النفاق الشرعي
موقف التابعين من التقية
التابع لغة، هو التالي، وقد اختلفوا في حده كثيراً، فمنهم من
اشترط الصحبة للصحابي، ومنهم لم يشترط واكتفى باللقاء، واشترط بعضهم طول الملازمة،
وآخر صفة السماع، وثالث التمييز، ومنهم من قيد التابع بإحسان.
والمهم هنا ان عصر التابعين قد انتهى بموت آخر التابعين خلف
بن خليفة - على ما قيل - في سنة ثمانين ومائة، وقيل سنة احدى وثمانين ومائة، ولهذا
سنتابع موقف رجالات هذا العصر من التقية ابتداءً من سنة (50ه) وانتهاءً بسنة
(179ه) وقد يكون من بينهم من لم يرَ صحابياً، ولكنه ادرك عصرهم الذي انتهى على
رأس المائة الاُولى من الهجرة تقريباً. مراعياً بذلك ما وصل إليه تسلسل الموقف
المتقدم، مع ملاحظة السبق الزمني لمواقف التابعين من التقية، وعلى النحو الآتي :
32 - تقية بني ضبّة سنة (50ه) :
روى الطبري في تاريخه في حوادث سنة خمسين من الهجرة الشريفة
{ 134 }
مطاردة زياد بن أبيه (ت / 53ه) للفرزدق الشاعر العربي
المشهور (ت / 110ه)، وفي هذه السنة هام الفرزدق على وجهه في البراري مختفياً
خائفاً من أن يدركه الطلب، لا سيما وقد أباح زياد دمه، إلى أنّ وصل الفرزدق إلى
أخواله من بني ضبّة، ثم أدركه الطلب وهو فيهم، فأخفوه، وأنكروا - بعد أن سُئلوا
عنه - أن يكون لهم علم به، وقالوا : ما رأيناه(1).
ولم ينكر عليهم أحد - على طول التاريخ - بأنهم كذبوا وقالوا
خلاف الواقع، بل على العكس كان قولهم هذا مما يستحسنه العقلاء في كل آن وزمان، وهو
مما وجب عليهم شرعاً، وإلا لكانوا من الآثمين اتفاقاً، وهكذا كان للتقية فضلها في
عصمة دم الفرزدق.
33 - صعصعة بن صوحان (ت / 56ه) :
من كبار التابعين، شهد صفين مع علي عليه السلام، وكان يوصي
بالتقية، فقد قال لاُسامة بن زيد الصحابي المعروف (ت / 54ه) : «خالص المؤمن وخالق
الكافر، إنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن»(2).
وهذا القول يؤكد صحة ما مرّ سابقاً، من أنّ التقية لا تكون
خوفاً من المؤمن اطلاقاً، لأنّ المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنما تكون من
الكافر، بل ومن المسلم الذي تخشى بوادره ولا يطمأن إلى جانبه.
34 - مسروق بن الأجدع (ت / 64ه) :
روي أنّ معاوية بن أبي سفيان (ت / 60ه) كان قد بعث بتماثيل
من صفر
______________________________
(1) تاريخ الطبري 3 : 213 - في حوادث سنة 50ه.
(2) البحر المحيط / أبو حيّان 2 : 423.
{ 135 }
لكي تباع بأرض الهند، فمُرَّ بها على مسروق بن الأجدع، فقال
: «واللّه لو أني أعلم انه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني،
واللّه، لا أدري أي الرجلين معاوية : رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من
الآخِرة، فهو يتمتع في الدنيا»(1).
وهذا الكلام ما أصرحه في جواز التقية عند الخوف من الحاكم
الظالم، ولو من غير القتل، وفيه إيماءة إلى أنّ التعذيب بالضرب والإهانة وما شابه
ذلك هو أشد وقعاً على نفوس العلماء وأهل الفضل من القتل بالسيف ونحوه، على أن
مسروقاً كان يرى : إن المكره على التقية اذا أباها حتى مات، دخل النار، وقد تقدم
هذا في قول أبي حيان(2).
35 - نجدة بن عويمر الخارجي (ت / 69ه) :
حكى الشهرستاني (ت / 548ه) في ملله(3) اختلاف نجدة بن
عويمر، رأس فرقة النجدات من الخوارج مع نافع بن الأزرق (ت / 65ه)، رأس فرقة
الأزارقة من الخوارج أيضاً، في مشروعية التقية. فقال نافع : التقية لا تحل، وخالفه
نجدة بن عويمر الحروري، وقال : التقية جائزة، واحتجّ بقوله تعالى : (إلا أن تتّقُوا مِنهُم تُقاةً)(4) وبقوله تعالى : (وقالَ رجُل مُؤمِن مِن آلِ فِرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ)(5)، وأثبت
لنافع أنّ التقية مشروعة من لدن عليم حكيم.
______________________________
(1) المبسوط / السرخسي 24 : 46.
(2) البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي 2 : 424.
(3) الملل والنحل / الشهرستاني 1 : 125.
(4) آل عمران : 3 / 28.
(5) غافر 40 / 28.
{ 136 }
36 - سعيد بن جبير (ت / 94ه) :
قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت / 224ه) : «حدثنا مروان بن
معاوية، عن حسان بن أبي يحيى الكِندي، قال : سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال :
ادفعها إلى ولاة الأمر، فلما قام سعيد تبعته، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى
ولاة الأمر وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا ؟ فقال : ضعها حيث أمرك اللّه،
سألتني على رؤوس الناس فلم أكُّن لأخبرك»(1).
وبعد فلا أظن أنّ أحداً يشك في صحة تقية راهب التابعين سعيد
بن جبير رضوان اللّه تعالى عليه.
37 - سعيد بن المسيب (ت / 94ه) :
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام أيضاً : «حدثنا يزيد، عن همام
بن يحيى، عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب، إلى من أدفع زكاة مالي ؟ فلم يجبني،
قال : وسألت الحسن ؟ فقال : ادفعها إلى السلطان»(2).
أقول : اذا كان رأي الحسن البصري (ت / 110ه) هو هذا فعلاً
فلا دلالة فيه على تقيته، ولكن على م يدل سكوت التابعي سعيد بن المسيب ؟
______________________________
(1) كتاب الاموال / أبو عبيد القاسم بن سلام :
567 / 1813، باب دفع الصدقة إلى الاُمراء واختلاف العلماء في ذلك. وقد دلّني على
تقية سعيد بن جبير هذه الاُستاذ الباكستاني علي حسين رستم في بحثه (التقية عند أهل
السنة نظرياً وتطبيقياً) ص : 120 المنشور في مجلة الثقافة الإسلامية كما ذكرنا في
مقدمة هذا البحث، وقد اعتمد الطبعة الثالثة من كتاب الأموال : 508 / 1811 بتحقيق
الهراس، إلا انّي اعتمدت الطبعة الأُولى بتحقيق الهراس أيضاً.
(2) كتاب الأموال : 565 / 1801.
{ 137 }
قال الدكتور محمد خليل هراس - في هامشه، معلقاً عليه - :
«يظهر أنّ سعيداً رحمه اللّه كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني اُمية، ولهذا
سكت».
ومن تقيته أيضاً، ما أخرجه الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن
عقدة الزيدي الجارودي الحافظ (ت / 333ه) في أول كتاب الولاية، عن شيخه إبراهيم بن
الوليد بن حماد، عن يحيى بن يعلى، عن حرب بن صبيح عن ابن أُخت حميد الطويل، عن ابن
جدعان، عن سعيد بن المسيب قال : «قلت لسعد ابن أبي وقاص : إني أُريد أن أسألك عن
شيءٍ وإني أتَّقِيك ؟ قال : سل عما بدا لك، فإنما أنا عمك، قال : قلت : مقام رسول
اللّه (ص) فيكم يوم غدير خم ؟ قال : نعم، قام فينا بالظهيرة، فأخذ بيد علي بن أبي
طالب فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه. وعاد من عاداه،
فقال أبو بكر وعمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة».
قال العلامة الأميني بعد أن اورده - وتقية زيد بن أرقم لهذا
الحديث كما مر - : «فإن الظاهر من هذه كلها انه كان بين الناس للحديث معنى لا يأمن
معه راويه من أن يصيبه سوء أولدَتهُ العداوة للوصي - صلوات اللّه عليه - في العراق
وفي الشام»(1).
38 - تقية الملايين من سيف الحجاج (ت / 95ه)
:
لا يخفى أنّ التقية هي الباعث الأوّل والأخير للمؤمنين -
الذين لا يجدون مفرّاً عنها - على إطاعتهم للمتسلّط الظالم والانقياد إلى أوامره،
وهذا ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ تصوّر أيّ مبررٍ آخر لتلك الطاعة وذلك
الانقياد، لا بدّ
______________________________
(1) الغدير / الأميني 1 : 380.
{ 138 }
وأن ترافقه التقية بشكل أو بآخر، وإلا لأصبحا (الطاعة
والانقياد) تكريساً لنظرية وجوب طاعة الحاكم الظالم، تلك النظرية التي أنشأها شيخ
الاُمويين لأسباب لا تخفى على كل باحث ذي عقل حرّ وتفكير سليم.
وما يهمّنا هنا هو كشف حقيقة التقية المليونية - إن صحّ
التعبير - في هذا المثال الذي لم يكن هو الوحيد الكاشف عنها إذا علمنا أن لغة
السيف هي أعرق في قاموس الاُمويّين من بروز الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأحداث
السياسية في تاريخهم الدموي. حيث ولاه عبد الملك بن مروان (ت / 86ه) - بعد أن
أخمد ثورة ابن الزبير وقتله سنة (74ه) - مكّة، والمدينة، والطائف ثمّ أضاف إليها
العراق بمصريه (الكوفة والبصرة)، لا لفقه الحجاج وورعه وتقواه وسابقته، وإنّما
لكونه سفاكاً سفاحاً من الطراز الأوّل الذي لا يرعى للّه إلاً ولا ذمة(1).
ولقد كان الحجّاج يصرّح بقسوته المتناهية على أهالي هذه
الأمصار الإسلامية، كما يظهر في الكثير من خطبه على منابر المسلمين وقد نقل بعضها
ابن قتيبة الدينوري (ت / 276ه) في عيون الأخبار، وسنذكر منها ما يقرّب صورة
التقية (المليونية) إلى الأبصار.
الخطبة الاُولى : قال ابن قتيبة : «دخل
الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى البصرة، وهو متقلّد سيفاً، ومتنكّب قوساً عربية، فعلا
المنبر ثمّ قال :
أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا***متى أضع
العمامة تعرفوني
______________________________
(1) انظر : مروج الذهب / المسعودي 3 : 375 -
الباب : 95 ففيه الشيء الكثير من فظائع الحجّاج.
{ 139 }
إنّ أمير المؤمنين نكب عيدانه بين يديه فوجدني أمرّها عوداً
وأصلبها مَكسِراً، فوجهني إليكم، ألا فواللّه لأعصبنكم عصب السلمة، ولألحونّكم لحو
العود، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتّى تستقيم لي قناتكم، وحتّى يقول القائل :
انج سعدُ، فقد قُتل سعيد...»(1).
الخطبة الثانية : «أيّها الناس إنّي
اُريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني هذا وأوصيته بخلاف ما أوصى به رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم في الأنصار، إنّ رسول اللّه أوصى أن يُقبل من مُحسنهم، وأن
يتجاوز عن مسيئهم، وإنّي أمرته ألا يَقبل من مُحسنكم، ولا يتجاوز عن مُسيئكم، ألا
وأنّكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعدِي : لا
أحسن اللّه له الصحابة ألا وإنّي معجل لكم الجواب. لا أحسنَ اللّهُ لكم الخلافة»(2).
الخطبة الثالثة : «سوطي سيفي، فنجاده في
عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن اغترّ بي»(3).
خطبة اُخرى : وله خطبة اُخرى ذكر فيها من ألوان التهديد
وأصناف الوعيد الشيء العجيب، مصرّحاً فيها بأنّه لا فرق عنده بين المعافى والسقيم،
وبين من يطيعه أو يعصيه، فالمحسن والمسيء كلاهما سيان(4)، وكأنّ اللّه تعالى لم
يقل في كتابه الكريم : (ولا تَزِرُ وازِرَة وِزرَ
اُخرَى)(5).
______________________________
(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 2 : 265.
(2) م. ن 2 : 267.
(3) م. ن 2 : 267.
(4) م. ن 2 : 267.
(5) الأنعام : 6 / 164.
{ 140 }
هذه هي كلماته على ملايين المسلمين، فماذا كان جوابهم ؟
إنّه السكوت المطبق، وكأنّ لسان حالهم يردّد :
للفتى عقل يعيش به***حيث يهدي ساقه قدمه
أو :
ما إن ندمت على سكوتي مرّةً***ولقد ندمت
على الكلام مراراً
امّا من تجرّأ على الكلام منهم كعبد اللّه بن الأهتم التميمي
فقد وصف الحجاج بن يوسف بأنّه مثل أنبياء اللّه تعالى !!
قال ابن قتيبة بعد أن أورد له خطبته التي ساوى فيها بين
المحسن والمسيء : «فقام إليه عبد اللّه بن الأهتم التميمي فقال : أيّها الأمير
أشهدُ أنّك اُوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال له : كذبت ذاك نبي اللّه داود»(1).
وممّا يستنتج من خطب الحجاج اُمور هي :
1 - انّه كان يشتم الناس من على منبره علناً، ويهددهم
ويوعدهم قبل
______________________________
(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 2 : 264.
هذا وقد مرّ بي منذ زمن بعيد كلامٌ - غاب عنّي
مصدره - خلاصته انّ عبد الملك بن مروان قد أوعز إلى الحجاج بقمع ثورة محمّد بن عبد
الرحمن بن الأ شعث - على ما أظن - وأن يستعرض أنصارها من العراقيّين بعد إخمادها
واحداً بعد واحد على أن يقرّوا على أنفسهم بأنّهم كفروا بعد الإيمان لأنّهم خرجوا
على عبد الملك ويعلنوا توبتهم بين يدي الحجاج، ومن أبى يقتله، وقد فعل الحجّاج ذلك
بهم، وأقرّوا على أنفسهم بالكفر بعد الإيمان وطلبوا قبول توبتهم من الحجاج، ولا
معنى لهذا غير التقية. ومن طريف ما أتذكّره انّ شيخاً كبيراً كان من جملة من اُتي
به ليقرّ بالكفر بعد الإيمان ويطلب التوبة، فقال الحجّاج - وقد أراد قتله - : لا
أظنّ أنّ هذه الشيبة قد ارتدّت بعد الإسلام. فقال الشيخ - على الفور - : يا حجّاح
لا تخدعني عن نفسي، انّي كنت مرتداً وها أنذا أتوب بين يديك، فضحك الحجاج وتركه.
{ 141 }
صدور الذنب منهم ولا أحد يجيبه منهم، امّا من يتجرّأ - من
المتزلّفين - على القول، فإنّه يصف الحجاج بصفات الأنبياء.
2 - انّ تلك الخطب لا شكّ كان يسمعها عدد من الصحابة وكثير
من التابعين، ولم ينكروا عليه شيئاً خصوصاً فيما ورد فيها مخالفاً لشرع اللّه
تعالى وسنّة نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
3 - انّ الحجاج كان يعلم باتقاء أهل مكّة والمدينة والطائف
والبصرة والكوفة وما بينهما منه، لا سيّما وقد صرّح هو بنفسه بهذه الحقيقة فقال :
«ألا وانّكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي».
39 مجاهد بن جبر المكي (ت / 103ه) :
وهو من كبار التابعين في التفسير باعتراف سائر العلماء من
الشيعة وأهل السنة - وقد امتدحه الشيخ الطوسي (ت / 460ه) في مقدمة التبيان فقال :
«من المفسرين من حمدت طرائقه، ومدحت مذاهبه، كابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد
وغيرهم»(1).
وقد نص القرطبي في الآية الأُولى في الفصل الأول على أن
مجاهداً كان يقرأ : (إلا أن تتّقُوا منهم تقية) في موضع (تقاة)،
وكيف بمن يقرؤها هكذا لا يرى جواز التقية بعدئذ ؟ وقد مر في بيان دلالة هذه الآية
على التقية تفسيره لها مما يشير إلى جواز التقية عنده فيما دون سفك الدم الحرام،
ونهب الأموال(2).
______________________________
(1) التبيان في تفسير القرآن /الطوسي 1 : 6 -
من المقدمة .
(2) راجع دلالة الآية الاُولى - في الفصل الأول
- على التقية، عند القرطبي المالكي، والطبري.
{ 142 }
40 - عامر الشعبي (ت / 103ه أو 104ه) :
كان عامر الشعبي من ندماء عبد الملك بن مروان (ت / 86ه) وقد
أرسله إلى ملك الروم، وكان من الطبيعي جداً أن يعمل بالتقية لا سيما في بلاط
الأمويين، وقد نقل الشيخ عباس علي براتي في بحثه : التقية في آراء علماء المسلمين
عن القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، أنّ الشعبي كان يعمل بالتقية وأنه كان ينال
ممن لم يراع التقية عند الإكراه عليها(1).
41 - الضحاك بن مزاحم (ت / 105ه) :
اخرج الطبري (ت / 310ه) عن الضحاك انه قال : «التقية
باللسان ومن حمل على أمر يتكلم به، وهو للّه معصية، فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه
مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان»(2).
وقد مر في الفصل الأول من قال بجواز التقية قولاً وفعلاً،
ولا فرق بينهما أخذاً بظاهر آية التقية، مع النصوص النبوية المثبتة لذلك ايضاً.
42 - عكرمة البربري مولى ابن عباس (ت / 105ه)
:
يظهر من تفسير عكرمة لآية التقية، أنه كان يرى جوازها فيما
دون قتل النفس، ونهب الأموال، فقد اخرج الطبري (ت / 310ه) في تفسير آية التقية
وهي من قوله تعالى : (إلا أن تتّقُوا مِنهُم تُقاةً) عن عكرمة انه قال :
«ما لم يهرق
______________________________
(1) التقية في آراء علماء المسلمين / الشيخ
عباس علي براتي ص 1 بحث منشور في مجلة رسالة الثقلين، العدد الثامن، السنة / 1414ه،
نقله عن الجامع لاحكام القرآن للقرطبي المالكي 1 : 190.
(2) جامع البيان / الطبري 6 : 317.
{ 143 }
دم مسلم، ولم يستحل ماله»، وبه قال مجاهد أيضاً(1).
43 - الحسن البصري (ت / 110ه) :
لقد مر في الفصل الأول ما يؤكد ان الحسن البصري كان يقول :
«التقية جائزة إلى يوم القيامة»(2)، والحسن البصري خبير بأحوال الصحابة، وهذا
الكلام : إما ان يكون قد سمعه منهم، أو يكون مما استفاده هو من القرآن الكريم.
على أن الاستاذ علي حسين رستم أكد في بحثه (التقية عند أهل
السنة نظرياً وتطبيقياً) تقية الحسن البصري في روايته عن علي عليه السلام.
اذ روى حديث علي عليه السلام، ولكنه لم يسنده إليه بل رفعه
إلى النبي (ص) تقية من ظلم الامويين، مشيراً بذلك إلى مراسيل أبي داود.
وبعد فلا حاجة لمتابعة موقف الحسن من التقية بعد قوله :
«التقية جائزة إلى يوم القيامة»، وللّه درُّ القائل : قطعت جهيزة قول كل خطيب.
44 - رجاء بن حيوة (ت / 112ه) :
كان رجاء من وعاظ الشام، وكان ملازماً لعمر بن عبد العزيز (ت
/ 101ه)، ومن تقيته ما حكاه القرطبي (ت / 671ه) قال : «وقال إدريس بن يحيى : كان
الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ويأتون
______________________________
(1) جامع البيان / الطبري 6 : 316.
(2) صحيح البخاري 9 : 25 - كتاب الإكراه، وجامع
البيان / الطبري 6 : 313، والمبسوط / السرخسي 24 : 45، والتفسير الكبير / الرازي 9
: 14، والجامع لاحكام القرآن / القرطبي 4 : 57.
{ 144 }
بالأخبار.. فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم
يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.
فقال : يا رجاء أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تُغَيِّر ؟
فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد : قل اللّه الذي لا إله إلا هو.
قال : اللّه الذي لا إله إلا هو.
فأمر الوليد بالجاسوس، فضرب سبعين سوطاً. فكان يلقى رجاء
فيقول : يا رجاء ! بك يستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!
فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك، خير لك من أن يُقتل رجل
مسلم»(1).
أقول : أين هذا من عيون المنصور العباسي (ت / 158ه)،
فقد ذكر ابن نباتة المصري (ت / 768ه) في سرح العيون : ان مالك بن أنس (ت / 179ه)
قد جمعه ذات يوم مجلس مع المنصور، فقال له المنصور : «أليست إذا بكت ابنتك من
الجوع، تأمر بحجر الرحا فيتحرك، كيلا يسمع الجيران بكاءها ؟
فقال مالك : واللّه ما علم أحد بهذا إلا اللّه !
فقال له : أأعلم بهذا، ولا أعلم أحوال رعيتي ؟»(2).
وإذا علمت أنّ أهل المدينة قد خلعوا المنصور وبايعوا غيره،
فلك ان تقدر
______________________________
(1) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي 10 : 124.
(2) سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون / جمال
الدين بن نباتة المصري : 261.
{ 145 }
كم يمين صدرت منهم، على نحو يمين رجاء.
45 - ميمون بن مهران (ت / 117ه) :
نقل الغزالي (ت / 505ه) عن ميمون بن مهران قوله : «الكذب في
بعض المواطن خير من الصدق»(1).
وفي كتاب الأشراف لابن أبي الدنيا (ت / 281ه) : «وحدثني
أبي، قال : أخبرنا إسماعيل بن عُليّة، قال : أخبرنا سوار بن عبد اللّه، قال : انّ
ميموناً كان جالساً وعنده رجل من قراء أهل الشام، فقال : إن الكذب في بعض المواطن
خير من الصدق، فقال الشامي : لا، الصدق في كل المواطن خير. فقال ميمون : أرأيت لو
رأيت رجلاً يسرع وآخرَ يتبعه بالسيف، فدخل الدار فانتهى إليك، فقال : أرأيت الرجل
؟
ما كنت قائلاً ؟
قال : كنت أقول : لا !!
قال : فذاك»(2).
46 - عطاء بن أبي رباح (ت / 118ه) :
ذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن يمين المكره غير ثابتة عليه،
بمعنى ان الحلف تقية جائز عند الإكراه، ولا كفارة في ذلك، وقد نسب له هذا القول
الإمام الشافعي (ت / 204ه) في أحكام القرآن(3).
______________________________
(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3 : 137.
(2) الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي
الدنيا : 118 / 216.
(3) احكام القرآن / الإمام الشافعي 2 : 114 -
115.
{ 146 }
47 - قتادة بن دعامة السدوسي (ت / 118ه) :
ذكر أبو حيان الأندلسي (ت / 754ه) في تفسيره : إن قتادة قال
: «إذا كان الكفار غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافوهم فلهم أن
يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر، وقلبهم مطمئن بالإيمان»(1).
وقد مر قول الرازي الشافعي : «إن الحالة بين المسلمين اذا
شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين، حلت التقية محاماة على النفس»(2).
48 - شبه أبو عقال :
لم أقف على سنة وفاته، إلا أنّه روى عن الصحابي أنس بن مالك
(ت / 93ه) كما نصّ عليه مترجموه، فهو إذاً من طبقة عطاء وقتادة وغيرهما من
التابعين.
ومن تقيته، ما حكاه ابن قتيبة الدينوري (ت / 276ه) عن ابنه
عقال بن شبه، من أنّه قال : «كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل، فحيّاه أبي
وألطفه. فلمّا مضى، قلت : أبعدَ ما قال لنا ما قال ؟
قال : يا بني ! أفأوسع جرحي ؟ »(3).
والظاهر، انّ المراد من جرير هو جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر
المشهور (ت / 110ه)، وأنّه هجا أبا عقال، فحاول الأخير مداراته لكيلا يعود إلى
الهجاء ثانية، فاتّقى لسانه بهذه المداراة.
______________________________
(1) البحر المحيط / أبو حيان الاندلسي 2 : 423.
(2) التفسير الكبير / الرازي 8 : 14.
(3) عيون الأخبار / ابن قتيبة 1 : 329.
{ 147 }
49- الزهري (ت / 124ه) :
محمّد بن مسلم بن عبد اللّه بن شهاب المعروف بابن شهاب
الزهري، كان من كبار الحفّاظ والفقهاء من التابعين، كان يتّقي من الاُمويّين
خصوصاً في فضائل الإمام علي عليه السلام، فيما صرّح هو بنفسه، فقد روى ابن الأثير
(ت / 630ه) في اُسد الغابة بإسناده، عن عبد اللّه بن العلاء، عن الزهري، عن سعيد
بن جناب، عن أبي عنفوانه المازني، عن جندع (أبو جنيدة بن عمرو بن مازن الأنصاري)
قال : سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من كذب عليَّ متعمّداً
فليتبوأ مقعده من النار). وسمعته - وإلا صمتاً - يقول وقد انصرف من حجّة
الوداع، فلمّا نزل غدير خمّ قام في الناس خطيباً، وأخذ بيد علي، وقال : (من كنت
مولاه فهذا وليّه، اللّهمَ والِ من والاه وعادِ من عاداه).
وقال عبد اللّه بن العلاء : فقلت للزهري : لا تحدّث هذا
بالشام وأنت تسمع ملء اُذنيك سبّ عليّ !!
فقال : واللّهِ إنّ عندي من فضائل عليّ ما لو تحدّثت
لَقُتِلت. أخرجه الثلاثة»(1)، انتهى بلفظه.
50 - السدي (ت / 127ه) :
أخرج الطبري عنه أنّه قال في آية التقية، أنّها تعني :
«إظهار الولاية للكافرين في دينهم، والبراءة من المؤمنين»(2)، وهذا هو أحد مصاديق
______________________________
(1) اُسد الغابة في معرفة الصحابة / ابن الأثير
1 : 308 - نقلاً عن : الغدير للعلامة الأميني 1 : 23.
(2) راجع كلام الطبري في الآية الاُولى، في
الفصل الأوّل.
{ 148 }
التقية عند الإكراه على كلمة الكفر، لا كل التقيّة كما مرّ
في الفصل الأوّل، والمهم هنا هو انّ السدي من القائلين بالتقية في أفظع الأشياء
وهو الكفر كغيره من التابعين. على أنّ هذا المعنى قد أطبقت على صحّته كلمة
المفسّرين، بشرط أن يكون القلب مطمئن بالإيمان.
51 - واصل بن عطاء (ت / 131ه) :
وهو رأس الاعتزال، وكان مفرط الذكاء، ومن تقيته ما ذكره ابن
الجوزي الحنبلي (ت / 597ه) في كتاب الأذكياء، من أنّه خرج يريد سفراً في رهط،
فاعترضهم جيش من الخوارج، فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل،
فلمّا قربوا بدأ الخوارج لِيُوقِعوا. فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن،
ولا لأيّ شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع
كلام اللّه.
قال : فكفّوا عنهم، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلمّا أمسك،
قال واصل : قد سمعت كلام اللّه، فأبلغنا مأمننا حتّى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين.
فقال : هذا واجب، سيروا، قال : فسرنا والخوارج - واللّه - معنا يحموننا فراسخ،
حتّى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا»(1).
52 - سالم بن أبي حفصة البُتري (ت / 140ه) :
قال الكشي (من علماء الشيعة الإمامية في القرن الرابع
الهجري) في ترجمته : «وحكي عن سالم : أنّه كان مختفياً من بني اُميّة بالكوفة،
فلمّا بويع لأبي العبّاس، خرج من الكوفة محرماً فلم يزل يلبّي : لبّيك قاصم بني
اُميّة
______________________________
(1) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : 136.
{ 149 }
لبّيك، حتّى أناخ (راحلته) بالبيت»(1).
وهذا يعني أنّه كان يتّقيهم في دولتهم، فلمّا زالت أفصح عمّا
في قلبه نحوهم، على أنّ سالماً ليس من الشيعة الإمامية، وإنّما من البُترية، وقيل
: التبرية - بتقديم التاء المثنّاة من فوق على الباء الموحّدة - والأوّل أشهر،
والبُترية - بضم الباء الموحّدة، وقيل كسرها - هم فرقة من فرق الزيدية.
وأمّا ما ذكرناه عن الصحابة كعمّار، وحذيفة وغيرهما ممّن عرف
بالتشيّع، ومن التابعين سعيد بن جبير وغيره، فلكونهم ممّن احتجّ أهل السُنّة
بأقوالهم، وقد نقلنا تلكم الأقوال من كتب غير الشيعة الإمامية، ممّا يصحّ معه
انطباق المعنون على عنوان : «واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير
الشيعة الإمامية».
53 - عمرو بن عبيد المعتزلي ( ت / 144ه) :
ذكر الخطيب البغدادي (ت / 463ه) في تاريخه : انّ المنصور
العبّاسي (ت / 158ه) قال لعمرو بن عبيد : «بلغني أنّ محمّد بن عبد اللّه بن الحسن
كتب إليك كتاباً ؟
قال عمرو : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال : فيم أجبته ؟
قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا،
أنّي لا أراه ؟
______________________________
(1) رجال الكشي : 236 ذيل الحديث : 428، وانظر
تهذيب التهذيب لابن حجر 3 : 374 / 800 فقد ذكر في ترجمته ما يدلّ على تقيته على
نحو ما مر في رجال الكشي.
{ 150 }
قال المنصور : أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي !!
قال عمرو : لئن كذبتك تقية لأحلفنّ لك تقية.
قال المنصور : واللّهِ، واللّهِ أنت الصادق البرّ»(1).
أقول : إنّ في هذه المحاورة دليلاً على إيمان المنصور
بالتقية أيضاً، فضلاً عن تصريح عمرو بن عبيد بها. إذ لو كانت التقية محرّمة، لأبدى
المنصور معارضته، ولقال - مثلاً - : كيف تحلف باللّه باطلاً ؟
54 - تقية جمع من التابعين سنة (145ه) :
روى الطبري (ت / 310ه)، وابن كثير (ت / 774ه) ما يدلّ على
تقية جمع كبير من التابعين وغيرهم، وذلك في إرضائهم المنصور بالنيل من رجلٍ حسني
بعد قتله وهو إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما
السلام، الذي قتله المنصور لخمس بقين من ذي القعدة سنة / 145ه.
قال الطبري، وتابعه ابن كثير : «إنّ المنصور العباسي لما
اُتي برأس إبراهيم بن عبد اللّه، وضعه بين يديه، وجلس مجلساً عامّاً، وأذِنَ
للناس، فكان الداخل يدخل فيسلم، ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه، ويذكر منه
القبيح التماساً لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر (أي : المنصور) ساكت ممسك متغيّر لونه،
حتّى دخل جعفر بن حنظلة البهراني، فوقف فسلّم، ثمّ قال : عظّم اللّه أجرك يا أمير
المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرّط فيه من حقّك، فاصفّر لون أبي جعفر، وأقبل
عليه، فقال : أبا خالد مرحباً وأهلاً ها هنا ! فعلم
______________________________
(1) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 12 : 269.
{ 151 }
الناس إنّ ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر بن
حنظلة»(1).
وليس من شكّ في أنّ كلام الناس في إبراهيم أوّل الأمر، لم
يكن معبّراً عن عقيدة الكلّ، أو البعض منهم على الأقل، لِمَا سيأتي في تقية مالك
بن أنس (ت / 179ه) من نقمة الناس على أبي جعفر المنصور ظلمه وطغيانه، حتّى مال
أكثر الفقهاء إلى محمّد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.
لذا كان التحوّل المفاجئ في موقفهم من تأييد إبراهيم إلى
الحطّ منه دليلاً على تقيتهم من المنصور، كما أنّ تغيّر موقفهم في مجلس المنصور من
النيل من إبراهيم إلى الدعاء له دليل آخر على تقيّتهم منه، لأنّ هذا التغيّر
السريع لم ينشأ من فراغ، وإنّما نشأ من علم الداخلين - فيما بعد - على المنصور،
انّ مواساة المنصور والدعاء لإبراهيم بالمغفرة هو المناسب لرضا المنصور، ولولا ما
قاله جعفر بن حنظلة، لاستمرّ النيل من إبراهيم. ولا يعقل بعد ذلك أن يكون جميع من
نالوا، أو دعوا من سوقة الناس ورعاعهم، إذ لا بدّ وان يكون من بينهم عدد من
التابعين والفقهاء والمحدّثين ممّن لا تصحّ - عند اخواننا أهل السُنّة - نسبة
النفاق إلى واحد منهم.
55 - تقية خارجة بن عبد اللّه المعاصر لمقاتل بن سليمان (ت / 150ه)
:
كان خارجة بن عبد اللّه - لم أقف على سنة وفاته - يستحلّ دم
مقاتل بن سليمان، وهو على الرغم من معاصرته لمقاتل لم يقدم على قتله تقيةً منه على
نفسه، وإشفاقاً عليها من القصاص، كما صرّح هو بذلك فقال : «لم استحلّ
______________________________
(1) تاريخ الطبري : 4 : 476 - في حوادث سنة
(145ه). والبداية والنهاية / ابن كثير 10 : 54 من المجلّد الخامس - في حوادث سنة
(145ه) أيضاً.
{ 152 }
دمّ يهودي ولا ذمّي، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع
لا يراني فيه أحد لقتلته»(1).
56 - تقية الإمام أبي حنيفة النعمان (ت / 150ه)
:
حرص الإمام أبو حنيفة على الابتعاد عن العبّاسيّين طيلة
حياته، لما عرفه من ظلمهم واضطهادهم العلماء وحملهم على ما يكرهون، ولهذا لا نجد
في سيرة الإمام تقرّباً إلى السلاطين والحكّام، ولقد كلّفه ذلك ثمناً باهضاً، إذ
استدعي مرّات ومرّات، وحبس وضرب على كبر سنّه ولم يتغيّر موقفه في عدم التقرّب إلى
الولاة والحكّام. ولكن قد أجبرته السلطة حينذاك أن يتّقيهم كرهاً لينجو بنفسه من
تعسّفهم واضطهادهم، ولم يكن الإمام أبو حنيفة مبتدعاً في تقيّته، فقد اتّقى قومه
من هو أفضل الأنبياء والمرسلين (ص)، ولفيف من الصحابة والتابعين قبله، وفيما يأتي
نورد جملة من المواقف التي حملته كرهاً على التقية، وهي :
الموقف الأوّل - مع ابن هبيرة :
كان يزيد بن عمر المعروف بابن هبيرة (ت / 132ه) من ولاة
آخِر الاُمويّين مروان بن محمّد (ت / 132ه) على البصرة والكوفة. وقد حاول ابن
هبيرة استقطاب العلماء لتقوية مركزه، ومنهم أبي حنيفة، وقد لبّى أصحاب أبي حنيفة
دعوة ابن هبيرة كما سيأتي في تقيّتهم، إلا أنّ أبا حنيفة رفض أن يكون جسراً لرغبات
ابن هبيرة، ولهذا حاول ابن هبيرة أن ينزل أكبر الأذى به، ويتنحل عذراً ليكون
مبرّراً لقتله، فدسّ إليه رجلاً وأبو حنيفة في طريقه إلى
______________________________
(1) تهذيب التهذيب 10 : 251 - في ترجمة مقاتل
بن سليمان.
{ 153 }
السجن، فقال له الرجل : يا أبا حنيفة أيحلّ للرجل إذا أمره
السلطان الأعظم أن يقتل رجلاً، أن يقتله ؟
فأجابه بلباقة : كان الرجل ممّن وجب عليه القتل ؟
قال : نعم.
قال : فاقتله.
قال : فإن لم يكن ممّا وجب عليه القتل ؟
قال : السلطان الأعظم لا يأمر بقتل من لا يستحقّ القتل(1).
الموقف الثاني - في مبايعة السفاح (ت / 136ه)
:
روى أبو يوسف (ت / 182ه)، عن داود الطائي قال : لمّا نزل
أبو العباس الكوفة، وجه العلماء فجمعهم فقال : «إنّ هذا الأمر قد أفضى إلى أهل بيت
نبيّكم، وجاءكم اللّه بالفضل، وإقامة الحقّ، وإنّه يا معشر العلماء أحقّ من أعان
عليه (أنتم)، ولكم الحباء، والكرامة والضيافة من مال اللّه ما أحببتم، فبايعوا
بيعة تكون لكم عند إمامكم حجّة عليكم، وأماناً في معادكم، لا تلقون اللّه بلا إمام
فتكونوا ممّن لا حجّة له، ولا تقولوا : أمير المؤمنين نهابه أن نقول الحقّ. فنظر
القوم إلى أبي حنيفة، فقال : إن أحببتم أن أتكلّم عنّي وعنكم، فامسكوا. قالوا : قد
أحببنا ذلك، فقال :
الحمد للّه الذي بلغ الحقّ من قرابة نبيّه (ص)، وأماط عنّا
جور الظلمة، وبسط ألسنتنا بالحقّ، وقد بايعناك على أمر اللّه والوفاء لك إلى قيام
الساعة،
______________________________
(1) أخبار أبي حنيفة / حسين بن علي الصيمري :
19.
{ 154 }
فلا أخلى اللّه هذا الأمر ممّن قربه من نبيّه.
فأجابه أبو العبّاس بجواب جميل، وقال : مثلك من خطب عن
العلماء، فأحسنوا اختيارك، وأحسنت في البلاغ.
فلمّا خرجوا، قالوا له : ما أردت بقولك : (إلى قيام الساعة)،
وقد انقضت الساعة ؟
قال : احتلت لنفسي وأسلمتكم للبلاء، فسكت القوم، وعلموا انّ
الحقّ ما صنع»(1).
الموقف الثالث - في مبايعة المنصور (ت / 158ه)
:
ذكر ابن عبد البر القرطبي المالكي (ت / 463ه)، انّ جماعة من
الفقهاء دخلوا على المنصور، وكان فيهم أبو حنيفة، وقد أقبل المنصور على أبي حنيفة
وتركهم فقال : «أنت صاحب حِيلٍ، فاللّه شاهد عليك أنّك بايعتني صادقاً من قلبك.
قال : اللّه يشهد عليّ حتّى تقوم الساعة. فقال : حسبك. فلمّا انصرف أبو حنيفة، قال
له أصحابه : حكّمت على نفسك بيعته حتّى تقوم الساعة. قال : إنّما عنيت حتّى تقوم
الساعة من مجلسك، إلى بول، أو غائط، أو حاجة، حتّى تقوم من مجلسك ذلك»(2).
الموقف الرابع - في بناء مدينة بغداد سنة (145ه) :
لقد كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبد اللّه بن
الحسن، ويفتي
______________________________
(1) أخبار أبي حنيفة 14 - 15، أبو حنيفة -
حياته، عصره - آراؤه الفقهيّة / محمّد أبو زهرة : 41، وتاريخ المذاهب الإسلامية
لأبي زهرة أيضاً 2 : 155.
(2) الانتقاء / ابن عبد البر : 159.
{ 155 }
الناس بالخروج معه على المنصور العباسي(1) ولما انتهت ثورة إبراهيم
بقتله سنة (145ه) تولّى الإمام أبو حنيفة - وبنفس السنة المذكورة - مهمّة الإشراف
على ضرب اللِّبن وعدِّ لبناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي(2).
ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك، ولكنّه اتّقى المنصور في هذا
العمل الذي اُنيط له من قِبل المنصور الذي علم بموقف أبي حنيفة من إبراهيم، فحاول
أن يجد مبرّراً لقتله، ولكن الإمام عرف ذلك منه فاتّقاه في هذه المشاركة.
الموقف الخامس - في قبوله قضاء الرصافة :
ذكرنا انّ أبا حنيفة كان يأبى تولّي أي منصب من مناصب
الدولتين الاُموية والعباسيّة، ولكن في رواية الخطيب البغدادي (ت / 463ه)، وابن
خلكان (ت / 681ه) انّ أبا حنيفة قد جلس في القضاء في آخر أيام حياته بعد الضغط
الشديد عليه، بحيث لم يجد من ذلك مفرّاً.
فقد ذكرا انّ المنصور لمّا أتمّ مدينة بغداد، أرسل إلى أبي
حنيفة وعرض عليه قضاء الرصافة، فأبى، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط !!
قال أبو حنيفة : أوَتفعل ؟
قال : نعم.
فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين، فلم يأته أحد... فلمّا مضى
يومان اشتكى أبو حنيفة ستّة أيّام ثمّ مات(3).
______________________________
(1) العِبر في خبر من غبر /الذهبي 1 : 155 - في
حوادث سنة (145ه).
(2) تاريخ الطبري 4 : 459 - في حوادث سنة (145ه).
(3) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 13 : 329،
ووفيات الأعيان / ابن خلّكان 5 : 47.
{ 156 }
الموقف السادس - في مسائله مع الإمام الصادق عليه السلام (ت / 148ه)
:
المشهور عن الإمام أبي حنيفة قوله : «لولا السّنتان لهلك
النعمان» وهما سنتان من التلمذة المباشرة على يد الإمام الصادق عليه السلام، ولقد
كانت بينهما لقاءات متكرّرة بالكوفة استفاد منها أبو حنيفة كثيراً، وعرف عن كثب
منزلة الإمام الصادق علماً وأدباً ونسكاً وورعاً، ولا غرو في ذلك، ومن أحقّ من أبي
حنيفة بهذا ؟
ولقد أوجس المنصور خيفة شديدة من التفاف الناس حول الإمام
الصادق عليه السلام، فحاول الحطّ منه، وتقليل شأنه في نظر العلماء أوّلاً، ومن ثمّ
ابعاد عامّة الناس عنه - بعد أن يتمّ له ذلك - ثانياً.
ومن محاولات المنصور تلك التي تكشف عن تقية أبي حنيفة، ما
قاله أبو حنيفة نفسه، قال : «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد، لما أقدمه المنصور
بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد فهيئ له من
المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر (أي : المنصور)
وهو بالحيرة، فأتيته، فدخلت عليه، وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به
دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه،
وأومأ إليّ فجلست، ثمّ التفت إليه، فقال : يا أبا عبد اللّه ! هذا أبو حنيفة، فقال
: نعم... ثمّ التفت إليَّ المنصور، فقال : يا أبا حنيفة ! ألقِ على أبي عبد اللّه
من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول : أنتم تقولون : كذا، وأهل المدينة
يقولون : كذا، ونحن نقول : كذا. فربّما تابعنا، وربّما خالفنا جميعاً. حتّى أتيت
على الأربعين مسألة - ثمّ قال مستدلاً على أنّ الإمام الصادق عليه السلام أعلم أهل
زمانه بلا منازع - : ألسنا قد
{ 157 }
روينا : إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(1).
أقول : يستطيع الباحث أن يدرك بسهولة - من خلال ما
قاله الإمام أبو حنيفة - مدى تأثير السلطة على العلماء، وحملهم على التقية كرهاً،
كما حصل لأبي حنيفة مع الإمام الصادق عليه السلام، في محاولة المنصور اليائسة في
إبعاد الناس عن الإمام بشتّى الوسائل، وأخبثها، ومن بينها إجبار العلماء الأعلام
على مناظرته، لعلّه ينقطع عن الجواب.
ولولا أمر المنصور لما سُئل الإمام الصادق أربعين سؤالاً، لا
لتحصيل الجواب منه، وإنّما لتحصيل الانقطاع عن الجواب ! ولا شكّ انّ أبا حنيفة كان
يعلم علم الإمام، ولكن ما حيلة المضطرّ إلا ركوبها!
الموقف السابع - مع ابن أبي ليلى (ت / 148ه)
:
ذكر الاُستاذ علي الشملاوي في بحثه : التقية في اطارها
الفقهي ما قاله جابر بن حمّاد ابن الإمام أبي حنيفة - كما في رواية الخطيب
البغدادي - قال جابر : «سمعت أبي حمّاداً يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة،
فسأله عن القرآن.
فقال : مخلوق.
فقال : تتوب، وإلا أقدمت عليك !
فقال : القرآن كلام اللّه.
فقال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله :
القرآن مخلوق.
______________________________
(1) الموفق في مناقب أبي حنيفة 1 : 173 - نقلاً
عن قصة التقريب بين المذاهب / محمّد تقي الحكيم : 10.
{ 158 }
فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟
قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ، فأعطيته التقية»(1).
57 - تقية أصحاب أبي حنيفة من ابن هبيرة (ت / 148ه)
:
عرض ابن هبيرة - والي الاُمويّين على الكوفة - أعمالاً من
أعمال ولايته على الفقهاء الذين أرسل إليهم لهذا الفرض، وكان منهم ابن أبي ليلى (ت
/ 148ه)، وابن شبرمة، وداود بن أبي هند، وأبي حنيفة.
وقد أعطى لكلّ واحد منهم عملاً من أعمال ولايته، وتنازل لأبي
حنيفة عن جزء من سلطانه، ليكون في يده خاتم الدولة يختم به كل أمر، وجعل من حقّه
انفاذ الأحكام التي يصدرها القضاء والخراج، وختم أوامر الوالي. فرفض أبو حنيفة
وقبل الآخرون أعمالهم، وأشاروا على أبي حنيفة بالقبول فرفض ذلك. حتّى انّ ابن أبي
ليلى قال : «دعوا صاحبكم، فإنّه هو المصيب»(2).
إلا أنّ أصحاب أبي حنيفة ألحّوا عليه بقبول ما أعطاه ابن
هبيرة، وقالوا : ننشدك اللّه أن تُهلك نفسك، فإنّا إخوانك، وكلّنا كاره لهذا
الأمر، ولم نجد بدّاً من ذلك، فرفض أيضاً (3).
وهذا القول الأخير لا يمكن أن يفهم منه معنى غير معنى
التقيّة.
58 - تقيّة ابن سمعان من المنصور (ت / 158ه)
:
ذكر ابن قتيبة انّ المنصور العبّاسي اجتمع في أوّل خلافته
بمالك بن أنس،
______________________________
(1) التقية في اطارها الفقهي / علي الشملاوي :
185 - نقله عن تاريخ بغداد 13 : 387.
(2) الأئمّة الأربعة / مصطفى الشكعة : 116.
(3) أبو حنيفة / محمّد أبو زهرة : 38، والأئمّة
الأربعة / الشكعة : 116.
{ 159 }
وابن أبي ذؤيب، وابن سمعان، وسألهم : أي الرجال أنا عندكم،
أمِن أئمّة العدل، أم مِن أئمّة الجور ؟
أمّا مالك فقد توسّل إليه باللّه، وتشفّع بالنبيّ (ص) أن
يستعفيه من الجواب، فاستعفاه.
وأمّا ابن أبي ذؤيب، فلم يخش في اللّه لومة لائم، إذ أوقف
المنصور على حقيقة حاله، وصارحه بواقع أمره، حتّى إنّ الإمام مالك بن أنس قد ظنّ
أنّه سيُسفك دم ابن أبي ذؤيب قبل أن يتمّ كلامه فجمع أطراف ثوبه لئلا يتلوّث
بالدم.
وأمّا ابن سمعان، فقد خاف على نفسه واتّقى من المنصور، فوصفه
بصفات الصدِّيقين الأبرار الأخيار، وأنّه من خير من ولدته حواء، وأنّه من أعدل
الأئمّة، وأنّه وأنّه(1).
59 - سفيان الثوري (ت / 161ه) :
عن أبي إسحاق الفزاري، قال : جاءني نعي أخي من العراق، وقد
خرج مع إبراهيم بن عبد اللّه الطالبي، فقدمت الكوفة، فأخبروني أنّه قُتِل، وأنّه
قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة، فأتيت سفيان وانبأته مصيبتي بأخي، وقلت :
واُخبرت أنّه استفتاك. قال : نعم، قد جاءني فاستفتاني، فقلت : ماذا أفتيته ؟ قال :
قلت : لا آمرك ولا أنهاك. قال : فأتيت أبا حنيفة. فقلت له : بلغني أنّ أخي أتاك
فاستفتاك. قال : قد أتاني واستفتاني، قال، قلت : فبماذا أفتيته ؟ قال : أفتيته
بالخروج، قال : فأقبلت عليه، فقلت : لا جزاك اللّه خيراً، قال : هذا رأيي»(2).
______________________________
(1) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة الدينوري2 :
173.
(2) تاريخ بغداد 13 : 385 - نقلاًّ عن الإمام
الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1 : 318.
{ 160 }
ويفهم من قول سفيان المتقدّم : لا آمرك ولا أنهاك، أنّه كان
يرى الخروج مع إبراهيم مشروعاً، ولو كان المنصور إماماً عادلاً، لوجب على سفيان أن
ينهى عن الخروج عليه، لا أن يقول : لا آمرك، ولا أنهاك، فهذا قول من فكرّ في عواقب
الاُمور، وأدرك أنّه ليس من مصلحته الإفصاح بما هو الحقّ، فترك لنفسه مجالاً في
الجواب تقيّة من انكشاف أمره لدى المنصور.
60 - المفضل الضبي (ت / 168ه) :
كان المفضّل الضبي العالماللغوي المشهور من أنصار إبراهيم بن
عبد اللّه بن الحسن، ولكن حين فشلت ثورة إبراهيم وقبض المنصور على المساندين لهذه
الثورة، وأنزل العقاب الصارم بهم، كان المفضّل الضبي من بين من قبض عليه، فعفا عنه
المنصور، وسرعان ما تبدّلت مواقف المفضل حتّى استخلصه المنصور لنفسه، وقرّبه إليه،
وصار نجماً في بلاط الخليفة، وعهد إليه أن يؤدّب ولده المهدي(1)، وكأنّه لم يكن
بالأمس ناقماً على المنصور ظلمه وطغيانه، وأنّى لهذا أن يكون لولا التقية
والمداراة التي كان يظهرها مؤدّب المهدي لمن خرج على أبيه بالأمس، حتّى لكأنّ
خروجه لم يكن شيئاً مذكوراً.
61 - تقية الإمام مالك بن أنس (ت / 179ه) :
الموقف الأوّل : مع الاُمويّين :
جاء في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام (ت / 148ه) في
ميزان الاعتدال للذهبي (ت / 748ه) ما نصّه : «وقال مصعب، عن الدراوردي، قال : لم
يرو مالك عن
______________________________
(1) أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام
/ عبد الحليم الجندي : 230.
{ 161 }
جعفر، حتّى ظهر أمر بني العبّاس»(1).
وقد صرّح أمين الخَوْلي (ت / 1385ه)، بأنّ امتناع مالك بن
أنس من الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في عهد الأمويّين، إنّما كان لخشيته
منهم(2).
أقول : وُلد الإمام مالك بن أنس سنة 93ه، وتوفّي سنة 179ه،
فكان عمره خمساً وثمانين سنة، أدرك فيها إمامة الباقر عليه السلام كلّها من سنة
95ه إلى سنة 114ه، كما أدرك فيها إمامة الصادق عليه السلام - البالغة أربعاً
وثلاثين سنة - كلّها، من سنة 114ه إلى سنة 148ه، كانت منها ثمان عشرة سنة في عهد
الاُمويّين الذين انقرضوا سنة 132ه.
وهذا يعني ملازمة الإمام مالك للتقيّة في عدم الرواية عن
الإمام الصادق مدّة ثمان عشرة سنة كاملة، على الرغم من كونهما يقطنان في المدينة
المنوّرة، ولم يفصل مالك بن أنس عن الصادق زمان ولا مكان، غير سطوة الاُمويّين
وبطشهم الذي خافه مالك بن أنس، لا سيّما وأنّ موقف الاُمويّين من أهل البيت عليهم
السلام معروف لكل أحد.
الموقف الثاني - مع العباسيّين :
انّ سيرة الإمام مالك تثبت انّه كان يستعمل التقية في ظلّ
الدولة العباسية، وعلى نطاق أوسع منه في العهد الأمويّ، فقد روى المؤرّخون موقفه
من خروج محمّد النفس الزكية سنة 145ه على المنصور، وخلاصة هذا الموقف انّه كان
مضطراً إلى أن لا يسهم في هذه الثورة التي أيّدها مشايخه كالتابعي
______________________________
(1) ميزان الاعتدال / الذهبي 1 : 414 / 1519.
(2) مالك بن أنس / أمين الخَوْلي : 94.
{ 162 }
المعروف بابن هرمز مساهمة إيجابية، لأنّه سبق وأن أرسله
المنصور - مع من أرسل - إلى بني الحسن ليدفعوا إليه محمّداً وإبراهيم ابني عبد
اللّه بن الحسن، حتّى إذا ما قامت الثورة لم يسع مالكاً الاشتراك بها لهذا السبب،
مع أنّه كان من الناقمين على المنصور جبروته وطغيانه. وقد عرف الثوار منه ذلك،
فكانوا يستفتونه في الخروج مع محمّد النفس الزكية، ويقولون له : إنّ في أعناقهم
بيعة للمنصور، فكان يردّ عليهم بقوله : إنّما بايعتم مُكرَهين، وليس على مُكرَه
يمين. وقد تحمّل نتيجة هذه الفتيا سياط والي المدينة جعفر بن سليمان، وجبذت يداه
حتّى انخلعت من كتفه(1).
ثمّ لم تلبث أن وطّدت العلاقة بينه وبين العباسيّين كثيراً
حتّى قال له المنصور ذات يوم : «أنت واللّه أعقل الناس، واللّه لئن بقيت لأكتبنّ
قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، ولأحملنّهم عليه»(2).
ولا شكّ انّ للتقية دورها الواضح في توطيد هذه العلاقة،
ولولاها لما كان الرجل الناقم على المنصور جبروته وطغيانه، والذي يفتي الناس
بالخروج عليه ويحثّهم على خلع بيعته، بقوله : إنّما بايعتم مكرهين، وليس على
مُكرَهٍ يمين، يكون هو نفسه - كما جاء في مقدّمة تحقيق الموطأ - الرجل الذي :
«يأمر بحبس من يشاء، أو يضرب من يريد»(3) في دولة المنصور نفسه
______________________________
(1) مروج الذهب / المسعودي 3 : 340، وحلية
الأولياء / أبو نعيم 6 : 316، وسير أعلام النبلاء / الذهبي 8 : 80 / 10، ووفيات
الأعيان / ابن خلّكان 4 : 137 / 550، ومقدّمة تحقيق كتاب الموطأ.
(2) سير أعلام النبلاء 8 : 61 و69.
(3) راجع مقدّمة تحقيق كتاب الموطأ، فقد ورد
فيها هذا اللفظ بعينه.
{ 163 }
الموقف الثالث - في تأليف الموطّأ :
انّ تقيّة الإمام واضحة كالشمس في تأليفه كتاب الموطّأ، إذ
تجنّب فيه الرواية عن أهل البيت عليهم السلام إلا لماماً، ويكفي انّه لم يرو شيئاً
في الموطأ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، بل ولم يذكره في حلقته، ولمّا سُئل
عن ذلك ؟ أجاب بأنّه - يعني عليّاً عليه السلام - لم يكن في المدينة(1).
ولموقف الإمام مالك من عليّ عليه السلام تفسيران لا ثالث
لهما، وهما :
الأوّل : ما ذكره القاضي عياض (ت / 544ه) في ترتيب
المدارك 1 : 330 وأبو زهرة في مالك بن أنس ص : 28، وأمين الخولي في مالك بن أنس ص
: 418، ولا أحب الخوض في تفصيلاته، ومن رام الوقوف عليه فليرجع إلى مصادره
ومراجعه، على أنّ خلاصته هو اجتهاد مالك في هذا الشأن
الثاني : هو التقية من المنصور في ذلك، إذ لا خلاف بين
الباحثين على أنّ المنصور العبّاسي كان يراسل محمّد النفس الزكية بما ينال من
منزلة الإمام عليّ عليه السلام كما نصّ عليه الطبري في تاريخه(2)، وليس من السهل
على الإمام مالك أن يعارض المنصور في ذلك، وهذا هو التوجيه المقبول عند كلّ من
يحسن الظنّ بالإمام مالك.
الموقف الرابع - تصريحه بالتقيّة :
وخير ما يمثّله رأيه في طلاق المكره حيث كان لا يجيزه،
ويعدّه باطلاً،
______________________________
(1) موقف الخلفاء العباسيّين من أئمّة أهل
السُنّة الأربعة / الدكتور عبد الحسين علي أحمد القطري : ص 171 - نقله عن تاريخ
الخلفاء للسيوطي : 263.
(2) تاريخ الطبري 7 : 570 - في حوادث سنة (145ه).
{ 164 }
لأنّه وقع تقيّة تحت طائلة الإكراه، وقد سبق الكلام في الفصل
الأوّل بأنّه احتجّ لذلك بقول ابن مسعود (ت / 32ه) : «ما من كلام يدرأ عنّي سوطين
من سلطان إلا كنت متكّلماً به»(1).
وكان يقول : «ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث، أحبّ إليّ من أن
أدُلّ على مسلم»(2).
الموقف الخامس :
مرّ هذا الموقف في تقيّة ابن سمعان من المنصور برقم / 57،
فراجعه، ستجد أنّ الإمام مالكاً قد نظر لنفسه فرأى إن نطق كاذباً فقد أغضب اللّه
تعالى، وإن نطق صادقاً فقد أغضب المنصور، ورأى أنّ من الحكمة أن يحذر غضب اللّه
تعالى، ويتّقي نقمة المنصور في ذلك الموقف الصعب، ولهذا طلب أن يستعفيه من الجواب
فاستعفاه.
62 - سعيد بن أشرس، صاحب مالك بن أنس (ت / 179ه)
:
ذكر القرطبي المالكي (ت / 671ه) أنّ سعيداً كان قد آوى
رجلاً بتونس، وكان الرجل ممّن طلبه سلطان تونس ليقتله، ويظهر من كلام القرطبي أنّ
للسلطان التونسي عيوناً أخبرته بمكان من يطلب، وانّه أحضر سعيداً، فأنكر،
فاستحلفه، فحلف له على أنّه ما آواه، ولا يعلم له مكاناً(3).
ونكتفي بهذا القدر ممّن اتّقى من التابعين، وننتقل إلى موقف
جديد آخر مع روم الاختصار.
______________________________
(1) المدونة الكبرى / مالك بن أنس 3 : 29.
(2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي 10
: 124.