موقف الصحابة من التقية

النفاق الشرعي

 

موقف الصحابة من التقية

 

ليس من العجب أن يجد الباحث الكثير من الصحابة الذين استعملوا التقية في حياتهم لا بقيد الإكراه المتلف للنفس، أو الوعيد بانتهاك الأعراض وسلب الأموال فحسب وإنّما لمجرّد احتمال الخوف من ذلك، أو احتمال التعرّض للإهانة والضرب ولو بسوط واحد أو سوطين. ولكن العجب أن يدّعى بأنّ التقية من النفاق بعد أن استعملها من قولهم حجّة باتّفاق علماء أهل السُّنّة أنفسهم.

نعم، لقد وقفت على الكثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا ممّن استعمل التقية وصرّح بها علناً، وفيما يأتي جملة من أسماء الصحابة الذين استعملوا التقية، وسنذكرهم بحسب تاريخ الوفاة، وهم :

1 - ياسر بن عامر الكناني المذحجي أبو عمار (ت / 7 ق .ه‍)، قال الزركلي (ت / 1976م) في الأعلام : «وفي أيامه بدأت الدعوة إلى الإسلام سرّاً»(1).

2 - سميّة بنت خباط، زوج ياسر واُمّ عمار قتلها أبو جهل في السنة

______________________________

(1) الأعلام /الزركلي 8 : 128.

{ 100 }

السابعة قبل الهجرة، ومات زوجها في هذه السنة أيضاً تحت التعذيب، وهما أوّل من استُشهد في الإسلام رضي اللّه عنهما.

وقد مرّت تقيتهما في تفسير الآية الثانية، في الفصل الأوّل.

3 - الصحابي الذي شهد تقية لمسيلمة الكذّاب (ت / 12ه‍) بأنّه رسول اللّه، وقد مرّ كلام المفسّرين في ذلك كالحسن البصري (ت / 110ه‍)، والزمخشري (ت / 538ه‍)، والرازي (ت / 606ه‍)، والبيضاوي (ت / 685ه‍)، وغيرهم، وذلك في الدليل القرآني الثاني على مشروعية التقية في الإسلام.

4 - معاذ بن جبل ( ت / 18ه‍) :

أخرج القاسم بن سلام عن سعيد بن المسيب قال : «إنّ عمر بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب، أو على بني سعد بن ذبيان، فقسّم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقيته، فقالت امرأته : أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم(1) ؟ فقال : كان معي ضاغط، فقالت : قد كنت أميناً عند رسول اللّه (ص)، وعند أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطاً ؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال : أنا بعثت معك ضاغطاً ؟ فقال : لم أجد شيئاً اعتذر به اليها إلا ذلك. قال : فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال : أرضِها به»(2).

ولا شكّ أن قول معاذ ليس فيه تقيّة وإنّما جاء على سبيل التورية، لأنّ للضاغط معنيين :

______________________________

(1) العراضة : الهدية، يهديها الرجل إذا قدم من سفر. لسان العرب 9 : 145 - عرَضَ.

(2) كتاب الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام : 589 / 1913.

{ 101 }

أحدهما : «الرقيب والأمين يُلزَم به العامل لئلا يخون فيما يجبي، يقال : أرسله ضاغطاً على فلان، سمّي بذلك لتضييقه على العامل»(1)، وهذا المعنى هو القريب المتبادر من كلام معاذ بقرينة السؤال عن العراضة، أي الهدية.

والآخر : هو الحافظ الأمين أي : اللّه عزّ وجلّ، وهذا المعنى البعيد هو المراد بقول معاذ، ولكنّه أوهم زوجته بالأوّل.

وممّا سوّغ ذكره هنا - على الرغم من أنّ التورية غير التقية - هو أنّ التورية تشترك مع التقية في التخلّص من الضرر عند الإكراه أو الاضطرار، وتُقدّم على التقية ما أمكن، كما تشتركان في أنهما عبارة عن إظهار شيء غير مراد أصلاً.

وسبب آخر سوّغ ذلك هو أنّ بعض الكتّاب حمل ما ورّى به الإمام الصادق عليه السلام عن نفسه - في بعض أحاديث الكافي - على التقية، من ذلك قول الصادق عليه السلام لمن سأله من الزيدية : «أفيكم إمام مفترض الطاعة ؟ فقال : لا.. الحديث»(2).

فالمقصود : ليس فينا إمام مفترض الطاعة بزعمكم. أو ليس من بني فلان من أولاد عليّ عليه السلام مفترض الطاعة، وإلا ففرض طاعتهم قد نصّ عليها القرآن، والنبي الأكرم، وأحاديثهم هم عليهم السلام في فرض طاعتهم - لا سيّما عن الإمام الصادق - لا تكاد تحصى كثرة.

وقد ناقشنا هذا الحديث وسائر أحاديث الكافي الاُخرى التي تَوجّه لها طعن

______________________________

(1) لسان العرب / ابن منظور 8 : 67 - ضغط.

(2) اُصول الكافي 1 : 181 / 1 كتاب الحجّة، باب ما عند الأئمّة عليهم السلام من سلاح رسول اللّه (ص) ومتاعه.

{ 102 }

بعض الكتّاب من أهل السنّة كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمة هذا البحث.

وبالجملة فإنّ التورية تسبق التقية عادة، بل أوجبها - عند تمكّن المضطرّ منها - أكثر المفسّرين من أهل السنّة تخلصاً من التقية.

5 - عمر بن الخطّاب (ت / 23ه‍) :

حدّث البخاري أنّ عمر بن الخطاب يوم أسلم، أو يوم أراد أن يدخل الإسلام كان خائفاً مذعوراً من المشركين، واضطرّ إلى ملازمة داره خوفاً من أن يخرج فيُقتل وبقي على هذا الحال حتى انقذه العاص بن وائل، وكان حليفاً لهم في الجاهلية.

وإليك نصّ ما قاله عبد اللّه بن عمر بن الخطاب في إسلام أبيه، كما في رواية البخاري من طريق يحيى بن سليمان في باب إسلام عمر بن الخطاب.

قال : «بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو عليه حُلّةُ حِبَرَةٍ، وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له : ما بالك ؟ قال : زعم قومك أنّهم سيقتلونني إن أسلمت. قال : لا سبيل إليك.

بعد أن قالها أمِنت. فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا. قال : لا سبيل إليه. فكرّ الناس»(1).

أقول : إنّ عبارة : (بعد أن قالها أمِنت) هي من قول عمر، أي : بعد ما قال

______________________________

(1) صحيح البخاري 5 : 60، باب إسلام عمر بن الخطاب.

{ 103 }

العاص : (لا سبيل إليك) أمنت، وليس هي من قول ابنه كما نصّ عليه ابن حجر (ت / 852ه‍) في فتح الباري، ثمّ قال : «وفي رواية الاسماعيلي : فقلت لعمر : من الذي ردّهم عنك يوم أسلمت ؟ قال : يا بني ذاك العاص بن وائل»(1).

وهذا الحديث المروي في الصحيح صريح جدّاً بخوف عمر يوم أسلم من المشركين وتقيّته منهم حيث لزم داره.

وهذا يعني أنّ عمر بن الخطاب قد بدأ عهده بالاسلام مع التقية.

6 - تقية رجل قرشي من عمر بن الخطاب :

قال ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597ه‍) : «إنّ عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من قريش على عمل، فبلغه أنّه قال :

أسقِنِي شُربَةً ألذُّ عليهَا***واسقِ باللّهِ مِثلَها ابن هُشَامِ

فأشخصه إليه، وذُكر أنّه إنّما أشخصه من أجل البيت. فضمّ إليه آخر، فلمّا قدِم، قال عمر : ألست القائل :

أسقني شربة الذ عليها***واسق باللّه مثلها ابن هشام ؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين.

عسَلاً بارِداً بِماءِ سحَابٍ***إنّنِي لا أُحِبُّ شُربَ المُدَامِ

قال : اللّه اللّه، ارجع إلى عملك»(2).

______________________________

(1) فتح الباري 7 : 141، باب إسلام عمر بن الخطاب.

(2) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : 130، وفيه الشيء الكثير من ذلك، فراجعه.

{ 104 }

7 - تقيّة امرأة من عمر بن الخطاب :

روى عبد اللّه بن بريدة قال : بينا عمر يعسّ ذات ليلة، انتهى إلى باب متجانف وامرأة تغنّي نسوة :

هل مِن سبيلٍ إلى خَمرٍ فأشرَبُها***أم هل سبيلٍ إلى نصرِ بنِ حجّاجِ

ثمّ ذكر ما كان من عمر وكيف أنّه دعا نصراً فوجده من أحسن الناس وجهاً وعيناً وشعراً، فأمر عمر بشعره فجزّ، ونفاه إلى البصرة بسبب شعر هذه المرأة به. ثمّ قال :

«وخافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يُبدر إليها شيء فدسّت إليه أبياتاً :

قُل لِلأميرِ الّذي تُخشَى بَوادِرُهُ***ما لي وللخَمرِ أو نصرِ بنِ حجَّاجِ

إنِّي بُلِيتُ أبا حَفصٍ بغيرِهِما***شُربِ الحليبِ وطرفٍ فاتِرٍ ساجِ

لا تجعلَ الظّنّ حقّاً أو تُبيّنَهُ***إنّ السّبِيلَ سبيلُ الخائِفِ الرّاجي

ما مُنيَة قُلتُها عرَضاً بِضائرَةٍ***والنّاسُ مِن هالِكٍ قِدماً ومِن ناجِ

إنّ الهوى رِعيَةُ التّقوى تُقيِّدَهُ***حتّى أقرّ بِألجامٍ وأسراجِ

قال : فبكى عمر وقال : الحمد للّه الذي قيّد الهوى بالتقوى»(1).

8 - سراقة بن مالك بن جشعم (ت / 24ه‍) وسراقة من الصحابة أسلم بعد الطائف في السنة الثامنة من الهجرة، وقد اتّقى قومه كما هو مفصّل في قصّة هجرة النبيّ (ص) من مكّة إلى المدينة. فقد ذكر ابن سعد (ت / 230ه‍) في

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي 12 : 270 - تحت عنوان : نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.

{ 105 }

الطبقات الكبرى أنّ قريشاً قد تتبّعت أثر النبيّ (ص)، وكان معهم سراقة بن مالك بن جشعم القرشي، وهو خير من يعرف تتبّع الأثر، وأنّه - بفضل ذلك - أدرك النبيّ وصاحبه أبا بكر، وكيف أنّ قوائم فرسه قد ساخت في الأرض، وأنّه طلب من النبي (ص) أن يدعُو اللّه أن يطلق فرسه، وأنّه في مقابل ذلك يرجع عنه ويرد من وراءه، ففعل النبيّ (ص)، فأُطلق فرسه ورجع من حيث أتى «فوجد الناس يلتمسون رسول اللّه (ص)، فقال لهم : ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ها هنا وقد عرفتم بصري في الأثر، فرجعوا عنه»(1).

9 - عبد اللّه بن مسعود (ت / 32ه‍) :

أخرج ابن حزم الظاهري (ت / 456ه‍)، عن الحارث بن سويد قال : «سمعت عبد اللّه بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به».

قال ابن حزم معقّباً : «ولا يعرف له من الصحابة رضي اللّه عنهم مخالف»(2).

وهذا القول صريح باتفاق الصحابة على جواز التقية، ولو باحتمال الخوف من سوط واحد من سياط السلطان الجائر.

ولم يقتصر أمر التقية عند ابن مسعود على الكلام فقط، بل تعدّاه إلى أهم الأفعال العبادية، حيث كان يتّقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة، فيصلّي خلفه على الرغم من أنّ الوليد هذا كان يأتي الى مسجد

______________________________

(1) حياة الصحابة / محمد يوسف الكاندهلوي 4 : 327.

(2) المحلّى / ابن حزم 8 : 336 - مسألة : 1409.

{ 106 }

رسول اللّه (ص) ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة!!

«حتى أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً ثم قال : أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة»(1).

وفي هذا دليل على تقية ابن مسعود ومن كان معه في الصلاة خلف هذا الوالي الفاسق، الذي جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (ت / 35ه‍)(2).

10 - أبو الدرداء (ت / 32ه‍) :

روى البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : «إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم»(3).

11 - عبد اللّه بن حذافة (ت / نحو 33ه‍) :

ابن قيس السهمي القرشي أحد الصحابة وهو الذي بعثه النبي (ص) إلى كسرى، وكان قد اُسر في أيام عمر من قبل الروم، وقد أكرهه ملك الروم على أن يقبّل رأسه ففعل تقية، ولمّا عاد إلى المدينة قبّل عمر بن الخطاب رأس ابن حذافة، لأنّه خلّص بتقيّته عدداً من المسلمين الذين أسرهم الروم(4).

12 - المقداد بن الأسود (ت / 33ه‍) :

مرّت الإشارة إلى تقيّته في الدليل الثاني عشر من أدلّة السنّة النبوية على

______________________________

(1) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2 : 532.

(2) اُنظر قصّة جلده في صحيح مسلم 3 : 1331 / 1707 - كتاب الحدود، باب الخمر، والاصابة / ابن حجر 2 : 601، واُسد الغابة / ابن الاثير 5 : 451 - 453.

(3) صحيح البخاري 8 : 37 - كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.

(4) تاريخ الإسلام / الذهبي 2 : 87.

{ 107 }

مشروعية التقية، وذلك فيما رواه ابن ماجة في سننه، حيث عد تقية المقداد من فضائله، إذ ذكرها في باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد(1)، ولو كانت التقية غير جائزة في الإسلام، لكان ينبغي أن يعدّها من معايبه لا من فضائله.

13 - حذيفة بن اليمان (ت / 36ه‍) :

قال السرخسي الحنفي (ت / 490ه‍) في المبسوط : «وقد كان حذيفة رضي اللّه عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنّه يداري رجلاً، فقيل له : إنّك منافق!!

فقال : لا، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه»(2).

ولعلّ حذيفّة رضي اللّه عنه يريد بهذا الكلام : أنّ ترك التقية ليس مطلقاً في كلّ الحال، وإنّ عدم مداراة الناس يؤدّي إلى نفرتهم، وعزلته عنهم، وربّما نتج من ترك التقية وعدم المداراة ما يؤدّي إلى ضرر أكيد، فيكون من باب إلقاء النفس إلى التهلكة التي هي من الإثم الذي يُذهب الدين كلّه، ومن هنا يتّضح عدم الفرق بين التقية والمداراة في مجال دفع الضرر، وإن اختلفت المداراة عن التقية بجلب المنفعة، زيادة على دفع الضرر، والمداراة مشروعة عند سائر المسلمين كما يظهر من أبوابها في كتب الحديث وما أخرجه المحدّثون - كالبخاري وغيره - في تلك الأبواب من الاحاديث الكثيرة التي تحثّ عليها، وتجعلها من صفات العاقل الحكيم، وكيف لا ؟ وقد مرّ ما يثبت مداراة نبيّنا الكريم (ص) لمن كان في طبعه نوع من الشكاسة.

______________________________

(1) سنن ابن ماجة 1 : 53 / 150.

(2) المبسوط / السرخسي 24 : 46.

{ 108 }

14 - خباب بن الأرت (ت / 37ه‍) :

وهو من جملة الصحابة الذين عُذّبوا بمكّة من قبل المشركين على أن يكفروا باللّه، ويرجعوا إلى عبادة الاوثان، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية فيما نصّ عليه جميع المفسّرين وقد تقدّم ذلك، ولا حاجة لإعادته.

15 - عمّار بن ياسر (ت / 37ه‍) :

أمّا تقية عمّار فهي نار على علم، والإطالة فيها إطالة في الواضحات، وليس بدعاً على المسلم أن يتأسّى بعمّار عند الإكراه، وقد علم الجميع أنّ عمّاراً ممن ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه.

16 - صهيب بن سنان بن مالك (ت / 38ه‍) :

وهذا الصحابي المعروف بصهيب الرومي هو من جملة الصحابة الذين عُذّبوا بمكّة على أن يكفروا باللّه، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية على نفسه، وقد مرّ ذكره أيضاً مع عمّار وأصحابه رضي اللّه عنهم.

17 - جبر مولى الحضرمي :

وهذا من الصحابة الذين اُكرهوا على الكفر، فكفروا تقية، ذكره الرازي الشافعي (ت / 606ه‍) وأغلب المفسّرين أيضاً، في بيانهم لتقية عمّار بن ياسر وأصحابه يوم اُكرِهوا عليها من قِبل المشركين.

قال الرازي - بعد ذكر ما جرى لعمّار - : «ومنهم : جبر مولى الحضرمي أكرهه سيّده فكفر، ثم أسلم مولاه، وحسن إسلامهما وهاجرا»(1).

______________________________

(1) التفسير الكبير / الرازي : 20 : 121.

{ 109 }

ولا شكّ أنّ هذا الصحابي قد بقي على تقيته طيلة مدّة كفر سيّده، ولعلّها أطول تقية على الكفر في العهد العصيب.

18 - تقية جمع من الصحابة وغيرهم سنة / 41ه‍ :

قال الطبري (ت / 310ه‍) في حوادث سنة 41ه‍ : «حدثني عمر، قال : حدّثنا علي بن محمد، قال : خطب بُسر على منبر البصرة، فشتم عليّاً عليه السلام، ثمّ قال : نشدت اللّه رجلاً علم إني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني.

قال : فقال أبو بكرة : اللهم لا نعلمك إلا كاذباً.

قال : فأمر به فخنق، قال : فقام أبو لؤلؤة الضبّي، فرمى بنفسه عليه، فمنعه، فأقطعه أبو بكرة بعد ذلك مائة جريب.

قال : وقيل لأبي بكرة : ما أردت إلى ما صنعت ؟

قال : أيناشدنا باللّه ثمّ لا نصدقه ؟»(1).

ولا يمكن تصوّر أنّ أهل البصرة ليس فيهم من الصحابة في ذلك الحين غير أبي بكرة الثقفي نفيع بن الحارث (ت / 86ه‍) بالبصرة، إذ لا بدّ وأن يكون الكثير منهم قد سمع مقالة بُسر بن أرطاة (ت / 52ه‍) واتّقى من بطشه وظلمه، فضلاً عمّن سمع ذلك واتّقاه من البصريين ممّن ليست لهم صُحبة.

ويصدق هذا النوع من التقية الجماعية، على جميع ما سمعه المسلمون على امتداد التاريخ من خطب الحكّام والاُمراء الظالمين التي مُلئت منكراً، ولم يقف بوجههم أحد وقفة الصحابي أبي بكرة الذي كان قد اعتزل القتال في

______________________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 167 - في حوادث سنة / 41ه‍.

{ 110 }

موقعتي الجمل وصفّين، ولم ينصر عليّاً عليه السلام، إلا أنّه أبى إلا أن يقول الصدق بوجه بُسر بن أرطاة.

ولعلّ من هذه التقية ما تقوم به دُور الصحافة والاعلام في بعض الدول الإسلامية من كيل المدح والثناء على الخطب والكلمات الذليلة التي تستجدي الصلح من إسرائيل، مع ما اقترفه اليهود من جرائم يندى لها جبين البشرية خجلاً، فإن لم يكن ذلك من التقية، فهو من النفاق الذي لا شبهة فيه، وشتّان ما بين التقية والنفاق.

19 - أبو موسى الأشعري (ت / 44ه‍) :

روى القرافي المالكي (ت / 648ه‍) عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يقول : «إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» ثمّ علّق عليه بقوله : «يريد : الظلَمة والفسَقَة الذين يتّقي شرّهم، ويتبسّم في وجوههم»(1).

أقول : هذا من قول أبي الدرداء أيضاً، كما تقدّم برقم / 10 عن صحيح البخاري، فراجع.

20 - مداراة معاوية للنابغة الجعدي (ت / 50ه‍) :

النابغة الجعدي هو حبان بن قيس المضري الشاعر المعمر، كان في الجاهلية ممّن أنكر الخمر وهجر الأزلام، واجتنب الأوثان، وكان على دين إبراهيم الخليل عليه السلام، ولما بعث نبيّنا (ص)، وفد عليه وأنشده قصيدته الرائيّة الخالدة التي جاء فيها :

ولا خيرَ فِي حِلمٍ إذا لم تكُن لهُ***بوادِر تحمِي صفوَهُ أن يُكَدّرا

______________________________

(1) الفروق / القرافي 4 : 236 - الفرق الرابع والستون والمائتان.

{ 111 }

فقال (ص) : لا يفضض اللّه فاك.

وكان النابغة محبّاً لآل البيت عليهم السلام، وقد شهد مع علي عليه السلام صفّين، وله في ذلك أبيات معروفة يصف فيها أمير المؤمنين علياً عليه السلام بأنّه السائق إلى نهج الهدى، ويعرض بمعاوية وبمن جارا عليّاً عليه السلام ولم يدركه من الأوائل.

ولمّا آل الأمر إلى معاوية، كتب إلى مروان في شأن النابغة، فأخذ مروان أهل النابغة وماله، فدخل النابغة على معاوية وكان عنده عبد اللّه بن عامر، ومروان، فأنشده :

من راكب يأتي ابنَ هندٍ بحاجتي***على النّأي، والأنباءُ تُنمى وتُجلَبُ

ويُخبر عنِّي ما أقول ابنُ عامرٍ***ونعم الفتى يأوي إليه المُعصَّبُ

فإن تأخذوا أهلي ومالي بظنّةٍ***فإنّي لحرّابُ الرجالِ مُجرَّبُ

صبور على ما يكره المرءُ كلّهِ***سِوى الظلم إنّي إن ظُلمت سأغضَبُ

فما كان من معاوية إلا أن التفت إلى مروان فقال : ما ترى؟ قال : أرى ألا تردّ عليه شيئاً. فقال : ما أهون عليك أن ينجحر هذا في غار ثم يقطع عِرضي ثمّ تأخذه العرب فترويه، أما واللّه إن كنتَ لمن يرويه. اُردُد عليه كل شيء أخذته منه(1).

هذا هو حال معاوية وهو الملك المطاع والرئيس لا المرؤوس مع واحد من رعيّته، فكيف يكون إذن حال المغلوب على أمره ممّن هو أقوى وأقدر منه ؟

21 - ثوبان مولى النبي (ص) (ت / 54ه‍) :

لقد عُرف عن ثوبان إباحته الكذب في المواطن التي لا ينفع فيها الصدق،

______________________________

(1) الأغاني / أبو الفرج الأصبهاني 5 : 8 و30 - 32.

{ 112 }

فقد نقل الغزالي (ت / 505ه‍) عنه قوله : «الكذب إثم إلا ما نفع به مسلماً، أو دفع عنه ضرراً»(1).

وإذا الكذب وهو أمقت الأشياء وارذلها، يباح لنفع المسلم، أو دفع الضرر عنه عند الصحابي ثوبان، فما ظنّك برأيه في التقية التي خرجت عن حكم الافتراء بنصّ القرآن الكريم. مع أنّ الغاية من تشريعها هي دفع الضرر.

قال تعالى :

(إنّمَا يفتَرِي الكذِب الّذينَ لا يُؤمِنُون بِآياتِ اللّه وأُولئِك هُمُ الكاذِبُونَ * من كفرَ بِاللّهِ مِن بعدِ إِيمانِهِ إلا من أُكرِه وقلبُهُ مُطمئِن بالإيمانِ)(2).

قال تاج الدين الحنفي (ت / 749ه‍) : «والمعنى : انما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه، واستثنى منه المكره، فلم يدخل تحت حكم الافتراء»(3).

22 - أبو هريرة (ت / 59ه‍) :

إنّ تتبّع سيرة هذا الصحابي يكشف عن استعماله التقية على أوسع نطاق خصوصاً مع الأمويّين، ولقد كان أبو هريرة يجاهر بالتقية، ويصرّح بأنّه لولاها لقطع بلعومه.

ففي صحيح البخاري : «حدّثنا إسماعيل، قال : حدّثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول اللّه (ص) وعاءين : فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»(4).

______________________________

(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3 : 137.

(2) النحل : 16 / 105 - 106.

(3) الدر اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي 5 : 537 - 538.

(4) صحيح البخاري 1 : 41 - كتاب العلم، باب حفظ العلم (آخِر أحاديث الباب).

{ 113 }

أقول : روى البخاري، عن أبي هريرة أيضاً انّه قال : «إنّ الناس يقولون : أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب اللّه ما حدّثت حديثاً، ثمّ يتلو : (إنّ الّذِينَ يكتُمُون ما أنزلَنا مِن البيِّنات)(1)»(2).

ترى ما هي البيّنات التي خشي أبو هريرة من بثها بين الناس ؟ فاضطر إلى كتمها تقية، لكي لا يقطع منه البلعوم.

لقد أجاب ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852ه‍) على هذا السؤال ولكن لم يُتِمَّ جوابَه، وإن أفصح عما فيه الكفاية، فقال :

«وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي اُمراء السوء، وأحوالهم، وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله : (أعوذ باللّه من رأس الستين، وإمارة الصبيان). يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لانّها كانت سنة ستين من الهجرة».

ثم نقل عن ابن المنير قوله : «وانما أراد أبو هريرة بقوله : (قُطع) أي : قَطع أهل الجور رأسه، إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم»(3).

أقول : ليس من البعيد ان تكون بعض الأحاديث التي كتمها أبو هريرة ليست في معايب الأمويين، وانما في مناقب وفضائل أمير المؤمنين عليه السلام الذي يلعنونه على منابرهم. فيكون مثله كمثل من يمتدح المفكر الإسلامي الخالد الشهيد محمد باقر الصدر بمرأى ومسمع من أقدم على اعدامه استهانة بدين

______________________________

(1) البقرة : 2 / 159.

(2) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 1 : 173.

(3) م. ن 1 : 175.

{ 114 }

الإسلام وسائر المسلمين.

وسيأتي ما يدل عليه في بيان تقية الصحابي زيد بن أرقم (ت / 68ه‍)، وتقية التابعي الزهري (ت / 124ه‍) في كتمانهما ما يدل على مكانة علي بن أبي طالب عليه السلام من رسول اللّه (ص)، تقية من ظلم الأمويين.

واذا كان كتمان حديث رسول اللّه (ص) المؤدي إلى اللعنة كما فهمه أبو هريرة لما في تتمة ما تلاه من الآية الكريمة جائزاً في حال التقية عنده، فلك أن تقدر تقيته فيما وراء ذلك، إذ لا يسع المقام للاستزادة من تقية راوية الإسلام !

23 - تقية جمع من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان (ت / 60ه‍) :

أخرج النسائي (ت / 303ه‍) في سننه من طريق أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، عن سعيد بن جبير قال : «كنت مع ابن عباس بعرفات، فقال ما لي لا اسمع الناس يلبون ؟

قلت : يخافون من معاوية !!

فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال : لبيك اللهم لبيك، لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض علي»(1).

وهذا الحديث صريح بأن جميع من حجّ من الصحابة والتابعين في ذلك الموسم الذي شهده معاوية قد اتّقى من معاوية في ترك التلبية بعرفة إلا ما كان من ابن عباس رضي اللّه عنه.

24 - تقية جمع آخر من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان :

في كتاب الغدير للعلامة الأميني تحقيق واسع حول طرق الحديث المروي

______________________________

(1) سنن النسائي 5 : 253 - كتاب المناسك، باب التلبية بعرفة.

{ 115 }

عن عبد اللّه بن مسعود (ت / 32ه‍)، وأبي سعيد الخدري (ت / 74ه‍)، عن رسول اللّه (ص) انه قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

وفي لفظ : «يخطب على منبري فاقتلوه».

وفي آخر : «يخطب على منبري فاضربوا عنقه».

وفي لفظ أبي سعيد : «فلم نفعل، ولم نفلح».

وفي لفظ الحسن البصري (ت / 110ه‍) : «فما فعلوا، وما فلحوا».

وفي لفظ آخر للحسن - كما في رواية البلاذري - : «فتركوا أمره، فلم يفلحوا، ولم ينجحوا».

وقد انتهى العلامة الأميني من تحقيق طرق الحديث برمتها، وفحص عن الرواة الناقلين لهذا الحديث - من طرق البلاذري - فحصاً دقيقاً، واثبت وثاقتهم من كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنة، بما يجعل الباحث يسلم بصحة صدور هذا الحديث عن النبي (ص)(1).

وبعد ثبوت صحته، فإن دلالته على تقية من شهد من الصحابة معاوية وهو يخطب على منبر النبي (ص)، أوضح من الشمس في رابعة النهار.

25 - عبد اللّه بن عمر بن الخطاب (ت / 65ه‍) :

قال البخاري في الجامع الصحيح : «حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. قال : وأخبرني ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر قال : دخلت على حفصة ونسواتها

______________________________

(1) راجع الغدير للعلامة الأميني : 10 : 142 - 147.

{ 116 }

تنطف قلت : قد كان من أمر الناس ما ترَين، فلم يُجعَل لي من الأمر شيء ؟ فقالت إلحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.

فلما تفرق الناس، خطب معاوية، قال : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، ولنحن أحقّ به منه، ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة فهلا أجبته، قال عبد اللّه : فحللت حبوتي، وهممت أن اقول : أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما اعدّ اللّه في الجنان.

قال حبيب : حُفِظتَ وعُصِمتَ. قال محمود، عن عبد الرزاق : ونوساتها»(1)، انتهى بتمامه.

وبمراجعة شروح صحيح البخاري، نرى أن قوله : (قد كان من أمر الناس ما ترين). أراد به ما وقع بين عليّ عليه السلام ومعاوية من القتال في صفين، واجتماع الناس على الحكومة بينهم.. ثم شاور عبد اللّه بن عمر اخته حفصة في التوجه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحوق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.

ومعنى قوله : (فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية) أي : ان حفصة لم تدعه حتى حضر التحكيم بين أبي موسى الأشعري، وعمرو بن

______________________________

(1) صحيح البخاري 5 : 140 - كتاب بدء الخلق، باب غزوة الخندق. وقوله : (ونسواتها تنطف) غلط، والصحيح : ونوساتها تنطف، أي ذوائبها تقطر، والمراد من الحبوة : ثوب يلقى على الظهر ويربط طرفاه على الساقين بعد ضمهما . كذا في عمدة القاري للعيني 17 : 185.

{ 117 }

العاص كما في قصة التحكيم المعروفة، وكيف ان أبا موسى خلع علياً عليه السلام بخدعة من ابن العاص الذي أثبت صاحبه في الحكم، ولما انفصل الأمر على هذا خطب معاوية، وقوله : «فليطلع لنا قرنه»، تعريض منه بابن عمر وعمر، وقوله : (أحقّ به منه ومن أبيه)، أي : أحقّ بأمر الخلافة من ابن عمر وعمر بن الخطاب !

وقول ابن عمر : (من قاتلك واباك..) يريد به علياً عليه السلام، اذ كان قد قاتل معاوية وأباه يومي أُحد والخندق، وهما كانا كافرين(1).

على ان قول ابن عمر : فحللت حبوتي، وهممت ان أقول، لا يدل على تقية ابن عمر وحده، وانّما يدل على تقية غيره من الصحابة الذين حضروا خطبة معاوية، اذ ليس من المعقول ان يخطب معاوية على ابن عمر وحده، كما أن تأييد الصحابي المعروف حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري (ت / 42ه‍) لعبد اللّه بن عمر يكشف عن تقيّة الفهري ومن حضر معهما أيضاً.

ويظهر من سيرة الصحابي ابن عمر أنه كان يتقي من الأمويين وولاتهم كثيراً، فقد اشار الإمام مسلم (ت / 261ه‍) إلى مبايعة ابن عمر ليزيد بن معاوية وإنكاره على عبد اللّه بن مطيع خروجه على يزيد إبّان ما كان من موقعة الحرة(2) المشهورة التي استمر فيها قتل المؤمنين من المهاجرين والأنصار بسيوف جند أهل الشام، الذين خرّبوا مدينة الرسول (ص) وأكثروا فيها الفساد، حيث أباحوا المدينة المنورة ثلاثة أيام بلياليها مما لا يخفى هذا على سائر الباحثين.

وهذا الموقف من ابن عمر لا يفسر التفسير الصحيح إلا على أساس التقية

______________________________

(1) راجع شروح صحيح البخاري، مثل عمدة القاري للعيني 17 : 185 - 186، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني 7 : 223، وإرشاد الساري للقسطلاني 6 : 324 - 325.

(2) صحيح مسلم 3 : 1478 / 1851 - كتاب الإمارة، باب / 13.

{ 118 }

في غير موضعها، لأنه سبق وأن امتنع عن البيعة لأمير المؤمنين علي عليه السلام، وليس من المعقول جداً - ولا يوافقنا عليه أحد من المسلمين - ان يكون يزيد بن معاوية أحق بالخلافة من علي عليه السلام في نظر ابن عمر، أو أجدر منه عليها. لولا أنّه أمن سوط عليٍّ عليه السلام واتّقى ببيعته ليزيد خوفاً من سيفه الذي يقطر دماً.

ومن تقيته أيضاً أنه كان يصلي خلف الظالمين ويأتم بهم. فقد أخرج البيهقي (ت / 458ه‍) من طريق سعيد بن عبد العزيز، عم عمير بن هانئ قال : «بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج فأتيته، وقد نصبَ على البيت أربعين منجنيقاً ‍‍فرأيت ابن عمر إذا حضر الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه فقلت : يا أبا عبد الرحمن أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم ؟ فقال : يا أخا أهل الشام، ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق»(1).

وقال ابن سعد (ت / 230ه‍) في طبقاته : «لا يأتي أمير إلا صلى ابن عمر - خلفه، وأدى إليه زكاة ماله»(2).

وأخرج ابن أبي شيبة (ت / 235ه‍) من طريق قيس بن يونس، عن عمير بن هانئ قال : «شهدت ابن عمر، والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء»(3).

وفي شرح العقيدة الطحاوية : «وفي صحيح البخاري : ان عبد اللّه بن عمر

______________________________

(1) السنن الكبرى / البيهقي 3 : 122.

(2) الطبقات الكبرى / ابن سعد 4 : 149.

(3) المصنف / ابن أبي شيبة 2 : 378.

{ 119 }

كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي..»(1).

فصلاة ابن عمر خلف هؤلاء مما لا يمكن انكارها، كما لا يمكن ان تكون بغير تقية. قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة (ت / 620ه‍) : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد، يصليان بمكان واحد من البلد، فإن من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه، فانه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة».

وقد ذكر أثراً صحيحاً عن النبي (ص) في مقام الاحتجاج به على صحة قوله، وهو ما اخرجه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري (ت / 78ه‍) قال : «سمعت النبي (ص) على منبره يقول : لا تؤُمَّنّ امرأة رجلاً، ولا يؤمّ أعرابي مهاجراً، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا ان يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه»(2).

ومن تقيته أيضاً ما أخرجه الهيثمي (ت / 807ه‍) عن مجاهد بن جبر، عن ابن عمر قال : «سمعت الحجاج يخطب، فذكر كلاماً انكرته، فأردت أن أُغيّر، فذكرت قول رسول اللّه (ص) : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قال : قلت : يا رسول اللّه كيف يذل نفسه، قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(3).

أقول : هكذا يجب ان تفهم تقية الصحابي ابنعمر من معاوية ويزيد وولاتهما، لا أن يُلجأ إلى الاحتجاج بما رواه ابن عمر عن رسول اللّه (ص) انّه

______________________________

(1) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2 : 530.

(2) المغني / ابن قدامة 2 : 186، 192، وانظر سنن ابن ماجة 1 : 343 (نقلاً عن بحث التقية في آراء علاماء المسلمين للشيخ عباس علي براتي ص 82، منشور في مجلة رسالة الثقلين - العدد الثامن، السنة الثانية / 1414ه‍، اصدار المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام - قم المقدسة).

(3) كشف الأستار عن زوائد مسند البزاز على الكتب الستة / نور الدين الهيثمي 4 : 112 / 3323.

{ 120 }

قال : «من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له»(1). فليس هذا للمحتج في شيء، اذ مع حمل هذا الأثر على الصحة فإنه لا يدل اكثر من مبايعة الظالمين تقية لا اختياراً، لأن المراد من الطاعة، انما هي طاعة من أمر اللّه تعالى ورسوله الكريم بطاعتهم، وليس المراد منها طاعة يزيد ومبايعته، حتى وإن أُريد بالخلع المذكور في هذا الأثر، هو الخلع بعد البيعة حيث كانت قد أُخذت بالإكراه كما هو المعروف في أخذ البيعة ليزيد بن معاوية زمن الحرّة، فخلعه اذاً لا تبعة فيه، ولا حنث يمين، لان البيعة كانت تقية بضغط الإكراه، وليس على مكره يمين.

فها هم أهل المدينة انفسهم قد نقموا على أبي جعفر المنصور (ت / 158ه‍) ظلمه وطغيانه، وخلعوا ايديهم من طاعته بعد بيعتهم له، وخرجوا مع محمد النفس الزكية (ت / 145ه‍) وفيهم كبار التابعين بعد أن افتاهم مالك بن انس (ت / 179ه‍) بان بيعتهم له إنما كانت تقية بضغط الإكراه عليها، وليس على مكره يمين(2).

ولم يقل أحد بالأمس ولا اليوم من فقهاء المسلمين قاطبة : أن أهل المدينة بخلعهم المنصور ومبايعة النفس الزكية سيلقون اللّه يوم القيامة لا حجة لهم.

ومن هنا يفهم أن حمل ما رواه ابن عمر عن رسول اللّه (ص) لا يمكن شرعاً وعقلاً ان يحمل - مع القول بصحته - على غير المعنى المتقدم، وإلا فلا يخلو هذا الأثر من اتهام عظيم لسائر صلحاء هذه الأمة، وابرارها ممن خلعوا يداً عن طاعة الظالمين، واشتروا انفسهم ابتغاء مرضاته تعالى.

______________________________

(1) صحيح مسلم 6 : 20 - 22، باب الأمر بلزوم الجماعة.

(2) تاريخ الطبري 4 : 427 - في حوادث سنة / 145ه‍.

{ 121 }

26 - زيد بن أرقم (ت / 68ه‍) :

أخرج الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240ه‍) في مسنده، من طريق ابن نمير، عن عطية العوفي قال : «سألت زيد بن أرقم فقلت له : إن ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا اُحِبُّ أن أسمعه منك ؟

فقال : انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له ليس عليك مني بأس، فقال نعم، كنا بالجحفة فخرج رسول اللّه (ص) الينا ظهراً وهو آخِذ بعضد علي، فقال : ايها الناس ألستم تعلمون أني أولَى بالمؤمنين من أنفسهم ، قالوا : بلى. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه. قال : فقلت له : هل قال : (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ؟ قال : إنما اخبرك كما سمعت»(1).

ولا شك ان كتمان زيد لقوله (ص) : «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» كان تقية من عطية العوفي، ذلك لأن الاقرار بهذه العبارة يعني فضح اعداء الإمام علي، وانهم ممن يعاديهم اللّه، وهم ما أكثرهم في عهد زيد بن أرقم الذي امتد عمره حتى ادرك حكم مروان بن الحكم، وما يدل على تقيته من عطية العوفي، قوله لعطية : انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، اشارة إلى الفتن الكثيرة التي كانت تموج بها - يوم ذاك - أرض العراق، كما أن قول عطية له : ليس عليك مني بأس دليل آخر على فهم عطية ان زيداً يخشاه. ومما يؤكد ذلك ان ما كتمه زيد عن عطية قد رواه زيد عن نفسه كما في كثير من الطرق الصحيحة المنتهية إليه، وقد حققها العلامة الأميني في كتاب الغدير، وحسبك ان يكون من روى الحديث كاملاً عن زيد بن أرقم - كما في الغدير - الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، والنسائي في خصائصه، والدولابي في

______________________________

(1) مسند أحمد 4 : 368.

{ 122 }

الكنى والاسماء، والميبدي في شرح ديوان الإمام علي عليه السلام، والذهبي في تلخيص المستدرك، وفي ميزان الاعتدال، وابن الصباغ في الفصول، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول، والهيثمي في مجمع الزوائد من طريق أحمد والطبراني والبزاز، والخوارزمي الحنفي في المناقب، وابن عبد البر في الاستيعاب، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، والسيوطي في مجمع الجوامع، وتاريخ الخلفاء والجامع الصغير، وابن حجر في تهذيب التهذيب، والتبريزي في مشكاة المصابيح، وعشرات غيرهم(1).

ولهذا قال العلامة الأميني معلقاً : «إن زيداً اتقى ختنه العراقي، وهو يعلم ما في العراقيين من النفاق والشقاق يوم ذاك، فلم يبد بسره حتى أمن من بوادره فحدثه بالحديث»(2).

27 - عبد اللّه بن عباس (ت / 68ه‍) :

لقد ورد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : (إلا أن تتَّقُوا مِنهُم تُقاةً) انه قال : «ما لهم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله»، وعنه أيضاً : «التقية باللسان ومن حمل على أمر يتكلم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، انما التقية باللسان»(3).

وقد أخرج أبو حيان الاندلسي (ت / 754ه‍) عن ابن عباس انه قال عن التقية : «انها مداراة ظاهرة، أي يكون المؤمن مع الكفار، وبين اظهرهم فيتقيهم

______________________________

(1) راجع من اخرج الحديث بتمامه عن زيد بن أرقم في كتاب الغدير 1 : 30 - 37.

(2) الغدير : 1 : 380.

(3) جامع البيان / الطبري 6 : 313 وما بعده.

{ 123 }

بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه»(1).

وقال أيضاً : «فأما من أُكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن اللّه سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم»(2).

ومن تقية ابن عباس رضي اللّه عنه ما قاله الطحاوي الحنفي (ت / 321ه‍) واليك عين لفظه :

قال «حدثنا محمد بن عبد اللّه بن ميمون البغدادي، قال : حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء قال : قال رجل لابن عباس رضي اللّه عنه : هل لك في معاوية أوتَرَ بواحدة (أي : صلى الوتر بركعة واحدة) - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس : أصاب معاوية».

ثم بين الطحاوي أن المروي عن ابن عباس ما يدل على انكاره صحة صلاة معاوية فقال : «إن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا قال : حدثنا عبد الوهاب، عن عطاه قال : أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة أنه قال : كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس : من أين تُرى أخذها الحمار ؟»

وأخرج من طريق أبي بكره مثله، ثم قال : وقد يجوز أن يكون قول

______________________________

(1) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الاندلسي 2 : 423.

(2) جامع البيان / الطبري 14 : 122، وانظر الدر المنثور للسيوطي 1 : 176، حيث اخرج ذلك عن ابن جرير الطبري، وابن حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، كما اخرجه ابن حجر في فتح الباري 12 : 263، عن ابن جرير أيضاً.

{ 124 }

ابن عباس : (أصاب معاوية) على التقية له، أي : أصاب في شيء آخر، لأنه كان في زمنه. لا يجوز عليه - عندنا - أن يكون ماض لفعل رسول اللّه (ص)، الذي قد علمه عنه صواباً»(1)، ثم اخرج عن ابن عباس في الوتر انه ثلاث.

قلت : واحسن من هذا التأويل، ان يكون المفعول تقديره الخطأ لا الحق، فيكون الكلام : «أصاب معاوية الخطأ».

28 - أبو سعيد الخدري (ت / 74ه‍) :

ذكر الاستاذ علي حسين من الباكستان في بحثه عن التقية(2) تقية الصحابي أبي سعيد الخدري من ولاة الأمويين في تقديمهم الخطبة على الصلاة، مشيراً إلى صحيح البخاري - كتاب العيدين، باب الخروج إلى الصلاة من غير منبر، وصحيح مسلم كتاب الصلاة، وعمدة القاري، حديث رقم / 9، وسنن أبي داود - كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد، حديث رقم / 1140، وسنن الترمذي - كتاب الفتن / 31، باب / 26، وسنن ابن ماجة - كتاب الفتن / 36، باب / 20.

29 - تقية جمع من الصحابة فيهم جابر الأنصاري (ت / 78ه‍) :

قال اليعقوبي (ت / 284ه‍) عند الحديث عن خلافة الإمام علي عليه السلام ما نصه :

«ووجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة، وقيل : ابن أرطاة العامري من بني

______________________________

(1) شرح معاني الآثار / أبو جعفر الطحاوي 1 : 389 - باب الوتر.

(2) راجع بحث الاستاذ علي حسين من الباكستان بعنوان : التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقاً منشور في مجلة الثقافة الإسلامية العدد 51 - 52 / 1414ه‍ - اصدار المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

{ 125 }

عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل، فقال له سِر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهِم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهِب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امضِ حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم.

فخرج بُسر، فجعل لا يمرّ بحيٍّ من أحياء العرب إلا فعل ما أمر معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال :

يا أهل المدينة مثل السوء لكم : (قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتِيها رِزقُها رغداً مِن كُلِّ مكانٍ فكفرَت بِأنعُمِ اللّهِ فأذاقهَا اللّهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بِما كانُوا يصنَعُون)(1)، ألا وإنّ اللّه قد أوقع بكم هذا المثل، وجعلكم أهله. شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل !

قال فانطلق جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى اُمّ سلمة زوج النبي، فقال : إني خشيت أن أُقتل، وهذه بيعة ضلال ؟

قالت : إذاً فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب، ويحضرون الأعياد مع قومهم.

وهدم بسر دوراً بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى

______________________________

(1) النحل : 16 / 112.

{ 126 }

اليمن»(1) إلى آخر ما ذكره من جرائم بسر بن أرطاة.

وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت / 656ه‍) أكثر وضوحاً لتقية جميع الأنصار والمهاجرين من بسر.

قال : «.. ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال : شاهت الوجوه ! إنّ اللّه تعالى يقول : (وضربَ اللّهُ مثلاً قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتيِها رِزقُها) الآية، وقد أوقع اللّه تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله - الى أن قال - ثم شتم الأنصار، فقال : يا معشر اليهود وابناء العبيد : بني زُرَيق، وبني النجار، وبني سَلِمة، وبني عبد الأشهل، أمَا واللّه لأُوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه... وتفقد جابر بن عبد اللّه، فقال : ما لي لا أرى جابراً ! يا بني سلمة لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر، فعاذ جابر باُم سلَمة - رضي اللّه عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة، فقال : لا أؤمّنه حتى يبايع، فقالت له اُم سلمة : اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر : اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه»(2).

ثم روى عن وهب بن كيسان كيف ان جابراً توارى من بسر، وكيف عاد إليه فبايعه وفيه انه قال : «فلما امسيت دخلت على اُمّ سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت : يا بنيّ، انطلق فبايع، إحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي ان يذهب فيبايع، واني لأعلم أنها بيعة ضلالُ»(3).

______________________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 197 - 199.

(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 2 : 9 - 10.

(3) شرح نهج البلاغة 2 : 10، وفي هامشه : «في تاريخ الطبري : فقال لها : ماذا ترين ؟ إنّي خشيت أن اُقتل، وهذه بيعة ضلالة، فقالت : أرى أن تبايع، فإنّي قد أمرت ابني =

{ 127 }

وهكذا كان جابر رضي اللّه عنه، يرى ان لا جناح عليه في طاعة الظالم اذا اكرهه على التقية، قال السرخسي الحنفي (ت / 92ه‍) : «وعن جابر رضي اللّه عنه، قال : لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها - أي : التقية -»(1).

30 - القاضي شريح (ت / 78ه‍) :

عندما أُدخل هانئ بن عروة رحمه اللّه على عبيد اللّه بن زياد والي الكوفة سنة 60ه‍ طالبه بمسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام، وكان في داره ثم انتهى الامر إلى ان هشّم ابن زياد وجه هانئ رحمه اللّه بعمود من حديد واودعه السجن، قال المؤرخ لوط بن يحيى : «وبلغ عمرو بن الحجاج أنّ هانئاً قد قُتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر، ومعه جمع عظيم، ثم نادى : أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم يُقتل، فاعظموا ذلك.

فقيل لعبيد اللّه : هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فاعلمهم أنه حيّ لم يقتل، وأنك قد رأيته.

فدخل إليه شريح فنظر إليه».

وقد حدّثَ شريح إسماعيل بن طلحة عن تقيته في ذلك اليوم فقال : «دخلت على هانئ فلما رآني، قال : يا اللّه يا للمسلمين أهلَكَت عشيرتي ؟ فأين أهل الدين ؟ وأين أهل المصر ؟ تفاقدوا يخلوني وعدوهم وابن عدوهم !!

والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت،

______________________________

= عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد اللّه بن زمعة...».

(1) المبسوط / السرخسي 24 : 47.

{ 128 }

وأتبعني، فقال : يا شريح ! إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل عليّ عشرةُ نفرٍ أنقذوني.

قال : فخرجت إليهم، ومعي حميد بن بكر الأحمري، أرسله معي ابن زياد - وكان من شُرطِه ممن يقوم على رأسه - وايم اللّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به.

فلما خرجت إليهم، قلت : إنّ الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني بالدخول إليه، فأتيته، فنظرت إليه، فأمرني أن القاكم وأن أعلمكم إنه حيّ، وإنّ الذي بلغكم في قتله كان باطلاً»(1).

31 - تقية أنس بن مالك (ت / 93ه‍) :

قال القاضي الدمشقي (ت / 772ه‍) : «وفي صحيح البخاري : إن عبد اللّه بن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذلك أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً»(2).

وقد مرّ في تقية عبد اللّه بن عمر قول النبي (ص) : «ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه».

أقول : المعروف عن صلاة الأمويين انهم كانوا يسقطون منها البسملة عند قراءتهم سورة الفاتحة، لما روي في ذلك عن بعض الصحابة - ومنهم أنس بن مالك - أنه صلى خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسمع أحداً منهم يبسمل في صلاته.

______________________________

(1) مقتل الحسين عليه السلام / لوط بن يحيى : 39 - 40.

(2) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2 : 530.

{ 129 }

وقد اثبت الرازي الشافعي بطلان جميع الوجوه التي احتج بها من ذهب إلى هذا الرأي من الفقهاء، واحتمل أن يكون خبر الصحابي أنس قد صدر تقية منه لانه كان يخشى الأمويين، لا سيما وانه ادرك من ظلمهم ما يزيد على خمسين سنة، ويؤيده ائتمامه بهم، وأنى للمأموم أن يخالف الإمام فيما يقرأ ؟

قال الرازي الشافعي - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة، في الجواب عن خبر أنس بن مالك أنه ليس البسملة من الفاتحة - ما نصه :

«والجواب عن خبر أنس من وجوه :

الأول : قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات. أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :

احداها : قوله : صليت خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة ب‍(الحمدُ للّهِ ربِ العالَمِين).

وثانيتها : قوله : إنهم ما كانوا يذكرون (بِسمِ اللّه الرّحمين الرّحيمِ).

وثالثتها : قوله : لم أسمع أحداً منهم قال : (بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ)، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث اُخرى تناقض قولهم.

احداها : ما ذكرنا إنّ أنساً روى أن معاوية لما ترك (بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرُحيمِ) في الصلاة، أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا إن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها : روى أبو قلابة، عن أنس أن رسول اللّه (ص)، وأبا بكر، وعمر كانوا يجهرون ب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ).

{ 130 }

وثالثتها : إنه سُئِلَ عن الجهر ب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمن الرّحيمِ)، والإسرار به ؟ فقال : لا أدري هذه المسألة !

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي : إن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أُمية بالغوا في المنع من الجهر (بها) سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام.

فلعل أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنّا لا نشك أنه مهماً وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل، وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى. فهذا جواب قاطع في المسألة»(1)، انتهى الوجه الأول من كلام الرازي حرفاً بحرف.

قلت : إن ما احتمله الإمام الرازي من تقية الصحابي أنس في موافقته للأمويين على ترك البسملة في الصلاة، حقيقة واضحة لا مجرد احتمال، ويدل عليه قوله : لا أدري هذه المسألة، حين سئل عنها. وهذه هي تقية اُخرى منه ازاء السائل. إذ كيف يجهل الجهر من الإسرار بالبسملة، وهو قد عاش عصر النبي (ص)، وعصر الخلفاء الراشدين، فضلاً عن ملازمته للنبي الأكرم (ص) وخدمته، لولا انه أوجس خيفة من السائل ؟

وبعد.. فلا تعجب إن قلت لك : إن الإمام الرازي قد ختم كتابه المحصل

______________________________

(1) التفسير الكبير / الرازي 1 : 206 - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة.

{ 131 }

بقول سليمان بن جرير الزيدي - ولم يناقشه - وخلاصته : إن مفهوم التقية في الإسلام هو من وضع (أئمة الرافضة)(1).

______________________________

(1) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والمتكلمين / الرازي : 365، وانظر : الملل والنحل للشهرستاني 1 : 159 - 160.