبول الأمم، وهل من حق الله أن يقبلهم أم لا. فمنطق اليهود أن الله لا يجب أن يقبل الأمم. أما بالنسبة لنا كأفراد، فنحن بمشيئتنا الحرة نسعي ونجاهد والله يعين فهو دائم العطاء. فحين يقول الله أتراءف علي من أتراءف= يجب أن نضع بجانبها أن الله عادل وبار، فهو بالتالي سيتراءف علي من يستحق رأفاته.
الآيات (17،18): "لأنه يقول الكتاب لفرعون أني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادى باسمي في كل الأرض. فإذا هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء."
المشكلة التي يعالجها الرسول أن اليهود ينكرون علي الله أن يضم الأمم إلي حظيرة الخلاص، فهم في نظرهم ليسوا من شعب الله. وكأن اليهود يريدوا أن يحددوا سلطان الله، لذلك فالرسول يظهر الله هنا أنه مطلق السلطان يفعل ما يشاء، لا شئ يحد من سلطانه، ولكن سلطانه هذا لا يشوبه أي ظلم قطعاً.
والله إختار موسى ورفض فرعون لأنه يعلم قلب موسى فسانده ليتمجد فيه خلال الرحمة، والله يعلم قسوة قلب فرعون فتركه في عناده، ولاحظ أن فرعون هو الذي إستمر في عناده وإهاناته لله، فلم ينزع الله هذه القسوة حتى يتمجد الله خلال هذه العنف الشرير، وبهذا يكمل موسى كأس مجده ويكمل فرعون كأس شره. والله يتمجد بهذا كما بذاك. فسواء الإنسان البار أو الإنسان الشرير فالله يستخدمهما كليهما في تنفيذ خطته الأزلية. فالله إستخدم قساوة فرعون ولم ينزعها، الله رفع يده ورحمته عنه فبقي في قساوته ليري المصريون واليهود مجد يهوة ويدركوا تفاهة الأوثان. وهكذا ترك الله إسرائيل 2000 سنة في قسوتها وتشتتها، ليعلم العالم أن الله تركها ورفضها وسيعود الله ويقبلها في نهاية الأيام. وبنفس المنطق ترك الله العالم الوثني يثور ويتقسي قلبه ثم رحمه الله وقبله، والله بهذا المنطق قسى قلب يهوذا وإسرائيل ليتم الفداء فبزلتهم صار الخلاص (راجع مقدمة الإصحاح).
الرسول هنا يربك اليهود بذات فكرهم، فهم قبلوا رحمة الله لهم وسقوط فرعون تحت قسوته دون إعتراض منهم، فلماذا لا يقبلون الآن أن الله يفتح باب مراحمه للأمم. عموماً فالإنسان غير المؤمن يقف من الله دائماً موقف الناقد. فلنصلَّ لكي يعطينا الله حكمة لنفهم ونقبل تصرفاته.
آية (19): "فستقول لي لماذا يلوم بعد لأن من يقاوم مشيئته."
هنا رد علي سؤال غبي سيثيره النقاد "إن كان الله يقسي من يشاء ولا أحد يستطيع مقاومته، فلماذا تدينني يا رب وأنت خلقتني هكذا؟ونجد الرسول مستمر في أسلوبه في إثبات حرية الله. فالإجابة المنطقية علي تساؤلات الناقدين.. أن الله لم يجعل فرعون قاسياً ولا يهوذا …الخ لكن هم بحريتهم قاوموا الله، والله لم يغير طبيعتهم، وأن الله عادل وليس عنده محاباة… هذا هو الرد المنطقي، ولكننا نجد الرسول لا يستخدم هذا الرد، بل يكمل في أسلوبه مثبتاً سلطان الله المطلق= من يقاوم مشيئته.
آية (20): "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله العل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا."
الجبلة= الخلقة أي الشيء المخلوق. وبدون شك لا يستطيع أحد أن يقاوم مشيئة الله، وليس لأحد الحق أن يراجع الله ويسأله عن عمله. ولكن أبناء الله يسألونه بدالة المحبة والبنوة (أر1:12).
بل من أنت؟= هل أنت شريك لله في سلطانه، بل أنت وأنا لسنا أكثر من طين صنعه الله وشكَّله، فهل من حقي أن أحاكم الله. والله كخزاف (صانع آنية من طين) يتوق أن يجعل كل الآنية، آنية للكرامة، ولكن الله يكرم حرية إرادتنا، وإذ نرفض نبقي بلا كرامة ونفقد عمل يديه المُقَدِّسَتِينْ للنفس والجسد والروح. فالله يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2). وهو الذي يقول من يقبل إليّ لا أخرجه خارجاً (يو37:6). لكن من يُصِّرْ أن يبقي آنية هوان مثل فرعون فسوف يتمجد الله به أيضاً إذ سيظهر فيه سخطه علي الخطية.
آية (21): "أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان."
فكرة الخزاف وآنية الطين مأخوذة من (أر1:18-10) وليس المطروح هنا هو أن الله إن أراد يخلقني آنية للهوان وإن أراد يخلقني آنية للمجد، بل إنني طين في يدي خزاف، هو حُرُُ أن يصنعني كما يشاء، وما عليَّ سوي أن أطيع وأكف عن الجدال. ولكن لا يصح أن نحمل المثل فوق ما يحتمل ولا نأخذ منه سوي الذي قصده الرسول، بأن يظهر سلطان الله المطلق. ولكن الله يحترم حرية إرادتنا، فلو إستجبنا له بحرية إرادتنا يحولنا إلي آنية مجد، لمجد إسمه بطريقة عجيبة (بولس الرسول نفسه مثال لهذا). فمن يطيع يصير آنية مجد. ومن لا يطيع يصير آنية هوان. ولكن لنري محبة الله، فالله حين صنع الإنسان من طين لأول مرة صنعه علي صورته هو (تك27:1). وحين جدد الله خلقتنا بالمسيح يحولنا لصورة المسيح (كو10:3 + غل19:4). وحرية الإنسان في تحديد دوره كآنية مجد أو آنية هوان تتضح في (2تي20:2،21) هنا يظهر الرسول سلطان الله المطلق. ولكن نضيف نحن علي ذلك عدله ومحبته.
آية (22): "فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك."
الله إحتمل بطول أناته= أناة كثيرة آنية غضب كانت تستحق الهلاك أي الأمم ليظهر قوته فيهم بعد ذلك إذ يحولهم إلي قديسين. والله إحتمل فرعون الذي كان يستحق الهلاك ليظهر قوته أمام اليهود والمصريين. فآنية الهلاك يكونون مجالاً لإظهار غضب الله، وبالتالي تظهر قداسته وعدم رضاه عن الخطية. وهذا ظهر أيام الطوفان وأيام سدوم وعمورة. ولكن الله يعطي فرصاً كثيرة لآنية الهوان، فلا يهلكها فوراً ليظهر مراحمه ومحبته وأنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا (خر23:18). ولكن بعد أن يعطيه فرصاً عديدة يتمجد فيه (بإهلاكه فيظهر قداسة الله ورفضه للخطية أو بأن يكون له فرصة ليتجاوب مع الله ويصير قديساً (الأمم/ بولس الرسول) أو بأن يكون له دور في خطة الخلاص (يهوذا/ فرعون).
آية (23): "ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد."
الله يبين غني مجده في اليهود الذين كانوا آنية رحمة لفترة طويلة وبين غني مجده في موسى الذي لمع وجهه، وبين غني مجده لبولس الذي رأي ما لم تره عين.. وفي قديسين كثيرين. ولاحظ أنه قال آنية رحمة ولم يقل آنية عمل صالح ليُظهر سلطان الله المطلق. ونحن نستطيع أن نهلك أنفسنا ولكن لا نستطيع أن نخلص أنفسنا بدون رحمة الله، ولاحظ حكمة كنيستنا الأرثوذكسية التي تكثر من ترديد عبارة "يا رب إرحم" فالخطاة يؤهلون أنفسهم لجهنم، ولكن الله يؤهل القديسين للسماء. وقطعاً فالله يؤهل للسماء بناء علي ما إخترته أنا بحريتي، ولو كان العمل هو عمل الله وحده لحصل الكل علي المجد.
آية (24): "التي أيضاً دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضا."
رحمة الله شملت اليهود والأمم، بالرغم من أن اليهود كأمة رفضوا المسيح.
آية (25): "كما يقول في هوشع أيضاً سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة."
قارن مع (هو23:2 + 1بط10:2). فالرسول إقتبس من هوشع النبي ما قاله هنا (ولكن من الترجمة السبعينية) ليست محبوبة= لورحامة أي بلا رحمة. ليس شعبي= لوعمي. والرسول يقصد أن هوشع تنبأ عن أن الله سيختار الأمم، فهم لم يكونوا من شعبه وصاروا من شعبه، ولم يكونوا مرحومون فصاروا مرحومين. بولس هنا يقول لليهود الرافضين لقبول الأمم. ما رأيكم في هذا الكلام الذي قاله هوشع في كتابكم المقدس.
آية (26): "ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي."
وسوف يحدث أنه في المكان الذي كان يتعبد فيه الأمم للأوثان حين قيل لهم لستم شعبي، في نفس هذا الموضع سيقدم الأمم العبادة لله وسُيْدعَوْن أبناء الله الحي، ولا داعي لأن يذهبوا إلي أورشليم، بل الله سيُعْبَد في كل مكان. قوله في الموضع أي كل مكان في العالم ويكون في الموضع الذي..= هذه النبوة مأخوذة من (هو10:1) وذلك من ترجمات أخري (مثل KJ، NKJ). ويفهم اليهود كلمة موضع علي أنها الهيكل في أورشليم، فالعبادة تكون في موضع واحد، أمّا نحن فمن قول المسيح للسامرية نفهم أن الله سيعبد في كل مكان.
آية (27): "وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص."
النبوة من (أش22:10،23) (سبعينية). وكان إشعياء يتنبأ عن العودة من السبي، فقليلون هم الذين عادوا من السبي. وهذا ما حدث أيام المسيح، فالأقلية آمنوا والأغلبية رفضوا المسيح. وهنا يسمي الرسول الذين آمنوا= البقية كما أسماهم إشعياء. والبقية قد تكون إشارة لإيمان اليهود في آخر الزمان. لكن كلمة البقية هي إشارة واضحة لأن الكنيسة في العهد القديم أو العهد الجديد هي شجرة زيتون واحدة، وبعد المسيح قطعت الأفرع التي رفضت الإيمان، وبقي المؤمنون علي الزيتونة.
آية (28): "لأنه متمم أمر وقاض بالبر لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به على الأرض."
لأنه متمم أمر وقاض بالبر= (أش23:10). حينما يبدأ الله عملاً فهو لابد وسيكمله، سواء عمل دينونة أو عمل رحمة. وإسرائيل كان يستحق اللعنة بسبب رفضهم المسيح. ولكن الله الذي بدأ معهم سيكمل معهم ويخلص البقية ويتمم عمله بالبر، وهذا سيتم في نهاية الأيام. لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به علي الأرض= هذا الأمر هو الإيمان الذي يجلب الخلاص والبر لكل من يؤمن، يهوداً وأمم، وبإنتشار الكنيسة في كل العالم.
آية (29): "وكما سبق إشعياء فقال لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة."
مقتبسة من (إش9:1). والمعني هو:- لو أن الرب لم يبق لنا بقية ولم يجعل من بين الأحفاد بعض النسل الصالح المختار لصرنا مثل سدوم وعمورة أي بلا بقية. وقد تشير كلمة النسل للمسيح الذي جاء من اليهود ليخلص اليهود والأمم. وربما تشير للقلة التي آمنت ببشارة التلاميذ.
آية (30): "فماذا نقول أن الأمم الذين لم يسعوا في اثر البر أدركوا البر البر الذي بالإيمان."
فماذا نقول= ما هي النتيجة لما سبق وقلناه حتى الآن. إن الأمم الذين لم يسعوا في إثر البر= أي هم لم يكونوا يسعون لأن يتبرروا فهم لا يعرفون شيئاً ولم يشعروا بإثمهم أمام الله، بل لم يسمعوا عن الله ولا علي الناموس. أدركوا البر= حصلوا علي التبرير بواسطة الإيمان بالمسيح الذي سمعوا عنه ودون أن يسمعوا عن الناموس. وصدقوا ببساطة أن الله قد قبلهم، ففرحوا به وآمنوا به، وبإيمانهم صاروا أبراراً، دون أن يكون لديهم أي خبرة سابقة من ناموس أو أعمال. هذه هي نعمة الله المجانية. البر الذي بالإيمان= وليس بالتحول إلي اليهودية أولاً. وبهذا رأينا صدق مواعيد الله، فالذين ليسوا من شعبه صاروا من شعبه ويسبحونه بل أبنائه.
الآيات (31-33): "ولكن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر. لماذا لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان بل كأنه بأعمال الناموس فأنهم اصطدموا بحجر الصدمة. كما هو مكتوب ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن به لا يخزى."
مشكلة اليهود أنهم شعروا أنهم قادرين أن يتبرروا دون الله، بل هم يفتخرون علي الله ببرهم، فمن يستطيع أن يتبرر من دون حاجة لله لن يشعر بإحتياجه لله. وهذا يحدث حتى الآن وأمثلة لذلك:-
1. من يقول أنا إستطعت أن أبقي بلا خطية فترة طويلة، فقوله "أنا" فيها إفتخار بذاته. ولم يدرك أنه لم يسقط بسبب حماية الله له.
2. من يعمل عملاً ويشعر في داخله أنه عمل شيئاً، ويفتخر به، هذا ما قال عنه السيد المسيح "لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك".
3. من يشعر في داخله أنه أفضل حالاً ممن حوله.
كل هؤلاء مشكلتهم أنهم لم يعرفوا أن الله هو الذي يعمل فيهم العمل الصالح، هم ظنوا في أنفسهم أنهم شئ صالح فاصلين أنفسهم عن الله مصدر كل صلاح، وعلي الجانب الآخر فهناك ما يسمي صغر النفس ومثال لذلك:-
من يقول أنا لا أمل لي في الإصلاح، هذا يشعر أيضاً أنه وحده دون معونة من المسيح، هو لا يطلب المسيح، وإذ يجد نفسه عاجزاً يقول أنه لا فائدة. ونلاحظ أن الكبرياء وصغر النفس هما وجهان لعملة واحدة هي الإنفصال عن الله، أما المؤمن بالمسيح فيقول:-
1. أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني (في13:4).
2. لا أنا بل نعمة الله التي معي (1كو10:15).
3. منك الجميع ومن يدك أعطيناك (1أي14:29).
وقارن بين الفريسي الذي إستضاف المسيح (لو7) والمرأة الخاطئة، هو كان يشعر في نفسه أنه بار فلم يحصل علي شئ، أما المرأة الخاطئة فتبررت لأنها شعرت بخطيتها وإحتياجها للمسيح.
وأنظر قول السيد المسيح "كذلك أنتم أيضاً متي فعلتم كُلّ ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا (لو10:17). فشعورنا الداخلي أننا "عبيد بطالون" قد فعلنا الواجب يحمينا من الكبرياء الذي هو بداية السقوط. وما يشرح فكر اليهود المثال الذي إستعمله السيد المسيح عن الفريسي والعشار. فما فعله الفريسي هو مثال يشرح هذه الآيات.
وما ذكرناه سابقاً هو سقطة الشيطان الذي شعر بإمكانياته (قوته وجماله..) بغير الله، والإنفصال عن الله سقوط في المحدودية التي تعني الموت، والإتصال بالله يعني اللانهائية أي الحياة الأبدية. مثال لذلك بولس الرسول بفلسفته وعلمه وتلمذته لغمالائيل كان قبل الإيمان محدوداً، ولكنه بعد إيمانه صار غير محدود، فهو بشر أوروبا كلها ومازال يعمل حتى الآن.
إذاً فالمؤمن المسيحي يشعر دائماً أنه محتاج لله "إن عطش أحد.. تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو37:7-39 + راجع أيضاً رؤ17:3). أيضاً المؤمن لا يقول أنا عملت كذا… بل المسيح دَبَّرَ كذا وكذا، وبهذا يستمر المؤمن في إتحاد مع المسيح وينطلق للانهائية في عمله، ويضمن حياته الأبدية. والمؤمن تكون عينه مفتوحة. ويري نفسه أنه نجس خاطئ (أر9:17).
أما اليهود فكانوا لا يشعرون باحتياجهم لله، بل كانوا يشعرون في داخلهم أنهم أبرار، هم أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم. وهذا عكس ما حدث مع الأمم الذين لم يحاولوا إثبات بر أنفسهم، بل هم في بساطة آمنوا بالمسيح فتبرروا وخرج منهم مارجرجس والأنبا أنطونيوس.. .. .
اليهود كان لهم الناموس الذي كان قادراً أن يقودهم للمسيح، فغاية الناموس هي المسيح لمن يسلك بتواضع وإنسحاق، ومثل هذا يكتشف المسيح ويعرفه وهذا ما حدث مع التلاميذ الإثني عشر مثلاً، أما رئيس الكهنة المنتفخ بكبريائه وبره لم يعرف المسيح. بل أن التلاميذ إعترفوا أنهم لم يستطيعوا الإلتزام بالناموس (أع10:15) أي هم شعروا بإحتياجهم لله، أما اليهود المتكبرين فلم يعرفوا المسيح المتواضع فكان لهم حجر صدمة فتعثروا فيه، فالله لا يسكن سوى عند المنسحق القلب والمتواضع(إش15:57+ مز17:51).
ولكن إسرائيل وهو يسعي في إثر ناموس البر= يسعون خلال حرفيات الناموس دون روحه، لإثبات بر أنفسهم. وهم ظنوا أن هذه الأعمال تبررهم دون الإلتزام بروح الناموس من تواضع وإنسحاق أمام الله. لذلك فهم في خطاياهم وكبريائهم حين ظهر المسيح لم يؤمنوا به إذ كانوا يبحثون في كبرياء عن تبرير ذواتهم لا عن مجد الله. بل هم إصطدموا به فكان لهم حجر صدمة. ولو كانوا قد إلتزموا قلبياً بالناموس لكانوا قد تعرفوا علي المسيح وآمنوا به حين أتي لهم، كما حدث مع التلاميذ. ومع أن المسيح كان معروفاً عند الأنبياء، ولكن اليهود كانوا لكبريائهم كالعميان فتعثروا فيه (أش14:8+ 16:28+ لو34:2 + 1بط6:2). ولقد فهم الربيون آيات إشعياء عن حجر الصدمة أنها علي المسيح الموعود به.
واليهود بالرغم من سعيهم في إثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر = لم يستطيعوا حتى الإلتزام بالناموس. لماذا. لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان= لكي نفهم هذا، لنتذكر قصة بطرس حين سار علي الماء (مت28:14-32) فهو تمكن من السير علي الماء حين كان مثبتاً نظره علي المسيح، وغرق إذ نظر لنفسه وللموج ولم يصدق، ولكن لما صرخ إنتشله يسوع، فصرخته هذه كانت هي إعلانه أنه محتاج للمسيح. فاليهود في تنفيذهم لوصايا الناموس كانوا ناظرين لأنفسهم لإثبات أنهم قادرين علي الإلتزام بالناموس ليتبرروا في أعين أنفسهم وأعين الناس، وبهذا لم يشعروا في داخلهم أبداً أنهم في إحتياج إلي مخلص. أما الذين تواضعوا أمام الله فشعروا بإحتياجهم وأنهم في ضعفهم غير قادرين علي الإلتزام بالناموس والوصايا (أع10:15،11) هؤلاء الذين في تواضع شعروا بإحتياجهم لمخلص، حينما رأوا المسيح إكتشفوه وآمنوا به "يا رب إلي من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك" (يو68:6،69). بمجيء المسيح إنتهي تاريخ اليهود والعمل بالناموس ليبدأ الإيمان بصخر الدهور وحجر الزاوية. ولكن اليهود رفضوا الإيمان بعناد، فرفضوا البر مع الرحمة وإستمروا يعملون ليقيموا بر أنفسهم. وبقفزهم فوق الحجر (المسيح برفضهم له) ترضضوا وإنكسرت أمجادهم، ثم تحدوه وصلبوه فوقعوا تحت الحجر فسحقهم، ولكن الذين قبلوه إكتشفوا الطريق الجديد الصاعد للسماء. فالمسيح هو النسل الموعود به لإبراهيم الذي يتركز فيه الإختيار كما يتركز الرفض.
كل من يؤمن به لا يخزي= كل من يذهب لله معلناً إحتياجه في إيمان فالله سيعطيه ولن يخزيه وسيحوله إلي قديس. وكل من عاش من اليهود بروح الإنسحاق الناشئ عن الإحساس بالحقيقة، أن الناموس يطلب الطهارة وكل إنسان عاجز عن ذلك يشعر بإحتياج لمن يخلصه من نجاسته، فكل من عاش كذلك من اليهود عَرِفَ المسيح. أمّا رئيس الكهنة المنتفخ الذي يبحث عن بر نفسه لم يكتشف المسيح بل صلبه لأنه لم يبحث عن بر الله أي البر الذي يعطيه الله بل بحث عن بر نفسه فتعثر في المسيح. عموماً هما طريقان متضادان لا يمكن أن يلتقيا، بر الله وبر اللذات. فدائماً المعجب بنفسه لن يكتشف المسيح.
آية (1): "أيها الأخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص."
في(1:9) نري الرسول حزين عليهم، ولكن الحزن وحده لا يكفي لعودة الخاطئ، لذلك نري الرسول هنا مصلياً لأجلهم بالرغم من عنادهم ليحصلوا علي الخلاص. ومحبة بولس لشعبه وصلاته لأجلهم لم يتوقفا علي الرغم من هجومهم المستمر عليه فشابه صموئيل حين قال "كيف أخطئ إلي الله وأكف عن الصلاة لأجلكم" (1صم23:12).
آية (2): "لأني أشهد لهم أن لهم غيرة لله ولكن ليس حسب المعرفة."
هناك غيرة لله ولكن ليس حسب المعرفة= فهناك من يقتل شعب الله ظاناً أنه يقدم خدمة لله (يو2:16). وبولس نفسه سقط هذه السقطة من قبل أع 1:9 ويسقط في هذا كل من له فكر تعصب أعمي دون إتساع قلب في محبة الغير. ولاحظ هنا أن بولس يشهد لهم وهم ألد أعداؤه، فالسيد قال "باركوا لاعنيكم". ومعناها أن نذكر أعداءنا بأحسن ما فيهم. المعرفة= هم يطبقون الناموس في غيرة لله لكن لإثبات بر أنفسهم وليس لكي يمجدوا الله وينسحقوا شاعرين بالإحتياج إليه.
آية (3): "لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله."
يثبوا بر أنفسهم= لم يعرفوا عمل الله فيهم. لم يخضعوا لبر الله= هذه ليس معناها أن الله بار، بل البر الذي يهبه الله للإنسان فيجعله باراً بالله. محاولتهم لإثبات بر أنفسهم راجعة لكبريائهم أي فسادهم الداخلي، فحينما تتضخم الأنا وتملأ القلب، لا تطيق آخر في داخله، وحتى إذ تدينت تعمل لحساب ذاتها المغلقة تطلب تثبيت بر نفسها، عوض إتساعها بالحب لتقبل نعمة الله واهبة البر بالإيمان. هؤلاء ظنوا أن الصلاح والبر من عندياتهم وليس هو عطية إلهية، لهذا لم يخضعوا لبر الله إذ أنهم متكبرون. وفي إعتدادهم بذواتهم إحتقروا النعمة، فلما أتي المسيح لم يؤمنوا به. هم طلبوا بر ذواتهم والمجد لذواتهم (يو42:5،44). وفقدوا محبتهم لله لذلك تخلي عنهم (رو28:1 + 2أي1:15،2).
آية (4): "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن."
الناموس وُضِع ليمهد للمسيح ويعمل لحسابه، ليكتشف الإنسان ضعفه وإحتياجه لمخلص، إذ هو عاجز عن تنفيذ الوصايا التي في الناموس (أع10:15)
هكذا شعر التلاميذ. وكان هذا هو عمل الأنبياء إذ تنبأوا عن مجيء المخلص. فالناموس لم يوضع ليبقي بل ليعمل لحساب المسيح. فإن شهادة يسوع هي روح النبوة (رؤ10:19). حتى إذا جاء المسيح يكون الناموس قد بلغ غايته ونهايته. الناموس وُضِع لكيما إذا إستخدمه اليهود بالإيمان، أي بالعلاقة الصحيحة مع الله، فإنه سينتهي بهم حتماً إلي الإستنارة الروحية وإعداد الفكر لقبول المسيح الذي يبرر من يؤمن به= لأن غاية الناموس هي المسيح للبر= أي يكتشف الإنسان إحتياجه للمسيح فيذهب إليه، ومن يفعل بإيمان سيبرره المسيح. لكنهم استخدموا الناموس بطريقة خطأ وأرادوا إثبات بر أنفسهم أي لحسابهم وليس لحساب مجد الله. لذلك رفضوا المسيح وصلبوه. فالناموس لا يبرر بل يقود للمسيح الذي يبرر من يؤمن.
آية (5): "لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس أن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها."
الآن التبرير هو فقط بواسطة الإيمان بالمسيح. لأن موسى يكتب عن التبرير الذي يجئ بواسطة الناموس وأعمال الناموس الموسوي قائلاً: "إن الإنسان الذي سيتمم كل وصايا الناموس سوف يحيا وهو وحده الذي يمكن ان يتبرر (لا5:18). علي أن المحافظة علي الناموس بصورة تامة أمر مستحيل وغير ممكن بسبب فساد الطبيعة البشرية، فمن يستطيع أن لا يشتهي ما عند قريبه (الوصية العاشرة). هذه لا يطبقها إلاّ الذي مات عن العالم مع المسيح فزهد في العالم كله.
الآيات (6-9): "وأما البر الذي بالإيمان فيقول هكذا لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات. لكن ماذا يقول الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أي كلمة الإيمان التي نكرز بها. لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت."
في آية5 حدثنا الرسول عن صعوبة الخلاص بواسطة أعمال الناموس وهنا يتكلم عن الإيمان ليثبت أن طريق الإيمان أسهل من طريق الأعمال والناموس. بل إن مطاليب العهد الجديد تبدو للوهلة الأولي أصعب جداً من مطاليب العهد القديم. فالعهد القديم يوصي بألا تزني، أما العهد الجديد فيمنع النظرة للإشتهاء. ولكن مجرد الإيمان مع محاولة تنفيذ الوصايا سنجد المعونة والعمل الإلهي الذي يبرر. وهذا كان مستحيلاً في العهد القديم الذي يقف ليدين الخاطئ أمّا العهد الجديد ففيه الروح القدس يعين المؤمن.
وفي هذه الآيات نجد أن بولس أعاد صياغة ما قاله موسى النبي في (تث11:30-14). وأعاد تفصيل هذه الآيات بإرشاد الروح القدس لتفهم بمفهوم العهد الجديد. فموسى كان يقصد أن يقول لشعبه.. لا تقولوا أن الوصية صعبة أو هي في السماء لا أستطيع أن أصعد إليها، ولا هي في عبر البحر فكيف أسافر إليها بعيداً. وهذا ما قاله الله لقايين عن الخطية "وأنت تسود عليها" لكن ما رأيناه عملياً أن ضعف الإنسان حال بينه وبين تنفيذ الناموس بالكامل فبدا لنا الناموس صعباً. لذلك فهم بولس الرسول أن موسى حين كان يقول هذا عن سهولة الوصية إنما كان يتنبأ عن المسيح، الذي مات بجسده ليعطيني أن أموت وأقوم معه بالمعمودية. فالآن أنا أنفذ الوصية لأن الروح القدس أعطاني إمكانية أن أموت مع المسيح عن الخطية، وأعطاني أن أقوم معه فيعطيني المسيح حياته لأعمل البر، وهذا ما نسميه النعمة. وهذا ما طلبه المسيح أن نحمل نيره أي نرتبط معه، وهو حقيقة من يحمل حمل تنفيذ الوصية.
وبولس الرسول رأي في كلمات موسي أن الوصية هي رمز للمسيح، فالمسيح هو غاية الناموس، والناموس في نهايته هو إستعلان شخص المسيح، فرفع بولس كلمة الوصية من آيات التثنية ووضع مكانها المسيح واهب البر. وعبور البحر فهمه بولس الرسول أنه موت المسيح، فأعماق البحر رمز للهاوية مكان الأموات. وقال أن المسيح لم يستمر ميتاً بل قام، وبالتالي أعطاني ألا أمكث مهزوماً من الخطية والموت. وكما أن القيامة من الموت أصبحت سهلة بقيامة المسيح، علينا ألاّ نستصعب إتصال المسيح بنا بعد صعوده، فصعوده للسموات لا يعني إنفصاله عنا، بل هو صعد ليعطينا حياته نحيا بها. إذاً سهولة الوصية الآن راجعة لموت المسيح وقيامته، فصرنا نموت معه ثم نقوم معه ليعطينا حياته فنسلك بها في البر. وكل المطلوب منّا أن نؤمن ثم نقرر أن نصلب مع المسيح "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل20:2). لا تقل في قلبك من يصعد إلي السماء اي ليحدر المسيح= أي لا داعي أن تتصور لزوم وجود المسيح وسطنا الآن بجسده ليمكن لنا أن ننفذ الوصية فالمسيح صعد حقاً لكنه أعطانا حياته لنحيا به في كلماتنا وتصرفاتنا وكل مشاعرنا وأحاسيسنا. المسيح أرسل الناموس بواسطة خادم، أمّا النعمة فجاء بنفسه من أجلها. جاء ليعطينا قوة قيامته عاملة فينا، ويسكن فينا البر ليزداد برنا علي بر الفريسيين. والمسيحي إبن إبراهيم بالإيمان يؤمن أن المسيح قادر أن يقيمه من موت الخطية، ويعطيه حياة مقامة في المسيح. والروح القدس الذي أوحي لموسي بما قاله هو الذي فسر وشرح ما قيل لبولس. فبولس إقتبس كلمات موسي وأعطاها مسحة إنجيلية ليظهر أنه لا داعي أن نصعد للسماء ولا أن نموت ونهبط للهاوية فهذا صنعه المسيح ليبررنا.
وفي آية9 لأنك= صحة ترجمتها وهي... وهذه راجعة لكلمة الإيمان التي نكرز بها في آية8. فما هي كلمة الإيمان التي يكرز بها الرسل= إن إعترفت بفمك.. وآمنت بقلبك = القلب يشير للحياة الداخلية والفم يشير للحياة الظاهرة. وإيماننا يمس أعماقنا الداخلية وتصرفاتنا الظاهرة. الإيمان هو المدخل للبر والتقديس والمجد. وبدون القلب يصير إعترافنا الظاهري لغواً وتعصباً وشكليات. وبدون الحياة العاملة والاعتراف الظاهر يكون إيماننا ميتاً (رسالة يعقوب) فلا ننعم بالمكافأة والإعتراف بالفم هو ما قال عنه السيد المسيح "كل من يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا أيضاً به..." والإعتراف بالفم ليس بالكلام فقط، بل بالحياة والأعمال (مت16:5). بل في الإعتراف حتى الموت ثمناً لهذه الشهادة كما فعل الشهداء. ولاحظ أنه لا يستطيع أحد أن يشهد للمسيح حتي الموت إن لم تكن له حياة مسيحية في قداسة وفي محبة لله. هنا تكون الحياة التي نحياها متفقة مع الإيمان الذي في القلب. والإعتراف بالفم يعني أن إسم المسيح يملأ الفم ولا يعلو عليه إسم آخر. وأن إسم المسيح قَدَّسَ الحياة والفم، فلا تعظيم إلاّ للمسيح ولا خوف سوي منه ولا رجاء إلاّ فيه ولا شهوة إلاّ له. وهذا يساوي أن الإنسان مات مع المسيح وقام. وهذا هو الخلاص إن إعترفت .. وآمنت... خلصت. وفي أية8 وفي قلبك= هذا ما يعمله الروح القدس الذي يسكب المحبة في القلب (رو5:5) فنلتزم بالوصايا.
آية (10): "لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص."
لأن القلب يؤمن به للبر= فأول خطوة للتبرير هي الإيمان. والمعني إنك سوف تتبرر لأنه بقلبك إذا آمنت فإنك ستحصل علي البر ثمرة لهذا الإيمان، لأن المسيح سيكون في القلب فتتحول أعضاؤنا بدلاً من أن تخدم الخطية، لتخدم الله. إيمان القلب هو تكريس للنفس (العقل والإرادة) والفم يعترف به= في الصلاة والتسبيح والإعتراف أمام الناس، وهذا هو تكريس الجسد. وهذه تعني أيضاً أنه بحياتك تعترف بالمسيح، أو بالأحرى "حياة المسيح فيك" وتعني إعتراف الفم الأعمال الصالحة الناشئة عن حياة المسيح فينا.
تكريس النفس أو الإيمان بالقلب تعني خضوع العقل والإرادة خضوعاً داخلياً مخلصاً. وتكريس الجسد أي إعتراف الفم تعني أن أعضاء جسدي صارت آلات بر. وهذا التكريس الكلي بالنفس والجسد هو طريق التبرير والخلاص وينسب البر للإيمان فالإيمان هو المدخل للتبرير، ولكن الإيمان قد يكون ميتاً، فلا نكمل الطريق للخلاص. والإيمان يكون حياً لو كان هناك أعمال. لذلك نسبت الأعمال (الفم يعترف به..) للخلاص.
آية (11): "لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى."
مقتبسة من (إش16:28) (سبعينية). والمعني أنت سوف تنال الخلاص لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزي أي سيتحقق له الخلاص لأن بأعمال الناموس يمكن أن نخزي، إذ نعجز عن أن نتبرر، أما الإيمان الحي فلن يُخزِي. ولاحظ قوله كل= فهي تشير لعمومية الخلاص، فلماذا يرفض اليهود الأمم وكتابهم يشير لخلاصهم. لا يخزي= من آمن بالمسيح سيكون له المجد والحياة الأبدية، أما المتعلق بالناموس كطريق للخلاص فسيخزي لأنه لم ولن يوجد من التزم بالناموس بالكامل. والآية جاءت في ترجمات أخرى "كل من يؤمن به لا يهرب"= أي يهرب من الآلام، فهو لن يخزيه إرتباطه بالمسيح المصلوب المتألم المرفوض، ويزداد تعلقاً به مع زيادة الألم.
الآيات (12،13): "لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن رباً واحداً للجميع غنياً لجميع الذين يدعون به. لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص."
لأن رباً واحداً للجميع= هذه عائدة علي "كل" في الآية السابقة. الرسول هنا يعالج رفضهم حب الله الشامل للجميع يهوداً وأمماً. ويقول أن الله هو رب الجميع، خالق الجميع، إذاً هو مسئول عن الجميع. ولذلك سيقبل الجميع، كل من يؤمن، من اليهود أو اليونانيين. وإستند بولس الرسول علي آية أخري من يوئيل إن كل من يدعو بإسم الرب يخلص= (32:2). طبعاً لا أحد سوف يدعو إن لم يؤمن أولاً ثم يدعو بإسم الرب. فالوعد هنا في يوئيل هو للكل أيضاً، لكل من يصلي مؤمناً بالرب.
الآيات (14،15): "فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به وكيف يسمعون بلا كارز. وكيف يكرزون إن لم يرسلوا كما هو مكتوب ما اجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات."
الرسول يوجه اللوم لليهود ويفضح تقصيرهم، إذ كان المفروض أن يكونوا نوراً للعالم، وبمعرفتهم للرب أولاً كان يجب أن يكونوا سفراء للعالم كله، ويقوموا بدور كرازي، ويعلنوا الله لهم. لكن بسبب كبريائهم وبرهم الذاتي، دخلوا في مناقشات غبية بتشامخ وكبرياء ضد الأمم.فكانوا عثرة للأمم وسبب نفور الأمم من الله. والآن لقد أتي الله ليقبل الأمم، واليهود يرفضون ذلك، بينما أن المفروض أن إيمان الأمم بالله يسعدهم. لأن إسم الله يتمجد في العالم، هذا إن كانوا يحبون الله فعلاً، لكن هم كانوا يحبون أنفسهم، وهذا معني أنهم يطلبون بر أنفسهم. هم كانوا بناموسهم الذي يشهد للمسيح، قادرين أن يكتشفوا المسيح ويكرزوا به للأمم، لكنهم للأسف بسبب كبريائهم لم يقوموا بدورهم الذي أراده لهم الله.
فكيف يدعون= هذه راجعة للآية13 كل من يدعو بإسم الرب.. وهنا يتساءل بولس الرسول كيف يدعوا الأمم الله لكي يخلصوا وهم لم يؤمنوا به وحتى يؤمنوا بالله كان يجب أن يسمعوا به= وهذا لم يحدث لأنه لم يوجد كارز يعرفهم بالله فيؤمنوا به ثم يدعون بإسمه فيخلصون. هنا الرسول يلوم اليهود، إذ كان عليهم بسابق معرفتهم بالله أن يكونوا أول المؤمنين بالمسيح، بل كارزين به للعالم أجمع، لكن عوضاً عن ذلك إذ بهم يسدون آذانهم حتى عن نبوات أنبيائهم، فلم يعرفوا المسيح، ولم يؤمنوا به، ولم يكرزوا به. لم يُرسلوا= لم يرسلهم الروح القدس بواسطة الكنيسة ليكرزوا، وكيف يخدم إنسان كسفير مالم يقدم أوراق إعتماده. والملك لا يُرسل سفيراً ما لم يكن أهلاً لذلك. فالله لم يُرسلهم للكرازة إذ أنهم لا يستحقون بسبب كبريائهم. وهنا يشير الرسول للخدمة القانونية التي تستلزم خادماً رُسِمَ بالطريقة القانونية. والذي يرسل الخدام هو رب الحصاد ولكنه يترك هذا لقادة الكنيسة حتى يحكموا علي مقدرته وصلاحياته، ولا يترك لكل إنسان أن يحكم علي نفسه، وذلك يؤول لحفظ نظام الكنيسة فهم الذين أُعْطوا السلطان (الله أعطي السلطان للكنيسة) لإقامة الخدام، وبهذا تحتفظ الكنيسة بخلافة الرسل. ولذلك رأينا أنه بينما إختار الله بولس وبرنابا للكرازة، قامت الكنيسة بوضع اليد عليهما لترسلهما (أع2:13،3) وحينما خَسِر اليهود دورهم ككارزين وسط الأمم خسروا بركات أن يكونوا المبشرين بالسلام (إش7:52). وهذه الآية قيلت عن خلاص إسرائيل من سبي بابل، لكن بولس رأي فيها ما هو أبعد من ذلك، رأي أنها تشير لمن يبشر بالسلام الذي تحقق بدم المسيح بين الله والناس. والذي يبشر بالمسيح هو يبشر بالسلام فالمسيح ملك السلام. وما أجمل أقدام المبشرين= في نظر سامعيهم. هم خسروا هذه البركات.
آية (16): "لكن ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل لأن إشعياء يقول يا رب من صدق خبرنا."
عدم إيمان اليهود بالمسيح، هذا كان النبي إشعياء قد تنبأ به من قبل (1:53) فقليلون هم الذين صدقوا وآمنوا. قد أطاعوا الإنجيل= ليس المهم أن نسمع ونعرف بل أن نطيع. من صدق خبرنا= من يؤمن بكلمات الكرازة.
آية (17): "إذاً الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله."
إذاً الإيمان بالخبر= الخبر في الإنجليزية HEARING أي سماع. وكلمة الخبر هنا راجعة علي كلمة خبرنا في الآية السابقة. والمعني أنه لابد من الإستماع لكلمة الله حتي يؤمن الإنسان، فبداية الإيمان ونموه تأتي من السماع، سماع كلمة الله= الخبر بكلمة الله. ولأن الخبر هو كلمة الله فمن يرفض الكلمة التي كرز بها الرسل، فإنه يرفض الله.
آية (18): "لكنني أقول ألعلهم لم يسمعوا بلى إلى كل الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم."
ولكنني أقول هل اليهود لم يسمعوا كلمة الله. بكل تأكيد هم سمعوا. لأن صوت الكارزين ببشارة الخلاص قد ذاع ووصل إلي كل الأرض. وأقوال الكرازة قد وصلت إلي أقاصي المسكونة. فبولس هنا يثبت علي اليهود أنه لا عذر لهم في رفض الكلمة، لكنهم هم سامعين لا يسمعون (مت13:13). ولقد إقتبس الرسول من (مز5:19). ولكن المزمور كان يتكلم عن شهادة الفلك والطبيعة لله، فالكواكب بنظامها العجيب تنطق بوجود الله، لكن بولس فهم المزمور أنه عن شهادة الرسل وكرازتهم التي بلغت أقاصي المسكونة (مر15:16 + مت19:28). فكما رتب الله أن تذاع أعماله في الخليقة عن طريق الشمس والقمر والكواكب، هكذا رتب الآن أن تذاع أعمال الفداء وأعمال محبته لكل العالم بواسطة كرازة الرسل، لذلك يسمي الرسل كواكب.
آية (19): "لكني أقول ألعل إسرائيل لم يعلم أولاً موسى يقول أنا أغيركم بما ليس أمة بأمة غبية أغيظكم."
هو يقصد أن إسرائيل سمع وعلم. ولكنه لم يريد أن يفهم لأن الأمم سمعوا وفهموا وآمنوا. فكان يليق باليهود الذين لهم الأنبياء والعلامات أن يفهموا. والله يغيظهم بقبوله للأمم لعلهم يرجعوا ويؤمنوا. فالله لم يغلق بابه إذاً أمام اليهود. ولكن عناد اليهود أفقدهم وجودهم كأمة، ودخل بدلاً منهم الأمم. وبولس يقتبس من (تث21:32) قول موسى بأمة غبية أغيظكم= فالأمم كانوا أمة غبية لإلتصاقهم بالأوثان، فمهما سمت حكمة الشعوب الوثنية فهم بعيداً عن الله لا تزيد حكمتهم عن كونها غباء. ونري غيظ اليهود من قبول الأمم في أع45:13 + 5:17 + 13:17 + 22:22). اليهود كانوا كالأخ الأكبر الذي تضايق من عودة أخيه الأصغر، الإبن الضال.
آية (20): "ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني."
إن إشعياء وهو واحد من اليهود، وكان يحتقر عبدة الأوثان، إلاّ أنه يتجاسر ويقول علي لسان الرب. وجدت من الذين لم يطلبوني= (إش1:65-3) أي صرت إلهاً للأمم. فإشعياء تنبأ هنا عن قبول الأمم.
آية (21): "أما من جهة إسرائيل فيقول طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم."
تابع نفس نبوة إشعياء (1:65-3). هنا نري الله طول النهار= أي علي الدوام كأب غيور رحيم يمد يده ليحتضن هذا الشعب إلاّ أنهم رفضوا. بسطت يدي= فيها إشارة للصليب حيث بسط المسيح يديه يطلب المصالحة ويريد أن يحتضن الكل، يبحث عمن يلبي النداء. طول النهار= أي أن الزمان محدود، فالنهار يعقبه ليل، والليل إشارة لغضب الله (راجع يو30:13 قول الكتاب عن يهوذا حين دخله الشيطان إذ كان الرب قد رفضه فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلاً). والنهار محدد بساعات محدودة. فالله لا ينتظر دائماً (نش2:5-6) في النشيد نجد الحبيب تحول عن محبوبته (إذ طال إنتظاره) وعبر. إن رحمة الله العجيبة عجيبة جداً لأن صلاحه لم يغلبه شر الإنسان، وشر الإنسان لعجيب جداً لأن شره لم يغلبه صلاح الله.
في هذا الإصحاح يوجه الرسول كلامه للأمم حتى لا ينتفخوا أو يستخفوا باليهود معلناً أن اليهود سيؤمنوا بالمسيح في أواخر الدهور، فهو وبخ اليهود سابقاً ليفتحوا قلوبهم للأمم، وهنا يوبخ الأمم ليفتحوا قلوبهم لليهود الراجعين لله بالإيمان، هو يود أن يري الجميع، الكنيسة الواحدة كلها في محبة.
آية (1): "فأقول ألعل الله رفض شعبه حاشا لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين."
الله لم يرفض شعبه ودليل عدم رفض اليهود أن الله قبل بولس وهو يهودي وجعله رسولاً له، وبالتالي فهو سيقبل كل يهودي يؤمن بالمسيح الذي تنبأ عنه كتاب اليهود المقدس، ومن يؤمن بالمسيح فهو الإسرائيلي الحقيقي ومن يرفض المسيح فقد قطع نفسه من الزيتونة، ومن يؤمن من الأمم فقد طعم في الزيتونة، لكنها زيتونة واحدة أي الكنيسة لليهود وللأمم.
الآيات (2-5): "لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه أم لستم تعلمون ماذا يقول الكتاب في إيليا كيف يتوسل إلى الله ضد إسرائيل قائلاً. يا رب قتلوا أنبياءك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي. لكن ماذا يقول له الوحي أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل. فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة."
الذي سبق فعرفه= شعب الله معروف لديه، إختارهم لسابق معرفته بأنهم كشعب سيقبلونه ويلتزموا بشريعته وأنه يمكن إعدادهم حتى يأتي المسيح منهم (رو 29:8) والله لن يندم علي إختياره، فكيف بعد كل ذلك يرفضهم. ويضرب الرسول مثلاً بأيام إيليا، فإيليا تصوَّر أن الأبرار قد إنتهوا من علي الأرض، ولكن الله يقول له.. لا فهناك بقية مازالت تؤمن، ومع أن إيليا لم يراها لكن عين الرب عليها، علي هذه البقية المؤمنة. وكلمة بقية هي تعبير إشعياء أي الذين تبقوا في الزيتونة أي الذين آمنوا بالمسيح. وما حدث أيام إيليا يحدث الآن، فالصورة الآن قاتمة، ويبدو أنه لا يوجد مؤمنين وسط اليهود، ولكن الرسول يقول لا فهناك بقية يراها الله وسط هؤلاء اليهود الرافضين، وهناك بقية يراها الله ستؤمن في الأيام الأخيرة ومن أجل هذه البقية فالله يحتمل خطايا اليهود كل هذه الفترة. والبقية الموجودة أيام الرسل هم التلاميذ والرسل والـ 3000 الذين آمنوا بعظة بطرس والـ 2000 الذين آمنوا بعد معجزة بطرس ويوحنا مع المقعد وغيرهم. إذاً لا يمكن أن نتصور أن كل اليهود صاروا مرفوضين. ولكن هناك بقية أفرزهم الله حسب إختيار النعمة= أي أفرزهم بحسب إختياره الذي تم بحسب نعمته. ومن الملاحظ أن كلمة إختيار النعمة هنا تشير إلي أن هذه البقية قد نالت التبرير كعطية ومنحة من قبل الله، وهي نعمة لأنه لا يوجد واحد مستحق أن يموت المسيح لأجله بسبب أعماله، ولا أن يحل فيه الروح القدس، وإن كنا نستحق شيئاً بسبب أعمالنا، لا نستحق سوي الموت، فليس بيننا من لم يخطئ، ولكن بعد أن تم إختيارنا بالنعمة علينا أن نعمل ونجاهد فتزداد فينا النعمة التي تغير طبيعتنا.
سبعة آلاف رجل= 7× 1000 "المعني أن الله يعرف الأبرار واحداً واحداً"
7= 3+4 = (النفس التي علي صورة الثالوث) + (الجسد المأخوذ من العالم)
لذلك رقم 7 يشير للكمال لأن الإنسان هو أكمل خليقة لله علي الأرض
7=6+1= (الإنسان الناقص) + (الله الواحد) فالإنسان بنفسه هو ناقص ولكنه بالله يصبح كاملاً.
1000= هو رقم السمائيات فالملائكة ألوف ألوف وربوات ربوات.
تأمل:- حتى الآن هناك من يتصور أنه لم يعد في العالم أبرار إلا هو، ولكن لو صح هذا لكان الله قد أحرق العالم كسدوم وعمورة. ولكن هناك أبرار دائماً في كل مكان، والله يعرفهم وعينه عليهم.
إذاً رقم 7000 يشير لجماعة الكاملين روحياً الذين تقدست نفوسهم وأجسادهم بالروح القدس ليعيشوا بفكر روحي علي مستوي سماوي. وكونهم رجالاً يعني حياة ناضجة بعيداً عن لهو الأطفال وتدليل النساء (1كو13:16).
آية (6): "فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال وإلا فليست النعمة بعد نعمة وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً."
هذه الآية هي إسترسال للآية السابقة التي قال فيها أن إختيار الله للأمم كان بالنعمة أي مجاناً، عطية إلهية مجانية، وليس راجعاً إلي أية إمتيازات كانت فيهم. وأي إختيار لإنسان ليدخل المسيحية هو نعمة، فمن هو الذي يستحق ما فعله المسيح. حتى لو كان للإنسان أعمال صالحة، فمن المؤكد أن له أعمال شريرة. لذلك كان الدخول للمسيحية بالنعمة. فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال= فإن كان دخولي للمسيحية هو عطية مجانية لا أستحقها، فلماذا أعود وأنسبها لشيء صالح فيَّ، لو كان إختياري راجعاً لعمل صالح، فسيكون إختياري مكافأة علي أعمالي، ولا يكون بعد نعمة أي عطية مجانية= وإلا فليست النعمة بعد نعمة وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً= دخولي للإيمان هو نعمة أي عطية مجانية ولكن ماذا بعد دخولي للإيمان؟…بعد الدخول للإيمان يأتي دور جهادي أي أعمالي الصالحة التي بها تزداد النعمة، ويوماً بعد يوم تتغير طبيعتي فأتغير إلي صورة المسيح (كو10:3). هنا أعمالي الصالحة تكون إعلاناً عن إرادتي، وحين تتوافق إرادتي مع إرادة الله تنسكب النعمة فيَّ (هذا ما يسمي بظاهرة الرنين) لذلك سأل السيد المسيح مريض بيت حسدا "هل تريد أن تبرأ" فهو يريد أن تتفق إرادة المريض مع إرادة المسيح حتى تنسكب نعمة الشفاء في المريض، فالمسيح يريد أن يشفيه، ولكن مهم جداً إتفاق الإرادتين. إذاً هناك كلمتين مهمتين، "النعمة" وهذه عمل الله فيَّ وفي الكنيسة "والأعمال" وهذه خاصة بي. وإذا إتفقوا تحدث معجزات ويخطئ من يقول أنه بعمله يدخل السماء، ويخطئ أيضاً من لا يجاهد مستنداً علي أن النعمة تخلصه. ولكن من يعمل يستدعي النعمة لتغيره وتعمل معه. ومعني الآية ببساطة "لا تخلطوا الأمور، فالنعمة نعمة والأعمال أعمال" ومع أن بولس الذي كلمنا كثيراً عن النعمة ويعرف قدرها، كان من المؤكد أنه مستنداً علي النعمة، إلا أننا نجده يقول "جاهدت الجهاد الحسن…" فجهاده لازم حتى تلازمه النعمة وتعمل معه وفيه. ولاحظ أن الله يطلب فعلة للحصاد ولم يعمل هو كل شئ (مت38:9) فعلينا إذاً أن نعمل لنأكل (2تس10:3). ونعمل لتعمل معنا النعمة. فالنعمة حقيقية فيما يخص بر الله، والعمل حقيقي فيما يخص جهد الإنسان.
آية (7): "فماذا ما يطلبه إسرائيل ذلك لم ينله ولكن المختارون نالوه وأما الباقون فتقسوا."
الشعب الإسرائيلي كان يطلب التبرير بواسطة الناموس ولم ينالوا التبرير ولكن الذين نالوا التبرير بواسطة الإيمان هم هؤلاء الذين إختارهم الله من الإسرائيليين، ليس إختياراً عشوائياً بل من إتفقت إرادته مع إرادة الله الذي يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2) [ظاهرة الرنين= حين تتفق دوائر راديو نختار نحن محطة نريد سماعها مع دوائر هذه المحطة، يحدث تضخيم في إشارات هذه المحطة فنسمعها]. أمّا الباقون فقد صاروا قساة بسبب عدم إيمانهم. هم قاوموا الحق ولم يتجاوبوا مع نعمة الله لذلك تركوا لفساد قلبهم فإنحجبت بصيرتهم الداخلية عن معاينة الله وآذانهم عن الإستماع لصوته، وهذا سبق وأنبأ به الأنبياء (أية8). ولاحظ قول الرسول وأمّا الباقون فتقسوا= فهي تشير لأن القساوة من عندياتنا فلا مجال لأحد أن يقول أن الله لم يختارني، بل هو لم يتجاوب مع عمل النعمة.
آية (8): "كما هو مكتوب أعطاهم الله روح سبات وعيوناً حتى لا يبصروا وآذاناً حتى لا يسمعوا إلى هذا اليوم."
مقتبسة من (أش9:6،10 + 10:29). فإشعياء تنبأ لأنه سبق فعرف ما سيحدث منهم، وأنهم لن يفهموا كلمة الإنجيل نظراً لغلاظة قلوبهم التي ملأتهم بروح العناد والمقاومة وقوله أن الله أعطاهم عيوناً حتي لا تبصر= لا تُفهَم أن الله كان السبب في تضليلهم، بل هم بعنادهم وكبريائهم وخطاياهم لم يروا ما رآه غيرهم فآمنوا إذ رأوا. ونظراً لعنادهم رفع الله عنهم نعمته إذ هم لا يستحقوها (إذ أنهم لا يريدون) فإزدادوا عمي وصمم كمن في سبات= هذه تساوي قوله تقسوا (آية 7) [بلغة ظاهرة الرنين، هؤلاء إختاروا محطة أخري هي المجد الذاتي والكبرياء، ولم يختاروا محطة مجد الله] إلي هذا اليوم= هم لم يدركوا حتي اليوم ولم يفهموا، ولن تفتح عيونهم ليفهموا إلاّ في ذلك اليوم الذي هو في علم الله، في آخر الأيام حين يؤمنوا بالمسيح.
آية (9): "وداود يقول لتصر مائدتهم فخاً وقنصاً وعثرة ومجازاة لهم."
قنصاً = شركاً أو فخاً. لتصر مائدتهم فخاً= المائدة تشير:-
1. أقوال العهد القديم الدسمة بنبواتها، ومن فهمها بطريقة روحية وجد فيها شخص المسيح فآمن، أمّا من تمسك بالحرف صارت له عثرة بل سبب دينونة له بسبب عدم إيمانه بالمسيح الذي كان ناموسهم (مائدتهم) تشهد له= مجازاة لهم. فهذه المائدة ستكون شاهدة علي عنادهم.
2. قد تشير لأن أفراحهم وولائمهم ستتحول إلي حزن ويتحول فصحهم إلي غم. وهذا ما حدث علي يد تيطس سنة 70م. والآية مأخوذة من (مز22:69).
آية (10): "لتظلم أعينهم كي لا يبصروا ولتحن ظهورهم في كل حين."
من (مز23:69) لتظلم عيونهم= فرفضهم الإيمان بالمسيح حرمهم من الروح القدس الذي يفتح العيون. عنادهم في إستمرارهم علي الحرف أعماهم (2كو15:3-18) وأظلمت عيون أذهانهم، ولتحن ظهورهم علامة الضعف والعجز الروحي والعبودية للخطية، فالخطية ثقيلة ومرهقة والناموس يعجز عن رفعها بدون النعمة. وظلمة العيون وإنحناء الظهر ليست لليهود فقط بل هذا يحدث لكل مسيحي يسير في طريق الخطية بلا توبة. وإنحناء الظهر هو لمن يحمل الحمل وحده، وهذا ما حدث لليهود إذ رفضوا المسيح، والمسيح هو الذي يغفر الخطايا، والخطايا حمل ثقيل، وإذ رفضوا المسيح حملوا خطاياهم وحدهم فإنحنت ظهورهم.
معنى ظاهرة الرنين وتطبيقها (راجع مقدمة إصحاح 6).
آية (11): "فأقول ألعلهم عثروا لكي يسقطوا حاشا بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم."
ألعلهم عثروا لكي يسقطوا= العثرة تعني إصطدام ووقوع، هو سقطة يقوم بعدها الإنسان، وهذا إشارة لتعثر اليهود في المسيح وصلبهم له ورفضهم إياه. أما السقوط فهو سقطة ليس بعدها قيام ورفض للأبد كرفض الله للشياطين. حاشا= الرسول هنا يحاول رفع نفسية اليهود حتي لا ييأسوا، فيقول لهم أنهم لن يسقطوا للأبد بل أن كل ما حدث أن بعض الأغصان قطعت، وذلك لأن الله سبق وعرفهم وإختارهم، والله لا يندم علي سابق إختياره فهو لا يخطئ.
بزلتهم صار الخلاص للأمم= زلتهم كانت صلب المسيح، وبهذا الصلب صار الخلاص للعالم كله، ورفضهم للمسيح كان سبباً في دخول الأمم (راجع مثل العرس مت9:22،10) فحينما رفض المدعوين (اليهود) أن يأتوا للعرس، أرسل الملك صاحب العرس (الله) عبيده (الرسل) ليجمعوا من مفارق الطرق كل من وجدوه (الأمم). ومثل الكرامين (مت33:21-43) فالكرم (كنيسة الله) أعطيت لكرامين جدد (الأمم) حين رفض الكرامون الأوائل (اليهود) الإبن (المسيح) وقتلوه. وهذا ما رأيناه في هياج اليهود ضد بولس في كل مكان، فكان يذهب للأمم (أع46:13+ 6:18) لإغارتهم= الله في حكمته يستخدم زلة اليهود لخلاص الأمم، وفي محبته يستغل خلاص الأمم لإغارة اليهود لإرجاعهم. إنه صانع خيرات يحول الشر كما الخير لبنيان البشرية. هو في محبته يستخدم كل وسيلة ليجذب كل منا لنثبت في الزيتونة. وإن كان الله يفعل ذلك مع اليهود الذين صلبوه، فهو من المؤكد يفعل ذلك معي حتى لا أهلك.
آية (12): "فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحري ملؤهم."
زلتهم غني للعالم= رفضهم للمسيح وصلبهم له كان بركة لكل العالم، بها نال الأمم الخلاص. ونقصانهم= أي عدم إيمانهم، لأن بعدم إيمانهم هبطت روحياتهم حتي صاروا أقل من الأمم. وكان نقصانهم وزلتهم سبباً في هبات وفيرة للأمم. فكم بالحري ملؤهم= كلمة ملؤهم تشير لرجوع الغالبية العظمي للإيمان. وتشير لإكتمال عددهم أو إكتمالهم. وحين يكتمل عددهم كمؤمنين سيصير هذا منبعاً لبركات عظيمة للعالم هي القيامة. ونقول القيامة لأن ما هو أعظم من إيمان العالم كله بالمسيح إلاّ القيامة. كأن الله بإيمانهم سيقول "كفاية كده علي العالم، إذا كان أولادي رجعوا ليَّ، إذاً كفاية قعاد في الأرض، وهيا إلي مجد السماء".
آية (13): "فإني أقول لكم أيها الأمم بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي."
هنا يرد بولس علي من يتصور أنه يدافع عن اليهود تاركاً الأمم خدمته الأساسية. ولكننا نلمح في كلام بولس تحذيراً للأمم، فالله قد يتخلي عنهم إذا تقست قلوبهم كاليهود. أمجد خدمتي= سأعمل وأجتهد لنشر الإنجيل وسط الأمم.
آية (14): "لعلي أغير أنسبائي وأخلص أناساً منهم."
لعلي أغير= أي أجعلهم في غيرة. هو ينشط وسط الأمم ويمجد خدمته وسطهم. لعله بكثرة المؤمنين من الأمم يغار اليهود أنسباءه أي أقرباءه بالجسد فيؤمنون.
آية (15): "لأنه إن كان رفضهم هو مصالحة العالم فماذا يكون إقتبالهم إلاّ حياة من الأموات."
هنا نري أن رجوع اليهود هو علامة الحياة للجميع أي القيامة الروحية للجميع من الأموات. هذه نبوة بقيامة جديدة من الأموات للمسيحيين ومن هنا نفهم أن من علامات نهاية الأيام، وقبل القيامة العامة سيؤمن البقية من اليهود.
آية (16): "وإن كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين وإن كان الأصل مقدساً فكذلك الأغصان."
وإن كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين= كان الناموس يطلب من اليهود تقديم باكورات ثمارهم (أول حزمة تخرج من الحقل) لله، فيتبارك كل المحصول. مقدسة= مخصصة لله. فكذلك العجين= العجين مأخوذ من المحصول. ولكن فكرة أن الشعب هو عجين تشير لأن الشعب كله جسد واحد. وبولس رأي أن أباء اليهود مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء هم الباكورة المقدسة، فهم كرسوا حياتهم لله، وبذلك فإن العجين أو أمة اليهود كلها موضوعة لكي تصبح مقدسة أيضاً. وإذا كان الأصل أي الآباء والأنبياء مقدساً فإن الأغصان التي تنبت من هذا الأصل أي الإسرائيليين موضوعون ليكونوا قديسين (هنا شبه اليهود بشجرة) وليس المقصود طبعاً كل اليهود بل البقية التي تؤمن، فليس كل الإسرائيليون هم إسرائيليون (رو 7:9). ولقد كانت العجينة مقدسة حتى خرج منها المسيح فصار من يؤمن بالمسيح هو المقدس. هذا الكلام موجه للأمم حتى لا يرفضوا اليهود ويحتقروهم، حتى يزرع المحبة بين الجميع.
آية (17): "فإن كان قد قطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برية طعمت فيها فصرت شريكاً في أصل الزيتونة ودسمها."
في الطبيعة لو طعمنا غصناً مراً ووضعناه في زيتونة جيدة فسيخرج الفرع المر زيتوناً مراً. ولهذا فالطبيعي أن يطعم إنساناً غصناً جيداً في الزيتونة وإنه لشئ غير طبيعي أن نطعم غصناً مراً من زيتونة برية مرّة في زيتونة جيدة، والزيتونة البرية هي الأمم والزيتونة الجيدة هي اليهود. ولكن عمل النعمة أعطي طبيعة جديدة للأمم المؤمنون فصاروا غصناً جيداً، تم تطعيمه في الزيتونة الأصلية، فالأممي الذي آمن صار في المسيح خليقة جديدة، فالله حين يقدس (الفرع المر) يغير النجس (الفرع المر) إلي قديس طاهر (إلي فرع جيد)، من هذا المثل نفهم أن الزيتونة هي الكنيسة سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، فكنيسة العهد الجديد هي إمتداد لكنيسة اليهود، وأن المسيحية هي مرحلة الإستعلان الأخير لتدبير الله وبره. قطع بعض الأغصان= يقول هذا بطريقة لطيفة فعملياً الغالبية من اليهود قطعت. ومن هذا نفهم كلمة البقية أنها تشير لمن تبقي علي الزيتونة. وأنت زيتونة برية= هذه ثمارها عديمة النفع وذلك لأن الأمم كانوا في وثنية. الأغصان التي قطعت هم اليهود الذين لم يؤمنوا، ودخل مكانهم الأمم الذين آمنوا.
آية (18): "فلا تفتخر على الأغصان و إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل."
إن كان عدو الخير قد غلب الكثيرين من اليهود برفضهم الإيمان، فإنه لا يلقي بسلاحه أمام الذين يؤمنون إذ يحاول تحطيمهم بالكبرياء. وهنا يحذرهم الرسول من الكبرياء، ومن أن يحتقروا اليهود الآباء، فإن كان الأمم يتمتعون الآن بالبركات الإلهية، فإن أصل الزيتونة أي الآباء هم أصحاب الفضل في ذلك.
آية (19): "فستقول قطعت الأغصان لأطعم أنا."
لعلك تبرر إفتخارك وتقول إن الأغصان (اليهود) قطعت لأطعم أنا في الشجرة.
آية (20): "حسناً من أجل عدم الإيمان قطعت وأنت بالإيمان ثبت لا تستكبر بل خف."
أنت لم تطعم في الشجرة بسبب أعمالك بل بنعمة الله الذي آمنت به فلا تستكبر= فالكبرياء يمنع أن يكون لك ثمر. فإن كان الله قد قطع الأغصان الطبيعية الأولي لأنه لم يجد فيها ثمر (كان ذلك بسبب كبريائهم وبرهم الذاتي) فهو قطعاً سيقطع الأممي الذي لن يكون له ثمر بسبب كبريائه بل خف= تواضع.
آية (21): "لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أيضاً "
عليك أن تخف حتى لا تقطع فأنت لست غصناً طبيعياً. "إذاً من يظن أنه قائم فلينظر لئلا يسقط (1كو11:10). وعلينا أن نستمر في جهادنا ولا نستهتر حتى لا نقطع.
آية (22): "فهوذا لطف الله وصرامته أما الصرامة فعلى الذين سقطوا وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضاً ستقطع "
إن سقط الإنسان وإستهتر فسيجد الصرامة، وإن ثبت وجد اللطف.
آية (23): "وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيطعمون لأن الله قادر أن يطعمهم أيضاً."
إن لم يثبتوا في عدم الإيمان= إن عاد الذين قطعوا إلي الإيمان. سيطعمون ثانية. فالله قادر= فمن طعم الأغصان البرية قادر أن يعيد الأغصان الطبيعية. لكن لاحظ هنا حرية الإرادة، فالإنسان حر أن يثبت في الإيمان أو يتركه.
آية (24): "لأنه إن كنت أنت قد قطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة وطعمت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة فكم بالحري يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة."
هذه إشارة لسهولة تطعيمهم ورجوعهم للزيتونة الأصلية إن آمنوا، وقوله زيتونتهم الخاصة يشير لأن اليهود لن يسقطوا (يرفضوا للأبد) لأن زيتونتهم باقية. بحسب الطبيعة.. بخلاف الطبيعة= الأمم كانوا زيتونة برية بسبب عبادتهم للأوثان ونجاستهم، والزيتونة البرية طعمها مر. والطبيعي أن نطعم غصناً جيداً في الزيتونة لا غصناً مراً لنحسن الصنف ولكن تطعيم غصن مر في زيتونة جيدة فهذا بخلاف الطبيعة. ولكن فإن النعمة غيرت الفرع المر إلي فرع جيد.
آية (25): "فإني لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم."
هذا السر= السر هو عمل من أعمال الله الفائقة التي كانت مخفية عنده ثم أعلنه. والسر هو أن القساوة حدثت لجزء من اليهود فقط إذ قبل الجزء الآخر المسيح، وحدثت لفترة من الزمان يعود بعدها الله ويقبل الجزء الباقي= جزئياً. والله ينتظر ملؤ الأمم= أي أن يكمل من إختارهم الذين هم تماماً بحسب ملء بيته (لو23:14) "حتى يمتلئ بيتي" + (رؤ10:6،11). هؤلاء هم المختارين من الأمم الذين سبق فعرفهم فسبق وعينهم (رو29:8). وببلوغ الأمم ملؤهم يعود إسرائيل فيقبل الإيمان، وهذا لا يعني الكل بل البقية. نري هنا بولس الرسول يدافع عن بر الله لمن يتصور أن الله بعد أن إختار اليهود عاد ورفضهم.
آية (26): "وهكذا سيخلص جميع إسرائيل كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب."
يقتبس الرسول هنا من (إش20:59،21 + 9:27). وهكذا سيخلص جميع إسرائيل= ليس الجميع بل البقية (آية5)، وقوله الجميع يقصد به كل الذين سيؤمنون ويبقون علي الزيتونة. هؤلاء سيؤمنوا في نهاية الأيام بعد أن يتم ملؤ الأمم. سيخرج من صهيون المنقذ= فالمسيح خرج من صهيون في مجيئه الأول وآمنت به البقية. وفي آخر الأيام سيخرج من صهيون النبيين إيليا وأخنوخ ليحركوا الإيمان في قلوب البقية ليؤمنوا بالمسيح. فالسيد المسيح قبل مجيئه الثاني سيرسل من ينقذ البقية فيرد الفجور.
آية (27): "وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم."
الإشارة لنزع الخطايا تتفق مع (أر31:31-34) وفيها نبوة بالعهد الجديد الذي رفعت فيه الخطايا بالفداء. وفي (أر35:31-37) نبوة برجوع البقية أي قبول اليهود للإيمان في نهاية الأيام.
آية (28): "من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء."
فيما يختص بالبشارة= الإنجيل. فإن اليهود بعدم إيمانهم وبصلبهم للمسيح قد صاروا أعداء لله، من أجل أن تدخلوا أنتم للإيمان إلي ملكوت المسيا. أما فيما يختص بإختيارهم الذي سبق وأعده الله منذ وقت طويل فهم محبوبون من الله من أجل آبائهم بالجسد، لذلك فرفضهم جزئياً. من جهة الإنجيل هذه هي البشارة التي نبشر بها، قبولكم أنتم يا أمم الآن، ثم قبولهم أخيراً.
آية (29): "لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة."
الذي يدعوه الله يعطيه هبات والذي يهبه الله يدعوه، والله إختار إسرائيل ووهبها الكثير، ودعاها إبني البكر ليكونوا نوراً للشعوب. والذين يحبهم الله يحبهم إلي المنتهي، فالله أحبهم وهم محبوبون، لأن الله لا يتعرض للإنخداع والضلال عندما يختار وعندما يدعو، ولذلك فهو لا يندم من أجل العطايا التي وعد أن يهبها ولا يتراجع في الدعوة التي وجهها.
الآيات (30،31): "فإنه كما كنتم انتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضاً الآن لم يطيعوا لكي يرحموا هم أيضاً برحمتكم."
لا يجب أن تتعجبوا من أن وعود الله وهباته لابد أن تتم لأنكم أنتم أيضاً أيها الأمميون كنتم قد دعيتم من الله قبل أن يدعي إبراهيم ولكنكم في ذلك الوقت رفضتم الدعوة وعبدتم الأوثان، وأما الآن فإنكم قد رحمتم بواسطة عدم إيمان اليهود فقبلتم أنتم في حظيرة الإيمان، وهكذا الحال بالنسبة لليهود، فإنهم الآن لا يظهرون طاعتهم وإيمانهم ولكنهم سيقبلون الإيمان يوماً ما. لكي يرحموا برحمتكم= أي بنفس الصورة التي رحمتم أنتم بها، فكما حدث معكم سيحدث أيضاً معهم.
آية (32): "لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع."
أغلق= إستذنب أو دان. والمعني أنه... ولقد صار عدم إيمان هؤلاء الأمم في بادئ الأمر، وكذلك صار عدم إيمان اليهود الآن. اليهود صلبوا المسيح، والأمم بوثنيتهم، ونحن الذين مازلنا نخطئ حتى الآن الكل عصي الله وأهانه، والله يظهر رحمته للجميع.
آية (33): "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء."
في الآيات السابقة رأينا بولس الرسول يشرح كيف أن الله قبل اليهود ورفض الأمم، ثم قبل الأمم ورفض اليهود، ثم يقبل اليهود أخيراً، وأخذ بولس الرسول يفكر في حكمة الله فرأي أنه لن يمكنه فهم خطة الله ولماذا فعل ذلك. وبنفس المنطق ليس من حقي أن أتساءل، ما هي حكمتك يارب في هذا الأمر أو ذاك، هل فلان سيخلص أم لا، لا تفكر فحكمة الله أعلي من كل أفكارنا. ولا تفكر لماذا سمح الله بهذه التجربة، فقط قل أن من المؤكد أنها للخير حتى مع عدم فهمنا ولنضع قول السيد المسيح لبطرس (يو7:13) لست تفهم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد. هكذا نسمع في (أش8:55) أن أفكار الله تعلو عن أفكارنا. عموماً يصعب علي الإنسان إن يفهم كل أحكام الله وأن يدرك كيف يُسَيّر الأمور ويوجهها ليحقق الخلاص للبشر فبولس أكثر من عرف عن أسرار الله يجلس هنا كمن لا يفهم ولا يستطيع إلاّ أن يمجد الله علي عمق أحكامه إستقصاء= فهم وتبين كل الجوانب. فكل شئ عارٍ أمام الله، أما لي فأنا أعرف بعض المعرفة، الله فاحص القلوب والكلي أما أنا فلا أعرف سوي الظاهر أمامي. مثال:- إذا رأيت إنساناً طيباً أقول أن الله عليه أن يزيده مالاً وصحة، وهذا لأنني أحكم بمقياس مادي، وأجد الله يجربه ويبتليه، لأن الله يعلم أنه لو زاده مالاً لضاعت منه فرصة خلاص نفسه، فحسابات الله غير حساباتي، فحسابات الله سماوية. الله يريد أن يكمل عبيده وقد يكون هذا بالآلام وهذا ما حدث للمسيح نفسه (عب10:2) فكم بالأولي لنا نحن البشر.
الآيات (34،35): "لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً. أو من سبق فأعطاه فيكافأ."
من سبق فأعطاه فيكافأ= من الذي أعطي الرب أو أقرضه شيئاً حتي يكون من حقه أن يأخذ مكافأة في مقابل عطائه لله. وبهذا فإسرائيل ليس من حقه أن يسأل الله لماذا تركتني إذ رفع الله رحمته عنهم فالله ليس مديناً لهم وليس من حقي أنا أن أسال الله لماذا سمحت بهذا أو ذاك، وليس من حقي أن أطالب الله بشرح كل ما يسمح به من مواقف فالله ليس مديناً لأحد.
آية (36): "لأن منه وبه وله كل الأشياء له المجد إلى الأبد آمين."
إن الله يحكم كل الأشياء لأنه هو الذي خلقها جميعاً بحكمته. ولأجل مجده تهتف وتتجه كل المخلوقات، فله يعطي كل المجد إلي دهر الدهور آمين.
آية (1): "فاطلب إليكم أيها الاخوة برافة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية."
فأطلب= حرف الفاء يشير أن الحديث القادم إمتداد لما سبق وأن ما سيطلبه الآن في الآيات والإصحاحات القادمة مبني علي ما شرحه فيما سبق. فالرسول سبق وشرح جوانب إيمانية تمس الخلاص وأظهر أن النعمة بالإيمان هي قوة إلهية تكسر حدة الخطية. ونري فيما يلي أننا علينا أن نجاهد، فليس معني النعمة أن يتكاسل المؤمن، وإلا فقد عمل النعمة. لذلك يقول الرسول إمتلأوا بالروح (بالجهاد) ويقول لا تطفئوا الروح (بالإستهتار والخطية). وقطعا فإطفاء الروح هو فقدان لعمل النعمة أما الجهاد فيعطينا إمتلاء بنعمة فوق نعمة (يو16:1) وهذا ما عناه الرسول بقوله إضرم موهبة الله التي فيك 2تي: 6:1 .
ولو كانت الأعمال لا لزوم لها وهكذا الجهاد، وأن النعمة تعمل كل شيء، فما معني أن يطلب الرسول من المؤمنين أن يقوموا بتنفيذ هذه الوصايا، مثل تقديم أجسادنا ذبيحة حية (هذه الآية) فلا إنفصال بين الإيمان والسلوكيات (الأعمال) فمثلاً من يؤمن بأن النعمة تعمل كل شئ فهو سيتكاسل ولن يعمل، ومن يؤمن بأن الخلاص تم في لحظة وأن إسمه كتب في سفر الحياة وأنه لن يهلك مهما حدث فهذا سيدفعه لأن يخطئ طالما ضمن الخلاص، إذاً العقيدة تؤثر تأثيراً واضحاً علي الأعمال والسلوكيات، فلا سلوك عملي دون إيمان، ولا إيمان حي دون أعمال (رسالة يعقوب) فالسلوكيات تتشكل بحسب العقيدة التي شرحها الرسول فى11 إصحاح. مثال آخر: من يؤمن بالشفاعة تكون له صداقة مع السمائيين وعشرة حلوة معهم وله إنتماء للسماء التي صارت مفتوحة. هنا كعادة بولس الرسول يخصص الجزء الأخير فى رسالته للوصايا العملية كثمرة لحياة الإيمان وثمرة لسكني الروح القدس فى المؤمنين. ولكن الروح القدس لا يعطي لمن لا يجاهد.
برأفة الله = قد تعنى "من أجل رأفات الله أتوسل إليكم أن تعملوا كذا وكذا ولكنها هي تعنى أنه إن كنت أطلب إليكم أن تقدموا أجسادكم ذبائح حية وفى هذا بعض الآلام، فقبل أن أطلب هذا أطمئنكم أن الله سيتعامل مع أجسادكم المقدمة برفق وسيعطيكم تعزيات لذيذة تتناسب مع ذبائحكم المقدمة. وتعنى أيضاً أنه في مقابل رحمة الله ورأفته علينا أن نعمل كذا وكذا...
قدموا أجسادكم ذبيحة حية= الكاهن هو الذي يقدم ذبائح، ومن هنا نفهم قول الكتاب جعلنا ملوكا وكهنة (رؤ6:1 +1بط 9:2). فهناك كهنوت خاص، وهذا هو سر الكهنوت، خادم أسرار الكنيسة وهناك كهنوت عام لكل المؤمنين فيه يقدم الكل ذبائح :-
1. تسبيح (عب15:13).
2. خدمة فقراء (عب16:13).
3. إنسحاق وتواضع (مز17:51).
4. صلوات ورفع أيادي (مز2:141).
5. تقديم الأجساد ذبيحة حية (هذه الآية).
أجسادكم ذبيحة حية =شرح الرسول فيما سبق ما أعطاه الله لنا من نعمة فماذا نقدم له فى المقابل؟ أجسادنا ذبيحة حية. فالعبادة اليهودية كانت تقدم فيها ذبائح حيوانية (تذبح فعلا) أما العبادة المسيحية فتقدم فيها أجسادنا ذبائح حية، أي لا داعي لأن نموت فعلاً بل أن نميت الإنسان العتيق وذلك بصلب شهواتنا (غل24:5) وكذلك بالأصوام والمطانيات والصلوات الطويلة. وأن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية فنكف عن أستخدام أعضائنا كآلات إثم تتلذذ بشهوات هذا العالم، وحينما نمنع عن الإنسان العتيق الشهوات الحسية فإنه يموت بعمل الروح (رو13:8) أمثلة لعدم إستخدام أعضائنا كآلات إثم:
1. ضع عينيك فى التراب.
2. إقفل أذنيك عن سماع الخطأ وحتى ما هو شبه خطأ.
3. إمسك لسانك عن التكلم بالشر.
4. إمتنع عما كنت تتلذذ به من خطايا العالم.
5. إجهد نفسك فى عمل الخير وقد يكون جسدك متعبا= هذا يساوي تقديم الجسد كذبيحة حية. ولاحظ أن الأجساد هى الأداة التى تعبر عما فى القلب والفكر.
مقدسة= التقديس هو الإفراز عن العالم والتخصيص لله بلا دنس
مرضية عند الله= الذبائح الدموية لم تكن مرضية عند الله بقدر الذبائح الحية كالإنسحاق، وهذا فهمه الآباء، وداود عَبَّر عن هذا (مز16:51،17) "الله لا يسر بالمحرقات، فالذبيحة لله روح منسحق". والله لا يسر بتقديم تيوس كذبائح، بل يسر بشفتين تسبحانه بالرغم من آلام الجسد (هو2:14). وذبيحتنا تكون مرضية عند الله عندما نقدمها بالحب في مقابل محبته.
عبادتكم العقلية = راجع تفسير (رو9:1). تقديم أجسادنا ذبائح حية هي عبادة يجب أن نقدمها ككهنة باقتناع عقلي وهذا ما يفعله الروح الذي يقنع المؤمن بهذا. والعبادة العقلية هي تفهم لأسرار محبة الله، فيشتعل القلب حباً لله ويشتهي تقديم جسده ذبيحة حب لله الذي أحبه كل هذا الحب.
العبادة العقلية هي إقناع الروح القدس للمؤمن بما يفعله (أر7:20).
أما العبادة العمياء المنبعثة عن جهل فلا تليق إلاّ بالأصنام، أما الله فيقول هلم نتحاجج (أش18:1)، فالله لا يفرض علينا شئ غير معقول أو غير مقبول. العبادة العقلية هي إقتناع بأن نسلِّم أعضائنا كآلات بر لله بدلاً من أن تكون آلات إثم، فالإقتناع مهم قبل أن نقدم أجسادنا ذبائح حية "أقنعتنى يا رب فإقتنعت" (أر7:20) هي عبادة يشترك فيها كل قوي الإنسان، النفس والعقل والجسد والروح. ولاحظ أن الله يقنع آدم بأن يكون له معيناً نظيره قبل أن يخلق له حواء، وذلك بأن جعله يلاحظ أن كل الخليقة تتكون من ذكر وأنثى، فيكون هذا مطلباً له أولاً ثم يحققه له الله بعد ذلك (تك18:2-21). ولاحظ عمل الروح القدس في الأطفال الذين تجدهم يفرحون بالله ويحبونه دون أن يفهموا شئ، ولكن الروح أعطاهم هذا الإقناع وهذا الحب. والعكس في العبادة الوثنية التي كلها غموض وكلمات مبهمة، أمّا الكهنوت المسيحي فكل كلمة تقال منشورة فى الخولاجي، والكل يفهمها ويدركها والكل مقتنع بها، حتى ما يصعب علي أن يُدرَك بالعقل، فالروح القدس يعطي لنا أن نقبله ونقتنع به.
آية (2): "ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة."
هناك صورة لأولاد الله، يكونون فيها شكل المسيح في محبته وقداسته ووداعته ... يكونون نوراً للعالم. وهناك صورة لأولاد العالم الذين كل همهم البهرجة والموضة والعنف والشهوة...هم في ظلمة.
لا تشاكلوا هذا الدهر:أكبر عدو للتغيير إلي صورة الله، هو أن نتشبه بالعالم وصورة أولاده، فالعالم زائل زائف، ومن يأخذ شكله يصير فانيا مثله.
تشاكلوا = تتشبهوا وتقلدوا. من الخطأ أن نقول "كل الناس بتعمل كده" لسبب بسيط أننى لست ناس، بل أنا إبن لله، لقد أصبحنا بعد المعمودية مخلوقات سماوية ومواطنين سماويين ونصلي لأبينا الذي فى السموات، والله يسكن فينا، فإمّا أن نتخلي عن كل هذا الذي حصلنا عليه ونصير شكل العالم، أو نترك شكل العالم ونتغير = بل تغيروا = كلمة تغيروا تشير للخليقة الجديدة والولادة الجديدة بالمعمودية التى لها قوة تعين علي ذلك، هى تعيننا علي أن نتغير إلي تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح 2كو 18:3. وبولس يطلب أن نترك الشكل القديم معتمدين علي ما حصلنا علية في داخلنا من قوة مؤازرة من الروح القدس. وبقدر ما نتغير عن شكل هذا الدهر تتشكل كأبناء لله، فنحمل شكل المسيح. من له شكل العالم يصير فانيا مثله، ومن يحمل شكل المسيح سيكون في مجد أبدي مثله. وكيف يتم هذا التغيير؟
بتجديد أذهانكم = بالمعمودية صار لنا إدراك روحي، وهذا يتفتح بإستمرار مع الدراسة والتأمل والقراءة، ومع الوقت يحدث تجديد الذهن. ففي كل مرة يحدث حالة إرتقاء ذهني ويتحول الذهن الجسدي إلى ذهن روحي.(1بط23:1). ومع تفتح الذهن يبدأ الإنسان في الإهتمام بأن يوجد مع الله
تاركاً أماكن الشر، ويوماً وراء يوم يجد نفسه وقد إنصرف تماما عنها.
في البداية تجده متذبذباً بين هذه وتلك، ربما يضغط علي نفسه ليذهب للكنيسة، ولكنه يسعد بأماكن اللهو، ومع الوقت لا يجد لذته سوي في الكنيسة. ويوماً وراء يوم تتغير مبادئه، في شكله الأول كان يهتم بالنوادي.... والآن صار اهتمامه فقط بتسبيح الله، وهذا يحدث بتأثير الروح القدس الذي يعطيه الإقناع العقلي. كلما قدم جسده ذبيحة حية كلما إستنار أكثر بالروح القدس الذي يعطيه تغييراً وتجديداً لذهنه. بل ما كان يفرح به في الماضي لا يعود يفرحه الآن. زمان كان يفرح بالمال وإقتنائه والآن ما عاد يفرحه سوي عشرة الله. لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة = كلما إقترب المؤمن من شكل أولاد الله يمتلئ من الروح القدس والروح يعطيه إستنارة بأن إرادة الله دائماً صالحة فيرضي عنها إذ هي دائماً كاملة فيسلَّم حياته لله تسليماً كاملا، وتصير نفسه في صفاء كامل لا يزعزعها أو يزعجها شئ، مثل هذا الإنسان سينفذ إرادة الله في حياته إذ هو يستحسنها. ولا يعود هذا الشخص يتساءل أريد أن أعرف إرادة الله في هذا الموضوع أو ذاك الموضوع، فالروح يعطي إستنارة كاملة فيعرف طريقه. وإن كانت الأمور عكس إرادته نجده يقول هي للصالح طالما هي إرادة الله، فالله لا يخطئ أبداً.
آية (3): "فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان."
علاقة هذه الآية بالآيات السابقة والآيات الآتية:
آية1: تقديم الأجساد ذبيحة حية في مقابل كل ما عمله المسيح لأجلنا.
آية2: تغيير شكلنا إلي صورة أولاد الله.
آية3: الحرب المتوقعة لمن يفعل ما سبق، الكبرياء، وأن الشخص قادر أن يكون كل شئ في الكنيسة، فهو وحده الصالح المؤمن الذي إختبر طريق الله. وتعني أنه في طريقنا الروحي لتغيير أذهاننا أو تقديم أجسادنا ذبيحة حية لا نطبق قوانين فوق مستوياتنا سمعنا عنها عن آباء كبار. لكن أن نكون تحت إرشاد. فما يصلح لشخص لا يصلح لآخر.
آيات 4-6: الكنيسة كلها جسد واحد وكل له موهبته وله دوره. هذا علاج من يظن نفسه كل شئ في الكنيسة. أي لا تحتقر الآخر فله دور كدورك.
باقي الإصحاح: كيف أسلك كعضو صالح في الكنيسة.
يرتئي = يري في نفسه. إذاً نصيحة الرسول لمن تغير شكله أن لا يكون له إهتمام وتقدير لنفسه أكبر مما يجب أن يكون له. بل يكن له إتضاع الفكر. فطوبي للمساكين بالروح. بل يرتئي إلي التعقل = فلا يتسرع ولا يتحمس بسرعة ولا يقرر أموره بسرعة، فمثلا يسمع عن طول صلاة الأنبا أنطونيوس فيقرر أن يفعل مثله، أو عن صيام أحد القديسين فيقلده، أو مطانيات أحد الآباء فيعمل مثله. هنا تأتي أهمية أب الاعتراف. ومن عدم التعقل أن يظن أحد في نفسه أنه أهم شخص في الخدمة، وبدونه تنهار الكنيسة.
فالله قسم لكل واحد وزنات (مواهب) ليؤدي دوره، فمن كانت موهبته أقل فلا يصاب بصغر نفس، ومن كانت مواهبه كبيرة فلا يصاب بالكبرياء. فصغر النفس والكبرياء ليسا من التعقل. فمن له عشر وزنات مطلوب منه عشر أخري، ومن له خمس لن يطلب منه عشر بل فقط خمس وزنات. (راجع آية16). لذلك نسمع فيما يأتي أن الكنيسة كلها جسد واحد وكلنا أعضاء. وهذا لا يمنع أن نطلب لننمو أكثر، والله يعطي بحسب الاحتياج علي أن لا يشعر من يأخذ ويزداد بالكبرياء، بل ليقل المؤمن "يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعل عيناي ولم أسلك في العظائم" (مز1:131) ويقول القديس أغسطينوس أن الكتاب حينما قال "ليس بكيل يعطي الله الروح" كان يتكلم عن المسيح وليس الإنسان، لأن الروح يسكنه في كمال اللاهوت. لكن بالنسبة للإنسان فيعطي كل واحد حتى يفيض (يو38:7). ولكن كل واحد يصل فقط لكمال ملئه، وكل واحد حسب موهبته المعطاة له، وعندما يمتلئ يشتاق أن يأخذ أكثر وهكذا ينمو.
مقداراً من الإيمان= العطية هي حسب الإيمان، والإيمان عطية من الله فهو الذي قسمه. والإيمان لا يسلم للجميع بمقياس واحد أو برؤية واحدة أو بإتساع واحد أو بقوة واحدة، فالله بحسب سبق معرفته بالإنسان ماذا هو وماذا سيكون، يمنحه قسطاً من الإيمان يتوافق مع جميع إمكانياته وضعفاته وطموحاته ومسئولياته، فأصبح الإيمان لدي كل واحد خاصاً به وحده فلا يعرضه للتباهي، أو ينتفخ به فالله هو الذي أعطاه هذا الإيمان، ولا يفرضه علي الناس متجاهلاً إمكانياتهم. ولكن من يجاهد ويضرم موهبة الله التي فيه يزيده الله إيماناً فوق إيمان ويزداد إيمانه، لذلك يقول بولس الرسول لأهل تسالونيكي أن إيمانكم ينمو (2تس3:1). والتلاميذ طلبوا من السيد قائلين زد إيماننا (لو5:17). والإيمان يزداد مع الشكر وسط الضيقات التي يستعملها الله لنري يده وسط الضيقة فيزداد إيماننا، لكن من يتذمر لا يري يد الله، بل يضعف إيمانه. كذلك كلما أعرف المسيح وقدرته ومحبته يزداد إيماني، وهذا يأتي بالعشرة الطويلة مع الله (صلاة ودراسة كتاب...) .
الآيات (4-6): "فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد. هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان."
الآيات 4،5: كلنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، كل عضو يتكامل مع الآخر والجسد في إحتياج لكل أعضاؤه، الكل يخدم الكل. لذلك علينا كلنا أن نخدم في تواضع، فإذا كانت كل عطية هي من الله فلماذا الكبرياء. وهنا نري أن القدم تحتاج لكمية دم أكبر من الإصبع، من هنا نفهم أن الله قسم لكل واحد علي قدر عمله. ولا يجب أن يقول أحد أنا لست شيئاً فلأجلس وأسكت، بل أنا فعلاً لست شيئاً، إنما المسيح عامل فيَّ فلأجتهد بقدر ما في وسعي ونعمته تساندني.
آية6: إن لنا إمكانيات مختلفة وفقاً لنعمة الروح القدس التي أعطيت لنا. وعلينا أن نشعر بالقناعة تجاه هذه المواهب، وألا نبحث في أنانية ومحبة للذات عن تلك المواهب التي لم تعط لنا من الروح القدس. ولكن نلاحظ أن الرسول لم يميز بين مواهب عظيمة ومواهب قليلة فالكل من الله.
النبوة بالنسبة إلي الإيمان= النبوة هي الوعظ والكرازة بكلمة الله (1كو1:14-3). وهي إعلان أسرار الله نحو الإنسان لبنيان الكنيسة وتمتع البشرية بالأمجاد المقبلة. أي الكشف لا عن أحداث زمنية بل مجد أبدي. في العهد القديم كانت النبوة إشارة للمسيح والآن هي الدخول بالنفوس إلي إنتظار مجيئه الأخير لتنعم بشركة الميراث معه.
وهذا العمل ليس بشرياً بل هو عطية الله للمتكلم والسامع، لذا تحتاج للإيمان لينعما كليهما بهذه البركة الإلهية التي تنسكب متي وجدت أواني للإيمان. فلا نبوة إلا للمؤمن. آمنت لذلك تكلمت (مز10:116). فالوعظ يحتاج لإيمان من المتكلم وإيمان من السامع. فإذا لم يكن الإنسان له إيمان بالحياة الأبدية فما الذي سيرغمه أن يحيد عن الشر والتوبة التي يتكلم عنها الواعظ. ولاحظ أنه حتى أنبياء العهد القديم لم يكن هدفهم هو التنبؤ فقط بالمستقبل بل حث الشعب علي التوبة.
ونلاحظ أن أول موهبة هنا يذكرها الرسول هي التنبؤ ولم يذكر هنا موهبة الرسولية كما فعل في رسالتيه إلي كورنثوس وأفسس حين تكلم في نفس الموضوع (أف1:4 + 1كو28:12) وأيضاً. هنا لم يذكر أي درجات كهنوتية من أساقفة أو كهنة، ولا مواهب شفاء ولا ألسنة، وذلك لأن كنيسة روما لم يذهب لها أي رسول. ولا تأسست فيها كنيسة بالمعني المعروف قبل أن يذهب لها الرسولان بطرس وبولس سنة 62 تقريباً.
آية (7): "أم خدمة ففي الخدمة أم المعلم ففي التعليم."
أم خدمة = المقصود بها الخدمات الإدارية ومساعدة الفقراء وخدمة الموائد. بل شملت التعميد وتأسيس الكنائس في الكنيسة الأولي بل الكرازة أيضاً. فحتى الرسولية تدعي خدمة. وكل عمل روحي هو خدمة. والمقصود من له خدمة فليكن أميناً في خدمته ولا ينشغل بالآخرين.
أم المعلم = أي تعليم الحقائق الإلهية والعقائد، والمعلم يهتم بالفكر الدراسي. وهؤلاء المعلمين يساعدون الشعب في تصحيح مساراتهم.
آية (8): "أم الواعظ ففي الوعظ المعطي فبسخاء المدبر فباجتهاد الراحم فبسرور."
الواعظ = يشمل الحث علي التوبة والتأملات ونصح الآخرين وإرشادهم للفضيلة. المعطي فبسخاء = لأن الرسول كان يتكلم عن الخدمات في الكنيسة فيمكن فهم أن المعطي هو الخادم المسئول عن التوزيع علي الفقراء، وهذا عليه أن يعطي بسخاء دون تفكير في الماديات والله سيرسل بركات كثيرة، قال أحد الخدام الأمناء "فليكن صندوقك فارغا" (أي أعط كثيراً) فالله سيملأ الصندوق الفارغ، أمّا لو وجده ممتلئاً فسيتركه. وهذه الآية تطبق علي العطاء علي المستوي الشخصي. المدبر= هو الشخص المسئول عن تدبير إحتياجات الكنيسة، هو يد ورجل الكاهن. الراحم= من يقدم أعمال رحمة كخدمة الأرامل والمرضي. فبسرور= فكيف يكون حزين الملامح وهو يقدم خدمة للمسيح في شخص إخوته "كنت مريضاً فزرتموني" (مت36:25).
آية (9): "المحبة فلتكن بلا رياء كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير"
ينتقل الرسول إلي الأعمال السلوكية، ويبدأ بالحب الأخوي، فالحب هو الفكر السائد الذي يربط الكنيسة معاً كأعضاء حية متكاملة (1يو14:3) والمحبة هي الأساس. ولو كانت المحبة فيها رياء فلا يمكن بناء شئ صالح فوقها. والمحبة التي بلا رياء= هي التي لا تطلب شئ في مقابلها. هي التي بدافع إرضاء الله وخدمة الناس بالإخلاص، وهذه لا يقدر عليها إلا من سكن الله في قلبه. ملتصقين = كما يلتصق الرجل بامرأته. عموماً من له محبة بلا رياء يكون كارهاً للشر.
آية (10): "وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة."
وادين= إظهار المحبة بحرارة. والطريق الذي ينشئ هذه المودة سريعاً ويخلق أصدقاء هو أن يسعي كل إنسان لتكريم قريبه فلا نتسابق في طلب الكرامة بل في إعطاء الكرامة. الود هو إظهار المحبة التي في القلب. وإظهار هذه المحبة سيزيد المحبة المتبادلة.
آية (11): "غير متكاسلين في الاجتهاد حارين في الروح عابدين الرب."
حارين بالروح= الروح هنا هو روح الإنسان وليس الروح القدس. ولكن من يعبد بحرارة سيمتلئ بالروح "إضرم موهبة الله التي فيك" (2تي6:1). وكلما إمتلأنا بالروح سنعبد بحرارة، وكلما عبدنا نمتلئ من الروح وهكذا، والبداية أن نقرر أن لا تكون عبادتنا فاترة بلا طعم. وسر الحياة المسيحية كلها يكمن في إقتناء الروح القدس فهو النار التي تحرك الإنسان وتجعله غير متكاسل في الإجتهاد، وذلك بصلوات طويلة قوية وإنسحاق مع مطانيات وأصوام وتسابيح، بلا تكاسل في الخدمة. وحتى نقبل الروح القدس ونمتلئ به علينا بالصلاة بلجاجة (لو13:11).
آية (12): "فرحين في الرجاء صابرين في الضيق مواظبين على الصلاة."
إذ نمتلئ بالروح القدس سنعبد بحرارة ويزداد رجاؤنا فيما أعده المسيح لنا في السماء، وهذا يعطينا فرحاً، فمن عنده رجاء يفرح = فرحين في الرجاء أيضا من له رجاء في السماء سيحتمل ضعفات الآخرين فعينه أصبحت مثبتة علي السماء التي هو ذاهب إليها. صابرين في الضيق = ومهما زادت الضيقات، فما يراه بعيني الرجاء من الأشياء غير المنظورة في السماويات يعطيه إحتمالاً للضيق. وكيف نثبت في هذه الحالة = مواظبين علي الصلاة.
آية (13): "مشتركين في احتياجات القديسين عاكفين على إضافة الغرباء."
مشتركين= لم يقل معطين لأنهم ينالون أكثر مما يعطوا، ولأن الله أعطاهم ليعطوا هم المحتاجين، هم يعطون ماديات مما أعطاها لهم الله فيعوضهم الله بركات مادية وروحية أكثر. ولاحظ أنه سمَّي الفقراء قديسين= والمسيح أسماهم إخوته. عاكفين= أي لا ننتظر حتى يسألوننا بل نسعي نحن لذلك كما فعل إبراهيم ولوط. ولنلاحظ أن الغرباء في هذه الآية مقصود بهم المسيحيين الذين كانوا يلجأون لهم في وسط إضطهاداتهم.
آية (14): "باركوا على الذين يضطهدونكم باركوا ولا تلعنوا."
باركوا= أي الدعاء بالبركة. وذكر محاسنهم، ولا نجازي عن شتيمة بشتيمة، ونصلي ونطلب لهم الخيرات ولا نفكر في الانتقام. باركوا ولا تلعنوا المسيح حمل اللعنة التي نستحقها ليهبنا بركته عاملة فينا، فكيف نستطيع نحن أن نلعن من رفع المسيح عنهم اللعنة، علينا أن نبارك كما باركنا المسيح. ومن يبارك مضطهديه يُظِهرْ أنه يُسَّرْ بإحتمال الآلام من أجل المسيح، أما من يلعن مضطهديه سيبدأ بعد ذلك يلعن من حوله وقد يلعن الله نفسه (رؤ10:16،11). فلنمتنع عن عادة اللعن ولندرب ألسنتنا علي أن نبارك.
آية (15): "فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين."
هذه ليست مجاملات اجتماعية بل شركة الأعضاء متشبهين بالمسيح الذي بكي علي قبر لعازر، وتهلل فرحاً بالروح للبركات التي حصل عليها تلاميذه (لو21:10). ولا يستطيع أحد أن يفرح مع الآخرين إلاّ من سكن يسوع فيه وأعطاه حياته فالفرح مع الفرحين أصعب بكثير من البكاء مع الباكين. لأن الإنسان الطبيعي يحسد الناجح، ولكن من هو خليقة جديدة سيتشبه بالمسيح. وهذا ما سيحدث في السماء، فسنفرح مع من هم في مجد أكثر منا. ولنلاحظ أن إشتراكنا بمشاعرنا مع إخوتنا يزيد المحبة بيننا.
آية (16): "مهتمين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً غير مهتمين بالأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين لا تكونوا حكماء عند أنفسكم."
مهتمين بعضكم لبعض إهتماماً واحداً= بحسب الترجمات المختلفة هذه تعني : فليكن كلكم لكم الفكر الواحد، وتكونوا في إنسجام في الفكر، متفقين مع بعض في إهتماماتكم "تقولوا جميعكم قولاً واحداً " (1كو10:1) ويكون لكم الفكر الواحد (في2:2). لتكن مشاكل وألام الآخرين، هي آلامكم حتي تحاولوا حلها كأنها آلامكم. تبحثوا كيف تكونوا سبب فرح للآخرين.
وهذا لا يمكن أن يحدث إلاّ لو إمتلأ الجميع من الروح القدس. فسنهتم بما يهتم به الآخرين، ونفكر فيما يفكرون فيه، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.
غير مهتمين بالأمور العالية= هم كانوا في روما العاصمة فخاف عليهم من الإنتفاخ من إحتكاكهم بعظماء روما، فيطلبون المجد الذاتي وغني هذا العالم وأمجاده وكرامتة، طالبين أن يعاشروا الأغنياء والعظماء ليستفيدوا منهم كما يحدث الآن فيمن يلتصق بأصحاب النفوذ لينتفع منهم.
بل منقادين إلي المتضعين= أي يعيشوا مع البسطاء في جو الكنيسة المقدس يخدمون المريض والفقير والمحتاج (يع7:2 + في5:2-7) يشاركونهم ألامهم، مهتمين بأمور الكنيسة والخدمة. هذا الطريق ينمي الإيمان ويملأنا بالروح، ومن خلاله نستعد للسماء.
لا تكونوا حكماء عند أنفسكم= جيد أن نكون حكماء ولكن شر أن نفكر في أنفسنا أننا حكماء (أم12:26). فلا يجب أن نرفض المشورة فنخرب أنفسنا (أم15:12) ولا يجب أن نظن في أنفسنا فوق ما ينبغي ونعتقد أن لدينا العلم والمعرفة والحكمة وأننا لسنا في إحتياج لمساعدة الآخرين. ولنلاحظ أن موسى حين لمع وجهه لم يعلم أن وجهه يلمع (خر29:34). والحكيم في عيني نفسه يعيش متصلفاً لا يقبل مشورة أحد. وهذه النصيحة حين تأتي وراء قوله بل منقادين إلي المتضعين فهي تعني، أن هناك من يظن أنه من الحكمة أن نلتصق بالأقوياء والعظماء وذوي النفوذ والأغنياء لننتفع بهم لكن ملعون من يتكل علي بشر.
آية (17): "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس."
معتنين بأمور حسنة= هذه مثل "لكي يري الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أبيكم الذي في السموات" إذاً لنهتم أن نشهد لله أمام الناس لنمجده.
آية (18): "إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس."
حاول بقدر مالك من طاقة أن تسالم جميع الناس. ولكن إذا رفض الناس كما حدث مع أرمياء فكان إنسان خصام، فهذا أمر لا حيلة لنا فيه. وهناك أناس يستحيل معهم السلام كالهراطقة مثلاً.
آية (19): "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب."
لا تنتقموا لأنفسكم= المسيحي لا ينتقم لنفسه، فمن يتصور أن له القوة أن ينتقم لنفسه يتركه الله لنفسه، والمسيحي الحقيقي عاد طفلا في تصرفاتة، والطفل حين يؤذيه أحد يذهب لأبيه شاكياً، وهذا ما يجب أن أفعله أن أذهب لله شاكياً، هذا أن كنت أشعر أن الله هو المسئول عني.
بل إعطوا مكانا للغضب= إعطوا مكانا لغضب الله لكي يقوم هو بالانتقام من الأشرار بحسب رحمته وتقديره (تث35:32) والله في حكمته يحل مشاكلنا بطرق لا نتصورها، ولننظر كيف تعامل الله مع الدولة الرومانية التي إضطهدت المسيحيين، إذ حولها للمسيحية، وكذلك شاول الطرسوسي. وقد تعني الآية لا تكن سريعاً في رد الإساءة فربما يهدأ الذي أخطأ إليك حينما يراك وديعاً مسالماً. والله لا ينتقم كما ينتقم الإنسان، فهو قد يحول عدوي إلي إنسان محب لي ويأتي آسفاً علي ما إرتكبه نحوي من خطأ.
آية (20): "فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فأسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه."
إن جاع عدوك= ولا تقل إن الله قد إنتقم لي بل ساعده في محنته وهكذا طلب منا السيد المسيح "أحسنوا إلي مبغضيكم". والآية كلها مأخوذة من (أم21:25،22).تجمع جمر نار علي رأسه= هذه قد تعني:
1. إن فعلت هذا فإنك تجعله يخجل من تصرفاته ويتعرض لتأنيب الضمير الحاد والندم، الذي لا يقل في قوته وفي ألمه عن الألم الذي يسببه وضع نار علي رأسه.
2. وقد تعني إشعال نار المحبة في قلبه من نحوك.
3. العادة في الصعيد أن الثأر من القاتل يمكن العفو عنه، لو حمل الإنسان (المطلوب قتله) كفنه وذهب إلي اٍلأسرة صاحبة الدم، فإنه بهذا يحقن الدم ويوجد السلام. والعادة الرومانية بالنسبة لمن يريد أن يحقن الدماء في موضوع الثأر أن يحمل علي رأسه ناراً ويتقدم بها إلي غريمه علامة أنه يقدم نفسه ذبيحة ويريد حقن الدم. وكان الغريم يقبل النار ويضعها علي رأسه علامة الصلح.
آية (21): "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير."
هذا لا يستطيعه إلاّ كل من تمسك بالمسيح، ويستطيع أن يقول لي الحياة هي المسيح. إغلب الشر بالخير= بالصبر والإحتمال والإحسان للمسيء. عموما كل ما يطالب به الرسول في هذا الإصحاح يسهل علي من له الطبيعة الجديدة فصارت أعضاؤه آلات بر.
آية (1): "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله."
إنتهي كلام الرسول في ص12 عمن يضطهد المسيحي من وسط إخوته وكيف يتم التعامل معه. وهنا يكلمني عن إضطهاد الدولة، فقد يتصور أحد أنه يجب أن نثور علي الدولة التي تضطهدنا. فبولس يكتب هذا الكلام أيام الدولة الرومانية التي إضطهدت المسيحيين إضطهاداً عنيفاً. وهنا يشرح الرسول أنه علي المسيحي أن يخضع للدولة التي تضطهده ويصلي عنها، فالمسيحي يصلي عن الملك أو الرئيس وعن الدولة، والله هو الذي يتصرف معه، فنحن لا نفهم مبدأ الثورة علي الملك أو الرئيس فهو مُعَيّن من الله. قد يكون الملك ظالماً ولكن وجوده هو بسماح من الله ولحكمة يعلمها الله وحده. ولنسمع أن الله يقول لفرعون "إني لهذا بعينه أقمتك" (رو17:9)، فقسوة وغباء فرعون كانا السبب في إيمان اليهود بل والمصريون الذين عرفوا من هو يهوه. وإذا كان بولس قد رفض ثورة المرأة علي زوجها في خلع غطاء الرأس (1كو1:11-16) فهل يسمح بثورة المسيحيين ضد الملك. ولاحظ أن الدولة الرومانية كانت تتوجس شراً من المسيحيين لإيمانهم بالمسيح كملك لهم، فهم لم يفهموا معني الملك السماوي، ثانياً لأن المسيحية كانت لا ترتاح لنظام العبيد السائد، ولكن مع هذا لم تدعو المسيحية لثورة العبيد، فالمسيحية لا تصلح الأخطاء بالثورات بل بإصلاح الداخل. ثالثاً فالدولة الرومانية قد عانت من ثورات اليهود، فكان اليهود يطبقون الوصية "إنك تجعل عليك ملكاً من وسط إخوتك" (تث15:17) بطريقة حرفية، فأثاروا الشغب حتى في روما ضد قيصر فطردهم من روما كلوديوس قيصر (أع2:18) حوالي سنة 49م. وعموما كان فكر اليهود أنهم إنتظروا المسيا ليخلصهم من السلطة الرومانية. ويبسط نفوذهم إلي كل العالم (وهذا فكرهم للآن) ولما لم يجدوا هذه الصورة في المسيح صلبوه. أمّا المسيحي فيدرك أن السماء هي دائرة إهتماماته الداخلية (كو1:3،2).
وهكذا فنحن لا نطمع في مراكز سياسية عالمية لأن كنيستنا هي مؤسسة سماوية ونحن أيضاً لا نهتم بالإضطهاد الذي يقع علينا ونحن لا نثور ضد من يضطهدنا. ونحن نخضع للرئيس أو الملك في كل شئ إلا في شئ واحد هو أن يأمرنا بترك المسيح. ولاحظ أن الرومان نظروا للمسيحية علي أنها شيعة من اليهود، ولأن اليهود ثائرين علي الدولة، ظن الرومان أن المسيحيين مثلهم. ومع ملاحظة أنه في الوقت الذي كان فيه نيرون يضطهد الكنيسة لم يري بولس الرسول أن علي الكنيسة أن تقاومه، بل رأي أنه أقيم بسماح إلهي لخير الكنيسة، بل طلب أن ترد الكنيسة بالحب علي إضطهاده وأن تصلي لأجله وتخضع له. ومع كل هذا إتهم المسيحيين أنهم مثيري فتن وسبب تكدير للأرض، وهذا ليجدوا مبرراً لوحشيتهم. وكان أقل خطأ من مسيحي يشنع به في الحال. ومع هذا يقول الرسول لتخضع= الخضوع هنا لا يعني ضعفاً بل طاعة في الرب، فنحن لا نخاف من الناس بل من الشر.
والمسيحي يشعر أن حياته ليست في يد الملك، بل في يد الله ضابط الكل الذي عَيَّن الملك، فالسلطة مرتبة من الله، لذلك علينا أن نخضع للملك مهما كان شريراً، وليس للملك وحده بل لكل الهيئة الحاكمة معه، وهكذا يتواصل هذا الكلام مع الإصحاح السابق الذي قال فيه لا تجازوا أحدا عن شر بشر. والكنيسة تصلي من أجل الملك والرئيس ومشيريه لكي يعطيهم الرب حكمة وسلام لصالح الكنيسة. والسلاطين الكائنة= مهما كان نوعها ملكية أو جمهورية مرتبة من الله.
وهذا هو سبب خضوعنا للسلطان. (دا 20:2،21،28،37 + دا 17:4 + أر27: 6-8 + يو11:9). ونفس الفكر في هذه الآية نجده في (1بط2: 13-17 + 1بط21:2 + تي1:3 + 1تي2: 1-4). وبولس يكتب هذا الكلام وهو طالما وقع في يد الرومان وقيد بسلاسل.
آية (2): "حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة."
الله هو الذي عَّين الملك، (أم15:8) به تملك الملوك، فمن يقاوم الملك فأنه يقاوم الله.
آية (3): "فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة أفتريد أن لا تخاف السلطان أفعل الصلاح فيكون لك مدح منه."
من يعمل أعمالاً صالحة لا يخاف من الحاكم. ومن يعمل الشر يخاف منه.
آية (4): "لأنه خادم الله للصلاح ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر."
الحاكم هو خادم الله، الله وضع السيف (العقاب) في يده لقمع كل شر وذلك حتى لا تعم الفوضى.
آية (5): "لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضاً بسبب الضمير."
علينا أن نخضع للحاكم ليس خوفاً فقط بل من أجل الضمير، لأن الله عَيَّنَهُ أي علينا أن نفهم أننا لا نتعامل مع إنسان عظيم فنخاف منه لعظمته، بل نحن نتعامل مع الله الذي أمرنا أن نخضع لمن عينه. لذلك نحن نخضع حتي في الخفاء، فالسلطان هو الله، والله يرانا حتى لو كنا في الخفاء، والضمير سيثور ضدي لو خالفت أوامر الله. والروح القدس الذي فينا أصلح ضميرنا فصار حساساً، وبنفس المفهوم، فلو وجدت طريقة للتهرب من الضرائب عليَّ أن لا أستغلها.
آية (6): "فأنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه."
فأنكم لأجل هذا..= أي لأجل الضمير. ولاحظ أنه علي المسيحي أن يكون أميناً في موضوع الضرائب المستحقة عليه.
آية (7): "فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية الجباية لمن له الجباية والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام."
هذه مثل إعط ما لقيصر لقيصر. علينا أن نعطي لهؤلاء الذين في يدهم السلطان حقوقهم وهذا واجب علينا. الجزية= ضريبة الأرض وما يدفع من ضريبة علي الأملاك، وهذا النوع من الضرائب دائمة منتظمة. الجباية= هذه تدفع بين الحين والآخر حسبما تقتضي الظروف فهي ضريبة خاصة بالتجارة.
الخوف= من الحاكم لأنه ينفذ مشيئة الله. الإكرام= لكل من كانوا فوقنا من رؤساء وللأب وللأم حسب الوصية.
آية (8): "لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس."
علي المؤمن أن لا يستريح إلاّ بعد أن يسدد الديون التي عليه، وهذا من شأنه أنه يبطل أسباب الشجار والنزاع والكراهية واللجوء إلي القضاء.
ألاّ بأن يحب بعضكم بعضاً= تسديد ديوني يعطيني شعوراً بالراحة، ولكن من ناحية المسيح، فلن يحدث هذا الشعور أبداً، فالمسيح أعطاني الكثير جداً، فماذا قدمت له، أو ماذا قدمت من أعمال محبة لأولاده.
المسيحي شاعر دائماً أنه مديون لله وللناس فهم أولاد الله، وهذا ما عَبَّرَ عنه بولس الرسول "بأنه مديون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء فهكذا أنا مستعد لتبشيركم.." (رو14:1،15) فالدين الذي في رقبة بولس يسدده بالتبشير والدين الذي في رقبتي أسدده بخدمة الله وخدمة الناس، وأبداً لن يهدأ الإنسان، وسيشعر دائماً أنه مديون. الله أحبنا وسنعيش كل حياتنا نرد حب الله بحب الناس أولاد الله. وهذا الحب لله وللناس هو ملخص الناموس كله (مت35:22-40).
آية (9،10): "لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك. المحبة لا تصنع شراً للقريب فالمحبة هي تكميل الناموس."
قال الرسول في الآية السابقة إنَّ من أحب غيره فقد أكمل الناموس وهنا يقول لماذا. ملخص الوصايا كلها أن يمتلئ القلب بالحب الحقيقي وبهذا يمتلئ بالله نفسه الذي يشبع القلب والنفس والعواطف والأحاسيس، فلا يحتاج الإنسان إلى ملذات العالم والجسد ولن تخدعه الخطية. وملخص هذه الوصايا أن نعامل الآخرين كما نحب أن يعاملوننا، والذي يحب الآخرين لا يمكن أن يفعل الشر بهم، وعلي ذلك سيسلك نحوهم بموجب وصايا الناموس، لذلك فالمحبة هي تكميل الناموس.
آية (11): "هذا وأنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم فإن خلاصنا الآن اقرب مما كان حين آمنا."
خلاصنا= يقصد الخلاص النهائي الذي سيكون حين يأتي الرب يسوع في مجيئه الثاني ودخولي للسماء بالجسد الممجد.
كل يوم يمر علينا نقترب من يوم خلاصنا النهائي أي يوم مجيء المسيح النهائي. ولكن هذا اليوم هو يوم دينونة للأشرار، إذاً لنستيقظ من النوم= نوم الغفلة والخطية والانغماس في شهوات هذا العالم. لنكن أمناء ومحبين للكل ولله أولاً لأن أيامنا علي الأرض مقصرة، كل يوم تقل عن اليوم الذي قبله. هذه الآية تشبه قولي لإبني "يا إبني شد حيلك فاضل كام يوم علي الامتحان". وقوله لنستيقظ إشارة لحياة القيامة والنصرة علي الخطية (نوم وموت). ومن يستيقظ ويبدأ جهاده بالصلاة والعبادة تتحول الساعات الزمنية لحساب الأبدية، لأنه سيحيا الحياة الأبدية من الآن. وأيضاً ينتقل من الموت إلي الحياة، من موت الخطية لحياة فيها المسيح يحيا فيه، وبهذا يخرج من ليل العالم إلي نهار الأبدية. هذه الآية تتمشي مع نداء المسيح إسهروا (مر35:13) العريس علي الأبواب، أفيكون بيننا وبين السماء خطوة واحدة ونتثاقل.
آية (12): "قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور."
تناهي الليل= لقد إقتربت نهاية الأيام التي تنتشر فيها الخطية. تقارب النهار= لحظة مجيء المسيح أو إنتقالي أنا من هذا العالم. أعمال الظلمة= فأعمال الخطية تنشأ في الظلمة وتحب الظلمة لتختبئ فيها وتنتهي بظلمة جهنم. أسلحة النور= النور هو المسيح والأسلحة نقرأ عنها في (أف6) (صلاة/إيمان/صوم/كتاب مقدس ...)ولكن مطلوب قرار مني أن أسلك مع الله ملتزماً بوصايا الله. ولا تقل في قلبك أن الخطية قوية، بل أن الأسلحة التي معي أقوي بل تجعلني أكره الخطية. إن الحياة الحاضرة تشبه الليل المظلم وهي في طريقها للزوال، والحياة الآتية إقتربت وهذا ما يحفزنا علي حمل أسلحتنا للجهاد ضد الخطية، لكن النهار يشرق فينا حين يسكن المسيح شمس البر فينا (1كو29:7 + 1بط7:4).
آية (13): "لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد."
هذه الآية هي التي غيرت القديس أغسطينوس من حياة الخطية إلي القداسة، فقد كان في حديقة أحد أصدقائه وسمع ولداً ينادي خذ وإقرأ وكان مع الصبي بضع وريقات، فأخذها أغسطينوس، فكانت من رسالة رومية، وبالذات هذه الآية، التي قرر بعدها تغيير حياته. والخطايا المذكورة هنا هي في صورة ثنائيات، فكل واحدة مرتبطة بالأخرى.
فلنسلك بلياقة= حقاً كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافق أو تليق بي كمسيحي. كما في النهار= فلنسلك كما لو كانت أعين الجميع تراقب تصرفاتنا كمن في وضح النهار. فلنسلك بكل أدب وخشوع ولياقة دائماً ولنفهم أن أعين الله علينا كل الأوقات في الليل والنهار.
البطر= عربدة وإفراط في الأكل وتهييص خارج الحدود، يسمي المرح بوقاحة وقطعا فهذا مرتبط بالسكر. المضاجع= ممارسة الشذوذ والزنا وتشير لأماكن الرذيلة. والعهر= النجاسات من الأفكار والعواطف والرقص والنظرات والكلمات والكتب الرخيصة. بل كل ما يؤدي للنجاسة. لا بالخصام والحسد= فالخصام ينتج عن الحسد.
آية (14): "بل إلبسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات."
إلبسوا الرب يسوع= معناها تشبهوا بالرب يسوع أو لتكن لكم صورة الرب يسوع. ونحن بالمعمودية نتحد بجسد المسيح السري فنلبس الرب يسوع (غل27:3) ولكن بالانغماس في خطايا العالم نفقد هذه الصورة، وتعود لتظهر فينا متي صلبنا الجسد مع أهوائه وشهواته "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ (غل20:2). وكلما تجددنا عموما نقترب من صورة الرب يسوع (أف24:4 +غل19:4 +1كو49:15). وهناك رمز لهذا في العهد القديم يوم ألبس الرب الإله آدم جلد الذبيحة. فالذبيحة هي رمز للمسيح المصلوب. فالمسيح يحيا فينا ويدخل فينا ويصير هو المنظور فينا ونحن المستورين فيه يظهر هو في كل عمل (أف14:3-18). هنا إختفي إنسان الليل وظهر إنسان النور. المسيح فيّ يعطيني فضائله تظهر فيّ، محبة/لطف/وداعة/تواضع... وحينما أتحلي بكل هذه الصفات أكون قد لبست الرب يسوع.
كل شئ عدا المسيح هو أوراق مهلهلة لا تستر، نحن بغيره مشوهون وعرايا. إذاً نحن نلبس المسيح في المعمودية فلنستمر لابسين المسيح بإخلاص وحق، بحب الفضيلة وبغض الشر والإبتعاد عنه، وتدريب أنفسنا علي العفة وإماتة شهواتنا والالتصاق به اليوم كله (وهذا ما نسميه الجهاد).
ومن يلبس الرب يسوع لن يصنع تدبيراً للجسد لأجل الشهوات = أي عدم الإنغماس في الشهوات الزائدة والسعي لإثارة الإنسان العتيق بإثارة شهوات الجسد، وعدم الإرتباك والسعي وراء ملذات هذا العالم. وهذا لا يتعارض مع تدبير حاجات الجسد الضرورية، ولكن المقصود هو عدم السعي بإلحاح نحو ملذات هذا العالم، والذين يسلكون في الروح لن يكملوا شهوة الجسد (غل16:5).
يري القديس ذهبي الفم أن بولس هنا يعالج مشكلة قامت بين اليهود المتنصرين بعضهم البعض، إذ كان البعض يخشي لئلا في أكلهم اللحوم يأكلون لحم الخنزير أو الجمل وهم لا يدرون، فيكونوا كاسرين للناموس، وإذ كان ضميرهم متشككاً تظاهروا بالصوم والتقشف فإمتنعوا عن أكل اللحوم بالكلية.بينما أدرك آخرون أنهم في المسيح يسوع نالوا الحرية من الطقوس الحرفية، فصاروا يأكلون اللحوم أياً كانت. فدخلوا في صراع فكري ومناقشات مع إخوتهم المتظاهرين بالصوم وهم في حقيقتهم ضعيفو الإيمان. والرسول لم يرد أن يدخل في هذا الصراع، وإنما حسب أن أمر الأكل أتفه من أن يشغل فكر المسيحيين ووقتهم، ولكن المهم أن لا يكون هناك صراع، بل أن تسود المحبة. الرسول كشف ضعف الضعفاء الذين يتشككون بسبب طول ممارساتهم للشريعة الموسوية ويصعب عليهم التخلص منها. وفي الوقت نفسه هاجم الأقوياء الذين يزدرون بإخوتهم الضعفاء. ونلاحظ أن بطرس نفسه لم يكن سهلاً عليه أن يتخلص من العوائد اليهودية، فكان يمتنع عن الأكل مع الأمم إذا دخل يهود عليه (غل12:2) والله أراه الملاءة حتى يقبل أن يعمد كرنيليوس ويقبله في الأيمان أع10:18،11).
وقد يكون الصراع ناشئاً بين طائفة اليهود المتنصرين والأمم علي أكل اللحوم التي حرمها الناموس، فالأممي المتنصر إحتقر اليهودي علي إمتناعه عن أكل اللحوم لتشككه.
وهناك مشكلة أخري ناقشها الرسول في رسالة كورنثوس (1كو8-10) هي مشكلة اللحوم التي كانت تقدم في أعياد ومناسبات الوثنيين في هياكلهم فهناك جماعة إمتنعت عن أكل اللحوم لأن الوثنيون بعد أن يقدموا ذبائحهم لآلهتهم كانوا يبيعون هذه اللحوم في محال الجزارة،فإمتنع المتشككين من أكل اللحوم وشرب الخمر تماماً لئلا يكون بينهما ما قدم في هياكل الأوثان
وغالباً فالرسول يناقش في هذا الإصحاح (رو14) الطعام المحرم عند اليهود ذلك أنه يقول واحد يعتبر يوماً دون يوم وآخر يعتبر كل يوم (ويقصد أعياد اليهود ويوم السبت). أما في 1كورنثوس فناقش لحوم هياكل الأوثان. علي أن هناك مشكلة أخري خاصة باللحوم وهي خاصة بجماعة الأسينيين الذين كانوا يحرمون أكل اللحم تماماً. وغالباً هؤلاء لا يقصدهم الرسول.
آية (1): "ومن هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه لا لمحاكمة الأفكار."
يوجد نوع من المسيحيين ضعاف في إيمانهم يعلقون أمر خلاصهم علي التمييز بين أنواع الأطعمة، وبين يوم ويوم، وعلي الكنيسة أن تقبل الكل برأفة. لا لمحاكمة الأفكار= أي دون إدانة أفكاره، فالدينونة هي عمل الله، إذاً لنتركها له (لكن هذا الكلام لا ينطبق علي العقائد، فمن يعلِّم تعليماً مناقضاً لإيماننا، يجب أن تقاومه الكنيسة).
عموماً الكنيسة هي مستشفي لعلاج كل مريض وليست محكمة لإدانة الناس. وعلي ذلك يليق بالمسيحي أن يترفق بأخيه الضعيف الإيمان ليسنده بروح الحب لا الإدانة حتى يسير الكل في طريق الخلاص. والرسول هنا يدعو لأن نترك صغائر الأمور ونلتفت لما هو للبنيان. والعجيب أن بولس القوي خضع لهذه الأمور، فهو نذر نفسه بطقس النذير اليهودي وختن تيموثاوس ليربح الضعفاء، فصار لليهودي كيهودي ليربحهم (1كو9:19-22).
وهنا في رسالة رومية نري بولس غير مهتم بأن يلتزم المؤمن بيوم أو بنوع من الأطعمة أو لا يلتزم. ولكنه في رسالة (كولوسي8:2،16) منع نهائياً هذا التحكم اليهودي وهكذا فعل في غلاطية فلماذا؟ السبب أن أهل روما حديثي الإيمان، فلا يريد أن يربكهم إلي أن يحضر هو بنفسه ويعلِّم التعليم الصحيح الذي يرفعهم فوق مستوي الشرائع اليهودية، فروما ليس بها رسل يعلمون الشعب البسيط أمّا كولوسي وغلاطية فهما كنائس قد تأسست ولها أساقفة وكهنة يعلِّمونهم. فأهل روما حديثي الإيمان، ولا يريد أن يجعلهم يتشككون بسبب ماضيهم في الإيمان، إذ هم بسطاء، أمّا في كولوسي وغلاطية فهو يتشدد مع المعلمين الذين يدعون للتهود أولاً قبل الدخول في المسيحية. وبولس يراعي أن من أصله يهودي سيعاني من ضغوط ضميره بسبب نشأته، فلا يدقق فيما يفعله ليريح ضميره، وأما من أصله أممي وثني وأقنعه هؤلاء المتهودين من المعلمين بأن يبدأ أولاً بالممارسات اليهودية كوسيلة للخلاص، فهؤلاء يهاجمهم بولس الرسول كما فعل مع أهل غلاطية وكولوسي. فأهل رومية فعلوا ما فعلوه عن ضعف بسبب ماضيهم مع الناموس واليهودية، أما أهل غلاطية فعن عناد ومقاومة. فكأن بولس أراد أن يدفن الناموس الطقسي بالتدريج فكان أهل رومية يشيعونه إلي قبره بحزن وبكاء، وبولس يحتملهم بصبر.
أما أهل غلاطية فكانوا ينبشون قبره فهاجمهم. فإقبلوه= هو مقبول عند الله فإقبلوه أنتم في محبة وإبعدوا عن المناقشات التي تحيره وتربكه، فمن له معرفه يميل إلي الإنتفاخ علي إخوته.
آية (2): "واحد يؤمن أن يأكل كل شيء وأما الضعيف فيأكل بقولاً."
يأكل كل شئ= قال الله لبطرس "ما طهره الله لا تدنسه أنت" (أع15:10) فالقوي إيمانياً يؤمن أنه نال في المسيح الحرية من الطقوس الحرفية فيأكل بلا إرتياب. وهذا تعليم السيد المسيح الذي لم يمنع أكل الشيء، فالأكل لا ينجس إنما النجاسة تنبع من داخل الإنسان (مت11:15). أما الضعيف فيأكل بقولاً= خوفاً من أكل لحوم قد تكون محرمة كالخنزير (أو قدمت لأوثان) فيكسر بهذا الناموس، فالناموس منع بعض لحوم الحيوانات والأسماك والطيور، لكن لم يمنع البقول ومع أن هذا التصرف فيه تزمت وأفكار ضيقة لكن يجب أن نقبله ولا ندينه.
آية (3): "لا يزدر من يأكل بمن لا يأكل ولا يدن من لا يأكل من يأكل لأن الله قبله."
هنا نجد الرسول يحذر من ضربة يمينية، فالقوي يشعر بقوته ويحتقر الضعيف، وبنفس مفهوم هذه الآية فعلي البتول أن لا يزدري بالمتزوج وعلي المتزوج أن لا يدين البتول، فالله يقبل هذا وذاك فالله لا يقصف قصبة مرضوضة، فهل يقبله الله وأرفضه أنا. ومن لا يأكل لا يدن من يأكل= فلا يحسبه نهم شهواني كاسر للناموس.
آية (4): "من أنت الذي تدين عبد غيرك هو لمولاه يثبت أو يسقط ولكنه سيثبت لأن الله قادر أن يثبته."
من أنت الذي تدين عبد غيرك= هنا يوجه كلامه للضعيف الذي يدين القوي لأنه يأكل ويعتبره نهماً وساقطاً. هذه الطياشة في الدينونة هي التي قصدها يعقوب حين قال "لا تكونوا معلمين كثيرين.." لأننا بدينونة إخوتنا نجعل من أنفسنا سادة لهم. والرب وحده هو سيد الجميع، ونحن كلنا عبيد له. وإذا كان الآخر ليس عبداً لي بل لله فلماذا أدينه، الله يدينه. هو لمولاه يثبت= إن ثبت في إيمانه سيكسبه مولاه، وسقوطه خسارة لمولاه. فالأمر خاص بالله الذي يشتاق أن يربح الكل. قد نظن أن الله لن يقبل الذي يتصرف بحرية أو سوف يرفض من يتشكك. ولكن الله قادر أن يثبت الواحد في نزاهته والآخر في راحة ضميره= لأن الله قادر أن يثبته= فهو لا يقبله فقط بل يثبته.
آية (5): "واحد يعتبر يوماً دون يوم وآخر يعتبر كل يوم فليتيقن كل واحد في عقله."
هنا يتكلم عن السبت والأعياد والمواسم والأصوام اليهودية، فاليهود المتنصرين ما زالوا يحترمون أيام الفصح والهلال الجديد ... والأمم يحترمون الأحد بدلاً من السبت الذي يقدسه اليهود. فليتيقن كل واحد في عقله= أي يحكم ضميره وعقله في هذا الأمر وذاك. ويتخذ قراره دون إرتياب أو تشكك. كلُُ حسب النور الذي في قلبه وكلُُ حسب إقتناعه.
آية (6): "الذي يهتم باليوم فللرب يهتم والذي لا يهتم باليوم فللرب لا يهتم والذي يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله."
هنا يرفع الرسول نظر أهل رومية من المسيحيين بدلاً من أن ينشغلوا بإدانة بعضهم البعض، عليهم أن يشكروا الله، لذلك يهتم المسيحيين أن يشكروا الله عند الأكل. الذي يهتم باليوم= من يعتبر يوماً أقدس من باقي الأيام كما يعتبر اليهود يوم السبت مقدساً، فهو يحترم السبت ويقدسه ليس إلا لأن الله أمر بهذا. هنا بولس يقول مثل هذا يهتم باليوم لأنه في قلبه يعتبر هذا مجداً للرب. والذي لا يهتم باليوم فللرب لا يهتم= أي لا يخصص يوم معين. فمن لا يهتم بالسبت أو غيره شاعراً بأن المسيح حرره من هذه الطقوس، فهو لا يهتم لأنه يمجد الرب. والذي يأكل ..يشكر= شاعراً أن الرب أعطاه الحرية ليأكل كل شئ. والذي لا يأكل ..يشكر= علي باقي الأطعمة والبركات التي أعطاها الله له. ونحن المسيحيين نصوم ونصلي ليقبل الله هذا الصوم ذبيحة شكر، لا لأن هناك طعاماً محرماً.
الآيات (7،8): "لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته. لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن."
في حكمة عجيبة سحب الرسول الطرفين من النقاش في هذه الأمور ليرتفع بفكرهم، وفكرنا فوق محيط الأكل والشرب والأعمال الزمانية التي تختص بهذا الزمن ، إلي أفق أعلي إيمانياً وحياتياً، فالقديس بولس يسمو بالإيمان المسيحي فوق أعمال هذا الزمان ليضع الإنسان المسيحي في وضعه النهائي مع المسيح الذي يحتضن الجميع في شخصه، فالحياة كلها ينبغي أن تكون لأجل المسيح الذي خلقني، سواء حياة مادية أو حياة روحية، حياتنا هي لكي نمجد المسيح ونعمل مشيئته. والموت، به نذهب للمسيح وهذا أفضل جداً، خلقنا لأعمال صالحة نمجد الله بها، وبعد أن ننهي أعمالنا نموت لنبدأ حياة من نوع آخر نسبح فيها المسيح ونمجده بطريقة أخري (2كو14:5،15). فما عدنا نحيا كما نريد حسب شهواتنا وملذاتنا، وما عدنا نخاف الموت، لقد مات المسيح وقام لكي يهبنا الحياة فنحسب أنفسنا مدينين له بحياتنا سواء في وجودنا في هذا العالم الحاضر أو إنتقالنا منه. لم نعد ملكاً لأنفسنا (في21:1). لقد صارت إرادة المسيح هي قانون لنا ومجد المسيح هدفُُ لنا، نحن نعيش ونموت ونستشهد لكي نمجده في كل تصرفات حياتنا. المسيح هو المركز الذي فيه تلتقي كل خطوط الحياة والموت. المسيحية الحقة هي التي تجعل المسيح هو الكل في الكل. إذاً ما دمنا للمسيح سواء أحياء أو أموات فيجب أن كل أعمالنا نعملها من أجل الله وليس لأجل ذواتنا أو للعناد، فنحن لسنا لذواتنا بل لله. هذه الآيات 7،8 تختم الفقرة التي تتحدث عن إحترام الآراء وأن كل عضو يتكامل مع باقي الأعضاء، يعيشوا في محبة وتعاون إذ الكل يحيا لله، الكل يسير في إتجاه واحد لهدف واحد، فلماذا الشجار في الطريق. من عاش محباً للإخوة فهو يعيش للرب. فالمحبة الصادقة هي تطبيق حيّ للإيمان.
آية (9): "لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات."
المسيح مات وقام لكي يكون ملكاً علي الكل (أف22:1). فكيف نزدري بمن هو واحد معنا في المسيح، والمسيح يملك علي كلينا. إن كان المسيح مات وبذل نفسه لأجل الناس فكيف نحزن الذي مات المسيح لإجله. (آية 15). إن كان المسيح مات ليقبل الكل فهل نرفض الناس لأنهم يأكلون أو لا يأكلون. إن المهم هو ربح النفوس فهذا ما يريده المسيح. وعلينا أن ننشغل بمن مات وقام عوضاً عن إنشغالنا بالإدانة. ونسلم له مشاعرنا لأن الإدانة:
1. تفسد أعماقنا إذ تحمل ازدراء الإخوة عوضا عن إتساع القلب لهم.
2. تسئ لله بكونه هو الديان الذي يخضع له الكل.
3. تعثر الآخرين.
آية (10): "وأما أنت فلماذا تدين أخاك أو أنت أيضاً لماذا تزدري بأخيك لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح."
لأننا كلنا سنقف أمام كرسي المسيح، فعلينا أن لا نزدري بأحد (من لا يأكل) ولا ندين أحد (من يأكل). وكرسي هنا تشير لكرسي القضاء فالمسيح هو الديان (يو22:5).
آية (11): "لأنه مكتوب أنا حي يقول الرب انه لي ستجثو كل ركبة وكل لسان سيحمد الله."
مكتوب= في (أش23:45) أنا حي= وفي أشعياء وردت أقسمت بهذا نفهم أن قول الله أنا حي أو حيٌ أنا يقول الرب، فإن الله بهذا يقسم. أن الإمتياز الذي ينفرد به الله هو أنه حي في ذاته. وبالمقارنة مع (في10:2،11) نجد أن بولس يطبق أن كل ركبة ستجثو للمسيح فهو بهذا فهم أن المسيح هو الله. وبولس هنا يرفع ذهن سامعيه إلي الإنشغال بالوقوف أمام كرسي الرب عوضاً عن الإنشغال بإدانة الناس. أي لننشغل باليوم الذي سندان فيه أمام الله عوضاً عن أن ننشغل بإدانة بعضنا.
آية (12): "فإذاً كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله."
كلُُ منا سيعطي حساباً لله عن نفسه وليس عن الآخرين.
آية (13): "فلا نحاكم أيضاً بعضنا بعضاً بل بالحري احكموا بهذا أن لا يوضع للأخ مصدمة أو معثرة."
وعلي هذا فلنمتنع عن محاكمة بعضنا البعض. لأن محاكمة الآخرين تضع أمامهم معطلات وعوائق تكون لهم مصدمة= ما يصطدم به الإنسان فيتعثر= ومعثرة. فعوضاً عن أن نحاكم الآخرين فنعثرهم فلنهتم برفع أي عثرة من أمامهم بمحبة، لنرفع عوائق المحبة وذلك بالإمتناع عن أكل ما يعثرهم حتى لو كان محللاً أكله من أجل ضعفهم (1كو19:9 +13:8).
آية (14): "أني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجساً بذاته إلا من يحسب شيئاً نجساً فله هو نجس."
خليقة الله طاهرة إن أكلناها بدون تشكك (مر14:7،15) وأما أن تشكك أحد أن شيئاً نجساً وأكله فهو بهذا يخالف ضميره الذي يشتكي عليه فيكون له هذا الشيء نجساً. (والكنيسة تصوم ليس لأن الطعام نجس، فنحن نعود لنأكله بعد الصيام بل نحن نصوم لقمع الجسد وتدريبه وتدبيره حسناً تحت قيادة الروح القدس). عالم ومتيقن في الرب يسوع= هذا الاقتناع أَلْهَمَني إياه إتحادي مع المسيح. بهذا المبدأ هنا فالرسول يقف في صف اليهودي المتنصر الذي تربي ضميره من خلال الناموس علي إعتبار أن بعض الأطعمة نجسة، فلو أكل منها تكون له نجسة فعلاً لأنه يخالف ضميره. ويقف أيضاً في صف الأمم الأقوياء بالإيمان لأن لا شئ نجس بذاته.
آية (15): "فإن كان أخوك بسبب طعامك يحزن فلست تسلك بعد حسب المحبة لا تهلك بطعامك ذلك الذي مات المسيح لأجله."
المحبة أهم بكثير جداً من الاقتناع بأن آكل لحماً محللاً فأعثر أحد. فإذا كان بسبب تناولك بعض الأطعمة أن يحزن أخوك (بل قد يرتد لليهودية فيهلك) أو يظن السوء بك ويتشكك في أنك تهين عقيدته فيهلك بسبب ضعفه، أو يقلدك ويأكل مما يعتبره هو نجسا ويخالف ضميره فيهلك (أية23). فبهذا فإنك لا تسلك بعد بما يتفق والمحبة لأنك تظل تتناول من الأطعمة وتتسبب في حزن أخيك الذي مات المسيح لأجله= فأنت بهذا تهلك نفساً مات المسيح لأجلها، فإن كان المسيح قد قدم نفسه لأجل أخيك، أفلا تقدم ما هو أقل وتترك طعاماً. ولقد نفذ بولس نفسه هذا المبدأ، فمع أنه غير مقتنع بالختان إلا أنه ختن تيموثاوس حتى لا يعثر اليهود الذين يخدم تيموثاوس وسطهم. وهذا المبدأ سائد علي كل من يعثر الناس فيما يعتقد أنه صحيح. ويكون بذلك سبباً في أنهم يهاجمون مسيحيته.
آية (16): "فلا يفتر على صلاحكم."
أفكارك ومعتقداتك عن الأكل بحرية هي معتقدات صالحة ولكن أخوك الضعيف سيتعثر فيك ويَفْتَرِي عليك قائلاً إنك غير صالح ويتكلم عليك بالسوء. ونحن لن نستطيع أن نمنع الإفتراء، ولكن علينا أن لا نكون سبباً فيه.
آية (17):لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس."
ملكوت الله= حين يملك الله علي القلب، ويخضع الإنسان خضوعاً قلبياً لسلطان الله. حينئذ لن يهتم الإنسان بالأكل والشرب= ليس أكلاً وشرباً= لن نفرح أو لن يكون فرحنا بسبب أكلات معينة أو أشربة معينة، وإمتناعنا عنها لن يكون سبباً في أن نفقد فرحنا. فنحن في ملكوت الله نحيا مع المسيح حياة سماوية في ملكوت السموات، يملأنا الروح القدس فيعطينا أن نحيا في بر وسلام وفرح أي نحيا نهتم أن نصنع البر ويمتلئ القلب سلاماً وفرحاً. إذاً إذا تركنا طعاماً لأجل إخوتنا لن نخسر شيئاً. ملحوظة: دعي عهد الإنجيل ملكوت الله، تمييزاً له عن عهد الناموس.
آية (18): "لأن من خدم المسيح في هذه فهو مرضي عند الله ومزكى عند الناس."
لأن= هي توضيح لما سبق... في هذه= من عاش يخدم المسيح صانعاً براً وقلبه مملوء سلاماً وفرحاً، (هذه هي السلام والفرح والبر) فهو مرضي عند الله ومزكي عند الناس الصالحين. مزكي= مشهود له بالنجاح في الإختبار، هو من قيل عنه من يغلب.. (رؤ7:2،11،17).
آية (19): "فلنعكف إذاً على ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض."
لتكن غايتنا حفظ السلام في الكنيسة ووحدتها بعيداً عن الإنشقاقات. فلا بنيان للكنيسة دون محبة ولا تثبيت لعمل الله دون سلام. فليحتمل القوي الضعيف حتى تبني الكنيسة.
آية (20): "لا تنقض لأجل الطعام عمل الله كل الأشياء طاهرة لكنه شر للإنسان الذي يأكل بعثرة."
لا تنقض= عمل الله كان الفداء ومازال يعمل لبنيان الكنيسة (19) أما منازعات الإنسان فهي تهدم ما يبنيه الله. ومعني الآية أن لا تحاول بمثل هذه الأمور غير الجوهرية في العبادة (كالأطعمة) أن تعطل وتعوق عمل الخلاص الذي دبره الله من أجل أخيك. والرسول سبق وقال لا تكن بأكلك سبباً في هلاك أخيك. وهنا يقول لا تكن سبباً في نقض عمل الله. فهل يمكن أن أُهْلِكْ أنا بتصرفاتي إنساناً إختاره الله أو أنقض ما يبنيه الله؟! من المؤكد هذا لا يجوز. وإذا فعلت فأكون في صف الشيطان الذي يريد هلاك الجميع ونقض كل بنيان. بل أكون ضد الله الذي يريد خلاص الجميع، وأقاوم الله. ولاحظ أن الرسول يسمي المؤمنين عمل الله ويسميهم في (1كو9:3) فلاحة الله وبناء الله وهيكله. شر للإنسان الذي يأكل بعثرة= تعني:
1. أن يأكل إنسان بضمير مرتاب فيصبح مُعْثَراً.
2. يأكل أمام يهودي متشكك فيصير عثرة له (مُعْثِراَ).
آية (21): "حسن أن لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً ولا شيئاً يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف."
جميل أن تأكل بإيمان قوي والأجمل أن لا تفعل ما يُعْثِرْ أخوك. فاللحم والخمر ليسا لازمين للحياة البشرية، والأهم نفس أخي.
آية (22): "ألك إيمان فليكن لك بنفسك أمام الله طوبى لمن لا يدين نفسه في ما يستحسنه."
هل لك إيمان صحيح فيما يختص بالأطعمة... هذا حسن ليكن لك هذا الإيمان في نفسك وليعرفه الله فقط، ولا تتباهي بإيمانك القوي علي من مازال إيمانه ضعيفاً. وكلمة إيمان هنا لا تعني الإيمان بالمسيح الذي يبرر، فهذا لابد أن يُعلَن، بل يقصد الرسول هنا بكلمة الإيمان.. الحرية التي أعطتنا أن نتحرر من الناموس وصارت لنا المعرفة السليمة، ولكن هذه تسبب تشكك الآخرين. طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه. (هذه تشبه 1يو21:3). فطوبى للإنسان الذي لا يشعر بتأنيب ضميره عندما يفعل هذا الذي سبق وفحصه بكل تدقيق وإستحسن فعله. لكنه خطر جداً أن يسمح الإنسان بأن يفعل شيئاً ضد ضميره من أجل اللذة أو المنفعة لأن قلبه (ضميره) سيوبخه. فإن وبخه ضميره علي شئ ما وفعله ففي هذا تحدٍ لله وإستهتار بوصايا الله.
آية (23): "وأما الذي يرتاب فإن أكل يدان لأن ذلك ليس من الإيمان وكل ما ليس من الإيمان فهو خطية."
كل من يأكل وهو متشكك يدان فلماذا؟ هو ضعيف الإيمان، هذا هو قياس إيمانه حسب ما أعطاه له الله. فلو أكل يخطئ ضد إيمانه الذي قسمه له الله بالعدل حسب احتياجه للخلاص ليكون كفيلاً بخلاصه. ويكون بأكله قد خَرَّب ميزان خلاصه بيده لأنه إن تعارض مع الضمير ما عمله فيصرخ الضمير يوم الدين شاكياً صاحبه ومحتجاً. وسيكون ضميره أداة دينونته لأنه سيكون قد أكل وشرب حسب شهوته وضد ضميره. فكل شئ لا يتم بإقتناع وإيمان باطني فهو خطية.
الإصحاح السابق اهتم بوضع الأطعمة المحللة والمحرمة، واهتم بأن كل واحد لا يعثر أخيه ولا يدين أخيه بل نقدم المحبة علي المعلومات وأن نقبل الأشياء البسيطة ولكن هذا الكلام لا ينطبق علي العقائد، فلا يصح أن تقبل الكنيسة إيماناً مشوهاً بحجة المحبة، وكأمثلة لما يمكن أن نقبله بمحبة "من ضربك علي خدك الأيمن 0000" أي سامح فيما هو يخصك لا فيما يخص العقيدة "البتولية والزواج00" أختر ما تريد "وطوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه " من سخرك ميلاً فسر معه أثنين حتى تربح أخيك للإيمان.
إذا ملخص الإصحاح السابق أن نتغاضى عن الأشياء الصغيرة التي عند الضعفاء المتشككين حتى نكسبهم للمسيح لكن ليس علي حساب الإيمان المسلَّم مرة للقديسين (يه3).
ولكن هذا الإصحاح السابق يبدأ بما أسماه الرسول سر المسيح أي قبول الأمم في الكنيسة مع اليهود الذين يؤمنون. وطلب الرسول هنا أن يحيا الكل في محبة وتوافق وإنسجام (هارموني) فينسكب عليهم الروح القدس "هوذا ما أحسن وما أحلي أن يجتمع الأخوة معاً. مثل الدهن الطيب علي الرأس النازل علي اللحية. لحية هرون" (مز 1:133، 2).
1. الزيت (رمز للروح القدس ) والرائحة الزكية ( رمز للمسيح 2كو15:2). واللحية هي الكنيسة المجتمعة في محبة. تخرج منها إذاً رائحة المسيح الزكية التي تجذب الآخرين.
2. كل عضو في الكنيسة له عمل (نغمة معينة) فلو كان الكل لهم فكر واحد لكان الجميع في هارموني، الكل يعمل عمله فيخرج من هذه الكنيسة صوت المسيح الحلو– يجذب الآخرين.
3. كل واحد له موهبته، وهَبْ أن كل موهبة لها لون من ألوان الطيف فلو إهتم كل واحد أن يستخدم موهبته لمجد إسم المسيح لإجتمعت ألوان الطيف وخرج منها اللون الأبيض، لون المسيح شمس البر.
هنا نري الكنيسة قد تجمعت من أمم ويهود والرسول يقول أنه علي الكنيسة أي كل عضو فيها أن يقبل الآخر بانفتاح قلب محتملين ضعف الضعفاء أياً كان ماضيهم فيخرج من الكنيسة صوت ورائحة ولون المسيح الحلو.
نحن الأقوياء= الله هو الذي أعطانا الإيمان القوي وهذا دين علينا أن نسدده، بأن نتحمل ضعف الضعفاء= فالله نزل الينا يحمل ضعفنا ليرفعنا لكمال قوته وبهائه ومجده فلنحتمل نحن ضعف إخوتنا إن كان المسيح قد احتملنا وهو الذي لا يقصف قصبة مرضوضة (علي أن لا نقبل إيماناً مشوهاً) ولا نرضي أنفسنا= علينا أن لا نفعل فقط ما تحبه نفوسنا وما يرضيها.
آية (2): "فليرض كل واحد منا قريبه للخير لأجل البنيان."
علينا أن نفعل ما يرضي الآخرين ولما فيه خيرهم وبنيانهم (وليس لأجل الخطية) ونموهم في الفضيلة.
آية (3): "لأن المسيح أيضاً لم يرض نفسه بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت علي."
المسيح لأجلنا تجسد وإفتقر وتألم ولم يكن له أين يسند رأسه، وعاش علي المساعدات، ورفض الملك، وأطاع حتى الصليب وغسل الأرجل.. هو أخلى ذاته محتملاً ضعفاتنا. فالذي له كل المجد قبل هذا أفلا أقبله أنا لأربح أخي.
بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ:
1. قالوا للمسيح علي الصليب إن كنت إبن الله أنزل.. خَلَّصَ آخرين ولم يقدر أن يخلص نفسه، فالمسيح إحتمل التعيير علي الصليب.
2. بل أن كل خطايا العالم هي موجهة لشخص الآب، وعلي الصليب إحتمل المسيح كل هذه التعييرات والإهانات التي وجهها العالم لشخص الآب. ومات المسيح مصلوباً ليحمل خطايا الجميع بالإضافة للتعييرات التي وجهت لشخص المسيح. والآية من (مز9:69،10). ومعني كلام بولس لهم أنكم أنتم الأقوياء صرتم هكذا أقوياء لأن المسيح إحتمل التعيير (للآب ولهُ) حاملاً ضعفكم وعار خطاياكم. إذاً فلنسند نحن الضعفاء كما فعل المسيح معنا.
آية (4): "لأن كل ما سبق فكتب كتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء."
لأن كل ما كتب= هذا المزمور الذي أشار إليه في آية3 وغيره بل كل ما كتب في العهد القديم كتب لأجل تعليمنا. فالعهد القديم ليس مجموعة من القصص والأقوال، بل هو رمز للمسيح وشهادة له، لتعليمنا وتحذيرنا وتعزيتنا في وقت الألم ولنتمسك بالرجاء المقترن بالصبر والتقوية التي تعطيها الكتب المقدسة.
الآيات (5،6): "وليعطكم إله الصبر والتعزية أن تهتموا إهتماماً واحداً فيما بينكم بحسب المسيح يسوع. لكي تمجدوا الله أبا ربنا يسوع المسيح بنفس واحدة وفم واحد."
الرسول هنا يتوقف للصلاة ، فالكلام والوعظ بدون صلاة يصير بلا فائدة ولا فاعلية. فالوعظ يخاطب الأذن، أمّا الله فيخاطب القلب. ونلاحظ أن الرسول في آية4 نسب الصبر والتعزية للكتب المقدسة ونسبها هنا لله كمصدر لها، فهو إله الصبر والتعزية. فالمصدر هو الله، لكنهما يصلان أيضاً لنا عبر الكتاب المقدس. وصلاة بولس أن يهتموا اهتماماً واحداً= وهذه الكلمة تعني إنسجام الفكر بحيث لا يطغي فكر علي فكر. هذه الكلمة تعني هارموني (اهتماماً واحداً) والهارموني في الموسيقي هو أن يكون هناك عدة نغمات وعدة أصوات من آلات متعددة ولكنها كأنها صوت واحد، أي تعطي لحناً جميلاً من نغمات مختلفة لكنها متوافقة ولو لنا كلنا فكر المسيح، ولنا هدف واحد هو مجد المسيح يحدث هذا الإنسجام.
فمثلاً هناك أنشطة متعددة للخدام داخل الكنيسة، ونجد كل خادم له نشاط يميزه ( ألحان / ترانيم / درس كتاب / تاريخ كنيسة / طقوس / إدارة / خدمة مرضي ومسنين / تدريس دروس مدرسية للطلبة..) لو الكل أدي دورة باحثاً عن مجد المسيح، وهذا هو الفكر الواحد يحدث الهارموني أو الإنسجام ويظهر المسيح في هذه الكنيسة. ولو حدث هذا نكون بحسب المسيح يسوع= أي وفق مشيئته .وبهذا تمجدوا الله= كما نصلي "ليتقدس اسمك" والله يتمجد لو كنا نخدمه ونعبده ونسبحه بروح واحد ولسان واحد، أي يكون لنا الفكر الواحد بلا شقاق ولا نزاع. بنفس واحدة= تشير لوحدة الإرادة وهدف المسيح هو الوحدة بين المؤمنين (يو21:17-23). وفم واحد= أي يكون هناك إعتراف بحق الله ونسبحه بالفم، هنا نري قلوب متحدة وأفواه متحدة بمحبة هدفها مجد الله، وهذا ما يطلبه الله.
آية (7): "لذلك إقبلوا بعضكم بعضاً كما أن المسيح أيضاً قبلنا لمجد الله."
أقبلوا بعضكم= إن كان المسيح قَبِلَنَاَ فهل لا نقبل بعضنا البعض. المسيح سامحنا في 10.000وزنة فهل لا نسامح إخواتنا في 100 دينار. لمجد الله= أي أن المسيح قبلنا لنمجد الله (وبهذا نتمجد نحن في الدهر الآتي) والله يتمجد إن اعترفنا بالمسيح وآمنا به. إذاً ليقبل القوي الضعيف وليقبل الضعيف القوي، واليهود يقبلون الأمم والأمم يقبلون اليهود.
آية (8): "وأقول أن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء."
خادم= المسيح أتى ليَخِدم لا ليُخدَم. خادم الختان= أي أن المسيح أكمل الناموس ونفذه وإختتن هو نفسه، وهو كان من اليهود الذين يختتنوا (هو جاء لخاصته ولكن خاصته لم تقبله) فكيف يُحْتَقَرْ اليهود والمسيح منهم وهو التزم بناموسهم. من أجل صدق الله= الله أعطي وعداً لإبراهيم وكان مجيء المسيح ليكمل هذا الوعد، وليحمل الغضب عن الساقطين الذين خانوا العهد من أولاد إبراهيم. في هذه الآية نري المسيح يقبل اليهود وفي الآيات القادمة نجده يقبل الأمم، إذاً إن كان المسيح قبل اليهود والأمم، وصار الجميع في المسيح فليقبل كل واحد الآخر.
آية (9): "وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة كما هو مكتوب من أجل ذلك سأحمدك في الأمم وأرتل لاسمك."
هنا نري الله يقبل الأمم. وأما الأمم فمجدوا الله= بإيمانهم بالمسيح. هم مجدوه من أجل مراحمه لهم إذ قبلهم= من أجل الرحمة= وهذا أيضاً سبق وأشار إليه سفر المزامير (18: 49) فهذا المزمور نبوة بأن الإنجيل سيكرز به وسط الأمم وسيسبح الأمم المسيح علي رحمته. سأحمدك= هنا المسيح كرأس لكنيسته يتكلم باسم كنيسته من الأمم ويوجه شعبه لتسبيح وشكر الآب.
آية (10): "ويقول أيضاً تهللوا أيها الأمم مع شعبه."
كان اليهود لا يسمحون للأمم أن يشتركوا معهم في أعيادهم، ولكنهم بالمسيح صار الكل شركاء في آلام وفرح الكنيسة، صاروا شركاء تسبيح لله (تث43:32)
آية (11): "وأيضاً سبحوا الرب يا جميع الأمم وإمدحوه يا جميع الشعوب."
هذه من( مز1:117). لقد سبح الأمم آلهتهم زماناً والآن يسبحون الله.
آية (12): "وأيضاً يقول إشعياء سيكون أصل يسى والقائم ليسود على الأمم عليه سيكون رجاء الأمم."
هذه من( أش1:11). ونبوة إشعياء معناها أن يسي سيكون مثل الأصل الذي يتفرع منه نسل جديد، والمسيح الذي سيجيء من هذا الأصل سيؤمن به الأمم. والآيات من (أش1:11،10) (سبعينية).
آية (13): "وليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس."
في الآيات السابقة (8-12) رأينا الله يقبل اليهود والأمم، الله قبلهما كليهما، فعليهما إذاً أن يقبلوا بعضهما البعض ويعيشوا في محبة وإذاً إمتلأ الجميع محبة سيمتلئ الجميع من الروح القدس الذي سيملأ الجميع فرح ورجاء.
آية (14): "وأنا نفسي أيضاً متيقن من جهتكم يا إخوتي أنكم أنتم مشحونون صلاحاً ومملوؤون كل علم قادرون أن ينذر بعضكم بعضاً."
نلاحظ رقته في الحديث هنا بعد ان سبق وأنبهم وذلك ليشجعهم ويصفهم هنا بأنهم مشحونون صلاحاً بعد أن قال عن الأمم أنهم مملؤون من كل أثم (رو29:1-31) ولكن النعمة تغير من حال إلى حال. وبالرغم من أنه سمع عنهم فقط نجده يقول أنه متيقن، "فالمحبة تصدق كل شيء" (1كو7:13). ونسب لهم موهبة الكلام والوعظ قادرون أن ينذر بعضكم بعضاً.
آية (15): "ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئياً أيها الاخوة كمذكر لكم بسبب النعمة التي وهبت لي من الله."
بأكثر جسارة= هذه نابعة من شدة الغيرة والمحبة لهم. جزئياً= ترجمتها في بعض الأجزاء من الرسالة، أي أنه كان متجاسراً عليهم في بعض أجزاء الرسالة ( خصوصاً الإصحاحات1-3 ) كمذكر لهم= لاحظ تواضع الرسول فهو يقول لهم أنتم تعرفون كل ما كتبته، إنما كتبته لأذكركم ونحن للآن وبعد 2000 سنة نحاول أن نفهم هذه الرسالة.
آية (16): "حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم مباشراً لإنجيل الله ككاهن ليكون قربان الأمم مقبولاً مقدساً بالروح القدس."
هي إمتداد لآية15 فالنعمة التي وهبها الله له، وهبها له لكي يخدم الأمم =حتى أكون خادماَ ليسوع لأجل الأمم. ككاهن= بولس كاهن مُنِحَ سر الكهنوت بوضع الأيدي بعد أن إختاره الله هو وبرنابا (أع2:13،3) وهو إستغل فكرة أنه كاهن، والكاهن عمله أن يقدم ذبائح ( دموية في العهد القديم ، وإفخارستية في العهد الجديد) وقال أنه يقدم الأمم ذبائح حية بسكين عقلية ( العبادة العقلية).
بولس هنا يصور علي أنه يقدم الأمم ذبيحة بكلمة الله التي هي سيف ذي حدين (عب12:4) تعمل عملها في الإنسان وتحوله لذبيحة حية مقدسة مقبولة لدي الله لذلك يُصوَّر بولس الرسول في الغرب وهو ممسكاً في يده سيف الذي هو سيف الكلمة، يقدم الأمم به ذبيحة ليصيروا مقبولين بالروح القدس= أي ليس فقط إيمانهم بل بسلوكهم بالروح.
الآيات (17،18): "فلي إفتخار في المسيح يسوع من جهة ما لله.لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل."
فلي إفتخار في المسيح= بولس يفتخر بكهنوته وخدمته التي أعطاها له الله، ولا يفتخر بنفسه، وعمله الذي يفتخر به هو كهنوته وكرازته وأن الله إئتمنه علي هذه الخدمة وإعتبر هذا كرامة له أنه يعمل عند الله.
قصة: ذهب كاهن حديث لأبيه الروحي يتحدث في ندم عن تركه عمله الذي في العالم إذ كان عمله مهماً، فقال له أبوه الروحي: "ماذا تركت لقد تركت نفاية، وأخذت مجد خدمة المذبح وحمل جسد المسيح بين يديك" بولس هنا لا ينظر للإهانات التي توجه له الآن بل ينظر في إيمان ورجاء للمجد المعد له. وقوله في المسيح يشير لأن المسيح وحده هو الكاهن الحقيقي وليس كهنوت سوي في المسيح. ولا يوجد راعي سوى في المسيح ولأجل المسيح، يسوع هو الكاهن الأعظم الحقيقي ونحن الكهنة ليس إلاّ أدوات في يده. من جهة ما لله= العمل والكرازة والخدمة وخلاص النفوس، كل هذا هو عمل الله، والله أيد البشارة والكرازة.
آية (19): "بقوة آيات وعجائب بقوة روح الله حتى أني من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح."
بقوة روح الله= هذه التي جعلت الكرازة فعالة الليريكون= إقليم واقع شرق بحر الإدرياتيك غالباً بلغاريا. هو يشرح ويقدم لهم خدمته ليصلوا عنه. ونلاحظ أن الله أيده ودعمه بواسطة عمل معجزات أيضاً.
آية (20): "ولكن كنت محترصاً أن أبشر هكذا ليس حيث سمي المسيح لئلا أبني على أساس لآخر."
هو لا يطلب الشهرة أو المجد أو الخدمة السهلة. بل هو يتمني أن يكون أداة في يد الله لتصل كلمة الكرازة لكل العالم الوثني الذي لم يصل إليهم أحد قبله. هو لا يريد أن يتعدي حقوق الآخرين ويسلب إستحقاقاتهم وأتعابهم. وبناء علي هذه الآية فبطرس إذاً لم يكن موجوداً في روما، ولا هو أسس كنيسة روما.
آية (21): "بل كما هو مكتوب الذين لم يخبروا به سيبصرون والذين لم يسمعوا سيفهمون."
أنني أبشر بالإنجيل وسط الأمميين وعابدي الأوثان ليصل الإنجيل لكل إنسان وتتحقق نبوة إشعياء (إش15:52) لذلك فأنا أبحث عن المكان الذي لم يبشر فيه بإسم المسيح لأذهب له.
آية (22): "لذلك كنت أعاق المرار الكثيرة عن المجيء إليكم."
هنا يعبِّر لهم الرسول عن اشتياقه للذهاب إليهم في روما. ولكن الله كان يكلفه بالكرازة في أماكن أكثر احتياجاً للكلمة من روما. فالعناية الإلهية تتحكم في أمور الخدمة والكرازة. فالله يعرف من هو الأكثر إحتياجاً. الله كان يعرف أن في روما أناساً يعرفون المسيح، لكن هناك أماكن كثيرة مازالت لم تسمع عن المسيح.
آية (23): "وأما الآن فإذ ليس لي مكان بعد في هذه الأقاليم ولي إشتياق إلى المجيء إليكم منذ سنين كثيرة."
كان الرسول يتكلم من اليونان، و يري أنه بشر في معظم أقاليمها، وله إشتياق الآن أن يذهب إلى روما عاصمة العالم الوثني آنذاك.
آية (24): "فعندما اذهب إلى أسبانيا آتى إليكم لأني أرجو أن أراكم في مروري وتشيعوني إلى هناك أن تملأت أولاً منكم جزئياً."
فعندما أذهب إلى أسبانيا= كانت نيران الكرازة تلتهب في داخله ويريد أن يخدم الإنجيل في كل العالم. تملأت= هي كلمة تقال من الأب والأم لأولادهما وتعبر عن شدة المحبة وتعني أريد أن أملأ عيني منكم وتعني أنني سأستمتع بلقائكم. جزئياً= تعني أنه مهما أقام في وسطهم فإنه لا يمكن أن تشبع نفسه من رؤيتهم، ومهما نظر لهم فإن شبعه سيكون جزئياً.
آية (25): "ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين."
لأخدم القديسين= لم يقل لأعطيهم فما يفعله هو خدمة، وهو بهذا يعتذر عن أنه لم يأتي إلى روما بسبب إنشغاله بخدمة فقراء أورشليم الذين سُلِبَتْ أموالهم هنالك (عب34:10). فليس غريباً أن يكون هناك فقراء في أورشليم. وربما نشأ هذا عن مجاعة حدثت أيام كلوديوس قيصر (أع28:11-30). وهذه المجاعة أثرت خصوصاً علي إسرائيل.
آية (26): "لأن أهل مكدونية وأخائية إستحسنوا أن يصنعوا توزيعاً لفقراء القديسين الذين في أورشليم."
إستحسنوا= أي فعلوا هذا بدون ضغط. يصنعوا توزيعاً= شركة القديسين. وأليس غريباً أن يكون القديسين فقراء، حقاً كثيراً ما يغضب العالم عمن يرضي عنهم الله. وكان بولس سوف يحمل هذه الهبات والعطايا إلى أورشليم. ولكنه هو هنا لا يدعوهم للعطاء من أجل أورشليم، وإلا لكان قد ذهب إلى روما أولاً. لكن الرسول يقصد أن يشرح لأهل روما مفهوم الجسد الواحد بين اليهود والأمم. فأهل مكدونية وأخائية (إقليمين يكونان معاَ اليونان) وهم من الأمم يشتركون مع أهل أورشليم وهم يهود أصلاً وذلك ليتعلم أهل روما أمماً ويهود أن يتعايشوا بمحبة.
آية (27): "إستحسنوا ذلك وأنهم لهم مديونون لأنه أن كان الأمم قد اشتركوا في روحياتهم يجب عليهم أن يخدموهم في الجسديات أيضاً."
استحسنوا= بحريتهم وليس من رجاء لبولس لهم ولا بإيحاء منه. هذا فضل منهم، ومن ناحية أخري فإن أهل مكدونية مديونون لأهل أورشليم الذين هم يهود أصلاً، فمن اليهود خرج المسيح والأنبياء والكتب المقدسة والتلاميذ والرسل، وانحدرت النعمة لكل العالم وللأمم. لذا صار واجباً علي الأمم أن يشتركوا في إحتياجات أورشليم المادية لأنهم نالوا من خيرات أورشليم الروحية.
آية (28): "فمتى أكملت ذلك وختمت لهم هذا الثمر فسأمضي ماراً بكم إلى أسبانيا."
ختمت= تعني:-
1. أنهيت وأكملت لهم هذه الخدمة.
2. الرسول كان سيختم علي وثيقة أمام شهود لأهل أورشليم بأنه سلمهم هذه الأموال، حتى لا يتشكك أحد في نزاهته. ويكون بعد ذلك قد أتم مسئوليته.
هذا الثمر= هذه العطايا هي ثمار إيمان الأمم. هي إحدى ثمار برَّهُمْ الذي بالإيمان، ثمار محبتهم التي نالوها بالروح القدس. أسبانيا= بولس شعلة نشاط يريد أن يوصل الرسالة لكل العالم.
آية (29): "وأنا اعلم أني إذا جئت إليكم سأجيء في ملء بركة إنجيل المسيح."
بركة الإنجيل تشمل= ( كلمة بركة تشير لعطايا الله الحلوة للمؤمن )
التعرف علي شخص المسيح= فالإنجيل هو كلمة الله، والمسيح هو كلمة الله، فحينما نسمع كلمة الله المكتوبة في الإنجيل ونقرأها نكتشف شخص المسيح فنعرفه ونحبه وتملأ محبته القلب فيمتلئ القلب فرحاً عجيباً. ومن يحبه يحفظ وصيته ويسلك في الفضيلة، ويسكن عنده الآب والابن ( يو23:14).
انفتاح الذهن= لفهم كلام الإنجيل، لأن المكتوب مكتوب بالروح، ولا يكشف معني المكتوب بالروح إلاّ ذهن مفتوح بالروح القدس (لو45:24) وحينما يصرخ الشماس عند قراءة الإنجيل "بركاته تكون مع جميعنا آمين" فهو صراخ أن ينسكب الروح فنفهم وندرك قوة الفداء والخلاص والتبني والمصالحة، وحب الله، فالإنجيل يحمل رسالة الخلاص. ومن يفهم يرتفع إيمانه ويتشدد رجاءه وتتقوي عزيمته علي مواجهة صعاب العالم.
فاعلية الكلمة= الكتاب المقدس هو مرآة تكشف عيوبنا وخطايانا، وكلمة الله كسيف ذي حدين بها نولد من جديد ( عب4: 12+ 1بط1: 23 ) والمعني أن لها قوة علي بتر محبة الخطية داخل القلب فنكون كمن ولدنا من جديد بطبيعة جديدة. وهذا أهمية المداومة علي قراءة الكتاب المقدس. فالكلمة تحمل قوة الروح والحياة (يو63:6). هي تتفاعل مع الإنسان وتحرك ضميره فيكشف عيوبه وتبدأ الدينونة الذاتية، ويبدأ الروح القدس في التبكيت، ويذهب الإنسان ليعترف، الكلمة يكون لها سلطان علي النفس وتسود بقوتها وقداستها فيتغير الذهن ويتجدد ويتغير شكل الإنسان إلى صورة المسيح ليتوافق مع الحياة المدعو إليها.
وبولس يؤكد لأهل رومية أنه حينما يأتي إليهم سينالوا جميعاً ملء بركة الإنجيل وينمو الجميع في الإيمان والفضيلة، وهذا يتفق مع ما قاله في (رو11:1) لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم".
آية (30): "فأطلب إليكم أيها الاخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي في الصلوات من أجلي إلى الله."
محبة الروح= المحبة التي أثمرها الروح القدس في نفوسكم. أن تجاهدوا معي في الصلوات= الصلوات المتبادلة هي دليل المحبة. والمحبة دليل عمل الروح لذلك نحن نؤمن بالشفاعة، هم يصلون عنا ونحن نصلي عنهم. ولاحظ أن الرسول يصلي عنهم (1: 9،10+ 15: 33). وهنا يطلب صلواتهم . بربنا يسوع المسيح أطلب منكم بإسم المسيح. ولاحظ أن الرسول يعتبر أن الصلاة هي جهاد روحي= أن تجاهدوا . والصلاة بعضنا لبعض هي ما يسمي الشفاعة التوسلية.
آية (31): "لكي أنقذ من الذين هم غير مؤمنين في اليهودية ولكي تكون خدمتي لأجل أورشليم مقبولة عند القديسين."
لكي أنقذ= فالروح القدس أعلن له، ما سيحدث له في أورشليم وكانت زيارته هذه لأورشليم هي الزيارة الأخيرة حيث ألقوا القبض عليه فهو كان شاعراً بكل المخاطر المقدم عليها. لذلك طلب الصلاة لأجله. لكي تكون خدمتي مقبولة= كان الرسول خائفاً أن لا يكون مقبولاً عند القديسين مسيحيي أورشليم الذين هم يهوداً أصلاً بسبب تحرره من الناموس.
آية (32): "حتى أجيء إليكم بفرح بإرادة الله وأستريح معكم."
سيذهب إليهم في روما فرحاً إذا قبلوا خدمته في أورشليم.
آية (33): "إله السلام معكم أجمعين آمين."
كما طلب منهم أن يصلوا لأجله، هاهو يصلي لأجلهم ليكون بينهم سلام. كما يصلي الكاهن قائلاً إيريني باسي (السلام لكم) ويرد الشعب ولروحك أيضاً (كيطو بنيفما تي سو).
هذا الإصحاح به أسماء كثيرة يرسل لهم الرسول السلام أو يرسل منهم السلام لأهل روما. هذا الإصحاح يبدو كحامل أيقونات، كلهم قديسين أطلق عليهم الرسول ألقاب حلوة (أحباء/ أنسباء/ عاملون معنا في الرب/ التاعبة في الرعب) لكل شخص لقب محفور في قلب الرسول (لاحظ أهمية تشجيع الناس ومدحهم في إجتذابهم للكنيسة). ويمكن تشبيه هذه الصورة بلوحة الشرف في المدارس التي يوضع فيها صور وأسماء المتفوقين من الطلبة. فهؤلاء القديسين بحياتهم المملوءة نعمة أثبتوا أن ما علم به بولس في الرسالة ليس مجرد معلومات نظرية بل هي حياة يمكن أن يعيشها كل إنسان، بدليل أن هؤلاء القديسين عاشوها. هذا لتشجيع الناس في كل الأجيال أن المسيحية عقيدة تعاش وليست نظريات. بل أن النعمة التي حدثنا عنها تحول البشر إلى قديسين.
هذا الإصحاح هو صورة حية ومبهجة وفعّالة عن الحياة المسيحية في العصر الرسولي. في الإصحاحات السابقة ظهر بولس كرجل مقتدر في العلم والعقيدة، وهنا يظهر كرجل مقتدر في المحبة، فهذه السلامات تظهر محبته للجميع. وكثيراً ما نشعر أن الرسول سينهي رسالته بقوله آمين (33:15+ 20:16،24) لكنه يعود ليكمل حديثه كأنه لا يود من محبته أن ينهي الحديث معهم.
الآيات (1-15): "أوصي إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا. كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتقوموا لها في أي شيء احتاجته منكم لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضاً. سلموا على بريسكلا وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع. اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي اللذين لست أنا وحدي أشكرهما بل أيضاً جميع كنائس الأمم. وعلى الكنيسة التي في بيتهما سلموا على أبينتوس حبيبي الذي هو باكورة أخائية للمسيح. سلموا على مريم التي تعبت لأجلنا كثيراً. سلموا على أندرونكوس ويونياس نسيبي المأسورين معي اللذين هما مشهوران بين الرسل وقد كانا في المسيح قبلي. سلموا على أمبلياس حبيبي في الرب. سلموا على أوربانوس العامل معنا في المسيح وعلى أستاخيس حبيبي. سلموا على أبلس المزكى في المسيح سلموا على الذين هم من أهل أرستوبولوس. سلموا على هيروديون نسيبي سلموا على الذين هم من أهل نركيسوس الكائنين في الرب. سلموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب سلموا على برسيس المحبوبة التي تعبت كثيراً في الرب. سلموا على روفس المختار في الرب وعلى أمه أمي. سلموا على أسينكريتس فليغون هرماس بتروباس وهرميس وعلى الاخوة الذين معهم. سلموا على فيلولوغس وجوليا ونيريوس وأخته وأولمباس وعلى جميع القديسين الذين معهم."
فيبي= هي التي حملت الرسالة إلى رومية من كورنثوس، لذلك يقدمها بولس لهم ليقبلوها حسناً. تقبلوها في الرب= أي كأنها قادمة باسم المسيح الذين هم فيه وهي فيه أيضاً. وهو يوصيهم بفيبي مع أنه لم يكن يخدمهم خدمة مباشرة ولكنها دالة ورباطات المحبة التي يشعر بها، فهو بمحبته الكبيرة لهم شعر أنه ليس غريباً عنهم بل صاحب دالة عليهم. وكما يهبهم حبه يطلب حبهم، هو واثق أنه كما يحبهم فهم أيضاً يحبونه. وقد تكون فيبي من أصل وثني لأن فيبوس إسم آلهة وثنية. ويبدو أن فيبي كانت غنية وذات مركز اجتماعي مرموق. وقد تكون مصالحها إستدعت وجودها في روما فهي تبحر لأجل التجارة، وفي رحلتها هذه حملت معها رسالة بولس الرسول إلى رومية. وقد أقيمت كشماسة للكنيسة التي في كنخريا (ميناء يبعد 9ميل شرق كورنثوس). وكان لها خدمتها الفعالة في الكنيسة. والرسول دعاها أخته، وهي أخته في المسيح. وهو يوصي مسيحيي روما بها وهي في غربتها. وكانت خدمتها التوزيع والضيافة وخدمة مرضى وغرباء. وربما كان المؤمنون يجتمعون في بيتها في كنخريا نظراً للإضطهاد في كورنثوس (أع12:18). كما كان أهل فيلبي يجتمعون خارج المدينة عند نهر (أع13:16). وبولس نراه هنا يعترف بجميلها. فالإعتراف بالجميل أقل شئ لرد الجميل. كما يحق للقديسين= أن تنال إستحقاق القديسين. أكيلا وبريسكلا= (أع2:18،18،26+ 1كو19:16+ 2تي19:4). هما يهوديان صانعي خيام، من نفس مهنة بولس فأقاما معاً. تركا روما كأمر كلوديوس قيصر سنة 49م. الذي طرد جميع اليهود من روما لكنهم عادوا ثانية. وكانا تاجرين غنيين وتقيين. ويبدو أن الزوجة كانت أكثر غيرة فذكرها الرسول أولاً. التقى بهما الرسول لأول مرة في كورنثوس وبقي معهما 18شهراً، وذهب معهما إلى أفسس، ثم رجعا هما إلى روما. وأينما وجدا فتحا بيتهما كنيسة للعبادة ولخدمة الغرباء (هل يمكن أن يكون بيت كل منا كنيسة أي بيت صلاة وتسبيح). وهما عَرَّضا حياتهما للخطر لأجل بولس (أع6:18-10+ 31:19،32) وخبآ الرسول (أع12:18،17). لذلك يقدم لهما الشكر. وهما اللذان بشرا أبلوس. أبينتوس= كلمة يونانية تعني مستحق للمديح، أول من قبل الإيمان في آسيا الصغرى على يد الرسول. وقد يكون من بيت إستفاناس (1كو15:16) ويدعوه حبيبي، وهي دعوة لرد الحب بالحب فيخدم الكنيسة بلا توقف. مريم= يبدو أن خدمتها كانت الضيافة في بيتها. فالمرأة وإن كانت لا تخدم خدمة الكلمة إلاّ أنها قادرة على جذب كثيرين. أندرونيكوس ويونياس= هما يهوديان قد يَمْتًّانْ بصلة قرابة للرسول أو قال نسيبيَّ لأنهما يهوديان مثله. إحتملا السجن معهُ في وقت غير معروف. يعتز بهما لأنهما عرفا المسيح قبله. ولهما دورهما الهام في الخدمة حتى صارا مشهورين بين الرسل بسبب خدمتهما. وكلمة رسل تعني أنهما كانا رسولين مشهورين وسط الرسل، فكان هناك رسل كثيرون يبشرون بالإنجيل وهم غير الرسل الإثنى عشر وقيل أنهما من السبعين رسولاً. روفس= يقال إنه ابن سمعان القيرواني الذي حمل الصليب مع المسيح (مر21:15). وقد شهد لأم روفس أنها في محبتها للرسول وخدمتها له صارت كأماً له. ومرقس يذكره كشخصية معروفة في روما.
آية (16): "."سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة كنائس المسيح تسلم عليكم."
سلموا= "أسباذيستا" أي قبلوا. والكنيسة أخذت بتعليم بولس الرسول في قداساتها. وهي إعلان حالة شركة بالروح تحتم الصفح الكامل، هي عهد سلام في حضرة الله. وبعد أن عدد الرسول بعض الأسماء نجده يُعلن حب الكنيسة كلها بعضها لبعض. فالكنيسة في كل مكان تشعر أنها جسد واحد. والقبلة في الكنيسة بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء قطعاً. (1كو20:16+ 1تس26:5+ 1بط14:5). والقبلة المقدسة ليست قبلة شهوانية ولا هي قبلة خائنة كقبلة يهوذا.
ملحوظات:
1. بولس عرف هؤلاء غالباً أثناء طردهم من روما على يد كلوديوس قيصر، إذ ذهبوا لليونان لكنهم عادوا إلى روما ثانية.
2. لا نجد في هذه الأسماء إسم بطرس مما يشكك في وجوده في روما ومع أن بولس يعترف أنه من الأعمدة (غل9:2) فلماذا لا يذكر إسمه؟!
الآيات (17-20): "وأطلب إليكم أيها الاخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافاً للتعليم الذي تعلمتموه واعرضوا عنهم. لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء. لأن طاعتكم ذاعت إلى الجميع فافرح أنا بكم وأريد أن تكونوا حكماء للخير وبسطاء للشر.وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً نعمة ربنا يسوع المسيح معكم آمين."
في آية (16) يقول قبلوا بعضكم.. فما الذي يمنع هذه الوحدة والحب إلاّ الذين يصنعون الشقاقات والعثرات. وعلى الكنيسة أن تفرز أمثال هؤلاء لأنهم يدعون لبدع غريبة أي لتعاليم مخالفة لما تسلموها من الرسل، ومنهم المتهودين. وهؤلاء جسدانيون يخدمون بطونهم لا المسيح. فالإنشقاق هو سلاح الشيطان. ولكن إذا كان الجسد متحداً معاً فلا يقدر الشيطان أن يدخل. والشقاقات تأتي من إهتمام الناس وعبوديتهم لبطونهم أي لذواتهم وشهواتهم وللأهواء الأخرى (في19:3). شقاق= إنقسام أو خلاف. وهؤلاء بالكلام الطيب والأقوال الحسنة (هذه عكس القبلة المقدسة) وبكلماتهم المعسولة (التي هي عكس ما في باطنهم) يخدعون السلماء= أي البسطاء، سليمو النية، غير الدارسين وليس لديهم معرفة. ولا عجب فالشيطان يغير صورته لصورة ملاك (2كو13:11-15). لذلك يليق بنا أن نكون حكماء للخير= من يختار أن يعمل الخير فهو سيعيش في سلام على الأرض، وفي مجد في السماء، لذلك من يختار الخير حكيم. وتفهم أن يستخدم الإنسان حكمته لصنع الخير. والحكيم يستطيع أن يميز الأرواح فيكشف مسببي الشقاقات، لذلك طلب السيد المسيح منا أن نكون حكماء كالحيات (مت16:10). بسطاء للشر= البسيط هو من له نظرة واحدة وهدف واحد. ومعنى بسطاء للشر أي يكون هدفه الوحيد مجد الله وأن يرى الناس أعماله الخيرة فيمجدوا الله، ويعرض عن الشر ويكرهه فهو لا يريد سوى مجد الله. البسيط للشر يكون طاهراً بلا ميل للشر، ولا يعرف أن يعمل شيئاً ضد الحق. ومن يبحث عن الخير ويبتعد عن الشر فسيفتح له الله عينيه ليكتشف الحق. ومن هو بسيط للشر، قال عنه السيد المسيح أنه سيكون نيراً فالمسيح النور سيسكن فيه إله السلام= الله أصبح في سلام معنا، متحدثاً بالسلام لنا، صانع سلام لنا. يسحق الشيطان. الآية (20) هي صلاة من الرسول لأجلهم لكي يهبهم الله النعمة الإلهية لخلاصهم من كل تجربة. هو يصلى لإله السلام أن يملأهم رجاءً من جهة الخلاص من هذه الشرور والشقاقات. والرسول لا يصلي لكي يحطم الله أصحاب الشقاقات، بل ليحطم الشيطان العامل فيهم. والله هو الذي يسحق الشيطان وليس بيد إنسان. وهذا ما حدث رمزياً في إنتصار يشوع ووضعه أقدامه على ملوك كنعان. ولكن من الذي له سلطان على الشيطان [1] الحكماء في الخير [2] البسطاء للشر [3] لهم طاعة لله= طاعتكم ذاعت وهذه الشروط سبق الرسول وذكرها.
سريعاً= الله له وقته المحدد الذي يتدخل فيه بحكمته ولا نعرفه نحن، فيه يبعد كل أصحاب الشقاقات وينجي كنيسته، هنا النصرة مؤقتة، ولكن في السماء النصرة نهائية. هنا يبدو وكأن المسيح نائم والمركب (الكنيسة) تصارع الأمواج (الحروب ضد الكنيسة). ولكن بكلمة واحدة سريعاً ما يهدأ كل شئ عندما يريد. نعمة ربنا يسوع= نعمة ربنا تحفظ الكنيسة من الشقاقات.
الآيات (21-24): "يسلم عليكم تيموثاوس العامل معي ولوكيوس وياسون وسوسيباترس انسبائي. أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلم عليكم في الرب. يسلم عليكم غايس مضيفي ومضيف الكنيسة كلها يسلم عليكم أراستس خازن المدينة وكوارتس الأخ. نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم آمين."
هنا يُرسل بولس تحيات من معه لأهل روما. من تيموثاوس الإبن المحبوب للرسول، إبنه في الإيمان. وشريكه في العمل ورفيقه في كثير من الرحلات. ومن غايس= مضيف الرسول بل والكنيسة كلها. ربما لأنه حَوَّلَ بيته إلى مركز للعبادة كان يضيف المؤمنين فيه الذين هم غرباء عن كورنثوس. ولوكيوس= لعله لوكيوس القيرواني الذي كان متقدماً ومعروفاً في كنيسة إنطاكية (أع1:13). وياسون= كان معروفاً في كنيسة تسالونيكي حيث تألم من أجل إضافته لبولس (أع5:17،6). سوسيباترس= البيري (أع4:20) ويسميهم أنسبائي= قد يكونوا أقربائه فعلاً أو يقول هذا لأنهم من اليهود أصلاً.
آية (22): ترتيوس= كان ترتيوس يعمل نساخاً لبولس لأن بولس كان خطه رديئاً لا يمكن قراءته بسهولة لضعف عينيه لذلك يعتذر عن هذا لأهل غلاطية (11:6). وترتيوس في محبته بعد أن رأى محبة بولس لأهل رومية إستأذن بولس أن يكتب إسمه ليرُسل هو أيضاً السلام لأهل رومية.
أراستس= كان خازن المدينة، فكان رجلاً عظيماً يشغل مركزاً رئيسياً أو أمين للمال، ولم تمنعه كرامته أن يخدم بولس والكنيسة، وإقترن إسمه بتيموثاوس (أع22:19+ 2تي20:4). ولم يقلل من قيمة أراستس أن يكون كارزاً بإنجيل المسيح.
الآيات (25-27): "وللقادر أن يثبتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الأزلية. ولكن ظهر الآن واعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الإله الأزلي لإطاعة الإيمان. لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد آمين كتبت إلى أهل رومية من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا."
ذكصولوجية الختام:
وللقادر= الواو لا تفيد العطف، بل هي نهاية وخاتمة للرسالة. وفي اليونانية أتت والآن. بمعنى ونحن في ختام الرسالة أترككم إلى الله القادر أن يثبتكم. إنجيلي= بشارتي المفرحة التي أعلنتها في هذه الرسالة.
وتأتي الآية (27) مكملة لها ويكون المعنى
وللقادر أن يثبتكم .. لله الحكيم وحده .. له المجد إلى الأبد آمين وهذه الذوكصولوجية (التسبحة) جاءت تحمل صدى ما جاء في الرسالة ككل. إذ عَبَّرَ فيها عن الحاجة إلى الله الذي يهب ليس فقط الإيمان بل يهبنا الثبوت فيه أيضاً. والسر= هو قبول الأمم لإطاعة الإيمان= وهي نفس العبارة التي إبتدأ بها الرسالة (5:1) فإنجيل بولس يتخلص في دعوة الأمم لإطاعة الإيمان. ونجد هنا.
[1] إن الله هو الذي يثبتنا في الإيمان. [2] خطة الله من نحونا (سرُّه) أزلية.
[3] الخطة سبق وتنبأ عنها الأنبياء في العهد القديم. [4] خطة الله هي طاعة جميع الأمم للإيمان.
والآية الأخيرة تفهم حينما تنقسم إلى قسمين:
1. كتبت إلى أهل رومية من كورنثوس (هذا جزء مستقل عن الباقي)
2. على يد فيبي خادمة كنيسة كنخريا (أي التي حملتها إلى روما)
لأن الكاتب هو ترتيوس (آية22)