رسالة يعقوب
كنيسة السيدة العذراء بالفجالة
v تلقب الكنيسة الرسائل السبع (يعقوب / رسالتى بطرس / رسائل يوحنا الثلاث / يهوذا) بالرسائل الجامعة (الكاثوليكون) أى أن الرسائل موجهة لكل المسيحيين فى كل مكان. وذلك غالباً لأنها لم تكتب لشخص معين أو كنيسة معينة أو مدينة معينة (كما هو الحال فى رسائل بولس الرسول) وذلك بإستثناء رسالتى يوحنا الثانية والثالثة، ولكن لصغرها يمكن إعتبارها إمتداداً للرسالة الأولى، خاصة وأنهما يحملان نفس الطابع والأسلوب. ولقد سميت الرسائل السبعة هذه بإسم رسائل الكاثوليكون منذ القرون الأولى.
v يلاحظ أن هناك تشابهاً بين الرسائل وبعضها وعلى وجه الخصوص :-
أ) رسالة بطرس الأولى ويعقوب.
ب) رسالة بطرس الثانية ويهوذا.
ت) بين رسائل يوحنا الثلاث.
v فى كل قداس، وفى كثير من الصلوات يقرأ فصل من رسائل البولس وفصل من الكاثوليكون.
من هو يعقوب كاتب الرسالة
ورد فى العهد الجديد 3 أشخاص باسم يعقوب.
1. يعقوب بن زبدى :- (مت 10 : 2) وهو أحد الإثنى عشر تلميذاً، وهو أخو يوحنا الإنجيلى. ولا يمكن أن يكون هو كاتب الرسالة، إذ قتله هيرودس أغريباس سنة 44 م (أع 12 : 1). وحتى ذلك الوقت لم تكن قد تأسست الكنائس المسيحية بشكل يسمح بكتابة رسائل لها، ولا كان قد حدث التشتيت الذى ذكره الكاتب، ولا ظهرت البدع التى أوردها.
2. يعقوب بن حلفى :- (مت 10 : 3) وهو من الإثنى عشر.
3. يعقوب أخو الرب :- (غل 1 : 19) أى ابن خالته. وهو كاتب الرسالة.
وهناك أبحاث كثيرة لتحقيق ما إذا كان يعقوب بن حلفى هو نفسه أخو الرب.
يعقوب أخو الرب:
1. ذكر يوحنا فى (يو 7 : 5) "أن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به"، وربما كان يعقوب أخو الرب من غير المؤمنين بالمسيح فى أثناء فترة خدمة المسيح على الأرض، ثم آمن به بعد القيامة. أو أنه لم يكن يؤمن به فى بداية خدمته ثم آمن به.
2. ظهر له المسيح بعد القيامة (1 كو 15 : 7) + (أع 10 : 41).
3. رسم أسقفاً على أورشليم وبقى فيها حتى يوم إستشهاده.
4. وضع قداساً لا زال الأرمن يصلون به حتى الآن.
5. كان نذيراً من بطن أمه، فكان لا يشرب خمراً ولا مسكراً ولا يحلق شعره، ويقتات بالبقول. ودعى بيعقوب البار إذ كان محباً للعبادة.
6. من كثرة ركوعه للصلاة كانت ركبتاه كركبتى جمل.
7. كان اليهود فى بداية الأمر يهابونه جداً ويتهافتون على لمس ثيابه. وفى أحد المرات جاءوا به إلى جناح الهيكل لكى يشهد ضد المسيح فقال لهم "إن يسوع الآن جالس فى الأعالى عن يمين الآب، وسيدين الناس". فلما سمعوه يقول هذا صرخ البعض قائلين "أوصنا لإبن داود". فحنق عليه الكتبة والفريسيون، وثاروا ضده وهم يقولون "لقد ضل البار". ثم طرحوه من فوق إلى أسفل. أما هوإذ وقع إنتصب على ركبتيه طالباً الغفران لهم فأسرعوا برجمه، ثم أتى صباغ وضربه بمدقة على رأسه فإستشهد للحال نحو سنة 62 م. ودفن فى موضع إستشهاده بالقرب من الهيكل. ويقول المؤرخ يوسيفوس أن من أسباب خراب أورشليم أن أهلها قتلوا يعقوب البار فنزل عليهم غضب الله.
8. فى حوالى سنة 52 م رأس المجمع الأول فى أورشليم بخصوص دخول الأمم للإيمان. وقد أعلن القديس يعقوب قرار المجمع (أع 15).
9. دعاه بولس الرسول أحد أعمدة الكنيسة، وذكره قبل بطرس ويوحنا (غل 2 : 9).
10. طالما أنه لم يغادر أورشليم فقد كتب الرسالة من أورشليم.
زمن كتابة الرسالة
كتبت فى وقت إضطهاد اليهود للكنيسة (أع 4 : 1 + 5 : 17). وقبل الإضطهاد الرومانى أيام دومتيان وتراجان. وكتبت قبل تشتيت اليهود عقب سقوط أورشليم. لذلك يرجح البعض أنها كتبت سنة 60 أو سنة 61 م فى الوقت الذى إنتشرت فيه الضلالات التى فندها الرسول فى هذه الرسالة.
لمن كتبت الرسالة
كتبت إلى " الإثنى عشر سبطاً الذين فى الشتات " فمن هم هؤلاء الذين فى الشتات ؟
1- اليهود الذين فى الشتات
هؤلاء اليهود الذين فى الشتات هم الذين تشتتوا بعد سبى بابل. وهؤلاء عاشوا فى أماكنهم وصارت لهم مجامع (يصلون فيها ويقرأون التوراة فقط ولكن الذبائح كانت لا تقدم سوى فى هيكل أورشليم، لذلك كانوا يذهبون إلى أورشليم فى الأعياد والمواسم). وكانت هذه المجامع هى التى يبدأ منها الرسل وتلاميذ المسيح كرازتهم فى البلاد التى يذهبون للكرازة فيها مثل بولس الرسول (راجع سفر الأعمال).
ولكن لماذا يكتب يعقوب لليهود. كان المسيحيون فى أوائل عهدهم يشعرون أنهم إمتداد لليهودية، مجرد طريق جديد أو طائفة جديدة أو شيعة من شيع اليهود، طائفة مستنيرة عرفت المسيح. وكانوا فى أوائل عهدهم بعد حلول الروح القدس عليهم يذهبون إلى الهيكل للصلاة، ويعيشون وسط اليهود معتبرين أنهم منهم أو إمتداد لهم حتى حدث الإضطهاد اليهودى لهم وبدأ الإنفصال. وبهذا الفكر فيعقوب ربما كتب لليهود الذين يشعر أنهم من دمه وعظامه لعلهم يؤمنون بالمسيح، وهو يعتبرهم أنهم فى طريقهم ليعرفوا الحقيقة كما عرفها هو.
ومن المعروف أن الهيئات اليهودية التى كانت مبعثرة فى دول حوض البحر المتوسط هى التى عرفت بالشتات.
2- المسيحيين من أصل يهودى
من المؤكد أن يعقوب قصد المسيحيين الذين من أصل يهودى برسالته هذه. ولذلك نجده يلجأ للإستعانة بشواهد من العهد القديم (إيليا وأيوب، بل فى بعض النصوص هناك تشابه مع أسفار الحكمة وإبن سيراخ من الأسفار القانونية الثانية) والمسيحيين الذين آمنوا من اليهود تشتتوا هم أيضاً نتيجة رفض اليهود لهم. والله إستغل هذا التشتيت فى إنتشار المسيحيية وإمتداد الكرازة. ونلاحظ أن هناك من اليهود الذين أتوا يوم الخمسين وآمنوا عادوا إلى موطنهم وصاروا مسيحيو الشتات.
3- إلى المسيحية واليهود
مادام يعقوب يفهم أن المسيحية هى إمتداد لليهودية، فهو حين يكتب لا يفكر هو لمن يكتب، ففى نظره أنهم واحد. والحقيقة هى كذلك فلا يوجد دين إسمه اليهودية ودين آخر إسمه المسيحية، بل إن اليهودية كانت الرموز والمسيحية هى المرموز إليه. المسيحية هى تكميل لليهودية "ماجئت لأنقض الناموس بل لأكمل" فالله لا يناقض نفسه. شعب الله بدأ باليهودية (الأسباط الإثنى عشر رمز لليهودية أو لبداية الكنيسة، ونقول رمز لأن إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب لم يكونوا من الأسباط الإثنى عشر، لكنهم كانوا من شعب الله)، وإستمر شعب الله فى المسيحية، وكل من لم يؤمن بالمسيح من اليهود خرجوا من جسد الكنيسة، خرجوا من كونهم شعب الله. ويطلق بولس الرسول على شعب الله فى العهدين لقب إسرائيل الله (غل 6: 16). وعموماً فالمسيحيون الأن هم فى الشتات فى هذا العالم، غرباء فيه، بعيدون عن موطنهم السماوى.
غاية الرسالة
1- تشجيع المسيحيون ليحتملوا الضيق والأضطهاد الذى يعانون منه على يد اليهود، والكشف عن مفهوم الألم والتجارب فى ضوء صليب الرب المتألم.
2- تشجيعهم على الثبات فى الإيمان بالرب إيماناً عملياً.
3- توضيح مفهوم الإيمان الحى وإرتباطه بالأعمال، والرد على الهرطقات التى ظهرت فى ذلك الوقت قائلة أن الإيمان والنعمة كافيين للخلاص بدون أعمال، أو أنه لا أهمية للأعمال. وشرح الرسول أن المسيحى المؤمن عليه واجبات، وأن ما يُظهر الإيمان الحقيقى هو الأعمال الصالحة. وغالباً كان رد الرسول هنا فى هذه النقطة رداً على هرطقات ظهرت نتيجة فهم خاطئ لرسالة بولس الرسول لأهل رومية.
4- إظهار خطورة بعض الخطايا التى يظنها البعض تافهة.
أية 1 : يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللَّهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ.
عبد : تعنى خادم بلا حقوق، معتمدأً إعتماداً كلياً على سيده فى طاعة كاملة ولم يذكر الرسول نسبه حسب الجسد للرب يسوع بل يدعو نفسه عبداً له. مع أنه كان من حقه أن يقول "يعقوب أخو الرب" وهكذا فعلت العذراء حين قالت "هوذا أنا أمة الرب" بعد أن قال لها الملاك أنها أم الرب. والعبد كان بحسب الناموس يحصل على حريته بعد سبع سنين عبودية، ولكن إن أحب سيده الذى وجده يعطف عليه يقول لسيده سأستمر عبداً لك بحريتى أنا وزوجتى وأولادى العمر كله فلن أجد من يعطف على مثلك. وبهذا المفهوم يستعبد يعقوب نفسه للرب فليس أحن منه ولا من يعوله سواه. هذا لمن إكتشف شخص الرب فهو بحريته يستعبد نفسه له. ومن عرف الرب حقيقة سيعرف أن العبودية له تحرر أما العبودية لأى شخص آخر فهى تذل (المال والجنس...الخ)، فمن يستعبد لأى شئ آخر لا يستطيع أن يتحرر منه، أما من يُستعبد للرب فهو حر، وبحريته يستطيع أن يترك الرب وقتما يشاء. من إكتشف شخص الرب ومحبته يترك له حرية التصرف فى نفسه وزوجته وفى أولاده وفى كل ماله. كيف لا يحب لهذه الدرجة من رأى الآب يفتح أحضانه له كإبن، والإبن يعطيه نفسه على الصليب ويقبله كعروس والروح القدس يجعله هيكلاً يسكن فيه. فيعقوب احب الرب لدرجة أنه يستعبد نفسه له أى يترك للرب كل التصرف فى حياته وكل ماله. ولكن كم أقرباء بالجسد للمسيح وقد رفضوه وأهانوه (مر3: 21). لذلك فإن إفتخرنا فلا نفتخر بالجسد والقرابة الجسدية بل بعبوديتنا للمسيح (2كو5: 15،16)
عبدالله والرب يسوع = هنا يساوى يعقوب بين الله والرب يسوع
الرب يسوع = الرب فى السبعينية هو يهوة.
أية 2 :- اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ،
تجارب متنوعة = مرض / موت / خسائر مادية / فشل دنيوى / إضطهاد...
وكان المسيحيون حينئذ يعانون من إضطهاد اليهود الذى بدأ بإستشهاد إسطفانوس وهكذا قال السيد المسيح "طوبى للمطرودين من أجل البر".
كل فرح = أى النهاية القصوى للفرح أو عدم تقبل أى شئ غير الفرح فلا مكان سوى للفرح، أى لاشئ يفرحنى سوى ذلك. ولاحظ تطابق هذه الاية الإنجيلية مع طقس الكنيسة. فالكنيسة تصلى بالطقس الفرايحى إبتداء من أول توت، عيد الشهداء حتى عيد الصليب. فالإستشهاد والصليب كله فرح فى طقس الكنيسة.
تقعون = فى اليونانية لا تعنى السقوط أو االدخول فى تجارب وإنما تعنى حلول التجارب وإحاطتها بالإنسان من الخارج مثل رجل وقع بين لصوص. كأن التجارب تحاصر هذا الإنسان من كل ناحية (فى العمل والأسرة والجيران...). فالرسول لا يتكلم عن التجارب التى تنبع من داخل النفس (أى الخطايا) بل التى تحل بنا من الخارج. ومايدفعنا للفرح أنها شركة صليب مع المسيح، ومن يشترك فى الألم والصليب يشترك معه فى مجده (2كو 6: 9) + (رو8: 17) + (كو1 :24) + (2كو1: 5) + (فى 3: 12).
ياإخوتى = فهم عائلة واحدة، عائلة الله، وكلنا أعضاء فيها، نلنا البنوة والإتحاد بالمسيح فى المعمودية، ورأس العائلة هو المسيح المتألم، مما يجعلنا نقبل الألم فى تسليم بل بكل فرح، لإذ نشترك مع من أحبنا فى ألامه. وهناك فرق كبير بين التسليم والإستسلام. فالإستسلام هو كمن وقع فى يد أسد فهو يستسلم لأنه غير قادر على المقاومة، أما التسليم فهو أننى أضع حياتى فى يد من يحبنى ولا يصنع لى سوى الخير. هو إله حنون يخطط لخلاص نفسى وكل مايصنعه هو لهذا الهدف.
لماذا نفرح فى التجارب
1. عادة ما يأتى الشيطان ليهمس فى أداننا وقت التجارب بأن الله قاسى، لا يحبنا إذ سمح بهذه الألام لنا، ولكن الشيطان كذاب وأبو الكذاب يو8: 44 ولنعلم أن :-
2. الله إستمر فى خلقة العالم ألاف الملايين من السنين ليجد آدم جنة يحيا فيها.
3. الألم دخل للعالم بسبب خطية آدم وليس بسبب قسوة الله "أنا إختطفت لى قضية الموت... وطبعاً إختطفت لى قضية الألم".
4. إذاً الآلم ليس غضب من الله وكراهية وإلا فهل كان الله غاضباً على المسيح وعلى بولس وعلى الطفل أبانوب.
5. قيل عن المسيح أن الله يكمل رئيس خلاصهم بالألام (عب 2: 10) ومن هنا نفهم أن الألم صار وسيلة للكمال. ولكن الألم يكمل المسيح أى ليصير المسيح مثلى فى كل شئ مختبراً الألم، أما الألم لى أنا فيكملنى لأننى ناقص وخاطئ.
6. المسيح جاء ليتألم معى ويشترك معى فى الألم علامة محبة منه. والمسيح كإله قدير "حول العقوبة لى خلاصاً" فصار الألم طريق الكمال وبالتالى طريق السماء. ببساطة صار الألم لإصلاح العيوب التى فى فأكمل.
7. الله إستخدم الألم مع أيوب لينزع من داخله خطية كانت ستحرمه من السماء والله إستخدم الألم مع بولس ليحميه من الكبرياء، حتى لا يسقط فيه.
8. صار الألم (والتجارب) كمشرط الجراح الذى ينزع من داخلنا حب الخطايا والميول المنحرفة، فكل منا تسكن الخطية فيه، لذلك ترك المسيح الألم لنا بعد الفداء (رو 7).
9. الشيطان فى كذبه يستغل معاناتى من الألم ويشتكى الله بأنه قاس، ويخفى عن عينى محبته فى تكوين العالم لأجلى، ولا يذكرنى سوى بالألم.
10. هناك تعليم خاطئ، أن الله يجربنى ليعلم ما فى قلبى !! ولكن هذا خطأ. فالله فاحص القلوب والكلى ولا يحتاج لأن يجربنى حتى يعرف ما فى داخلى. بل هو يسمح بالتجارب لأكمل، فهو صانع خيرات "من تألم فى الجسد كف عن الخطية" (1بط 4: 1)، "وبضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). وهذا التعليم الخاطئ كم سبب من ألام لأناس ظنوا أن الله يجربهم ليعرف ما فى قلوبهم.
11. الله له أدوات يكمل بها الإنسان فهو يعطى عطايا مادية وبركات مادية وروحية تفرح الإنسان ويسمح فى نفس الوقت بألام فهى طريق الكمال. وكلاهما (العطايا والألام) هى طريق السماء. فكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو8 : 28).
12. المشكلة الأساسية هى أننا مولودين بالخطية "بالخطية ولدتنى أمى"، "والخطية ساكنة فى جسدى" (رو 7 : 17) وفى داخلنا عصيان وتمرد على الله. وأشهر إنحراف فى داخلنا هو محبة العالم والتلذذ به ونسيان الله وتركه. بل تحول العالم بدلاً من أن يكون أداة نحيا بها ليكون إله نسعى وراءه. لذلك فمحبة العالم عداوة لله (يع 4 : 4) صرنا نتعبد للعالم، ولا نعرف طريقاً للذة سوى العالم وشهواته، ولم نعد نعرف أن الله قادر أن يشبعنا ويعطينا لذات روحية تسمو على اللذات العالمية. بل نسينا الله فصارت محبة العالم عداوة لله.
ولذلك سمح الله بالألام أن تستمر... ولكن هل الألام تنقى ؟ حاشا بل التنقية هى بدم المسيح "دم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية" (1 يو 1 : 7)، "والمتسربلون بثياب بيض فى السماء غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم فى دم الخروف" (رؤ 7 : 14) إذا ما فائدة الضيقة :
1. بها نزهد فى محبة العالم.
2. نرتمى فى حضن المسيح فيطهرنا دمه من كل خطية.
أما من يجرى وراء العالم فكيف يطهره دم المسيح.
التجارب هى فطام عن العالم، هى كأم تضع مراً على إصبع طفلها حتى لا يضعه فى فمه.
والعجيب أن الله لا يتركنى وسط التجارب، بل يعطينى عزاء وصبراً لأتحمل، وهذا ما قالته عروس النشيد شماله (التجارب) تحت رأسى ويمينه (تعزياته) تعانقنى (نش 2 : 6). وهنا نجيب على السؤال لماذا نفرح فى التجارب :
1. علامة حب من الله فمن يحبه الرب يؤدبه (عب 12 : 6). وبهذا يجذبنا الله من محبة العالم.
2. طالما سمح الله بالتجارب فهو ينوى أن يخلصنى من طبيعتى الساقطة والإنحرافات التى فى داخلى. فالفرح هو لأننى سأكمل بها وهى طريقى للسماء.
3. طالما هى شركة ألم مع المسيح فهى شركة مجد. إذا هى طريقى للمجد.
4. بها تزداد تعزياتنا. ولكن لماذا لا نتعزى ؟
أ. من لا يتعزى هو من شك فى محبة الله وصدق خداع الشيطان أن التجربة علامة عداوة من الله. فقرر أن يتصادم مع الله، وإمتنع عن الصلاة، لأن الله قاسى ولا يريد أن يستمع لى ويخرجنى من التجربة. مثل هذا الإنسان تجده يشتكى الله دائماً أمام الناس، ويتصور أن الله يحب الناس كلها إلا هو. هو صدق خداع إبليس.
ب. إمتنع عن الصلاة وطلب تعزيات الله.
5. والحل
أ. أن يصدق هذا الإنسان أن الله يحبه وبالتجارب يكمله ويعده للسماء.
ب. أن يؤمن بالله، ليس بأن الله واحد، فهذه حتى الشياطين تؤمن بها بل بأن الله صانع خيرات.
ت. يقف ليصلى طالباً التعزيات، ويقول لله " أنا أثق أن ما تسمح به هو للخير ولكنى لست فاهم، ولكنك لا تخطىء فيما تسمح به يا رب.
6. التجارب لها هدف هام جداً. فبها نكتشف يد الله القدير. ربما بالخيرات المادية والروحية نكتشف الله الحنون، ولكن بالتجارب نكتشف يد الله القوية التى تستطيع أن تخرجنى من الضيقة.
تردد هذا السؤال عبر الكتاب المقدس لماذا الألم للأبرار ؟ قاله أيوب وأرمياء وأساف (مزمور 73). وهذا سؤال الفلاسفة عبر العصور. وهنا يعقوب يقول بل نفرح فى الألم لأنه تحول إلى وسيلة للخلاص. وإذا فهمنا هذا لن نقول "لماذا أتت التجارب" بل نقول "لماذا لا تأتى التجارب" والفاهم يقول "لماذا لست أنا المجرب" ولا يقول "لماذا أنا المجرب يا رب".
الألم دخل للبشرية بسبب خطيتى. والمسيح فى محبته جاء ليشترك معنا فى ألامنا، ويقول لنا الأن إحتملوا معى بعض الألام " أما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة " قال الأنبا بولا " من يهرب من الضيقة يهرب من الله ".
وقال أبونا بيشوى كامل " من ليس له صليب فليبحث له عن صليب، نفس بلا صليب كعروس بلا عريس ".
وبولس الرسول بالرغم من كل ألامه كان يقمع جسده ويستعبده، فهو يبحث عن صليب فوق صليب. فمن فهم مفهوم الصليب يجرى وراءه.
أية 3 : - عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً.
إمتحان إيمانكم = إمتحان لا تعنى أن الله لا يعرف إيماننا فيمتحننا لكى يعرف، بل الله يعرف فهو فاحص القلوب والكلى، لكن نحن لا نعرف ما هى طبيعة إيماننا والله بهذا الإمتحان يكشف لنا طبيعة ونوعية إيماننا. هكذا سأل المسيح فيليبس " من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء، وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (يو 6 : 5 – 7) فلقد كان إيمان فيليبس ضعيفاً، والسيد أراد أن يظهر له هذا الضعف ليصلح من إيمانه. فالله يمتحن إيماننا ليظهر ضعفات إيماننا ويظهر لنا إيماننا المشوه من جهة الله، وأخطائنا الإيمانية، ويكشف عن معرفتنا المشوهة من جهة المسيح فالتجارب لازمة لتظهر نوعية إيماننا. فهناك من يتصادم مع الله مع أول تجربة، وهناك من لا يثق فى غفران المسيح ويظل مثقل بالذنوب ومع كل تجربة يظن أن الله ينتقم منه فيزداد إبتعاداً عن الله. وماذا أفعل لو إكتشفت ضغف إيمانى أو أن معلوماتى عن الله مشوهة ؟ هناك حل واحد... المخدع على أن أتعلم أن أدخل مخدعى وأصلى وأدرس كتابى المقدس وأعطى للروح القدس فرصة ليحكى لى ويعرفنى بمن هو المسيح "هذا يأخذ مما لى ويخبركم" (يو 16 : 14). وإصلاح الإيمان فى منتهى الأهمية، فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11 : 6). وهذا سبب آخر للفرح بالتجربة، أنها ستكشف لى حالة إيمانى المريضة فأذهب لحجرتى لأسمع صوت الروح القدس الذى يصحح ويشفى إيمانى، ويعطينى ثقة ومحبة لشخص المسيح. إذا التجارب التى يسمح بها الله لابد أنها ستصلح شيئاً فى داخلى. لكن لابد من الصبر والقبول وعدم التذمر حتى تؤتى التجربة بثمارها. أما التذمر فيعطل عمل الله.
ينشىء صبراً = التجارب المتلاحقة مع رؤية يد الله القدير تجعل الإيمان يزداد. وهذا ما حدث مع داود، فلقد كانت له خبرات سابقة مع أسد ودب قتلهم وهذا أعطاه إيمان قوى وقف به أمام جلياط. لذلك فالتجارب المتلاحقة مع الشكر وعدم التذمر تزيد الإيمان. والإيمان يولد صغيراً وينمو، لذلك قال التلاميذ للسيد "زد إيماننا " (لو 17 : 5) وإيمان أهل تسالونيكى كان ينمو (2 تس 1 : 3) وبولس الرسول يقول أن الإيمان ينمو بالشكر وعدم التذمر (كو 2 : 7) ومع التجارب تزداد التعزيات التى يعطيها الله كمسكن للألام حتى نحتمل التجربة ومع زيادة الإيمان ومع التعزيات ينشأ الصبر. فالصبر ليس صبر الخضوع والإستسلام وليس هو شجاعة بشرية ولكن عطية إلهية نتيجة إيمان ينميه الله وتعزيات يعطيها الله (2 كو 1 : 5). ولذلك تعلمنا الكنيسة الشكر فى كل حين وعلى كل حال. ولكن الصبر حقاً هو عطية من الله ولكن الجهاد البشرى المطلوب هو الشكر مع عدم التذمر حتى نحصل على هذه العطية.
أية 4 : - وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.
ولماذا نصبر، ولماذا يعطينا الله صبراً وما فائدته ؟ أن نكون تامين وكاملين فكما رأينا أن فائدة التجارب أن نصبح كاملين. إذاً حتى نكمل علينا أن نصبر على التجربة حتى تأتى بثمارها وتكمل. فنحن مولودين بالخطية، لنا طبيعة متمردة عاصية، نحب العالم وهذا عداوة لله، والله يعالج كل هذا بأنه يسمح ببعض التجارب حتى نزهد فى محبة العالم ولا نتعلق به بل نشتاق للسمائيات ونبدأ نتذوق لذتها محتقرين لذة الأرضيات وبهذا نكمل. هذا هو العمل التام للصبر أن نكمل. لكن علينا أن لا نتذمر وسط التجربة بل نشكر عالمين أن كل ما يسمح به الله هو للخير ولبنياننا وحتى نتزين بالفضائل وحتى ننال إكليلاً أبدياً (1 بط 5 : 10). أما التذمر فهو يوقف ويعطل عمل الله ويوقف تعزيات الله التى بها نحتمل التجربة.
أية 5 : - وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ.
إن كان أحد تعوزه حكمة = الحكمة هى معرفة هدف الله من التجارب وأنها للفائدة وحتى نكمل، وأن الله يحبنا جداً، بل هو طاقة محبة متجهة لنا نحن البشر. أما الجهل فهو أن نشعر أن الله يكرهنى إذ سمح ببعض الألام. والحكمة إذاً أن نتقبل الألام بشكر وصبر وبدون تذمر. والله سيعطى لمن يطلب هذه الحكمة حتى يفهم دون أن يعيره بسبب ضعفه وجهله وخطاياه السابقة ومن يعطيه الله حكمة سيفهم إرادة الله من التجربة ويفرح بها ويعلم أنها للخير.
أية 6 : - وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ.
بإيمان = ما الذى يمنع الله من الإستجابة لصلواتنا ؟ عدم الإيمان. والإرتياب فى وعود الله. وهذه خطية أن لا نثق فى الله (مر 11 : 24) لأن هذا المرتاب يكون متردداً بين حالة الإيمان والثقة بالله وحالة عدم الإيمان بل الإعتماد على حكمته البشرية التى تقوده للتذمر على الله، وهذا تجده مرة يصلى ومرة يمتنع عن الصلاة نهائياً ظاناً أن الله لا يستجيب، تجده مرة يذهب للكنيسة ومرات لا يذهب فلماذا يذهب والله لا يستجيب. هذا يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح.
التجارب هنا شبهها بالريح التى تدفع الموجة فتصطدم بالصخور وتتحول إلى رذاذ. والموج بطبيعته أنه يرتفع وينخفض وبهذا يشبه المرتاب الذى يعلو إيمانه يوماً وينخفض يوماً أخر. أما لو كان إيمانه ثابتاً فسيكون كالبحر الهادىء ولا يتحول إلى رذاذ. وماذا أفعل لو كان إيمانى ضعيفاً ؟ هنا نفعل كما فعل هذا الرجل ذو الإيمان الضعيف حين سأله السيد أتؤمن ؟ فقال أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى. فهل تركه السيد ؟ لا بل شفى إبنه وبهذا حقق طلبه وشفى عدم إيمانه. فلنقف أمام الله وعوضاً عن التصادم مع الله بسبب التجربة، لنصلى "أعن عدم إيمانى".
أية 7 : - فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ.
هذا المرتاب لن يحصل على شىء من الله، وحين يصلى تكون صلاته بلا نفع.
أية 8 : - رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
رجل ذو رأيين = أى لم يسلم الأمر لله بالكامل. متقلقل = لم تثبته الحكمة الإلهية فهو يشك فى الله وفى محبته، هذا يكون بلا حكمة.
أية 9 : - وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ.
ربما يقصد بالأخ المتضع الفقير الذى سلبوا أمواله أثناء الإضطهاد، أو يقصد به أى مجرب مضطهد من أعداء أقوياء. على هذا المسكين أن لا يخجل من مسكنته، بل يفتخر بإرتفاعه = فهو فى ألمه صار شريك ألام مع المسيح وبالتالى شريك أمجاد مع المسيح، وارث للمجد، وهذا هو الإرتفاع الحقيقى.
أية 10 :- َأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ.
وأما الغنى = وهنا لم يقل الأخ حتى لا يظنوا أنه يداهن الأغنياء بسبب غناهم. والمسيحى عليه أن لا يفتخر بغناه أو مركزه فى المجتمع، فكل ما فى العالم إما سيزول أو سنتركه ونموت. على الغنى أن يشعر أن كل مالديه هو لاشئ. بل هو إذا أتى لصليب المسيح ودمه الغافر سيشعر أن كل شئ لديه هو تفاهة بجانب ذلك الدم الثمين، وحينئذ لن يفتخر بما لديه بل بدم المسيح الذى سفك لأجله وكان سبباً فى الأمجاد الحقيقية المعده له فى السماء. إذاً على الغنى أن يتضع ويشبه سيده الذى أخلى ذاته لأجله (2كو10: 17). ونفس المفهوم قاله أرميا (9: 23). وإذا اتضع وأدرك أن العالم باطل وأنه لا شىء، فعليه أن يفتخر إذ أنه أدرك الحقيقة. فالعالم كزهر العشب يزول = إشارة لعدم يقينيه الغنى ولذبول الأغنياء وسط مسراتهم (مثال لذلك بيلشاصر).
أيه 11 :- لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هَكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ.
يشبه الغنى بزهر الشعب الذى ييبس ويسقط ويفنى جمال منظره هكذا فالغِنى أيضاً إلى زوال. ولاحظ أن هذا المنظر معتاد لأهل فلسطين، حيث تغطى أزهار شقائق النعمان منحدرات التلال فى الصباح، ولكن ما أن تظهر الشمس وتهب الرياح الحارة حتى تجف هذه الأزهار وتجمع للوقود، وهكذا أمجاد وأموال هذا العالم. والشمس تشير للتجارب، فالشمس التى تعطى حياة للزروع هى نفسها التى تجفف وتفنى جمال زهر العشب. وبنفس المفهوم فالتجارب تزيد المؤمنين بريقاً، وتهلك المتكلين على غناهم فيذبلون فى طرقهم.
أية 12 :- طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ "إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ" الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ.
طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة = لأن من يحتمل يتدرب على حياة التسليم ويكتسب الصبر وينمو روحياً ويكمل، ويتفابل مع المسيح المتألم ويزداد معرفة بشخص المسيح فيحبه ويختبر التعزيات السماوية وينتظر بشوق ورجاء إكليل أبديته والمجد المعد له = إكليل الحياة = إستعارة من البطولات الرياضية، وهذا الأكليل هو لمن يغلب (2كو12: 1). لأنه إذا تزكى = تزكى أى تنقى من محبة العالم التى هى عداوة لله فكانت التجارب له هى كالنار التى تصفى الذهب من الشوائب، صارت نافعه له (1بط1: 7). هذا إذا إحتملها بصبر ودون تذمر.
أية 13 :- لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً.
يعقوب يكلم أناساً واقعين تحت تجارب عنيفة من اليهود. ويقول لهم أن التجارب هى علامة حب من الله وأنها تكمل، وتزع الفساد الداخلى وبها نستعد للسماء ولهذا نفرح بها. والله يعطى صبر وتعزيات تكون كمسكن (بنج) حتى تتم عملية نزع الفساد بنجاح. ثم يتطرق يعقوب لنوع آخر من التجارب ناشئ عن شهوات داخلية وخطايا. ويقول أنه على الإنسان الذى يجرب من تجارب خاطئة كهذه ألا ينسب هذه التجارب لله، كما لو أن الله هو الذى يدفع الإنسان لإرتكاب الشرور أو الخطيئة. وهذا الإتهام يهين الله. هنا يعقوب يرد على هرطقة إنتشرت أيامه تقول أن الله هو سبب التجارب الشريرة، فهو يجرب الناس بالشرور.
إذاً التجارب نوعان :-
1. ما يسمح به الله لنمونا وتزكيتنا ولوقايتنا من الشرور لنكمل.
2. ما هو من الشيطان أو من الخطية الساكنة فينا.
وعلينا إحتمال الأولى بصبر ومقاومة الثانية، ومن يغلب فى الإثنين يكلل.
الله غير مجرب بالشرور = أى أن الله قدوس وسماوى، مرتفع تماماً عن صنف الشرور، منزه عن كل شر، وكله خير. ولن ندرك كمالاته طالما كنا فى الجسد. وهولا يشعر بأى جذب للشر بل يكرهه تماماً. لذلك هو لا يجرب أحداً بالشرور بالخطايا. فهو لا يتلذذ بالخطايا ولا بسقوط أحد فيها. المعنى أن الله لا يتعامل فى هذا الصنف. لكن مصدرالخطايا هو أنا وشهواتى وإبليس وليس الله. الله خلقنا فى أحسن صورة ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع شريرة،ونحن فى آدم انحرفنا والأن ننحرف بإرادتنا. ولكن من يريد أن يسلم عواطفه ومشاعره لله يقدسها له. أما إبليس فهو شرير ومجرب بالشرور بقصد إهلاكنا.
الأيات 14، 15 :- وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ.، ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً.
إذا حدث أن إنساناً ما قد لحقت به تجارب شريرة، فعليه أن يدرك أن هذا يرجع إليه لا إلى الله، وأن مصدر هذه التجارب هو شهوته التى إنجذب بها وإنخدع ومال إليها. علينا إذن أن لانبحث عن سبب التجارب الشريرة خارج دائرتنا، بل نبحث فى قلوبنا. فأى شر لن يضرنا ما لم يجد ترحيباً فى الداخل.
إنخدع=الكلمة الأصلية تعنى أكل الطعم.
إنجذب = الأصل أننا فى حضن الله ثابتين فى المسيح، ومن يقبل الخطية ينجذب من الأحضان الإلهية، فلا شركة للنور مع الظلمة، هو ينجذب من ملجأه الحصين إذ خبا له الشيطان السم فى العسل فتصور أن الشر لذيذ. ولنلاحظ أننا تحت قوتى جذب. فالنعمة (قوة عمل الروح القدس فى) تجذب من ناحية، والشر يحاول أن يجذب ويخدع مستغلاً ضعف طبيعتنا. وعدو الخير يقوم بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجية من ملذات حسية وملذات العالم وكراماته وأحزانه، ولكن هذه كلها مهما إشتدت ليس لها قوة الإلزام، بل هى خادعة لكيما يخرج الإنسان من حصانة الله. ولكن لا ننسى أن قوة جذب النعمة أقوى من قوة جذب الخطية (يع4: 6). والمسيح ينادى على خرافه ويستميلهم إليه (يو 10: 27). والقرار قرارى أنا وحدى، أن أبقى فى حضن الله وفى خطيرته أو أخرج فأصبح خروفاً ضالاً منجذباً من شهوته. وإستخدم يعقوب هنا صورة رائعة ليشرح ما يحدث. فهو قد صور الشهوة على أنها إمرأة ساقطة تحاول أن تغوينى لأقع فى حبائلها. ولو قبلت عرضها أى قبلت الفكر وبدأت أخطط لكيفية تنفيذه فكأننى إتحدت به وصرنا واحداً، أى صرت واحداً مع المرأة وإتحدت معها وبهذا صارت المرأة حبلى. وإذا خرجت الخطية لحيز التنفيذ فكأن المرأة ولدت، وماذا ولدت ؟ موتاً.
روعة هذا التصوير أن الشهوة منفصلة عن الإنسان، والإنسان حر فى أن يقبل غوايتها أو يرفضها. أنا شىء وشهوتى شىء آخر وبإرادتنا نتحد أو نظل منفصلين. وهناك قوة جبارة تحفظنى هى النعمة. إذاً داخلى ميول خاطئة لكن أنا غير متحد بها إلا لو إنخدعت وإنجذبت وبدأت أخطط لها.
إذاً هناك مراحل ثلاث للخطية :-
1. مرحلة الفكر، مجرد فكرة خطرت ببالى، فكرة ألقاها الشيطان. وهذه ليست خطية إذا رفضتها وصرخت لله أن ينجينى من هذا الفكر. هنا المرأة أى الشهوة تحاول خداعى، ومن يرفض لا تصير عليه خطية. هذا ما قاله الأباء أن الإنسان غير مسئول عن الطيور التى تطير أمام عينيه، لكنه مسئول عنها لو عششت فى رأسه. أى عملت لها عشاً فى رأسه، أى انجذب الإنسان للفكر وأعجب به وبدأ يتلذذ به ويخطط لتنفيذه. ومن يصارع الخطية فى طورها الأول يتخلص منها بسهولة (علامة الصليب يرشمها مع الصراخ بصرخة خفية داخلية وبإسم يسوع وبشفاعة القديسين) أما لو تركها الإنسان للطور الثانى أو الثالث فيكون هذا بإرادته، ويكون هنا من الصعب التخلص منها. فى هذا الطور يحاول عدو الخير أن يثير حواس الإنسان وفكره وذاكرته لمحاولة جذبه لإسقاطه.
2. الشهوة إذا حبلت تلد خطية = هذا هو الطور الثانى. هنا حدث نوع من الإتحاد مع المرأة (بين الإنسان وشهوته). رأينا المسيح ينادى على خروفه حتى لا يخرج. لكن المسيح يحترم حرية الإنسان، فإن لم يشأ الإنسان أن يسمع وخرج، يبدأ الطور الثانى أو المرحلة الثانية، وفيها يسلم الإنسان إرادته للشهوة. هنا يشبه الرسول الشهوة بإمرأة زانية تجذب الإنسان إليها وتخدعه، وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها، فتحبل ويتكون جنين فى بطنها الذى هو الخطية. هنا الخطية لم تحدث حتى الآن. ولكن بدأ الإنسان يتلذذ بأفكاره الخاطئة وترك لها العنان وإتخذ قراراً بتنفيذها، ويخطط لتنفيذها.
3. والخطية إذا كملت تنتج موتاً = هنا خرجت الخطية لحيز التنفيذ أى تم تنفيذ الخطية وهذه هى المرحلة الثالثة أو الطور الثالث. هنا إكتمل نمو الجنين وولدت إبناً هو الموت، فالخطية تحمل فى طياتها جرثومة الموت. وأجرة الخطية موت.
الأيات 16، 17 : - لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.، كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.
لا تضلوا = أى لا تصدقوا الهرطقة المنتشرة بأن الله مجرب بالشرور. بل علينا أن ننسب لله كل خير يأتى علينا، فهو صانع خيرات. فهو أبى الأنوار = الأنوار هى كلمة فلكية تشير للكواكب المنيرة. فالله لا يخلق سوى النور، أما الظلمة فالله لم يخلقها بل هى إنعدام النور. والنور هنا إشارة لصلاح الله وخيريته، وأنه المصدر الوحيد لكل نور طبيعى أو أخلاقى. إذا الله ليس مصدراً للشرور ولا يعرف كيف يصنع شراً فى قلب أحد.
وإذا كان الله هو مصدر كل نور وكل صلاح وكل خير، فعلينا أن لا ننسب لأنفسنا أى خير أو صلاح نحن فيه، فكل عطية صالحة مصدرها الله. وهذا ما قاله بولس الرسول " إذا كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ " (1 كو 4 : 7).
وليس عنده تغيير أو ظل دروان = وهذا أيضاً تعبير فلكى. ففى الفلك هناك تغيير ناشىء عن دوران الكواكب، فيحدث ليل ونهار، شتاء وصيف أما الله فلا يتغير أبداً ولا يبدل مشيئته ومخططاته التى هى نور وصلاح دائم. أما الدوران والتردد فهو فينا نحن. الله لا يتغير بمعنى أن إرادته نحونا دائماً مقدسة. لا نرى منه سوى إرادة مقدسة وخير وحب وصلاح وطهارة. إذا لا يعقل أن نرى منه تجارب شريرة. وخلال أشعة محبته المعلنة فى عطاياه الروحية والزمنية يجذب أنظارنا وينير عقولنا فنراه ونحبه.
أية 18 : - شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.
شاء = إرادة الله أن الجميع يخلصون (1 تى 2: 4). والله صنع هذا الخلاص أولاً بأنه خلقنا ولما سقطنا فدانا وصرنا نولد ولادة ثانية = شاء فولدنا بكلمة الحق إن أشرف عطية حازها الإنسان أننا بالرب يسوع كلمة الحق الذى مات عنا بالجسد وقام ووهبنا بروحه القدوس أن نولد لله ولادة جديدة روحية بالمعمودية. فهل بعد كل هذا الحب والإرادة الخيرة نحونا يقول إنسان أن الله مجرب بالشرور. وبهذه الولادة التى بها نتحد بالرب يسوع (رو 6 : 5) نصير باكورة من خلائقة والباكورة مقدسة لله أى مكرسة له ومخصصة له. إذا فنحن نصيب الله المكرس له. كما كانت الباكورات تقدس للهيكل، هكذا نحن صرنا قدساً للرب. وهذا تم بالمعمودية والميرون. وهذا يعنى أنه طالما صار الجسد مقدساً فليس من حقى أن أخطىء به.
والمسيح هو باكورتنا، ونحن المسيحيين باكورة العالم كله. كان المسيح باكورة إذ قدم قرباناَ وذبيحة، فهل نقبل أن نكون ذبائح حية وقدوة للعالم.
إنتقل الرسول من الحديث عن التجارب الخارجية كمصدر فرح وتطويب للصابرين إلى الجهاد ضد التجارب الداخلية أى التحفظ من الخطية، ثم عناية الله بنا وتقديم كل إمكانية لنا معلناً حبه فيما وهبنا إياه أن نكون أولاداً له... لكن ما موقفنا الآن نحن كأولاد الله... هذا ما يحدثنا عنه الرسول بصورة عملية فيما يأتى. والرسول يستعرض هنا بعض صور التجارب المختلفة :-
1. التسرع فى الكلام.
2. الغضب.
3. النجاسة.
4. خداع النفس.
5. نسيان الكلمة.
6. إنفلات اللسان.
ثم يستعرض العلاج :-
1. الشبع بالإنجيل ليصير مغروساً فى القلب.
2. العمل بالإنجيل وتنفيذ وصاياه الحية.
3. إفتقاد اليتامى والأرامل والتحفظ من الدنس الموجود فى العالم.
أية 19 : - إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي الْغَضَبِ،
هنا نرى وصايا خاصة بالتعامل مع الناس.
مسرعاً فى الإستماع. مبطئاً فى التكلم = هنا يعالج الرسول عيب خطير فى حوارنا مع بعضنا البعض. فنحن لا نعطى فرصة لمن يريد أن يتكلم حتى يعبر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن، كأن الجميع لا يفهمون شيئاً وأنا وحدى الذى أفهم فهناك من يريد أن يثبت ذاته فى أى حديث ويتكلم كمن لا يوجد غيره.
وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار. أن نعطى للمتكلم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلم، عموماً من يسمع للناس بهدوء لن يخطئ فى الرد عليهم.
ويقصد ايضاً الرسول أن نستمع لشكوى الناس من ألامهم. فهناك من يتألم ولا يجد من يستمع إليه، فلنستمع لمن يتكلم بوداعة، ونفتح قلوبنا للناس. عموماُ فالذى تعلم من المسيح تجده لا يتكلم كثيراً بل يعمل كثيراً. ولنبطئ الحديث عن حقائق الإيمان خصوصاً وسط من يعلمون. فمن يتكلم كثيراً يخطئ، ومن يتسرع فى الكلام يخطئ (أم 29: 20). وقال القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك " كثيراً ما تكلمت وندمت وأما عن الصمت فلم أندم قط ". حسن للإنسان أن يشهد للحق لكن كثرة الكلام والتسرع فيه يكشفان عن نفس خائرة ضعيفة تخفى ضعفها وراء المظهر. لكن الكتاب يعلمنا أنه " للسكوت وقت وللتكلم وقت (جا3: 7). ومارإسحق يحدثنا عن الصمت بأنه ليس هو عدم الكلام بل إنشغال القلب فى حديث سرى مع الرب يسوع لذلك هناك :-
1. صمت مقدس فيه يصمت الفم ليتكلم القلب مع الله. هذا معنى "صلوا بلا إنقطاع".
2. صمت باطل فيه من يصمت الفم دون أن ينشغل القلب بالله.
3. صمت شرير فيه يصمت الفم وينشغل الداخل بالشر.
والأهم من كل هذا أن نكون مستعدين لسماع كلمات الرب يسوع فى إنجيله. فهل يمكن أن نهرب من إنشغالات العالم، ونخصص كل يوم وقتاً لنسمع فيه كلمة الله ونجلس عند قدميه كما فعلت مريم. ونسمع عظات تتكلم عن المسيح.
مبطئأً فى الغضب = الله طويل الأناة بطئ الغضب، وعلى أولاده أن يتشبهوا به. فهل يستطيع إنسان غضوب أن يبشر ويكون سبباً فى إنتشار إسم المسيح.
أية 20 :- لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ.
الإنسان الغضوب يعطل عمل الله الذى كله بر، سواء مع نفسه أو مع الآخرين وهذا معنى لايصنع بر الله. فهو لا يقدر فى لحظات غضبه أن يقف للصلاة ولا أن يسبح الله كما قال القديس أغسطينوس. بل يسبب أحقاد الآخرين ضد المسيحية. راجع (أم 22 :24+ 29: 22 + 15: 18). عموماً فألتأنى أحسن علاج للغضب.
أية 21 :- لِذَلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.
إطرحوا = بمعنى إخلعوا الثياب الوسخة أى أرفضوا التفكير فى الشرور والجلوس فى أماكن الشر. تخلصوا من كل شر حتى لو ظهر أمام العالم أنه مساير لروح العصر.
فإقبلوا = حرف الفاء يشير أنه حين نترك الشر سنتقبل الكلمة المغروسة.
فالقلب المملوء شراً ليس فيه مكان لأفكار الخير وحين نترك الشر نقبل كلمة الله.
الكلمة = هى كلمة الله فى الكتب المقدسة. وهذه الآية تتفق مع مثل الزارع. فالبذرة هى كلمة الله. والظروف المواتية لنموها هى القلب النقى الأمين الخالى من كل شر ونجاسة (أحجار وشوك) وأحقاد. وقبولنا لكلمة الله سيكون له ثمار كثيرة.
ومن ضمن النجاسات والشرور التى يجب أن نطرحها عنا الغضب حتى نستطيع أن نقبل كلمة الله. فى وداعة. فالثائر الغضوب لا يمكن أن يقبل كلمة الله.
والرسول يكلم أناساً مؤمنين ومع هذا يقول لهم قادرة أن تخلص نفوسكم = ولم يقل خلصت نفوسكم. لأن الخلاص أمر مستمر يعيش فيه المؤمن كل أيام غربته وليس أمراً حدث وإنتهى. لاحظ أن الرسول ينصحنا بأن نخضع لكلمة الله بروح الوداعة وليس بروح العجرفة.
أية 22 :- وَلَكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ.
تفسير هذه الأية فى (رو2: 13) " لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " وفى تشبيه السيد المسيح لمن يسمع ولا يعمل تجده فى (مت 7: 26، 27). وفى الأيات التالية نجد تشبيه الرسول نفسه لمن يسمع ولا يعمل.
الأيات 23، 24 :- لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ،، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ.
من يسمع الكلمة ولا يعمل بها يشبهه الرسول هنا بمن يرى وجه خلقته فى مرآة و يرى العيوب التى فى وجهة (قذارة مثلاً)، وبالرغم ممارآه فهو يمضى دون أن يصلح شيئاً من عيوبه. بل يظل طوال النهار يفكر فى وسامته وينسى العيوب التى كانت فيه. والكتاب المقدس هو كمرآة تكشف خفايا الروح وتظهر لنا خطايانا حتى نندم عليها ونقدم عنها توبة، المهم هو محاولة ترك الخطية وليس سماع الكلمة فقط وهكذا نستمع لعظات نكتشف فيها عيوبنا وسرعان ما نغادر المكان وننسى ما سمعناه من تعليم أو وعظ. ومعنى ذلك أن الإكتفاء بالاستماع لكلمة الله دون العمل بها لا يعمق الكلمة فى داخلنا. ومن مثل السيد المسيح (مت 7 : 26، 27) نفهم أنه حين نعمل أى نحاول تنفيذ ما سمعناه يكون هذا هو الأساس الصخرى الذى يحفظ البيت من السقوط. أو هو الذى يثبت كلمة الله فى داخلنا. وبدون العمل تنسى كلمة الله ويضيع تأثيرها تماماً كمن يبنى بيته على الرمال فلا يجد ما يرتكز عليه.
إن تنفيذ الوصية والعمل بها يجعلنا نختبر المسيح ونعرفه حقيقة، ومن يعرفه سيرفض أفكار الشيطان عنه بأن المسيح قاس إذا هبت رياح التجارب.
أية 25 :- وَلَكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ - نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ - وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهَذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ.
من إطلع = نظر بتفرس وتأمل وبحث وإجتهاد، ليس كمن ينظر فى مرآة بطريقة سطحية ويمضى وللوقت ينسى ماهو. بل ينظر ويدقق ليرى عيوبه ويستمع للوصايا وينفذها ليصلح من عيوبه.
الناموس الكامل = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان ناقصاً ولم يصل بأى أحد للكمال، مثلاً كل ما وصل إليه "لا تزن". لذلك جاء المسيح "لا لينقض الناموس بل ليكمل" ويقول من نظر لإمرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه.
ناموس الحرية = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان مؤد بنا إلى المسيح (غل 3: 24) هو إذن كان للتأديب أى يفرض على ما لا أريد أن أعمله. هو أوامر على من يسمعها أن ينفذها وإلا يعاقب فهو ناموس عبودية. اما ناموس المسيح فهو وصايا مكتوبة بالروح القدس على القلوب، ومن كتبت على قلبه ينفذها عن حب سكبه الروح القدس فى قلبه (رو5: 5) + (يو14: 23) + (أر31: 33) أما ناموس موسى فكان مكتوباً على ألواح حجرية خارج القلب. اما الروح القدس فحول القلب الحجرى إلى قلب لحم (حز 11 : 19). والمحبة التى يسكبها الروح القدس تحول القلب الحجرى إلى قلب لحم فيطيع الوصية لا عن خوف بل عن حرية، حباً فى المسيح، لذلك هو ناموس كامل يخاطب من ولد من الله بطبيعة جديدة تشتمل على رغبات وأشواق بحسب كلمة الله. هذه الولادة ترقى طبيعة الإنسان وتنميها وتكملها. بل أن الإنسان الداخلى فينا والذى هو على صورة المسيح بحريته يختار طريق المسيح فالمسيح داخلنا. وبهذه الطبيعة نعمل الأعمال الصالحة ومشيئة الله ونتشبه به فى صفاته لأننا صرنا أبناءه. لقد حررنا المسيح بقوة الدم من سلطان الخطية ووهبنا حرية الأبناء. بهذا تصير كلمة الله بالنسبة لنا عملية فلا يكون الواحد منا بعد ذلك
سامعاً ناسياً بل كلمة الله ثابته فيه. فى أعماق نفسه الداخلية. هذا العمل يهب لنا عذوبة رغم صعوبة الوصية، إذ نحمل نيرها لا بتذمر كعبيد أذلاء، ولا من أجل المنفعة كأجراء، بل نفرح بها كأبناء يتقبلون وصية أبيهم. ومن هو هكذا أى يفعل هذا العمل يكون مغبوطاً فى عمله هذا.
أية 26 :- إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ.
ظهرت هرطقة فى أيام يعقوب، غالباً كانت بسبب فهم خاطئ لرسالة رومية كما قال بطرس الرسول (2بط3: 15، 16). وهذه الهرطقة قالت أنه طالما نحن قد أمنا بالمسيح فلنفعل ما يحلو لنا، وسنناقش هذا فى الإصحاح التالى. ولكن فى هذه الأية والأية التالية يعلمنا الرسول يعقوب أن الإيمان وحده لا يكفى بل يظهر أهمية أعمالنا وأن أعمالنا تظهر نوعية إيماننا. وهنا يقدم يعقوب صورة للتدين الحقيقى والتدين الظاهرى الكاذب. والله الذى يكشف أعماق القلب يعرف الحقيقة. فالبعض ظنوا أنه لا حاحجة لضبط لسانهم بدعوى أن القلب طيب وأن العبادة بالروح وليس باللسان. والرسول يقول لا فبداية كل شئ هو اللسان وقارن مع إصحاح (3) فاللسان هو الدفة التى تقود السفينة أى الحياة كلها ولكن السيد المسيح يقول من فضلة القلب يتكلم اللسان (مت12: 34). ولنفهم هذا فلنتصور أن القلب هو خزان يمتلئ بكل ما يوضع فيه عن طريق فتحاته. وفتحات هذا الخزان (العيون /الأذان / اللسان / الأفكار) وتصور معى أنسان كل كلامه بطال (نجاسه مثلاً) فالقلب سيمتلئ نجاسة، ومن فضلة القلب يتكلم اللسان، وحينما يتكلم بكلام نجاسة يزداد القلب إمتلاء بالنجاسة. لذلك نسمع هنا أن من يعمل هذا يخدع قلبه. فمن يتكلم كلام بطال ملأ قلبه كلام بطال. إذن من لا يضبط لسانه يخدع قلبه فبينما يظن أنه دين إلا أن ديانته باطلة، وقد لوث حياته كلها وقاد السفينة للخطر، لذلك فنحن سوف نعطى حساباً عن كل كلمة بطالة نقولها (بطالة أى فارغة بلا معنى). فالكلام البطال يملأ القلب بكلام بطال فتصير حياتنا باطلة. وكلام التذمر يملأ الحياة مراراً وتصير الحياة كلها فى تصادم مع الله. إذن الكلام البطال خداع للقلب.
والقلب المقصود به ينبوع الأفكار والعين الداخلية المدركة للأمور وموضع الفرح والحزن الداخلى وكل المشاعر والعواطف، وأهداف الإنسان وإتجاهاته وتصميماته (مز 33 : 11) + (إش 6 : 10) + (نش 3 : 11) + (حز 11 : 21). إذن من الواجب أن ألجم لسانى ولا أنطق بأى كلمة لا معنى لها وليس لها هدف مهم بناء. والعكس فمن يعلم نفسه لغة التسبيح والشكر تصبح حياته كلها سلام وفرح.
سأل أخ شيخاً "يا أبى إنى أشتهى أن أحفظ قلبى" فقال له الشيخ "كيف يمكنك أن تحفظ قلبك وفمك الذى هو باب القلب مفتوح سايب".
أية 27 : - اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
الديانة الطاهرة هى... إفتقاد اليتامى = ولم يقل إنها الإيمان أى الإيمان النظرى، أو بعض الممارسات الطقسية دون أعمال. وهذا ليس إستهتاراً بالإيمان لكن كشف للجانب العملى للإيمان وتأكيداً للأعمال المرتبطة بالإيمان. والله أقام نفسه أباً للأيتام وقاضى للأرامل (مز 68 : 5) فمن كانت ديانته طاهرة يلزمه أن يمتثل بأبيه.
إفتقاد = زيارة ومعونة وتعزية.
حفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم = دنس العالم أى عاداته الخاطئة.
ولكى يحدث هذا فلابد من عمل نعمة الله فينا. ولكى تعمل فينا نعمة الله علينا أن نرحم الآخرين (إفتقاد اليتامى) ليرحمنا الله. لذلك هو بدأ بإفتقاد اليتامى والأرامل ثم تحدث عن حفظ الإنسان نفسه بلا دنس. إذن فلنرحم المحتاج حتى لو كان هذا ضد رغبتنا. لنرحم فيما هو قليل فيرحمنا الله فى الكثير. وإذ يحفظ الإنسان نفسه بلا دنس لا يعطى لإبليس أى حق ملكية فيه وبهذا تبقى النفس مقدسة للرب وحده.
ونلاحظ أننا لن نستطيع أن نعمل هذا ولا ذاك سوى بإيمان حى. فالمؤمن الحيقى سيرحم أخوه ولا يبخل عليه. وهو حركة الرحمة ستأتى من الإيمان الداخلى.
إستمرار لمنهجه نجد الرسول هنا يظهر أنواع الإيمان المنحرف. فليس كل إيمان هو إيمان صحيح، وليس كل إيمان يخلص صاحبه.
آية 1 :- يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاةِ.
يا إخوتى = الرسول يظهر لهم هنا أن الجميع إخوة، فعلاً جمال للتميز أو المحاباة، بل الكل أعضاء فى جسد واحد يتكامل أعضاؤه كما تتكامل أعضاء الجسم (العين والأذن واليد والرجل...) ويلزم على القوى أن يهتم بالضعيف، على الضعيف أن يحترم القوى. بل قيل عن الفقراء أنهم إخوة الرب.
لا يكن لكم إيمان.. فى المحاباة = هم لهم إيمان ولكن ليس إيمان حى صحيح، فهم يحترمون الأغنياء ويهينون الفقراء.
يسوع المسيح رب المجد = يلقب المسيح هنا برب المجد لكى يرفع أنظار المؤمنين إلى المجد السماوى الحقيقى، فأمام مجد المسيح يصير كل مجد بشرى تافه لا قيمة له. فالغنى البشرى والمجد البشرى هو لا شئ أمام المجد الحقيقى فى السماء. فعليهم إذاً أن لا يحابون الناس على أساس غناهم وكرامتهم الزمنية، بل يحبون الكل كإخوة لهم ميراث ابدى مرتبطون بإيمان الرب.
الأيات 2-4 - فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ، وَدَخَلَ أَيْضاً فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ، فَنَظَرْتُمْ إِلَى اللاَّبِسِ اللِّبَاسَ الْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ: "اجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَناً". وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: "قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ" أَوِ: "اجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ" 4فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟
كانت عادة لبس الخواتم منتشرة بين الأغنياء لنوال الكرامة، وهى عادة رومانية. وكان رجل رومانى يلبس 6 خواتم فى كل إصبع لا يخلعها ليلاً ولا نهاراً. ويلوم الرسول هنا من يحابى الغنى ويكرمه ويحتقر الفقير. هل نفعل هذا للأغنياء وذوى المراكز لأننا نتوقع منهم المعروف، ولماذا لا نفعل هذا مع الفقير ونترجى الجزاء من الرب يسوع مجمعكم = إجتماعاتكم الدينية وربما يقصد الكنيسة.
فهل لا ترتابون = الإرتياب قائم على أساس أن الإيمان يظهر فى حضورهم للإجتماع فى الكنيسة، بينما تظهر العالميات فى الإزدراء بالفقراء. وهذا التقلب يشبه تقلب المرتاب أى الإنسان ذو الرأيين. تصيرون قضاة افكار شريرة = بهذا صرتم قضاة حكمتم على الفقراء بالإهانة، ولم تعاملوا الفقراء والأغنياء بالمساواة. ولكن كنتم قضاة غير عادلين، كنتم منساقين بأفكار ومبادئ شريرة هى المحاباة.
أية 5 :- اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟
هنا يقارن الرسوا بين الفقراء الأغنياء روحياً وبين الأغنياء الفقراء روحياً الذين يتسلطون على المؤمنين، بل يجدفون على إسم المسيح.
فقراء العالم أغنياء فى الإيمان = إذن الفقر وحده ليس جواز مرور للسماء، بل من يدخل السماء هو الفقير مادياً لكن غنى بإيمانه وهكذا كان كل تلاميذ المسيح.
أيات 6، 7 :- وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ. أَلَيْسَ الأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إِلَى الْمَحَاكِمِ؟ أَمَا هُمْ يُجَدِّفُونَ عَلَى الاِسْمِ الْحَسَنِ الَّذِي دُعِيَ بِهِ عَلَيْكُمْ؟
فاليهود جردوا المسيحيين من ممتلكاتهم وبهذا إزداد اليهود غنى، ومع هذا فهم يكرمونهم بينما هم يجدفون على إسم المسيح. كأن الرسول يقول.. لماذا تحابون الأغنياء مع أن أغلب المشاكل تنبعث منهم، وهم لا يعاملونكم معاملة طيبة، وإنما يظهرون سلطانهم عليكم بأن يجرونكم للمحاكم ويجدفون على إسم المسيح الذى أعطى لكم فسميتم مسيحيين، (ويظهر أن الإسم مسيحيين كان قد بدأ ينتشر). الرسول هنا غالباً يتكلم عن الأغنياء اليهود أو الوثنيين (لكن وسط الأغنياء المسيحيين أيضاً يوجد كثيرين من قساة القلوب). وإنه لحسن أن يعطى الإنسان الكرامة لمن له الكرامة وأن يحب الجميع ويلاطف الكل، لكن ليس بقصد المداهنة أو عن خوف ولا على حساب الآخرين.
الأيات 8، 9 :- فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". فَحَسَناً تَفْعَلُونَ. وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ.
يعقوب هنا لا يطلب أن نهين الأغنياء بل نكرم الكل فقراء و أغنياء.
الناموس الملوكى = هو ناموس الملك العظيم المسيح، هو ناموس المحبة للكل.
المقصود أنه لو كان تكريمهم للأغنياء نابع عن الحب لكان فى ذلك تكميل للناموس الملوكى، ولكان عملهم هذا حسن جداً. ولكن إذا كان الدافع هو المحاباة فهم قد إنحرفوا وتعدوا الناموس وصار عملهم خطية لأن الناموس أوصى بعدم المحاباة. والحكم فى هذا هو هل من يكرم الأغنياء بدافع المحبة كما يقول، هل يفعل هذا مع الفقراء أيضاً. ونلاحظ أنه دعا المحبة بالناموس الملوكى فهى شريعة ملكوت السموات وقانونها الذى يسود السماء إلى الأبد، المحبة هى الطريق الذى يبلغ بنا إلى ملك الملوك ذاته.
ملحوظة :- هناك فرق واضح بين أسلوب يعقوب البسيط وأسلوب بولس الفيلسوف فالله لا ينزل كلاماً مكتوباً من السماء. بل هو بالروح القدس يعطى الكاتب فكرة والكاتب يصيغها بخبرته وبلغته، والروح القدس يحمي من الخطأ.
الأيات 10، 11 :- لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ. لأَنَّ الَّذِي قَالَ: "لاَ تَزْنِ" قَالَ أَيْضاً: "لاَ تَقْتُلْ". فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّياً النَّامُوسَ.
من عثر فى واحدة = يقصد إكرام الغنى وإحتقار الفقير.
فقد صار مجرماً فى الكل = من عثر فى واحدة فهذا يعنى الإستهانة بها، وبالتالى فمهما بدت الوصية قليلة الأهمية، فإن الإستهانة بها إنما هو إستهانة بواضع الوصية، هو إحتقر سلطان الله. ومن تكون له جرأة على كسر وصية واحدة ستكون له الإمكانية والجرأة أن يكسر أى وصية أخرى.
وهنا يثار سؤال... هل كل الخطايا متشابهة، فهل من يقتل يتساوى مع من يكذب عن إكراه ؟ شرح هذا أغسطينوس وقال إن الخطايا بالعمد مثل القتل ليست كالهفوات التى تصدر عن ضعف بشرى أو بغير إرادة أو عن جهل. غير أن جميع الخطايا عقابها الموت الأبدى، وكلها لا يمكن التطهير منها إلا بدم المسيح.
والرسول هنا يقصد أن خطية عدم المحبة والإستهانة بالفقير ومحاباة الأغنياء وإن بدت صغيرة إلا أنها تجعلنا نكسر الناموس كله. والرسول يريد منا أن نجاهد ضد الثعالب الصغيرة، لأن البشر غالباً ما يهتمون بالخطايا التى بحسب نظرهم تعتبر كبيرة ولكنهم لا يهتمون بما يحسبونه خطية صغيرة. وبهذا يغلق الرسول باب الخداع الذى تفتحه لنا الخطية لنستهين بها. ومهما كانت الخطية بسيطة علينا أن نقدم عنها توبة.
الأيات 12،13 :- هَكَذَا تَكَلَّمُوا وَهَكَذَا افْعَلُوا كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ.، لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ.
هكذا تكلموا = ليكن موضوع كرازتكم. وهكذا إفعلوا = وليكن أيضاً طريق سلوككم أن تصنعوا الرحمة مع إخوتكم فتنالوا رحمة يوم الدينونة. ونحن متوقعون أن نحاكم بحسب الناموس الملوكى الذى حرر الإنسان ولم يجعله عبداً لغيره من البشر، فإن المحاباة ليست أكثر من عبودية اإنسان لغيره من الناس.
الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة = شرح السيد المسيح هذا فى مثال العبد الذى سامحه سيده ولم يسامح هو العبد زميله (مت 18 : 23 – 34). فناموس الحرية يعنى أننا لن نتمتع بالتحرر الأبدى من الكثير ما لم نعتق إخوتنا مما هو قليل وزمنى. ولا نعاملهم بجفاء وقسوة قلب بسبب المحاباة. والرحمة تفتخر على الحكم = هذه فى تعاملنا مع بعضنا البعض. والحكم هو العدل. أى إرحم أخوك وتنازل عن حقك حتى لو كان لك الحق وبعدل، فمن يفعل الرحمة لا يتعرض للدينونة، أما من يطالب بحقه حتى لو كان بعدل فسيتعرض للدينونة، لذلك فالرحمة تفتخر على العدل فهى تنجى يوم الدينونة. فطوبى للرحماء لأنهم يرحمون، أما من يستعمل حقه حتى لو بعدل وبدون رحمة ويأخذ حقه من أخيه ولا يرحمه يخسر رحمة الله، فالله أيضاً سيعامله بعدل وبدون رحمة. هذا الإنسان لم يتشبه بالله الذى برحمته فدانا.
هرطقة الإتكال على الإيمان بدون أعمال
هذه الهرطقة ظهرت غالباً نتيجة فهم خاطىء لرسالة بولس الرسول إلى أهل رومية (2 بط 3 : 15، 16). إذ ظن البعض أن الإيمان وحده قادر أن يخلص الإنسان ويبرره دون الحاجة لأن تكون له أعمال. وأن دم المسيح يطهر وكاف لخلاصهم دون حاجة إلى الجهاد والمثابرة. وربما حدث هذا نتيجة لأن بولس الرسول هاجم الأعمال فى رسالته لكنه كان يهاجم أعمال الناموس (كالتطهيرات والختان... ألخ) ويهاجم أعمال البر الذاتى. ولكن نلاحظ أن بولس كان واضحاً فى تأكيد أعمال الإيمان أى أن يكون للشخص أعمال وجهاد نابع عن إيمان سليم. والأدلة على ذلك :-
1. (رو 6 : 4) يقول بولس الرسول "هكذا نسلك أيضاً فى جدة الحياة" ومعنى نسلك أن تكون لنا أعمال فى حياتنا الجديدة.
2. (رو 6 : 13) قدموا أعضاءكم ألات بر لله.
3. (رو 6 : 19) قدموا أعضاءكم عبيداً للبر والقداسة.
4. الإصحاح (رومية 12) كله صورة للسلوك المسيحى والاعمال المقدسة.
5. الإصحاحات (13- 16) من رسالة رومية هى وصايا عملية لعلاقتنا مع الحكام وإخوتنا الضعفاء وببعضنا البعض.
وهنا كما رأينا فيعقوب يركز على الأعمال " إفتقاد الأرامل وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس. بل رأينا فى هذا الأصحاح أهمية معاملة الفقراء حسناً وغير ذلك يكون إيماناً مريضاً، إيمان محاباة.
إذاً ليس هناك تناقض بين الرسالتين، فكلا الرسالتين يهتمان بالإيمان الذى يظهر فى الأعمال. ونوعية الإيمان تظهر فى الأعمال، هل هو إيمان صحيح أم مريض.
ولكن بولس الرسول يركز على الإيمان بينما يعقوب يركز على الأعمال. وذلك لأن المشكلة التى يقابلها بولس الرسول ويعالجها غير المشكلة التى يقابلها يعقوب ويعالجها. فبولس واجه جماعة من المتهودين الذين كانوا أصلاً يهوداً وينادون بضرورة تهود الأمم وضرورة ختانهم متكلين على اعمال الطقس اليهودى فى ذاتها أنها تبرر الإنسان. بالإضافة لتسلل الفكر اليهودى للمسيحييين. واليهود يفتخرون بأعمال برهم الذاتى حاسبين أنهم بأعمالهم يخلصون. لذلك حين يرفض بولس الرسول الأعمال فهو يرفض أعمال الناموس وأعمال البر الذاتى.
أما المشكلة التى قابلت يعقوب فهى غير المشكلة التى قابلت بولس. فيعقوب يكلم أناساً مؤمنين ظنوا أن إيمانهم بالمسيح كاف لخلاصهم دون أن يعملوا أو يجاهدوا، أو مهما أخطأوا. وكان رد يعقوب أن مثل هذا يعبر عن إيمان ميت وما يظهر حقيقة إيمانك هو نوعية أعمالك.
بولس يهاجم الأعمال بدون دم المسيح. أى مهما عملت، بدون دم المسيح لا خلاص. ويعقوب يهاجم التكاسل والإعتماد على دم المسيح، والإنقياد فى طر يق الخطية.
بولس يهاجم الإعمال السابقة للإيمان لإيضاح أهمية الإيمان. والمعنى أنه مهما كانت أعمالك بدون الإيمان بالمسيح فهى لن تخلصك. وبالتالى لا داعى لأعمال الناموس الطقسية كالختان والقول بأنها تخلص، فما قيمة الختان بجانب دم المسيح. ولا داعى للإفتخار بأعمالى ظاناً أنها تخلصنى، فيقول وأما من إفتخر فليفتخر بالرب (2كو 10: 17) + (1كو1: 31). أما يعقوب فيطلب الأعمال الصالحة من المؤمنين بعد إيمانهم، حتى لا يكتفوا بالإيمان النظرى.
إذاً ليس هناك تناقض بين الرسالتين، ولكن الوحى قصد أن يركز الأضواء فى رسالة رومية على الإيمان، وفى رسالة يعقوب على الأعمال لتكتمل الصورة من كافة زواياها. وقدم يعقوب تشبيهاً جميلاً أن :-
إيمان + أعمال = روح + جسد ولا يمكن فصلهما إطلاقاً.
أى من لا يعمل بعد إيمانه أى يتحرك حركة أيجابية هو ميت، فمن لا يتحرك هو جسد ميت.
ولاحظ أن هذا هو نفس فكر بولس الرسول " إن كان لى كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليست لى محبة فلست شيئاً (1كو13: 2). ولاحظ تعريف بولس للإيمان بأنه هو الإيمان العامل بالمحبة (غل5: 6). ولاحظ تعريف المحبة فى (1كو13). وبولس يؤكد أن المحبة أعظم من الإيمان، والمحبة يجب أن يكون لها تعب (جهاد) (1تس1: 3). وبولس لا يقف عند إظهار ضرورة الأعمال بل يؤكد أن الأعمال الشريرة تهلك الإنسان حتى لو كان مؤمناً (رو6: 1-12) + (1كو6 :7-10) + (1كو 10: 1-12) + (غل 5: 19-21) + (2تس1: 8،9) + (تى 1: 16) + (عب 10: 26-30). أما عن يعقوب فأنه لا يتجاهل الإيمان (يع 1 :6 + 5: 15). ولقد ركز كل من بولس الرسول ويعقوب على آية واحدة من العهد القديم "فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً" (تك 15: 16). ورأى فيها بولس أن إبراهيم تبرر بالإيمان وليس بالأعمال (رو4: 2، 3). ويعقوب فهم من نفس الآية أن إبراهيم تبرر بالأعمال (يع2: 21-24). وفى ضوء ما ذكرناه يتضح أنه لا تعارض لأن إبراهيم تبرر بإيمانه الحى الذى ظهر فى أعماله. فلولا إيمان ابراهيم بالله وأنه قادر أن يقيم اسحق (عب 11 : 19) ماكان قد تبرر. وهذا ما أشار له بولس. أما ما قاله يعقوب فهو أن إيمان ابراهيم ظهر فى أعماله وأنه قدم ابنه ذبيحة. إذاً ابراهيم تبرر بالإيمان الحى الذى ظهر فى أعماله العظيمة.
عموماً من يؤمن بالمسيح، يحيا المسيح فيه (غل2: 20) فيستطيع هذا المؤمن أن يعمل أعمال بر، مصدرها المسيح الذى يحيا فيه. ولكن من الذى يعطيه المسيح أن يعمل أعمال بر ؟
هو من يجاهد أن يعمل وليس للكسلان. لذلك يقول بولس الرسول...
ولكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمته المعطاة لى لم تكن باطلة، بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله التى معى (1كو15: 10).
فبولس تعب أكثر من جميعهم، ولذلك عملت النعمة فيه. فعلى أن أعمل ولكن لابد أن أعلم أن نعمة الله هى التى تعمل فى. ومن يفهم هذا فلن يقف أمام الله إذا حدث له فشل أو وقع فى تجربة ويقول الله أنا عملت كذا وكذا وخدمتك، فلماذا لم تعطينى كذا وكذا من النجاح. ولذلك يقول يعقوب أن علينا أن نفهم "أن كل عطية صالحة من عند الله" (يع 1: 17) فلماذا ننسب النجاح أو العمل الصالح لأنفسنا ولا ننسبه لنعمة الله التى عملته فينا. من ينسب العمل لنفسه فهذا ما يسمى بالبر الذاتى، وبنفس المفهوم يقول بولس الرسول " وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ (1كو 4: 7).
إذاً النعمة تعمل فيمن يجاهد ويعمل ولذلك قال بولس الرسول "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعى... أخيراً وضع لى إكليل البر" (2 تى 4 : 7،8) فلم ينام بولس الرسول معتمداً على إيمانه، بل نراه مجاهداً يسعى والرب يعمل به أعمالاً عظيمة. وبولس الذى يشعر بعمل الرب فيه، عمل نعمته، يقول "وأما من إفتخر فليفتخر بالرب".
أية 14 : - مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَاناً وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟ هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟
إن قال أحد أنه له إيمان = لاحظ أنه لم يقل إن كان أحد له إيمان. لأن من يقول أن له إيمان وليس له أعمال فإيمانه ميت، هو إيمان خيالى غير واقعى وغير موجود، هى مجرد فكرة فلسفية. وفى (مت 7 : 21 – 23) يذكر لنا الرب من بين الهالكين أناساً مؤمنين بل وأصحاب مواهب ومعجزات. لكن إذ ليس لهم أعمال يقول لهم إنى لا أعرفكم قط، إذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. إذن فالإيمان وحده دون أعمال لا يخلص. ويشير أثناسيوس الرسولى لأن بولس الرسول يبدأ أحاديثه دائماً بالإيمان ثم يكمل الحديث عن الوصايا والأعمال. فلا خلاص لنا بدون إيمان، ولا نفع لإيمان نظرى بغير أعمال.
الأيات 15 – 17 :- إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ، فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: "امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا" وَلَكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟ هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضاً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ.
إذ أراد الرسول أن يشرح أن الإيمان بدون أعمال هو شىء أجوف قال هذا المثل. أية منفعة يجنيها الأخ والأخت العريانين من مجرد معرفة أحدكم بحالهما. إن مجرد المعرفة لا تفيدهما شيئاً فهما يحتاجان لعمل ما يدفئهما، هذه المعرفة بدون عمل تشبه الإيمان بدون أعمال، الذى هو إيمان ميت بلا ثمر. الإيمان هنا يكون أشبه بفكرة منحصراً فى مجال العقل، لا يتحرك خارجاً، والإيمان بلا حركة هو إيمان ميت. وفى هذه الحالة كيف يكون التصرف إذا رأينا أخ عريان، لابد من الحركة والبحث له عن مكان أو عن ما يدفئه وهذا يتطلب عمل وجهاد، وربما نقود ننفقها على هذا المحتاج. الإيمان الحى بالله يظهر فى هذا العمل. مثال آخر :- هل من يؤمن إيمان حى بميراث أبدى يتصارع مع إخوته على ميراث ؟!
أية : 18 :- لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: "أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ!" أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي.
الأعمال الحية برهان على وجود الإيمان " من ثمارهم تعرفونهم " (مت7: 16) وبالأعمال يكون أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس (1يو3: 10) والأعمال ليست فقط أمام الناس، بل والله سيجازينا بحسبها (مت16: 27).
أية 19 :- أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!
هذا هو المثال الثانى للإيمان الميت، فالشياطين يعرفون أن الله موجود ومتأكدون، ولكنهم كل أعمالهم شر. لذلك هم لا يعاينون الله، فلا يعاين الله سوى أنقياء القلب. فإيماننا الحى ينقى القلب وإيمانهم الميت يجعلهم مذنبين إذ هم بلا أعمال صالحة.
الأيات 20- 24 :- وَلَكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ؟ أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ فَتَرَى أَنَّ الإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإِيمَانُ، وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: "فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً" وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ. تَرَوْنَ إِذاً أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ، لاَ بِالإِيمَانِ وَحْدَهُ.
أيها الإنسان الباطل = يقول الإنسان الباطل لأنه يوجه كلامه لمن يقول أنا لى إيمان لكنه بدون أعمال. إبراهيم خليل الله. (2أى20: 7 + أش41: 8) ولقد قدم إبراهيم إبنه على المذبح طاعة لما فهمه أنه إرادة الله، وإيماناً بأن الله الذى وعد قادر أن يقيم إسحق بعد ذبحه، فهو إبن المواعيد، فهو أمن أن الله وعد وهو قادر أن يتم الوعد (عب 11: 18، 19). هل لو كان إبراهيم قال أنا أؤمن ولم يقدم إبنه ذبيحة، هل كان قد تبرر ؟
أية 25 :- كَذَلِكَ رَاحَابُ الّزَانِيَةُ أَيْضاً، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؟
ربما قال أحد أين أنا من إيمان إبراهيم. والرسول يرد عليه... فلتكن على مثال هذه المرأة البسيطة التى بإيمانها خلصت. كان شعب أريحا كله يعرف قوة شعب الله وأن الله إله قوى (ولكن إيمانهم هذا أو معرفتهم هذه تشبه الإيمان الميت إذ لم يكن لهم عمل). ولم يخلص سوى من كان لها عمل أظهر أن إيمانها حى.
أية 26 :- لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضاً بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ.
الإيمان كالجذور والأعمال كالثمار، ينبغى أن يكون لدينا كليهما. المسيحية ليست فلسفة فكرية بل حياة فى نور الرب يسوع.
هنا نرى صورة أخرى للإيمان المريض. الرسول هنا يتكلم عن إنسان يسعده أن يرسم لنفسه صورة الإنسان الذى يعلم، فيعلم كثيراً، ويجادل كثيراً. وتجد مثل هذا لسانه غير منضبط، قد يندفع ويعثر ويثير كثير من المشاكل. أما المؤمن الحقيقى ذو الإيمان الحى فنجده قليل الكلام، قادر على التحكم فى لسانه. واثق فى إلهه. يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.
فى هذا الإصحاح يحدثنا الرسول عن خطورة اللسان وأخطاء الكلام ومن بعض أخطاء اللسان.
1. حب التعليم.
2. إنفلات اللسان (لسان إنفعالى لا يهدأ ويشعل الدنيا ناراً).
3. لعن الناس.
4. تدنيس الجسم (بكلام خاطىء يثير الشهوات).
أية 1 :- لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!
لا تكونوا معلمين كثيرين = كانت شهوة اليهودى أن يصبح معلماً وسط إخوته لينال كرامة (رو 2 : 17 – 24). وهذه الشهوة ربما تسللت للمسيحيين. فمع ضرورة التعليم للمؤمنين حتى لا يهلك الشعب من عدم المعرفة، فهناك خطر حب التعليم، فهذا يحمل فى طياته حباً للذات وكبرياء، مع سوء تقدير لواقع النفس التى كثيراً ما تتعثر وتخطىء. والرسول يتكلم هنا عن المعجبين بأنفسهم، الذين يريدون إثبات ذواتهم فى التعليم وليس عمن أعطاهم الله موهبة التعليم ودعاهم لذلك. عموماً فى كثير من الأحيان علينا أن نصمت، ولكن فى بعض الأحيان علينا أن نتكلم لنشهد لله، والله يعطى حكمة متى وكيف أتكلم، حتى يصبح كلامى يصنع بر الله.
ولنلاحظ أن الإيمان الميت يدفع بالإنسان إلى تغليف نفسه بمظهر التعليم، فهو يكثر من الكلام والتوبيخ والإنتهار بدون إنسحاق داخلى. ولاحظ فى صلوات القداس الإلهى أن الكاهن يصلى عن خطاياه وعن جهالات الشعب، والجهالات هى درجة أقل من الخطية. لذلك على المعلم أن يتضع ويمارس هو أيضاً سر الإعتراف. والرسول قطعاً لا يقصد الأب والأم والكاهن والمعلم الذين من واجبهم أن يعلموا بل من يريد أن يتباهى بمعلوماته.
أننا نأخذ دينونة أعظم = من تواضع الرسول أن يضع نفسه معنا، أى من ضمن الذين يخطئون. والدينونة ستكون لأن كلماتنا ستكون شاهدة علينا يوم الدين إذا لم ننفذ ما نقوله. بل إن من نعلمهم حينما يرون عثرتنا سيدينوننا.
أية 2 :- لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضاً.
نعثر جميعنا = ها هو يضع نفسه ثانية فى صف الخطاة، لذلك يقول ذهبى الفم أنه حتى رئيس الأساقفة له ضعفاته حتى يترفق بالضعفاء أولاده. ومن أكثر هذه العثرات وقوعاً هى عثرات اللسان التى يقع فيها كل منا. ومن لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل = وعلى ذلك فالمعلم (بل أيضاً أى إنسان) حتى يكون كاملاً عليه أن يضبط لسانه، حتى لا يتعرض للدينونة. ومن يفعل هذا يكون قادر أن يلجم الجسد أيضاً = ويقصد بالجسد الإنسان كله بكل ما فيه من سلوك وأهواء وشهوات وميول. وقد ذكر كلمة الجسد هنا بالذات لأن الجسد بواسطة حواسه وأعضائه يتعرض أكثر لإغراء الخطية وبواسطة الجسد تمارس خطايا النفس الداخلية. رجل كامل = فيه نضج روحى ومملوء نمو أخلاقى وصانع سلام يشبه المسيح.
الأيات 3 – 5 :- هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ. هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضاً، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدّاً إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ. هَكَذَا اللِّسَانُ أَيْضاً، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّماً. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟
هنا أمثلة على أشياء صغيرة (اللجم والدفة) تدير أشياء كبيرة جداً (الفرس والسفينة). فاللجام لا يدير الرأس فقط بل الجسم كله. والدفة توجه كل السفينة. وهكذا اللسان العضو الصغير يدير الجسم أى الحياة كلها أى القلب الذى هو المشاعر والإرادة والقرار أى كل الداخل بل يدير أيضاً السلوك الخارجى (مز 39 : 1). ومن يحفظ لسانه لا يركض جسده كالخيل مندفعاً فيطوح بالنفس البشرية على الأرض محطمة. ومتى أساء الربان إستخدام الدفة الصغيرة تهلك السفينة كلها. فمع إشتداد الموج والرياح هناك وضع سليم توضع فيه الدفة لتوجه السفينة فى الإتجاه السليم وإلا لو وضعت الدفة فى إتجاه خاطىء لإنقلبت السفينة. والدفة هى اللسان والسفينة التى تسوقها رياح عاصفة هى حياتى. والرياح العاصفة هى إشارة لعنف الإنفعالات التى تسيطر على الإنسان. والرجل الكامل يوجه الدفة أى لا يخرج من لسانه سوى كلمات تهدىء الموقف، والعكس فمن يخرج أقوالاً خاطئة منفعلة يشعل الدنيا ناراً، ولا يحيا هو نفسه فى سلام، بل تعتل صحته وتصيبه كثير من الأمراض، بل يمكن أن تضيع حياته كلها إذا وصل الأمر لشجار بالأيدى.
ولقد أساء نبوخذ نصر إستخدام لسانه (الدفة) فذاق المر سنيناً (دا 4 : 23). وهكذا هيرودس (أع 12 : 23). فقد تعظم كليهما بألسنتهما. نبوخذ نصر إستخدم لسانه خطأ وهيرودس لم يستخدم لسانه ليعطى المجد لله. وكبرياء قلبيهما كانت الرياح العاصفة التى قلبت السفينة. والدفة لم تستخدم بطريقة صحيحة أى اللسان لم يستخدم ليعطى المجد لله.
هوذا نار قليلة أى وقود تحرق = اللسان وكلماته الخارجة منه هى النار. ولابد من السيطرة على اللسان وإلا فلن يمكن السيطرة على النتائج، كما لا يمكن السيطرة على غابة محترقة. فاللسان هو نار والوقود قد يكون حياتنا أو السلام مع الناس وبين الناس. كلمة خاطئة صغيرة قد تشعل الدنيا ناراً.
هنا نرى فى كلام يعقوب أن اللسان يقود القلب والحياة كلها. ولكن السيد المسيح يقول " من فضلة القلب يتكلم الفم (مت12: 34). أى أن القلب هو مصدر ما يتكلم به اللسان. فمن يا ترى يقود من ؟ الإجابة كليهما يقود... كيف ؟ القلب يمكن تشبيهه بخزان (حصالة)، وهذا له ثقوب نضع فيها ما نريده والثقوب التى يتم عن طريقها التحويش فى هذا الخزان (الحصالة) هى الحواس (العين والأذن) واللسان (كل ما نتكلم به) والفكر. وحينما يمتلئ القلب يتكلم اللسان بما هو فى داخل القلب. ولنأخذ أمثلة :-
إنسان أصابته تجربة ما فظل يتذمر ويشكو بلسانه طوال الوقت، فهذا يملأ القلب مرارة، والمرارة حينما تملأ القلب تدفع الإنسان لمزيد من الكلام القاسى على الله، وهذا يزيد القلب مرارة بالأكثر. وهكذا ندور فى دائرة رهيبة وتتجه الحياة بالأكثر إلى المرار والشعور بتخلى الله عن الإنسان بل والخصام مع الله بما يستتبعه هذا من شعور بالوحدة والكأبة والحزن.
مثال آخر لإنسان لا يستخدم لسانه إلا فى الشكر وفى تسبيح الله وتمجيده، هذا يمتلئ قلبه فرحاً. ومن فضلة الفرح يسبح بلسانه وهكذا تسير الحياة من فرح لفرح.
مثال ثالث لإنسان يتكلم كثيراً فى الخطية ويردد نكاتاً جنسية خارجة، هذا الإنسان يشعل شهوته ويمتلئ قلبه نجاسة، ومن فضلة قلبه النجسة لا تجد فى كلماته سوى كلمات خارجة وهكذا تضعف حياة هذا الإنسان ويتعرض للسقوط. وهكذا الإنسان فاقد السلام الداخلى تخرج من فمه كلمات تشعل الدنيا ناراً. والإنسان الذى يطبق وصية بولس الرسول "صلوا بلا انقطاع" (1 تس 5 : 17). حينما ينام سيفكر ويحلم بكلمات الله " أنا نائمة وقلبى مستيقظ (نس5: 2)
وكيف يصلح الداخل ؟ هذا يكون بعمل النعمة التى تخلق الإنسان خلقة جديدة والنعمة تحتاج لجهاد. والجهاد المطلوب هو السيطرة على اللسان، بترديد كلمات التسبيح والشكر والصلاة الدائمة وأن نبارك ولا نلعن، ونصنع سلاماً مع الناس.
أبة 6 :- فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هَكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ.
اللسان هو نار = أى يفعل فعل النار، وله أثره فى حياتنا كما للنار أثر فى الوقود. وهناك طريقتان لإضرام هذه النار.
أ) يضرم من جهنم = جهنم كناية عن إبليس كما نقول السماء كناية عن الله. وجهنم معناها أرض إبن هنوم (أرض باليونانية = جى) و كانوا يشعلون النار فى القمامة والحيوانات الميته فى أرض ابن هنوم، لأنها كانت مكان قمامة وقاذورات أورشليم، وكانت النيران لا تنطفئ فيها ليلاً ولا نهاراً. ومن هنا قيل أن جهنم هى موضع اللهيب وموضع العذاب الأبدى. وإذا أضرم اللسان من جهنم يكون اللسان عالم الإثم = الذى يحوى طاقة كبرى من كافة أنواع الشرور وهو يدنس الجسم بأربع طرق :-
1- إقتراح الخطية على أنفسنا ولمن حولنا.
2- بإرتكاب الخطية كاللعن والتجديف... ألخ.
3- بالدفاع عن الخطية وإلتماس الأعذار لها.
4- بإثارة الشائعات حول الناس.
فاللسان يدنس الجسم بما يشترك فيه من أحاديث هدامة.
يضرم بالروح القدس = فتكون كلماتنا نارية قادرة أن تشعل التوبة والإيمان فى قلوب السامعين كما حدث يوم الخمسين. فبطرس بلسانه النارى جعل 3000 شخص يؤمنون. لقد أضرم لسانه من الروح القدس. حينئذ نقول أن لسانه كان نار ولكنه نار عالم الكرازة وعالم التسبيح وصنع السلام.
والإنسان هو أن يكون لسانه نار عالم الإثم أو نار عالم التسيح والشهادة لله. والحكيم يقول "لا تدع فمك يجعل جسدك يخطىء" (جا 5 : 6) ويقول القديس أنطونيوس العظيم "لا تدين أخاك لئلا تسلم إلى خطاياك القديمة".
وبالرجوع لمثل النيران، فكما تسود النيران ما حولها بالدخان هكذا اللسان يضرم.دائرة الكون = كل دائرة الإنسان والعواطف. هو تعبير يصور حياة الإنسان منذ ميلاده إلى نهايته، ودائرة المقصود بها عجلة تدور. وتترجم عجلة الطبيعة والعجلة تبدأ الدوران بالميلاد وتتوقف بالموت. واللسان منذ بداية الحياة إلى ختامها يحدد شكل هذه الحياة. فلو كان شريراً منفلتاً لألهب الكيان بل كل دائرة الحياة البشرية مسبباً شقاقات ونزاعات وكراهية أو أحقاد، مما يجعل الإنسان يفقد سلامه الداخلى والخارجى طوال حياته. ولو كان اللسان لا يتكلم إلا بكلمات شهوة دنسة يشعل الشهوة فى الإنسان. وهكذا كل من يردد الشتائم. كل هذه الألسنة مضرمة من جهنم حيث النار مشتعلة، ويسر الشياطين أن يأخذوا من هذه النار ويشعلوا حياتهم وتكون أداتهم فى ذلك اللسان.
عالم الإثم = اللسان صورة للإنسان، يعبر عن حال الإنسان الداخلى، فإن كان الإنسان يحيا فى عالم الإثم، فاللسان يكون تعبيراً عن العالم الذى يحيا فيه.
الأيات 7، 8 :- لأَنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالّزَحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ. وَأَمَّا اللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ، مَمْلُّوٌ سُمّاً مُمِيتاً.
الإنسان إستطاع ترويض الحيوانات المفترسة، لكنه لا يستطيع أن يلجم لسانه. لذلك علينا أن نلجأ لله ليروض ألسنتنا، ومتى حدث فلننسب الفضل لله فنحن غير قادرين على هذا دون الحصول على معونة. والله فى بعض الأحيان يستخدم تأديبات لنا وتجارب كما يستخدم مروض الوحوش السوط. هو شر لايضبط. هذا إن لم يروضه الله (رو3: 13، 14) ويكون له تأثير سام قاتل للنفس وللأخرين.
الأيات 9-12 :- بِهِ نُبَارِكُ اللَّهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللَّهِ. مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ هَكَذَا! أَلَعَلَّ يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُوناً، أَوْ كَرْمَةٌ تِيناً؟ وَلاَ كَذَلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحاً وَعَذْباً!
اللسان الذى به نبارك الله وقت الصلاة، متى إستخدمناه فى الإساءة للناس الذين هم على شبه الله، نوجه الإهانة إلى خالقهم ونستهين بحبه الذى أحب به العالم كله. والله خلق اللسان ليبارك الله، كما خلق التينة لتخرج تيناً. اما اللسان الشرير فلا يبارك بل يلعن. ومتى أخرج كلمات لعنة يكون مثل تينة أخرجت زيتوناً أى ثمرة مخالفة لما خلقت لتعطيه. المقصود أيضاً أن التينة التى تعودت أن تعطى تيناً لا يمكن أن تأتى يوم وتعطى زيتوناً، هكذا من تعود لسانه أن يلعن، لا يمكنه أن يبارك الله ولا الناس، بل لن يتمكن من الصلاة أصلاً.
الينبوع الشرير = اللسان يتكلم من فضلة القلب، لذلك فالخطر الحقيقى كامن فى الينبوع الداخلى الذى إن طهرته النعمة صار الكلام مملحاً، ولكى تطهره النعمة يجب أن يبدأ الإنسان بأتخاذ قراره ويضبط فمه، وهذا ما يسمى الجهاد، أى أن يغصب الإنسان نفسه على ذلك. ومن يكون حكيماً أية 13.
أية 13 :- مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ.
المعنى أن أعمالك وتصرفاتك تظهرك فإن كنت تتصرف بوداعة فأنت حكيم أما غير الوديع فهو غير حكيم. فالحكمة الحقيقية تتسم بروح الوداعة وضبط العواطف، والتصرف الحسن الوديع هو إعلان عن الحكمة الإلهية. فالحكمة ليست فى المعارف الكثيرة بل نراها فى الكلمات الهادئة الوديعة المتزنة والتصرفات الحسنة. والحكيم يتحكم فى لسانه ولا ينفعل، ولكن المنفعل غير واثق فى نفسه ولا يعرف كيف يوصل المعلومات التى لديه. ولاحظ أن فى كلمات الرسول إشارة لليهود الذين كانوا يريدون أن يكونوا معلمين (ربيين) والمعلمين يصنفون مع الحكماء. وهنا يطلب ممن يريد أن يعلم غيره أن يتسم بالوداعة عوضاً عن أن يعنف الناس.
الأيات 14-16: وَلَكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَّزُبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. لَيْسَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ.
الغيرة المرة = هذه غير الغيرة المقدسة المسيحية الناشئة عن لهيب المحبة لله فى القلب، ومن له هذه الغيرة يلتهب إذا أهان أحد الله أو عقيدته أو كنيسته، ولكن يتصرف أيضاً بوداعة وحكمة. أما الغيرة المرة ففيها تحزب للأراء وفيها إنشقاق وتحزب، هى تعصب أعمى، كما حدث فى كورنثوس إذ إنقسم الناس بين من هو من حزب بولس ومن هو من حزب ابلوس. هذا التعصب فى حقيقته هو ذات متضخمة تعبر عن كبرياء، هو الأنا. وهذا التعصب يصنع مراراً فى النفس ويصنع شقاقات. وبينما المعلمون ذوى الغيرة المرة يقدمون تعاليمهم، إذ بهم يفعلون عكس ما عملوا به بسلوكهم وتصرفاتهم، وبينما هم يزعمون أنهم يتحزبون للحقيقة المسيحية ويغارون عليها، نجدهم يسيئون إليها بتصرفاتهم التى لا تتمشى مع تعاليمهم.
لا تفتخروا وتكذبوا على الحق = هذه عن من يفتخر بمعارفه وعلومه فى كبرياء محتقراً معارف غيره، مدعياً أن الحق عنده وليس عند غيره. مثل هذا عنده غيرة مرة أى تعصب لنفسه وهذا يتعارض مع الحق. والإفتخار والكبرياء والذات المتضخمة ضد الحق. جيد للإنسان أن تكون له غيرة (2 كو 11 : 2) لكن تكون لحساب مجد الله، وليس تعصباً أعمى وتهور بلا حكمة وبحث عن الذات. هذه الغيرة مثل غيرة بطرس حين قطع أذن عبد رئيس الكهنة. هذه الغيرة المرة تفقد الإنسان والذين حوله الحق وتؤدى إلى تحزبات وتشويش = كما كان اليهود يفعلون للدفاع عن ناموس موسى فى ثورات عنيفة فى كل مكان، ووصل الأمر لسفك الدماء وتعكير سلام المجتمع = وكل أمر ردىء = كالكراهية والصراع بين الناس. وهذه الحكمة التى تفتخرون بها والتى تؤدى للتحزب والتشويش والغيرة المرة قطعاً هى ليست حكمة إلهية أى نازلة من السماء، بل هى من وحى إبليس ومواصفاتها أنها :-
1. أرضية = ليست سماوية من عند أبى الأنوار، هى نابعة من محبة العالم، من يمتلكها لا يرتفع للسماويات، غيرته مبعثها حب المادة أى تحقيق مكاسب مادية أو شهوانية أو كرامة أو محبة مديح. مثل هذه الحكمة تفكر كيف تخرج بأكبر مكسب من الأرض. أما السماوية فهى لها هدف واضح.. كيف يحيا الإنسان فى السماويات.
2. نفسانية = ليست من الروح القدس، ليست روحية. بل صادرة عن الذات البشرية، من الإنسان العتيق، لذلك تتجه لإرضاء الشهوات. خدمة هذا الإنسان متمركزة حول الأنا، فلا يريد أن يختفى ليظهر الرب، بل يخفى الرب ليظهر هو رغم كرازته بالرب.
3. شيطانية = باعثها الخفى هو الشيطان، فإذ سقط الشيطان فى الكبرياء لا يكف عن أن يبث الكبرياء فى البشر تحت ستار الحكمة والغيرة والتعليم الذى لا يريد مجد الله. ومن المؤكد أن هذه الحكمة نجسة وغير طاهرة فهى من إبليس.
أية 17 :- وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ.
الحكمة السماوية مصدرها من فوق، نازلة من عرش الله القدوس لمن يطلبها كما طلب سليمان الحكمة ففرح به الله وأعطاها له (1 مل 3 : 5 – 13). إذاً فالله يفرح بمن يطلب الحكمة ويتمسك بذلك ويمنحها له. وهذه الحكمة مميزاتها :-
طاهرة = أى نقية من كل ما هو حسى أو شهوانى، بلا غرض ملتوِ، تهب صاحبها قلباً طاهراً وحياة عفيفة، فكما أن الله طاهر يهب لمن يقتنى حكمته أن يكون كارهاً للنجاسة.
مسالمة = أى مملوءة سلاماً، صاحبها يمتلىء سلاماً، ويفيض سلاماً على من يسمعه ويصنع سلاماً مع الآخرين. ولا يطيق شجاراً أو صوتاً عالياً (رو 14 : 19).
مترفقة = صاحبها يترفق بالكل مهما كانت الأخطاء والضعفات ليربح الجميع. هذا الترفق ليس مظهراً خارجياً بل حياة داخلية. مثل هذا الإنسان لو رأى إنسان يخطىء لا يحتقره بل يقول كان ممكناً أن أكون مثله لو لا رحمة الله.
مذعنة = مطيعة لوصايا الله، فعمل الروح القدس أنه يعطينا خضوعاً لله ولكلمته ولوصاياه.
مملوءة رحمة أثماراً صالحة = الحكمة الشيطانية تدفع لأعمال ردئية (أية 16) أما حكمة الله حيث الطاعة سيكون لها ثمار صالحة. المملوء حكمة يكون له ثمار صالحة.
عديمة الريب = لا تشك فى أحد بل توزع المحبة على الجميع، ثابتة غير متزعزعة ولا منقسمة تقسم قلب الإنسان بين محبة الله والعالم، أو الإتكال على الله وعلى الذات.
عديمة الرياء = لا تحمل فى خارجها خلاف ما فى باطنها، بلا نفاق ولا تملق.
أية 18 : - وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ.
هذه الأية هى خلاصة الإصحاح وتعنى، هل تريد أن يظهر لك ثمار بر. إذاً كن حكيماً وإصنع سلام وتكلم بما يقود للسلام، فالمسيح ملك السلام.
ثمر البر = الثمر الروحى للبر والقداسة، الثمار التى تظهر فيمن يحيا فى بر وقداسة.
من له الحكمة الإلهية يحيا فى سلام ويصنع سلام مع الآخرين، مثل هذا خدمته تكون زرع كلام كرازته وتعاليمه فى جو من السلام، مثل هذا سيحصل على ثمار بره وقداسته. ولنعلم أن ثمر البر لا يزرع فى خصام وتشويش وتحزب بل فى السلام.
مقدمة :-
إنتهى الإصحاح السابق بأن ثمر البر يزرع فى السلام، والذى يعيش فى منازعات لن يكون له ثمار. ويسترسل الرسول فى تفكيره... وما الذى يضيع السلام ؟ ويجيب أنه الخصومات والحروب. ويعود ويتساءل ومن أين تأتى الخصومات والحروب ؟ ويجيب أنه من الشهوات للعالم أو الملذات التى نريد أن نعيش من أجلها. وهذه هى قصة الشهوة مع الإنسان.
ما قبل السقوط :-
خلق الله الإنسان وله شهوة مقدسة أى مخصصة لله، أى متجهه نحو الله. فكان آدم يحب الله من كل قلبه، ويشتهى لقاءه كما يشتهى الحبيب لقاء حبيبه. فآدم مخلوق على صورة الله. والله محبة. والله يقول " لذاتى مع بنى آدم " (أم 8 : 31). وهكذا لأن آدم على صورة الله، كان يحب الله ويقول " لذاتى مع الله ". وحيثما توجد المحبة يوجد الفرح. لذلك عاش آدم فى فرح. فى جنة عدن (عدن تعنى فرح).
ما بعد السقوط :-
إتجهت نظرة آدم للأرض، فصار يشتهى ملذات الأرض، بل صار مستعبداً لها. ففقد الفرح الذى كان يحيا فيه، ودخل الهم والغم لحياة الإنسان. ودخل تعظم المعيشة، ولم يعد الإنسان مكتفياً بما عنده، بل يريد أكثر، وفى صراعه هذا على ملذات العالم دخلت الخصومات والحروب، ونسى الإنسان الله. ولاحظ أن لاشىء يشبع الإنسان. فتزوج سليمان من1000 من النساء. ولو كان قد شبع من 999 منهم ما تزوج رقم 1000.
ما بعد الفداء :-
حل الروح القدس الذى سكب محبة الله فى قلوبنا (رو 5 : 5). وكان ثمار الروح القدس بهذا "محبة وفرح وسلام..." (غل 5 : 22، 23) وبهذا أصلح الروح القدس ما أفسده الإنسان، فأعاد للإنسان الحالة الفردوسية الأولى. ألا وهى محبة الله التى ينشأ عنها الفرح. وكل من تذوق محبة الله سيحيا فى هذا الفرح. كل من تذوق هذه المحبة وهذا الفرح إعتبر أن العالم نفاية (فى 3 : 8). بل تغيرت الشهوة فبدلاً من أن يشتهى الإنسان المال والعظمة والجنس... يقول بولس الرسول "لى إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً" (فى 1 : 23) ويقول القديس أغسطينوس "جلست فوق قمة العالم عندما صرت لا أشتهى شيئاً".
علاقتنا الأن مع الله :-
المسيح بعد فدائه لنا صار عريساً لنا ونحن عروسه. حدث إتحاد بيننا وبينه. وهذا الإتحاد سيكمل فى السماء حين نصير إمرأته (رؤ19: 7). والمسيح ينتظر هذا اليوم ليفرح بعروسه. وإنتظاراً لهذا اليوم، ونحن مازلنا فى العالم يرسل إلينا تعزياته وذلك لنحتمل ألام هذا العالم (2كو1: 3-5). ويحصرنا بمحبته
(2كو5: 14). وكل من يحاول أن يحيا مع الله سيتذوق هذه المحبة وهذه اللذة الروحية. وداود يدعونا إلى ذلك قائلاً " ذوقوا وأنظروا ما اطيب الرب " (مز34: 8). أما من إنشغل بالعالم عن الله، وصار لا يدرك أن الرب قادر أن يشبعه ويفرحه فهو يغيظ الله، إلهنا إله غيور، هو عريس نفوسنا. هل يحتمل عريس أن تقول له عروسه أنها متعلقة بآخر ولا تحبه هو. هذا حال كل من تعلق بملذات العالم وشهواته تاركاً الله، لايعرف أن الله قادر أن يشبعه لهذا قيل هنا إن " محبة العالم هى عداوة الله "(يع4: 4). بل إن طبيعة ملذات العالم أنها كماء البحر لا تروى بل تميت من العطش فهى ماء مالح. لذلك فالله يتعجب من الذى تركه هو ينبوع الماء الحى لينقر لنفسه ابار مشققة لا تضبط ماء (أر2: 13). لذلك سمعنا فى الإصحاح الأول أن الله فى محبته يسمح ببعض التجارب حتى نزهد فى محبة العالم ونرتمى فى أحضانه لنكتشف محبته. ولاحظ أن اللذات التى يعطيها العالم هى لذات حسية أما اللذات التى يعطيها الله فهى لذات روحية وهى تفوق بما لا يوصف الملذات الحسية. ولكن هذا لمن يجاهد أن يلتصق بالله فى حياة صلاة وعبادة وتسبيح، هذا سيكتشف أن العالم نفاية.
الروح والجسد
يقول بولس الرسول أن الجسد يشتهى ضد الروح.
والروح ضد الجسد (غل5: 17). والروح هو الروح القدس.
الذى يثير فى شهوات للسماء ولله. والجسد يجذب للعالم وشهواته
بإغراءات الخطية التى فى العالم والتى تسكن فى أجسادنا (رو7: 17).
فهناك لذات محاربة فى جسدى. ولكن أيهما اقوى ؟ نسمع هنا أن الله يعطى نعمة أعظم (يع4: 6). فالروح القدس يعطى قوة جبارة تساند وهى أعظم من الشهوة التى فى جسدى. حقاً نحن بلا عذر (رو2: 1). ومن إستجاب للروح القدس عاش فى سلام وفرح ولذة روحية لا يريد شيئاً من العالم، جلس فوق قمة العالم. أما من يستسلم لشهوة الجسد يقوده هذا للنزاع والحسد والخصومات والحروب بسبب بسيط هو أنه لا احد يكتفى بما عنده، فأصل جميع الشرور فى الدنيا هو شهوة الجسد. أما من ينتصر على شهوته يقهر إبليس المحارب له، فسلاح إبليس هو ملذات العالم ومن يرفضها يفقد إبليس سلاحه. فالحرب هى فى الحقيقة هى حرب داخلية، ومن ينتصر فيها ويهذب شهواته متعففاً عن شهوات الجسد يحيا فى سلام.
ونلاحظ أنه قد قيل لإبليس (الحية) تأكلين التراب. وقيل لأدم إنك تراب. فمن يحيا فى التراب خاضعاً لشهوة الجسد سيكون طعاماً لإبليس.
أية 1 :- من اين الحروب و الخصومات بينكم اليست من هنا من لذاتكم المحاربة في اعضائكم.
الحروب = العداء المستمر الخصومات = المشاجرات لذاتكم المحاربة = الرغبة فى المسرات الأرضية، وهذه تجذب الإنسان لأسفل عكس الروح الذى يحاول أن يجذب الإنسان للسماويات. وهذه اللذات هى مركز الصراع والحرب بين أمة وأمة وبين إنسان وإنسان بل هى تحارب الإنسان نفسه حرباً داخلية، فهى حين تجذبه بعيداً عن السماويات فهى تفقده سلامه. ولاحظ أن الرسول كان يتكلم فى الإصحاح السابق عن التشويش وعدم السلام. وهنا وضع السؤال، من أين تجئ الخلافات التى تسود بينكم؟ ويرجع الرسول السبب لشهوات الإنسان، وذلك لطبع الشهوة، أنها لا تكتفى بما عندها. فحينما يخضع الإنسان لشهواته ويفسح المجال أمام لذاته، ويعمل على إشباع نزواته تنشأ الخصومات. الرسول يحاول أن يذكرنا أن العلة الأولى للخطية ترجع للإنسان ذاته. فالمنازعات والخصومات تنبع لا عن مضايقات الغير بل عن ضعف الإنسان الداخلى وهزيمته فى الحرب الخفية التى ميدانها النفس.
فالإنسان المستسلم لشهواته هو إنسان مهزوم داخلياً. هناك قاعدة عامة، وهى أنه علينا أن لا نبحث عن سلامنا فى الخارج، بل أساس المنازعات هو حرمان القلب من السلام الداخلى، والسبب هو الإبتعاد عن السماويات والروح القدس الذى يجذب للسماويات. وعدم الإستماع للروح القدس يطفئه فيفقد الإنسان سلامه، فالسلام ثمرة للإمتلاء من الروح القدس. وهذا يأتى بالإستسلام للذات الجسد فيفقد الإنسان حياته. اللذات تهاجم الإنسان الجديد المولود فى المعمودية. أما من يقاوم ولا يستسلم (يقاوم شهوات جسده) فإنه وإن ضايقه الجميع وساءت الظروف المحيطة به وفقد كل شئ فهو لن يفقد سلامه الداخلى ولا يدخل الخوف قلبه، ولن يدخل فى حروب مع أحد، إذ هو لا يريد شيئاً.
المرض والفشل أيضاً ليسوا أسباب لفقدان السلام، فالسلام هو عطية يعطيها الله ويملأ بها القلب بغض النظر عما فى الخارج.
لكن هناك من يتصور أن لذة ما أو حصوله على أموال يضمن بها مستقبله ستاتى له بالسلام، وهذا خطأ. فمن يتصارع مع عائلته وكسب المعركة وأخذ كل الأموال لن يمتلئ سلاماً بهذه الأموال، أما من يترك الأموال لهم، ويرى الفرح فى عيونهم سيمتلئ سلاماً. والسؤال الآن.. هل نأخذ السلام من يد المسيح أو نتصور أن له مصدر أخر أى ما نتصور أن فيه إشباع ملذاتنا.
أية 2 :- تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ.
تشتهون ولستم تمتلكون : الرسول هنا يحارب شهوة حب الإقتناء، فالإنسان يظل طوال حياته يسعى ويسعى لكى يمتلك. وإن طال لإمتلك الدنيا كلها لكن : -
1. لا ديمومة للإمتلاك. فما عندى قد يتركنى يوماً ما أو أتركه أنا وأموت.
2. الشهوات كالسراب، تجذب الإنسان ليجرى وراءها فيضل الطريق ويزداد عطشاً دون ان ينال شيئاً فهى لذات مخادعة. ولذلك شبه العالم بالبحر بمائه المالح فهو لا يروى أحد ولا يطفئ عطش مهما شرب منه الإنسان.
3. طبيعة الشهوة أن يشعر الإنسان دائماً بعدم الإكتفاء ويسعى للأكثر. فمثلاً لو أشبع سليمان 999 إمرأة لما سعى لإقتناء المرأة رقم 1000.
4. التفسير السهل للآية أن الإنسان يشتهى ولكنه غير قادر أن يمتلك ما يشتهيه ربما لنقص المال، فيشعر بالحرمان. والعجيب أنه يظل يعانى لأنه محروم من تفاهات هذا العالم، اما من يشتهى الله فيستطيع أن يمتلكه بسهولة لو طلب ذلك، كما قالت عروس النشيد " انا لحبيبى وحبيبى لى (نش 6: 3). ونجد بطرس يقول للمقعد على باب الهيكل " ليس لى ذهب ولا فضة ولكن الذى لى فإياه أعطيك "(أع 3: 6). وما الذى كان لبطرس " بإسم يسوع المسيح الناصرى قم وإمش " والإسم أى قدرة وقوة يسوع. ماالذى يستطيع الذهب والفضة أن يعملاه بجانب إمتلاك قوة يسوع. لو ظهر الرب لأحد الآن وقال له ماذا تشتهى، أخاف أن نطلب شيئاً من نفاية هذا العالم ولا نطلبه هو شخصياً.
تقتلون وتحسدون ولستم تقدرون أن تنالوا = فى محاولتكم أن تمتلكوا ما تشتهون تكونوا على إستعداد أن تتقاتلوا، فالمال مثلاً يتصور البعض أنه حق ينبغى أن نتقاتل عليه. فتتخاصمون وتحاربون بعضكم البعض وتسوء العلاقات بينكم وبين الآخرين وتدخلون معهم فى خصام وشجار وحروب. وإن لم يصل الأمر للقتال تكتفون بأن تحسدوا بعضكم أى تشتهون بمرارة وحقد. ويسترسل الرسول أنه مع كل هذا فأنتم غير قادرين أن تنالوا. ربما لأنه صراع يائس للحصول على شىء صعب الحصول عليه، أو ربما حصلتم على شىء ولكن فقدتم سلامكم وفرحكم وكأنكم ما حصلتم على شىء. وكان هناك طريق سهل للحصول على ما تطلبون، أن تطلبوا من الله ما تريدونه = لستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون = فأنتم لا ترفعون صلواتكم إلى الله بما تحتاجون إليه، فالإنسان الذى يفيض قلبه بالكراهية لا يمكن أن يرفع قلبه بالصلاة. ولاحظ أن الله يستجيب لطلباتنا التى نقدمها فى الصلاة إذا طلبناها بإيمان وإذا كانت بحسب مشيئته (1 يو 5 : 14) ومشيئة الله هى خلاص نفوسنا (1 تى 2 : 4) فالله سيعطينا ما لا يمنع خلاص نفوسنا.
فبولس طلب الشفاء بإيمان، والله قال لا.. لأن الشفاء كان يتعارض مع خلاصه. الرسول هنا يعاتب من لا يطلب من الله بل يحاول أن يأخذ حقه بالقوة.
ويحدث ما قاله الرسول فى هذه الأية حينما تقوم خصومات فى ظاهرها أنها من أجل الحق، لكن حقيقة دافعها هى اللذات المحاربة فى الأعضاء أى حب الإقتناء أو الكرامة الزمنية أو أى دوافع أرضية أخرى. وهذه اللذات تدفع للبغضة والحسد. وكلمة تقتلون هنا ربما لا تصل للقتل حقيقة بل تفهم بمعنى الكراهية (1 يو 3 : 15) أو قد تصل فعلاً للقتل، كما قتلت إيزابل نابوت اليزرعيلى لتمتلك أرضه... ولكن القصة إنتهت بأن الكلاب نهشتها ولحست دمها.
أية 3 :- تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيّاً لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ.
هنا نرى فئة تطلب لكنها لا تأخذ، فهى تطلب طلبات جسدية، والله لا يستجيب لصلاتهم لأنها ليست بحسب مشيئته وليست للبنيان، بل هى ضارة لمن يطلبها. فهناك من يطلب غنى وكرامة ليزداد تعلقاً بالأرض ولا يرتفع قلبه للسماء. لذلك طلب منا السيد " أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم ". الله يريد أن نهتم بالسماء ونشعر بالغربة فى هذا العالم "إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3 : 1).
أية 4 :- أَيُّهَا الّزُنَاةُ وَالّزَوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُّواً لِلَّهِ.
أيها الزناة = فى العهد القديم سميت عبادة الأوثان بالزنا، فهى زنا روحى أى خيانة عهد الله. والرسول هنا يستعمل نفس التسمية لمن إرتبط قلبه بالعالم تاركاً محبة الله، كل من يسعى وراء إنسان أو شهوة أو مادة رافضاً الإتحاد بالمسيح عريس النفس فهذا يسمى زنا. وبولس الرسول يشبه الكنيسة بعروس مخطوبة للمسيح (2كو11: 2) وهى عذراء عفيفة إذ لا تقبل محبة العالم وشهواته رجلاً لها مكتفية بالمسيح يسوع عريساً لها. فأى محبة لغير الله هى خيانة لله. وهم زوانى لأنهم أحبوا غير الله. والله قادر أن يشبع النفس لذات روحية، ومن يذهب لغيره يعاديه. الله خلق العالم لنستعمله ولكن لا ننشغل به عن الله نفسه، ويصير هدفاً لنا ونعبده، ونرتبط بمغرياته ساقطين فى فخاخه تاركين الله، ومن يفعل هذا فقد صار عابد وثن.
أية 5 :- أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً: الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ؟
الكتاب يقول " لأن أنا الرب إلهك غيور" (خر 20: 5 + 34: 14) + (تث 4: 24 + 5: 9 + 6: 15) + (يش 24: 19) + (حز 39 :25) + (زك 8 : 2)، وهذا معنى يشتاق إلى الحسد. فكلمة الحسد صحة ترجمتها الغيرة.
باطلاً = على غير أساس.
الروح الذى حل فينا = هو الروح القدس الساكن فينا. وهو روح الله الغيور.
هنا نرى أن الروح، روح الله عنده رغبة حارة وشوق = يشتاق. هو إشتياق متدفق تجاه الذين إتحدوا بالمسيح. هى محبة تصل إلى حد الغيرة نحو العروس التى خطبها للمسيح. والروح يغير على الإنسان المؤمن من أن يتجه بقلبه للعالم كمنافس للمسيح. الله لو لم يكن محباً للنفس لما غار عليها.
أية 6 :- وَلَكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذَلِكَ يَقُولُ: "يُقَاوِمُ اللَّهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً".
ولكن يعطى نعمة أعظم = العالم يجذبنا بقوة، ولكن الله فى غيرته علينا لا يتركنا وحدنا حتى لا نخور فى أنفسنا، بل يعطينا نعمة أى قوة جبارة أعظم من قوة جذب العالم. " فإنه حيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جداً (رو 5: 20). ولكن من الذى يحصل على هذه النعمة ؟ المتضعين = أما المتواضعون فيعطيهم نعمة (أش 57: 15) + (أم 16: 18) + (1صم1: 3، 4، 8، 10) أما المتكبرين فهم قد إرتبطوا بروح إبليس المعاند. المتكبرون هم من يشعروأ أنهم مصدر النعمة التى هم فيها وليس الله.
ماذا نعمل اذاً ؟ يضع الرسول برنامجاً.
1. إخضعوا لله : أطيعوا وصايا الله.
2. قاوموا : إهربوا من الخطية وأماكنها.
3. إقتربوا : التصقوا بالله فى الكنيسة وفى مخادعكم.
4. نقوا أيديكم.. طهروا قلوبكم.. نوحوا = التوبة.
أية 7 : - فَاخْضَعُوا لِلَّهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ.
فإخضعوا لله= بإنسحاق وإنكسار كما خضع الإبن الضال. ومن يخضع لله، لا يكون لإبليس سلطان عليه بل يهرب منه. ولكى ننتصر على إبليس نحتاج أمرين :-
1. أمر سلبى بأن نقاومه بقدر الإستطاعة بالهروب من أماكن الخطية = قاوموا إبليس.
2. أمر إيجابى بأن نقترب لله فنتقوى (أية 8).
ويشبه ذهبى الفم الشيطان بكلب لا يبرح ملتصقاً بمائدة صاحبه مادام يلقى إليه بين حين وآخر شيئاً منها. لكن إن كف عن ذلك فسيبقى إلى حين ثم ينقطع رجاؤه ويهرب من المائدة ليبحث عن مائدة أخرى، هكذا يلزمنا أن نقاوم إبليس على الدوام ولا نعطيه مكاناً فينا (أف 4: 27).
يهرب منكم = هذه تشير لضعف إبليس إذا قاومناه بإيمان.
أية 8 :- اِقْتَرِبُوا إِلَى اللَّهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ.
إقتربوا إلى الله = بالصلاة والتسابيح ودراسة الكتاب وإلتصقوا بالرب سواء فى مخادعكم أو فى الكنيسة. فيقترب إليكم = سامعاً لطلباتكم ومستجيباً لصلواتكم (لنلاحظ أنه يمكننا القول إقتربوا من إبليس يقترب منكم ويسهل لكم طريق الخطية) والإقتراب إلى الله يبدأ بالتوبة نقوا أيديكم.. طهروا قلوبكم ثم بالعشرة والحياة المقدسة المباركة مع الله. وما إن نرجع إلى الله يرجع الله إلينا (زك1: 3) + (رؤ3: 2) والله لا يسمع إلا لمن أيديه طاهرة، وقدم توبة وإستمر فى قداسته. وراجع (1تى 2: 8) + (مز24: 4) + (أش 1 : 15)
نقوا أيديكم = من الأفعال الفبيحة. هذه التى يراها الناس.
طهروا قلوبكم = هذه عن الأفعال الداخلية كالشهوات والأفكار الرديئة.
يا ذوى الرأيين = هذه عن من قلوبهم منقسمة بين محبة الله ومحبة العالم (ساعة لقلبك وساعة لربك) بينما الله يطلب القلب كله غير منقسم "ياإبنى إعطنى قلبك". إذاً طهارة القلب تعنى وحدة الهدف وأن يكون الهدف هو الله. أما المنقسم قلبه بين محبة الله ومحبة العالم فهو من يعرج بين الفرقتيين (1مل 18: 21).
الأيات 9، 10 :- اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضِحْكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. اِتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ.
هذه دعوة للتوبة والبكاء بسبب خطايانا وبسبب عدم الإمانة مع الله، ولا شك أن التوبة تتحول إلى بركة، والدموع هى سلاح نحصل به على طلباتنا من الله (مز6: 6) + (نش 6: 5). وهذه الآية ليست دعوة لأن نحيا فى غم، وهى ليست متعارضة مع دعوة بولس الرسول لأن نفرح "إفرحوا فى الرب كل حين وأقول أيضاً إفرحوا (فى 4: 4). بل التوبة بدموع هى طريق الفرح الحقيقى، فنحن لا نفتعل الفرح، بل حينما نبكى على خطايانا يسكب الله الفرح فى قلوبنا. الله يفرح بالتائب ويملأه فرحاً، يحول أحزانه إلى أفراح " فأنتم كذلك عندكم الآن حزن. ولكنى سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم (يو16: 22). إذاً البكاء والحزن على الخطية هما الطريق للفرح الحقيقى الذى يعطيه الرب.
والحزن ليس على شئ مادى نفقده، بل حزن توبة، حزن نابع من أن خطايانا سببت حزناً لله. وبدون مشاعر الحزن والنفور من خطايانا لن نتركها. ونحن نحزن إذ نشعر وندرك نتائج خطايانا السيئة. ولاحظ أننا حين نشعر بخطايانا علينا أن ننسحق أمام الله = إتضعوا قدام الرب. فيرفعكم = فى الحياة الحاضرة يهب لنا القدرة على عمل الفضائل ونرتفع عن الرذائل. وفى الحياة الأتية نرث مجداً معداً لنا. والدعوة للتواضع رأيناها فى أية 6 فالتواضع والإنسحاق هما الطريق لله.
الأيات 11، 12 :- لاَ يَذُمَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ. الَّذِي يَذُمُّ أَخَاهُ وَيَدِينُ أَخَاهُ يَذُمُّ النَّامُوسَ وَيَدِينُ النَّامُوسَ. وَإِنْ كُنْتَ تَدِينُ النَّامُوسَ فَلَسْتَ عَامِلاً بِالنَّامُوسِ، بَلْ دَيَّاناً لَهُ. وَاحِدٌ هُوَ وَاضِعُ النَّامُوسِ، الْقَادِرُ أَنْ يُخَلِّصَ وَيُهْلِكَ. فَمَنْ أَنْتَ يَا مَنْ تَدِينُ غَيْرَكَ؟
نصيحة الرسول السابقة أن نتضع قدام الرب، ومن علامات عدم الإتضاع إدانة الإخوة وذمهم. فمن يدين الأخرين يأخذ وظيفة الله وحقه فهو الديان. والإدانة تحمل فى طياتها الكبرياء والكراهية. لذلك فلأنسحق وأدين نفسى لا الأخرين. الذى يذم أخاه يذم الناموس ويدين الناموس = لأن الناموس يوصى بمحبة القريب، فكأنكم بتصرفكم هذا تحكمون على الناموس بأنه خطأ، أو كأن وصية الناموس بالمحبة ليست وصية سليمة. فهل ندين الناموس الذى وضعه الله. وقوله أيها الإخوة = حتى يدركوا أنه علينا أن نحتمل ضعفات بعضنا البعض. ومن يرفض الناموس ويدينه فهو يرفض واضعه لأنه واحد هو واضع الناموس = فلا يصح أن أضع أنا ناموساً خاصاً بى وأنا تراب. واضع الناموس قال أنه على أن أحب الأخرين فلأحبهم ولا أدينهم. ونلاحظ أنه لو ترك للإنسان أن يدين الآخرين فسيهلك الخطاة، ولكن الله بسابق علمه يرحمهم فهو يعرف أنهم سيقدمون توبة فى المستقبل، ومن يضع الناموس هو وحده الذى له الحق أن يدين من يخالف هذا الناموس.
الأيات 13-16 :- هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: "نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ". أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ. عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: "إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ". وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هَذَا رَدِيءٌ.
سر إنجذابنا للشهوات وإنشغالنا بالأرضيات هو عدم إدراكنا لحقيقة غربتنا على الأرض أو تناسينا لها ز بل أن حياتنا هى بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل.
ولضعفنا ولأننا مخلوقين علينا أن نحيا حياتنا فى إعتماد وإتكال على الله. ولاحظ أن الرسول يدعو للإتكال على الله وليس التواكل. هنا نرى شهوة الغنى وتعظم المعيشة دون تسليم لإرادة الله. ونلاحظ أنه ليس من الخطأ أن يذهب تاجر ليتاجر ويربح، ولكن الخطأ أنه يكون معتمداً على قدراته وفكره وليس على الله مثل الغنى الغبى (لو12: 16). مثل هؤلاء يتصرفون كما لو كانوا قد أمسكوا زمام المستقبل بأيديهم. ولقد كانت عادة التجار أن يذهبوا إلى مدن أخرى ويقضوا حوالى عام ليتاجروا ويربحوا ثم يعودوا إلى بلادهم. والرسول يطلب منهم أن لا يعتمدوا ويتكلوا على ذواتهم بل يعتمدوا على بركة الرب ويقول إن شاء الرب وعشنا وعليهم وعلينا نحن أيضاً أن نقول هذا بالقلب لا بالفم (1كو 4: 19). وذلك بتسليم الإرادة والمستقبل لله قلبياً. فكثيرين منا صاروا يقولون عبارة " إن شاء الله " بالفم دون تسليم المشيئة لله فعلاً، ودون الإتكال عليه بكل القلب.
أية 17 :- َمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذَلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.
السبب أن معرفته تكون شاهدة عليه يوم الدين. وهنا الرسول يعطى تعليماً لمن يسمعه أن يسعى لأن يعرف ويعمل الأعمال الحسنة لا أن يكتفى بالمعرفة فقط.
الرسول يشرح هنا أن الخطية ليست فقط هى فعل الشر بل الإمتناع عن فعل الخير. وهذه توجه لمن يعتذر عن القيام بخدمة الله. هذه هى المسيحية الإيجابية. الرسول هنا كأنه يقول "لقد علمتكم حسناً. فلتعلموا ولا تخطئوا".
الأيات 1 – 3 :- هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، ابْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ الْقَادِمَةِ. غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا الْعُثُّ. ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ.
يكتب يعقوب للأغنياء الذين ظلموا الفقراء و المزارعين الذين يعملون في مزارعهم، وكلامه هنا يحمل معني الآنذار بالويل أكثر من دعوة للتوبة، و ذلك لأنهم نسوا تدبير حياتهم الابدية وظنوا أنهم سيستمتعون بثرواتهم الي الابد،هذه التى جمعوها من ظلم الفقراء، فإن الله سيدين الذي اخفي وزنته فكم بالأولي الذي جمع ثروته من ظلم أخوته الفقراء، و كان الرسول يتكلم كما لو كان قد رأى ما حدث علي يد تيطس الرومانى بعد سنوات من كتابة الرسالة. فلقد أخرب تيطس أورشليم وسلب كل شىء. بل قبل أيام الحصار قامت ثورة يهودية ضد قيصر، وهذه الثورة كانت سبباً فى حصار تيطس لأورشليم. وقرر الثوار فى أورشليم مصادرة كل أموال وكنوز الأغنياء لإستعمالها فى الحرب، وإعتبروا أن إخفاء الأموال والكنوز جريمة لا تغتفر. وكانوا يذبحون الأغنياء ليستولوا على أموالهم متعللين بتهم باطلة. فكل من إكتنز أموالاً ذهبت كلها للثوار بل ذبحوه بسببها. ثم ذهب كل هذا للرومان بعد أن سقطت أورشليم. أليس من الغباء أن يظلم إنسان أخيه ليجمع ثروة يأخذها الآخرين.
وهذا الكلام موجه أيضاً لكل من يجمع أموالاً واضعاً فى قلبه أن يعتمد على هذا المال لضمان المستقبل، ولضمان سعادته ناسياً حياته الأبدية. لذلك قال السيد المسيح عن المتكلين على أموالهم أن دخولهم للسماء أصعب من دخول جمل من ثقب إبرة (مر 10 : 17 – 25).
شقاوتكم قادمة = كلمة قادمة لا تعنى المستقبل البعيد، إنما تعنى أنها على الأبواب
غناكم قد تهرأ = كان غنى القدماء يتركز أساساً فى مخازن القمح والثياب. وكان لهم مخازن للثياب يضعون فيها روائح طيبة. ويفهم كلام الرسول أن هؤلاء الأغنياء فضلوا أن يأكل العث أموالهم ومقتنياتهم عن أن يتصدقوا بها للفقراء. ومما يزيد من شقاوة هؤلاء الأغنياء أنهم سيشاهدون بأعينهم فساد ثروتهم.
ذهبكم وفضتكم قد صدئا = فقدا قيمتهما وبريقهما. هذا حدث بالفعل أيام حصار أورشليم. بل قد وصل الحال أن الأمهات أكلن أولادهن إذ ليس طعام. فماذا كانت قيمة الذهب والفضة وقتئذ. كانوا بلا ثمن ولا قيمة فماذا يشترون بهم وليس طعام. حدث مثل هذا فى مصر فى أيامنا. فقد ألغت الحكومة المصرية مع بداية الثورة الأوراق النقدية فئات 100 جنيه، 50 جنيه، وحدد تاريخاً ينتهى بعده إستبدال هذه الأوراق. فمن ذهب بعد هذا التاريخ وهو يمتلك ثروة من الأوراق فئة الـ 100 جنيه كان كأنه يمتلك ورقاً ملوناً بلا قيمة. وفى أيامنا هذه إنخفضت فى يوم واحد قيمة الجنيه إلى النصف فكان كل من كان له نقود فى البنوك، كأنه قد خسر نصفها. لقد صدئا.
هل يمكن أن يعلق أى عاقل أماله على مثل هذه الأشياء، وليس على الله الذى يعول الجميع صدأهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم كنار = هذه الأموال التى جمعتموها وقد صارت بلا فائدة ستكون شاهدة على كل ما إرتكبتموه من أخطاء، فالله سيسأل لماذا لم تتصرفوا فى أموالكم بطريقة صحيحة.
يأكل لحومكم كنار = من ألامكم على فقدكم كل ممتلكاتكم ومن غيظكم ستكونون كمن يحترق لحمه بالنار. وأبدياً سيتعذب الجسد مع النفس. عموماً محب المال لا يستريح هنا ولو إقتنى العالم، ولن يستريح فى الأبدية، إذ لن يعاين الله.
قد كنزتم فى الأيام الأخيرة = بينما كان عليكم أن تستعدوا للرحيل.
أية 4 : - هُوَذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ الْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذْنَيْ رَبِّ الْجُنُودِ.
أربع فئات يصعد صراخهم لله:-
1. المقتول عمداً (تك 4 : 10).
2. صراخ المسكين (خر 2 : 23).
3. صراخ الخطية (تك 18 : 20).
4. صراخ الأجير المظلوم (هذه الآية).
ونلاحظ أن حب الإقتناء يفقد الإنسان رحمته بأخيه بل يدفعه لظلم الأجير. وموضوع أجرة الأجير منصوص عليه فى (لا 19 : 13).
أية 5 : - قَدْ تَرَفَّهْتُمْ عَلَى الأَرْضِ وَتَنَعَّمْتُمْ وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ الذَّبْحِ.
لقد خلق العالم لنستخدمه لا لكى نلهو فيه وبه عن الخالق. وحياة الإنغماس فى الترف تحرم الإنسان من ضبط نفسه. وبالتنعم يتربى القلب لكى يذبح يوم الدينونة. وهؤلاء بالذات من عاشوا فى جشع (هو 13 : 6) + (مت 6 : 25) + (1 تى 5 : 6) + (لو 21 : 34). إن من لم يستمع لصوت المظلوم هنا لن يسمعه الله ولن يسمع صرخاته يوم الدينونة. ومعنى الآية أنه كما أن الحيوان يسمن لأجل الذبح، إذ يعدونه للذبح، هكذا أنتم وقد إنحمتم من كثرة ما قدمتموه لملذاتكم وشهواتكم تعدون أنفسكم لحكم الدينونة.
يوم الذبح =
1. نهاية تخمة الحيوان الذبح هكذا أيضاً تخمة الأغنياء وترفههم وهذا ما حدث حين ذبحوا أغنياء أورشليم، وهذا تكرر فى كثير من الثورات الدموية كما حدث فى روسيا وفى فرنسا.
2. هو إشارة ليوم الدينونة فالمظلوم يصعد صراخه إلى الله.
ما هو الخطأ فى موضوع المال ؟
1. أن يتكل الإنسان على أمواله فبهذا صارت له إلهاً (مر 10 : 17 – 25). وبسبب هذا يحدث الصراع.
2. الظلم، أى يصرخ إنسان لله لأنه لم يحصل على حقه.
أية 6 :- حَكَمْتُمْ عَلَى الْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ. لاَ يُقَاوِمُكُمْ!
هذه الأية جعلت بعض المفسرين يرون أن أقوال الرسول فى (5: 1-6) موجهة لأغنياء اليهود الذين قتلوا المسيح البار (أع 7: 52)، وقتلوا المؤمنين من المسيحيين مثل إسطفانوس ويعقوب بن زبدى. وربما كانت هذه الأية نبوة عند هو شخصياً، إذ كان إسمه البار. وكان الشهداء لا يقاومون. بل أن اليهود جروا إلى المحاكم المساكين الأبرياء وحكموا عليهم بالموت ظلماً. وحدث هذا بعد ذلك مراراً عبر التاريخ، مثلاً أثناء إضطهاد الرومان. وقيل عن المسيح ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه (إش 53: 7) وعدم فتح الفم إشارة لأنه لم يقاوم أبد اً.
الأيات 7، 8 :- فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ. هُوَذَا الْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ مُتَأَنِّياً عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ قَدِ اقْتَرَبَ.
هو يكلم هنا المضطهدين من المسيحيين والمظلومين الذين يعانون من اليهود والوثنيين ويقول لهم أن عليهم أن يثبتوا بصبر واضعين أمام أعينهم أن الرب سيأتى ليجازى كل واحد بحسب عمله. فالثابت فى الإيمان سينال أكاليل فى ذلك اليوم أما الظالمين سيسمعون قول الرب " لى النقمة أنا اجازى يقول الرب " هذا الظالم يخسر على الأرض تعزيته ويخسر المجد فى السماء. ومجئ الرب يبعث فى المؤمنين طول الأناة والإحتمال، وهكذا إذ يتطلع المؤمن إلى يوم الرب يشتهيه عاملاً و مثابراً بنعمة الرب كالفلاح الذى يترجى يوم الحصاد.
المطر المبكر = يأتى فى بداية شهر نوفمبر بعد الزرع مباشرة. وهذا يساعد على تفتيح البذرة. والمطر المتأخر= يأتى قرب نهاية أبريل والسنابل على وشك الإمتلاء وذلك يساعد على نضج المحصول. والمطر فى فلسطين يأتى فى ميعاده تماماًً. إذا الإشارة إلى المطر المبكر والمتأخر هو قول زراعى يشير لفرحة الفلاح بالمطر حتى يكون هناك محصول فى نهاية الموسم.
وروحياً فالأمطار والأنهار والينابيع تشير للروح القدس الذى يعطينا التعزيات خلال رحلة حياتنا، فى مقابل البحار التى تشير لملذات العالم بمياهها المالحة التى لا تروى. اما المياه الحلوة فهى تروى وتفرح وتشير لأفراح مؤكدة فى نهاية الموسم الزراعى بالمحصول الوفير.
الله يقول عن نفسه أنه ينبوع المياه الحية (أر2: 13).
الروح القدس يقول عنه السيد المسيح أنه أنهار (يو7:37- 39).
الروح القدس مشبه بماء وسيول (أمطار) يسكبه الله (أش 44 : 3، 4).
ولاحظ أن الفلاح فى صبره إذ يراقب حقله كل يوم، يرسل له المطر ليساعد على نمو الزرع وهذا يملأ قلبه فرحاً. ليس هذا فقط بل إن المطر يضمن محصولاً أكيداً وفيراً فى نهاية الموسم. وهكذا هو عمل الروح القدس، يعطى تعزية خلال رحلة آلام هذه الحياة ويقودنا فى رحلة الحياة ليضمن لنا أبدية سعيدة. ويلهب أشواقنا خلال رحلة حياتنا لهذا اليوم. الروح القدس هو الذى يجعلنا نجاهد محتملين الألام بفرح فى إنتظار هذا اليوم. محتملين الضيق بقلب ثابت (مز 126 : 5).
ويقول البابا أثناسيوس الرسولى أن طريق الملكوت ضيق وكرب، ولكن من دخل من هذا الطريق أى الباب الضيق يرى إتساعاً بلا قياس وعذوبة وعزاء، وهذا هو عمل الروح القدس.
أية 9 :- لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَيُّهَا الإِخْوَةُ لِئَلاَّ تُدَانُوا. هُوَذَا الدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ الْبَابِ.
كثرة الضيقات الخارجية والإضطهاد قد تجعل الأخوة فى حالة تذمر، لذلك ينصحهم الرسول أن يترابطوا بالمحبة. لا يئن بعضكم على بعض = أى لا تتذمروا وتضجوا أحدكم على الآخر بل ليكن فيكم الصبر. لا تدينوا بعضكم البعض ولا تطلبوا الإنتقام من بعضكم فيوم الرب قد إقترب، وهو الديان وحده، ومن يدين إخوته سيتعرض هو نفسه للدينونة. فهذا ليس وقت ندين بعضنا البعض بل وقت نبحث فيه عن إخوتنا الساقطين فى الخطية ونصلى لأجلهم. وقوله على الباب = أى الأيام إقتربت للمجىء الثانى للمسيح.
أية 10:- خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاِحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ.
لقد حدثتكم يا إخوتى عن وجوب الصبر والإحتمال للألام، ويجب عليكم أن تعلموا أن هذه هى سمات المؤمنين دائماً. فكل الأنبياء السابقين إحتملوا الألام بصبر لأنهم تكلموا بإسم الرب... أرميا وإيليا وإشعياء... بل المسيح نفسه.
آية 11 :- هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ.
الصابرين = الذين إحتملوا الألام بصبر. ومن مثال أيوب نرى أنه إحتمل التجربة بصبر، فهو إفتقر أكثر من الشحاذين إذ صار عرياناً ونلاحظ أنه كان قد إعتاد حياة الغنى، وإحتمل أمراضاً رهيبة حتى صارت رائحته كريهة. وإحتمل موت أولاده فى شبابهم فى كارثة طبيعية، وإحتمل سخرية البشر، وحتى أصدقاءه هربوا منه، بل من جاءوا يعزونه كانوا متعبون، بل إن زوجته لم ترحمه. ومع كل هذا إحتمل فنال الضعف. وهكذا لأى منا، فمن يحتمل الألم الآن تزداد تعزيته، ومجده فى السماء (2 كو 1 : 5) + (2 كو 4 : 17) + (رو 8 : 17).
أية 12 :- وَلَكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ يَا إِخْوَتِي لاَ تَحْلِفُوا لاَ بِالسَّمَاءِ وَلاَ بِالأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ، لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ.
هذا التعليم هو تعليم الرب نفسه (مت 5 : 33 – 37). ولماذا لا نقسم ؟
1. من إعتاد على القسم يصير لا يميز بين القسم الحق والقسم الباطل
2. المهم إستخدام إسم الله بكل توقير وإحترام فنحن لسنا أقل توقيراً له من اليهود إذ كان الكتبة الذين ينسخون الكتاب المقدس يستحمون قبل كل مرة يكتبون فيها إسم الله، وكانوا يخافون من إستعمال إسم الله
3. القسم معناه إشهاد الله على عمل معين أو تعهد معين أو أنك تقول الصدق. وإذ كل الخليقة من أعلى السماء إلى أسفل الأرض، من عرش الله إلى الشعرة التى فى رأس الإنسان جميعها تحكمها العناية الإلهية، لذلك فمن يقسم بالسماء أو الأرض أو بأى شىء فهو يرتبط بالقسم أمام الله. ومن منا يستطيع أن يرتبط بشىء، أو من منا متأكد من شىء. فقد أقسم بأن أفعل شيئاً وأموت قبل أن أفعله. بل إن الشيطان يستغل القسم خصوصاً أثناء الغضب، فنقسم على أشياء قد تكون خاطئة مثل الأنتقام من أحد. أو كما حدث مع هيرودس إذا أقسم وهو غارق فى لذته وسكره فأصبح ملتزماً، وكان لا يريد أن يفعل ما فعله ويقتل يوحنا المعمدان.
4. لا يليق أن نقسم بإسم الله أو بأى قسم كما قلنا فى أمور زمنية.
5. ليكن كلا منا صادقاً حتى بدون قسم لكى لا نتعرض للدينونة.
أية 13 :- أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ.
أعلى أحد بينكم مشقات فليصل = من هو فى ضيقة أمامه طر يقان:-
1. يظل يفكر ويفكر فى حل، وإذ لا يوجد حل يدخل فى يأس وكآبة لعجزه عن الحل.
2. يشرك الله معه فى التفكير بالصلاة، فيقول يارب حل مشكلتى، هل تتركنى وتتخلى عنى يارب، أنت لا تتخلى أبداً عن أولادك.. وهكذا. وبهذه الطريقة نسمع صوت الله "أنا بجانبك يا إبنى" ويكون هذا مصدر عزاء حتى لو لم تحل المشكلة ويقول القديسون "إنشغل بالمسيح (فى الصلاة) ينشغل المسيح بأمورك الخاصة". فبدون صلاة نبحث عن حلول بشرية لمشاكلنا فنتوه. ولكن الصلاة تدخل إلى مقادس الله وتقتدر، وتعطى عزاء وسلام إلى حين يحل الله المشكلة.
أمسرور أحد فليرتل = ماذا نفعل فى أفراحنا. ما احلى ما قيل عن عرس قانا الجليل "وكانت أم يسوع هناك. ودعى أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس" (يو2: 1، 2) ولما حدثت مشكلة، كانت أم يسوع هى التى حلت المشكلة بشفاعتها. أما أفراحنا لو كانت بطريقة عالمية ويسوع ليس فيها، فإذا حدثت مشكلة فمن يحلها. يجب أن يكون الرب يسوع المسيح هو المركز الذى تتجه إليه أنظارنا فى كل الظروف، أضيق أم فرح، مرض أم صحة، نجاح أم سقوط. علينا فى أفراحنا أن نسبح ونشكر الله الذى أعطانا هذا السرور. والكنيسة تعلمنا التسبيح دائماً، وغالباً ما نستخدم المزامير التى تثير فينا روح الصلاة فتسكن الشهوات. لأن عدو الخير يستغل فترات الفرح لإثارة الشهوات، ولإثارة المشاكل.أما المسرور الذى يرتل يتقدس فرحه ولا يكون فرحه سروراً عالمياً مادياً، فلا يتدنس بلذة الخطية.
عموماً الله يحب أن يكون شريكاً لنا فى أحزاننا وفى أفراحنا، والبديل أن عدو الخير يدخل فيها فيحول أحزاننا إلى مرار وصدام مع الله، ويحول أفراحنا إلى خلاعة ومساخر. فالمؤمن المتعقل يحول ألامه وأفراحه للقاء مع الرب. والصلاة تعطى عزاء وقوة للمتألم والذى فى شدة، وتعطى ثباتاً لمن هو مسرور.
الأيات 14، 15 :- أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَصَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي الْمَرِيضَ وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهْ.
قسوس (مترجمة خطأ شيوخ). بحسب القاموس فالكلمة اليونانية المستخدمة هى إبريسفيتيروس وتعنى شيوخ أى كبار فى السن. ولكن فى بداية الكنيسة، استحدثت وظائف للخدمة مثل القسيس والأسقف وكلمة كنيسة نفسها. فمن أين يأتون بكلمات لهذه الوظائف. وجدوا فى الكلمات اليونانية ما هو مناسب فإستخدموا لكلمة قسيس الكلمة اليونانية ابريسفيتيروس وللأسقف الكلمة اليونانية التى تعنى ناظر وللكنيسة كلمة اككليسيا وهى تعنى جماعة. ومع مرور الزمن اصبحت هذه الكلمات لها معانيها التى نعرفها الأن. بل لأن القسيس وظيفته أن يصلى عن الشعب، إشتق من كلمة ابريسقيتيروس كلمة ابريسفيا وتعنى شفاعة. فهل نعود بعد قرون من الزمان لنعود بكلمة ابريسفيتيروس لتصبح كبار السن.
1. ولماذا إذا كان معنى الكلمة شيوخ، نترجمها مرة شيوخ ومرة قسوس كما جاء فى (أع20 : 17) السبب أنه لو كانت الكلمة تتحدث عن وظيفة أو خدمة كما فى (أع20: 17) نترجمها قسوس. وإذا كانت الكلمة تتحدث عن صلاة الكاهن عن الأخرين نترجمها شيوخ مثل هذه الأية + رؤ 24: 4 وهذا واضح من الفكر البروتستانتى الذى يرفض فكرة أن الكهنوت فيه شفاعة فالقسيس خادم واعظ ولا يصلى عن أحد.
2. هل يقبل البروتستانت أن نسمى كنائسهم (جماعات) : فالكلمة اليونانية تعنى جماعة. فلماذا يسمونها كنيسة إلا لأن المعنى تغير مع الزمن. إذاً قسوس صارت من بداية الكنيسة تشير للكهنة الذين يصلون عن الشعب ويقومون بخدمة الأسرار كما فى هذه الأية. وإذا فهمنا الأية بمعنى شيوخ فتصير الآية بلا هدف، فإذا كان كما يقول البروتستانت (الذين ترجموها هكذا ليلغوا الكهنوت) أن الكل كهنة، فلماذا يدعو المريض شيوخ الكنيسة، ألا يصلح أى فرد من أفراد الأسرة لكى يدهنه بالزيت. وأى زيت هذا الذى سيدهن به، هل هو زيت عادى !!
الرسول هنا يحدثنا عن سر مارسته الكنيسة وهو سر مسحة المرضى ومازالت الكنائس الرسولية تمارسه. وعلى المريض أن يدعو الكاهن (القسيس) لممارسة هذا السر. والكاهن هنا سيمارس سرين :-
1. سر الإعتراف :- لأن الخطية أحياناً تكون سبب المرض الجسدى أو التعب النفسى، والتوبة عنها والإعتراف بها شىء أساسى (آية 16).
2. سر مسحة المرضى :- يدهن المريض بعد أن يعترف بزيت مصلى عليه، كما أمر المسيح تلاميذه (مر 6 : 12) والصلاة تقتدر فى فعلها. والأهم من شفاء الجسد شفاء الروح والخلاص الأبدى. وهى ليست هبة مطلقة للكنيسة، فبولس لم يستطع شفاء نفسه (2 كو 12 : 7 – 9). ولا شفاء ابفرودتس الحبيب (فى 2 : 27) ولا تروفيموس (2 تى 4 : 20). مع أن الخرق التى كانت على جسد بولس كانت تشفى المرضى.
ويعقوب هنا يتكلم عن أسرار تمارس، لكن الذى أسس السر هو الرب يسوع نفسه. وقد تسلمنا عن آباء الكنيسة صلوات سر مسحة المرضى التى يصليها الكهنة من أجل المريض، وفيها يبتهل الكاهن من أجل غفران خطايا المريض ومن معه من الحاضرين وخطايا الكاهن نفسه وجهالات كل الشعب. والكنيسة تطلب شفاء المريض ولكنها تقدم مشيئة السيد المسيح على مشيئتها، فقد يكون المرض لخير الشخص، ورغم مغفرة خطاياه يبقى فى المرض لأجل تأديبه أو تزكيته أو لحكمة أخرى، كما ترك بولس الرسول فى مرضه حتى لا يرتفع. لذلك تصلى الكنيسة فى سر مسحة المرضى بفم الكاهن "أقم عبدك هذا من موت الخطية وإن أمرت بإقامته إلى زمان آخر فإمنحه مساعدة ومعونة لكى يرضيك فى كل أيام حياته. وإن أمرت بأخذ نفسه فليكن هذا بيد ملائكة نورانيين …".
ويدهنون بزيت بإسم الرب = فالسر هنا لا يعتمد على بر وقداسة الكاهن وصلاحه بل على "إسم الرب" فالعامل فيه هو الروح القدس. غير أن إيماننا فى السر شرط أساسى = صلاة الإيمان تشفى المريض والرب يقيمه = وما يجب ملاحظته أن صلوات سر مسحة المرضى التى وضعها الأباء بإرشاد الروح القدس توجه أنظار المؤمنين المرضى جسدياً إلى خلاص نفوسهم والإهتمام بالشفاء الروحى أى غفران الخطايا. وهذا يتفق مع قول الرسول = وإن كان قد فعل خطية تغفر له = وسلطان غفران الخطية لم يعط سوى للكهنة (يو 20 : 22، 23).
أية 16 : - اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالّزَلاَّتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ لِكَيْ تُشْفَوْا. طِلْبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا.
يصاحب سر مسحة المرضى سر الإعتراف، وواضح أن الذى سيعترف هو المريض وليس الكاهن، المريض يعترف للكاهن وليس الكاهن هو الذى سيعترف للمريض.
ويقول القديس أغسطينوس تعليقاً على ذلك، أنه لو قلنا علموا بعضكم بعضاً فالمعلم هو الذى سيعلم االتلميذ وليس العكس. والإعتراف هنا يكون لكاهن له سلطان أن يحل ويغفر (يو 20 : 22، 23). والسؤال هنا كيف يمكن أن نفهم قول المسيح هذا " من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت " هل من حق أى إنسان أن يمسك خطايا الآخرين، وهل لا يوجد تعارض بين هذا القول فى (يو 20 : 22، 23) مع قول السيد " إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم (مت 6 : 15).
قطعاً لا يوجد تعار ض فالمسيح لا يناقض نفسه. فالقول (يو 20 : 22، 23) موجه للرسل وخلفاءهم من طغمة الكهنوت. أما قول السيد فى (مت 6 : 15) فهو موجه لكل المؤمنين.
الآيات 17، 18 :- كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَاناً تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ السَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ ثَمَرَهَا.
هنا نرى أن صلواتنا يجب أن تكون بإيمان حتى يستجيب الله. فالله إستجاب لإيليا وهو إنسان تحت الآلام مثلنا فلماذا لا يستجيب لنا. ثلاث سنين وستة أشهر = فى (1 مل 18 : 1) نسمع "وبعد أيام كثيرة كان كلام الرب إلى إيليا فى السنة الثالثة..." إلا أن التقليد اليهودى يذكر أن مدة إنقطاع المطر كانت ثلاث سنين وستة أشهر، وهذا أيده السيد المسيح (لو 4 : 25). وقال يعقوب هنا نفس الشىء. والحل بسيط جداً، أن المطر كان منقطعاً قبل كلام إيليا، وجاء إيليا وأوقف نزوله، وكانت الفترة الإجمالية ثلاث سنين وستة أشهر. وإيليا لم يصلى لينقطع المطر إنتقاماً لنفسه بل تأديباً للملك وللشعب بسبب وثنيتهم. القصد أن علينا أن نؤمن أن الصلاة قوة روحية جبارة وهبها الله للإنسان بها يستطيع أن يفعل المعجزات.
الآيات 19، 20 :- أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ الْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا.
يختتم الرسول رسالته بأنه يدعوهم للإهتمام بالبحث عن الخروف الضال، والسبب أنهم بهذا يخلص نفساً من الموت = هى نفس الذى كان ضالاً ويستر كثرة من الخطايا = الضال الخاطىء الذى يعود بالتوبة :-
1. سيمتنع عن الخطية بل عن كثرة من الخطايا إذ عرف المسيح.
2. إذ تاب وعاد وإعترف بخطاياه تستر خطاياه السابقة إذ أن دم المسيح يكفر عنها. فكلمة كفارة تعنى COVER أى غطاء وستر