التقية في الفقه الحنبلي

النفاق الشرعي

 

التقية في الفقه الحنبلي

 

صرّح ابن قدامة الحنبلي (ت / 620ه‍) بإباحة التقية في حالات الإكراه، وقال في تبرير إباحة فعل المكرَه : «وإنّما اُبيح له فعل المكرَه عليه، دفعاً لما يتوعّده (المكرِه) به من العقوبة فيما بعد» المغني / ابن قدامة 8 : 262.

ومن التقيّة في الفقه الحنبلي، الإكراه على كلمة الكفر. وقد صرّح بذلك مفسّرو الحنابلة كابن الجوزي (ت / 597ه‍) في زاد المسير، فقد نصّ على جواز الكفر تقية عند الإكراه على الكفر.

أمّا الاكراه المبيح لذلك عند أحمد بن حنبل (ت / 241ه‍) في أصحّ قوليه، أنّه يخاف على نفسه، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل. زاد المسير / ابن الجوزي 4 : 696.

 

وعند ابن قدامة : إن من اُكرِه على كلمة الكفر فأتى بها تقيّة لا يحكم بردّته، قال : «وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي» ثمّ استدلّ بالكتاب العزيز، والسُنّة المطهّرة على صحّة ما ذهب إليه.

بل وحتّى لو كان الأمر ظاهراً في إكراه المسلم على النطق بالكفر من غير تهديد، ووعيد، وضرب لا يحكم بردّته، إن قامت البيّنة على أنّه كان محبوساً عند الكفّار، أو مقيّداً عندهم، وهو في حالة خوف(1).

ومن مسائل الإكراه التي تصحّ معه التقية في الفقه الحنبلي ما ذكره ابن قدامة، منها : الزنا، فمن استكرَه امرأة على الزنا، فعليه الحدّ دونها، لأنّها معذورة، وعليه مهرها، حرّة كانت أو أمَة، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر، لأنّه وطء يتعلّق به وجوب الحدّ، فلم يجب به المهر، كما لو طاوعته.

قال : «والصحيح الأوّل، لأنّها مكرهة على الوطء الحرام فوجب لها المهر»(2).

وقال في مسألة اُخرى : «ولا حدّ على مكرهة في قول عامّة أهل العلم، روي ذلك عن عمر، والزهري، وقتادة، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً، وذلك لقول رسول اللّه (ص) : «عفى لاُمّتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه».

ثمّ روى آثاراً عن الصحابة تدلّ على صحّة ذلك(3).

وقال في مسألة اُخرى : «وإن اُكرِه الرجل فزنى، فقال أصحابنا عليه الحدّ... وقال أبو حنيفة : إن اكرهه السلطان، فلا حدّ عليه، وإن أكرهه غيره حُدّ استحساناً. وقال الشافعي، وابن المنذر : لا حدّ عليه لعموم الخبر(4).

______________________________

(1) المغني / ابن قدامة 10 - 97 - مسألة : 7116.

(2) م. ن 5 : 412 - مسألة 3971.

(3) م. ن 10 : 154 - مسألة : 7166.

(4) م. ن 10 : 155 - مسألة : 7167.

{ 215 }

ومنها : لو اُكرهت المرأة على الجماع، فلا كفّارة عليها في الفقه الحنبلي، رواية واحدة، وعليها القضاء(1).

ومنها : الإكراه على الطلاق، فلو اُكرِه الرجل على طلاق زوجته، لم يلزمه، ولا تختلف الرواية عن الإمام أحمد بن حنبل في عدم صحّة طلاق المكرَه، وهذا هو المروي - كما صرّح به ابن قدامة - عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن سمرة قال : «وبه قال عبد اللّه بن عبيد بن عمير، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، وشريح، وعطاء، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، وابن عون، وأيّوب السختياني، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد.

وأجازه أبو قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وأبو حنيفة، وصاحباه، لأنّه طلاق من مكلّف في محلّ يملكه، فينفذ كطلاق غير المكره».

ثمّ احتجّ للأوّل بحديث : «وضع عن اُمّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»(2).

ومن هنا يتبيّن انّ التقية في الزنا تسقط الحدّ عن المرأة، ولا مخالف فيه، وللمرأة أن تتقي لو اُكرهت على الجماع، ولا كفّارة عليها، كما أنّ التقية تصحّ عند الإكراه على الطلاق في الفقه الحنبلي وإن كان لا يلزم المكره طلاقاً، أمّا الذي ألزمه الطلاق، فلم يمنع من التقية فيه أيضاً.

ويدخل في التقيّة لدى الحنابلة الأكل من الميتة، وسائر المحرّمات الاُخرى

______________________________

(1) المغني 3 : 62 - مسألة : 2055.

(2) م. ن 8 : 260 - مسألة : 5846.

{ 216 }

التي لا تزيل العقل، ويباح ذلك لمن اضطرّ إليها.

قال الفقيه الحنبلي بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي (ت / 624ه‍) : «أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر، وكذلك سائر المحرّمات، التي لا تزيل العقل»(1).

ولا يخفى أنّ الداعي لإباحة أكل الميتة وإتيان سائر المحرّمات الاُخرى التي لا تزيل العقل هو الاضطرار إليها، والاضطرار الذي يحصل من جرّاء مخمصة، يحصل أيضاً من الإكراه الشديد عليها.

______________________________

(1) العُدَّة في شرح العمدة / المقدسي الحنبلي : 464.

عودة