النفاق الشرعي
روى العامّة الكثير من التقية القولية
الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ،
\تقية عمّار بن ياسر وجماعته : وهي
أوضح من نار على علم ، والاطالة فيها اطالة في الواضحات ، ويكفي أنّه نزل في عذره
على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآناً مبيناً ، وقد علم الكل منزلة عمّار
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنّه ملىء ايماناً من فرقه إلى قدمه
.
تقية ابن مسعود :
عن الحارث بن سويد قال : «سمعتُ عبدالله بن
مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ
كنت متكلماً به».
أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : «ولا يعرف
له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف» . المحلّى | ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409، دار
الآفاق الجديدة ، بيروت .
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الاَشعري :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء
أنّه كان يقول : «إنّا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم» . صحيح البخاري
: 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس
وقد بيّنا سابقاً من نسب هذا القول إلى أبي
موسى الاَشعري ، كما ورد نظيره عند الاِمامية منسوباً إلى أمير المؤمنين علي عليه
السلام ، وقد تقدم أيضاً .
تقية ثوبان واباحته الكذب في بعض المواطن :
أورد عنه الغزالي أنّه كان يقول : «الكذب إثم
إلاّ ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً» . إحياء علوم الدين | الغزالي 3 : 137
.
قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : «والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من
بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء». الدر القيط من
البحر المحيط | تاج الدين الحنفي 5 : 537 ـ 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن
عبدالله ، قال : «إنّ ميموناً كان جالساً وعنده رجل من قرّاء أهل الشام ، فقال :
إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن
خير . فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى
إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟
ما كنت فاعلاً ؟ قال : كنت أقول : لا . قال : فذاك» . الاِشراف على مناقب الاَشراف
| ابن أبي الدنيا : 118 | 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1412 هـ على أن الكذب
هو ما عقد كذباً ، والتقية إنّما تعقد للاحسان ، والاصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق
المصالح المشروعة ، وفي الحديث: إنّما الاَعمال بالنيات »
تقية أبي هريرة :
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال :
«حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما
الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» . صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ
العلم (آخر أحاديث الباب) .
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء
حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الاَحاديث التي تبيّن أسامي أمراء السوء وأحوالهم ،
وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله
من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ؛ لاَنّها كانت سنة
ستين من الهجرة . فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 1 : 173 .
تقية ابن عباس من معاوية :
أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال : «قال
رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوترَ بواحدة ؟ ـ وهو يريد أن يعيب
معاوية ـ فقال ابن عباس : أصاب معاوية» .
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدل
على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : «كنت مع
ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ،
فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟»
قال الطحاوي بعد ذلك : «وقد يجوز أن يكون قول
ابن عباس : (أصاب معاوية) على التقية له» ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث.
شرح معاني الآثار| الطحاوي 1 : 389، باب الوتر ، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت |
1407 هـ .
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب :
أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن
أبي يحيى الكندي ، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة
الاَمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة
الاَمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟! فقال : ضعها حيث أمرك الله ،
سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاَخبرك . كتاب الاَموال | أبو عبيدة القاسم بن
سلام : 567 | 1813 ، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس ، ط1 ، دار الكتب العلمية ،
بيروت | 1406 هـ .
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم
يجبه .
قال الدكتور الهراس في هامشه : «يظهر أن
سعيداً كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت» . كتاب الاَموال :
565 | 1801 .
تقية رجاء بن حيوة :
قال القرطبي المالكي : «وقال ادريس بن يحيى :
كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالاَخبار ، فجلس رجل
منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .
فقال : يا رجاء ! أُذكَرُ بالسوء في مجلسك
ولم تغيّر ؟!
فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين . فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ
هو . قال : الله الذي لا إله إلاّ هو .
فأمر الوليد بالجاسوس ، فضُرب سبعين سوطاً .
فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!
فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم» . الجامع لاحكام
القرآن | القرطبي 10 : 124
أقول : إنّ تقية رجاء هنا مضاعفة .
أما أولاً ، فباظهاره خلاف الواقع تقية .
وأما ثانياً ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق
اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضاً .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس ـ
صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان ، ولما
أُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً .الجامع لاَحكام
القرآن 10 : 124 .
تقية واصل بن عطاء :
قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء
يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني
معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا . فقال : كيف تستحلّون
هذا وما تدرون من نحن ، ولا لاَي شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم
من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ
القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه
وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ
معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا» كتاب
الاَذكياء | ابن الجوزي : 136 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي :
بعد ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي
النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور ـ يوماً ـ
لعمرو
بن عبيد : «بلغني أن محمداً بن عبدالله بن
الحسن كتب اليك كتاباً» قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه .
قال : فبم أجبته ؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي
في السيف أيام كنت تختلف الينا ، أنّي لا أراه ؟!
قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن
قلبي !! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لاَحلفنَّ لك تقية . قال المنصور : والله ،
والله ، أنت الصادق البر» . تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 12 : 168 ـ 169 | 6652
في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي .
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى :
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن
سفيان بن وكيع قال : «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي
حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال
: تتوب وإلاّ أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله .
قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب
من قوله : القرآن مخلوق .
فقال أبي : فقلت لاَبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟
قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فاعطيته التقية» . تاريخ بغداد 13 : 379 ـ 380 |
7297 في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق
القرآن) .
ولعدم جدوى الاكثار من صور التقية القولية
سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني ـ بهذا الصدد ـ فيما
نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره .
قال : «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء
السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ،
واجماع أهل الاِسلام ، ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحقّ عدواً لاَكثر
الخلق..» . محاسن التأويل | جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط2 ، دار الفكر، بيروت |
1398 هـ .