النفاق الشرعي
التقية في الفقه الشافعي
تصحّ التقيّة عند الإمام الشافعي (ت / 204ه) في الاُمور
التي يباح للمكرَه التكلّم بها، أو فعلها مع كونها محرّمة شرعاً.
من ذلك التلفّظ بكلمة الكفر، مع اطمئنان القلب بالإيمان، ذلك
لأنّ قول المكره - عند الشافعي - كما لم يقل في الحكم، وقد أطلق القول فيه، حتى
اختار عدم ثبوت يمين المكرَه عليه، واحتج له بما ورد في الكتاب العزيز، والسُنّة
المطهّرة، ونسب القول بهذا إلى عطاء بن أبي رباح (ت / 114ه) أحد أعلام
التابعين(1).
وقال الكيا الهراسي الشافعي (ت / 504ه) عمّن يكفر
باللّه تعالى مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان : «إنّ حكم الردّة لا يلزمه... إنّ
المشرّع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر... واستدلّ به أصحاب الشافعي على نفي
وقوع طلاق المُكرَه، وعتاقه، وكل قول حُمل عليه بباطل، نظراً لما فيه من حفظ حقّه
عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردّته حفظاً على دينه»(2).
______________________________
(1)أحكام القرآن / الإمام الشافعي 2 : 114 -
115.
(2) أحكام القرآن / الكيا الهراسي 3 : 246.
{ 209 }
وتصحّ التقيّة عند الرازي الشافعي (ت / 606ه) في شرب
الخمرة، وأكل الميتة وأكل لحم الخنزير، وتجب التقية إذا كان الإكراه عليها بالسيف،
لأنّ الحفاظ على الحياة واجب، للنهي الوارد في القرآن الكريم عن القاء النفس إلى
التهلكة.
والمباح عند الفخر الرازي هو النطق بكلمة الكفر، ولا يجب
عليه النطق، وإنّما يباح، والحرام هو القتل، وإن قتل المكرَه ففي أحد قولي الشافعي
يجب القصاص(1) أمّا القول الآخر فلا يجب. والظاهر، بل المتيقّن من كلام فقهاء
الشافعية ومفسّريهم انّ القول الأوّل أصحّ، وهو القول الذي عليه الفُتيا عندهم.
على أنّ الرازي لم يقيّد ما ذكره من التقية بحالة بكون
الإكراه من كافر لمسلم، بل جوّزه فيما لو حصل من مسلم لآخر ناسباً ذلك القول إلى
الإمام الشافعي(2).
كما قال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852ه) برخصة
التقية عند الإكراه على تلفّظ كلمة الكفر(3)، وقد مرّ في الفصل الأوّل ترخيص ذلك
للمكرَه من قِبل الكثيرين من مفسّري الشافعية ولا حاجة إلى إعادة أقوالهم.
وعند النووي الشافعي (ت / 676ه) لو حلف إنسان باللّه
تعالى كاذباً، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً عليه، ذلك لأنّ «يمين المكره غير
لازمة عند مالك، والشافعي، وأبي ثور، وأكثر العلماء... وأمّا المكرَه، فلا تصحّ
يمينه لِمَا
______________________________
(1) التفسير الكبير / الرازي 20 : 121.
(2) م. ن 8 : 14.
(3) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12 : 263.
{ 210 }
روى واثلة بن الأسقع، وأبو اُمامة (رضي اللّه عنهما) - أنّ
رسول اللّه (ص) قال : ليس على مقهور يمين»(1).
ونفى النووي القطع بحقّ السارق عند الإكراه على السرقة، كما
حكم بعدم ردّة المكره على الكفر(2).
وقد علّق الشربيني الشافعي (ت / 977ه) على قول
النووي بعد أن استدل بالآية الكريمة من قوله تعالى : (إِلا
من أُكره وقلبُهُ مطمئِن بالإيمانِ) فقال : «لا يكون مرتدّاً، لأنّ الإيمان
كان موجوداً قبل الإكراه، وقول المكره ملغى ما لم يحصل فيه اختيار لِمَا اُكرِه
عليه، كما لو اُكرِه على الطلاق، فإنّ العصمة كانت موجودة قبل الإكراه، فإذا لم
يحصل منه اختيار لما اُكرِهَ عليه، لم يقع عليه طلاق»(3).
أمّا لو اُكرِه رجل على قتل المسلم بغير حقّ فقتله، قال
النووي الشافعي في المجموع - بعد أن أوجب القود على المكرِه - : «وأمّا المكرَه -
بالفتح - ففيه قولان :
أحدهما : لا يجب عليه القود، لأنّه قتله للدفع عن نفسه، فلم
يجب عليه القود، كما لو قصده رجل ليقتله للدفع عن نفسه»(4) !
وهذا القول، وكل قول أسقط القصاص عن القاتل كرهاً هو في غاية
الصراحة بجواز التقية في الدماء، التي سبق إليها أبو يوسف فأسقط
______________________________
(1) المجموع شرح المهذّب / النووي 18 : 3.
(2) منهاج الطالبين / النووي 4 : 137 و174.
(3) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني 4
: 137 - مطبوع بحاشية منهاج الطالبين.
(4) المجموع شرح المهذّب / النووي 18 : 391.
{ 211 }
القصاص من الجميع القاتل والآمر بالقتل !
ومن التقية في الفقه الشافعي، سقوط الحدّ عمّن تزني كرهاً،
كما صرّح به الإمام الشافعي.
قال : «إذا استكرَه الرجل المرأة أُقيم عليه الحدّ، ولم يقم
عليها، لأنّها مستكرهة»(1).
ولو كانت التقية محرّمة في حالة الإكراه على الزنا مطلقاً،
لأوجب الحدّ على من تزني كرهاً، كما أوجبه على من يكرهها عليه.
ومن موارد التقية أيضاً، ما صرّح به السيوطي الشافعي
(ت / 911ه) من جواز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه، ونقل عن بعضهم بأنّ الأفضل هو
التلفّظ صيانة للنفس. ثمّ ذكر موارداً اُخرى جوّز فيها التقية عند الإكراه.
منها : السرقة، وشرب الخمرة، وشرب البول، وأكل الميتة، وأكل
لحم الخنزير، وإتلاف مال الغير، وأكل طعام الغير، وشهادة الزور - إن كانت في إتلاف
الأموال - والإفطار في شهر رمضان، وترك الصلاة المفروضة، والزنا على قول.
وباختصار : إنّ كلّ ما يسقط بالتوبة الخالصة للّه تعالى يسقط
بالإكراه، على حد تعبيره(2).
ثمّ بيّن بعد تلك الاُمور التي جوّز فيها التقية عدم اشتراط
كون الإكراه عليها بالقتل أو الوعيد المتلف للأعضاء وما شابه ذلك من الإكراهات
______________________________
(1) الاُم / الإمام الشافعي 6 : 155.
(2) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه
الشافعي / السيوطي : 207 - 208.
{ 212 }
الشديدة، فقال عمّا يحصل به الإكراه ما نصّه :
«إنّه يحصل بكلّ ما يؤثّر العاقل الإقدام عليه حذراً ممّا
هدّد به، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، والأفعال المطلوبة، والاُمور المخوّف بها،
فقد يكون الشيء إكراهاً في شيء دون غيره، وفي حقّ شخص دون آخر»(1)، وللّه دره على
هذا الكلام !
______________________________
(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه
الشافعي / السيوطي : 209.