العَدد
كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بسبورتنج
القمص تادرس يعقوب ملطي
-
- مقدمة
الأصحاح الثامن عشر (مسئوليّة الكهنة وحقوقهم)
- الباب الأول الأصحاحات [1- 10: 10]
الأصحاح التاسع عشر (فريضة البقرة الحمراء)
الأصحاح الأول (إحصاء الشعب)
الأصحاح العشرون (ماء مريبة)
الأصحاح الثاني (ترتيب المَحَلَّة)
الأصحاح الحادي والعشرون (طريق النصرة)
الأصحاح الثالث (اللاويّون فدية عن الشعب)
- الباب الثالث الأصحاحات [22- 25]
الأصحاح الرابع (تنظيم خدمة اللاويّين)
الأصحاح الثاني والعشرون (قصة بلعام)
الأصحاح الخامس (تقديس المَحَلَّة)
الأصحاح الثالث والعشرين (نبوات بلعام)
الأصحاح السادس (نذير الرب)
الأصحاح الرابع والعشرون (تابع نبوات بلعام)
الأصحاح السابع (قرابين الشعب)
الأصحاح الخامس والعشرون (السقوط مع الموآبيات)
الأصحاح الثامن (سيامة اللاويّين)
- الباب الرابع الأصحاحات [26- 36]
الأصحاح التاسع (القيادة الإلهيّة)
الأصحاح السادس والعشرون (التعداد الثاني)
الأصحاح العاشر الآيات [1-10]
الأصحاح السابع والعشرون (قانون الميراث وإقامة يشوع)
- الباب الثاني الأصحاحات [10: 11- 21]
الأصحاح الثامن والعشرون (أعياد وتقدمات دائمة)
الأصحاح العاشر الآيات [11-36]
الأصحاح التاسع والعشرون (أعياد وتقدمات دائمة)
الأصحاح الحادي عشر (تذمر الشعب)
الأصحاح الثلاثون (النذور)
الأصحاح الثاني عشر (زواج موسى بالكوشيَّة)
الأصحاح الحادي والثلاثون (حرب ختاميّة)
الأصحاح الثالث عشر (التجسس على كنعان)
الأصحاح الثاني والثلاثون (أرض جلعاد)
الأصحاح الرابع عشر (شهوة الرجوع إلى العبوديّة)
الأصحاح الثالث والثلاثون (ملخص الرحلة)
الأصحاح الخامس عشر (وصايا للتقديس)
الأصحاح الرابع والثلاثون (حدود أرض الميعاد)
الأصحاح السادس عشر (اغتصاب الكهنوت)
الأصحاح الخامس والثلاثون (مدن اللاويّين ومدن الملجأ)
الأصحاح السابع عشر (عصا هرون)
الأصحاح السادس والثلاثون (شريعة ميراث النساء)
مقدمة
تسمية السفر
جاءت تسمية هذا السفر "العدد" عن الترجمة السبعينيّة، وهي تناسب الأصحاحين الأول والسادس والعشرين حيث ورد في كل منهما إحصاء للشعب. الإحصاء الأول تم في سيناء في السنة الثانية من خروجهم (عد 1)، والثاني بعد حوالي 39 عامًا في سهول موآب (عد 26). لكن هذه التسمية جعلت الكثيرين يهملون دراسة هذا السفر ظنًا منهم أنه مجرد سفر إحصاء للشعب. أما النسخة العبريّة فجاء فيها اسم هذا السفر بمدبار Bemidbar أي "في البريّة"، وهما الكلمتان الرابعة والخامسة في الأصحاحين الأول، تعبران في أكثر دقة عما حواه السفر، بكونه سفر رحلات الشعب في البريّة.
محتويات السفر:
جاء هذا السفر تتمة للأسفار الثلاثة السابقة، يروي لنا قصة تيه بني إسرائيل في بريّة سيناء ووصولهم إلى موآب وإشرافهم على أرض الموعد.
لقد بقي الشعب حوالي عام في سيناء، تسلم فيها الشريعة الموسويّة التي تنظم لهم حياتهم الروحيّة من عبادة وسلوك كما تنظم حياتهم الاجتماعيّة اليوميّة. تحركوا بعد ذلك نحو الشمال تجاه كنعان وعندما بلغوا قادش رفض ملك أدوم أن يسمح لهم بالعبور (عد 20)، وإذ سمع بهم ملك عراد حاربهم وغلبهم لكنهم عادوا وانتصروا، ثم بقوا عدة سنوات تائهين في البريّة بسبب تذمرهم المستمر.
سمع ملك موآب بأخبارهم فدعى بلعام الساحر ليلعنهم، لكن الله حوَّل كلمات الساحر إلى بركة ووعد لهم بالغلبة. أشار عليه الساحر أن يعثرهم بالمديانيات فانحرف إسرائيل عن الله وانهزموا، لكنهم عادوا وغلبوا، فخصصوا الأرض شرق الأردن لرأوبين وجاد ونصف مَنَسَّى، كما جاءت التعليمات الخاصة بتقسيم الأرض.
مميزات السفر:
1. إن كان السفر قد سجّل بعض أحداث رحلة الشعب قديمًا في البريّة، لكننا لا نستطيع القول بأن غاية السفر هو استعراض مراحل الرحلة أو كل أحداثها، إنما هو عرض لعمل الله مع الإنسان لتهيئته لدخول أرض الموعد. إن كان سفر الخروج يصف انطلاق الإنسان وتحرره من أسر العبوديّة خلال الدم الكريم (خروف الفصح) متجهًا بذراع قويّة نحو أورشليم العُليا بعد عبوره مياه المعموديّة المقدَّسة (البحر الأحمر) فإن هذا السفر يصف مرحلة خطيرة في حياة الإنسان ألا وهي مرحلة الجهاد غير المنقطع بقوة النعمة الإلهيّة الساكنة فيه بغِيّة الانطلاق به نحو السمويات.
2. جاء السفر يحمل مزيجًا بين الشرائع الإلهيّة وأحداث المرحلة، وكأن الله قد أراد أن يؤكد لنا أن "الوصيّة الإلهيّة" هي المعين للنفس في رحلتها نحو أورشليم العُليا، يلزم أن تمتزج حياتها بالوصيّة، ويرتبط عملها بكلمة الله الحيّ الذي يسندها في غربتها ويحفظها مقدسة له.
3. يبرز هذا السفر عناية الله بشعبه في بريّة هذا العالم، يظلّلهم كسحابة وينير لهم ليلاً، يهتم بأكلهم وشربهم وراحتهم، ولا يتركهم معتازين شيئًا من أعمال كرامته.
4. بقدر ما أعلن هذا السفر حب الله للإنسان واهتمامه بكل احتياجاته الروحيّة والنفسيّة والجسديّة بقدر ما كشف عن نفس الإنسان الدائمة التذمر بلا سبب. لقد صوّر لنا عناد الإنسان الدائم ومقاومته لله. ومقابلة حبه بالجفاف والتذمر، حتى اضطر الله إلى تأديبهم بحرمانهم من أرض الموعد وتحقيق الوعد في أبنائهم.
ولقد لخّص المرتل هذا السفر بقوله على لسان الرب: "أربعين سنة مَقَتُّ ذلك الجيل وقلت هم شعب ضالٌ قلبهم وهم لم يعرفوا سبلي، فاقسمت في غضبي لا يدخلون راحتي" (مز 95 10-11)، لهذا ينصحنا الرسول بولس قائلاً: "فلنَخَفْ أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يُرى أحد منكم أنه قد خاب منه" (عب 4: 1).
5. أبرز بشاعة الخطيئة فهي تُدان دائمًا، ويسقط مرتكبها تحت التأديب سواء كان نبيًا مثل موسى الذي حُرم من دخول أرض الموعد أو رئيس كهنة كهرون الذي سقط تحت نفس التأديب (20)، أو نبية كمريم التي صارت برصاء إلى حين (12)، أو المعتدين من اللاويين كقورح وداثان وأبيرام (16)، أو من الشعب الذين لدغتهم الحيات المحرقة (21)... لكنه يعطي الشفاء خلال الإيمان (الحيَّة النحاسيّة) الممتزج بالجهاد. ويبقى الله أمينًا لوعده وثابتًا بغض النظر عن أخطاء الناس أو الأشخاص أيًا كان مركزهم الروحي!
6. في بداية السفر ركز على تأسيس النظام الكهنوتي الأصيل وبتر المعتدين مع توضيح عمل كل فئة: رئيس الكهنة، الكهنة اللاويون (بنو قهات، بنو جرشون، بنو مراري). وكأنه أراد أن يؤكد حاجتنا إلى عمل السيد المسيح الكهنوتي، والعامل في كهنته، إن تقدَّسوا للرب والتزموا بواجباتهم.
7. أبرز هذا السفر قوة الشفاعة، إذ صلاة البار تقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16)، فنرى موسى النبي كخادم لشعبه يقف دائمًا شفيعًا فيهم، وهرون يصلي عنهم. هذا هو عمل الكاهن... إنه يردد مع صموئيل النبي قائلاً: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطيء إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم" (1 صم 12: 23).
أقسام السفر:
1. الاستعداد للسفر في البريّة ص 1- ص 10: 10.
2. من سيناء إلى موآب ص 10: 11- ص 21.
3. حادثة بلعام ص 22- ص 25.
4. الاستعداد لدخول كنعان ص 26- ص 36.
الباب الأول
الاستعداد للسفر في البريّة
ص 1- ص 10: 10
الأصحاح الأولإحصاء الشعب
إذ أخرج الله الشعب من أرض العبوديّة أقام نفسه ملكًا عليهم (1 صم 12: 12)، لا ليسيطر عليهم وإنما لكي يرعاهم ويهتم بكل أمورهم روحيًا ونفسيًا واجتماعيًا، لهذا قدَّم لهم دستوره الإلهي الوارد في سفر اللاويّين، في الشهر الأول من السنة الثانية للخروج، أو السنة الثانية لبدء ملكه عليهم. أعقب هذا مباشرةً أمره الإلهي بعمل تعداد لرجال الحرب.
1. الأمر الإلهي بالإحصاء 1-4.
2. تعيين رؤساء الأسباط 5-16.
3. إعفاء اللاويين 47-54.
1. الأمر الإلهي بالإحصاء:
"وكلَّم الرب موسى في بريّة سيناء في خيمة الاجتماع... قائلاً: احصوا كل جماعة بني إسرائيل بعشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء كل ذكر برأسه" [1-2].
تسلَّم الرب قيادة الشعب بنفسه كملك يدبر كل أمورهم... فأصدر أمره الملكي لخادمه "موسى النبي" في خيمة الاجتماع كما في القصر الملكي. جاء هذا بعد الإحصاء الأول الذي تم لتحصيل مساهمة الكل في تكاليف خيمة الاجتماع (خر 38: 25-26)، لكن الإحصاء الأول لم يسجل حسب بيوت آبائهم بعشائرهم مثل هذا الإحصاء.
هل من ضرورة للإحصاء؟
التزم موسى وهرون بأمر إلهي لإتمام هذا الإحصاء، مع أن الله وبَّخ داود النبي وعاقبه بصرامة لأنه قام بعمل إحصاء (2 صم 24، 1 أي 21)، ذلك لأن داود النبي أراد بعمله هذا أن يشبع كبرياء قلبه بإمكانياته البشريّة التي تحت سلطانه، أو أراد أن يستعرض هذه الإمكانيات أمام نفسه وأمام الآخرين الأمر الذي يحزن قلب الله ويمنع نعمة الله عن العمل في حياة الإنسان خاصة القادة الروحيين. أما الإحصاء هنا فلم يحمل شيئًا من هذا في قلب موسى أو هرون، إنما جاء بناءً على أمر إلهي لتحقيق مقاصد إلهيّة، منها:
أ. ربما أراد الله أن يعلن لأولاد إبراهيم إنهم يجنون ثمار إيمان أبيهم وطاعته فتحققت منهم وعود الله له: "يكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا" (تك 28: 14). أراد أن يلزمهم أن يسلكوا بروح أبيهم لكي يتمتعوا بمواعيد إلهيّة بفيض.
ب. إن كان الله قد دُعي "راعي شعبه" (مز 80: 1)، ففي إحصائهم تأكيد لاهتمامه بكل واحد منهم حتى لا يهلك أحد منهم. إنه يود أن يسجل أسماءهم في سفر الحياة لكي يدخل بجميعهم في أورشليم العُليا وينعموا بالأرض الجديدة. إنه يُحصي أولاده المقدَّسين لكي يمتعهم بالمجد. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [أتريد الدليل على أن عدد القدِّيسين محصي أمام الله؟ اسمع ما يقوله داود النبي: "يُحصي كثرة الكواكب، يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4). ولم يكتفِ المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذين اختارهم بل قال أيضًا أن شعور رؤوسهم مُحصاة "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها مُحصاة" (مت 10: 30). وهو في هذا لا يقصد الحديث عن الشعر الذي نقصه ونلقيه في القمامة، أو الشعر الذي يتساقط مع كبر السن ويموت، لكنه يقصد الشعر الذي حُلق (لشمشون) الذي يحمل خلاله قوة الروح القدس (قض 16)... أقصد بذلك قوة الروح والفكر النابع عن قوة الإدراك والفهم، فيرمز له برؤوس التلاميذ[1]]. وكأن الله ليس فقط يحصي أولاده ويعرفهم بأسمائهم وإنما يحصي إمكانياتهم الروحيّة ليسندهم بالفهم الروحي ويعينهم بروحه القدوس.
ج. أمر الله بإعداد هذا الإحصاء ليفصل بين الرجل الأصيل والغريب، ليس لأن الله يميز أحدًا وإنما لكي يدفعنا من حالة التغرُّب عن الله إلى التقرُّب إليه، فيتأكد كل مؤمن أنه مُنتسب لشعب الله، عضو في العائلة السماويّة. وكما يقول الرسول بولس: "فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القدِّيسين وأهل بيت الله" (2: 19). فإن الضربة الخطيرة التي يحطم بها العدو الكثيرين هو تشكيكهم في كون الوعد لهم، وأنهم أبناء الله يهتم بهم ويرافقهم. لهذا كثيرًا ما يردد الأشرار القول: "الرب قد ترك الأرض والرب لا يرى" (حز 9: 9). إن كان الشرير قد صار أرضًا ليس له شيء في السمويات يشعر أن الرب فارقه وأنه لا يراه بهذا يزداد في شره ويسقط في اليأس.
د. كشف هذا الإحصاء عن طريقة العمل الإلهي بكونه إله نظام وليس إله تشويش (1 كو 14: 33). كان الأمر الإلهي يدقق في كل صغيرة وكبيرة لكي يسلك هذا الشعب في البريّة بكل ترتيب، ليس فقط في طقس العبادة من ذبائح وصلوات دائمًا حتى في طريقة سيره في البريّة وفي تحديد موقع كل سبط بالنسبة للخيمة أينما حلت، الأمر الذي يفوق الوصف كما سنرى. وكأن الله يريد من مؤمنيه أن يعيشوا بروح الحكمة والتدبير في دراستهم للكتاب وصلواتهم وأصوامهم وجهادهم في الفضائل وسلوكهم، فالإيمان يؤكد الترتيب والنظام بحكمة وروحانيّة دون أن يستعبد الإنسان للنظام في جفاف وعدم مرونة. إنه يؤكد التدبير الكنسي العام بفهم وحيوية ليعمل المؤمنين بالروح القدس الساكن فيهم دون أن تتحول حياتهم إلى روتين جاف بلا روح! لهذا يقول الرسول: "ونطلب إليكم أيها الإخوة انذروا الذين بلا ترتيب" (1 تس 5: 14)، كما يقول: "وليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب" (1 كو 14: 40).
هـ. ربما دفع هذا الإحصاء الشعب إلى الاهتمام بنسبهم حتى يأتي السيد المسيح له المجد، كلمة الله المتجسد، فيتأكدون من شخصه أنه ابن داود الموعود به. وقد جاء المسيّا إلى العالم مخلصًا للبشرية، وانتهت سجلات النسب ولم يعد أحد يعرف من أي سبط هو.
متى تم هذا الإحصاء؟
حدد الكتاب المقدَّس تاريخ هذا الإحصاء بالسنة الثانية من الخروج في أول الشهر الثاني (ع 1)، لم يكن هذا التاريخ بلا هدف، إنما أراد الله أن يسجل أولاده بعد اجتيازهم ستة مراحل روحيّة خلالها يتأهلوا لهذه الكرامة كأولاد لله مستحقين تسجيل أسماءهم في سفر الحياة، هذه المراحل هي:
أ. انشقاقهم عن الشيطان (فرعون) وتحررهم من عبوديته، واعتزالهم إياه، هذا الذي يتسلط على النفس ويفسدها.
ب. تمتعهم بالمعموديّة المقدَّسة (عبورهم البحر الأحمر).
ج. كفاحهم ضد إبليس (الحرب مع عماليق).
د. تمتعهم بكلمة الله السماوي عذاءً لنفوسهم (المن)، وارتوائهم من الصخرة (السيد المسيح).
هـ. اقتناء الحياة الفاضلة بسكنى الله داخلهم (خيمة الاجتماع وسط المَحَلَّة).
ز. التمتع بالاتحاد الدائم مع الله خلال الذبيحة المقدَّسة (الذبائح والتقدمات) والوصيّة الإلهيّة (الشريعة).
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [لماذا لم يُحصى الشعب عند الخروج من مصر؟ لأن فرعون كان لا يزال يتعقبهم. ولماذا لم يُحصى بعد عبور البحر الأحمر عندما بلغ إلى البريّة؟ لأن الإسرائيليّين لم يكونوا بعد قد جُربوا، ولا هاجمهم الأعداء، ولا حاربوا عماليق، ولا نالوا النصرة. لكن نصرة واحدة لا تكفي لبلوعهم الكمال... لقد نُصبت خيمة الاجتماع ومع ذلك لم يحن وقت التعداد، لكن إذا أُعطيت الشريعة لموسى ورُسم طريق تقديم الذبائح ووضحت طقوس التطهير ووُضعت الشرائع وأسرار التقديس حينئذٍ صار أمر الله بتعداد الشعب[2]].
قائمة الإحصاء:
حدد الله فئة الذين يدخلون في قائمة الإحصاء بشروط تحمل مفاهيم روحيّة، ألا وهي:
أ. الذكور لا الإناث (ع 2).
ب. البالغون عشرين عامًا فما فوق (ع 3).
ج. القادرون على الحرب (ع 3).
د. المنتسبون للشعب دون الغرباء (ع 4).
هـ. إعفاء اللاويين من الإحصاء (ع 47).
أ. يُحصى الذكور دون الإناث ليس تمييزًا لجنس على حساب جنس آخر، إنما من الجانب الحرفي أعد هذا التعداد كقوائم رجال حرب، الأمر الذي هو من صميم عمل الرجال دون النساء. أما من الجانب الروحي فإن الوصيّة موجهة إلى كل المؤمنين هكذا: "كونوا رجالاً، تقووا" (1 كو 16: 13). هذه وصيّة موجهة للرجال والنساء والشيوخ والأطفال والشباب، لا تحمل المعنى الحرفي إنما التزام كل مؤمن بالنضوج والجهاد الروحي ضد الخطيئة والشر كرجل حرب، يتحمل المسئوليّة ولا يعرف التدليل. لهذ يقول العلامة أورجينوس: [طالما بقي لأحدنا صفات عجز الأنوثة والفتور... لا نستحق أن نكون محصيّين أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدَّس[3]].
ب. يُحصى البالغون عشرين عامًا فما فوق، أي يكون المؤمن قد تخطى دور الطفولة الروحيّة منطلقًا إلى حياة النضوج الروحي. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يعلمني النص الحالي أنه إذا اجتزت سذاجة الطفولة، أي توقفت عن أن يكون لي أفكار الطفولة، إذ "لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل" (1 كو 13: 11)، أقول قد صرت شابًا قادرًا على الغلبة على الشرير (1 يو 2: 13)، فظهرت كمستحق لأن أكون بين الذين قيل عنهم أنهم يسيرون في قوة... وأحسب أهلاً للتعداد الإلهي. لكن إن كان لأحد منا أفكار جسدانيّة متأرجحة... فلا يستحق أن يُحصى أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدَّس[4]].
وقد لاحظ العلامة أوريجينوس[5] في تعليقه على إنجيل معلمنا متى البشير في إشباع الجموع قول الكتاب: "والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأولاد" (مت 14: 21)، أن النساء والأولاد روحيًا قد استبعدوا إذ لم يكونوا مستحقين للإحصاء. فإنه يليق بالذين يتمتعون بالبركة الإلهيّة أن يكونوا رجالاً وأن يجلسوا على العشب (مت 14: 9) الذي هو رمز الجسد (إش 40: 6)، أي يخضعون الجسد تحت نفوسهم الناضجة القويّة روحيًا!
ج. قادرون على الحرب، إذ لا يقف الأمر عند السن، إنما يشترط فيمن يُحصون أن يكونوا أقوياء روحيًا قادرين على مجابهة الشيطان وحيله لحساب ملكوت الله.
د. منتسبون لشعب الله، إذ لا يقف الأمر عند السن والإمكانيّة (القوة) إنما يلزم أن يكون مقدسًا، حصل بروح الله على البنوة لله والانتساب للعائلة المقدَّسة، فيتخذ له الآب أبًا والكنيسة أمًا، يجاهد قانونيًا بروح الله العامل فيه كعضو في جسد المسيح المقدَّس. يقول العلامة أوريجينوس[6] أن كثيرين لهم القوة لكنهم لا يستحقون التمتع بتسجيلهم في الإحصاء الإلهي، لأنهم لم يقبلوا الانتساب الروحي لله في كنيسته المقدَّسة. فاليونانيّون مثلاً لهم قوة حسب الفكر الفلسفي لحساب المجد البشري، والكلدانيّون كان لهم قوة في الدراسات الفلكيّة دون الاهتمام بالحياة الروحيّة فصار لهم العلم الذي ينفخ مادام بغير روح، وكان للمصريين الحكمة البشريّة لكن بعيدًا عن الله... إننا في حاجة لا إلى التمتع بهذه الإمكانيات فحسب وإنما أن تكون لنا خلال انتسابنا لجسد المسيح المقدَّس.
هـ. إعفاء اللاويين، الأمر الذي نعود إليه في نهاية هذا الأصحاح.
2. تعيين رؤساء الأسباط:
لكي يتم الإحصاء على يدي موسى وهرون كان لابد من اختيار رؤساء للأسباط يسندونهما في هذا العمل. وقد تم ذلك بتعيين إلهي كما بمرسوم سماوي، أولاً لكي يكفي موسى النبي عبء التفكير فيمن يصلح، وثانيًا لكي لا يترك مجالاً للصراعات بين الشعب على المراكز القياديّة.
إقامة هؤلاء الرؤساء كشف عن اهتمام الله بتأكيد دور "الشعب" أو "العلمانيّين" إن صح هذا التعبير، في حياة الكنيسة. فليس للنبي ولا لرئيس الكهنة ولا للكهنة واللاويين أن ينفردوا بالتدبير وحدهم، لكن يلتزم الشعب بالعمل معهم يسند الواحد الآخر، ويعمل الكل تحت قيادة الوصيّة الإلهيّة بروح الله.
اختار الله في تعيينه رؤساء الأسباط رجالاً يحملون أسماء لها معانٍ روحيّة، فقد اختار من يرون في الله أبًا لهم (أليآب) وصخرتهم (أليصور) ومكافأتهم (نثنائيل)، يتمسكون به ويضعون فيه كل رجائهم. كما جاءت بعض الأسماء تعلن العلاقة البشريّة فيرى البعض في الأشرار إخوة لكن لا يتكئون عليهم (أخيرَع) بينما في الأبرار إخوة معينين لهم (أخيعَزَر) وأيضًا من يحدرون الشيطان كحيّة مخادعة... وفيما يلي معنى أسماء الأسباط:
اسم السبط
معناه
رئيس السبط
المعنى
1. رأوبين
ابن الرؤيا
أليصور
إلهي صخرة (سور)
2. شِمْعون
مستمع
شلوميئيل
الله سلام
3. يهوذا
الاعتراف
نحشون
حيّة "حنش"
4. يَسَّاكَر
الجزاء
نثنائيل
هبة الله
5. زَبولون
مسكن
أليآب
إلهي أب
6. أفرايم
الثمار المضاعفة
أليشمع
إلهي سمع
7. مَنَسَّى
ينسى
جمليئيل
الله مكافأتي
8. بنيامين
ابن اليمين
أبيدن
أبي يدين
9. دان
يدين
أخيعَزَر
أخي معين
10. أشير
سعيد
فجعيئيل
الله قابلني
11. جاد
متشدد
الياساف
الله يضيف
12. نَفْتالي
متسع
أخيرَع
أخي شرير
والعجيب أن الأسماء التي تخص علاقتنا بالله تمثل الغالبية العظمى (9 أسماء)، وكأن الله يريدنا أن نركز أنظارنا نحوه كأب لنا يقابلنا ويعيننا ويسمع لنا ويكافئنا... الخ. أما عن علاقتنا بالإخوة فاقتصر على اسمين: الأخ المعين وهو الإنسان البار الذي يسندنا خلال شركة الحب التي تربطنا معًا، والأخ الشرير الذي يلزمنا أن نحتمله بقلبٍ متسع. أما عن علاقتنا بالشيطان فاكتفى باسم واحد لكي لا يشغل ذهننا ولا نضطرب منه، إذ صار بالنسبة لنا بلا سلطان.
ويلاحظ أن أسماء رؤساء رؤساء الأسباط جاءت متناسقة ومنسجمة مع أسماء الأسباط نفسها. فقد اُختير لرأوبين أليصور، لكي من يجد له مكان في هذا السبط أي تكون له رؤيا إيمانيّة واضحة ومعروفة روحيّة، لأن رأوبين يعني "ابن الرؤيا"، فإنه يجد رئيسه أليصور أي يجد إلهه صخرته أو سوره فيه يلتجيء ويحتمي من كل محاربات الشيطان العدو.
ومن يلتجيء إلى سبط شِمْعون أي يكون "مستمعًا" لله ومطيعًا، يلتقي برئيسه شلوميئيل "الله سلام"، فمن يسمع لله ينعم بالسلام الإلهي الذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منه، كأن طاعة الوصيّة الإلهيّة هي سرّ سلامنا الحقيقي.
لقد اُختير ليهوذا "الاعتراف" نحشون "حيّة" رئيسًا، فإن من يؤمن بالسيد المسيح ويعترف به يطأ الحيّة القديمة تحت قدميه.
من يجد له في سبط يَسَّاكَر "الجزاء" نصيبًا يخضع لنثنائيل "عطيّة الله"، مدركًا أن كل مكافأة أو جزاء يتمتع بها ليست ثمرة برّ ذاتي إنما هي عطيّة الله المجانيّة، مُقدَّمة لنا في استحقاقات الدم.
لنهرب إلى سبط زبولون "مسكن"، فيسكن الله فينا ونحن نسكن معه ونثبت فيه، بهذا نلتقي بالرئيس أليآب "إلهي أب" أي نكتشف أبوة الله.
وهكذا اُختير لأفرايم "الثمر المتكاثر" أليشمع "إلهي سمع"، كأن ثمر الروح المتكاثر في حياة المؤمنين إنما هو ثمرة استماع الله لطلبتهم. واُختير لمَنَسَّى "ينسى" جمليئيل أو غمالائيل "الله مكافأتي" وكأنه إذ ينسى الإنسان مجد هذا العالم وملذاته يجد الله نفسه مكافأته. ولبنيامين "ابن اليمين" أبيدن "أبي يدين"، كأنه لا دخول لنا إلى ملكوت الله الأبدي وتمتعنا بالجلوس عن يمينه مالم نقبل الديان أبًا لنا، أي خلال تمتعنا ببنوتنا له. ولدان "يدين" أخيعَزَر "أخي معين" كأنما إذ يدين الإنسان نفسه يجد أخاه معينًا له. ولأشير "سعيد" فجعيئيل "الله قابلني" لأنه لا سعادة حقيقيّة للنفس البشريّة إلاَّ بلقائها معه. ولجاد الياساف "الله يضيف"، فإنه إذ يكون الإنسان جادًا في حياته ومتشددًا مع نفسه يضيف إليه من نعمه أكثر فأكثر، أي يزداد نموًا في الروح. وأخيرًا لنفتالي "متسع" أخيرَع "أخي شرير"، فإن القلب المتسع يحمل الأشرار كإخوة ويبتلعهم بمحبته.
بدأ التعداد بأبناء ليئة ثم راحيل فالجاريتين، دون التزام بتاريخ ميلادهم. وكأن الله أراد أن يؤكد أن الأمجاد الإلهيّة لا تُعطى بحسب السن إنما حسب النمو الروحي والاتحاد العملي مع الله.
جاء تعداد يهوذا- الذي منه جاء السيد المسيح حسب الجسد- يفوق كل الأسباط، وهو الذي يتقدم الموكب نحو الشرق كما سنرى، وكأن السيد المسيح هو قائد موكبنا نحو أورشليم العُليا.
3. إعفاء اللاويين:
لم يشمل الإحصاء سبط لاوي، هذا الذي أُفرز لخدمة الخيمة وحملها (47-51). إنهم يمثلون الجانب الروحي في الجماعة، يُعفون من هذا العمل لا ليعيشوا بلا عمل، وإنما ليتفرغوا للعمل الروحي، فيخدمون الجماعة لأجل تقديسهم، ويحرسون المَحَلَّة روحيًا. بهذا يُقدم لقيصر ما لقيصر ولله ما لله.
الأصحاح الثانيترتيب المَحَلَّة
إذ تم الإحصاء كطلب الله نفسه قدَّم الله ترتيبًا خاصًا بالمَحَلَّة في غاية الدقة، يلتزمون به أثناء نصب خيامهم كما عند ارتحالهم أثناء سيرهم في البريّة.
1. الترتيب والرايات 1-2.
2. مقدمة الموكب "الشرق" 3-9.
3. الجناح الأيمن "الجنوب" 10-16.
4. مركز الموكب 17.
5. مؤخرة الموكب "الغرب" 18-24.
6. الجناح الأيسر "الشمال" 25-31.
7. ختام الترتيب 32-34.
1. الترتيب والرايات:
قسم الأسباط، فيما عدا سبط لاوي إلى أربعة أقسام، كل قسم يسمى مَحَلَّة، ويتكون من ثلاثة أسباط تحت قيادة سبط معين تُدعى المَحَلَّة باسمه. هذا مع مراعاة أن سبط يوسف انقسم إلى سبطين: سبط أفرايم وسبط مَنَسَّى ليكمل العدد 12 بعد استبعاد سبط لاوي.
القسم الأول يُدعى مَحَلَّة يهوذا، موقعه في الشرق في مقدمة الموكب. يتبعه في التحرك القسم الجنوبي أو الجناح الأيمن الذي هو مَحَلَّة رأوبين. يتحرك بعدهما المركز نفسه وهو سبط اللاويين، خدام الخيمة وحاملوها الذين ينصبون خيامهم حول الخيمة من كل جانب. ثم يتحرك مؤخرة الموكب أوالمَحَلَّة الغربية أو مَحَلَّة أفرايم، وأخيرًا الجناح الأيسر أو الشمالي الذي هو مَحَلَّة دان.
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على ترتيب المَحَلَّة هذا، قائلاً" [إنني أجد موضوعًا عظيمًا للتأمل في سفر العدد هو توزيع الأسباط وتمييز الرتب وتجمع الأسباط وترتيب كل المَحَلَّة، فإنها بالنسبة لي تشكل أسرارًا عظيمة بفضل الرسول بولس الذي ألقى فينا بذار المعنى الروحي[7]].
ويلاحظ في هذا الترتيب الآتي:
أولاً: إن منظر المَحَلَّة في مجموعها تمثل صليبًا متحركًا نحو أرض الموعد. ففي الوسط توجد خيمة الاجتماع يحيط بها الكهنة واللاويون على شكل صليب محيط بها، أما بقية الأسباط فتمثل صليبًا كبيرًا يضم حوالي 2 مليون نسمة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، في الشرق مَحَلَّة يهوذا، وفي الغرب مَحَلَّة أفرايم، وفي الجنوب مَحَلَّة رأوبين، وفي الشمال مَحَلَّة دان. هذا الصليب المتحرك إنما يمثل الكنيسة المقدَّسة جسد المسيح المصلوب تتحرك دومًا منطلقة من أرض العبوديّة متجهة نحو أورشليم العُليا، وفي نفس الوقت تحمل داخلها صليب السيد نفسه الذي يهبها قوة القيامة.
والعجيب أن العلامة أوريجينوس إذ تطلَّع إلى هذا المنظر لم يتحدث عن الصليب، بل رأى في وجود ترتيب عظيم كهذا رمزًا للترتيب الفائق للكنيسة في يوم الرب العظيم. إنه يقول: [لنتطلع إلى معنى الأسرار الموضوعة في حساب الأعداد والأماكن المختلفة التي أشير إليها. لننظر إلى قيامة الأموات بثبات، ففي لحظة مجيء المسيح لا يسبق الأحياء الباقون على الأرض الذين رقدوا (1 تس 4: 14)، بل يتحد الكل معًا ويُخطفون في السحب لملاقاة الرب. بهذا ندرك فساد هذا الموضوع الأرضي الذي هو مسكن الموتى، ونوجد جميعنا في الهواء كقول الرسول... فنُنقَل إلى مواضع مختارة، إذ قيل "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). هذه المواضع أو هذا المجد يُعطى حسب استحقاقات أعمال الإنسان كما يؤكد الرسول بولس قائلاً عن القيامة "كل واحد في رتبته" (1 كو 15: 23). يُسجَّل اسم كل واحد حسب قياسه الروحي، فيُسجل واحد في سبط رأوبين لأنه ممتثل برأوبين في العادات والطباع والأعمال وطريقة الحياة، وآخر يُسجل في سبط شِمْعون بسبب طاعته[8]، وثالث في سبط لاوي لأنه أكمل وظائفه الكهنوتيّة حسنًا أو حصل فيها على درجة الكمال، وآخر يُسجل اسمه في سبط يهوذا من أجل عواطفه الملوكيّة إذ قاد كل إنسان إلى السبط الذي يميزه خلال أعماله وطبعه. إذن توجد في القيامة رتب كما نفهم من كلمات الرسول، تظهر صورتها واضحة في سفر العدد هذا. الواقع إن موقع الخيمة بين الأسباط وسط الجماعة، إنما هو صورة لما يكون عليه الحال في القيامة[9]].
ثانيًا: يرى العلامة أوريجينوس في منظر المَحَلَّة بهذا التدبير الإلهي صورة حيّة لكنيسة العهد الجديد التي تلتزم أيضًا أن تسلك بروح النظام والترتيب ليس فقط في عبادتها بل وفي سلوكها، تحمل النفس في أعماقها ترتيبًا لائقًا بها كعضو في الكنيسة المقدَّسة. ويمتد النظام أيضًا إلى حياة الكهنة وسلوكهم فيعيشون كخدام الله الملتهبين نارًا.
وكأن النظام ليس عملاً رتيبًا نلتزم به، إنما هو حياة له فاعليته في الداخل كما في التصرفات الخارجيّة، في حياة الجماعة كما في حياة كل عضو فيها، كاهنًا أو من الشعب!
يقول العلامة أوريجينوس: ["كلَّم الرب موسى وهرون قائلاً: ينزل بنو إسرائيل كلٌ عند رايته بأعلام (إشارات) لبيوت آبائهم، قبالة خيمة الاجتماع حولها ينزلون" [1-2]. طلب موسى أن يتقدم كل رجل في المَحَلَّة حسب رتبته، حسب رايته (إشارته) لبيت أبيه. ويقول الرسول بولس "ليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب" (1 كو 14: 40). ألا يُظهر ذلك أن الروح الذي تكلَّم به موسى هو بعينه الذي تكلم به الرسول بولس؟! فقد أمر موسى أن يسيروا في المَحَلَّة بترتيب، وقدَّم الرسول التعليم أن يكون كل شيء "بحسب ترتيب" في الكنيسة. موسى الذي كان يخدم الناموس أمر بحفظ الترتيب في المَحَلَّة، وبولس الرسول خادم الإنجيل يريد أن يلتزم المسيحي بالترتيب لا في سلوكه فقط وإنما حتى في ملبسه، إذ يقول "كذلك النساء يُزيِّن ذواتهن بلباس الحشمة" (1 تي 2: 9).
إنهما (موسى وبولس) لا يريدان الالتزام بالترتيب فقط في تنفيذ الواجبات والملبس فحسب وإنما يعنيان "ترتيب النفس"...
كثيرًا ما يحدث أن إنسانًا له أفكار وضيعة دنيئة يتلذذ بالماديات الأرضيّة، وبمكر ينال رتبة كهنوتيّة عالية ويعتلي منبر المعلمين، بينما آخر روحاني متحرر من الانشغال بالأمور الزمنيّة وقادر على فحص كل شيء ولا يُحكم عليه من أحد (1 كو 2: 15) يشغل أول رتبة في الكهنوت أو يُحسب من الشعب. مثل هذا الأمر فيه ازدراء بتعاليم الناموس والإنجيل ولا يكون فيه ترتيب!
نحن أيضًا إذ نكون قلقين ومرتبكين بالأكل والشرب، ولا ننشغل إلا بالأمور الزمنيّة، لا نقدم لله إلاَّ ساعة أو ساعتين في اليوم للذهاب إلى الكنيسة للصلاة والاستماع لكلمة الله، نعمل على إشباع احتياجاتنا الزمنيّة وإرضاء المعدة، بهذا نكون غير مهتمين بالتعليم القائل "ينزل كلٌ عند رايته (حسب رتبته)"، أو القائل "ليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب"، لأن الترتيب الذي وضعه السيد المسيح هو أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره (مت 6: 33) مؤمنين أن هذه كلها تزاد لنا. بهذا ينزل كلٌ (عند رايته) حسب رتبته.
هل تعتقد أن الذين يُلقبون قسوسًا ويفتخرون بانتسابهم للكهنوت يسيرون حسب رتبهم كما يليق بهم؟ هكذا أيضًا هل يسير الشمامسة حسب رتبهم؟ إذن لماذا نسمع أحيانًا أناسًا يجدفون قائلين: "انظر هذا الأسقف أو هذا القس أو هذا الشماس؟ إلاَّ لأنهم يشاهدون الكاهن أو خادم الله مقصرًا في واجبات رتبته، سالكًا بما يخالف الرتبة الكهنوتيّة ورتبة اللاويين! ماذا أقول أيضًا عن العذارى والنُسَّاك الذين يوكل إليهم القيام بخدمات دينية؟ فإن قَصَّر هؤلاء في التزامهم بالاحتشام والوقار أما يتهمهم موسى قائلاً: ليَسِر كل إنسان حسب رتبته (عند رايته)، فإن من يعرف رتبته، ويفهم ما يليق بها يزن أعماله وينظم كلماته وتصرفاته حتى ملابسه بما يليق ومقتضيات الرتبة التي ينتسب إليها، فلا نسمع قول الله "بسببكم يُجَدَّف على اسمي من الأمم[10]"].
هكذا يرى العلامة أوريجينوس أن الترتيب هو حياة تمس حياتنا كأولاد لله، وتمس حياة الكنيسة لتعيش بفكر المسيح يسوع!
ثالثًا: يقول الرب لموسى وهرون: "ينزل... كلٌ عند رايته بأعلام لبيوت آبائهم" [2]. ما هذه الأعلام أو العلامة التي يلتزم كل مؤمن أن ينزل عندها إلاَّ صليب ربنا يسوع المسيح، حيث نجلس عند قدمي المصلوب فلا ننحرف في جهادنا الروحي عن هدفنا الروحي الحقيقي ألا وهو الالتقاء برب المجد نفسه والوجود معه وفيه.
عند العلامة- صليب السيد- يلتقي الإخوة معًا في حياة الشركة والحب، حيث يشعر كلٌ بعضويته لأخيه في الرأس الواحد ربنا يسوع المسيح.
من الجانب التاريخي يرى البعض أن لكل سبط راية خاصة به، وكأن للمَحَلَّة ثلاثة رايات إذ تضم ثلاثة أسباط. كل سبط يجتمع عند رايته ليعرف كل إنسان موضعه في الموكب ويحتفظ به. يُقال أن كل راية تحمل حجرًا كريمًا خاصًا بالسبط، بهذا تصير الجماعة كلها أشبه بصدرية رئيس الكهنة التي يُثبت فيها اثنا عشر حجرًا كريمًا، في أربعة صفوف، كل صف يحوي ثلاثة حجارة (خر 39: 10-14) ينقش عليها أسماء الأسباط. فتظهر أسماؤهم على الحجارة في حضرة الرب في قدس الأقداس على صدر رئيس الكهنة. كأن الجماعة كلها في العهد القديم تمثل الكنيسة المقدَّسة التي صارت حجارة كريمة على صدر رب المجد يسوع، رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا، يدخل بنا إلى حضن أبيه، فنوجد هناك معه وبه وفيه إلى الأبد[11].
ويرى البعض أن لكل مَحَلَّة من المحلات الأربعة راية واحدة، مَحَلَّة يهوذا تحمل رايتها علامة الأسد، ورأوبين علامة الأسد، ورأوبين علامة الإنسان، وأفرايم علامة العجل، ودان علامة النسر. وكأننا بهذا نرى –خلال الرمز- ما رآه حزقيال النبي، مركبة الله الناريّة، أو الكاروبيم الملتهبون نارًا الحاملين للعرش الإلهي. وكأن الجماعة قد صارت مركبة الله المقدَّسة، يتشبهون بالكاروبيم[12].
يفهم مما جاء في سفر يشوع (3: 4) أن أقرب مسافة بين الخيمة والمساكن 2000 ذراعًا أي 1000 ياردة، أكثر قليلاً من ميل.
رابعًا: يرى العلامة أوريجينوس في الراية التي يلتزم كل رجل أن يقف عندها رمزًا للعلامة التي تُميِّز نفس مؤمن عن آخر، فكما أن لكل وجه جسدي ملامح خاصة به وأيضًا للصوت هكذا للنفس أيضًا. إنه يقول: [من جهة أخرى انظروا ما يعنيه القول "كلٌ عند إشارته (رايته)"، ففي رأيي أن الإشارات هي العلامات التي تُميِّز الإنسان عن غيره. فالرجال جميعًا متشابهون، لكنه توجد علامات خاصة تُميِّز كل واحد عن الآخر من ملامح الوجه والقوام والهيئة والملبس هذه العلامات تُميِّز بولس عن بطرس. أحيانًا لا يحتاج الأمر أن يظهر لكي نرى العلامة التي تميزه، إنما يعرف خلال علامة غير الرؤى الجسديّة مثل الصوت ونبرات الحنجرة. هكذا أعتقد أن للنفوس علامات مميزة، فبعضها لها حركات عذبة ولذيذة جدًا وساكنة هادئة وعادلة، والأخرى تتميز بعلامات الانزعاج والافتخار والخشونة بعنف والغضب الشديد. تجد نفسًا يقظة وحكيمة ومتبصرة في وعي ونشاط، وأخرى خاملة مسترخية ومهملة متغافلة... يمكنني أن أوكد وجود اختلافات بين النفوس البشريّة كما توجد اختلافات في ملامح الوجه...
ولكي نوضح اختلافات علامات (النفوس) نقدم هذه المقارنة: الذين تعلموا القراءة والكتابة يعرفون جيدًا 24 حرفًا في اليونانيّة... فيستخدمون ما لديهم من حروف، لكن حرف ألفا (a) كما يكتبه بطرس يختلف عما يكتبه بولس. لكل إنسان علامة خاصة تميزه في كتابة الحروف... هذا المثال الواضح ينطبق على حركات العقل والنفس التي تمثل وسائط للعمل، فإذا نظرنا إلى الرقوق نجد مثلاً روح بولس تميل إلى الطهارة، وكذلك روح بطرس، لكن طهارة بولس لها علاماتها الخاصة بها وكذلك طهارة بطرس، وإن كانت الطهارة واحدة. الواحد طهارته تتطلب قمع الجسد واستعباده في خوف (1 كو 9: 17)، والآخر طهارته لا تحمل خوفًا وهكذا العدل له سماته لدى بولس وسماته لدى بطرس، وأيضًا الحكمة وكل الفضائل. إذن فالفضائل واحدة ننعم بها من قِبَل روح الله لكن توجد اختلافات شخصيّة...
هذا ويمكن للإنسان أن يعبر في الأعمال الصالحة من علامة أقل إلى علامة أسمى فأكثر سموًا. فإن فهمنا أن كل ما تحويه الشريعة هو "ظل الخيرات العتيدة" (عب 10: 1)... فإنه في لحظة القيامة يوجد اختلاف بين استحقاقات الناس، إذ يفضل نجم عن نجم في المجد (1 كو 15: 41). يمكننا أن نعبر من علامة سفلية إلى علامة سامية فعلامة أكثر سموًا حتى نتساوى مع النجوم الأكثر بهاءً، إذ يمكن للطبيعة البشريّة أن تنمو في هذه الحياة لا لتبلغ إلى مجد النجوم بل وأيضًا إلى بهاء الشمس، إذ كُتب "حينئذٍ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم[13]" (مت 13: 43)].
خامسًا: يقول الله لموسى: "كلٌ عند رايته بأعلام لبيوت آبائهم" [2]. هكذا التزم كل مؤمن أن يلتقي بإخوته عند رايته لدى بيت أبيه الأرضي، أي السبط الذي ينتسب إليه، أما نحن فقد صار لنا في المعموديّة المقدَّسة أبًا جديدًا، هو الآب السماوي. فإن كنا نجلس عند قدمي المصلوب. إنما يدخل بنا إلى حضن أبيه الذي صار أبانا.
2. مقدمة الموكب "الشرق":
قلنا أن الموكب قد أخذ شكل الصليب، في الوسط وُجدت الخيمة وحولها اللاويون والكهنة على شكل صليب صغير، ثم الأربعة محلات من كل اتجاه مَحَلَّة، ترتيبها حسب تقدم السير هو:
اسم السبط التعداد الرئيس الأم
أ. مَحَلَّة يهوذا (الشرق):
يهوذا 74.600 نحشون ليئة
يَسَّاكَر 54.400 نثنائيل ليئة
زبولون 57.400 أليآب ليئة
ب. مَحَلَّة رأوبين (الجنوب):
رأوبين 46.500 أليصور ليئة
شِمْعون 59.300 شلوميئيل ليئة
جاد 45.650 الياساف زلفة جارية ليئة
· اللاويون (وسط المحلات):
لاوي 22.000 لا يُحسبون معهم ليئة
ج. مَحَلَّة أفرايم:
أفرايم 40.500 أليشمع راحيل
مَنَسَّى 32.200 جمليئيل راحيل
بنيامين 35.400 أبيدن راحيل
د. مَحَلَّة دان:
دان 62.700 أخيعَزَر بلهة جارية راحيل
أشير 41.500 فجعيئيل زلفة جارية ليئة
نفتالي 53.400 أخيرَع بلهة جارية راحيل
ويلاحظ في هذا الترتيب:
أولاً: أن القيادات المحليّة هي في المقدمة: نحشون قائد مَحَلَّة يهوذا، وأليصور قائد مَحَلَّة رأوبين، وأليشع قائد مَحَلَّة أفرايم، وأخيعَزَر قائد مَحَلَّة دان، ولم يكن هذا محض صدفة لكنه حمل سرّ قوة المَحَلَّة التي أخذت شكل الصليب.
ففي الرأس تسلم يهوذا القيادة، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [أما كون سبط يهوذا- السبط الملكي- قد أُقيم في الشرق، ذلك لأن سيدنا أشرق[14] (عب 7: 14)]. ففي الشرق يظهر السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا يقودنا نحو مملكة النور. أما رئيس المَحَلَّة نحشون الذي يعني "الحيّة"، فلأن سرّ الصليب إنما هو سرّ تحطيم الحيّة القديمة كوعد الله لحواء أن نسل المرأة يسحق رأس الحيّة.
أما ذراع الصليب الأيمن فيمثله مَحَلَّة رأوبين تحت قيادة أليصور الذي يعني "إلهي صخرة، أو إلهي سور"، فإن كان بالصليب تسحق رأس الحيّة إنما لكي يدخل المؤمنون إلى الله كصخرة أو سور لحمايتهم. أما الذراع الأيسر فيمثله مَحَلَّة دان تحت قيادة أخيعَزَر الذي يعني "أخي معين" وكأنه على الصليب يبسط الرب يديه، باليمنى يعلن أن فيه خلاصنا كصخرة لنا وباليسرى يهبنا روح الشركة مع بعضنا البعض فيه. الذراع الأيمن يعلن علاقتنا بالله والذراع الأيسر يعلن علاقتنا ببعضنا البعض أي بالبشريّة. أما قاعدة الصليب فتمثلها مَحَلَّة أفرايم تحت قيادة أليشمع أي "الله يسمع"، وكأن أساس الصليب هو أن يسمع الآب إلينا في ابنه، فيقبل حبنا وطاعتنا وتقدماتنا في المسيح يسوع المحبوب.
باختصار، الكنيسة وقد صارت مَحَلَّة الرب أو جسد المسيح المصلوب، تجد في رأسها المسيح الملك غالب الحيّة، الذراع الأيمن الصخرة التي نحتمي فيها، والأيسر الحب الأخوي، وعند قدميه تجلس لتسمع الآب وهو يسمع صوتها ويقبلها.
ثانيًا: حملت المَحَلَّة صورة رمزيّة لأورشليم العُليا كما رآها القديس يوحنا (رؤ 21) إذ لها ثلاثة أبواب من كل اتجاه، وكأنه لا دخول إليها إلاَّ من خلال الإيمان بالثالوث القدوس. هكذا أينما اتجهت في المَحَلَّة تجد ثلاثة أسباط معًا في مَحَلَّة واحدة مع أن لكل سبط مميزاته الخاصة به، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [نجد في الأربعة أقسام رقم 3، لأنه باسم الآب والابن والروح القدس دون غيره يُحصى سكان أركان المسكونة الأربعة الذين يدعون اسم الله "ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات" (مت 8: 11) هذه وقائع لا يمكن تجاهلها[15]].
3. الجناح الأيمن "الجنوب":
في ترتيب المَحَلَّة رُوعي قدر الإمكان التقارب بين الأسباط، ففي المقدمة وُجد يهوذا ويَسَّاكَر وزبولون أبناء ليئة، وفي الجناح الأيمن رأوبين وشِمْعون وجاد، الأولان أبناء ليئة والثالث من زلفة جارية ليئة، وفي الغرب أفرايم ومَنَسَّى ابنا يوسف وبنيامين من راحيل، وفي الشمال دان ونفتالي وأشير أبناء الجاريتين.
4. مركز الموكب "اللاويّون":
إن كان هذا الشعب قد صار أمة مقدَّسة إذ قبل الإيمان بالله الحيّ، فإن سبط لاوي الذي تفرغ للعمل الروحي تمامًا هو السبط المقدَّس، الذي يتفرغ لخدمة الخيمة وحملها، يحيط بها من كل جانب في وسط الجماعة. كأنه رمز للسيد المسيح الابن الوحيد الذي حلّ وسط البشريّة لكي يدخل بها إلى مقدساته الإلهيّة يتمتعون بحضن أبيه، يشفع فيهم بدمه الكريم خلال ذبيحة صليبه.
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [استقر اللاويّون في وسطهم حول خيمة الله لأنهم أكثر قربًا لله... يبدو أن أبناء اللاويين قد تأهبوا في الدائرة من جميع نواحيها في وسط أبناء إسرائيل مختلطين مع الآخرين ومتداخلين معهم... لتبحث عن خيمة الله حيث دخل يسوع لكي يعد لنا الطريق (عب 6: 20، 9: 24، 7: 25)، يظهر أمام وجه الله يتشفع فينا[16]].
5. مؤخرة الموكب "الغرب":
وهي مَحَلَّة أفرايم، تأتي في تحركها بعد اللاويّين مباشرة.
6. الجناح الأيسر "الشمالي":
وهي مَحَلَّة دان، آخر من يتحرك...
7. ختام الترتيب:
ختم الحديث بتأكيد أن ما أمر الله به موسى وهرون قد تحقق فعلاً.
الأصحاح الثالثاللاويّون فدية عن الشعب
إن عدم إحصاء سبط لاوي مع بقية الأسباط كرجال حرب لا يعنى إعفاءهم عن العمل أو سلوكهم بروح أرستقراطي متشامخ، إنما التزامهم بالعمل الروحي عوض أبكار الشعب. لقد خصّص الوحي عدة أصحاحات للحديث عنهم تبدأ بمعاقبة بعضهم بالموت من أجل شرهم.
1. عقاب الأشرار منهم 1-4.
2. اللاويّون عوض الأبكار 5-13.
3. تقسيم العمل 14-38.
4. إحصاء اللاويّين 39-43.
5. دفع فدية عن الزيادة 44-51.
1. عقاب الأشرار منهم:
سقط ابنا هرون ناداب وأبيهو في تقديم نار غريبة أمام الرب فماتا ولم يكن لهما أولاد، فكهن الأخوان الصغيران ألِعازار وإيثامار أمام هرون أبيهما.
كلمة "ناداب" تعني "كريم"، و"أبيهو" تعني "أبي هو". مع عذوبة اسميهما وبالرغم من كونهما من القلائل جدًا الذين سمح لهم الرب أن يصعدوا على جبل سيناء (خر 24: 1) وكرسوا كهنة للرب (خر 28: 1)، لكنهما سقطا تحت غضب الله واللعنة وفقدا حتى حياتهما الزمنيّة لأنهما كسرا الوصيّة (لا 10: 1-7، عد 26: 6). لقد ابتدأا بالروح لكنهما كملا بالجسد فلم يشفع فيهما اسميهما ولا لقبهما ولا انتسابهما لهرون ولا اختيار الرب لهما للعمل الكهنوتي... الخ، بل بالعكس صارت هذه الأمور كلها سرّ دينونة لهما، فبقدر ما يتمتع الإنسان من عطايا إلهيّة ويدخل تحت نير المسئوليّة وتصير له معرفة يُطالَب بأكثر!
يرى البعض أنهما كانا في حالة سُكْر حينما فعلا هذا، لذلك حَرَّم الله على الكهنة دخول خيمة الاجتماع بعد شرب الخمر (لا 10: 9). ويرى البعض أن سرّ انحرافهما أنهما خدما بإرادتهما الخاصة دون مشورة أبيهما، لهذا أمر الرب أن يقف اللاويّون أمام هرون الكاهن ليخدموه كما كهن الأخوان الصغيران أمامه (ع 4-5)، أي صار الكهنة واللاويّون يخدمون بروح التلمذة. ولعله أراد منذ بدء تاريخ الكهنوت الموسوي إعلان خطورة العمل الكهنوتي إن دخل فيه روح الكبرياء والاعتداد بالذات وسلك كل منهم بهواه الشخصي بغير تلمذة. أقول أيضًا ما أحوج الكنيسة في كل عصر إلى مثل هرون الذي يحمل روح الأبوة لا للشعب فحسب بل وللكهنة يتتلمذون على الرب نفسه بين يديه!
أخيرًا كان اللاويّون في الحقيقة يمثلون دور الشمامسة، هم يذبحون والكهنة يرشون الدم ويحرقون الشحم، هم يعدون البخور والكهنة يقدمونه للرب. إن الشماس معين للكاهن في كل خدمته الروحيّة وعمله الرعوي.
2. اللاويّون عِوَض الأبكار:
ما أعذب العبارة الإلهيّة القائلة عن اللاويّين: "إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل" [9]. فإن الله في حبه للإنسان يريد أن يدخل دومًا في معاملات معه، فيها عطاء وأخذ، فكما يعلن الله حبه لنا بالعطاء يهبنا فرصة لردّ الحب بالحب بأن يأخذ من أيدينا. لقد أعطى لهذا الشعب وجوده وحياته، وأخرجهم من أرض العبوديّة، فصاروا جميعًا مدينين له بكل حياتهم، لهذا ترك لهم مجال التبادل في الحب فتقبل منهم هذا السبط هبة الشعب لله! إنه يعلن على الدوام- في كل جيل- أنه محتاج وعطشان يطلب عطيّة الإنسان له، لا لعجز في الإمكانيات الإلهيّة إنما للدخول مع الإنسان في علاقة حب مشترك. إنه لا يقبل مطلقًا أن يعطي دون أن يأخذ لئلا يشعر الإنسان بصِغَر نفسه وعجزه عن التعبير عن حبه لله.
كثيرًا ما تحدث في الأسفار السابقة عن البكور والعشور والنذور، والآن يعلن قبوله بكور الشعب بقبوله "سبط لاوي" هبة الشعب له. والآن، لماذا اختار هذا السبط؟ وماذا يقصد باعتباره بكور الشعب؟
لماذا اُختير سبط لاوي عِوَض بكور الشعب؟
"كلَّم الرب موسى قائلاً" وها إني قد أخذت اللاويّين من بين بني إسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني إسرائيل فيكون اللاويّون لي. لأن لي كل بكر..." [11-13].
لم يكن لاوي الابن البكر ليعقوب بل الابن الثالث بعد رأوبين وشِمْعون. وكأن الله أراد أن يؤكد لشعبه منذ البداية أن البكوريّة لا تقوم على أساس جسدي، أي حسب العمر، وإنما حسب الاستعداد والاستحقاق. لقد جاء السيد المسيح بكر البشريّة كلها مع أنه تجسد في ملء الأزمنة، وفقد آدم الأول بكوريته إذ جلب للبشريّة الموت عِوَض البركة. هكذا كما تخطى لاوي أخويه رأوبين وشِمْعون تخطى آدم الثاني- السيد المسيح- آدم الأول كما تخطى أيضًا مستلم الشريعة موسى النبي كأول قائد للشعب... ويقدم السيد بكرًا للبشريّة المؤمنة بكونه الابن الوحيد المحبوب لدى الآب.
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [ألا يعلمنا هذا بأن الذين اعتُبِروا أبكارًا أمام الله ليسوا هم الأبكار حسب الميلاد الجسدي إنما اختارهم الله بسبب حسن استعدادهم. هذا ما حدث بالنسبة ليعقوب الرجل الثاني إذ حسبه الله بكرًا ونال بركات البكوريّة (تك 27: 11) بفضل إصابة أبيه بالعمى بسماح إلهي، وذلك لحسن استعداد قلبه الذي رآه فيه الله، إذ قيل "وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا... مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو" (رو 9:11-12، ملا 1: 2-3). هكذا لم يكن اللاويّون أبكارًا حسب الجسد لكنهم ثبتوا كأبكار[17]...].
وقد سبق لنا الحديث عن البكور كرمز للسيد المسيح البكر، وكيف ظهرت الوصيّة بالبكور كأول وصيّة بعد خروج الشعب مباشرة[18] (خر 13: 1)... ويلاحظ هنا أن الله يتحدث عن اللاويّين الذين هم أبكاره أنهم "من بين (وسط) بني إسرائيل" (ع 11). لقد قبلهم كهبة من الشعب، وهم في وسط البشريّة كواحدٍ منهم، إذ يقول الكتاب "في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه" (يو 1: 26).
بكوريّة السيد المسيح تختلف عن بكوريّة الناس، ففي القديم حين تمتع يعقوب بالبكوريّة حرم أخاه عيسو منها، وحين صار اللاويّون أبكارًا فقد رأوبين بكوريته... أما السيد المسيح إذ جاء إلى العالم بكرًا فتح الباب أمام كل البشريّة لكي تنعم بالبكوريّة خلاله أو بالاتحاد معه. لقد أسس "كنيسة الأبكار" وحسب مؤمنيه أبكارًا... إننا لسنا كعيسو نحزن ونبكي لأن يعقوب اغتصب منه بكوريته بل بالحري نفرح ونتهلل لأن يسوعنا فتح لنا باب البكوريّة.
أخيرًا، فإن قول الرب "تأخذ اللاويّين لي، أنا الرب، بدل كل بكر" [41]. يكشف عن مركز الخادم كفدية عن مخدوميه، قَبِله الرب عوض البكر لكي يخدم شعب الله ويحمل أتعابهم وآلامهم وضعفاتهم، لكي يبلغ بهم في المسيح يسوع إلى الحضن الإلهي. إنه فدية يشتهي أن يموت ويحيا الكل!
3. تقسيم العمل:
قَسَّم الله بني لاوي إلى ثلاث رتب بجانب الكهنة، وحدّد مواقعهم وعملهم. فقد أحاطوا- كما سبق فقلنا- بالخيمة على شكل صليب. من جهة الشرق هرون وكهنته مع موسى النبي، ومن الجنوب (الجناح الأيمن) يسكن بنو قهات، ومن الشمال (الجناح الأيسر) يسكن بنو مراري، وفي القاعدة (الغرب) يسكن بنو جرشون، هذا هو الصليب المحيط بالخيمة والذي يقع في منتصف الجماعة كلها والتي تكمل صليبًا ضخمًا.
هنا نرى في رأس الصليب (الشرق) موسى وهرون وكهنته إشارة إلى السيد المسيح رأس الكنيسة الذي هو كلمة الله (يرمز لها بموسى مستلم الشريعة) والكاهن الأعظم (هرون). أو بمعنى آخر خلال الصليب نتلامس مع السيد المسيح الذي قدَّم لنا الوصيّة الإلهيّة منقوشة بالحب العملي خلال الدم الطاهر وشفاعته الكفاريّة خلال كهنوته الأبدي. أما قاعدة الصليب فيقطنها بنو جرشون أي أبناء "المطرودة" أو "المنفي" أو "الغريب"، فقد تحقق الصليب وصار "لليهود عثرة ولليونانيّين جهالة" (1 كو 1: 23). أما الجناح الأيمن فيقطنه بنو قهات أي أبناء "المجمع" حيث تتحطم العداوة وتحل الشركة مع الله والناس، فيتحد السمائيّون مع الأرضيّين، وتجتمع الأمم والشعوب معًا. وفي الجناح الأيسر يسكن بنو مراري إشارة إلى المرّ الذي احتمله السيد من أجلنا!
قسم العمل بين رتب اللاويّين الثلاثة هكذا:
أولاً- بنو جرشون: مع أن جرشون هو البكر للاوي لكنه جاء بعد قهات، إذ صار للأخير أفضلية حسب استعداد قلبه لا حسب الميلاد الجسدي. ولا يُعتَبر بنو جرشون كهنة بل مساعدين لهم يحرسون المسكن والخيمة وغطاءها وسجف (ستارة) باب خيمة الاجتماع وأستار الدار... الخ. كان عددهم 7500 من الذكور، وقد عيَّن لهم عجلتان وأربعة ثيران لمساعدتهم أثناء الرحيل. تفرَّعوا إلى قبيلتين هما اللبنيّين والشمعيّين، وأُعطيت لهم ثلاث عشر مدينة في أرض الموعد (يش 21: 27-33).
ثانيًا- بنو قهات: خرج منهم موسى وهرون الذي تسلم الكهنوت هو وبنوه. وقد تسلَّم البقية العمل لمساعدة الكهنة، لهم أفضلية على الرتب الأخرى، يقومون بحراسة التابوت والمائدة والمنارة والمذبحين وأمتعة القدس التي يخدمون بها والحجاب وكل خدمته. أثناء الرحيل يحملون هذه المقدَّسات على أكتافهم بعد أن يغطيها الكهنة، لهذا لم يوهب لهم عجلات وثيران. كان عددهم 8600 من الذكور، أكثر من القسمين الآخرين، انقسموا إلى أربعة عشائر: العمراميّون واليصهاريّون والحبرونيّون والفريئيليّون. كان لبني هرون القهاتيّين في كنعان ثلاث عشرة مدينة (يش 21: 4)، ولبقية بني قهات عشر مدن (يش 21: 5، 21). وكانوا من جملة الفرق التي رتبها داود للتسبيح (1 أي 25-26) والذين ساعدوا في جلب التابوت إلى أورشليم (1 أي 15: 5)، وقد حصلوا على شرف وغنى.
ثالثًا- بنو مراري: التزموا بحراسة ألواح المسكن وعوارضه وأعمدته وفرضه وكل أمتعته وأعمدة الدار... الخ. وإذ كانت هذه الأشياء ثقيلة الوزن أعطى لهم أربعة عجلات وثمانية ثيران، كان عددهم 6200 من الذكور، انقسموا إلى عشيرتين: المحليّون والموشيّون، وفي كنعان عيَّن لهم اثنتا عشر مدينة ( يش 31: 7، 34: 40، 1 أي 6: 63، 77: 81).
رأى العلامة أوريجينوس[19] في هذه الرتب الثلاثة مع هرون وكهنته صورة للرتب الأربعة السماويّة، إذ جاء في الرسالة إلى العبرانيّين: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 22-23). وكأن السماء في رأيه أربع رتب (جبل صهيون، مدينة الله أورشليم السماويّة، ربوات هم محفل ملائكة، كنيسة أبكار مكتوبين في السموات). يقول: [اجتهد بكل قوتك أن تنمو وتتقدم في أعمالك وحياتك وعاداتك وإيمانك وطريقة تصرفاتك حتى تبلغ كنيسة الأبكار المكتوبين في السموات. فإن لم تستطِع فلتبلغ درجة أقل... إن كنت لا تقدر أن تقترب من الربوات الذين هم محفل ملائكة وتصعد هذه الدرجة فعلى الأقل تبلغ مدينة الله الحيّ أورشليم السماويّة، وإن كنت غير قادر على بلوغ هذه فحاول على الأقل أن تتجه نحو جبل صهيون لكي تخلص على الجبل[20] (تك 19: 17)].
4. إحصاء اللاويّين:
أمر الله بإحصاء اللاويّين من الذكور من ابن شهر فصاعدًا فكان عددهم 22000 نسمة، ويرى العلامة أوريجينوس أن رقم 22 هو عدد الحروف العبريّة كما أنه عدد الآباء من آدم إلى يعقوب أصل الأسباط. ولما كان رقم 1000 يشير للحياة السماويّة أو الروحيّة، بهذا يكون اللاويّون بهذا الرقم يمثلون اللغة (22 حرفًا) الروحيّة، خلال خدمتهم يجد جميع الأسباط بإمكانيّة كتابة أسمائهم في السمويات. إنهم يمثلون جميع الحروف فلا يجد أحد عذرًا في عدم تسجيل اسمه. ومن ناحية أخرى فهم يمثلون الآباء الروحيّين الذين من صلبهم جاء شعب الله.
5. دفع الفدية عن الزيادة:
إذ أُحصي الأبكار في الشعب وجد عددهم 22.273 نسمة أي يزيدون 273 نسمة عن اللاويّين المحصيّين، فالتزموا بتقديم خمس شواقل فدية عن كل نسمة، تقدم لهرون وبنيه.
غالبًا هذا الرقم من الأبكار 22.273 يمثلون الأبكار الذين وُلدوا بعد الخروج، أما الزيادة "273" فتشير إلى التسعة شهور التي يقيم فيها الجنين في أحشاء أمه (9×30=270) مضافًا إليها 3 أيام رمز القيامة من الأموات كما رأينا في تفسيرنا لسفر الخروج[21]. كأن هؤلاء المفديّين هم جمهور البشريّة التي جاءت إلى العالم بعد أن تشكلت في الأحشاء وتمتعت بالقيامة مع السيد المسيح أي تُولد جسديًا وتُولد روحيًا. ويرى العلامة أوريجينوس[22] أن رقم 273 هو حصيلة جمع 270 مضافًا إليها 3، قائلاً بأن الجنين يبقى في الأحشاء تسعة شهور وغالبًا ما ينزل في اليوم الثالث من الشهر العاشر.
أما الخمس شواقل التي تُدفع كفدية فتشير إلى تقديس كل الحواس الخمس، لكي يصير الكل عذارى حكيمات يدخلن مع العريس إلى الفرح الأبدي (مت 25).
الأصحاح الرابع
تنظيم خدمة اللاويّين
بعد أن تحدث عن اللاويّين بصفة عامة عاد ليؤكد في شيء من التفصيل عمل الرتب الثلاثة مع تحديد سن العمل وعمل إحصاء لكل رتبة.
1. سن خدمة اللاويّين 3، 23...
2. تنظيم الخدمة بينهم 4-33.
3. حمل الخيمة وأثاثاتها 5... الخ.
4. تغطية المقدَّسات 5... الخ.
1. سن الخدمة عند اللاويّين:
لقد أكد الوحي في هذا الأصحاح سن الخدمة بالنسبة للاويين سبع مرات (ع 3، 23، 30، 35، 39، 43، 47) أنه من ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة. إن كان في إحصائهم كبكور للرب بدأ بسن شهر فصاعدًا، لكن في العمل يطلب السن القادر على تنفيذ ما يؤمرون به، مقدمين لله أفضل فترة في حياتهم.
سن الثلاثين عند اليهود هو سن الرجولة والنضوج، لهذا لا يبدأ الكاهن أو النبي عمله إلاَّ ببلوغه هذا السن. غالبًا ما يتربى الكهنة والأنبياء حول الخيمة أوالهيكل، يساعدون في بعض الأعمال أي يتتلمذون حتى إذا ما بلغوا هذا السن يتسلمون العمل ويحملون المسئوليّة.
إن كانت أيام العمل هي ستة أيام في الأسبوع، فإنه يليق بخادم الرب أن يكون مقدسًا في كل حواسه الخمس كل أيام عمله (6×5=30). فرقم ثلاثون يشير إلى حياة التقديس الداخلية. أما رقم 50 فله قدسيته الخاصة في العهدين القديم والجديد، إذ يشير إلى حالة العفو والتحرر من الدّين أو من الخطيئة. ففي العهد القديم في السنة الخمسين أي في الاحتفال باليوبيل يحدث عفو عام وشامل، فيه يتحرر العبيد وتسترد الأراضي المرهونة ويُعفى عن المدينين، فيصير عام راحة. وفي يوم الخمسين أيضًا حلّ الروح القدس على التلاميذ في العُلية ليهب الكنيسة طبيعة سماويّة جديدة متحررة من الخطيئة لها قوة الانطلاق نحو السمويات. وحينما قدَّم السيد المسيح مثلاً عن الإعفاء من الديون قال كان لدائن مدينان على الواحد خمسون وعلى الآخر خمسمائة فسامحهما كليهما. وحينما بدأ إبراهيم أب الآباء يشفع في سدوم وعمورة لكي يعفو الرب عنهما سأل إن كان يوجد خمسون بارًا هل يعفو؟ (تك 18: 14)... هكذا جاء هذا الرقم في الكتاب المقدَّس يمثل حالة العفو. وكأن اللاويّين في هذا السن يُعفون من الخدمة على الأرض ليستعدوا للانطلاق إلى خدمة الهيكل السماوي، إنهم يخرجون من العربون ليتمتعوا بكمال المجد.
في عدد 8: 24 يلتزم اللاويّون ببدء العمل في سن الخامسة والعشرين، ليقضوا خمس سنوات تحت الاختبار والتلمذة قبل استلامهم العمل. ويرى العلامة أوريجينوس أن الرقم 25 يشير إلى التقديس الكامل[23] حيث رقم 5 يشير إلى تقديس الحواس (5×5=25). وفي أيام داود النبي إذ كان العمل متزايدًا بدأ اللاويّون العمل في سن العشرين (1 أي 23: 24، عز 3: 8)، لكنهم يبقون عشرة سنوات فترة تلمذة، أي حتى يبلغوا الثلاثين من عمرهم. وقد بدأ القديس يوحنا المعمدان حديثه في الثلاثين، وأيضًا السيد المسيح. وفي العهد الجديد طلب الرسول بولس أن يكون الخادم غير حديث الإيمان (1 تي 3: 6) إذ يتطلب العمل الكهنوتي نضوجًا وحكمة وثباتًا، كما اشترط الرسول فيهم أن يُختبروا أولاً (1 تي 3: 10).
2. تنظيم الخدمة بينهم:
في هذا الأصحاح يظهر الله كمسئول أول عن الخدمة وكل تدابيرها وتنظيم العمل بين الخدام الذين قام بتعيينهم ودعوتهم للخدمة. لقد حدّد لكل فئة عملها فلا تهمل فيه ولا تتعداه. فعند الارتحال يقوم هرون (رئيس الكهنة) وبنوه (الكهنة) بتغطية المقدَّسات التي في القدس بأغطية حدّد الله مادتها. إلى هنا يقف عمل الكهنة ليقوم بنو قهات بحمل هذه المقدَّسات المغطاة على أكتافهم، وقد حذَّر الله من دخولهم لرؤية المقدَّسات أو لمسها قبل تغطيتها لئلا يموتوا، إذ قال لموسى وهرون: "لا تقرضا سبط عشائر القهاتيّين من بين اللاويّين، بل افعلا هذا فيعيشوا ولا يموتوا عند اقترابهم إلى قدس الأقداس... لا يدخلوا ليروا القدس لحظة لئلا يموتوا" [18-20].
لقد حدَّد أيضًا ما يحمله بنو جرشون وما يحمله بنو مراري... هكذا يلتزم كل إنسان أن يعرف عمله في الكنيسة فلا يتفاخر على غيره بما تسلمه من مسئوليات ومواهب ولا تصغر نفسه بسبب ما يقوم به غيره، فإنه إذ يعمل فيما أُوكل إليه بأمانة ورضى يتكلَّل ويسير العمل في تكامل. ليس المهم أن يكون الإنسان أسقفًا أو كاهنًا أو شماسًا أو واحدًا من أفراد الشعب إنما أن يوجد أمينًا في الموضع الذي وُجد فيه من قِبَل الرب. يقول الرسول بولس: "أنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل" (1 كو 12: 5-6). في هذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [كونك قد أخذت موهبة أصغر فذلك لفائدتك. إذن لا تحزن كأنك مرذول، لأن الله لم يصنع بك ذلك احتقارًا منه بك، ولا لكونك أقل من الآخرين، لكنه صنع ذلك لفائدتك. فلو حمل الإنسان موهبة أكثر من إمكانياته فستكون غير مفيدة وضارة له[24]]. ويقول الشيخ الروحاني: [لا نحسب الذي يتكلم بالروحيّات عظيمًا من أجل سمو فهمه فقط، وذاك الذي يُعلِّم الأطفال ندعوه ناقص الفهم. فهناك أنواع مواهب كثيرة ولكن الروح واحد يفعل في جميعهم كما يشاء، يعطي كل رعية على يد راعيها المرعى الذي يصلح لها، فلا ينبغي على الذي يفسر أن ينتفخ على ذاك الناشيء في الإيمان[25]].
3. حمل الخيمة وأثاثاتها:
سبق فرأينا تقسيم هذا العمل "حمل الخيمة وأثاثاتها" على بني قهات وبني جرشون وبني مراري.
يُعلَّق العلامة أوريجينوس على المقدَّسات التي في الخيمة من تابوت عهد ومنارة ومائدة مقدَّسة ومذبح بخور الخ...، هذه كلها تشير إلى فئات من القدِّيسين، أما حملهم على أكتاف بني قهات إنما يشير إلى حمل هؤلاء القدِّيسين على أكتاف الملائكة، إذ يقول : [لنفهم الخيمة بكونها جماعة القدِّيسين الذين يشملهم عهد الله. يوجد فيها أناس أكثر استحقاقًا، ارتفعوا في البرّ فلُقِّبوا بالمنارة. هؤلاء بلا شك هم الرسل الذين يضيئون باقترابهم من الله... وآخرون يُلَّقَبون "المائدة المقدَّسة" إذ يحملون خبز الله الذي يُجدِّد النفس الجائعة إلى البرّ (مت 5: 6) ويغذيها. آخرون يُدعَوْن مذبح البخور، هؤلاء الذين ينشغلون ليل نهار بالعبادة لله في أصوام وصلوات، لا يطلبون فقط من أجل أنفسهم بل ومن أجل كل الشعب. الذين تَسلَّموا هذه الأسرار لُقِّبوا تابوت العهد إذ لهم ثقة أكيدة يقدمون صلوات وابتهالات وتضرعات ليصالحوا الله مع الناس، ويتوسلون إلى الله من أجل عصيان الشعب مسرعين إلى المذبح الذهبي. أيضًا الذين استحقوا فيض العلم وكثرة ثروة معرفة الله يصيرون شاروبيمًا، إذ كلمة "شاروب" تعني "كمية علم"...
كل الذين تحدثنا عنهم أعلاه خلال الرموز المتعددة يجب أن يُحملوا على الأكتاف، فإنه في رأيي الذين يحملونهم هم الملائكة الذين أُرسلوا لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 4). حقًا إذ تُثنى الخيمة مرة أخرى، حيث نبدأ في الدخول في القدس لنرحل إلى أرض الموعد تسند الملائكة الذين يعيشون بالحقيقة قدِّيسين في قُدس الأقداس. وحين تُقام خيمة الله مرة أخرى يوجد هؤلاء محمولين على أكتافهم ومرفوعين على أيديهم. أمام هذا المنظر قال النبي بالروح: "لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تُصدَم بحجرٍ رجلك[26]" (مز 91: 11-12)].
4. تغطية المقدَّسات الإلهيّة:
أ. إذ تُشير هذه المقدَّسات إلى المؤمنين، فإنه تبقى هذه المقدَّسات مكشوفة داخل الأقداس، لكنها متى حُملت يلزم أن تُغطى. وكأنه يليق بالمؤمنين أن يعيشوا في حياة سرّية، تنفتح قلوبهم على الله، يعيشون مع الله بوجهٍ مكشوف، يتحدثون معه في دالة وصداقة بلا عائق، أما أمام الناس فلا يكشفون أسرار حياتهم الخفيّة. هذا ما أكده السيد المسيح بقوله "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم وإلاَّ فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات... أما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 1، 7).
إنه لا يمنع العبادة الجماعيّة، إنما يرفض أن تكون غايتها الظهور والمجد الباطل، إذ يقول "لكي ينظروكم" (مت 6: 1).. والكنيسة الأولى كانت تشترك في العبادة العامة في الهيكل يوميًا (أع 1: 46) في المزامير والتسابيح والطلبات بجانب الاشتراك في سرّ الإفخارستيا في الكنائس (أع 1: 46). لكن يليق بالمؤمن حتى في عبادته الجماعيّة أن يدخل في علاقة خفيّة مع الله لا يشعر بها حتى الواقفون بجواره. يقول القدِّيس أغسطينوس: [احترزوا من السلوك بالبرّ لأجل هذا الهدف، فتتركز سعادتكم في نظرة الناس إليكم[27]]. وللأب إسحق تلميذ القدِّيس أنطونيوس تعليق جميل على الصلاة الخفيّة، إذ يقول: [نصلي بأبواب مغلقة، عندما نصلي بشفاه مغلقة في هدوء وصمت كامل لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونصلي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة حيث لا نكشفها إلاَّ لله وحده، فلا تستطيع القوات المضادة (الشياطين) أن تكتشفها. لذلك يجب أن نصلي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا... وإنما لكيما نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذن يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصيّة: احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك[28]].
ب. حذَّر الله اللاويّين من غير الكهنة من لمس هذه المقدَّسات أو رؤيتها، فإن الله لا يريد أن يعرف أحد قدسيّة علاقتنا معه سوى كهنته الذين يسندوننا بإرشاداتهم وصلواتهم.
ج. يرى العلامة أوريجينوس في تغطية المقدَّسات بيد الكهنة قبل أن يحملها بنو قهات رمزًا لعمل الكاهن الذي يعرف أسرار حكمة الله ويفهمها لكنه لا يقدمها للضعفاء كما هي لئلا يهلكوا[29]، إنما يقدمها لهم قدر احتمالهم.
د. يرى العلامة أوريجينوس أيضًا في هذا الأمر صورة لما كان عليه رجال العهد القديم الذين حملوا المقدَّسات الإلهيّة على أكتافهم، لكنها مغطاة ومحتجبة خلال الظلال والرموز، أما أبناء هرون الحقيقيّون أي رجال العهد الجديد فقد اكتشفوا الحقيقة وعرفوا أسرارها فعرفوا الفصح الحقيقي والسبت الحقيقي والختان الحقيقي[30]... في هذا يقول إشعياء النبي: "يفنى في هذا الجيل وجه النقاب" (25: 7).
هـ. حملت الأغطية معانٍ جميلة نذكر على سبيل المثال تابوت العهد الذي يوضع عليه غطاء من جلد تُخس يبسطون فوقه ثوبًا كله أسمانجوني (ع 6). إذ يرمز تابوت العهد للسيد المسيح المصلوب. لهذا إن ظهر في الضعف مخفيًا وراء الجلد، لكنه في حقيقته كله سماوي (أسمانجوني). ظهر بالضعف وهو القوي! أما مائدة الوجوه فهي ترمز لربنا يسوع خبز الحياة المُقدَّم للبشريّة، يبسطون عليه ثوبًا أسمانجونيًا (سماويًا) ثم ثوبًا قرمزيًا (علامة الدم) فغطاء من جلد التخس، وكأن السيد هو الخبز السماوي النازل إلينا، يقدم ذاته مكسورًا لأجلنا (القرمزي)، مخفيًا عن الأعين البشريّة فنراه خبزًا ضعيفًا (جلد التخس).
لا أريد أن أكرر الحديث فيما يخص المنارة الذهبيّة والمذبح الذهبي، فإن كلٍ منهما يُغطى بثوبٍ أسماجوني عليه غطاء من جلد التخس. أما المذبح النحاسي فهو وحده الذي يُغطى بثوبٍ من الأرجوان الذي هو لباس الملوك، ثم يبسطون عليه غطاء من جلد التخس. فإن كان المذبح النُحاسي يشير إلى ذبيحة الصليب، فهو العرش الملوكي الذي خلاله يملك الرب على قلوب مؤمنيه.
أخيرًا لم يُشِر الكتاب إلى غطاء للمرحضة وهي تشير للمعموديّة، لكي يراها الكل فتسرع إليها البشريّة كلها!
الأصحاح الخامستقديس المَحَلَّة
الآن إذ أُقيمت خيمة الاجتماع وسط المَحَلَّة وحدَّد موقع كل سبط وعمل اللاويّين، يعلن الله وجوب تطهير المَحَلَّة كلها على المستوى العام، والمستوى الشخصي أي كل عضو فيها، والمستوى العائلي.
1. تنقية المَحَلَّة ككل 1-4.
2. تنقية كل مؤمن 5-10.
3. تنقية كل عائلة 11-29.
1. تنقية المَحَلَّة ككل:
أمر الله موسى هكذا: "أوصِ بني إسرائيل أن ينفوا من المَحَلَّة كل أبرص وكل ذي سيل وكل متنجس لميت، الذكر والأنثى، إلى خارج المَحَلَّة تنفوهم لكيلا ينجسوا محلاتهم، حيث أنا ساكن في وسطهم" [2-3].
بإقامة الخيمة في وسطهم يحلّ الله وسط شعبه، لكنه كقدوس لا يحلّ حيث الدنس والخطيئة. وجود الله يعني اعتزال كل فساد ونجاسة "لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟" (2 كو 6: 14).
إن كانت الكنيسة مترفقة جدًا مع الخطاة لكنها غير متهادنة للخطيئة. إنها لا تحتمل وجود شر في حياة أولادها، إذ يقول الرسول: "ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله! إذًا نقوا فيكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير... كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة. وليس مطلقًا زناة هذا العالم أو الطمّاعين أو الخاطفين أو عبدة الأوثان، وإلاَّ فيلزمكم أن تخرجوا من العالم... لأنه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؟ ألستم أنتم تدينون الذين من داخل؟ أما الذين من خارج فالله يدينهم فاعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو: 5).
إننا لا ندين الذين هم من خارج لكن بكل قوة يلزم تنقية الكنيسة من داخل لكي لا يحمل أحد أعضائها خميرة فساد. يقول القدِّيس أنبا شنودة رئيس المتوحدين: [توجد أعمال نظنها صالحة وهي رديئة عند الله، ذلك أننا نتغاضى عن بعضنا بعضًا فنخطيء في المواضع المقدَّسة، لأن الرب لم يغرس في الفردوس أشجارًا صالحة وأشجارًا غير صالحة، بل غرسه من الأشجار الصالحة فقط، ولم يغرس فيه أشجارًا غير مثمرة أو رديئة الثمر... من هذا اعلموا أيها الإخوة الأحباء أنه لا يجب أن نملأ مساكن الله المقدَّسة من الناس الأشرار والصالحين كما في العالم المملوء من الخطاة والظالمين والقدِّيسين والأنجاس، ولكن الذين يخطئون لا يتركهم فيها بل يخرجهم. أنا أعرف أن الأرض كلها هي للرب، فإن كان بيته كباقي الأرض، فما هي ميزته إذن على غيره؟ فإن كنت وأنا الكاهن أعمل الشر كما يعمله الأشرار على الأرض فلا يحق لي أن أُدعى كاهنًا، لأنه مرارًا كثيرة نخطيء ولا نعرف كيف ندين أنفسنا بما نقول[31]].
لقد طلب الرب تنقية المَحَلَّة من كل أبرص وكل ذي سيل وكل متنجس لميت. فالبرص والسيل ولمس جثمان الميت تُعتبر هذه الأشياء نجاسة في الشريعة الموسويّة بكونه أمورًا تشير إلى ثمر الخطيئة في حياة الإنسان. لكن إذ جاء السيد المسيح القدوس وحلّ في وسطنا طهَّر المرضى بالبرص ولمس نازفة الدم فشفاها ولمس النعش ليقيم الميت. جاء ذاك القدوس الذي يسكب قداسته فينا، فيبدد برص الخطيئة ويوقف نزف الدم المهلك للنفس ويقيمنا من الموت الأبدي.
2. تنقية كل مؤمن:
طهارة كل المَحَلَّة تقوم على طهارة كل عضو فيها بتقديم توبة صادقة وعمليّة، إذ أوصى كل من يخطيء:
أ. يقر بخطيئته التي ارتكبها (ع 7).
ب. يرد ما أذنب به أو اغتصبه، فلا تكون التوبة مجرد اعتراف بالخطأ لكن رد ما سلبه من حق الآخرين مضافًا إليه الخمس.
ج. تقديم ذبيحة للكفارة. إن كنا نرد لإخوتنا ما سلبناه منهم مضافًا إليه الخمس لمصالحتهم، كيف نرد لله حقه إلاَّ من خلال ذبيحة الصليب الكفاريّة؟
3. تنقية كل عائلة:
يمتد التقديس إلى كل عضو كما إلى عائلة بكونها كنيسة البيت المقدَّسة. لقد اهتم بتقديس البيت وتطهيره خاصة من الخيانة الزوجية، إذ يتطلع الله إلى الزنا كأبشع خطيئة خلالها ينحَلّ البيت ويفقد الرجل والمرأة وحدتهما في الرب.
إن اعترفت المرأة الزانية تطلق ولا تأخذ مهرها، أما إن لم تعترف تشرب من الماء المقدَّس الذي يضعه الكاهن في إناء خزفي ويزرّي عليها غبار من مسكنها فيصير ماءً مُرًا، تشربه وهي عارية الرأس، فإن كانت مخطئة تتورم بطنها ويسقط فخذها أي يصيبها نوع من الشلل وتصير عارًا أمام الجميع. أما إن كانت طاهرة فتلد وتنال مجدًا. هذه هي شريعة الغيرة على الزوجة.
لقد أراد الرب قداسة البيت بكونه صورة مُصغّرة للجماعة كلها لا تقوم على الخطيّة بل على القداسة الحقيقيّة، إما أن يعترف الإنسان بزناه فينحل البيت ويقدم المخطيء توبة لله، وإما أن يتستر فيفضحه الله ويصير في آلام وجسديّة ونفسيّة ويتحطم اجتماعيًا بجانب هلاكه الأبدي. والعجيب أن الله تسلم هذا الأمر بنفسه ليعطي طمأنينة للطرف المضرور أو البريء. إنما على الرجل أن يتقدم لله في كنيسته مقدمًا مع امرأته قربانها من "الإيفة من طحين شعير لا يصب عليه زيتًا ولا يجعل عليه لبانًا، لأنه تقدمة غيرة، تقدمة تذكار تذكر ذنبًا" [15]. لا يصب عليه زيت لأنه تقدمة مرّ إذ تمررت نفس رجلها، وبسبب عدم اعترافها- إن كانت خاطئة- فإنها تنفضح وليس من زيت يُطيِّب جرحها ولا من لبان (صلاة) يشفع فيها! هذا نصيب الإنسان الذي يكتم خطاياه، فإنه لا ينجح.
حقًا ما أحوجنا في مشاكلنا العائليّة أن نتقدم بمرارة قلبنا لله في كنيسته ويعترف كلٍ منا بخطئه ونقدم نفوسنا المُرّة قربانًا له... وإذ نلقي بأتعابنا على الله لا نعود نتشكك في بعضنا البعض!
في هذه الشريعة الغبار يشير إلى الموت، يحوِّل المياه إلى مرارة، بينما الماء يشير إلى الكلمة- وكأن كلمة الله يصير سرّ حياة لحياة وموت لموت. إنه يفضح النفس إن كانت متعجرفة ودنسة تدخل تحت الموت واللعنة والمرّ، وإن كانت طاهرة كعروس للمسيح مقدَّسة فيه فتحمل مجدًا وتلد ثمار الروح ويكون لها فضائل كثيرة. لهذا يقول المرتل: "اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري، وانظر إن كان فيَّ طريق باطل واهدني طريقًا أبديًا" (مز 139: 23-24).
الأصحاح السادسنذير الرب
بعد أن أعلن الالتزام بالتطهير على المستوى العام والشخصي والعائلي قدَّم شريعة خاصة بالذين يقدمون حياتهم مكرَّسة للرب أي للإنسان النذير.
1. نذير الرب 1-2.
2. صفاته والتزاماته 3-8.
3. تطهيره إذا لمس ميتًا 9-12.
4. شريعة إكمال أيام نذره 13-21.
5. مباركة الكهنة الشعب 22-26.
1. نذير الرب:
"وكلَّم الرب موسى قائلاً: كلِّم بني إسرائيل وقل لهم إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب" [1-2]. ولكي نفهم شريعة النذير الواردة هنا نقدم فكرة مبسطة عن نذير الرب عند اليهود قديمًا.
كلمة "نذير" مأخوذة عن الفعل العبري "نذر" أي "تكرَّس" أو "تخصَّص". ففي سفر التكوين إذ بارك يعقوب أولاده طلب لابنه يوسف أن تحلّ عليه بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت... فدعاه "نذير إخوته" (تك 49: 26)، كأن قلبه قد تخصَّص للرب. وفي مراثي إرميا دعى أشراف أورشليم بهذا اللقب لتوبيخهم، إذ قيل "كان نذرها أنقى من الثلج وأكثر بياضًا من اللبن... صارت صورهم أشد ظلامًا من السواد" (4: 7-8). كأن النذير يجب أن يكون نقيًا وطاهرًا لكن للأسف وُجد أشد ظلامًا من السواد، عِوَض أن يتكرَّس قلبه للنور الإلهي سلَّم قلبه لظلمة الخطيئة.
لكن هذا اللقب خصّص للذين كرَّسوا وقتهم لله بناء على تعهد يتعهد به أناس في حضرة الرب. هؤلاء منهم من نُذروا وهم في بطون أمهاتهم وبقوا هكذا كل أيام حياتهم نذيرين للرب، ومنهم من نُذروا لمدة معينة. من هؤلاء النذيرين شمشون (قض 13: 5) وصموئيل (1 ص 1: 11) ويوحنا المعمدان (لو 1: 15) ولا يزال نذر الأبناء لمدة محددة شائعًا في الشرق خاصة بين إخوتنا الكاثوليك ولعل فكرة بيوت العذارى وجماعات المتبتلين التي ظهرت في الكنيسة الأولى وتطورت حتى ظهرت الحركة الرهبانيّة بكل أشكالها جاءت عن فكرة نذر الإنسان حياته لله، مشتاقًا أن يقدِّم كل طاقاته للعبادة، متخليًا بمحض إرادته عن مباهج الحياة الزمنيّة المحلّلة وعن كل رباط دموي لكي لا ينشغل إلاَّ بالله موضوع حب.
وما ورد في هذا الأصحاح لا يخص المنذورين كل أيام حياتهم بل لفترة من الزمن.
2. صفاته والتزاماته:
أ. لعل أهم سمة للنذير أنه "نذير الرب"، أي يقدم حياته بكل طاقاتها لخدمة الله والعبادة له. في العهد القديم غالبًا ما كان النذير يقضي وقته في دراسة الشريعة وممارسة العبادة وأعمال المحبة للآخرين. كأن أساس النذر هو انشغال الإنسان بالله ووصيته وخدمته في إخوته الأصاغر.
ب. ترك مباهج العالم، فقد حرم النذير ليس فقط من شرب الخمر والمسكر وإنما أيضًا "لا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا. كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم (البذار) حتى القشر" [3-4]. يرى الأب ميثوديوس أن الكرمة نوعان: مقدسة وشريرة، وكأن النذير وهو يشرب من عصير كرم الله يلتزم بالتوقف عن عصير الكرمة الشريرة، إذ يقول: [هذا يعني أن الذي يكرِّس حياته للرب ويقدمها له لا يأخذ من ثمر زرع الشر... إذ يسبب سكرًا وتشتيتًا للذهن. فإننا نعلم من الكتب المقدَّسة نوعين من الكرمة تنفصل الواحدة عن الأخرى، وهما غير متشابهتين، واحدة تنتج خلودًا وبرًا والأخرى تنتج جنونًا وعتهًا[32]].
إن كان المسكر يفسد ذهن الإنسان ويفقده اتزانه فإن النذير ليس فقط يمتنع عن المسكر والخمر بل وكل ما يمت إليه بِصِلَة، فلا يشرب حتى عصير العنب الطازج أو المجفف ولا ما يعمل من العنب أو حتى بذاره أو قشرته! إنه من أجل الرب يترك حتى ما هو محللاً بمحض إرادته، لا كشيء دنس أو نجس يهرب منه ولكن لكي يهتم بالطعام الآخر، قائلاً مع السيد المسيح "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4).
اعتبر الرب من يقدم خمرًا للنذير كمن يعثره ويجربه (عا 2: 11). ولعل الله أمر بامتناعهم عن الخمر خشية أن يسكروا فينسوا الوصيّة الإلهيّة (أم 31: 5، إش 28: 7)...
لقد تطلَّع اليهود إلى السيد المسيح كنذير لكنهم فوجئوا به يبدأ خدمته بتحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل، يشارك الخطاة ولائمهم فاتهموه أنه أكول وشريب خمر، أما هو فقد أراد أن يوجه أنظارهم إلى المفهوم الروحي للتكريس لا الوقوف عند الحرف القاتل والشكليات الناموسيّة.
ج. التخلي عن المجد الزمني: يقول الرسول بولس "أم ليست الطبيعة تعلمكم أن الرجل إن كان يرخي شعره فهو عيب له!" (1 كو 11: 14)، ومع هذا يطلب الله من النذير أن "لا يمر موسى على رأسه، إلى كمال الأيام التي انتذر فيها للرب يكون مقدسًا ويربي خصل شعر رأسه" [5]. ففي ترك الشعر تنازل عن كرامته الزمنيّة وعدم انشغال بالجسديات، معطيًا الفرصة لنفسه أن ينشغل بالسماويات وأمجادها. لقد حاول اليهود أن يقيموا السيد المسيح ملكًا أرضيًا فاختفى عن أعينهم!
د. عدم الانشغال بعلاقات جسديّة دمويّة. يطلب الله من النذير ألاَّ يحزن عند انتقال أقربائه حسب الجسد، إذ يقول: "لا يتنجس من أجلهم عند موتهم لأن انتذار إلهه على رأسه" [7]. إنه يريد أن يرتفع بالنذير إلى فوق العلاقات الجسديّة، فيرى في الكل إخوته وعائلته، يهتم بخلاص نفوسهم وأبديتهم. لهذا قال السيد للذي استأذنه أن يدفن أباه "دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله" (لو 9: 60). وحينما قيل له: "هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك" (مت 12: 47) مدَّ يده نحو تلاميذه وقال "ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي". إنه لم يرفض العلاقات الدمويّة لكنه رفعنا لنرى في كل المؤمنين أعضاء معنا في العائلة السماويّة، فتبتلع الشركة الروحيّة كل علاقة جسديّة وترتفع بها.
3. تطهيره إذا لمس ميتًا:
ارتبط الموت بالخطيئة كثمرة من ثمارها، لهذا حُسب لمس الميت نجاسة حسب الشريعة اليهوديّة، حتى وإن كان الميت نبيًا أو قدِّيسًا، لهذا حذَّر على النذير من لمس الميت. فإذا حدث موت مفاجيء فتنجس رأس النذير، يبقى النذير سبعة أيام ثم يحلق رأسه يوم طهره، وفي اليوم الثامن يقدم يمامتين أو فرخي حمام إلى الكاهن إلى بيت خيمة الاجتماع، فبقدم الكاهن ذبيحة خطيئة ومحرقة ليكفر عنه، ويبدأ النذير أيام نذره من جديد وتسقط الأيام الأولى لأنه نجس انتذاره.
مع أن ما حدث تم فجأة ولا ذنب للنذير فيها لكنه هكذا أراد الله أن يوضح لنا مدى بغضه للدنس وحبه للقداسة والطهارة، فإن الدنس حتى وإن جاء فجأة بغير إرادة لكنه يرد الإنسان إلى حيث بدأ من جديد ويفقده أيام جهاده الأولى. لقد أخطأ أبونا إبراهيم بذهابه إلى مصر (تك 12) فبدأ مسيرته من جديد (تك 12: 8)، إذ ذهب إلى الموضع الذي سبق أن كانت فيه خيمته بين بيت إيل وعاي، إلى موضع المذبح الذي عمله هناك أولاً (تك 13: 3-4). لقد خسر إبراهيم هذه الفترة من حياته لأنه انحرف عن الطريق الذي رسمه له الرب، وبعد مشقة بدأ من نقطة البداءة. حقًا إن الاستسلام للضعف مرة يفقد الإنسان الكثير من البركات الإلهيّة التي تمتع بها، ويجعل حياته فاترة وبالجهد يبدأ من جديد!
4. إكمال حياة النذير:
قلنا أن الحديث هنا خاص بالنذير لفترة محدودة، وقد جاء في التلمود أن الحد الأدنى للنذر هو ثلاثون يومًا، حتى وإن نذر الإنسان مدة أقل. غير أننا قرأ في سفر أعمال الرسل (21: 27) عن بولس الرسول أنه نذر نفسه لمدة أسبوع.
عند إكمال النذير أيام نذره يلتزم بطقس معين يكشف الأساس الروحي الذي عليه تُبنى حياتنا في المسيح يسوع ربنا، حيث صارت مُكرَّسة له، هذه التي يصير كمالها بالحق عندما نخلع خيمتنا الأرضيّة وندخل إلى الراحة في حضن الآب. وقد جاء الطقس هكذا:
أ. يقدم النذير ذبيحة محرقة وسلامة وتقدمة، الأمور التي تمثل جوانب متمايزة ومتكاملة لسرّ الصليب[33]. وكأن نذرنا وجهادنا في هذا العالم لن يقبل ولا يصير كاملاً إلاَّ من خلال ذبيحة الصليب الكفاريّة.
ب. يقدم النذير تقدمة أخرى قدر إمكانيته (ع 21)، وهي غير محدودة. وكأن ذبيحة المسيح الكفاريّة تلتحم مع تقدمتنا ما استطعنا، فيرتبط حب الله بحبنا، وعمل الله المجاني بجهادنا. لقد ترك باب العطيّة مفتوحًا لكي يتسع قلبنا من يوم إلى يوم بالحب الباذل في غير حدود.
ج. يحلق شعره ويلقي به في نار ذبيحة السلامة لتعود إليه كرامته لا على أساس زمني عالمي بل كرامة شركة الأمجاد الأبديّة. أما إلقاء الشعر في نار ذبيحة السلامة فيشير إلى دموع المجاهدين التي يمسحها السيد المسيح بيديه في اليوم الأخير، وتصير أتعابهم وجهادهم سرّ سلام أبدي فائق في المسيح يسوع الممجد.
د. يشرب خمرًا كرمز إلى التمتع بالفرح والبهجة عِوَض الأتعاب والأحزان التي قبلناها في هذا العالم من أجل الإيمان بالسيد المسيح ربنا.
هكذا يكمل طقس إكمال أيام نذرنا حينما نخرج من هذا العالم، مختفين في ذبيحة الصليب المجانيّة مقدِّمين جهادنا الذي مارسناه بنعمته الإلهيّة، فيمسح الله دموعنا ويملأ حياتنا بالفرح الأبدي.
هذا الطقس في الحقيقة لا يكمل فينا إلاَّ لأن السيد المسيح رأسنا قد أكمله على مستوى إلهي فائق، فمن أجلنا صار كنذير مقدمًا حياته في طاعة كاملة لأبيه. إنه لم يقدم ذبائح وتقدمات خارجيّة بل بذل حياته مقدمًا جسده ودمه المبذولين ذبيحة حب للآب عنا، فيها نجد نار المحبة الإلهيّة مشتعلة خلال ذبيحة السلام الحقيقي. إن كان كل نذير ملتزم أن يقدم تقدمة قدر إمكانياته فالسيد قدَّم حياته التي وحدها قبوله لدى الآب، قدم إمكانياته الإلهيّة غير المحدودة، فصرنا جميعًا مقبولين لدى أبيه خلاله. أما حلق شعر النذير فيشير إلى كمال الحريّة التي وهبها لنا هذا النذير الإلهي خلال نار صليبه. وأما شرب الخمر فيشير إلى روحه القدوس المعزّي الذي يهبه لنا في كنيسته المقدَّسة يملأ حياتنا سلامًا وفرحًا حتى في أمر لحظات التوبة.
5. مباركة الكهنة الشعب:
ختم الرب حديثه عن النذير بالكشف عن سرّ البركة التي يتمتع بها الشعب خلال كهنته. لعل الرب خشى أن يسقط النذير في الكبرياء فيظن في نفسه أنه أفضل من إخوته، لهذا أوضح أنه حتى البركة التي تحلّ على الشعب بواسطة الكهنة هي عطيّة الله نفسه، يقدمها الثالوث القدوس، وما الكهنة إلاَّ وسيلة يسألون الله ثلاث مرات ليبارك الثالوث القدوس الشعب، فقد كلَّم الرب موسى قائلاً:
"كلَّم الرب هرون وبنيه قائلاً: هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم:
يباركك الرب ويحرسك،
يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك،
يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا،
... وأنا أباركهم" [22-27].
هكذا يؤكد الرب أنه هو الذي يبارك لا الكهنة، مهما علت درجتهم، هو الذي يحرس وهو الذي يرحم وهو الذي يمنح السلام.
الأصحاح السابعقرابين الشعب
إذ مُسحت الخيمة وقُدِّست جميع الأمتعة والمذبح وأمتعته جاء الاثنا عشر رئيسًا يقدمون تقدمة عامة باسم الجماعة كلها، وعند تدشين المذبح تقدم كل رئيس حسب دوره بتقدمة خاصة باسم السبط.
1. القربان العام 1-9.
2. قربان كل سبط 10-89.
1. القربان العام:
بعد مسح الخيمة والمذبح وأمتعتهما تقدم الاثنا عشر رئيسًا بروح واحد ليقدموا ستة عجلات مغطاة، لكل عجلة ثوران يجرانها. فتسلَّم بنو جرشون عجلتين بأربعة ثيران وتسلَّم بنو مراري أربعة عجلات بثمانية ثيران تُستخدم في حمل أعمدة الخيمة... أما بنو قهات فلم يتسلموا شيئًا إذ يحملون المقدَّسات على أكتافهم.
ويلاحظ في هذا الأمر:
أولاً: أن التقدمة قد وُهبت باسم الجماعة كلها قبل أن يسلم كل سبط تقدمته. فإن كان الله يريد العلاقة الشخصيّة بينه وبين كل عضو، لكنها ليست علاقة فرديّة انعزاليّة، إنما تنبع خلال الروح الجماعيّة أو روح الشركة التي تربط الكنيسة معًا كجسد واحد. هذا ما ركَّز عليه العهدين الجديد والقديم: الالتقاء مع الله علاقة شخصيّة خفيّة خلال روح الشركة الجماعيّة.
ثانيًا: تسلَّم بنو جرشون وبنو مراري احتياجاتهم للخدمة من المسكن لا من أيدي رؤساء الأسباط، فلا يشعر الخادم أنه يعمل لدى بشر أو محتاج إليهم مهما يكن مركزهم الديني أو إمكانياتهم الماديّة. إنه يعمل كشاهد للرب نفسه ولحسابه لا لحساب الناس.
ثالثًا: لم يتسلَّم بنو قهات عجلات أو ثيران مع أنهم الرتبة العظمى في اللاويّين، إذ يحملون المقدَّسات الإلهيّة على أكتافهم. إنهم لا ينالون من هذه العطايا، لكن العطيّة التي وُهبت لهم أعظم من الكل، إذ صاروا هم أنفسهم كمركبة مقدسة تحمل الأسرار الإلهيّة. هكذا عطيّة الله العظمى لنا أن نصير بروحه القدوس الناري مركبة إلهيّة أو كاروبيمًا نحمل الله في داخلنا!
رابعًا: عدد العجلات الحاملة للخيمة ومحتوياتها ستة، وهي عدد أيام العمل في الأسبوع، إشارة إلى التزامنا بالعمل المستمر والجهاد الدائم مادمنا في هذا العالم، حاملين مقدَّسات الله، متجهين في بريّة هذا العالم نحو أورشليم العُليا لكي ندخل في اليوم السابع، أو السبت الحقيقي راحتنا الكاملة في المسيح يسوع ربنا. أما عدد الثيران فاثنا عشر ثورًا، يشيرون إلى الملكوت (رقم 12) على الأرض[34].
2. قربان كل سبط:
إن كان الله يطلب فينا روح الشركة والوحدة فهو يفرح بعلاقاتنا الشخصيّة معه، لهذا أعطى الفرصة لكل سبط أن يقدم تقدمة باسمه في يوم خاص به، ويلاحظ في هذه التقدمات:
أولاً: قدَّم رؤساء الأسباط هدايا ثمينة، عبَّرت عن فرح الجميع بعمل الله معهم.
ثانيًا: أخذ كل سبط دوره، لكن التقدمات جاءت متساوية حتى لا يفتخر عضو على آخر، أو يحتقر الواحد نفسه وتصغر نفسه في عينيه... وكأن الله قبل عطايا متساوية إعلانًا عن مساواة الجميع في عينيه وعدم محاباته لأحد!
ثالثًا: تقدم سبط يهوذا بقية الأسباط في العطاء، لأنه يحمل رمزًا للسيد المسيح بتقديم نفسه عطيّة حب وطاعة قُبلت عطايا المؤمنين فيه.
رابعًا: أطال السفر الحديث عن التقدمات الاختياريّة مكررًا نوع التقدمة بنفس الكلمات من كل سبط، وفي النهاية يقدم حسابًا إجماليًا للتقدمات، إنما يعلن فرحة الله بقلوب أولاده متسعة بالحب له. إنه أب يفرح بعطايا أولاده لا عن احتياج بكونها علامة البنوة الصادقة له. فقد أكد السيد قبوله هذه العطايا بحديثه العلني مع عبده موسى خلال الكاروبين من على غطاء التابوت.
خامسًا: كانت تقدمة كل سبط تتكون من:
أ. طبق من الفضة يزن حوالي 60 أوقية توضع عليه اللحوم.
ب. منضحة (سلطانية أو كوب) من الفضة تزن حوالي 35 أوقية، توضع فيها التقدمات للشرب، أو ربما تستخدم لنضح دم الذبائح فيها.
ج. صحن (ملعقة) من الذهب تزن حوالي خمسة أوقيات، غالبًا ما تستخدم لمذبح البخور.
د. ثور وكبش وخروف حولي كذبيحة محرقة.
هـ. تيس من المعز ذبيحة خطيّة، فإنه في وسط الفرح والبهجة لا ينسى الإنسان تمتعه بغفران خطاياه خلال الذبيحة المقدَّسة.
و. ثوران وخمسة كباش وخمسة تيوس وخمسة خراف حَوْليّة ذبيحة سلامة. وكأن سرّ فرحنا الحقيقي أن نجد في المسيح يسوع الذبيح تقديسًا لحواسنا الخمس وكل طاقاتنا الداخليّة.
هكذا اشترك كل سبط في هذه التقدمات والذبائح، كما قدم بخور شهدت صحونهم عن حاجتهم للصلاة لله، والمنضحة عن حاجتهم للدم المقدَّس لتطهيرهم...
الأصحاح الثامنسيامة اللاويّين
ربط الوحي الإلهي بين إضاءة المنارة الذهبيّة وسيامة اللاويّين أو تطهيرهم، وكأنه أراد أن يعلن أن خدامه منارة سماويّة تضيء في العالم.
1. إضاءة المنارة الذهبيّة 1-4.
2. سيامة اللاويّين 5-22.
3. مدة الخدمة 23-26.
1. إضاءة المنارة الذهبيّة:
للمرة الأولى يقوم رئيس الكهنة هرون بنفسه برفع السُرُج وإضاءتها كأمر الرب. وقد جاء هذا الطقس قبل سيامة اللاويّين مباشرة لتأكيد حقيقة عملهم أنه ليس مجرد حمل الخيمة ومساعدة الكهنة في أعمال ظاهرة إنما الاستنارة بالسيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم لكي يضيئوا وسط إخوتهم (مت 5: 15).
المنارة بسرجها السبع إنما تشير إلى عمل الروح القدس الكامل في حياة الكنيسة (رؤ 4: 5)، خاصة خلال الأسرار السبعة. وكأن خدام الله إذ يضيئهم السيد المسيح بروحه القدوس الناري يصيرون سراجًا سماويًا مملوءً بزيت النعمة، ملتهبًا على الدوام ليل نهار، يحرق الشر وينير النفوس.
في هذه المنارة يرتبط عمل الكتاب المقدَّس بالسيد المسيح المصلوب والروح القدس في الخدام، فيقال أن العادة عند اليهود أن الكاهن يقوم بإشعال السِراج الذي في الوسط من نار المذبح، ومن هذا السِراج تضاء بقية السُرُج. هذه السُرُج كانت تُصنع من ثياب الكهنة القديمة. إن كانت المنارة الذهبيّة تشير إلى الكتاب المقدَّس الذي هو السِراج المنير للنفوس، فإن الخادم الحقيقي يختفي في الكتاب المقدَّس أو الوصيّة الإلهيّة فلا يضيء هو بل كلمة الله هي التي تضيء الطريق في حياة الخادم كما في حياة المخدومين. يقوم الكاهن بإضاءة السِراج الذي في الذي في الوسط من نار المذبح، وكأن هذه الاستنارة في حياة المخدومين إنما تتحقق بالمسيح يسوع الكاهن الأعظم الذي يُشعل قلوبنا الداخليّة بنار روحه القدوس من خلال نار الصليب او المذبح، إذ يأخذ الروح مما للمسيح ويخبرنا. يحمل في وسطنا نار الصليب الذي يحرق الشر ويهب استنارة لا تنقطع، وبهذا تستنير السُرُج المحيطة من هذا السِراج الذي هو في الوسط.
النار الملتهبة في قلبنا كما في السِراج الذي في الوسط هي نار الروح القدس التي تعلن مجد المسيح وعمله بكونه مركز الكتاب المقدَّس بعهديه، فينعم علينا بالأسرار الإلهيّة في المسيح يسوع.
أخيرًا فإن فتائل السُرُج تُصنع من ثياب الكهنة القديمة، فإن كانت الثياب تشير إلى الجسد، فإن هذه السُرُج إنما تمثل الأتعاب التي يعيشها الكهنة والخدام حتى تتمزق أجسادهم وتبلى... لكنها لا تساوي شيئًا في ذاتها بل تكون كثوب قديم بلا ثمن. أما إذا أشعلها الكاهن بنار الروح المنطلق إلينا خلال الذبيحة تتحوَّل هذه الثياب البالية سرّ استنارة للكثيرين.
2. سيامة اللاويّين:
في سفر اللاويّين (أصحاح 8) ورد طقس سيامة الكهنة، وهنا يعرض طقس سيامة اللاويّين. في هذا الطقس يظهر عمل الله نفسه في تقديس هذه النفوس لكي تتأهل لخدمته المقدَّسة، لهذا يُقدِّم عنهم ذبيحة خطيّة ومحرقة للرب للتكفير عنهم (ع 12). ويقوم هرون وبنيه بترديدهم ترديدًا للرب (ع 13). الله هو الذي يتقبلهم كهبة من الشعب، وهو بنفسه الذي يهيئهم للعمل في بيته.
في هذا الطقس يشترك اللاويّون أنفسهم، وموسى النبي، وهرون الكاهن، وكل الجماعة (أي الرؤساء العلمانيّون). كلٌ له دوره وعمله ومسئوليته في هذا الطقس. فمن جهة اللاويّين يمروا موسى على كل بشرهم ويغسلوا ثيابهم (ع 7)، علامة التزامهم بالحياة المقدَّسة الطاهرة النقيّة. تمرير الموسى على جسدهم إشارة إلى نزع كل ما تعلق بالجسد من دنس، وغسل الثياب التي هي رمز الجسد علامة النقاوة. أما موسى النبي مستلم الشريعة وممثل الوصيّة الإلهيّة فينضح عليهم ماء التطهير أو ماء الخطيّة (ع 7). كأن سرّ تطهير الخدام هو ارتباطهم بكلمة الله التي تكشف خطيتهم وتسندهم على التوبة. يقوم هرون بدور رئيسي في الطقس إذ هو وبنوه يتقبلون هؤلاء اللاويّين هبة الشعب لله وفي نفس الوقت يُعيّنهم الله مساعدين للكهنة (ع 19). أما الشعب أو بمعنى آخر رؤساء الشعب فيضعون الأيدي على اللاويّين (ع 10) وكأن ما يفعله الشعب إنما يتحمل الخدام مسئوليته أمام الله، ومن جهة أخرى كأنهم يقدمون اللاويّين عطيّة من الشعب لله بأيديهم، كما يقدم الابن العطيّة بيديه لأبيه.
وقد حاول سفر العدد تأكيد أن خدام الله ليسوا فقط هبة من الله لخدمة ورعاية شعبه، وإنما هم عطيّة الشعب لله الذي يتقبلهم كبكور الشعب فيتبارك الكل بسببهم. لهذا لا يجوز سيامة بطريرك أو أسقف أو كاهن أو شماس بدون الشعب... إذ يلزم أن يتقدم الشعب بنفسه لله، يقدمه هبة حب لله ليتقبله من يدي الله هبة منه لشعبه.
إنني أرى في هذا صورة رمزيّة للخادم الحق "السيد المسيح"، الذي هو عطيّة الآب للبشريّة لخلاصها، وفي نفس الوقت هو ذبيحة حب تقدم للآب باسم البشريّة يتقبلها علامة رضا عنا. ففي سرّ الإفخارستيا يتقبل الله قرابين شعبه خلال الصليب، ويتقبل الشعب من الآب جسد ابنه ودمه سرّ اتحاد معه وتقديس لهم. إنه علامة الحب المشترك فيه يتلاقى الآب مع البشريّة، ويكون هو تقدمة كل طرف للآخر.
3. مدة الخدمة:
سبق لنا الحديث عن مدة الخدمة وما تحمله من معنى رمزي أثناء حديثنا عن الأصحاح الرابع.
الأصحاح التاسعالقيادة الإلهيّة
إن كان الله قد أقام موسى نبيًا وهرون رئيس كهنة وسام الكهنة واللاويّين، لكن الرعاية الحقيقيّة هي في يدّ الله الذي يعمل خلال خدامه وشعبه، لهذا وإن كان الله قد وهب الجماعة وصاياه وشرائعه وأقام لهم خدامه لكننا نرى في هذا الأصحاح الخدام يرجعون لله في كل صغيرة وكبيرة بكونه الراعي الحقيقي لشعبه.
1. إقامة الفصح في السنة الثانية 1-5.
2. موقف غير المستعدين 6-14.
3. الله كقائد لكل تحرك روحي 15-23.
1. إقامة الفصح في السنة الثانية:
صدرت الأوامر الإلهيّة لموسى النبي في بدء السنة الثانية قبيل عمل الإحصاء بالاحتفال بعيد الفصح بكونه العيد الأول بعد خروجهم، وكان لإقامته أهمية خاصة فإن الفصح قبل العبور مباشرة كان على عجلة لكي يخرجوا الأمر الذي جعل أولادهم لا يدركون طقسه، هذا بجانب أحداث الخروج وما سبقها من آيات وعجائب وما تلاها من عبور البحر الأحمر وهلاك فرعون وجنوده... الخ. الأمر الذي يُخشى أن يصير خروف الفصح جزءًا عاديًا بين الأحداث. لقد أراد الله هنا أن يبرز دور الفصح في بدء انطلاقهم في البريّة، ويبقى هذا الأمر يشغل أذهانهم حتى في أرض الموعد إلى مجيء الفصح الحقيقي الذي يذبح لأجلنا.
وقد سبق أن تحدثنا عن ارتباط الفصح الرمزي بكل طقوسه بالفصح الحقيقي.
لقد أراد هنا أن يوضح أن الفصح ليس حدثًا ماضيًا تم وعبر، لكنه حدث قائم، من يُهمل في التمتع به يُقطع من الشعب (ع 13).
2. موقف غير المستعدين للفصح:
ظهرت مشكلة جديدة وهي ماذا يفعل الذين تنجسوا بميت أو كانوا على سفر بعيد؟ لقد سأل الشعب موسى النبي، فأجاب الأخير: "قفوا لأسمع ما يأمر به الرب من جهتكم" [18]. هكذا يؤكد موسى النبي أنه لا يتصرف في كبيرة أو صغيرة دون طلب مشورة الله نفسه. هذا هو سرّ قوة الكنيسة وكل عضو فيها أن يطلب مشورة الله لا الناس.
لم يحرم الله من تنجس بميت- بغير إرادته- أو كان في سفر بعيد من إقامة الفصح لكنه قدم لهم فرصة ممارسته في الشهر الثاني بدلاً من الأول، أما من يمتنع عن ممارسة طقسه بلا سبب فتُقطع نفسه من شعب الله.
3. الله يقود كل تحرك روحي:
لم يترك الله شعبه في البريّة في حيرة ولا حتى تحت إرشاد بشري بل تولى قيادتهم بنفسه يوضح لهم متى يستقرون ومتى يرحلون. فكان يظهر لهم على شكل سحابة نهارًا وعمود كما بنار ليلاً. فإن استقرت السحابة على خيمة الاجتماع توقفوا حتى ترتفع فيرتحلون إلى حيث تتجه السحابة.
الأصحاح العاشر1-10
لغة الأبواق
أمر الله موسى النبي أن يصنع بوقين من الفضة يُستخدمان في مناداة الجماعة، كما في الرحيل، وفي الحرب، وفي الأعياد. كانت الأبواق هي اللغة التي يتحدث بها الكهنة ليعرف الكل ما يجب أن يفعلوه، فبنغمات معينة يعرف رؤساء الجماعة أنهم مدعوون للاجتماع، وبأخرى تعرف الجماعة كلها أنها مدعوة للاجتماع. هناك نغمة خاصة لكي تبدأ مَحَلَّة يهوذا بالتحرك من خلالها أيضًا تعرف اتجاه التحرك، ونغمة خاصة لتتحرك مَحَلَّة رأوبين وهكذا... نغمة خاصة بالحرب غير التي للاحتفال بعيد.
تُصنع الأبواق من الفضة لأنها تشير إلى كلمة الله كقول المرتل "كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة في بوطة في الأرض ممحوصة سبع مرات" (مز 12: 6). هذه هي لغة الكهنة، أن ينطقوا بكلمة الله على الدوام ليحثوا أولاد الله على الاجتماع بروح الشركة، أو حثهم على الجهاد أثناء سيرهم في بريّة هذا العالم. هي سرّ نصرتهم في حربهم الروحيّة، وهي سرّ فرحهم وتهليل قلبهم في عيدهم الممتد بلا انقطاع.
يتحدث القدِّيس ﭽيروم عن هذين البوقين قائلاً: [نقرأ في سفر العدد عن نوعين من الأبواق: واحد طويل من الفضة والآخر بوق نفير (صور). ورد هذان النوعان في القول "بالأبواق وصوت الصور" (مز 98: 6). اسمع إلى أي شيء يرمزان؟ البوق الطويل الفضي هو كلمة الله ووعوده الصادقة كفضة مصفاة، نقيّة من الشوائب، ممحصة سبع مرات (مز 12: 6). أما الصور فيمثل كلمة الله في كل سلطانه، إذ يشير الصور في الكتاب المقدَّس إلى المملكة والسلطان، كما هو مكتوب "يرتفع قرن (صور) خلاصنا[35]" (لو 1: 69)].
ويتحدَّث البابا أثناسيوس الرسولي عن أهمية الأبواق في العهد القديم قائلاً: [متى سمع أحدكم الناموس يوصي باحترام الأبواق لا يظن أن هذا أمر تافه أو قليل الأهمية، إنما هو أمر عجيب ومخيف. فالأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مستخدمة لتعليمهم إذ كانوا لا يزالون أطفالاً... ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشريّة، فقد كانت أصواتها تشبه تلك التي حدثت على الجبل (خر 19: 16) حين ارتعدوا هناك، ومن ثم أُعطيت لهم الشريعة ليحفظوها[36]].
وقد أوضح القدِّيس إمبروسيوس أن الضرب بالأبواق أي كلمة الوعظ بالإنجيل هي من اختصاص الكهنة بقوله: [ليس كل أحد يضرب بالبوق، ولا يدعو الآخرين للاجتماع المقدَّس، إنما منح هذا الامتياز للكهنة وحدهم، فيضرب خدام الله بالأبواق حتى أن من يسمع الصوت ويأتي هنا حيث يوجد مجد الرب ويصمم على التبكير إلى خيمة الشهادة يعاين الأعمال الإلهيّة ويستحق المواضع الإلهيّة الذي هو الميراث الكل لنسله[37]].
وفي العهد الجديد استعاضت الكنيسة بالأجراس عِوَض الأبواق، وقد سبق لنا الحديث عنها[38].
الباب الثاني
من سيناء إلى موآب
ص 10: 11- ص 21
الأصحاح العاشر11-36
ارتحال الشعب
بدأت الرحلة من جبل سيناء بعد أن تحدَّث الله مع عبده موسى وسلَّمه الشريعة وأمره بإقامة الخيمة بأدواتها خاصة تابوت العهد، الذي صار يمثل الحضرة الإلهيّة.
1. ارتحال الشعب 11-28.
2. دعوة حمي موسى لمشاركتهم 29-32.
3. تابوت العهد يتقدمهم 33-36.
1. ارتحال الشعب:
قدَّم لنا الوحي الإلهي عينة من قيادة الله لشعبه أثناء الرحلة، فقد ارتفعت السحابة عن الخيمة متجهة نحو بريّة فاران، فأطلق الكهنة البوق ليبدأ الموكب حسبما أمر الرب بنظام دقيق. انطلقت الكنيسة كلها على شكل صليب كما سبق فقلنا، يبدأ براية مَحَلَّة يهوذا التي تتكون من ثلاث أسباط يتقدم كل سبط رئيسه، ثم مَحَلَّة رأوبين ثم يرتحل اللاويّون في الوسط فمَحَلَّة أفرايم وأخيرًا مَحَلَّة دان.
2. دعوة حمي موسى لمشاركتهم:
فرح موسى النبي بهذا الموكب المملوء فرحًا والمتجه نحو أرض الموعد، ففي فرحه دعى حوباب بن رعوئيل المدياني، أي حميه الذي هو بنفسه يثرون، وإن كان البعض يرى أنه ابنه لأن يثرون اضطر إلى العودة لكِبَر سنه (خر 18: 27).
قال موسى لحوباب: "إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه. اذهب معنا فنحسن إليك، لأن الرب قد تكلَّم عن إسرائيل بالإحسان... لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البريّة تكون لنا كعيون" [29-31]. إن انفتاح قلب موسى ليشاركه هذا الغريب الجنس فيما وعد الرب شعبه كان علامة لقبول الأمم في كنيسة العهد الجديد للتمتع بمواعيد الله.
لم نسمع أي إجابة من حوباب بعد أن كرر موسى له الدعوة، ولعل صمته يعني موافقته وقبوله الدعوة، إذ نسمع عن أفراد عائلة حمي موسى في كنعان (قض 1: 16، 1 صم 15: 6).
إن دعوة موسى هذه حملت نبوة واتساع قلب وحبًا، لكنها أيضًا حملت نوعًا من الضعف، ففيه مجاملة لأقربائه حسب الجسد، الأمر الذي يصعب نزعه عن البشريّين حتى وإن كانوا أنبياء. إنهم يتأثرون بالعوامل الشخصيّة. حقًا ما أصعب على الكنسيّين- مهما بلغت درجتهم الكهنوتيّة أو قامتهم الروحيّة ان يتخلّوا تمامًا عن العامل الشخصي في حياتهم وخدمتهم. لكنني أود أن أسجل هنا أن موسى النبي في مواقف كثيرة كان متحررًا من أي تأثر بعوامل شخصيّة أو قرابات عائليّة كما سنرى خلال دراستنا هذه.
ومن جانب آخر، بالرغم من التأكيدات الإلهيّة لموسى أن الله هو الذي يقود شعبه ويسندهم في كل خطوة يقول لحوباب "لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البريّة تكون لنا كعيون" [31]... أراد أن يكون لهم كعيون في البريّة مع أن الله هو الذي يقودهم!
3. تابوت العهد يتقدمهم:
في بدء الرحلة ساروا ثلاثة أيام متوالية، فإنه لا يمكن لنا أن ننطلق في البريّة من جبل سيناء نحو أرض الموعد مالم نحمل فينا قوة قيامة السيد، لأن رقم 3 كما سبق فرأينا في تفسير سفر الخروج يشير إلى القيامة. بدون القيامة تسير المسيرة عنيفة وقاسية ومرّة للغاية بل ومستحيلة، أما بقيامة الرب فتتحول أتعابها إلى بهجة، وتصير آلامها مصدر تعزية.
هنا لأول مرة يبرز دور تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهيّة يتقدم الموكب (ع 33) ليس تقدمًا مكانيًا لأنه في وسط الجماعة، ولا زمانيًا إذ يتحرك به القهاتيّون في الترتيب الثالث بعد مَحَلَّة يهوذا ومَحَلَّة رأوبين، إنما يتحرك حركة غير منظورة، كقائد خفي وسرّ قوة وتقديس للمسيرة.
والعجيب أن الوحي يسجل لنا "وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول قم يا رب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك" [35]. لعل موسى كان يرى في بدء ارتحال التابوت قوة قيامة الرب، إذ يتحرك بعد يهوذا ورأوبين أي يأخذ الحركة الثالثة بعد المحلتين؛ أي يرى السيد قائمًا في اليوم الثالث، مبددًا قوى الشيطان والخطيئة وملكوت الظلمة. وإن اعتبرنا كل مَحَلَّة بأسباطها الثلاثة تتحرك ثلاث حركات فيكون ترتيب التابوت هو الثامن (أسباط مَحَلَّة يهوذا "3" + أسباط مَحَلَّة رأوبين "3" + موسى وهرون والكهنة "1" + القهاتيّون حاملوا تابوت العهد "1"). والسيد المسيح قام في اليوم الثامن من الأسبوع السابق، أو أول الأسبوع الجديد.
لقد اقتبست الكنيسة هذه الصلاة لتمارسها في نهاية أوشية الاجتماعات، وكأن سرّ يركة الشعب والاجتماعات هي قيامة السيد المسيح الغالب للكلمة والشر!
الأصحاح الحادي عشرتذمر الشعب
لم يمضِ كثيرًا على تقديم الرؤساء تقدمات الفرح لله على مستوى الجماعة كلها ومستوى كل سبط، حتى تذمر الشعب مرتدًا إلى الشهوات القديمة.
1. اشتعال النار في المَحَلَّة 1-3.
2. اشتهاء اللحم 4-9.
3. موسى يستثقل المسئوليّة 10-15.
4. اختيار السبعين شيخًا 16-25.
5. ألْداد وميداد يتنبآن 26-29.
6. الله يطعم شعبه 30-35.
1. اشتعال النار في المَحَلَّة:
"كان الشعب كأنهم يشتكون شرًا في أذني الرب، وسمع الرب فحمي غضبه" [1]. هذه هي طبيعة الإنسان القديم فينا، إنه دام الشكوى والتذمر بلا سبب حقيقي. ففي الوقت الذي قدَّم فيه الرب الناموس وأوصى بعمل الخيمة وكل ملحقاتها وأدواتها ليسكن في وسطهم، ونظَّم لهم المَحَلَّة وأقام لهم طقس سيامة اللاويّين، وكان الكل فرحًا متهللاً، يأتون بالتقدمات للرب، صار في داخلهم شكوى. علة هذه الشكوى فراغ القلب، إذ أفقدته الخطيئة سلامه الداخلي، فيتلمس أي علة للتذمر والقلق.
إن كان سفر العدد كما قلنا هو سفر البريّة، فإنه في البريّة إذ يلتقي الله بالإنسان يعلن له وصيته وإحساناته ورعايته المستمرة، وفي نفس الوقت ينفضح الإنسان أمام الله وأمام نفسه بكل ضعفاته الداخليّة. في البريّة تكررت حالات التذمر تارة بعد عبورهم البحر الأحمر وتقديمهم تسبحة النصرة مباشرة (خر 15: 24)، وأخرى بعد تحويل المياه المُرّة إلى مياه عذبة (خر 16: 3) مشتهين الموت في أرض العبوديّة بجوار قدور اللحم يأكلون خبزًا عن هذا العمل الإلهي، وثالثة بعدما وهبهم المن المجاني (خر 17: 2) الخ... وكأنه بعد كل عطيّة ما أن يفرحوا بها قليلاً حتى يشعروا بالجوع والفراغ فيسقطون في التذمر. بالحقيقة هذا السفر هو سفر الكشف عن ضعفات الطبيعة البشريّة ليس فقط في حياة الجماعة ككل لكن حتى في حياة أعظم قائد روحي العظيم موسى النبي الذي شهد له الرب نفسه أنه كان أمينًا في كل بيته (عد 12: 7)، وفي حياة أخته مريم المرنمة التي صارت برصاء وعطلت الموكب أسبوعًا كاملاً (عد 12)، وأيضًا هرون، بجانب قورح وداثان وأبيرام مع مئة وعشرين رؤساء الشعب (عد 16)، وأيضًا النبي الوثني بلعام (عد 22-25)... أقول أنه السفر الذي كشف عن جراحات الطبيعة البشريّة، لكي يسمع كل منا ما سمعه ملك بابل أنه وُزن في الموازين فوُجد ناقصًا.
حقًا ما أحوجنا إلى البريّة لكي نتلمس معاملات الله معنا، ونتلمس أعماق ضعفاتنا في داخلنا فنلجأ إليه!
يحدثنا الوحي عن ثمر هذا التذمر، قائلاً: "اشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المَحَلَّة، فصرخ الشعب إلى موسى. فصلى موسى إلى الرب فخمدت النار" [1-2]. كان الله قبلاً يترفق بهم جدًا يعطيهم طلبتهم دون تأديب، أما الآن فقد سمح أن تشتعل ناره في طرف المَحَلَّة، فمن قبل كانوا بلا خبرة طويلة مع الله، يعاملهم كأطفال صغار، أما وقد غمرهم بكل هذه البركات على مدى أكثر من عام ووهبهم سكناه في وسطهم خلال الخيمة المقدَّسة فقد حمي غضبه لتأديبهم!
كان التذمر في بدايته خفيًا في القلب لكن الرب فاحص القلوب سمع أفكارهم الخفيّة، إذ قيل: "كأنهم يشتكون شرًا في أذني الرب، وسمع الرب" [1]، فسمح الرب بإشعال النار في طرف المَحَلَّة، وكأنه أراد أن يكشف بطريقة ماديّة ملموسة عمل نار الشر الداخلي في النفس. أراد أن يفضح الضعف لكي يعطي فرصة للتوبة، ولا يبقى الفساد كامنًا في الداخل بلا علاج. أما كون النار تشتعل في طرف المَحَلَّة فإنها في أبعد مسافة عن الخيمة، ولعله في ذلك الموضع انطلقت أول شعلة للتذمر، لأنه كلما ابتعد الإنسان عن الله انفتح قلبه للشر.
وسط الضيقة يتجلى حب موسى النبي ورعايته الأمينة إذ صرخ للرب فخمدت النار. هذا هو عمل الراعي المُحب أن يشفع في أولاده لدى الله والرب يستجيب له!
ولئلا ينسى الشعب هذا الحدث فيعود ويسقط تحت التذمر، دُعي الموضع "تبعيرة" التي تعني "اشتعال".
2. اشتهاء اللحم:
أوضح الرب كيف انطلقت شعلة نار الشهوة في هذا الشعب بقوله: "واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوة" [4]. هذا اللفيف الذي أشعل هذه النار هم الذين خرجوا معهم من مصر (خر 12: 38) وصاروا في وسطهم وهم غالبًا من المصريين. هؤلاء أثاروا الكل فبكوا واشتهوا اللحم. هذا اللفيف يمثل الفكر الغريب الذي يدخل إلى النفس فيفسد أعماقها. لهذا السبب كان الرب يطلب من الشعب متى دخلوا مدينة يبيدوها تمامًا رمزًا لعدم ترك أي آثار للخطيئة في ذهننا حتى لا تعود فتثور الخطيئة فينا من جديد.
هذا اللفيف يدخل إلى حياة الكنيسة ليفسد حريتها في المسيح يسوع ربنا ويذلها بعبوديّة الخطيئة، إذ يقول الرسول: "ولكن بسبب الإخوة الكذبة المدخلين خفية الذين دخلوا اختلاسًا ليتجسسوا حريتنا التي لنا في المسيح كي يستعبدونا، الذين لم نذعن لهم بالخضوع ولا ساعة ليبقى عندكم حق الإنجيل" (غل 2: 4-5). هكذا يليق بنا أن نتمثل بالرسول فلا نذعن لصوتهم ولا لساعة واحدة حتى لا نرتد إلى اشتهاء قدور لحم أرض العبوديّة بل نبقى دومًا في حرية حق الإنجيل.
ويحدثنا الرسول يهوذا عن هذا اللفيف قائلاً: "لأنه قد دخل خلسة أناس قد كُتبوا منذ القديم لهذه الدينونة فُجَّار يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة وينكرون السيد الوحيد الله وربنا يسوع المسيح" (يه 4).عمل هذا اللفيف الذي دخل خلسة متسللاً بين المؤمنين أن يفسد عمل النعمة الإلهيّة في حياتنا ويدخل بنا إلى الدعارة وعدم الإيمان.
ما أحوجنا إلى التنقية من هذا اللفيف، سواء على مستوى الجماعة المقدَّسة حتى لا تفسد الخميرة الفاسدة العجين كله، أو على مستوى العضو فلا يفسد ذهن المؤمن أو قلبه خلال التساهل مع فكر غريب أو خطيئة تبدو تافهة وصغيرة. لهذا يحذِّرنا الكتاب: "خذوا لنا الثعالب الثعالب الصغار المفسدة الكروم" (نش 2: 15).
استطاع اللفيف الصغير أن يرد هذه الملايين بقلوبهم إلى أرض العبوديّة. بينما أراد الله لشعبه حياة مقدَّسة متحررة فعزلهم عن هذه الأرض فصلاً بلا رجعة لكنهم الآن يبكون قائلين: "من يطمعنا لحمًا؟ قد تذكَّرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا والقثاء والبطيخ والكرَّات والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن" [4-6].
ما أعجب الإنسان في جحوده لله، يتذكَّر الشعب السمك المجاني الذي غالبًا ما كان السمك الصغير الذي يُعطى للعبيد، ويشتهي القثاء والبطيخ والكرَّات والبصل والثوم، ولا يذكرون الجلدات وضرب الأسواط وفقدان الحريّة وانتزاع إنسانيتهم وإذلالهم في عمل اللبن تحت كل أنواع الضغط. حقًا تبقى الخطيئة موضوع شهوة الكثيرين بالرغم مما تقدمه من إذلال وعبوديّة.
يدهش القدِّيس يوحنا الذهبي الفم لتصرف هذا الشعب قائلاً: [إن كانوا قد تركوها بعد حدوث هذه الأمور (أعمال العبوديّة القاسية)، ومع هذا كانوا يذكرون مصر بعبوديتها القاسية ويشتهون العودة إلى الطاغية السابق، فماذا يكون الأمر لو لم يعاملوا هكذا بمثل هذه البربريّة[39]؟].
لم تقف خطيئتهم عند تذكر لذة الماضي ونسيا ذله، لكنهم تطلَّعوا إلى عطيّة الله السماويّة في استخفاف قائلين: "الآن قد يبست نفوسنا". هذا هو لسان حال البشريّة في كل العصور إذ تطلب متعة الجسد المؤقتة كأنها كمال الحريّة وسرّ الفرح، أما عطيّة الله الروحيّة ففي نظرهم جفاف وحرمان وضيق. إنهم يستخفون بالعطيّة الإلهيّة من أجل التمتع باللذة المؤقتة الجسديّة. في هذا يقول القدِّيس ﭽيروم: [احتقروا خبز الملائكة وناحوا من أجل لحم مصر. صام موسى على جبل سيناء أربعين نهارًا وأربعين ليلة، مظهرًا أن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده بل على كلمة الله[40]].
لم يكن العيب في اللحم ولا في طلبه إنما في الاستخفاف بعطيّة الله والاشتهاء مع التذمر!
3. موسى يستثقل المسئوليّة:
في حديثنا عن موسى النبي في سفر الخروج (أصحاح 32) رأينا صورته المشرقة التي تحجب غضب الله عن شعبه، لكننا هنا نرى لحظات ضعف يمرّ بها هذا العظيم بين الأنبياء. إنه يتهم الله كأنه قد أساء إليه وثقَّل عليه أكثر مما يحتمل حتى اشتهى ولو قتله الله قتلاً ولا يرى بعينيه هذه البليّة التي حلَّت بشعبه. لقد ظن موسى النبي في لحظات ضعفه أنه هو الذي حبل بهذا الشعب وولده والتزم به، يعولهم ويحمل أتعابهم... وكأن الله لا يرعى شعبه!
إذ "سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم كل واحد في بيت خيمته وحمي غضب الرب جدًا ساء ذلك في عيني موسى، فقال موسى للرب:
لماذا أسات إلى عبدك؟
ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ؟
ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب؟
أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه!...
إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً إن وجدت نعمة في عينيك فلا أرى بليتي" [10-15].
هل نسى موسى أنه إن كان قد حمل أبوة لهذا الشعب كله والتزم بحمله في حضنه إنما يقبل هذه الأبوة كعطيّة من الله الذي وحده أب كل البشريّة والمحتضن شعبه؟
على أي الأحوال، قَبِل الرب من موسى هذا العقاب بالرغم مما حمله من ضعف شديد، لكن فيه حب قوي نحو أولاده... لهذا تدخل الله لنزع روح التذمر من حياة الشعب بعد أن أعطى لموسى النبي فرصة لاختيار سبعين شخصًا يسندونه في العمل الروحي... ثم عاد يمدحه قائلاً: "وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 13).
4. اختيار سبعين شيخًا:
إذ استثقل موسى المسئوليّة طلب الله منه أن يجمع سبعين شيخًا يعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه (ع 16)، يقفوا معه في العمل، فلا يحمل ثقل الشعب وحده (ع 17).
استخدم الله لحظات الضعف في نبيه لبنيان الجماعة فأقام السبعين شيخًا حتى يكتمل التنظيم الكنسي لا بوجود النبي ورئيس الكهنة والكهنة واللاويّين ورؤساء الأسباط فقط وإنما أيضًا بإقامة سبعين شيخًا من العلمانيّين يهبهم روحه القدوس ليشتركوا في التدبير، وكأن الله منذ القديم أراد تأكيد دور العلمانيّين- إن صح هذا التعبير- سواء عن طريق رؤساء الأسباط أو السبعين شيخًا.
في الوقت الذي ترك فيه لموسى حرية اختيار السبعين شيخًا ألزمه أن يكونوا بحق شيوخًا وعرفاء للشعب (ع 16). فالشيخ ليس بكثرة السنين ولا بشيبة الشعر بل بالحكمة والمعرفة. لهذا كتب القدِّيس ﭽيروم في إحدى رسائله هكذا: [أخي المحبوب، لا تُقدِّر استحقاقي بعدد السنوات فإن شيب الشعر ليس حكمة بل الحكمة صالحة كشيب الشعر. يقول سليمان "الحكمة هي شيب الشعر" (حك 4: 9). موسى في اختياره السبعين شيخًا ليكونوا معه التزم أن يختار من يعرف أنهم شيوخ بحق لا حسب أعمارهم بل حسب تمييزهم. فإن دانيال دان شيوخًا وهو ولد، وحكم على عدم طهارة شيوخ وهو صبي (قصة سوسنة)[41]].
يقول الرب لموسى: "آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمل أنت وحدك" [17]. ماذا قصد الرب بهذه الكلمات؟ يرى البعض أنه في هذه العبارة قد خسر موسى شيئًا من بهاء إكليله، فإن الله هو العامل سواء كان موسى وحده أو معه السبعين شيخًا، العمل لا يتغير، لأن الله هو الراعي الخفي. فلو لم يختار هؤلاء الرجال لتعب موسى أكثر لكان إكليله كان يزداد بهاءً. ما كان الله سيعمله بموسى وحده يعمله الآن به ومعه الرجال السبعون. على أن هذه العبارة لا تعني أن موسى قد فقد شيئًا من قوة الله أو سحب منه شيء، إنما تعني أن الله الذي أعطى موسى أن يعمل بروحه أعطى هؤلاء الرجال، فيسلكون معه بالروح الواحد. يقول العلامة أوريجينوس: [كان موسى بالروح الذي عليه كمصباح ساطع للغاية، منه أنار الله السبعين الآخرين، إذ بسط لمعان الأول على المصابيح الأخرى دون أن يضعف المصدر[42]]. ويقول القدِّيس أغسطينوس: [هذا يعني أعطيهم الروح القدس الذي سبق فأعطيته لك[43]].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على حلول الروح القدس على السبعين شيخًا هكذا: [الروح- كما جاء في الكتاب المقدَّس- لا يحل على أي إنسان بل على القدِّيسين والطوباويّين، إذ يحل على أنقياء القلب (مت 5: 8) الذين يتطهرون من الخطيئة. وبالعكس لا يسكن الروح في جسد تتسلط عليه الخطيئة، حتى وإن سكن في هذا الجسد إلى حين. الروح القدس لا يمكنه احتمال المشاركة مع روح الشر، فإنه بلا شك في لحظة الخطيئة يكون روح الشر داخل نفس الخاطيء يلعب دوره فيها. عندما نترك المجال لروح الشر أن يدخل، ونستقبله فينا بأفكار دنسة ورغبات نجسة فإن الروح القدس وهو مملوء حزنًا وضيقًا يُطرد منا، إن أمكنني التجاسر والقول بهذا التعبير. لهذا يقدم الرسول النصيحة "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء" (أف 4: 30)... بالخطيئة نجعل الروح القدس يحزن، وخلال الحياة الصالحة المقدَّسة نمهد مكانًا ليعمل الروح القدس فينا[44]].
لا يمكننا قبول هذا الرأي كما هو خاصة خلال العهد الجديد، فإنه بالسيد المسيح- ممثل البشريّة- صار لنا أن نتقبل الروح القدس فينا خلال سرَّي العماد والميرون، إذ تهيئنا المعموديّة لنكون هيكلاً مقدسًا له وبالميرون يحلّ الروح علينا ويستقر فينا. بالمسيح يسوع الابن الوحيد، الذي وحده لن ينفصل عنه الروح القدس لأنه روحه، صرنا نحن أيضًا هيكلاً للروح، يقدِّسنا على الدوام، فإن أخطأنا يحزن لكنه لا يفارقنا. يرى القدِّيس فيلوكسينوس أن روح الرب لن يفارق المؤمن إلاَّ عند إنكاره الإيمان. إنه يرى الروح القدس أشبه بالطيب الذي لا ييأس قط من شفاء المريض، بل يلازمه لكي يسنده ويشفيه.
يقول القدِّيس فيلوكسينوس: [لا توجد خطيئة سواء بالفعل أم بالفكر تقدر على أن تدمر هيكل الله. على ثمة فارق بين الخطايا التي ترتكب بالفعل وبين الارتداد عن الله. وذلك أنه إذا فعلنا خطيّة، فإن إيماننا بالله يظل سليمًا فلا نفقد بنوتنا لله مثل الابن حسب الطبيعة الذي مهما أخطأ في حق والده وأغضبه كثيرًا فإن هذا لا يحرمه من أن يُدعى ابنًا. ومهما أخطأ الابن وارتكب من هفوات فإن ذلك لا يفقده كرامته كابن لا سيما إذا كان أبوه لا يهدف إلى حرمانه منها...].
[قد يقال أن الروح القدس يفارقنا بسبب بعض الخطايا وعندما نتوب عنها يعود إلينا... ما هذا الكلام؟ فإنه إذا ما فارقنا الروح، فمن الذي يعمل فينا لكي نتوب عن خطايانا؟ فإن التوبة لا تحدث بدون الروح القدس، وكل ما نفعله بقوة الروح القدس في الصوم والسهر والصلاة والصدقة وتوبيخ القلب والدموع التائبة والتنهد...].
[وهكذا فإن الروح القدس يسكن فينا، أي في الذين اعتمدوا إلاَّ أنه لا يرغم بالقوة أي إنسان يريد أن يخطيء، بل يعلمه ويحذره من السقوط].
[ليس صحيحًا القول بمفارقة الروح للنفس ساعة الخطيّة وعودته ساعة التوبة، واعتباره هكذا ضعيفًا ومترددًا وجبانًا، يقف بعيدًا يرقبنا منتظرًا أن نتوب عن خطايانا ونعود إلى حالة التبرير كي يعود يسكن فينا. وبكل يقين، فما هي الفائدة التي ستعود عليَّ إذا عاد إليَّ وسكن فيَّ عندما أتبرر في حين أنه في ساعة السقوط لم يقف إلى جواري، لكي يمد لي يدّ المساعدة ويقيمني على قدمي؟].
[إن من يلبس الروح في مياه المعموديّة إنما يلبسه ولا يخلعه إلاَّ بالارتداد عن الإيمان. لأنه إذا كان بالإيمان يلبس الإنسان الروح، فبإنكار الإيمان يفارق الروح القدس النفس، لأن الإيمان والارتداد ضدان مثل النور والظلمة[45]].
يرى الكثيرون أن الروح القدس لن يفارق المؤمن قط ليس فقط عندما يخطيء وإنما أيضًا عندما يرتد عن الإيمان، لهذا إذا رجع إلى الكنيسة مرة أخرى لا تعيد المعموديّة ولا مسحة الميرون. من أصحاب هذا الرأي القدِّيس أغسطينوس[46].
إن عدنا إلى السبعين شيخًا فبلا شك كان هؤلاء الرجال على علاقة بموسى النبي وأدركوا الكثير من أعمال الله معه، لكنهم لا يقدرون أن يسندوه أو يرافقوه في العمل ما لم يهبهم الرب قوة الروح العامل في موسى النبي. وكأن التلمذة في حقيقتها ليست مجرد اقتداء بالمعلم أو امتثال به في تصرفاته وسلوكه، وإنما في جوهرها هي تلمذة للرب نفسه خلال المعلم لكي يحمل التلميذ روح الرب نفسه العامل في المعلم.
5. ألْداد وميداد يتنبآن:
غالبًا هما أخوان، الأول يُدعى ألْداد أي "من يحبه الرب"، والثاني ميداد أي "محبوب". لقد اختارهما موسى بين السبعين شيخًا لكنهما لم يخرجا مع بقية الشيوخ حوالي الخيمة بل بقيا في المَحَلَّة، فحلّ عليهما الروح وتنبآ مثل بقية الشيوخ.
لقد سمح الله بهذا ليؤكد للشعب أن الروح الذي حلّ على الشيوخ هو عطيّة الله نفسه وليس عطيّة موسى، لهذا وهبه حتى لغير الحاضرين. بهذا لا يساء فهم القول: "أخذ من الروح الذي حلّ عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ" [25].
يُعلِّق القدِّيس كيرلس الأورشليمي على هذا الأمر قائلاً: [اندهش يشوع بن نون الذي خلف موسى، فأتى إليه وسأل: ألم تسمع أن ألْداد وميداد يتنبآن؟ لقد دُعيا ولم يأتيا يا سيدي موسى، اردعهما! أجاب موسى: لا أستطيع أن أردعهما لأن هذه النعمة من السماء! كلا! حاشا لي أن أمنعهم، بل أشكر الله على ذلك. إنني لست أظن أنك قلت هذا عن حسد، هل أنت تغار لي لأنهما يتنبآن وأنت لا تتنبأ إلى الآن؟ انتظر الوقت المناسب. ياليت كل شعب الرب يكونون أنبياء حين يجعل الرب روحه عليهم.
لقد نطق بهذا متنبأ "حين يجعل روحه عليهم"... لقد لمح في السرّ ما كان مزمعًا أن يحدث بيننا في يوم البنطيقستي، لأن الروح القدس بنفسه حلَّ بيننا[47]].
كأن ما حدث لألْداد وميداد كان نبوءة لحلول روح الله القدس على كنيسة الأمم التي كانت قبلاً خارج المَحَلَّة، لقد ضم الرب إليه الذين كانوا قبلاً في الخارج.
مرة ثانية يعلق القدِّيس كيرلس الأورشليمي على هذا الأمر هكذا: [ليس بمعنى أن الروح القدس قد انقسم إنما وزع نعمته حسب الأواني وسعة القابلين. كان حاضرًا ثمانية وستون شيخًا فتنبأوا، أما ألْداد وميداد فلم يكونا حاضرين. من هنا يظهر أنه ليس موسى واهب العطيّة بل الروح هو الذي عمل. إن ألْداد وميداد اللذين دُعيا مع عدم حضورهما في ذلك تنبآ أيضًا[48]].
لعل الله اختار هذين الشيخين بالذات لنوال هذه النعمة الإلهيّة لأن الأول اسمه يعني "من يحبه الرب" والثاني "محبوب"، وكأن عطيّة الروح القدس إنما هي عطيّة المحبة، قدَّمها الله لكنيسته من أجل محبته لها. إنها محبوبته تتقبل روحه الذي يقدسها ويهيئها عروسًا سماويّة تدخل إلى حجاله الأبدي تشاركه أمجاده الأبديّة.
6. الله يطعم شعبه:
استصعب موسى النبي الأمر حين أمر الله أن يتقدس الشعب ليعطيهم سؤل قلبهم فيأكلون لحمًا لا يومًا واحدًا ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يومًا بل شهرًا من الزمان (ع 19-20) إن كان عدد الرجال المشاة حوالي ست مائة ألف نسمة بخلاف النساء والأطفال واللاويّين... وكأن تعدادهم يبلغ حوالي 2 مليون نسمة، كيف يأكل هؤلاء جميعًا لحمًا في البريّة لمدة شهر من الزمان؟ قال موسى: "أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم؟" [22]. وكأنه يقول إن الأمر يحتاج إلى ذبح كل المواشي أو صيد كل سمك البحر... لكن الرب أجابه: "هل تقصر يدّ الرب؟ الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا" [23]. لقد أشبعهم الرب لحمًا لا بذبح مواشي ولا بصيد أسماك، إنما أرسل لهم طيرًا صغيرًا "السلوى" أو "السمّان" ساقها إليهم بريح نحو المَحَلَّة. هكذا يعطينا الله أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب وبطريقة لا نتوقعها معلنًا أن يده لا تقصر، قائلاً: "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (زك 4: 6).
يرى البعض في تصرف الله أن هذا الإنسان ينبغي أن يشبع كل احتياجات طفله ولا يحرمه من شيء حتى لا يشتهي شيئًا، فقد أشبع الله الشعب وأعطاهم أكثر مما يطلبون، غير أن الرأي المضاد يرى أن الإنسان إذ يعتاد على حياة الترف في طفولته لا يقدر أن يتخلى عنها[49].
لقد قدَّم الله لهم لحمًا بكثرة، وإذ انقضوا عليها بشراهة وشهوة غضب الرب عليهم وضربهم ضربة عظيمة جدًا (ع 33)، ليس لأنهم يأكلون اللحم ولكن من أجل الشهوة التي تملكت عليهم، وكما يقول المرتل "بل اشتهوا شهوة في البريّة وجربوا الله في القفر، فأعطاهم سؤلهم وأرسل الله هزالاً في أنفسهم" (مز 106: 15).
قبل أن ننهي الأصحاح نذكر تعليق العلامة أوريجينوس على قول الوحي: "خرج موسى وكلَّم الشعب بكلام الرب" [24]: "مادام موسى يصغي إلى كلام الرب ويستلم التعاليم يكون في الداخل، يعيش في خلوة أكثر سرية، لكنه عندما يتكلم مع الجموع لا يقدر أن يبقى في الداخل بل يقول الكتاب أنه خرج... أظن أن بولس أيضًا كان يفعل هكذا، فإنه كان في الداخل عندما قال: "نعلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر" (1 كو 2: 6). انظر كيف كان بولس في الداخل ينظر إلى أسرار الحكمة الإلهيّة الداخليّة أثناء تسلمه هذه التعاليم. لكنه عندما يخرج للشعب اسمع بماذا يعلم: "لا تخرج كلمة رديئة من أفواهكم" (أف 4: 29)، "لا يسرق السارق فيما بعد" (أف 4: 28) الخ... هذه الكلمات وما على نمطها إنما هي تعاليم الرسول ينطق بها حين يخرج خارجًا ليعلم الشعب كما فعل موسى النبي[50].
الأصحاح الثاني عشرزواج موسى بالكوشيَّة
موسى النبي الذي ضاقت نفسه جدًا حينما رأى الشعب باكيًا، وفي جرأة صار يعاقب الله طالبًا إعفاءه من الخدمة، يظهر وديعًا للغاية حين يُتَّهم في حياته الخاصة، إذ تذمر هرون ومعه أخته مريم على أخيهما لأنه تزوج بامرأة كوشيَّة.
1. غيرة مريم وهرون 1-3.
2. دفاع الرب عنه 4-8.
3. برص مريم 9-15.
4. من حَضَيْروت إلى فاران 16.
1. غيرة مريم وهرون:
تحدثت مريم وهرون ضد أخيهما موسى النبي بسبب المرأة الكوشيَّة التي اتخذها لنفسه زوجة (ع 2). ويعلِّل البعض سرّ تذمرهما عليه أنه في اختياره للسبعين شيخًا ربما لم يرجع إليهما فدبت الغيرة فيهما وتسلَّل الحسد إلى قلبيهما، ويُدلِّلون على ذلك بقولهما: "هل كلَّم الرب موسى وحده؟ ألم يكلمنا نحن أيضًا؟" [2]. وبدخول الحسد إلى قلبيهما وجدا في زواجه بالكوشيَّة فرصة للتذمر عليه. يُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص على هذا الحسد قائلاً: [صارا كقوس للحسد لا يقذف سهامًا بل كلمات[51]].
كما يقول: [الحسد هو الألم الذي يسبب شرًا. هو والد الموت، أول مدخل للخطيئة، أصل الأذى، ابن الحزن، أم المصيبة، أساس العصيان، مبتدأ العار! الحسد طردنا من الفردوس إذ صار حيّة لمقاومة حواء! الحسد حجبنا عن شجرة الحياة وعرانا من الثياب المقدَّسة، وفي خزي أخرجنا لنستتر بأوراق التين[52]].
كما يقول: [لا يقوم الحسد بسبب كارثة حلَّت بالإنسان، إنما كارثته هي وجود خير لدى الآخرين. إنه يحزن لخير الآخرين، حاسبًا نجاحه لا في تمتعه بالخير بل حلول المصائب بالغير[53]].
إن تركنا الحديث عن حسد مريم وهرون وانتقلنا إلى موسى نفسه، فإن الكتاب المقدَّس يشهد عنه "وأما موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" [3]. بهذا الحلم العظيم واجه الحسد فغلبه وانتصر. كان موسى كأصم لا يسمع، وفي صمت لم يفتح فاه ولا حتى عاتبهما، بل بالعكس حينما سقطت مريم تحت التأديب شفع فيها لدى الله قائلاً: "اللهم اشفها" [13]. هذا هو سرّ نجاح موسى في قيادته هذا الشعب بعناده المستمر. لقد حمل في قلبه حبًا واتساعًا إذ رفض كل مجد أرضي لشخصه أو مصلحة خاصة به فكان حليمًا جدًا. سبق فرأينا حلمه العجيب في تعامله مع حميه هرون، وإذ هو نبي عظيم صنع الله معه الكثير من العجائب سمع لحميه الكاهن الوثني في حلم واتضاع[54].
لقد عبَّر القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن ضعف الحسد أمام حلم موسى النبي قائلاً: [حين هاجم الحسد هذا الرجل العظيم انكسر كإناء خزفي على صخرة... لقد ظهر أنه أعلى من أن يصيبه القوس!... صوَّب الحسد سهامه ضد موسى لكنها لم يقدر أن تبلغ العلو الذي كان فيه موسى[55]!].
[ليس فقط لم يتحرك موسى ليدافع عن نفسه ضد الذين يسيئون إليه وإنما طلب لهم من الله الراحة. بهذا أظهر- كما أظن- أنه الشخص الذي يتحصّن جيدًا بدرع الفضيلة فلا تصيبه أطراف السهام[56]].
[ما كان يمكنه أن يفعل هذا لو لم يكن واقفًا وراء الله[57]].
2. دفاع الرب عنه:
إذ صمت موسى، لا بشفتيه فحسب بل وفي أعماقه، بسبب حلمه العظيم وطول أناته لهذا تدخل "الرب حالاً" [4]. لم يدافع موسى عن نفسه ولا حتى قدام الرب، ولا طلب من الله أن يكشف الحق لرد كرامته لكنه صمت بحب فأسرع الله يستدعي الثلاثة ليدافع عن عبده موسى، قائلاً لهرون ومريم: "إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له، في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلم معه لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين، فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى؟" [6-8].
استحق موسى هذه الكرامة العظيمة أن يحسب أمينًا في كل بيت الله، وأن يتحدث معه الله فمًا لفمٍ ويتكلم معه عيانًا، ويعلن له مجده... هذا كله من أجل ما اتسم من اتضاع وما عُرف به من حلم. في هذا يقول القدِّيس أغناطيوس الأنطاكي: [موسى الذي كان حليمًا أكثر من جميع الناس بقوله لله "أنا ضعيف الصوت وثقيل اللسان" (خر 14: 10). إذن لتكن متضع بالروح فتتمجد، لأن من يضع نفسه يرتفع ومن يرفع نفسه يتضع[58] (لو 14: 11)].
ويقول القدِّيس إكليمندس الروماني: [موسى دُعي "الخادم الأمين في كل بيت الله" (عد 12: 7، عب 3: 2)، وخلال خدمته عاقب الله مصر بالضربات والضيقات. ومع هذا لم يتكبر بالرغم من الكرامة العظيمة التي نالها، وإنما قال أمام العليقة "من أكون حتى ترسلني؟ أنا إنسان ضعيف الصوت وثقيل اللسان" (خر 3: 11؛ 4: 10)، كما قال "ما أنا إلاَّ بخار قدر[59]" (راجع مز 119: 83).
ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ كان موسى لطيفًا للغاية حليمًا... لهذا صار مقبولاً ومحبوبًا يقال عنه أن الله يتكلم معه وجهًا لوجه وفمًا لفم كما يكلم الرجل صاحبه[60]].
هكذا بالاتضاع ارتفع موسى في الكرامة في الكرامة فصار يتحدث مع الله وجهًا لوجه أو كما يقول القدِّيس باسيليوس: [استحق أن يراه وجهًا لوجه مثل الملائكة، يخبرنا بما تعلمه من الله[61]]. يتحدث الله معه كما يتحدث الرجل مع صاحبه أو كما يقول العلامة ترتليان أن هذا الأمر تحقق في التجلي[62]، حيث ظهر موسى وإيليا وكانا يتحدثان مع السيد المسيح.
ويُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس النزينزي على دعوة موسى النبي عبدًا لله أو خادمه (عد 1: 7، عب 3: 2)، بالقول: [كان موسى إلهًا لفرعون (7: 1) لكنه هو خادم الله كما هو مكتوب. فإن النجوم التي تنير الليل تختفي أمام الشمس حتى أنك لا تعرف وجودها في ضوء النهار[63]].
لكن ربما يتساءل البعض: لماذا تزوج موسى بالكوشيَّة؟
كان هذا التصرف عملاً نبويًا رمزيًا، يشير إلى قبول كلمة الله طبيعتنا الكوشيَّة، يتحد بنا نحن الذين كنا في الظلمة زمانًا ليدخل بنا إلى نوره الإلهي وجمال طبيعته. هذا ما رأيناه في تفسيرنا "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش 1: 5). في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [عندما تزوجها قال الرب "فمًا إلى فمٍ وعيانًا أتكلم معه لا بالألغاز" (ع 8). إنه يتكلم حقيقة، فقد جاء موسى (السيد المسيح) واتحد بكوشيَّتنا، حينئذٍ انتهى إعلان الشريعة الإلهيّة خلال الأمثال والصور إذ تقدم إلينا في تمام الحقيقة. ما كان يُعلن قبلاً خلال الأمثال صار واقعًا حقًا[64]]. ويقول القدِّيس ﭽيروم: [عريسك ليس متكبرًا ولا مزدريًا بالغير، إنه يتزوج بكوشيَّة[65]].
هذا وزواج موسى بالمرأة الكوشيَّة يشير إلى قبول السيد المسيح عروسه أي الكنيسة من جماعة الأمم، أما موقف مريم منه فهو موقف جماعة اليهود الذين رفضوا السيد المسيح ولم يقبلوا دخول الأمم إلى الإيمان. يقول العلامة أوريجينوس: [مريم هي جماعة اليهود الحاليّين، فقد تذمرت هي وهرون معًا، أي الكهنة والفريسيّون. فالشعب لا يزال ينقصه الاحترام لموسى القائم معنا الآن، ويبدو لهم أن هذا الأمر مخجلاً، لأنه لا يعلم بختان الجسد وحفظ السبت وتقديم ذبائح دمويّة، لكنه يأمرنا بختان القلب والكف عن الخطيئة والاحتفال بأعياد فطير الاخلاص والحق (أف 2: 11، كو 2: 9، رو 2: 29، 1 كو 5: 8) وذبائح الحمد (مز 50: 14)، ليس الذبائح الحيوانيّة بل ذبح الرذائل[66]].
يتحدَّث العلامة أوريجينوس على لسان كنيسة الأمم إذ تخاطب اليهود قائلة: [حقًا إني أعجب يا بنات أورشليم أنكن توبخنني على سواد بشرتي. هل نسيتن ما ورد في ناموسكن وما عنته مريم حين تحدثت ضد موسى لأنه اتخذ لنفسه امرأة كوشيَّة سوداء؟ ولا تعرفن أن هذا الأمر قد تحقق بحق. أنا هي الكوشيَّة! حقًا إني سوداء بسبب رداءة أصلي لكنني جميلة بالتوبة والإيمان. وقد اتخذت لنفسي ابن الله. لقد قبلت "الكلمة الذي صار جسدًا" (يو 1: 14)، لقد أتيت إلى ذاك الذي هو "صورة الله، بكر كل خليقة" (كو 1: 15)، الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره" (عب 1: 3)، فصرت جميلة! ماذا تفعلن؟ أتوبخن من تركت خطيتها، الأمر الذي يمنعه الناموس؟ أتطلبن مجد الناموس وأنتن تنتهكن إياه[67]؟].
3. برص مريم:
يقول الكتاب: "فحمي غضب الرب عليهما ومضى. فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج" [9-10]. حقًا ما أخطر الحديث عن خدام الله، خاصة إن كان بدافع الحسد الداخلي فإنه يليق بنا ألاَّ نختارهم إلاَّ بعد استشارة الله، ومعرفة أنهم بلا عيب، لكنهم متى اُختيروا ليس لنا أن ندينهم، لهم رؤساء ولهم من يستطيع أن يفحص تصرفاتهم، أما نحن فلا نخسر الملكوت بسببهم، أو بمعنى أدق بسبب إدانتنا إياهم. لقد مضى الرب عن هرون ومريم، وارتفعت السحابة عن الخيمة، حينئذٍ تطلَّع هرون إلى أخته فوجدها برصاء كالثلج.
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يجب ألاَّ تحتقر أخاك أو قريبك، ولا تفتح فاك بالشر. لست أقول هذا بخصوص القدِّيسين وإنما بخصوص أي إنسان، إذ أرى غضب الله وانتقامه يحلان بسبب هذه الخطيئة، فقد جاء في المزامير "تجلس تتكلم مع أخيك، لابن أمك تضع معثرة" (50: 20)، "الذي يغتاب صاحبه سرًا أقطعه" (101: 5). اقطعوا هذه الرذيلة بمساعدة هذه الوصايا الواردة في الكتاب المقدَّس وكأنها سيف ذي حدين (رؤ 1: 16). تجنبوا إدانة إخوتنا وسب القدِّيسين. فإن من يدين أخاه ويتكلم عليه بالسوء يصاب بالبرص[68]].
ويلاحظ في تأديب مريم بالبرص الآتي:
أ. حلّ البرص بها بعد مفارقة السحابة الخيمة، وكأن البرص وهو يرمز للخطيئة ونجاستها إنما هي علامة الابتعاد عن الله والحرمان من الشركة معه. لهذا يحذرنا العلامة أوريجينوس: [لنخشى أن نبتعد عن السحابة بكلامنا الرديء وأعمالنا الدنسة وأفكارنا النجسة، فيظهر برص الخطيئة فينا عندما تتركنا نعمة الله[69]].
ب. أخطأت مريم فأساء ذلك إلى الجماعة كلها، فقد ارتفعت السحابة عن الخيمة وتسلط البرص على مريم، فعُزِلَت عن الجماعة أسبوعًا كاملاً، فيه توقف الموكب كله عن السير نحو أرض الموعد، ولم تنتقل خيمة الاجتماع عن موضعها. إنها صورة مُرَّة للإنسان- خاصة المسئول- حينما يخطيء، إذ لا يسيء إلى نفسه وحده بل يسبب تجديفًا على اسم الله القدوس ويوقف الموكب ويعثر الكثيرين، كالعضو الفاسد الذي يضر الأعضاء الأخرى.
ج. ربما يسأل البعض: لماذا لم يسقط هرون تحت نفس التأديب مع أخته؟
يجيب القدِّيس إيرينيئوس: [ربما لأنه كان لهرون شيء من العذر بكونه الأخ الأكبر وقد زيّن بكرامة الكهنوت. هذا والبرص حسب الشريعة نجاسة، ولما كان أصل الكهنوت وأساسه في هرون لهذا لم يسمح له الرب بتأديب مشابه لئلا يمسك هذا الأمر بكل نسله (الكهنوتي)، لكن الله أيقظ مخاوفه وعلَّمه ذات الدرس خلال أخته، فقد أثَّرت عقوبة أخته عليه حتى التجأ إلى موسى المُساء إليه لكي يشفع عنها حتى يزول عنها هذا الغم[70]].
د. يرى البعض في برص مريم صورة رمزيّة لما حدث مع اليهود، فقد رفضوا الإيمان بالسيد المسيح الذي قَبِل عروسه من الأمم (المرأة الكوشيَّة) ففارقتهم السحابة وتسلَّط برص عدم الإيمان عليهم، وفارقهم روح الرب، وصاروا مصابين. أما خروج مريم خارج المَحَلَّة سبعة أيام ثم عودتها فيشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالمسيح في نهاية الأزمنة، ليدخلوا مرة جديدة إلى الخيمة المقدَّسة الجديدة وينزع عنهم برص عدم الإيمان[71]، بهذا لا يصيروا بعد متمسكين بفكرهم الناموسي الحرفي القديم. يقول الرسول بولس "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم" (رو 11: 25).
هـ. يعلق العلامة أوريجينوس على قول هرون لموسى النبي: "فلا تكون كالميت الذي يكون عند خروجه من رحم أمه قد أُكل نصف لحمه" [12]، بأن مريم وقد صارت برصاء صارت والسقط شيئًا واحدًا، أي بلا حياة. في هذا إشارة إلى جماعة اليهود الذين بسبب عدم إيمانهم صاروا كالسقط بلا حياة، لكن جاء موسى يتمخض بهم ليلدهم أحياء ويتصور المسيح فيهم (غل 4: 19). يقول العلامة أوريجينوس: [كان الشعب القديم في رحم أمه أي في الهيكل غير قادر على البلوغ إلى النتيجة الكاملة التامة... لقد مكث بعض الوقت في رحم أمه، أي في مدرسة الهيكل اليهودي، لكنه بسبب خطاياه لم يقدر أن يحصل على الشكل الكامل ليدخل إلى الحياة، لهذا صار مرفوضًا كسقط غير كامل النمو، وُلد قبل موعده[72]].
و. لقد شفع موسى في أخته قائلاً: "اللهم اشفها" [13]، وكانت إجابة الرب: "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام؟" [14]. البصق هنا يشير إلى التخلي، فقد فارقت نعمة الله هذا الشعب وصار في عار وخزي بلا هيكل ولا ذبائح كما يقول العلامة أوريجينوس ويشرح القدِّيس يوحنا الذهبي الفم هذه الإجابة الإلهيّة قائلاً: [إن ما عناه هو هذا: لو أن له أب وطرده من حضرته، أما كانت تقبل التوبيخ؟ إنني أقدر فيك تقواك الأخوي وحلمك وسموك، لكنني أنا أعرف الوقت المناسب لإنهاء التأديب[73]].
على أي الأحوال، لقد برز صلاح موسى النبي في موقفه المملوء حبًا بصلاته عنها، إذ يقول القدِّيس إغريغوريوس النزينزي: [مُدح موسى لأنه قتل المصري الذي ظلم الإسرائيلي، لكنه بالأكثر صار موضع إعجاب عندما شفى بصلاته مريم التي أصيبت بالبرص بسبب تذمرها ضده[74]].
ز. تأخر الله في شفاء مريم حتى لا نتكيء على صلوات الآخرين وشفاعتهم عنا دون تقديم توبة من جانبنا. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تتطلع إلى الآخرين بأفواه مفتوحة (تطلب صلواتهم)، فإن صلوات القدِّيسين لها بالحق قوة عظيمة بشرط توبتنا وإصلاح نفوسنا. فإنه حتى موسى الذي أنقذ أخاه وستمائة ألف رجل من الغضب الذي كان سيحل عليهم (خر 32)، لم يكن قادرًا على إنقاذ أخته[75]].
4. من حَضَيْروت إلى فاران:
يرى العلامة أوريجينوس إن فاران تعني "الفم المنظور" إشارة إلى العبور إلى "التجسد الإلهي"، فإنه بشفاء مريم من برص عدم الإيمان ينطلق الموكب إلى الإيمان بالتجسد الإلهي كطريق للدخول إلى الملكوت.
الأصحاح الثالث عشرالتجسس على كنعان
إذا كان الشعب دائم التذمر مشتهيًا العودة إلى أرض العبوديّة من أجل كرَّاتها وبصلها وبطيخها الخ... أراد أن يكشف لهم عن نوعيّة ثمار الأرض الجديدة التي وعدهم بها حتى يسحب قلبهم إليها دون أن ترتد إلى أرض العبوديّة.
1. اختيار الرجال 1-16.
2. التعليمات الصادرة إليهم 17-20.
3. تحركاتهم 21-25.
4. تقريرهم 26-33.
1. اختيار الرجال:
"ثم كلم الرب موسى قائلاً: ارسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل. رجلاً واحدًا لكل سبط من آبائه ترسلون. كل واحد رئيس فيهم" [1-2].
إن كان الله قد أمر موسى بإرسال رجال ليتكشفوا الأرض بأنفسهم، فقد جاء هذا الأمر بناء على طلب الشعب نفسه، إذ يقول موسى النبي: "تقدمتم إليَّ جميعكم وقلتم دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسسوا لنا الأرض، ويردوا إلينا خبرًا عن الطريق التي نصعد فيها والمدن التي نأتي إليها، فحسن الكلام لديَّ" (تث 1: 22-23). كان يلزم للشعب أن يسلك بالإيمان لا بالعيان، لكن من أجل ضعفهم استجاب الرب طلبتهم ونفذ موسى الأمر كطلب الرب نفسه. وقد لاحظ القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص أن هذا الأمر قد تم بعد أن سقط الشعب في تجربة النهم والاشتياق إلى أطعمة العبوديّة من لحم وكرَّات وبصل... الخ، فأراد الله أن يتذوق بعض رؤسائهم أطعمة مواعيد الله. يقول القدِّيس: [موسى بنفسه المرتفعة فوق مثل هذه الشهوة (للحم) قد تكرَّس تمامًا للتمتع بالميراث الذي وعد الله به للذين يخرجون من مصر ( بالمفهوم الروحي لا الحرفي، أي الذين يتركون محبة العالم)، ويجعلون طريقهم نحو الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، لهذا أقام بعض الجواسيس ليصيروا معلمين عن الأمور الجميلة التي لهذه الأرض[76]].
اختار موسى اثني عشر من رؤساء الشعب ليذوقوا ثمر الأرض فيقدرون أن يشهدوا لإخوتهم مقدِّمين عربونًا للبركات الممنوحة لهم من قبل الله، إذ يليق بالمعلمين لا أن يقدموا فلسفات ومعتقدات نظرية وكلمات بلا خبرة، بل يقدمون للشعب من خيرات الله الداخليّة التي تذوقوها فعلاً وعمليًا.
كان بين الرجال اثنان ممتازان هما هوشع الذي دُعي يشوع (ع 8: 16)، وكالب بن يفنة (ع 6). دعى موسى هوشع يشوع، لأن هوشع تعني صلاة: "خلّص"، أما يشوع فتعني "مخلص"، وكأن موسى باختياره هوشع أدرك أن الصلاة الخاصة بإتمام الخلاص قد تحققت رمزيًا لهذا دعاه يشوع أي "يسوع" الذي هو المخلص الحقيقي. وكما يقول القدِّيس ﭽيروم: [لا يدعى هوشع بل يسوع أي مخلص. حقًا إنه مخلص، إذ يخلصنا ويقودنا من البريّة إلى أرض الموعد[77]]. ويقول العلامة ترتليان: [هنا يوجد رمز للأمور المقبلة، فإنه إذ يسوع المسيح هو الذي يدخل الشعب الثاني- الذي يتكون منا نحن الأمم الذين كنا في حالة تيه في بريّة العالم زمانًا- إلى أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً (خر 3: 8)، بنوالنا الحياة الأبديّة التي ليس شيء أحلى منها. لم يتم هذا خلال الناموس أي خلال التدبير الشريعي، إنما بيسوع، أي بنعمة الناموس الجديد بعد أن نختن بسكين من الصخرة أي وصايا المسيح، إذ يرمز للمسيح بالصخرة في أماكن كثيرة[78] (1 كو 10: 14)].
ويُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على تغيير اسم هوشع قائلاً: [لماذا أعطاه هذا الاسم عندما أرسله من وادي فاران إلى الأرض التي سيقود الشعب إليها؟ لأن يسوع الحقيقي يقول "وأنا إن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي وآخذكم إليًّ[79]" (يو 14: 3)].
أما "كالب" فاسمه يعني "قلب"، أي يعمل العمل بكل قلبه في إخلاص بلا خوف، واثقًا في إمكانية الله المُقدَّمة لنا للغلبة والنصرة حتى نتمتع بمواعيده. يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا الأمر بقوله: [يتحدث يسوع عن الذين يتبعونه بإخلاص "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19). يريد أن يصنع معجزات! يريد أن يقهر الجبابرة بالجراد، فيهب الغلبة على أجناد الشر الروحيّة في السمويات بواسطة سكان الأرض[80] (أف 6: 12)].
ارتبط يشوع بكالب في الدخول إلى أرض الموعد، فإن كان يسوع- رب المجد- هو قائدنا في دخولنا إلى أرض الموعد فإنه لا دخول لنا إليها ما لم يكن قلبنا (كالب) جادًا ومخلصًا في الدخول. ارتباط يشوع بكالب هو التحام بالعمل الإلهي المجاني بالإرادة البشريّة الحرّة التي تقبل العمل في الأعماق الداخليّة.
2. التعليمات الصادرة إليهم:
يمكننا تلخيص التعليمات الصادرة إلى هؤلاء الرجال في كلمتين هما "اصعدوا... تشددوا" (ع 17، 20).
أولاً: "اصعدوا من هنا... واطلعوا الجبل" [17]، ومن خلال الجبل ينظرون الأرض والساكنين فيها. هكذا يليق بالمعلمين لكي يشهدوا للحق أن يتذوقوه بصعودهم من هنا بقلوبهم وارتفاعهم على جبل الوصيّة الإلهيّة فتُحلِّق نفوسهم في السمويات، وتنفتح بصيرتهم الداخليّة على الأرض الجديدة وسكانها وأمجادها. بهذا يختبرون عربون الميراث الأبدي فيقدموا لرعيتهم من الخيرات التي نظروها واختبروها بأنفسهم. حقًا إن بقي الراعي مغموسًا مع رعيته في الاهتمامات الأرضيّة والمطالب اليوميّة ولم يرتفع على الجبل، كيف يقدر أن يسحب قلوب شعب الله نحو المرتفعات العالية ويقدِّم لهم الأبديات؟
لعله لهذا السبب لم يسمح الله للكهنة واللاويّين في العهد القديم أن يكون لهم نصيب مع إخوتهم في الأرض حتى يكون هو نفسه نصيبهم، فلا يرتبكون في الإداريات والماديات بل ينشغلون بالله وحده. أقول في مرارة ما أصعب على الله أن يرتبك الكهنة بالأمور الماديّة حتى وإن كانت خاصة بالكنيسة. إنه ينبغي عليهم أن يمتثلوا بالرسل الذين تركوا خدمة الموائد للشمامسة ليتفرغوا هم للصلاة وخدمة الكلمة (أع 6: 1-4).
ثانيًا: "تشدَّدوا فخذوا من ثمر الأرض" [20]... لا يقف الأمر عند الصعود بل ينبغي أن يتشدد قلب المعلم بقوة واثقًا برجاء في تحقيق وعود الله، متذوقًا بنفسه عطيّة الله له، مؤمنًا بالله القادر أن يهب البشريّة هذه العطيّة. ليس شيء يحطم الخدمة مثل دخول روح اليأس في حياة المعلمين من جهة أنفسهم أو رعيتهم. فإنه يليق بنا أن نرى يدّ الله القويّة القادرة على رفع كل البشريّة نحو مواعيده المقدَّسة. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يجب على الراعي أن يكون نبيلاً، لا يخور عزمه ولا ييأس من خلاص الضالين من القطيع، بل دائمًا يباحث نفسه قائلاً: "عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس[81]" (2 تي 2: 25)].
3. تحركاتهم:
صعد الرجال "من بريّة صين إلى رحوب في مدخل حماة" [21]، ثم "صعدوا إلى الجنوب وأتوا إلى حبرون، وكان هناك أخيمان وشيشاي وتلماي بنو عناق... وأتوا إلى أشكول وقطعوا من هناك زرجونة بعنقود واحد من العنب وحملوه بالدقرانة بين اثنين مع شيء من الرمان والتبن" [22-23].
كانت تحركات الرجال هكذا:
أ. صعدوا من بريّة صين، وهي منطقة صحراويّة تقع في الحدود الجنوبيّة لكنعان (عد 34: 3-4) ويهوذا (يش 15: 1) تحوي داخلها قادش ومريبة[82] (عد 20: 1، 27: 14، 33: 36، تث 32: 51) وعلى حدود آدوم غربًا، وهي إما تمثل جزءًا من بريّة فاران أو على حدودها عند قادش[83].
يلزمنا ألاَّ نخلط بين بريّة صين Zin التي تعني- عند العلامة أوريجينوس- عليقة أو تجربة وبين بريّة سين Sin والتي يرى أيضًا أنها تعني تجربة. غير أن البعض يرى الأخيرة قد أخذت اسمها عن إله القمر سين. وهي حاليًا في الغالب دبة الرملة، عبارة عن كومة رمال عند سفح جبل التيه في الجنوب. في هذه البريّة أنزل الله المن للمرة الأولى للشعب حيث بلغوا إليها بعد عبور البحر الأحمر من إيليم (خر 16: 1) إلى رفيديم.
ب. رحوب: اسم عبري معناه "مكان رحب أو متسع". وهي مدينة أراميّة تقترب من الحدود الشمالية لكنعان. وفيها دارت الحرب بين رجال داود والعمونيّين (2 صم 10: 8) حيث كانت تُدعى "بيت رحوب".
أما قوله "في مدخل حماة"، فإن حماة هي بعينها المدينة الحالية التي تسمى حماة، تقع حوالي 130 ميل شمال دمشق وحوالي 30 ميل شمال حمص. يرى البعض قوله "في مدخل" يعني عند الطريق المؤدي إلى حماة ربما يكون الوادي الطويل الذي يقع بين سلسلتي جبال لبنان الغربيّة والشرقيّة والذي فيه يمتد الطريق إلى حماة.
ج. حبرون: اسم عبري يعني "صحبة أو رباط"، كانت تسمى قديمًا "قرية أربع" (تك 23: 2)، كانت تبع يهوذا (يش 15: 48، 54). بنيت سبع سنوات قبل صوعن (تانيس) في مصر، المدينة التي تمت فيها المفاوضات بين موسى وفرعون (مز 78: 12، 43).
كانت حبرون قائمة على الأقل في أيام إبراهيم إذ سكنها بجوارها تحت بلوطات ممرا بعض الوقت (تك 13: 18، 35: 27) هناك ماتت سارة، واشترى إبراهيم مغارة المكفيلة لتكون قبرًا، اشتراها من بني حث (تك 23: 2-20). فيها أيضًا تغرَّب إسحق ويعقوب زمانًا (تك 35: 27، 37: 14). في أيام يشوع بن نون كان ملكها هوهام الذي تحالف هو وملوك يرموت ولخيش وعجلون مع أدوني صادق ملك أورشليم ضد يشوع الذي غلبهم وقتلهم (يش 10). لكن عاد بعض الهاربين وأعادوا بناءها، فوجد فيها من سكانها بعد غزو كنعان (يش 14: 12). طالب كالب بها (قض 1: 10، 19-20)، وأُعطيت للكهنة كإحدى مدن الملجأ (يش 20: 7، 21: 10-13، 1 أي 6: 54-57). كانت حبرون أول كرسي لداود في بدء حكمه، حيث ملك فيها سبع سنوات ونصف (2 صم 1: 1-3، 11: 32، 5: 1-5). وفيها دفن أبنير (2 صم 3: 32)، وفيها عصى أبشالوم أباه (2 صم 15: 7-10). حصنها رحبعام 2 أي 11: 2، 5). وقعت أثناء السبي في يدي بني أدوم، واسترجعها يهوذا المكابي (1 مك 5: 65). أحرقها الرومان عام 68 م.
حاليًا تسمى مدينة الخليل نسبة إلى إبراهيم خليل الله (يع 2: 23)، تعلو 3040 قدمًا فوق البحر، على بعد 19 ميل جنوب غرب أورشليم و5, 13 ميل جنوب غرب بيت. يوجد 25 ينبوع ماء وعشرة آبار كبيرة بجوارها مع كروم وزيتون[84].
كانت حبرون في القرن الثاني عشر كرسيًا لأسقف كاثوليكي[85].
د. أشكول: تعني "عنقود"، ولا يعرف إن كان هذا الاسم قديمًا قبل موسى النبي، أم حمل الاسم في عصره حينما أحضر منه الرجال عنقود العنب. وهو وادي قريب من حبرون غالبًا يقع في شمالها، ولا تزال هذه المنطقة مشهورة بكرومها.
لقد انطلق الرجال من بريّة صين إلى رحوب عند مدخل حماة ثم حبرون حيث وجد الجبابرة الثلاثة أبنا عناق، ثم ذهبوا إلى أشكول. إنها طريق كل نفس تريد أن تعبر إلى الملكوت لتنال السيد المسيح نفسه كعنقود عنب يهب حياة. إنها تبدأ طريقها من بريّة صين أي حيث توجد التجارب والضيقات لا لتعيش في كآبة وتذمر بل تدخل إلى رحوب حيث تتحوَّل التجربة إلى تعزية، والطريق الضيق يصير بالنسبة للمؤمن رحبًا ومفرحًا، يجد نفسه عند مدخل حماة حيث ينعم بالحماية الإلهيّة مختفيًا في مسيحه صخر الدهور. هنا يدخل إلى حبرون أي حياة "الصحبة" مع الله في ابنه الوحيد ومع إخوته أيضًا في المسيح يسوع ربنا فلا يقدر بنو عناق الجبابرة أي الأرواح الشريرة أن تعوقه عن العبور إلى أشكول ليحمل في قلبه عنقود الحياة!
إذن لا يستطيع أحد أن يعبر إلى وادي أشكول إلاَّ خلال التجارب الممتزجة بسلام المسيح وفرحه، فيلتقي ببني عناق المقاومين لملكوت الله، مصارعًا ليس مع لحم ودم بل مع أجناد الشر الروحيّة (أف 6: 12).
في أشكول حمل الرجلان العنقود الواحد على خشبة ليدخلا بها إلى الشعب معلنين تحقيق مواعيد الله. أما الرجلان فهما يشوع وكالب، وكأن الصليب واهب الحياة إنما يحمله "يسوع" المسيح ربنا ويحمله المؤمن بقلب (كالب) مملوء إخلاصًا. إنه صليب يسوع المسيح المخلص الذي يحمله المؤمن كشركة آلام مع سيده ليدخل معه إلى قوة قيامته.
يتحدَّث القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن هذا العنقود المحمول على الخشبة قائلاً: [كان يشوع أحد الذين قادوا الإرساليّة الصالحة، هذا الذي قدَّم تقريرًا موثوقًا فيه، مع تأكيدات. تطلَّع إليه موسى فصار فيه رجاء ثابت نحو الأمور العتيدة، إذ رأى برهانًا على خيرات الأرض خلال عنقود العنب الذي حمله يشوع على الدقرانة. حقًا إذ تسمع يشوع يخبرك عن الأرض وترى العنقود معلقًا على الخشبة تدرك ما رآه وكيف ثبت رجاءه. ما هو عنقود العنب المعلق على خشبة إلاَّ ذاك العنقود الذي عُلِّق في الأيام الأخيرة، الذي سكب دمه كشراب يهب خلاصًا للمؤمنين! لقد تحدث موسى معنا عنه في موضع آخر قائلاً خلال الرمز "دم العنب شربته" (تث 32: 14)، قاصدًا بهذا الآلام المخلصة[86]].
لقد تحدَّث كثير من الآباء عن هذا العنقود كرمز للسيد المسيح المرتفع على الصليب مثل القدِّيسين: يوستين الشهيد[87]، وإيرينيئوس[88]، وهيبوليتس[89]، وإكليمندس الإسكندري[90]، والعلامة أوريجينوس[91].
يقول القدِّيس أغسطينوس: [ دُعي الرب عنقود عنب، هذا الذي صلبه الذين أرسلهم، شعب إسرائيل، وجاءوا به من أرض الموعد معلقًا على عصا كما لو كان مصلوبًا[92]].
ويقول القدِّيس إمبروسيوس: [ أعطى الله لنفسه لقب عنقود العنب بصوت النبي، حينما أرسل موسى الجواسيس إلى وادي العنب كأمر الله. ما هو هذا الوادي إلاَّ اتضاع الجسد وثمار الآلام! إنني أعتقد أنه دُعي عنقود لأنه جاء من الكرمة التي جُبِلَت من مصر أي من الشعب اليهودي، ونما ثمرة لصلاح العالم[93]].
أما القدِّيس يوحنا فم الذهب فيرى في هذا العنقود عربونًا للحياة السماويّة، إذ يقول: [ليتنا لا نحتقر السماء!... فإنه أحضر إلينا ثمارًا من السماء ليست عنقود عنب محمولاً على عصا بل "حرارة الروح" (2 كو 1: 22)، ومواطنة السموات (في 3: 20)، الأمور التي علمنا إياها بولس وكل جماعة الرسل، الكرامون العجيبون. إنه ليس كالب بن يفنة ولا يشوع بن نون هما اللذان أحضرا هذه الثمار بل يسوع ابن "أب المراحم" (2 كو 1: 3)، ابن الله الذي يحضر كل فضيلة، فيجلب من السماء كل ثمارها أي تسبيحاتها[94]!].
4. تقريرهم:
انقسم التقرير المُقدَّم من الرجال إلى قسمين، الغالبية العظمى لم تستطع أن تنكر ما رأته من خيرات لكنها ارتعبت من بني عناق وأرعبوا الجماعة معهم ففقدوا رجاءهم وانحطوا إلى اليأس. لقد جاء التقرير هكذا: "حقًا قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلاً وهذا ثمرها. غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جدًا، وأيضًا قد رأينا بني عناق هناك... وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم" [27-28، 33]. أما القسم الثاني الذي كان يضم كالب مع يشوع فقال: "إننا نصعد ونمتلكها لأننا قادرون عليها" [30].
تحدَّث القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن هذين القسمين قائلاً: [من ناحية أولئك الذين يُقدِّمون رجاءً في الأمور الصالحة إنما هي العلل التي تتولد من الإيمان وثبات الرجاء في الخيرات المُعدَّة لنا. ومن ناحية أخرى توجد العلل التي للمضاد هذه التي تزدري بالرجاء الصالح وتقاوم الإيمان في الأمور المقررة. أما موسى فلم يثق في تقرير المقاومين بل قبل الرجل الذي قدَّم تقريرًا يليق بالأرض (المقدَّسة[95])].
حقًا لقد رأى غير المؤمنين في أنفسهم أنهم كانوا كجراد أمام الجبابرة بني عناق، أما المؤمنون فلا ينظرون إلى أنفسهم وإمكانياتهم الطبيعيّة البشريّة بل إلى الله الذي يتقدمهم وروحه الساكن فيهم يسندهم فيعطي للجراد غلبة على الجبابرة (إبليس وجنوده الروحيّين). يقول العلامة أوريجينوس: [إن قارنَّا الطبيعة البشريّة بالشيطانيّة نجد أنفسنا كجراد وهم جبابرة، خاصة إن كان إيماننا مترددًا أو ضعيفًا فإننا نتراجع إلى الوراء، ويصيرون هم جبابرة ونحن جرادًا. لكننا إن تبعنا يسوع (يشوع) وآمنا بكلامه وامتلأنا إيمانًا به يصيرون كلا شيء أمامنا. حقًا لنسمع ما قيل "إن سُرَّ بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض" (14: 8)، لأنها جيدة جدًا وثمارها عجيبة[96]].
الأصحاح الرابع عشرشهوة الرجوع إلى العبوديّة
إذ قدَّم الرجال تقاريرهم عن الأرض وخيراتها وسكانها حدث تذمر وسط الشعب وبكاء مشتاقين إلى الرجوع مرة أخرى إلى العبوديّة تحت قيادة جديدة غير موسى النبي.
1. تذمر الشعب 1-4.
2. محاولة تهدئتهم 5-10.
3. تهديدات الله بإبادتهم 11-12.
4. موسى يشفع فيهم 13-19.
5. حرمانهم من أرض الموعد 20-35.
6. موت الرجال الأشرار 36-39.
7. تأديب الرب لهم 40-45.
1. تذمر الشعب:
اهتم الشعب بتقرير الرجال الأردياء الذين بعثوا فيهم روح الخوف ولم يسمعوا لكلمة الله ووعوده، فامتلأت حياتهم قلقًا وصاروا يصرخون ويبكون كل الليلة لا ليطلبوا معونة الله وإرشاده بل متذمرين على موسى وهرون، مشتهين التخلص منها والرجوع مرة أخرى إلى العبوديّة. عللوا سرّ قلقهم واضطرابهم بخروجهم من أرض العبوديّة أو قيادة موسى وهرون لهم ولم يدركوا أن ما أصابهم إنما هو من عدم إيمانهم. لهذا يؤكد القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن الإنسان لا يقدر أحد أن يؤذيه ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه[97]. إن سرّ مرارتهم ليس في الظروف المحيطة بهم ولا في القيادة التي تتعهدهم بل في مرض القلب الداخلي وانحراف النفس عن رعاية خالقها.
ما أقسى قلب الإنسان، فإنه عِوَض ذبيحة الشكر التي يقدمها لله الذي حرره من العبوديّة وتعهده في بريّة هذا العالم ليدخل به إلى كنعان الجديدة يتذمر قائلاً: "ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر! ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف، وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة؟ أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر؟" [2-3].
لقد رأوا أن علاج الموقف هو إبادة القيادة الحالية وإقامة قيادة حسب أهوائهم، إذ "قال بعضهم لبعض نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر" [4]. أرادوا أن يتخلصوا من موسى وهرون كما من يشوع وكالب بالرجم (ع 10) ليجدوا قيادة تسلك حسب أهوائهم.
امتدح القدِّيس إمبروسيوس الجاسوسين إذ فضلا أن ينطقا بالحق ولو كان الثمن رجمهما (ع 10) عن أن يفعلا مثل بقية الجواسيس الذين أرضوا الشعب على حساب الحق. يقول القدِّيس: [فضَّلا أن يُرجما كما هددهما الشعب عن أن يتراجعا عن ثباتهما المملوء فضيلة[98]]، [فَضَّل الرجلان الصالحان المجد (الإلهي) عن الأمان، أما الأشرار ففضلوا الأمان عن الفضيلة[99]].
2. محاولة تهدئتهم:
لم يكن أمام موسى وهرون إلاَّ أن يسقطا على وجهيهما أمام كل الجماعة علامة العجز التام عن التصرف معهم، ولصرف روح الغضب ليس فقط عن الجماعة المتذمرة بل وعن الله الذي يؤدبهم لا محالة بسبب التذمر المستمر. حقًا ما أجمل روح الاتضاع فهو زينة الراعي، خلاله يصرف كل تذمر عن حياة شعبه، وبه يشفع لدى الله عنهم.
مزج موسى وهرون اتضاعهما بروح الحكمة وقوة الاقناع إذ قدما يشوع وكالب الذين ذاقا عربون الوعد ونظرا الأرض ليشهدا أمام الجماعة. لقد قالا: "الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها الأرض جيدة جدًا جدًا. إن سُرَّ بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض ويعطينا إياها، أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً. إنما لا تتمردوا على الرب ولا تخافوا من الشعب لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم والرب معنا. لا تخافوهم" [7-9].
لقد شهدا لمواعيد الله أنها غنية وصادقة، تعطي للقلوب المملوءة إيمانًا، موضع سرور الله، لا يستطيع عدو الله أن يفقدنا إياها مادمنا نسرع إليها برجاء بغير اضطراب.
أمام هذا الاتضاع وهذه الشهادة للأسف ازداد الشعب تذمرًا فطلبوا رجم الشاهدين الأمينين (ع 10)، أما الله فأعلن مساندته لرجاله المؤمنين النبي ورئيس الكهنة والشاهدين، إذ "ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل" [10]. إنها مساندة إلهيّة علانية، حين رفضهم الناس ولو بإجماع كان الله معهم يسندهم ويرافقهم.
3. تهديدات الله بإبادتهم:
إذ تمادى الشعب في تذمره كعادته التزم الله بالتهديد قائلاً لموسى: "حتى متى يهينني هذا الشعب؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟ إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيرك شعبًا أكبر وأعظم منهم!" [11-12].
كعادته لم ينفذ التأديب في الحال لكنه يعرض الأمر على نبيه موسى، ففي هذا كشف عن معاملات الله مع الإنسان أنه يود أن يصادقه، يكشف له أسراره ويحدثه في تصرفاته خاصة مع البشريّة. هذا ما فعله الله مع إبراهيم حين أراد الله معاقبة سدوم وعمورة، إذ قال: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟" (تك 18: 17). بهذا يقدم الله لنا مفهومًا حيًا للرعاية، فإن كان الله كلي الحكمة والراعي الصالح وحده لا يخفي تدابيره عن خدامه، كيف يمكن لإنسان مهما بلغت رتبته الكهنوتيّة أو قامته الروحيّة أن يسلك بفكر فردي دون مشاركة إخوته وشركائه في الخدمة؟
ولعل الله أراد بعرضه هذا الأمر على موسى أن يعطيه الفرصة لينذر الشعب لعلهم يقدمون توبة فيغفر لهم، أو لعله أراد أن يعطي فرصة جديدة لموسى النبي أن يشفع عن الشعب المقاوم له فيتزكى بالأكثر إذ يطلب لهم أكثر مما لنفسه. لقد وقف قبلاً أمام الله حين حمي غضب الله على شعبه وتشفع فيهم قائلاً: "الآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). ففاق بحبه هذا في عيني الله عن كل ما فعله من آيات وعجائب، وتزكى في عيني السماء والأرض. لقد تكرَّر الأمر كثيرًا فصارت حياة موسى أشبه ببخور مقدس أو صلاة دائمة عن شعبه. هذا ما أعطاه مكانة لدى الله، حتى صار الله يسمع له، إذ يقول له: "هذا الأمر أيضًا الذي تكلمت عنه أفعله، لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك" (خر 33: 17). تضرع موسى لدى الله فغيَّر الله أحكامه، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن كان لدى الله أسباب للسخط ضد الإنسان، فإنه بابتهالات الإنسان وتضرعاته يهدأ هذا الغضب، حتى يحصل الإنسان من الله على تغيير الأحكام التي سبق فأصدرها، إذ أن لطف الله الذي يتبع الغضب يُظهِر مكانة موسى لدى الله[100]].
ويرى العلامة أوريجينوس في تهديدات الله للشعب يحمل نبوءة تحققت بمجيء السيد المسيح وقبوله شعب آخر من الأمم غير اليهود، إذ يقول: [هذا التأديب لم يأتِ عن غضب الله إنما هو نبوءة. فإنه يجب أن تُختار أمة أخرى من بين شعوب الأمم، لكن هذا لا يتم بواسطة موسى... لأن الشعب (الجديد) لا يحمل الاسم الموسوي بل اسم المسيح[101]].
4. موسى يشفع فيهم:
برز في هذا السفر كما في سفر الخروج شخصيّة موسى كشفيع عن شعبه لدى الله إذ يقول "اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك" [13]. إنها صورة رمزيّة لشفاعة السيد المسيح الكفاريّة عن خطايا البشريّة لدى الآب خلال دمه الكريم، إذ يصرخ على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون".
في شفاعة موسى يُذَكِّر الرب أولاً بالشعوب الشامتة التي تتعثر قائلة: "لأن الرب لم يقدر أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم قتلهم في القفر" [16]. كما يُذَكِّره برحمته وطول أناته: "فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلاً: الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنه لا يبريء بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع. اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك" [17-19]. يُذَكِّره بكلماته فإن الله يصفح عن الآباء منتظرًا توبتهم فإن لم يتوبوا يصفح عن أبنائهم أيضًا من أجل طول أناته لكن إن صممت الأجيال التالية على عدم التوبة بل سلكوا طريق آبائهم الشرير عندئذٍ يؤدب[102]. هكذا تظهر طول أناة الله على البشريّة. وللقديس ﭽيروم تعليق جميل على ذلك بالنسبة لطول أناة الله على الإنسان إذ يرى الله لا يعاقب الإنسان في الحال على فكره الطاريء ولا على الجيل الأول حينما يتقبل الفكر إلى حين لكنه يؤدب على الجيل الثالث والرابع حينما تتحول الأفكار إلى أعمال وإلى عادات، إذ يقول: [هذا يعني أن الله لا يعاقبنا في الحال على أفكارنا ونياتنا بل يرسل التأديب على أولادهم أي على الأفعال الشريرة وعادات الخطيئة النابعة عنهم[103]].
5. حرمانهم من أرض الموعد:
قَبِل الرب شفاعة موسى النبي فلم يَبِد الشعب لكنه لم يسمح لهم بدخول أرض الموعد، إنما أعطى الوعد لأولادهم إذ يقول: "قد صفحت حسب قولك. ولكن حيّ أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب. إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البريّة وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها" [20-23]. مستثنيًا يشوع وكالب من أجل إيمانهما بوعده.
الله يصفح عن خطايانا عندما نتوب لكنه يؤدب ليس كأجرة للخطيئة، فقد دفع الثمن بالكامل على الصليب وإنما لكي نتذوق من ثمارها المُرّة فلا نعود إليها. ليس منا من يحتمل ثمرة خطاياه كما هي لأنها موت أبدي لكن من أجل كثرة مراحمه يترك بعض الآثار تعمل لمضايقتنا إلى حين وقدر احتمالنا فنكره الخطيئة، وندرك أنها خاطئة جدًا.
صفح الله لكنه يؤدب عِوَض الأربعين يومًا التي تجسسوا فيها الأرض يبقون أربعين عامًا في البريّة تائهين (ع 34)، يؤدبون فيها سنة كاملة عن كل يوم! قد يتساءل أحدنا: أليس في هذا نوع من القسوة أن يؤدب الإنسان سنة عن اليوم الواحد؟ يجيب العلامة أوريجينوس على هذا السؤال قائلاً: [إن كان الإنسان يجرح بالسيف في أقل من ساعة فيتعرض لآلام كثيرة تصيب جسده وعظامه فيحتاج إلى فترة علاج طويلة، وربما تحدث له مضاعفات وتترك الجراحات آثارًا أو عاهات، أليس هذا ما يحدث أيضًا مع النفس حين يجرحها سيف الخطيئة أو كما يقول الرسول: "سهام الشرير الملتهبة نارًا" (أف 6: 16)!
[آه لو أمكننا أن نرى في كل خطيئة نرتكبها كيف يجرح الإنسان، وكيف تسبب الكلمات الرديئة آلامًا؟ ألم نقرأ: قيل أن السيف في جرحه أهون من اللسان! إذن باللسان تجرح النفس، وبالأفكار الشريرة والشهوات الدنسة تنكسر النفس وتتحطم بأعمال الخطيئة. لو استطعنا أن نرى الأمور كما هي ونشعر بجراحات النفس لكننا نقاوم الخطيئة حتى الموت[104]].
ويُعلِّق العلامة أوريجينوس أيضًا عن هذا التأديب قائلاً: [يجب على كل خاطيء أن يعاني عامًا من الشقاء مقابل كل يوم من الخطيئة، فكم من السنين تقابل الأيام التي نعيشها في الخطيئة يلزم أن نمر بها في العقاب نحن الذين نخطيء كل الأيام ولا يمر علينا يوم بدون خطيئة[105]؟].
على أي الأحوال إذ قبل الشعب "عدم الإيمان" ذاقوا ثماره المُرَّة من حالة رعب، إذ قالوا "لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا" (عد 13: 31)، وحالة خسارة وفقدان إذ حرموا من أرض الموعد (ع 30)، وسقطوا تحت التأديب أربعين عامًا عوض الأربعين يومًا (ع 34)، بل وصاروا تحت حكم الموت، إذ قال الرب: "في هذا القفر يفنون وفيه يموتون" [35]. أما سرّ هذا كله فهو أنه بالخطيئة يفارقهم الرب: "إنكم قد ارتدتم عن الرب فالرب لا يكون معكم" [43]. فقدوا الرب سرّ قوتهم وسلامهم وفرحهم ومكافأتهم بل وحياتهم.
6. موت الرجال الأشرار:
إذ كان الشعب في مرحلة الطفولة الروحيّة لا يؤمن إلاَّ بما يعاينه ويلمسه، لهذا سمح الرب بضرب الرجال العشرة بالوباء فماتوا (ع 37) حتى يدرك الكل ماذا يفعل عدم الإيمان بهم.
7. تأديب الشعب:
ندم الشعب على تذمره وبكوا جدًا، لكنهم عِوَض الطاعة أصروا على الصعود إلى أرض الموعد. حذَّرهم موسى النبي لكنهم أصروا فأهلكهم العمالقة والكنعانيّون.
حقًا ما أعجب الإنسان أن يطلب الرب منه أن يصعد، فيخاف ويرتعب في عدم إيمان، وإذ يحذِّره من الصعود يخرج من تلقاء ذاته فيهلك!
لقد ضربهم الكنعانيّون مع العمالقة حتى إلى مدينة حرمة التي تعني "موضع مقدّس أو محرّم"، وهي مدينة ليست بعيدة عن قادش. وقد استولى عليها العبرانيّون فيما بعد (عد 21: 3)، وقد صارت من نصيب يهوذا لكنها نُقلت فيما بعد إلى شِمْعون (قض 1: 17، يش 15: 30، 19: 4). وكانت عزيزة لدى داود النبي عندما كان طريدًا، إذ أرسل إلى أصدقائه هناك جزءًا من غنائم صقلغ (1 صم 30: 30).
الأصحاح الخامس عشر
وصايا للتقديس
إذ انكسر الشعب أمام الملائكة والكنعانيون إلى حرمة أي إلى "الموضع المقدَّس"، قدم الله لهم وصايا للتقديس، وكأنه أراد أن ينسيهم السقوط لا في استهتار أو استهانة وإنما خلال "الحياة المقدَّسة" التي تهبهم الغلبة الروحيّة، فحدثهم عن:
1. تقديم ذبائح ومحرقات 1-21.
2. محرقة خطيّة السهو العام 22-26.
3. ذبيحة خطيّة السهو الخاص 27-31.
4. تقديس السبت 32-36.
5. العصابة الأسمانجونيّة 37-41.
1. تقديم ذبائح ومحرقات:
نترك الحديث عن الذبائح والمحرقات والتقدمات في تفاصيلها ورموزها لسفر اللاويّين، لكننا نلاحظ في حديثه هنا:
أولاً: يبدأ حديثه مع موسى النبي بقوله: "قل لهم متى جئتم إلى أرض مسكنكم التي أنا أعطيكم وعملتم وقودًا للرب..." مكررًا هذه العبارة مرة أخرى بكلمات أخرى (ع 1، 17). كأن الله بعد أن أعلن تأديبهم بعدم الدخول إلى أرض الموعد أراد أن يؤكد لهم أن ما يهبه لأولادهم إنما يعطيه لهم، فيرفع من حياتهم المعنوية ويبعث فيهم الرجاء من جديد، فلا يكملوا الطريق في البريّة بنفس محطمة! لقد أراد لهم ألاَّ يفكروا كثيرًا في سقطات الماضي ومرارته بقدر ما يستعدوا للمكاسب الروحيّة المقبلة والتمتع بوعود الله الأمينة. فإن عصيانهم هو سرّ انكسارهم الحالي والماضي، فإن عبادتهم الروحيّة هي العلاج، لهذا حدَّثهم عن الذبائح والتقدمات.
ثانيًا: أوضح لهم هنا قبوله الأمم معهم كأعضاء في الكنيسة المقدَّسة تشاركهم عبادتهم وشريعتهم، إذ يقول: "أيتها الجماعة لكم وللغريب النازل عندكم فريضة واحدة دهرية في أجيالكم. مثلكم يكون مثل الغريب أمام الرب. شريعة واحدة وحكم واحد يكون لكم وللغريب النازل عندكم" [15-16].
2. محرقة خطيّة السهو العام:
تقدم ذبيحة عن السهو الذي تسقط فيه الجماعة...
مع أن ما حدث كان سهوًا لكن الجماعة تلتزم بتقديم الذبيحة أولاً للكشف بطريقة ملموسة عن أهمية الحياة المقدَّسة في الرب وبشاعة الخطيئة حتى وإن ارتكبت سهوًا. ثانيًا السهو يكشف عن عدم مبالاة الإنسان وعدم اهتمامه بالوصيّة، فلو أنه مستغرق فيها ويحبها لانشغل بها ولا ينساها.
3. ذبيحة خطيّة السهو الخاص:
ميّز الرب بين الخطيئة التي تُرتكب سهوًا بسبب النسيان والتي تُرتكب عمدًا، الأولى مع خطورتها إذ تكشف عن عدم الاهتمام بالوصيّة لكن الله يتراءف ويطلب تقديم ذبيحة خطيّة عنها فيغفر، وبهذا لا يعود الإنسان ينسى الوصيّة الإلهيّة. أما الخطيّة التي تُرتكب عمدًا فأجرتها: "تُقطع تلك النفس من بين شعبها، لأنها احتقرت كلام الرب ونقضت وصيته. قطعًا تُقطع تلك النفس، ذنبها عليها" [30-31].
4. كسر وصيّة السبت:
بعد أن سحب قلب الشعب إلى الحياة المقدَّسة خلال ذبيحة الصليب موضحًا لهم خطورة الخطيئة حتى وإن كانت سهوًا، على المستوى الجماعي أو الفردي، أراد أن يكشف لهم بمثال عملي كراهيته للخطيئة وخاصة "كسر يوم السبت". لقد وجدوا في البريّة رجلاً يحتطب حطبًا في يوم السبت، فوضعوه في المحرس حتى يعلن الرب حكمه عليه، فجاء هكذا: "قتلاً يُقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المَحَلَّة" [35].
يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن رجم المحتطب كان مثالاً للآخرين، كما حدث في أمر حنانيا وسفيرة، حتى لا يتكرر الأمر[106]. إنه يقول: [لماذا عوقب الذي كان يجمع الحطب؟ لأنه لو حدث استخفاف بالشرائع في البداية فإنه يصعب مراعاتها بعد ذلك. حقًا كان لحفظ السبت مزايا كثيرة وعظيمة: يجعلهم لطفاء مع أهل البيت وكرماء (إذ لا يعمل الخدم ولا العبيد)، ويعلمهم عناية الله والخليقة كما يقول حزقيال (20: 12)، مدربًا إياهم بالتدريج على الامتناع عن الشر والاهتمام بأمور الروح[107]].
5. العصابة الأسمانجونيّة:
يقول الرب لموسى: "قل لهم أن يصنعوا لهم أهدابًا في أذيال ثيابهم في أجيالهم، ويجعلون على هُدب الذيل عصابة من أسمانجوني" [38]. إن كان هُدب الذيل يصل إلى التراب، فإنه بوضع عصابة من أسمانجوني (لون سماوي) يجعل أفكارنا سماويّة حتى وإن كنا نعيش بالجسد (الثوب) على الأرض!
الأصحاح السادس عشراغتصاب الكهنوت
لم يقف الأمر عند تذمر الشعب نفسه بل تسرَّب إلى بعض اللاويّين والرؤساء الذين أرادوا اغتصاب الكهنوت متهمين موسى وهرون بالكبرياء على الشعب وتمييزهما لأنفسهما عن بقية الجماعة.
1. قورح وجماعته 1-3.
2. موقف موسى 4-14.
3. فرز الكهنوت الحقيقي 15-19.
4. تأديب المزيفين 20-35.
5. مجامر قورح وجماعته 36-40.
6. تذمر الشعب 41-50.
1. قورح وجماعته:
أراد قورح وداثان وأبيرام اغتصاب الكهنوت ومعهم 250 من رؤساء الجماعة ذوي اسم، قائلين: "إن كل الجماعة مقدَّسة وفي وسطها الرب، فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟" [3]. لقد رأوا في تسلم موسى النبوة وهرون رئاسة الكهنوت تمييزًا لهما عن الجماعة المقدَّسة، فأرادوا أن يكون الكهنوت مشاعًا لا يقف عند سبط دون آخر أو إنسان دون غيره.
إن كان عامة الشعب غالبًا ما يُضرب بروح التذمر بسبب الأكل والشرب وشهوات الجسد، فإن أصحاب الاسم والعظماء يحاربون بضربة أقسى وأمَرّ ألا وهي "الكبرياء". فقورح وهو من بني قهات الذين ميَّزهم الرب بحمل المقدَّسات الإلهيّة الثمينة روحيًا دفع به الكبرياء لاغتصاب الكهنوت ليس خدمة للآخرين بل عطشًا إلى الكرامة، إذ قال لموسى وهرون: "لماذا ترتفعان على جماعة الرب؟"، وكأن نظرته إلى الرتب الكنسية ليست نظرة خدمة وأبوة بل تسلط وكرامة!
استطاع قورح أن يثير داثان وأبيرام ومائتين وخمسين من رؤساء الشعب ذوي اسم، بل وأثار الجماعة كلها ضد موسى وهرون. للأسف أن المبتدعين والمنشقين على الكنيسة غالبًا ما يكونوا ذوي اسم ومواهب تنحرف بهم للهدم عِوَض البنيان، والانشقاق عِوَض الوحدة.
كانت نهاية قورح المتكبر وأيضًا داثان وأبيرام انشقاق الأرض وابتلاعهم أحياء، أي سقطوا إلى الهاوية. لهذا يُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص قائلاً:
[يعلِّمنا الكتاب المقدَّس- كما أظن- إنه إذ يرفع الإنسان نفسه بعجرفة ينتهي بسقوطه أسفل الأرض! لهذا فليس بدون سبب تُعرَّف الكبرياء أنها صعود إلى أسفل[108]].
[إن كان الذين يرفعون أنفسهم فوق الآخرين بطريقة ما ينحطون إلى أسفل، إذ فتحت الأرض هوتها لتبتلعهم، فإنه ليس لأحد أن يناقش تعريف الكبرياء أنه سقوط دنيء[109]].
[إن نظرت إنسانًا يظهر نفسه طاهرًا يعلو فوق ألم الملذات، وبحماس عظيم يحسب في نفسه أفضل من غيره، متعطشًا نحو الكهنوت، فتحقق أن الذي تراه إنسان ساقط إلى الأرض بكبريائه المتشامخ[110]].
ويُعلِّق القدِّيس إكليمندس الروماني على موقف هؤلاء الرجال هكذا: [ألقى الحسد داثان وأبيرام حيين في الجحيم لأنهما أشعلا ثورة ضد موسى خادم الله[111]]. [من الأفضل أن يعترف الإنسان بخطاياه بدلاً من أن يقسو قلبه كما قست قلوب الذين ثاروا ضد موسى خادم الله فكان عقابهم علانية، إذ نزلوا أحياء في الجحيم وابتلعهم الموت[112]].
2. موقف موسى:
"فلما سمع موسى سقط على وجهه" [2]. إذ تسلم رسالته من الله لا يقدر أن يتصرف إلاَّ بالرجوع إليه في اتضاع وانسحاق. بينما يرتفع قلب قورح وجماعته بالكبرياء يتضع موسى جدًا، وكأن الاتضاع يفرز الخادم الحقيقي من المزيف.
سلَّم موسى الأمر في يدي الله طالبًا منهم- حسب شهوة قلوبهم- أن يقدموا بخورًا بعد أن حذَّرهم من اغتصاب العمل الكهنوتي (ع 10). تقدَّم قورح في كبرياء قلبه مع المئة والعشرين رئيسًا يقدمون البخور، أما داثان وأبيرام فلم يقبلا أن يأتيا لمقابلة موسى متهمين إياه أنه يترأس على الشعب وقد جاء بهم إلى البريّة ليميتهم، ولم يأتِ بهم إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً.
3. فرز الكهنوت الحقيقي:
موسى النبي الحليم جدًا "اغتاظ جدًا، وقال للرب: لا تلتفت إلى تقدمتهما. حمارًا واحدًا لم آخذ منهم، ولا أسأت إلى أحدٍ منهم" [15]. لم يكن موسى مدافعًا عن نفسه، بل كان غيورًا على كهنوت الرب المغتصب وعلى شعب الله الذي يتعرض للتذمر بسبب كلامهم.
4. تأديب المزيفين:
اعتزلت الجماعة مسكن قورح وداثان وابيرام، حيث انفتحت الأرض وابتلعت الرجال وكل ما لهم من نساء وأطفال، فهبطوا إلى الهاوية أحياء، أما المائتان وخمسون رئيسًا فخرجت نار من عند الرب وأكلتهم.
ليس شيء يحزن قلب الله مثل اغتصاب العمل الكهنوتي وإثارة انشقاق وسط الكنيسة، لهذا كان تأديب قورح وجماعته أقسى أنواع التأديبات، إذ انشقت الأرض لتبتلعهم، وكأنهم قد صاروا من جملة الشياطين التي تهبط تحت الأرض! يقول القدِّيس إيرينيئوس: [حقًا يجلب الهراطقة نارًا غريبة إلى مذبح الله، أي يجلبون تعاليم غريبة، لهذا يحترقون بنار من السماء كما حدث مع ناداب وأبيهو (لا 10: 1-2). أما الذي يقف ضد الحق، ويثير الآخرين ضد كنيسة الله، ويدخل مع الذين في الجحيم، إذ يبتلعه زلزال كما حدث مع قورح وداثان وأبيرام. أما الذين يشقون الكنيسة ويمزقون وحدتها فيتقبلون ذات العقوبة التي سقط فيها يربعام[113] (1 مل 14: 10)].
وللقديس كبريانوس تعليق على هذا الأمر وهو يتحدَّث عن الهراطقة ومسببي الانشقاق إذ يقول: [لقد عرف قورح وداثان وأبيرام الله ذاته الذي عرفه هرون الكاهن وموسى، وعاشوا تحت نفس الناموس الذي لهما وذات الإيمان، وكانوا يتضرعون لله الواحد الحقيقي ويسألونه متعبدين له، ومع هذا إذ تعدوا خدمة وظيفتهم ضد هرون الكاهن الذي قَبِل الكهنوت الحقيقي... وادعوا لأنفسهم سلطان تقديم الذبيحة ضُربوا ضربة إلهيّة وسقطوا في الحال تحت العقاب بسبب تصرفاتهم غير اللائقة وتقديمهم ذبائح مملوءة تجديفًا غير قانونيّة ضد الحق الإلهي، ولم تستطع الأمور الأولى أن تعفيهم من العقاب أو تفيدهم[114]].
ويرى القدِّيس كبريانوس أن عنف التأديب وقسوته كان لأجل تعليم الآتين من بعدهم[115]. هكذا يستخدم الله الشدة في بدء كل كسر لوصيّة معينة ليعلن مرارة كسرها ويحذِّر الأجيال القادمة بطريقة ماديّة ملموسة.
وللقديس كبريانوس أيضًا تعليق على هذا الأمر إذ يُحذِّرنا من خطيّة التذمر قائلاً: [يليق بنا أيها الإخوة الأحباء ألاَّ نتذمر، بل نحتمل بصبر وشجاعة كل ما يحدث، فقد كتب "الذبيحة لله روح منسحق؛ القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17)، وجاء في سفر التثنية: "لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم[116]" (تث 13: 3)...].
أما المائتان وخمسون رئيسًا فإذ أحرقوا بخورًا بغير استحقاق نزلت نار من عند الرب وأكلتهم.
لماذا أمر الرب أن تعتزلهم الجماعة؟ يجيب القدِّيس كبريانوس قائلاً: [أمر الرب موسى أن ينفصل الشعب عنهم لئلا بخلطتهم بالأشرار يسقطون معهم في الشر[117]].
ولماذا ابتلعت الأرض الرجال الأشرار ونساءهم وأولادهم وأطفالهم؟ إنه يمثل اقتلاع كل جذور الخطيئة العاملة في النفس (الرجال) والجسد (النساء) وطاقات الإنسان ومواهبه (الأطفال) فالخطيئة إذ تفسد النفس والجسد وطاقات الإنسان ومشاعره وعواطفه... الخ، يخسر الإنسان كل شيء!
لاحظ القدِّيسان ﭽيروم وأغسطينوس أن قورح يعني "جلجثة calvary" لهذا وإن كان قورح قد مات بخطيته مع زوجته وأولاده، لكن كان له أحفاد مباركين هم أبناء العريس المصلوب على الجلجثة، صاروا فرقة للتسبيح للرب، جاءت مزاميرهم كلها مملوءة فرحًا. يقول القدِّيس أغسطينوس: [أولاد قورح هم أولاد العريس المصلوب في موضع الجلجثة[118]]، ويقول القدِّيس ﭽيروم: [أي مزمور يرد فيه ذكر أبناء قورح في عنوانه يكون مزمورًا مفرحًا، ليس فيه شيء من الحزن. فإن كان الرب قد عاقب قورح وداثان وأبيرام بسبب مقاومتهم موسى، لكن لكن أبناء قورح إذ لم يقاوموا مثل أبيهم تباركوا بالفرح الأبدي[119]].
5. مجامر قورح وجماعته:
إن كان الله قد أدَّب الكهنة المزيفين، أو مغتصبي الكهنوت، لكنه يرى في المجامر التي استُخدِمت لتقديم بخور باسمه القدوس قد تقدَّست. لهذا طلب من موسى النبي أن تُطرق هذه المجامر النحاسيّة ويُغشى بها المذبح النحاسي.
لماذا أمر الرب بذلك؟ يُجيب العلامة أوريجينوس بأن المجامر تشير إلى الكتاب المقدَّس الذي يسيء الهراطقة والمنشقون استخدامه، فيقدمون بخورًا مرذولاً. كأن العيب ليس في المجامر أو البخور وإنما فيمن يستخدمه. أما كونها من النحاس وليس من الذهب أو الفضة (مز 12: 6)، ذلك لأنها تقدم صدى الكلمات بغير قوة الروح، كقول الرسول بولس: "صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن" (1 كو 13: 1). إذ تُطرق المجامر ويُغشى بها المذبح يظهر بالأكثر لمعان المذبح وبهاؤه، ويعلن العمل الشرير، ينكشف الحق من الباطل، الإيمان السليم من الهرطقات. [من كان يدرك أن النور حسن مالم يختبر ظلمة الليل؟ ومن الذي يُقدِّر حلاوة العسل مالم يذق شيئًا مُرًا؟... هكذا لا يمكن مجد الكهنة المخلصين أن يتلألأ إلاَّ بظهور عقاب الأردياء. كما قرأنا كل بار يبدو في أكبر عظمة أمام الله بمقارنته بغيره، فقد كُتب عن نوح أنه كان بارًا كاملاً في أجياله (تك 6: 9). بهذا يظهر أنه لا يوجد إنسان كامل بطريقة مطلقة، إنما يحسب بارًا "في أجياله". يعلن أنه بار بمقارنته مع الآخرين. في رأيي بالنسبة للوط، كلما عظم فساد سدوم من يوم إلى يوم كان برّ لوط يتعظم. وفي السفر الذي بين أيدينا في دعوة الجواسيس للأرض الموعود بها عندما دفع العشرة الشعب إلى اليأس... بينما أعلن الاثنان الآخران- كالب ويشوع- الأخبار الحسنة وشجعا الشعب (عد 14: 6) على الاستمرار بعزيمة قويّة نالا مكافاة لا تفنى من قِبَل الرب... ما كان لقوة روحيهما أن تلألأ بهذه العظمة لو لم يظهر جبن العشرة الآخرين المملوءة خزيًا. أقول هذا كله من أجل مجامر المذنبين، فإنه يجب أن توضع على المذبح لكي يظهر مجد الأبرار أكثر ارتفاعًا بالمقارنة بانحطاط هؤلاء. بهذا تصير المجامر مثالاً للأجيال القادمة فلا يتكبر أحد ويعتد بذاته ويأخذ الاستحقاق الحبري دون أن يتسلمه من قِبَل الله... فلا يُغتصب المركز بالرشوة بل يصعد حسب ضمير استحقاقاته حسب إرادة الله[120]].
6. تذمر الشعب:
مرة أخرى يتذمر الشعب على موسى وهرون بسبب تأديب الرب لهؤلاء الرجال المغتصبين للعمل الكهنوتي. هاج الكل على موسى وهرون واتهموهما بالقتل (ع 41)، الأمر الذي يكشف أولاً عن مدى تأثير قورح وجماعته على الجماعة كلها حتى أنها لم ترتدع بالرغم مما رأوه من تأديب إلهي يصدر من السماء (نارًا) ومن الأرض (تفتح فاها)، كما تكشف عن طبيعة هذا الشعب أو طبيعة الإنسان- خارج النعمة- أنه دائم التذمر.
إذ رأى الشعب كله في هذا الحال المُرّ طلب من موسى وهرون أن يخرجان عن الجماعة لكي يفنيها في لحظة (ع 45)، لكن الاثنان خرا على وجهيهما أمام الله، فتراءى مجد الرب وشفع موسى عن شعبه، وطلب من هرون أن يبخر بسرعة وسط الجماعة ليتوقف الوبأ!
لست أريد أن أكرر أن هذا السفر وهو يكشف طبيعة الإنسان المتذمر يكشف قلب موسى الملتهب حبًا، الدائم الشفاعة عن شعبه.
يلاحظ في هذه الأحداث الاتي:
أولاً: إذ اقترب الأذى من موسى وهرون بواسطة الشعب غطت السحابة الخيمة وتراءى مجد الرب. يقول العلامة أوريجينوس: [ما كان يظهر لهما مجد الرب لو لم يصيرا هدفًا للاضطهاد والشدائد ويحدق بهما الخطر حتى قاربا من الموت. إذن لا تأمل أن ترى مجد الرب وأنت نائم في راحة! أليس وسط هذه الصعوبات استحق الرسول أيضًا أن يرى مجد الله؟ ألا تذكر أنه دخل أكثر من مرة في ضيقات وأتعاب وسجون (2 كو 11: 23-27) وضُرب بالعصي ثلاث مرات ورُجم مرة وعانى من الغرق واحتمل أخطارًا في البحر، أخطارًا في الأنهار، أخطار لصوص، أخطارًا من إخوة كذبة. كلما كثرت الآلام ظهر مجد الله للذين يعانون منها بشجاعة[121]].
ثانيًا: شفاعة موسى وهرون عن الشعب واستجابة الرب لهما، إنما تشير إلى عمل الكلمة الإلهيّة أو الوصيّة (موسى مستلم الشريعة) وعمل العبادة (هرون الكاهن) في حياتنا، ففي المسيح يسوع كلمة الله والكاهن الأعظم نتمتع بالخلاص ويُنزع الغضب الإلهي عنا إن تمسكنا بوصاياه ومارسنا العبادة كما يليق.
ثالثًا: أحب موسى مقاوميه ومضطهديه، وطلب من هرون الكاهن أن يسرع ويقدم بخورًا وسط الجماعة لخلاصهم، وكأن موسى وهو يمثل عصر الناموس حمل فيه قوة الإنجيل (حب المقاومين مت 5: 44).
رابعًا: وقف هرون بين الموتى والأحياء يقدم بخورًا لكي يوقف عمل الموت في حياة الأحياء. إنها لحظات سعيدة عاشها هرون حين وقف رمزًا للمسيح غالب الموت. وكما يقول القدِّيس إمبروسيوس: [ماذا عن هرون؟ أي وقت كان فيه أكثر غبطة من ذلك الذي فيه وقف بين الأحياء والأموات، وبحضرته أوقف الموت عن العبور من أجساد الموتى إلى حياة الأحياء[122]].
خامسًا: ظهر البخور هنا كرمز للصلاة، لهذا يتنبأ ملاخي النبي عن تقديمه في كنيسة العهد الجديد قائلاً: "وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة" (مل 1: 11)، كما رأى القدِّيس يوحنا في العبادة السماويّة ملاكًا يقدم بخورًا في مجمرة من الذهب[123] (رؤ 8: 3-4).
الأصحاح السابع عشرعصا هرون
إذ تذمر الشعب على موسى وهرون بسبب ما حدث لقورح وجماعته مغتصبي الكهنوت، أراد الله أن يؤكد للشعب بطريقة ملموسة اختياره هرون رئيسًا للكهنة، فارزًا إياه عن الكهنوت المزيف.
1. عصا لكل سبط 1-7.
2. ثمرة اللوز 8-9.
3. عصا هرون والشهادة 10-13.
1. عصا لكل سبط:
أراد الله أن يؤكد للكل أن اختيار الكهنة أمر يخصه هو شخصيًا، وكما يقول الرسول بولس: "لا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضًا" (عب 5: 4). لقد أخذ موسى عصا من كل سبط يكتب على كل منها اسم رئيس السبط، وكأنها تمثل عصا الرئاسة أو الأبوة للسبط، أما عصا سبط لاوي فكتب عليها اسم هرون، وإذ قدمت العصي أمام تابوت الشهادة في الخيمة وجدوا في الغد أن عصا هرون قد أفرخت وأزهرت بل وأثمرت لوزًا. يلاحظ في هذا العمل العجيب:
أولاً: تشكيكات قورح وجماعته لم تهز هرون بل ثبتت عمله في عيني الله والناس، فإن التجارب تزيد الإنسان مجدًا، وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [كما في حالة هرون، لقد ثاروا ضده، فأكدوا عظمته، إذ لم يعد أمرسيامته موضع تساؤل بل موضع إعجاب[124]].
ثانيًا: أكَّد الله اهتمامه باختيار الكهنة بنفسه، وكما يقول القدِّيس إمبروسيوس: [هكذا اختار الله بنفسه هرون كاهنًا حتى لا يكون للإرادة البشريّة موضع بل تقوم نعمة الله بالدور الأعظم في اختيار الكاهن. فلا يتقدم الإنسان من نفسه للكهنوت ولا بإلزام (من الناس) إنما يتقبله دعوة من السماء[125]]. هذا ما دفع الكنيسة أن تصلي في كل ليتورجية لله قائلة: "الذين يُفَصِّلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم على كنيستك[126]". هو وحده العارف القلوب المستقيمة يختار من يصلح لخدمته. وحينما أعلن الله لموسى أن وقت نياحته قد حان كانت طلبته الأخيرة عن شعبه: "ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة" (عد 27: 16). ولم يرد الشيخ النبي موسى صاحب الخبرة الطويلة في القيادة، والعارف بكل الرؤساء وذوي الاسم أن يختار، طالبًا من إله الأرواح العارف الأعماق الداخليّة أن يختار حسب إرداته الإلهيّة!
ثالثًا: يرمز هرون الذي أفرخت عصاه إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، يقول العلامة أوريجينوس: [المسيح هو الكاهن الأعظم الحقيقي، وهو الوحيد الذي أفرخت عصاه التي هي الصليب، بل وأزهرت وأنتجت ثمارًا لكل المؤمنين[127]].
رابعًا: ترمز عصا هرون التي أفرخت إلى السيدة العذراء مريم التي أنجبت ابن الله المتجسد، إذ قدمت لنا ثمرة الحياة. فهي كالعصا في ذاتها لا تقدر أن تنجب، لكنها إذ دخلت في دائرة نعمة الله قدمت لنا ابن الله القدوس متجسدًا في أحشائها. لهذا تترنم الكنيسة في ثيؤطوكية الأحد قائلة:
"بالحقيقة أنت أعظم من عصا هرون،
أنت ممتلئة نعمة،
العصا رمز لبتوليتها.
لقد حبلت بابن العلي- الكلمة ذاته- وولدته بغير زرع بشر!".
بهذا صارت عصا هرون تشير إلى الكنيسة الجامعة والتي تمثل العذراء العضو الأمثل فيها، فقد صار المسيح ساكنًا فينا، حملناه كثمرة حياة في داخلنا نحن الذين كنا كعصي جافة بلا حياة. وما أقوله عن كل عضو في الكنيسة أقوله، بالأكثر عن الكاهن الذي يحمل ثمار إلهيّة في خدمته إن قَبِل العمل الكهنوتي من الله مستخدمًا الوسائط الإلهيّة في خدمته لا الطرق البشريّة.
2. ثمرة اللوز:
إذ تحولت العصا الجافة إلى غصن حيّ يحمل أوراقًا وزهورًا وثمر لوز ظهر غنى نعمة الله الفائقة في كنيسته من جوانب كثيرة، نذكر منها:
أولاً: حملت شهادة ماديّة ملموسة عن سيامة هرون كاهنًا من السماء مباشرة. يقول القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص: [كانت النتيجة أن عصا واحدة قد صارت شهادة للسيامة السماويّة، إذ تميزت عن بقية العصي بمعجزة إلهيّة[128]].
ثانيًا: قدمت هذه العصا صورة رمزيّة حيّة عن حياة الخادم، إنه يصير كاللوز من الخارج له غلاف خشبي خشن لكنه في الداخل يحمل عذوبة الأبوة وحنان الرعاية، مقدمًا طعامًا روحيًا شهيًا لأولاده. يقول القدِّيس إمبروسيوس[129] أن عصا هرون كانت من الخارج خشبة لكنها في الداخل حلوة. ويقول القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص: [من اللائق أن ندرك نوع الحياة التي تميز الكهنوت خلال الثمرة التي اتنجتها عصا هرون، أقصد بذلك الحياة المضبوطة الخشنة والجافة في المظهر، لكنها تحوي- بطريقة خفيّة وغير منظورة- في الداخل ما يمكن أكله. يصير ذلك ظاهرًا عندما تنضج الثمر وتكسر القشرة القاسية وينزع الغلاف الذي يشبه الخشب عن الطعام[130]].
ثالثًا: يرى العلامة أوريجينوس في ثمرة اللوز التي أنتجتها عصا هرون إشارة إلى تفسير كلمة الله التي يلتزم بها الكاهن. فاللوزة تحمل قشرة خارجيّة مُرَّة تجف وتسقط وهي على الشجرة، هذه القشرة تشير إلى التفسير الحرفي لكلمة الله، فإنه مُرّ وغير مفيد، لهذا يليق أن نتركه لندخل إلى أعماق كلمة الله في الداخل ونتعرف أسرارها. وفي رأيه أن اليهود والهراطقة الغنوسيين تعثروا في السيد المسيح وفي العهد القديم لأنهم لم يتعدوا التفسير الحرفي لكلمة الله. يلي هذا الغلاف الصلب الذي نكسره لكي نأكل اللوزة وهو يمثل التفسير الأخلاقي أو السلوكي حيث فيه نمارس حياة الإماتة والأتعاب الجسديّة من أصوام وميطانيات... الخ، أما اللوزة الداخليّة فتمثل التفسير الروحي أو الرمزي، الدخول إلى ما وراء الحروف لنلتقي بالسيد المسيح المأكل الحق، وسرّ حياتنا[131].
رابعًا: يرى القدِّيس إمبروسيوس في هذه العصا صورة لعمل الله في المؤمنين في كنيسة العهد الجديد، إذ يقول: [في تابوت العهد أفرخت عصا هرون، فإنه يسهل على الله أن ينبت زهرة في الكنيسة المقدَّسة منا نحن الذين كالحزم[132]]. أما العلامة أوريجينوس[133] فيرى فيها صورة رمزيّة لدرجات المؤمنين الأربعة:
أ. العصا الجافة صارت غصنًا رطبًا أي حملت حياة، إشارة إلى الاعتراف بالسيد المسيح، فبالإيمان تنطلق نفوسنا من حالة الموت إلى الحياة.
ب. أنتجت العصا أوراقًا إشارة إلى الميلاد الجديد ونعمة الله بروحه القدوس الذي يقدم لنا إمكانيّة الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا خلال المعموديّة.
ج. قدمت زهورًا إشارة إلى حياة النمو الدائم بعد الميلاد الجديد في المعموديّة.
د. أعطت ثمار البرّ لا في حياته فقط وإنما أيضًا في حياة الآخرين، هذا هو اللوز، هذا هو ثمر الشهادة للسيد المسيح والعمل الكرازي.
ويرى العلامة أوريجينوس أن هذه الدرجات الأربع ظهرت في حديث القدِّيس يوحنا الحبيب، إذ دعى المؤمنين هكذا: "أيها الأولاد... أيها الأحداث...أيها الشبان... أيها الآباء" (1 يو 2).
3. عصا هرون والشهادة:
وضع عصا هرون أمام الشهادة باستمرار يُذَكِّر هرون وبنيه أن ما ناله من بركات للعمل الكهنوتي هو من الله، فلا يتكبروا. وأيضًا يُذكِّر الشعب بذلك فلا يتذمروا. هذا بجانب ما حملته العصا من نبوة عن التجسد الإلهي من القدِّيسة مريم العذراء، الأمر الذي ينبغي أن يكون نصب أعين الكنيسة على الدوام.
الأصحاح الثامن عشرمسئوليّة الكهنة وحقوقهم
إذ استقر هرون في الكهنوت بتأكيدات إلهيّة ملموسة حيث أنتجت عصاه لوزًا عاد الرب يؤكد له ولبنيه وبقية سبط لاوي التزامهم وحدود عملهم وأيضًا حقوقهم كخدام للرب.
1. مسئولية الكهنة 1-7.
2. إعالة الكهنة 8-20.
3. إعالة اللاويّين 21-24.
4. التزام اللاويّين بالعطاء 25-32.
1. مسئوليّة الكهنة:
إذ سقط الشعب تحت التأديب فمات بالوبأ أربعة عشر ألفًا وسبع مئة بسبب تذمرهم لهلاك قورح وجماعته (16: 49)، وأكد الله لهم اختيار هرون للكهنوت، كلَّم الشعب موسى قائلين: "إننا فنينا وهلكنا، قد هلكنا جميعًا. كل من اقترب إلى مسكن الرب يموت. أما فنينا تمامًا؟" [12-13]. وجاءت استجابة الله لشكواهم بإعلانه لهم أنهم يقتربون لمسكنه لكن خلال الكهنة، موضحًا عمل الكهنة وعمل اللاويّين وحدودهم.
"قال الرب لهرون: أنت وبنوك وبيت أبيك تحملون ذنب المقدس" [1]. من الناحية الحرفيّة هرون وكهنته واللاويّون يتحملون مسئوليّة أي تدنيس يلحق بالمقدَّس باقتراب غريب إليه، إنهم ملتزمون أمام الله بحراسته.
عن الجانب الرعوي، فإن رئيس الكهنة والكهنة مع الشمامسة هم الحراس الروحيّون الذين يُسألون عن كل خطأ يرتكبه الشعب الذين هم مقدس الله ومسكنه المقدَّس. يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة بقوله: [يُسأل الطوباويّون عن أخطاء مرؤوسيهم وخطاياهم. في هذا المعنى يقول الرسول "يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعف الضعفاء[134]" (رو 15: 1)].
في أيام العلامة أوريجينوس يبدو أن البعض قد ظن أن القدِّيسين لا يخطئون، لهذا علق العلامة على العبارة "تحملون ذنب المقدس" (ع 1)، بشيء من التوسع موضحًا أن القدِّيسين ليسوا معصومين من الخطأ، نقتطف منها كلماته التالية: [إن كان حقًا القدِّيس لا يمكن أن يخطيء أبدًا، وأنه يجب أن نعتبره كأنه معصوم من الخطأ... ما كان قد كتب "تحملون ذنب المقدس"... لو كان القدِّيسين معصومين من الخطيئة لم قال الرسول لأهل رومية "لا تنقض لأجل الطعام عمل الله" (رو 14: 20)، هؤلاء الذين كتب إليهم في أول رسالته "إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين" (رو 1: 7)...
يقول الرسول نفسه في رسالته إلى أهل كورنثوس "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدَّسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين" (1 كو 1: 2). انظر بأي خطايا يوبخهم، إذ يكتب بعد ذلك: "فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديّين وتسلكون بحسب البشر؟" (1 كو 3: 3). كما يقول إنكم قد استغنيتم، ملكتم بدوننا، وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم" (1 كو 4: 8). وأيضًا: "فانتفخ قوم كأني لست آتيًا إليكم" (1 كو 4: 18). بعد قليل يقول: "يسمع مطلقًا أن بينكم زنى، وزنى هكذا لا يسمى بين الأمم" (1 كو 5: 2). إنه لم يستثنِ أحدًا، فيتهم أحدهم بالزنى والآخرين بالكبرياء. بعد هذا يعاتبهم لأنهم يحاكمون بعضهم البعض: "والآن فيكم عيب مطلقًا لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض" (1 كو 6: 7). إنه يتهم الذين دعاهم قدِّيسين أنهم يأكلون ما ذُبح للأوثان ويحكم عليهم: "وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح" (1 كو 8: 12). إنه ليس فقط يتهمهم بأكل ما ذُبح للأوثان بل وشرب كأس الشيطان: "لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين" (1 كو 10: 21). إنه يقول لهم: "لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أيسمع أن بينكم انشقاقات" (1 كو 11: 18)، كما يقول: "لأنه كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر" (1 كو 11: 21). وبسبب هذه الأخطاء يقول: "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى كثيرون يرقدون، لأننا لو حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا" (1 كو 11: 30-31)... علاوة على هذا لم تقف الخطايا عند حد السلوك بل وأخطاء ضد الإيمان إذ يتهمهم هكذا: "كيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات؟" (1 كو 15: 16)، كما يقول: "وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم" (1 كو 15: 17). ويطول الحديث جدًا الأمر الذي يناسب هذا المقام أن نورد جميع الشواهد بأن الذين دُعوا قديسين لا يجب أن نعتبرهم بسبب هذه التسمية معصومين من الخطأ، الأمر الذي يعتقد به من يقرأ الكتاب المقدس بطريقة سطحيّة وهو متغافل[135]].
إذ يُحمِّل الرب الكهنة واللاويّون مسئوليّة "ذنب المقدس"، لا بمعنى حراسة الخيمة ومحتوياتها بالمفهوم المادي الملموس فحسب، وإنما مسئوليتهم الروحيّة تجاه الشعب كمقدس روحي وهيكل مقدس له. إنه لا يقول: "تحملون الذنب" فحسب، بل "ذنب المقدس" وكأن الكهنة يُطالَبون بذنوب القدِّيسين لا كل ذنب يُرتكب. يوضح العلامة أوريجينوس ذلك بقوله أن الكهنة يلتزمون بالمسئوليّة نحو الخطاة الذين يطلبون القداسة، هؤلاء يُحسبون كقديسين، كل خطأ يرتكبونه يلتزم به الكهنة، أما الخطاة الذين لا يهدفون إلى القداسة ويصرون على الخطيئة فلا يحتمل الكهنة ذنبهم.
يقول العلامة أوريجينوس أن الذين يدرسون علمًا ما أو فلسفة ما يُحسبون علماء أو فلاسفة في مادة بحثهم ودراستهم، لا بمعنى أنهم يفهمون كل تفاصيلها، وإنما يبحثون فيها ويدرسونها ويخطئون أيضًا لكنهم يثابرون في دراستها، هكذا القدِّيسون هم من يهدفون إلى حياة القداسة مثابرين فيها. لهذا يقول العلامة أوريجينوس: [عندما يلتزم إنسان بدراسات في القداسة (عملية) يلزم منحه لقب قدِّيس حسب الهدف الذي يقصده، لكنه إذ يرتكب أخطاء بالضرورة يسمى خاطئًا حتى تُنزع عنه عادة الخطيئة[136]]. [القدِّيسون يندمون على خطاياهم ويشعرون بسقطاتهم وجراحاتهم ويدركونها، فيذهبون إلى الكاهن يطلبون الشفاء ويبحثون لكي يكونوا طاهرين بواسطة الكاهن الأعظم[137]].
إذن إن كان الكهنة يحملون ذنب أولادهم، ذنب الشعب، فإن الشعب أيضًا ملتزم في توبته أن يلتقي بآبائهم الذين يصلون عنهم من أجل تمتعهم بالروح القدس على الحياة المقدسة.
يكمل الرب حديثه مع هرون هكذا: "وأنت وبنوك معك تحملون ذنب كهنوتكم"، وكأن كل أمر غريب يرتكبه كاهن يلتزم به جميع الكهنة. إن كانت خطيّة واحد من الشعب في كورنثوس هدد الكنيسة حتى أسرع الرسول يقول: "نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير... كتبت إليكم إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا. لأنه بماذا لي أن أدين الذين من خارج. ألستم أنتم تدينون الذين من داخل؟ أما الذين من خارج فالله يدينهم. فاعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو 5: 7-13).
ليس لنا أن ندين الذين في الخارج لكن الكنيسة تلتزم بعزل الخبيث إن كان من أفراد الشعب، فماذا إن كان كاهنًا أيًا كانت رتبته الكهنوتيّة؟ هذا ما عناه الرب بقوله أن هرون والكهنة أولاده يحملون ذنب كهنوتهم. إن كان من أجل خطيئة عاخان سقط الشعب كله وحُسب الكل كمتعدين لعهد الله (يش 7: 11)، فماذا إن أخطأ الكاهن؟ يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه إن أخطأ كاهن بلا توبة، من أجله يغضب الله على البشريّة. إن فسد الكاهن وهو أب للبشريّة كقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم، يحطم الجميع!
وللعلامة أوريجينوس تأمل جميل يخص حياة الإنسان الداخليّة، فيرى الكاهن الذي يعمل داخل القدس إنما يهتم بالأمور الداخليّة، لهذا فالمؤمن يرتكب "ذنب الكهنوت" إن ترك شيئًا دنسًا يدخل إلى أعماق نفسه. يقول: [يجب أن تتجه عناية الكهنة وسهرهم بالأكثر نحو ما هو مغطى في الداخل وراء الحجاب حتى لا يوجد هناك شيء دنس أو شيء غير طاهر، بمعنى أنه يجب الاهتمام بالإنسان الداخلي وأجزاء القلب الداخليّة فتكون بلا عيب[138]].
كأن رئيس الكهنة والكهنة ملتزمون ألاَّ يدخلوا شيئًا غريبًا أو دنسًا إلى قدس الأقداس والقدس بما فيهما من تابوت العهد بكاروبيه ومذبح البخور والمنارة الذهبيّة ومائدة خبز الوجوه... الخ، فإن كان الكاروب يعني "معرفة" فإنه يليق بالمؤمن ألاَّ يسمح لمعرفة دنسة للشر أن تقترب إلى مقدس الله في داخله، بل يبقى كاروبا الرب ببهائهما في القلب يعلنان حضرة الله فيه. لا يرفع على مذبح قلبه بخورًا غريبًا، فلا يقدم صلوات بأيدي دنسة لأن صلاة الأشرار مكرهة أمام الرب، أما طلبة البار فتقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16). هكذا يحفظ منارة الرب التي هي الكتاب المقدس في قلبه دائمة الإنارة بالروح القدس الناري فيهب النفس استنارة غير منقطعة وتلتهب المشاعر على الدوام بالحب الإلهي. تجد النفس في المسيح يسوع ربها طعامها على مائدة خبز الوجوه في أعماقها... الخ، إن كل ما في القدس وقدس الأقداس من الذهب الخالص، ليس فيه نحاسًا ولا رصاصًا أو أي معدن آخر، هكذا يحفظ المؤمن قلبه بالطبع السماوي (الذهبي) فلا يسمح لمحبة العالم ولا شهوات الجسد والأمور الأرضيّة أن تغتصب قلبه!
بعد أن تحدَّث مع الكهنة وجه حديث نحو اللاويّين، قائلاً: "وأيضًا إخوتك سبط لاوي سبط أبيك قربهم معك فيقترنوا بك ويؤازروك وأنت وبنوك قدام خيمة الشهادة" [2]. إنهم يعملون مع الكهنة ورئيس الكهنة كمكرسين للرب، هبة الشعب لله، وعطيّة الله لشعبه، يعملون في توافق وانسجام مع الكهنة لكنهم لا يرون المقدسات الداخليّة ولا يلمسونها وهي مكشوفة كما سبق أن رأينا في الأصحاحات السابقة.
في اختصار أراد أن يحدِّد عمل الخدام في خيمته المقدسة معلنًا أن قداسة خدامه لا تقف عند التزامهم بالحياة المقدسة في سلوكهم الشخصي فحسب بل ومسئوليتهم عن الشعب وأيضًا عن بعضهم البعض، وأخيرًا انسجامهم معًا بالروح الواحد، روح الاقتراب القلبي والفكري والروحي، والمؤازرة خلال الخدمة المشتركة. العمل الكهنوتي ليس وظيفة لكنه شركة حب وعمل روحي لحراسة الخيمة المقدسة وأمتعتها، أي حفظ النفوس هياكل مقدسة للرب.
2. إعالة الكهنة:
إن كان الله قد خصص كهنته للخدمة المقدسة، وصاروا ملتزمين بذنب المقدس، أراد أن يُفرِّغ كل اهتماماتهم للعمل الروحي دون أن يرتبكوا بالأمور الماديّة حتى الخاصة بمعيشتهم، لهذا قدم لهم كل احتياجاتهم الماديّة من خلال الخدمة، ليس كأجرة من عملهم بل لتفرغهم للعمل. يقول الرسول بولس: "ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون، الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح، هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون. أما أنا فلم أستعمل شيئًا من هذا، ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا، لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري" (1 كو 9: 13-15).
إن ما قد حرمه على الشعب من بكور وعشور ونذور خصصه لكهنته واللاويّين للتفرغ للعمل الروحي.
والعجيب أن الله ختم حديثه عن إعالة الكهنة بقوله لهرون: "لا تنال نصيبًا في أرضهم ولا يكون لك قسم في وسطهم. أنا قسمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل" [20]. وكأنه أراد أن يختم حديثه معهم بخصوص حقوقهم ليس أنه يود أن يحرمهم من الميراث الأرضي إنما تمتعهم به هو نفسه كميراث أبدي لهم. إنه يود أن يشبعهم ويغنيهم لكن لا بأمور أرضيّة زائلة بل بنفسه الأبدي الذي لا يُحد!
وفي العهد الجديد دعي الكهنة "إكليروس"، في اليوناني تعني "نصيب"، وكأنهم قد اختاروا الرب نصيبًا لهم، أو اختارهم الرب من بين الشعب نصيبًا له. في هذا يقول القدِّيس ﭽيروم: [ليت رجل الإكليروس إذ يخدم كنيسة المسيح يفهم أولاً ماذا يعني لقبه عندئذ يحقق المعنى، مجاهدًا أن يعمل بما دُعي عليه. فإن الكلمة اليونانية "إكليروس" تعني "نصيب" أو "ميراث". وقد دُعي الكهنة هكذا إما لأنهم نصيب الرب، أو يكون الرب نفسه نصيبًا له يلزمه أن يملك الرب والرب يملكه. فإن من يقتني الرب يقول مع النبي "الرب هو نصيبي" (مز 16: 5، 73: 2)، فلا يستطيع أن يقتني شيئًا بجانب الرب، وإلاَّ فلا يكون الرب نصيبه[139]]. وكأن الله لا يقصد من حرمانهم شيء بل تركيز كل أنظارهم ومشاعرهم واشتياقاتهم نحو وحده كنصيب له... وإنني أرجو أن أعود إلى هذه النقطة مرة أخرى في دراستنا للأصحاح السادس والعشرين حيث يتهيأ الكل لنوال نصيبهم في أرض الميعاد (26: 53-56).
إذ يعلم الرب أن الشعب كان لا يزال طفلاً في الروحيات حتى سبط لاوي المكرَّس لخدمته، لهذا لم يبدأ بالعبارة السابقة الخاصة بحرمانهم من نصيب الأرض للتمتع بالله وحده نصيبهم، بل جعلها خاتمة حديثه مع الكهنة (ع 20)، مقامًا لهم أولاً حقوقهم في التمتع بما يخص الله نفسه من بكور ونذور وتقدمات... الخ، وكأنه لا يطالبهم بالتنازل عن شيء إلاَّ بعدما قدم لهم ما يأخذونه! فإنه لا يحدث تفريغ من الأرضيات إلاَّ بقدر ما يشبع القلب من الله وما يخصه. فإن كان قد حرَّم عليهم ما يتمتع به الشعب من ميراث أرضي، لكنه أولاً قدم لهم أن يتمتعوا بما حرمه على الشعب (ع 14) من بكور ونذور وتقدمات. إنه يُعطي أولاً قبل أن يسحب!
لقد ركَّز بالأكثر على حق الكهنة في البكور، وقد سبق لنا الحديث عن المفاهيم الروحيّة للبكور في أكثر من موضع[140]، إنما نضيف هنا الملاحظات التالية:
أولاً: عند الحصاد يلتزم الشعب أن يقدم لله خلال كهنته باكورة حصادهم! إنها صورة مفرحة ليوم الرب العظيم أو يوم الحصاد، حيث تتقدم الملائكة فتحصد لتقدم لرئيس الكهنة الأعظم يسوع المسيح الباكورة المقدسة، التي هي نفوس المؤمنين.
ثانيًا: يقول الرب لهرون: "هأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي" [8]، لكن كيف يقومون بحراسة رفائع الرب مع أنهم يأكلونها ويستهلكونها؟ إنها رمز للباكورة المقدسة التي لا تُستهلك، أي "السيد المسيح نفسه" الذي هو "باكورة الراقدين"، البكر الذي يتقدم للآب بكرًا للبشريّة قيقدسنا، ويتقدم إلينا عطيّة الآب ليجعلنا فيه أبكارًا. هذا هو البكر الذي نتمتع به ولا يستهلك، بل بالعكس يُقيمنا من استهلاكنا أو موتنا، لنحيا به وفيه إلى الأبد.
إن الكنيسة في كهنوتها صارت ملتزمة بتنفيذ الوصيّة الإلهيّة: "هأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي"، وكأنها تلتزم أن تكون أمينة في حراستها لتجلي السيد المسيح البكر، رفيعة الله، في حياة المؤمنين.
ثالثًا: يأمر الرب هرون ألاَّ يقبل بكور الحيوانات النجسة بل يأخذ عنها فدية، أما الحيوانات الطاهرة فلا يقبل عنها فدية، بل يأخذ بكورها: "إنها قدس" (ع 17)، وكأنه اشترط في البكور أن تكون مقدسة. وفي قوانين الكنيسة لا تقبل قرابين الوثنيين أو الأشرار غير التائبين بل يشتري بها حطب لتحرق في النار! فالبكور رمز للمسيح القدوس الذي يتقبله الآب تقدمة حب عن البشريّة لأجل تقديسها فيه، إذ يقول السيد "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 19).
3. إعالة اللاويّين:
إن كان الكهنة يتمتعون بالبكور فإن اللاويّين يتمتعون بالعشور مؤكدًا الرب إنهم ينالون بهذا حق الله نفسه، إذ ليس لهم نصيب في الميراث الأرضي.
4. التزام اللاويّين بالعطاء:
إن كان اللاويّون يتمتعون بعشور الشعب، فهؤلاء بدورهم يلتزمون بتقديم عشر العشور لهرون الكاهن. إنه يريد أن يدرب الجميع: شعبًا وكهنة على العطاء. فالكاهن وإن كان يلتزم بالعطاء القلبي والروحي وبذل كل حياته للرب في خدمة شعبه، فهو ملتزم أيضًا بالعطاء المادي كسائر إخوته وأولاده الروحيّين. إنه لم يُرِد أن يحرم سبطًا من العطاء، حتى اللاويّون أنفسهم!
أخيرًا بهذا التدبير الإلهي أراد الله من الكهنة واللاويّين أمرين: أولاً وهو يكرمهم بتمتعهم بحقوق الله من تقدمات وباكورات ومحرمات وعشور ينزع عنهم الثراء الفاحش الذي كان لكهنة الوثنيّين في ذلك الوقت. هم مكرمون في الرب لكنهم لا يغتصبون حق الشعب، لهذا لا يقدرون أن يقتنوا نصيبًا من أرض الموعد لهم أو لأولادهم. الأمر الثاني، أنهم بهذا يعيشون كجماعة مترابطة معًا فيشعر اللاويّون أن ما يتمتعون به من عطايا أرضيّة هي من الله شخصيًا لكنها قدمت خلال الجماعة المقدسة أو الشعب المقتني لله، والكهنة أيضًا إذ ينالون عشور العشور من اللاويّين يدركون ذات الإحساس، وكأن الله أراد أن ينزع كل روح للتعالي للكهنة واللاويّين سواء على الشعب أو الكهنة على اللاويّين أنفسهم. بهذا النظام لا يتحوَّل الكهنوت إلى طبقة أرستقراطيّة معتزلة عن الشعب بل هم خدامه والعاملون لأجل تقديسهم في الرب.
الأصحاح التاسع عشرفريضة البقرة الحمراء
كانت شكوى الشعب: "من اقترب إلى مسكن الرب يموت" (17: 13)، وجاءت الإجابة في الأصحاح السابق والأصحاح الذي بيدينا. ففي السابق يعلن الرب أنه يمكن الاقتراب لله خلال الترتيب الكهنوتي واللاوي، أما هنا فيكشف عن الحاجة للتقديس الذي بدونه لا يقدر أحد أن يعاين الله.
1. رماد البقرة وماء التطهير 1-10.
2. الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا 11-13.
3. طقس التطهير 14-22.
1. رماد البقرة وماء التطهير:
لا أريد الدخول في تفاصيل الذبائح والمحرقات في الطقس الموسوي كرمز لجوانب ذبيحة الصليب، فإني أترك هذا الموضوع لتفسيرنا سفر اللاويّين إن سمح الرب وعشنا، لكنني هنا أود أن أوضح أن الاقتراب لمسكن الرب أو التمتع بالشركة معه والثبوت فيه لن يتم إلاَّ خلال ذبيحة الصليب والدخول في مياه التقديس. ففي الطقس الذي بين أيدينا يعلن الله لموسى وهرون "فريضة التقديس" بإعداد الرماد الذي يستخدم في مياه التقديس أو كما يسميها "ماء النجاسة" [9]، أي الماء الذي يطهر من النجاسة، وينقل الإنسان من حالة الدنس إلى حالة القداسة.
يتلخص هذا الطقس في الآتي:
أولاً: البقرة المقدمة كذبيحة خطيّة (ع 9) حمراء، إشارة إلى السيد المسيح الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، هذا الذي يتحدَّث عنه إشعياء النبي قائلاً: "من ذا الآتي من أدوم بثيابٍ حُمر من بُصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟ أنا المتكلم بالبرّ العظيم للخلاص. ما بالك لباسك مُحمَرّ وثيابك كدائس المعصرة؟ قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3). هذا هو السيد المسيح الذي دخل الآلام بإرادته، واجتاز معصرة الغضب الإلهي عنا فحمل في جسده أجرة خطايانا، مقدمًا لنا خلاصًا هذا مقداره!
ثانيًا: "صحيحة لا عيب فيها ولم يعلُ عليها نير" [2]، فإن ربنا يسوع المسيح هو وحده بلا خطيّة، ليس فيه عيب ولم يسقط تحت نير خطيّة ما. لقد وبخ اليهود قائلاً "من منكم يبكتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)، ويقول الرسول بولس "لأنه جعل الذي لم يعرف خطيّة خطيّة لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21). يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: "من أجلكم أقدس أنا ذاتي" (يو 17: 19)، ويقول أيضًا "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطيّة[141]].
ثالثًا: تقدم ألِعازار الكاهن ليخرج بها خارج المَحَلَّة وتذبح قدامه (ع 3)، لم يكن ممكنًا أن تقدم لهرون لأنه كرئيس كهنة لا يخرج خارج المَحَلَّة لذلك تقدم لابنه ألِعازار. وكأن السيد المسيح وقد ذُبح خارج أورشليم على جبل الجلجثة، كأن في نفس اللحظة داخل قدس الأقداس كرئيس كهنة لا ينفصل عن أبيه، ولا يترك بلاهوته سمواته! إنه على الصليب خارج المَحَلَّة لأجلنا يكفر عن خطايانا، وهو في حضن أبيه ليضمنا إلى برّه.
يقول الرسول بولس: "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذًا إليه خارج المَحَلَّة حاملين عاره، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 12-14). وكأن الخروج خارج المَحَلَّة إشارة إلى الخروج من المدينة الزمنيّة واشتهاء الانطلاق إلى المدينة المستقبلة، أورشليم العليا أمنا.
رابعًا: "يأخذ ألِعازار الكاهن دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات": ما يفعله ألِعازار يشير إلى عمل السيد المسيح الكهنوتي الذي يقدسنا بدمه، ناضحًا الدم على وجه الكنيسة، خيمة الاجتماع الحقيقيّة فتتقدس وتصير لها الدالة أن ترفع وجهها أمام الآب. أما نضح الدم سبع مرات مع أن الذبح تم مرة واحدة فيشير إلى فاعليّة الدم والذبيحة، لقد تمت مرة لكنها ذبيحة حيّة وفعالة تعمل عبر الأجيال لتدخل بنا إلى الكمال. لأن رقم 7 يشير إلى كل أيام الأسبوع كما يشير إلى الكمال، كأن الذبيحة مستمرة عبر أسبوع هذا العالم كله، وفعَّالة بكل طاقاتها لتكميلنا. لهذا رأى القدِّيس يوحنا الحبيب السيد المسيح حملاً كأنه مذبوح (رؤ 5: 6)، فهو حي لا يموت، لكن الدم لا ينقطع فاعليته. وفي سرّ الإفخارستيا نحن لا نكرر ذبيحة الصليب مرات ومرات إنما ندخل بالروح القدس إلى الذبيحة الفعَّالة القائمة بغير انقطاع[142].
خامسًا: "تحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها" [5]. إذ تحرق الذبيحة لا نرى سوى الرماد الذي يستخدم لتطهير الشعب من الخطيّة، وهكذا إذ حمل السيد المسيح خطايانا مات عنا محولاً خطايانا إلى رماد. أما حرق الجلد واللحم والدم... الخ فيشير إلى تأكيد موت المسيح حسب الجسد، فلا يقل أحد مثل ماني أنه يحمل جسدًا خياليًا ودخل في الآلام بهذا الجسد الخيالي.
أما إلقاء خشب الأرز والزوفا والقرمز في نارها بواسطة الكاهن (ع 6)، وهي الأشياء التي كانت تستخدم في طقس تطهير البرص (لا 4: 6-7) فإشارة إلى اختلاط رماد الذبيحة بما رسم للتطهير. الخشب يشير إلى الصليب، والزوفا تشير إلى الغسل، والقرمز يشير إلى الدم.
سادسًا: يربط الطقس بين رماد البقرة المذبوحة التي دخلت إلى آلام النار حتى النهاية والماء الذي يقدم لتطهير الجماعة من النجاسة (ع 9)، وكأنه ارتباط بين ذبيحة الصليب ومياه المعموديّة. يقول الرسول: "مدفونين معه في المعموديّة التي فيها أقمتم أيضًا معه" (كو 2: 12).
سابعًا: "الذي أحرقها بغسل ثيابه بماء ويرحض جسده بماء ويكون نجسًا إلى المساء" [8]، "والذي جمع رماد البقرة يغسل ثيابه ويكون نجسًا إلى المساء" [10]. لقد أراد الطقس أن يؤكد أن خطايانا قد حملها السيد المسيح، فإن كانت ذبيحة الصليب هي سرّ تطهيرنا لكنها حملت خطايا العالم كله!
2. الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا:
"من مسّ ميتًا ميتة إنسان ما يكون نجسًا سبعة أيام، يتطهر به في اليوم الثالث، وفي اليوم السابع يكون طاهرًا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرًا".
يقول القدِّيس أغسطينوس: [الجسد الميت فاقد الحياة ليس خطيّة إنما يعني خطيّة النفس فاقدة البرّ[143]]. فموت الجسد كان في القديم رمزًا للخطيّة القاتلة للنفس، لهذا إن لمس أحد ميتًا، ولو كان الميت قديسًا أو كاهنًا يصير نجسًا.
أما كونه نجسًا سبعة أيام، أي يصير نجسًا كل أيام الأسبوع، رمزًا إلى عدم التطهر من الخطيّة كل أيام غربتنا مالم يتدخل هذا الرماد والماء! إذ لا خلاص للإنسان من دنس الخطيئة بدون ذبيحة الصليب والتجديد في مياه المعموديّة.
يتم التطهير في اليوم الثالث بواسطة هذه المياه المرتبطة برماد البقرة الحمراء المذبوحة إشارة إلى التطهير بمياه المعموديّة خلال القيامة مع السيد المسيح (اليوم الثالث) بفاعليّة الصليب. إنه يؤكد أن من لا يتطهر في اليوم الثالث لن يتطهر في اليوم السابع، وكأنه لا تبرير لنا إن لم نتحد مع السيد المسيح المقام من الأموات. أما تطهيرنا في اليوم السابع فيشير إلى استمرار عمل قيام المسيح في حياتنا الزمنيّة، وفاعليتها كل أيام غربتنا حتى نعبر إلى قيامتنا الأخيرة.
من لا يقبل قيامة المسيح لا يتطهر فيحسب قد نجس مسكن الرب وتقطع هذه النفس من الشعب المقدس (ع 13). كأن من لا يحمل قوة قيامة السيد كسرّ تبرير له يفسد جسده مسكن الرب، وتموت نفسه ولا يحسب من عداد أولاد الله.
3. طقس التطهير:
يتلخص طقس التطهير بهذه المياه في الآتي:
أولاً: "إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسًا سبعة أيام" [14]. قبل أن يتحدث عن طريقة التطهير أراد أولاً أن يبرز خطورة الموقف، ذلك كالجراح الذي قبل أن يمد يده بالمشرط في جسم المريض يكشف له أولاً الفساد الذي دبّ في جسده حتى يتقبل برضا يدّ الطبيب تمتد لتجرحه وتقتطع من جسده شيئًا. إن وجود ميت في خيمة يجعل من دخل الخيمة بإرادته أو بغير إرادته، عن معرفة بوجود ميت أو عدم معرفة، وأيضًا من كان داخل الخيمة يحسب هؤلاء نجسين أسبوعًا كاملاً، حتى إن تمت الوفاة فجأة، ولم يكن لهؤلاء ذنب! الخطيئة بشعة، خاطئة جدًا لا يطيقها الله القدوس لأنها تخالف طبيعته، مهما قدمنا من أعذار! بشاعتها أيضًا تظهر في بقاء هؤلاء نجسين سبعة أيام أي كل أيام غربتهم، علامة العجز عن التطهير فيها بذواتهم.
ثانيًا: "وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس" [15]. لا تقف النجاسة عند الناس لكنها تمتد إلى الخليقة الجامدة، فالإناء المفتوح يُحسب نجسًا. لعله أراد أن يضع تحفظًا صحيحًا، لئلا يكون الميت قد أصيب بمرض معدي فتنتقل العدوى إلى الذين حوله خلال الآنية التي استعملها قبيل موته. أما من الناحية الروحيّة فإن هذه الأواني تمثل الحواس مثل العينين والفم... الخ، إن كانت الحواس مفتوحة ليس عليها سدادة الروح القدس الذي يضبطها تكون نجسة، تفسد حياة الإنسان.
يليق بالمؤمن أن يجاهد في حفظ حواسه محفوظة بالروح القدس حتى لا تتسرب النجاسة من الأموات بالخطايا إلى نفسه أو فكره أو جسده. ما أحوجنا إلى سدادة الروح القدس التي تحفظ أعماقنا بعيدة عن ميكروبات الخطيئة. لهذا يصرخ النبي قائلاً: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ، لا تمل قلبي إلى الشر". يقول القدِّيس يوحنا سابا: [رتب حواسك أيها الأخ، واحذر لها، إذ منها يدخل موت الإنسان الداخلي. احذر بهذه الحراسة، وانظر إلى ما قاله القدِّيس أنطونيوس: إن كثيرين عملوا أعمالاً عظيمة، لكن لأنهم لم يعملوا هذه الأعمال بإفراز لم يدركوا طريق الله، وذلك الإيمان الطاهر لم يصلوا[144]].
ثالثًا: بعد أن أظهر بشاعة الخطيئة لمن يدخل الخيمة وبها ميت ومن بداخلها، وللأواني المفتوحة فيها، بدأ يوضح أنها تتسرب إلينا ليس فقط خلال الذين يموتون داخل الخيمة، لكنها تنتقل خلال الإنسان الذي يقتل بالسيف في الصحراء، أو خلال الميت في العراء، أو العظام أو حتى مجرد لمس القبر (ع 16).
الذي يموت داخل الخيمة غالبًا ما يكون ذلك بسبب تسلل مرض إلى جسده أو بسبب الشيخوخة، إنها حالة من تتسلل إليه الخطيئة وتهاجمه سريًا في قلبه حتى تقتله، أو حالة الضعف البشري والشيخوخة الروحيّة ثمرة الإهمال والفتور الروحي. أما الذي يقتل بالسيف في الصحراء، فهو من تهاجمه الخطيّة بكل عنفها في لحظات فتسقطه قتيلاً وهو في حيويته ونشاطه! أما العظام فتشير إلى حالة النفس التي عاشت زمانًا طويلاً في موت الخطيئة فصارت عظامًا يابسة مبعثرة في العراء أو مدفونة في قبر، ليس من يهتم بها بل يريد الناس الخلاص منها. هكذا يصوِّر لنا هذا الأصحاح المرض الروحي المزمن والقاتل للنفس، مقدمًا له العلاج.
رابعًا: أما العلاج فهو: "يأخذون للنجس من غبار حريق ذبيحة الخطيّة ويجعل عليه ماءً حيًا في إناء" [16]. هذا هو عمل الكنيسة إنها تأخذ ذبيحة الصليب لتقدمها تطهيرًا للنجسين خلال المياه الحيّة في إناء (جرن المعموديّة). يقول القدِّيس يوستين: [يجب أن نسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعموديّة) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا، وهكذا تبتديء أن تعيش بالقداسة[145]].
"ويأخذ رجل طاهر زوفا ويغمسها في الماء وينضحه على الخيمة وعلى جميع الأمتعة وعلى الأنفس الذين كانوا هناك وعلى الذي مسّ العظم أو القتيل أو الميت أو القبر، ينضح الطاهر على النجس في اليوم الثالث واليوم السابع" [19]. من هو هذا الطاهر إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي يعمل بطريقة غير منظورة في المعموديّة، هو الذي يعمد بيد الكاهن. في هذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يعمد هو ابن الله الوحيد الجنس وليس إنسان (كاهن)]، [إذا ما رأيت جرن المعموديّة ويدّ الكاهن تلمس رأسك لا تفكر في الماء مجردًا ولا أن يدّ الأسقف فوق رأسك، فإنه ليس إنسان هو الذي يفعل ذلك بل نعمة الروح التي تقدس طبيعة المياه وتلمس رأسك مع يد الكاهن[146]...].
أما نضح الماء فإشارة إلى المعموديّة التي تتمتع بها الأمم، كما جاء في إشعياء النبي: "هكذا ينضح أممًا كثيرين، من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا مالم يُخبروا به ومالم يسمعوه فهموه" (إش 52: 15)، إذ تمتعوا بسرّ الميلاد الجديد. ويقول الرسول بولس: "لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من خمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي" (عب 10: 22). وكأن المعموديّة تدخل إلى الأعماق الداخليّة لتغسل الضمير الشرير كما تقدس الجسد أيضًا. هذا ما أكدته الشريعة التي بين أيدينا فإن الرجل الطاهر الذي يسميه الرسول: "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21)، ينضح المياه المطهرة على الخيمة أي على الجسد، وعلى جميع الأمتعة (ع 18)، أي بجميع طاقاته وغرائزه وعواطفه وعلى الأنفس الذين كانوا هناك، فيمتد أثرها إلى النفوس الخفيّة في الأجساد. وكما يقول العلامة ترتليان: [حقًا الجسد يغتسل لكي تتطهر النفس. الجسد يُدهن لكي تتقدس النفس. الجسد يُرشم بعلامة (الصليب) لكي تتقوى النفس. الجسد يُظلل بوضع الأيدي لكي تستنير النفس بالروح (القدس[147])!]. ويتحدَّث القدِّيس كبريانوس معلقًا على هذه الشريعة موضحًا أن نضح المياه المقدسة إنما يعني الخلاص، أي يدخل الإنسان كأن الله في طريق الخلاص، قائلاً: [من هنا يظهر أن نضح المياه يقف على قدم المساواة مع غسل الخلاص، الأمر الذي يتم في الكنيسة حيث الإيمان الذي يتمتع الإنسان به والذي يخدمه بطريقة سليمة ويتكمل بعظمة الرب والحق[148]].
أخيرًا، يؤكد أنه لا تمتع بالتطهير في اليوم السابع مالم يتطهر الإنسان في اليوم الثالث أي يتحد مع السيد المسيح القائم من الأموات.
الأصحاح العشرونماء مريبة
قدم الرب شريعة التطهير لمن مسّ ميتًا أو عظامًا أو قبرًا، ثم عاد يحدثنا عن موت مريم وموت هرون، ولعله بهذا أراد أن يحذِّر الشعب لئلا بسبب محبتهم لمريم وهرون وتقديرهم لهما يلمسان جثمانهما أو قبرهما دون أن يتطهرا في اليوم الثالث واليوم السابع. كما تحدث عن ماء مريبة ليكشف عن ضعفات الإنسان ليس على مستوى الشعب فحسب بل وعلى مستوى موسى العظيم في الأنبياء وهرون رئيس الكهنة. وقد شمل هذا الأصحاح:
1. موت مريم 1.
2. ماء مريبة 2-13.
3. رفض أدوم عبورهم 14-21.
4. موت هرون 22-29.
1. موت مريم:
إذ جاء الشعب إلى بريّة صين أي بريّة "التجربة" وأقاموا في قادش أو الموضع المقدس يقول الكتاب: "وماتت هناك مريم ودفنت هناك" [1]. هذا هو كل ما سجله الكتاب المقدس عن نهاية حياة مريم النبيّة والمرنمة، قائدة الشعب في التسبيح (خر 15)، إنها ماتت هناك، ودفنت هناك. حقًا لقد ماتت في بريّة صين حيث كان موتها بالنسبة للشعب تجربة قاسية ومُرَّة، فقد تعلقت نسوة كثيرات بها، لكنها ماتت في قادش، أي في الموضع المقدس لتستريح من جهادها وأتعابها خلال الدخول إلى المقادس الإلهيّة.
لم يسجل لنا الكتاب المقدس شيئًا عن مشاعر موسى النبي نحو مفارقة أخته له، هذه التي رافقته كل هذه الرحلة، خاصة وأنه بعد فترة قليلة يخلع موسى بيديه ثياب الكهنوت عن أخيه هرون على جبل هور ليلبسها لابنه ألِعازار ويموت هرون هناك. وأيضًا لم يسجل لنا الكتاب شيئًا عن مشاعره نحو رفيقه في الخدمة واحتماله تذمرات الشعب ضدهما. كان الشيخ الوقور موسى النبي يرجو قيامة الراقدين لهذا لم يضطرب لموت أخته وأخيه بل بالحري كان يحزن ويئن داخليًا ويسقط على وجهه كلما تذمر الشعب (ع 6) وتعرض لغضب الله وتأديباته. إنه لا يحزن على فراق الجسد بل بالحري يحترق مع كل نفس تتعرض للموت بحرمانها من الله مصدر حياتها.
2. ماء مريبة:
إذ لم يجد الشعب ماءً، لم يطلبوا بل تذمروا مشتهين الموت ولو بالوباء خلال السقوط تحت غضب كما حدث لإخوتهم قبلاً (16: 49)، قائلين لموسى وهرون: "ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب لماذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البريّة لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب" [3-5]. إذ ضاقت نفسا موسى وهرون، "سقطا على وجهيهما، فتراءى لهما مجد الرب" [6]. مع كل ضيقة يتضعان فيعلن الرب أمجاده لهما، ويحل مشاكلها الرعويّة. ففي هذه المرة طلب الرب منهما أن يكلما الصخرة أمام أعين الشعب فتعطي ماءها بينما يمسك موسى بالعصا. لكن موسى عِوَض أن يكلِّم الصخرة ضربها مرتين بالعصا، بعد أن قال هو وهرون للشعب: "اسمعوا أيها المردة: أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً" [10]. فخرج ماء غزير فشربت الجماعة ومواشيها (ع 11).
تطلع الآباء[149] إلى الصخرة التي أفاضت مياه تروي العطاشى أنها المعموديّة التي تفجرت خلال العصا، أي خلال ذبيحة الصليب فَرَوَتْ ظمأ البشريّة وأشبعت احتياجاتها. يرى القدِّيس بولس أن هذه الصخرة التي تابعتهم هي السيد المسيح (1 كو 10: 4)، فإن كانت العصا هي الصليب، فخلال السيد المسيح المصلوب تقدَّست ينابيع المعموديّة.
ويرى القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص في هذه الصخرة المتفجرة سرّ التوبة التي تحسب معموديّة ثانية، فإذ تذمر الشعب وتعرَّض للهلاك احتاج إلى مياه الصخرة أو التوبة حتى لا يهلك. يقول القدِّيس: [إذ فقد الشعب رجاءه في الأمور الصالحة الموعود بها وهو في طريق البريّة سقط في العطش. مرة أخرى جعل موسى الماء يفيض لهم في البريّة. هذا الأمر يفهم سريًا إذ يعلمنا ما هو سرّ التوبة. فإن الذين يرتدون إلى المعدة (شهوة الأكل) والجسد والملذات المصرية بعدما ذاقوا الصخرة مرة يحرمون من شركة الأمور الصالحة. هؤلاء بالتوبة يجدون الصخرة التي أهملوها فينفتح لهم ينبوع ماء ويرثون. لقد أعطت الصخرة ماءً لموسى الذي آمن في صدق يشوع وليس في مقاوميه (من الجواسيس). نظر موسى إلى عنقود العنب الذي عُلِّق لأجلنا وسفك الدم، وبواسطة الخشبة أعد الماء لكي يتفجر من الصخرة مرة أخرى[150]]. وقد أراد القدِّيس أن يؤكد حاجتنا إلى التوبة خلال إيماننا بدم السيد المسيح الذي يكفر عن خطايانا، فننعم بينابيع فيض خلال الصخرة التي أهملناها، أي المسيح الذي أسأنا إليه بسقطاتنا.
يُعلِّق القدِّيس إمبروسيوس على هذا العمل الإلهي قائلاً: [أليس صالحًا ذاك الذي بأمره جعل البحار تحت أقدامهم أرضًا صلبة إذ هربت المياه، والصخور تعطي ماءً للعطاشى! فقد ظهرت أعمال الخالق الحقيقي عندما صير السائل صلبًا والصخرة ماءً يتبخر؟ لنفهم أن هذا عمل المسيح كقول الرسول: الصخرة هي المسيح[151] (1 كو 10: 4)].
ويُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على الصخرة التي ضُربت مرتين هكذا: [لقد أطفأ ظمأنا بواسطة الصخرة التي في البريّة، لأن "الصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4)... وقد ضُربت بالعصا مرتين لكي تفيض ماءً، لأن للصليب عارضتان. إذن كل هذه الأمور صُنعت كرمز وقد أعلنا لنا[152]].
في عتاب "قال الرب لموسى وهرون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها" [12]. لقد حُرم الاثنان من قيادة الشعب إلى داخل أرض الموعد لأنهما لم يقدسا الرب أمام الشعب. يرى القدِّيس أغسطينوس[153] أن موسى قد حمل شكًا في البداية عند ضرب الصخرة، إذ قال مع هرون "أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً؟" [10]، وقد جاء في المزمور: "وأسخطوه على ماء مريبة حتى تأذى موسى بسببهم، لأنهم أمَرُّوا روحه حتى فَرَطَ بشفتيه" (مز 106: 32-33). ويرى البعض أن الرب قال لهما: "كلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها" [7]، ولم يقل لهما أن تُضرب الصخرة بالعصا.
لعل غضب الله على موسى وهرون كان بسبب ضرب الصخرة مرتين، فإن السيد قد صُلب مرة واحدة بإرادته لخلاص البشريّة متقبلاً الآلام بفرح، كقول الرسول "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). أما الضربة الثانية فتحزن قلبه لأنها رمز للصلب مرة ثانية خلال ارتداد المؤمن عن حياة التجديد التي صارت له، إذ يقول ذات الرسول "إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 6).
على أي الأحوال سقط موسى وأخوه هرون تحت التأديب ولم يكن كل ماضي موسى النبي المجيد أن يشفع له، وكأن الله يقدم لخدام الكنيسة خاصة من نال رتبة سامية التحذير، فإن أعمالهم مهما كانت عظيمة وقويّة لن تشفع لهم في سقطاتهم. يُعلِّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الأمر في كتابه الرابع من الكهنوت قائلاً: [كان موسى، هذا القدِّيس، أبعد ما يكون عن التمسك بقيادة اليهود حتى توسل إلى الله أن يعفيه منها عندما أمره بقبولها (خر 4)، بل أثار غضب الله عليه الذي عينه للعمل. لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حتى بعد استلامه الرئاسة اشتهى الموت للتخلص منها، قائلاً: "إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً" (عد 11: 15). ماذا إذن؟ هل شفع فيه هذا الرفض المتكرر عندما أخطأ بخصوص ماء الخصومة؟ هل استطاع هذا أن يمنحه العفو؟ لماذا إذن حُرم من أرض الموعد[154]؟].
3. رفض أدوم عبورهم:
الأدوميّون هم نسل أدوم أو عيسو (تك 36: 19)، غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو، حيث اغتصب الأول البكوريّة منه... لهذا كثيرًا ما تحالف بنو أدوم مع أمم أخرى ضد إسرائيل، وفي أيام السبي إذ خربت يهوذا استغل أدوم الموقف وجعل من أراضي يهوذا مرعى لحيواناتهم. وقد سبق لنا الحديث عن أدوم في تفسيرنا لسفر حزقيال[155].
لقد أرسل موسى النبي إلى ملك أدوم يطلب إليه في لطف وبروح الأخوة التي تربطهما كشعبين من أخوين يعقوب وعيسو، قائلاً له: "هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا. إن آباءنا انحدروا إلى مصر وأقمنا في مصر أيامًا كثيرة وأساء المصريون إلينا وإلى آبائنا. فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكًا وأخرجنا من مصر، وها نحن في قادش مدينة في طرف تخومك. دعنا نمر في أرضك، لا نمر في حقل ولا في كرم ولا نشرب ماء بئر، في طريق الملك نمشي، لا نميل يمينًا ولا يسارًا حتى نتجاوز تخومك" [14-17]. في حديثه هذا تحدث معه بروح الأخوة مظهرًا له أنهما ينتسبان أصلاً إلى دم واحد، كأنما يؤكد له أن كل أخ يحتاج إلى أخيه، ويتكلم بروح الاتضاع موضحًا له أنه قد تألم هو وآبائه بواسطة فرعون مصر، وأيضًا بروح الإيمان أن الله يسنده، وأخيرًا بروح الطاعة له أن يسلك في طريق يحدده الملك لا ينحرف عنه يمينًا أو يسارًا. ومع هذا كله إذ كان أدوم يسمع عن أخبار هذا الشعب تذكر البركة التي نالها يعقوب مغتصبًا إياها في مكر من عيسو فخاف منه مظهرًا كل عداوة!
قلنا أن أدوم تعني "دموي" أو "سافك دم" فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إنه محب للقتال بطبعه.
لقد ملك أدوم على القلوب فصارت أرضه، لا يسمح لمملكة الله أن تعبر فيها، لكن السيد المسيح دخل أرض أدوم الحقيقي- الشيطان- بعد أن ربطه وحطمه بالصليب، فاتحًا في القلب طريقًا ملوكيًا يعبر فيه الموكب السماوي، موكب الغلبة والنصرة. تتحول طاقات الإنسان ومواهبه وكل إمكانياته إلى موكب يسلك الطريق الملوكي يمشي دومًا نحو أورشليم العُليا لا يميل بضربة يمينيّة (البرّ الذاتي) ولا بضربة يساريّة (الشهوات) حتى يتجاوز حدود الزمان ويدخل الأبديّة. بالمسيح يسوع طرد أدوم من قلوبنا حيث كان يملك وانفتح الطريق الإنجيلي الحق في داخلنا.
يرى القدِّيس إكليمندس الإسكندري[156] أن هذا الطريق الملوكي هو طريق الإنسان الذي يحيا بالبرّ ليس عن إجبار أو عن خوف، أي غير منحرف نحو اليسار، ولا أيضًا من أجل المكافأة والأجرة أي غير منحرف يمينًا لكنه منطلق في طريق الملك الذي مهده الملك بنفسه، ليس فيه عثرات ومنحدرات.
4. موت هرون:
بدأ الأصحاح بموت مريم وختم بموت هرون، الأولى ماتت في قادش أي عبرت إلى المقدَّسات الإلهيّة، والأخير انطلق إلى جبل هور ليموت هناك. وكلمة "هور" تعني "جبل"، وكأن الله أراد لأول رئيس كهنة أن يموت على جبل مرتفع ليس له اسم، إنما يكفي أنه جبل ليعلن أنه في موته يرتفع إلى فوق صاعدًا وليس كما حدث مع قورح وجماعته المزيفين حيث انحطوا إلى أسفل الأرض. موت الأبرار هو ارتفاع وصعود، أما نهاية الأشرار فهي انهيار وانحدار إلى أسفل.
لقد صعد موسى مع هرون أخيه ومعهما ألِعازار بن هرون حيث ينزع موسى النبي عن أخيه ثياب الكهنوت قبل أن يموت ويلبسها لابنه ألِعازار كرئيس كهنة جديد، الأمر الذي يُفرِّح قلب موسى وهرون معًا. فقد كان لائقًا ألاَّ يموت هرون مرتديًا ثياب الكهنوت، لئلا تُحسب الثياب كأنها قد تدنست، إنما يرتديها ابنه ليصير رئيس كهنة عِوَض أبيه. وفي هذا صورة جميلة للتقليد الكنسي الذي يسلمه الجيل للآخر بلا انحراف. أما قيام موسى مستلم الشريعة بالوساطة فيشير إلى دور الوصيّة الإلهيّة أو الكتاب المقدس في التقليد، فالتقليد وهو يُسلَّم عبر الأجيال يلزم أن يبقى إنجيليًا، لا ينفصل عن الوصيّة ولا ينحرف عن روح الكتاب المقدس.
يرى القدِّيس كبريانوس في هذا التصرف تأكيد الرب للشعب أن الكاهن يختار من قبل الرب لكن في حضرة الشعب، إذ يؤكد الكتاب: "وصعدوا إلى جبل هور أمام أعين كل الجماعة" [27]. يقول القدِّيس: [إننا نلاحظ بسلطان إلهي أن الكاهن يجب أن يختار في حضرة الشعب، وأمام أعين الكل، وأن يُحسب مستحقًا وأهلاً للعمل بحكم الجماعة وشهادتهم[157]].
أخيرًا فإن موت هرون وانتقال كهنوته إلى ابنه، إنما يكشف عن عجز الكهنوت اللاوي، إذ لرئيس الكهنة بداية أيام ونهاية، عمله مؤقت إلى حين، ينتقل من جيل إلى جيل حتى ينتهي الرمز ويأتي من هو "كاهن عظيم على بيت الله" (عب 10: 21)، "رئيس كهنة... قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات" (عب 8: 1). لقد قارن الرسول بولس بين كهنوت هرون المؤقت وكهنوت السيد المسيح الأبدي، على طقس ملكي صادق الذي بلا بداية أيام ولا نهاية من جهة لاهوته قادر أن يشفع بدمه أمام أبيه ليدخل بنا إلى المقدَّسات السماويّة غير المصنوعة بيد، هذا الذي صار كاهنًا بقسم، القدوس الذي بلا شر ولا دنس، حيّ في كل حين يشفع في الخطاة (راجع عب 7).
الأصحاح الحادي والعشرونطريق النصرة
إن كان أدوم قد رفض أن يعبر الشعب في أرضه فاضطر موسى أن يجتاز بشعبه حول أرض أدوم دون أن يدخلها، كأن الرب قدَّم لهم فهمًا للغلبة على الشر بالهروب منه، ففي الأصحاح قدَّم عينات للنصرة ليس فقط على الملوك والشعوب بل على الحيات الحارقة والظمأ الداخلي. لقد حدثنا هنا عن:
1. محاربة ملك عراد 1-3.
2. الحيّة النحاسيّة 4-9.
3. رحيلهم 10-15.
4. نشيد البئر 16-20.
5. النصرة على سيحون 21-30.
6. النصرة على عوج 31-35.
1. محاربة ملك عراد:
"عراد" كلمة عبريّة تعني "حمار وحشي"، وهي بلدة في القسم الجنوبي من اليهوديّة (يش 12: 14، قض 1: 6).
إن كان ملك أدوم رفض أن يعبر الشعب في أرضه فلم يقاوم الشعب بل اتخذ طريقه حول أدوم، مفضلاً بالحري ألاَّ يقاوم الشر بالشر بل يهرب من الشر. هذا هو الطريق الروحي للمؤمن أنه يقلب مشاعره الطبيعيّة المحبة للانتقام مفضلاً بالحري على قلبه ويملك عليه عن أن ينتصر على الآخرين ويملك عليهم. أما الكنعاني ملك عراد الذي تصرف "كحمار وحشي" فقام للهجوم والمحاربة دون أن يطلب منهم ألاَّ يعبروا في أرضه. لقد التقى بهم وهم قادمون في طريق أتاريم وحاربهم وسبى منهم سبيًا. كلمة أتاريم تعني "الأثر"، وكأن ملك عراد قد اقتفى آثارهم لكي يلحق بهم ويهلكهم حتى لا يتمتعوا بأرض الموعد.
لماذا سمح الله لهم بالهزيمة؟ لقد أراد أن يدرك الشعب ضعفه الذاتي وعجزه بشريًا عن الخلاص والنصرة حتى إذا ما طلب يدّ الله ونذر ألاَّ يأخذ شيئًا لنفسه بل يُحرِّم المدن ويسمي حُرمة، أي منطقة مُحرَّمة، تصبح هذه شهادة دائمة وتذكار أن كل خلاص ونصرة يتحققان في المستقبل إنما هو بقوة الله. هكذا أحيانًا يسمح الله حتى للقديسين أن يُغلبوا ربما في أقل الخطايا وأتفهها لكي تصير بالنسبة لهم تذكارًا لضعفهم، وإذ يغلبون في الحرب الروحيّة وينمون في المواهب وتثمر حياتهم وخدمتهم لا يسقطون في الكبرياء.
يقول الأب ثيؤفان الناسك أنه إذ يسقط أحيانًا الإنسان في خطيّة لم يسقط فيها منذ زمن طويل بل انتصر عليها يتعب للغاية، هذه علامة الكبرياء في القلب، إذ يحسب الإنسان في نفسه أنه غالب على الدوام. لهذا من التداريب الجميلة التي تقدم للمؤمنين الذين يعيشون زمانًا طويلاً في حالة نصرة ثم يسقطون في خطيّة تافهة حسب نظرتهم البشريّة يمزجزن توبتهم ودموعهم بحياة الشكر لله الذي يكشف لهم ضعفاتهم. فعِوَض أن يتحطم الإنسان لأنه سقط فيما لا يتوقع يشكر الله الذي فضحه أمام عيني نفسه سائلاً إياه أن يرفع عنه التجربة.
2. الحيّة النحاسيّة:
بالرغم من نصرتهم على ملك عراد الذي ثار عليهم كحمار وحشي، وقد شهدوا لعمل الله معهم بدعوة الموضع "حُرمة"، لكنهم سرعان ما تذمروا على الرب لأنهم لم يعبروا طريقهم وسط أدوم، بل ساروا طريقًا أطول، فضاقت أنفسهم في الطريق قائلين: "لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البريّة، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف؟" [5]. حين تذمروا بسبب العطش احتملهم الله ولم يعاتبهم بكلمة واحدة وإنما أمر موسى وهرون ليفجرا ماءً من الصخرة، أما الآن إذ وهبهم نصرة وغلبة بعد أن رواهم من الصخرة لهذا بتكرار التذمر قام بتأديبهم. أرسل عليهم الحيات المحرقة تلدغهم وتميتهم، وفي نفس الوقت إذ صرخ موسى إليه لم ينزع الحيات بل أمره أن يقيم حيّة نحاسية على راية حتى كل من لُدغ من الحيات ونظر إليها يحيا (ع 8). إنه لم ينزع التجربة لكنه فتح باب الخلاص منها. بهذا حوّل الله شرهم إلى بركة، مخرجًا من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة، مقدمًا من هذا العمل رمزًا لصليبه، إذ قال: "وكما رفع موسى الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3: 14-15). يقول القدِّيس أغسطينوس: [ذبح المسيح حتى يوجد على الصليب ذاك الذي يتطلع إليه مَنْ لدغتهم الحيّة[158]]. كما يقول: [ما هي الحيّة المرفوعة؟ إنها موت المسيح على الصليب لأنه كما جاء الموت بواسطة الحيّة صار رمزه هو صورة الحيّة. كانت لدغة الحيّة مميتة، أما موت الرب فواهب الحياة... إذ يتطلع الإنسان إلى الحيّة تصير الحيّة بلا سلطان، ومن ينظر إلى الموت يصير الموت بلا سلطان[159]].
يقول القدِّيس أغناطيوس: [عندما ارتفع جسد الكلمة كما رُفعت الحيّة في البريّة، اجتذب إليه البشريّة لأجل خلاصهم الأبدي[160]]. وجاء في رسالة برناباس: [صنع موسى رسمًا ليسوع ولآلامه الضروريّة، وعندما كان الإسرائيليّون يسقطون كانوا يتطلَّعون إليه وكان يحييهم. إن الرب لكي يُعلم إسرائيل بأن عصيانه أسلمه إلى حزن الموت سلَّط عليهم أنواعًا من الحيات لتلسعهم وكانوا يموتون. ومع أن موسى قال: لن يكون لكم تمثالاً منحوتًا أو مسكوبًا للرب (تث 27: 15)، فإنه يفعل عكس ما كتب. إنه اصطنع حيّة نحاسيّة ورفعها بمجد ودعا الشعب. ولما اجتمع الشعب طلبوا من موسى أن يرفع الصلاة من أجل شفائهم فقال لهم موسى عندما يلسع أحدكم فليتقدم من الحيّة المرفوعة على الخشبة وليترك نفسه للرجاء معتقدًا بأن الحيّة التي لا حياة فيها يمكنها أن تعيد إليه الحياة ويخلص لتوه، وهكذا فعلوا. إن مجد يسوع يقوم على هذا. إن كل الأشياء هي فيه وله[161]].
يُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص على هذا الأمر بقول: [أنجبت الشهوات المتمردة حيات تنفث سمًا يُميت من تلدغهم، لكن مُستلم الشريعة جعل الحيات الحقيقيّة بلا قوة خلال صورة الحيّة... الصليب هو الألم، من يتطلَّع إليه كما يقول الكتاب لا يؤذيه ألم الشهوات. التطلع إلى الصليب إنما يعني أن الإنسان يجعل حياته كلها ميتة ومصلوبة عن العالم (غل 6: 14) لا يحركها الشر. حقًا بهذا تكون كما يقول النبي: سمروا جسدهم بخوف الله. أما المسمار فهو ضبط النفس الذي يضبط الجسد... هذا الشكل يشبه الحيّة، لكنه ليس بحيّة في ذاته، وكما يقول العظيم بولس: "في شبه جسد الخطيّة" (رو 8: 3). الخطيّة هي الحيّة الحقيقيّة، والذي يهرب إلى الخطيّة يحمل طبيعة الحيّة... إذ يتحرر الإنسان من الخطيّة خلال ذاك الذي أخذ شكل الخطيّة وصار مثلنا فحمل شكل الحيّة. لم يقتل الوحوش (الحيات) لكنه جعل لدغاتها غير مميتة... في الواقع إن لدغات الشهوة تعمل حتى في المؤمنين لكن من يتطلع إلى المُعلَّق على الصليب يحتقر الألم، فيخفف السم بخوف الوصيّة[162]].
يرى القدِّيس أغسطينوس في الحيّة النحاسيّة قبولنا لشركة آلام المسيح والموت معه، إذ يقول: [كل من نظر إلى الحيّة المرفوعة يُشفى من السُّم ويتحرر من الموت، والآن من يصر إلى شبه موت المسيح بالإيمان به وبمعموديته يتحرر من الخطيّة متبررًا ومن الموت بالقيامة. هذا ما يعنيه بقوله "من آمن بي لا يهلك بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3: 15). إذن لم تكن هناك ضرورة للطفل أن يتشبه بموت المسيح في المعموديّة لو لم يكن قد تسرب سم لدغة الحيّة إليه[163]!]. كأنه مادامت الحيات قد انطلقت إلى الجميع تلدغهم وتبث سمومها فيهم لهذا يحتاج الجميع- ناضجين وأطفالاً- إلى مياه المعموديّة المقدسة لكي يشفوا من موت سم الحيّة خلال الصليب.
3. رحيلهم:
إن كان الصليب هو طريق الغلبة والنصرة فلا يمنع حرب الشيطان- الحيّة القديمة- إنما يبدّد سمه القاتل، فإن علامة النصرة الحقيقيّة هي الرحيل أو العبور المستمر من موقع إلى موقع للتمتع بأمجاد جديدة خلال الضيقات المستمرة بقصد العبور إلى كنعان الجديدة. أما أسماء المواقع التي رحلوا إليها فهي أوبوت ثم عَيي عباريم فوادي زارد ثم عبر أرنون. يرى العلامة أوريجينوس أن أوبوت في العبريّة إنما تعني تتابع النمو وكأن المؤمن إذ يدخل إلى خبرة الصليب يلزمه أن يحيا في حالة نمو دائم بغير انقطاع. أما "عَيي عباريم" عند العلامة أوريجينوس فتعني "عمق العبور" وكأنه خلال النمو المستمر يلزم ألاَّ ننسى هدفنا وهو العبور العميق الداخلي من الحياة الأرضيّة إلى السماويّة.
4. نشيد البئر:
إذ عبر الشعب حاملاً آثار اللدغات في جسده دون أن يحمل موتها، عبر وفي جسده علامة النصرة والغلبة على لدغات الحيات، فأمر الرب موسى أن يجمع الشعب ليقدم له ماءً من بئر ليشرب. هنا يندهش العلامة أوريجينوس[164]: [ما الحاجة أن يُصرّ الله أن يجمع موسى بنفسه الشعب ليعطيه ماءً من بئر ليشرب؟ أليس الشعب يأتي من نفسه إذ يشعر بالعطش ويشرب من الماء؟ لهذا يُؤكِّد العلامة أوريجينوس أن القصة لو فُهِمَت بالمعنى الحرفي لبَدت ليست ذات قيمة كبيرة، لكنها تحوي أسرارًا عميقة.
يقول روح الله على لسان سليمان في سفر الأمثال: "اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض من ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع[165]" (أم 5: 15-16). هذا يعني أن مياهك هي لك وحدك، ليس لآخر نصيب فيها. لكل واحد منا رمزيًا بئر في داخله... ليس بئر واحدة بل هي أكثر من بئر، ليس له وعاء واحد بل أوعية كثيرة، إذ لم يقل الكتاب "اشرب مياهًا من وعائك" بل من "أوعيتك"، لم يقل الكتاب "مياهًا جارية من بئرك" بل من "آبارك"، وقد سبق فرأينا أن للآباء آبارًا، فكان لإبراهيم آبار وأيضًا لإسحق وأظن ليعقوب[166]].
في اختصار لكل إنسان آبار داخليّة عميقة في النفس تشير إلى معرفة الله في القلب، في الإنسان الداخلي. لهذا عندما جلس السيد المسيح على البئر في وقت الساعة السادسة التي هي لحظات الصلب تحدَّث مع المرأة السامرية أي مع جماعة الأمم عن البئر الداخليّة، قائلاً لها: "لو كنتِ تعلمين عطيّة الله ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب لطلبتِ أنت منه فأعطاكِ ماءً حيًا" (يو4: 10). كانت المرأة بفكرها المادي لا تقدر أن تتعدى حدود البئر المنظورة معتزة بالبئر التي ورثوها عن أبيهم يعقوب. أما السيد المسيح فسحب قلبها إلى البئر الداخليّة حتى تركت المرأة جرتها عند البئر ومضت إلى المدينة تحمل بئرًا حيًا في أعماق نفسها في الداخل. هذا هو عمل السيد المسيح أن يهب في المؤمنين ينابيع مياه حيّة، إذ يقول: "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38).
وكما يقول العلامة أوريجينوس أن الله لم يهبنا بئرًا بل آبارًا وأنهار مياه حيّة في داخلنا، هذه تشير إلى معرفة الثالوث القدوس وعمله في داخلنا: "في رأيي يمكننا أن نفهم معرفة الآب غير المولود كبئر، وأيضًا معرفة الابن الوحيد كبئر آخر، إذ الآب مميز عن الابن، والابن ذاتيًا ليس الآب إذ يقول في الإنجيل: "(آخر) يشهد لي الآب" (يو 8: 18). يبدو لي أننا نستطيع أن نرى بئرًا ثالثًا في معرفة الروح القدس، إذ هو مميز عن الآب والابن كما يؤكد الإنجيل: "يعطيكم الآب معزيًا آخر... روح الحق" (يو 14: 16-17). إذًا التمييز في الثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس هو الذي يفسر الجمع في الآبار. لكن من هذه الآبار يوجد ينبوع واحد[167] حيث الوحدانيّة في جوهر وطبيعة الثالوث[168].
لقد صار لنا خلال الإيمان بالسيد المسيح المخلص معرفة داخليّة خلال خبرة عمليّة تعيشها النفس مع الثالوث القدوس، تتعرف على الآب بكونه أباها السماوي مدبر حياتها وعلى الابن الوحيد بكونه العريس الأبدي والمخلص الذي يحملها فيه ليدخل بها إلى حضن الآب، وعلى الروح القدس بكونه واهب البنوة والشركة يدخل بنا إلى الاتحاد مع السيد المسيح لننعم بما له ونتمتع بإمكانياته كأنها إمكانياتنا. هذه هي الآبار التي يحفرها الروح القدس عميقة فينا فتتفجر فينا ينابيع مياه حيّة. يقول العلامة أوريجينوس: [أعتقد أن كلام المخلص لتلاميذه "من آمن بي" (يو 7: 38) عنى به أن من شرب من ماء تعاليمه، لا يكون له بئر ولا ينبوع بل أنهار ماء حيّة تتولد فيه. فمن كلام الله، أي البئر الوحيد، تتولد آبار ينابيع وأنهار لا تحصى. هكذا يمكن لنفس الإنسان التي خُلقت على صورة الله أن تحصل في داخلها على آبار وينابيع وأنهار[169]].
هذه الأنهار المقدسة التي تنبع في قلب المؤمن، كما يقول المرتل "لتصفق بالأيادي" (مز 98: 8). إنها أنهار المعرفة الإلهيّة العمليّة التي تفيض بالروح القدس في القلب فتسبح الله وتشهد له مصفقة بالأيادي أي تُحوِّل المعرفة إلى "عمل". يقول القدِّيس أغسطينوس: [لتصفق هذه الأنهار بالأيادي، لتفرح بالأعمال وتُطوِّب الله[170]]. كما يُعلِّق القدِّيس ﭽيروم على هذه العبارة قائلاً: [لتصفق بالأيادي، فإن أعمال القدِّيسين هي التسبيح لله، إذ لا يُسبَّح السيد المسيح بالكلمات بل بالأعمال. إنه لا يهتم بالصوت بل بالعمل[171]].
في داخلنا آبار معرفة الثالوث القدوس، لكنه للأسف كثيرًا ما يردمها عو الخير باهتمامات الحياة الزمنيّة والشهوات الأرضيّة فتحتاج إلى الروح القدس نفسه لكي يحفرها من جديد ويزيل عنها التراب الدخيل إليها. يقول العلامة أوريجينوس: [في الحقيقة تحتاج آبار نفوسنا إلى من يحفرها وينظفها ويزيل عنها ما هو ترابي لكي تظهر الأفكار العقليّة التي خبأها الله، فتقدم شبكات مياه نقيّة وطاهرة مادام التراب يغطي الماء ويختفي المجرى الداخلي ولا يمكن للماء الداخلي أن يجري. لهذا كُتب "جميع الآبار التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم طمها الفلسطينيّون وملأوها ترابًا" (تك 26: 15)، لكن إسحق الذي أخذ البركة من أبيه حفر الآبار مرة أخرى ونبش آبار الماء (تك 26: 18) هذه التي طمها الفلسطينيّون بسبب كراهيتهم وردموها بالتراب[172]].
العجيب أنه قد تمت زيجات مقدسة ومباركة حول الآبار، وكأن آبار المعرفة الإلهيّة غايتها دخول النفس إلى الاتحاد مع العريس السماوي السيد المسيح والتمتع بسماته. يقول العلامة أوريجينوس: [حول البئر وليس في موضع آخر وجد عبد إبراهيم "رفقة" التي تعني "ترفق أو احتمال" فصارت لإسحق امرأة (تك 24: 26). وعندما جاء يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين في طاعة لأبيه وجد راحيل (تك 29: 2)، كما وجد موسى صفورة حول البئر (خر 2: 15). إذن حول الآبار فهمت الزيجات المقدسة. فإن أردت أن تتزوج الترفق والحكمة والفضائل الأخرى التي تتمثل في قول الحكمة: لقد بحثت عنه لكي أتزوجه، فتردد بمواظبة وحاصر هذه الآبار بغير انقطاع فستجد لك زوجة هناك بجانب المياه الحيّة، بمعنى أنه بجانب مجاري الكلام الحيّ تسكن كل الفضائل بكل تأكيد[173]].
فإن الحكيم ينصحنا "اشرب مياهًا من أوعيتك ومياهًا جارية من آبارك، لا تفض ينبوعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع" (أم 5: 15-16)، إنما يدعونا أن نتمتع بالزيجة الداخليّة حيث تلتقي النفس مع عريسها خلال معرفة الثالوث القدوس الداخليّة. هناك تتعرف على أعمال الله الخلاصيّة وتتقبل الشركة معه فتنعم بسمات السيد لا كفضائل خارجيّة إنما كثمر الروح القدس داخل النفس. لهذا يقول السيد المسيح "أما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6). إنه ينصحنا أن نفتح قلبنا للعريس سريًا فلا تعرف شمالنا ما تفعله يميننا (مت 6: 3)، لكن العالم يكتشف آثار هذه الشركة في تصرفاتنا وملامحنا أما أعماقها فتبقى سرّ حب عميق تدركه النفس وحدها.
إن عدنا إلى النص الذي بين أيدينا نجد الله يُصرّ أن يقوم موسى بدعوة الجماعة للشرب من البئر، وكأن هذا العمل يحمل بطريقة رمزيّة دعوة الناموس (موسى) لرجال العهد القديم أن تتعرف على شخص المخلص. يقول العلامة أوريجينوس: [تدعوك شريعة الله أن تأتي إلى البئر... أي إلى الإيمان بالمسيح. لقد قال بنفسه "موسى كتب عني". بأي هدف يجمعنا؟ لكي نشرب من الماء وننشد له بتسبحة، بمعنى أن "القلب يؤمن به للبرّ وفمنا يعترف به للخلاص[174]" (رو 10: 10)].
إذ شربت الجماعة من البئر، أي تعرفت على شخص السيد المسيح خلال موسى والأنبياء أنشدت "أنشودة البئر"، قائلة:
"ابتدأوا أن تنشدوا للبئر،
الرؤساء حفروها،
ملوك الأمم في مملكتهم وفي رئاستهم نقروها في الصخرة[175]".
ويُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا النشيد قائلاً: [الرؤساء (الشرفاء) هم الأنبياء الذين خبأوا البئر وغطوها بنبواتهم عن المسيح في أعماق الحرف، لهذا يقول أحد الأنبياء "وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة" (إر 13: 17) ويقول نبي آخر للسيد الرب "تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس، تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن" (مز 31: 20). إذن الرؤساء هم الذين حفروا البئر، أما الملوك الذين نقبوها أي قطعوها في الحجر. إذن الشرفاء أقل من الملوك يحفرون الآبار أي يعمقون في الأرض لكن إلى حد معين أما الذين دُعوا ملوكًا فهم أكثر قوة وعلوًا، لم يحفروا فقط في الأرض بل نقبوا في صلابة الصخر ليصلوا إلى أعماق أكثر وفحص أدق... هؤلاء هم الرسل. يقول أحدهم "فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1 كو 2: 10)، إنهم بفضل الروح القدس يفحصون أعماق الله ويخترقون أسرار البئر، بهذا يكونون قد نقبوا البئر في الصخر، واخترقوا أسرار المعرفة الصلبة والصعبة. أما دعوة الرسل ملوكًا فيمكن استنتاجه مما قيل عن المؤمنين "وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة" (1 بط 2: 9)... لهذا السبب دُعي السيد الرب "ملك الملوك[176]" (رؤ 19: 16)].
إذن البئر الحقيقيّة التي هي السيد المسيح مخلص البشريّة، أعلنها الشرفاء خلال الناموس والنبوات، وفي أكثر وضوح تحدَّث عنها التلاميذ والرسل خلال الأناجيل والكتابات الرسوليّة. يقول العلامة أوريجينوس: [الكتاب المقدس كله: الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيليّة والرسوليّة تكون بئرًا واحدًا لا يمكن حفرها ولا فحصها إلاَّ إذا وُجد ملوك وشرفاء... كملوك حقيقيّين وشرفاء حقيقيين يمكنهم أن ينظفوا أرض البئر، يرفعوا سطح الحرف وينزعوا سطحيّة الصخرة الداخليّة حيث يوجد المسيح فيتدفق المعنى الروحي[177]].
يُميِّز العلامة أوريجينوس بين البئر الحقيقيّة التي حفرها الشرفاء والملوك وتلك التي يحفرها الهراطقة التي تعطي ماءً ملحًا لا يصلح للشرب، إذ يقول: [أتريدون أن تروا من الكتاب المقدس إلى أي بئر يأتي (الهراطقة)؟ إنهم يأتون إلى وادي من الملح حيث توجد "آبار حُمَر كثيرة" (تك 14: 10)... إنها في وادي، ووادي من الملح. فحيث الخطيّة والإثم لا يرتفع إلى العلو بل يحدث نزول دائم إلى الأماكن الدنيئة السفليّة. كل فكر هرطوقي وكل خطيئة إنما يوجدان في وادي، وادي من الملح ومرّ. أيَّة عذوبة أو حلاوة يمكن أن تقدمها الخطيئة؟ لا يوجد أسوأ من أن يسقط الإنسان في أفكار الهراطقة، أو يسقط في مرارة الخطيئة، فإنه يسقط في آبار حُمَر كثيرة. الاحمرار هو طقام النار، فإن شربنا ماءً من هذه الآبار، وقبلنا آراء الهراطقة، إن قبلنا مرارة الخطيئة، إنما نهييء في أنفسنا مادة للنار وحطبًا لجهنم. الذين لا يريدون أن يشربوا من ماء البئر التي حفرها الشرفاء والملوك إنما يريدون أن يشربوا من البئر الذي في وادي الخطيئة، التي تغذي النار، يقال لهم "اسلكوا بنور ناركم والشرار الذي أوقدتموه[178]" (إش 50: 11)].
أخيرًا إذ شربت الجماعة من البئر الحقيقيّة، التي حفرها الشرفاء والملوك، قيل أنهم رحلوا "من البريّة إلى متانة، ومن متانة إلى نحليئيل، ومن نحليئيل إلى باموت، ومن باموت إلى الجِواء التي في صحراء موآب عند رأس الفسجة التي تشرف على وجه البريّة" [18-20].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله: [تبدو هذه الأسماء أنها لمواضع معينة، لكننا إذا رجعنا إلى اللغة الأصليّة لمعانيها لقدمت لنا مجموعة من الحقائق السريّة أكثر منها أسماء أماكن[179]].
أولاً: الانطلاق إلى متانة، إن كانت كلمة متانة كما يقول العلامة أوريجينوس تعني "عطاياهم"، فإن النفس التي ترتوي من البئر، أي تتعرف على شخص السيد المسيح الذي قادنا إليه موسى خلال الشريعة والنبوات وأعلنه لنا التلاميذ والرسل، يليق بنا أن نقدم عطايانا له وتقدماتنا التي هي في الحقيقة عطاياه هو وتقدماته، إذ يقول الرب "قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقدموه لي في وقته" (عد 28: 1). شربنا من البئر هو قبول عطيّة الله، إذ يعرفنا عن نفسه، ويقدم حياته لنا، فنقابل الحب بالحب لنقدم له حياتنا، وكما يقول الكتاب "ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك" (تث 10: 12). إذ نقدم له هذه العطايا من قلبنا بعد أن نكون قد عرفناه، أي بعد أن نكون قد شربنا معرفة لطفه من أعماق بئره[180]].
ثانيًا: من متانة إلى نحليئيل، فإن كلمة "نحليئيل" تعني "من الله[181]". إذ يقدم الإنسان حبًا عمليًا لله وعطايا وتقدمات، يرد الله له عطايا إلهيّة. لقد قدَّم إبراهيم ابنه الوحيد، فرد إليه حيًا وقدم له الكبش الفدية! بقدر ما يتسع قلبنا بالحب العملي يملأ الله بروحه القدوس القلب من ثماره الخفيّة المشبعة للنفس.
ثالثًا: من نحليئيل إلى باموت التي تعني مجيء الموت، حيث يشتهي الإنسان العبور بقوة منتصرًا على الموت، متطلعًا إليه كانطلاقة نحو السمويات. [يقول الله أنا أُميت وأُحيي (تث 32: 39). حقًا إنه يميت لكي نحيا مع المسيح، وهو يحيي لكي نحيا معه. إذًا يجب علينا أن نشتهي البلوغ إلى باموت ونترجى أن يحل هذا الموت الطوباوي بأقصى سرعة حتى نستحق أن نحيا مع المسيح[182]].
رابعًا: من باموت إلى الجواء التي تعني "صعود أو قمة الجبل". هذه هي غاية رحلتنا أن نرتفع إلى الفردوس، لنتمتع بإقامة جميلة على قمة جبل الكمال ونتمتع بالبهجة الروحيّة، قائلين "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع" (أف 2: 6).
هذه هي الرحلة: من بئر المعرفة الإلهيّة في المسيح يسوع المخلص، إلى تقديم عطيّة حبنا، وقبول عطاياه الإلهيّة، لنرتفع إلى جبال كماله.
5. النصرة على سيحون:
أرسل موسى إلى سيحون ملك الأموريّين قائلاً: "دعني أمر في أرضك. لا نميل إلى حقل ولا إلى كرم ولا نشرب ماء بئر. في طريق الملك نمشي حتى نتجاوز تخومك" [22]، لكن سيحون عِوَض أن يسمح لهم بالمرور جاء إلى ياهص وحارب إسرائيل، فغلب إسرائيل سيحون وأقاموا في مدن الأموريّين وحفى حشبون العاصمة.
يرى العلامة أوريجينوس أن "سيحون" تعني "متشامخ" و"شجرة عميقة"، وأن الأموريّين جاءت عن "المرارة". وكأن سيحون يشير إلى الشيطان المتشامخ الذي بلا ثمر، رجاله هم "المرارة بعينها".
يقول: [الملك سيحون يمثل الشيطان لأنه متكبر وعقيم. أظن أنه يجب ألاَّ ندهش أن أدعوه ملكًا، إذ قال عنه سيدنا ومخلصنا في الإنجيل "رئيس هذا العالم" (يو 14: 30)، يأتي وليس له فيَّ شيء، كما قال "الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (يو 12: 31). فإن كان قد دُعي في الإنجيل رئيس هذا العالم كله فلا ينظر أنه غير لائق أن نقارنه بسيحون ملك الأموريّين... ليس لأنه خلق العالم وإنما لأن الخطاة كثيرون في العالم. إذ هو رئيس الخطاة دُعي رئيس العالم، بمعنى رئيس الذين لم يتركوا بعد العالم ليتجهوا نحو الآب. بنفس المعنى قيل "العالم كله قد وُضِعَ في الشرير" (1 يو 5: 19). ماذا يفيدنا أن نقول عن المسيح أنه رئيسنا إن كنا نؤكد بأعمالنا وتصرفاتنا أننا تحت سلطان الشيطان؟ ألا تعرف بوضوح إلى أي رئيس ينتمي الإنسان الفاجر والفاسق والظالم؟ هل يستطيع إنسان كهذا أن يقول بأنه تحت سلطان المسيح حتى وإن كان حسب الظاهر محصي تحت اسم المسيح؟ متى كان المسيح رئيسًا لنا لا نرتكب قط نجاسة ولا بغيًا ولا يكون لشهوة الظلم موضع فينا. بهذا المعنى يليق بنا أن نقول أن المسيح هو رئيس الفضائل والشيطان رئيس الشر وكل ظلم[183]].
أما كون سيحون "متشامخ" رمزًا للشيطان، فواضح من كلمات الكتاب المقدس نفسه، إذ يقول العلامة أوريجينوس: [إنه ذاك الذي قال "بقدرة يدي وبحكمتي لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش" (إش 10: 13-14). بروح متشامخة يقول "أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي" (إش 14: 13-14). هل لا زلت تسأل إن كان متشامخًا ومتكبرًا؟ نعم إنه متشامخ ومتكبر مثل ابنه الوحيد الذي كتب عنه "لا يخدعكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولاً ويستعلن إنسان الخطيّة ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله" (2 تس 2: 3-4). كل من يكون متشامخًا ومتكبرًا إنما يكون ابنًا لهذا الروح المتكبر أو تلميذًا له وممتثلاً به. لهذا السبب يتحدث الرسول عن البعض قائلاً: "لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6)، مظهرًا أن كل تصلف يُحاكم بدينونة تماثل دينونة إبليس[184]].
بماذا أرسل الشعب إلى سيحون؟ لقد طلب أن يمر في أرضه ولا يتأخر معه، أي لا يبقى عنده، بل يسلك في طريق الملك حتى يتجاوز تخومه دون أن يميل إلى حقل أو كرم أو يشرب من بئر له. هذا هو العهد الذي تعهدنا به عند المعموديّة، حين جحدنا الشيطان وكل أعماله الشريرة وإغراءاته وعبوديته. كأننا نقول له: لن نميل إلى حقل من حقولك ولا إلى كرم لك ولا نشرب قطرة ماء من آبارك. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (إر 2: 13). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي "اللهم اعطِ أحكامك للملك" (مز 72: 1). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانيّة[185]].
سبق فرأينا أن المؤمن لا يميل عن الطريق الملوكي يمينًا أو يسارًا، فلا ينحرف بضربة يمينيّة (البر الذاتي) ولا بضربة شماليّة (الخطيئة). كما رأينا أن السلوك في الطريق الملوكي إنما يعني السلوك متجهين نحو الله لا عن خوف كالعبيد ولا من أجل المكافأة كالأجراء بل من أجل الله نفسه كأبناء، بهذا لا ننحرف يمينًا ولا يسارًا[186]. لهذا يقول القدِّيس إغريغوريوس النزينزي: [ليتك تسير في الطريق الملوكي، لا تنحرف يمينًا ولا يسارًا بل يقودك الروح في الممر المستقيم[187]].
ويتحدَّث القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص عن هذا الطريق الملوكي قائلاً: [يتطلب الناموس من الإنسان الذي يسلك فيه ألاَّ ينحرف شمالاً ولا يمينًا عن الطريق الذي هو ضيق وكرب كما يقول الرب (مت 7: 14). هذا التعليم يوضح أن الفضيلة تتميز بالاعتدال. فإن كل شر يعمل بطريقة طبيعيّة خلال نقص الفضيلة أو المبالغة فيها. ففي فضيلة الشجاعة، الجبن هو نقص للفضيلة والتهور هو مبالغة فيها. أما الأمر النقي لكل منهما فيرى خلال الطريق الوسط بين الشرين المتقاربين، فيحسب ذلك فضيلة، وهكذا كل الأمور الأخرى التي تصارع لأجل الحالة الأفضل إنما تكون باتخاذ الطريق المعتدل بين الشرين المتقاربين. الحكمة تأخذ الطريق الوسطى بين المكر والبساطة، فلا تمدح حكمة الحيات ولا بساطة الحمامة إن اختار إنسان ما إحداهما وحدها دون الأخرى. بالحرى يحسب التدبير فضيلة إذا اتحدت الاثنان معًا في اعتدال. الإنسان الذي يفقد العفة يحسب فاسقًا، أما الذي يتعدى العفة فيحسب ضميره موسومًا كقول الرسول (1 تي 4: 2). فإن الواحد يسلم نفسه للشهوات بلا ضابط والآخر ينجس الزواج كأنه زنى. إذ يكون التدبير معتدلاً بين الاثنين يحسب ذلك اعتدالاً[188]].
يطلب المؤمنون أن يعبروا هذا العالم في سلام، لكن سيحون الحقيقي، أي الشيطان المتكبر يغضب بالأكثر لأنهم لا يريدوا أن يمكثوا معه ولا أن ينشغلوا بشيء من أموره أو يلمسوا شيئًا من ممتلكاته أو يشربوا قطرة من بئره، إذ تزداد كراهيته لهم ويثور كبرياؤه بالغضب عليهم ويهيج عليهم خلال جنوده، أي الأرواح الشريرة، الذين هم الأموريين ليبثوا كل مرارة ضد المؤمنين. لهذا يقول الكتاب: "جمع سيحون جميع قومه وخرج للقاء إسرائيل" [23]. إنها الحرب الروحيّة التي يثيرها الشيطان ضد مملكة الله!
أما موقع الحرب أو ميدانها فهو "ياهص" التي في رأي العلامة أوريجينوس تعني إتمام الوصايا. فإننا حيث ندخل إلى تحقيق الوصايا الإلهيّة لا يحتمل الشيطان ذلك بل يشرع في قتالنا بأرواحه الشريرة، لكن المعركة تنتهي بنصرة المؤمن على الشيطان كقول الرسول "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20)، إذ أكد لنا السيد: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء" (لو 10: 19). فإن هذه جميعها لن تضرنا إن دخلنا إلى "ياهص" أي حفظنا الوصايا الإلهيّة.
ويرى البعض أن "ياهص" تعني موضعًا مطروقًا بالأقدام أو مفتوحًا[189]، وكأن المؤمنين ينبغي أن يسلكوا بروح آبائهم، الطريق الذي سبق فسلكوه، الطريق المفتوح قبلاً يدخلون في حرب مع الشيطان لكنهم يغلبون. جاء في سفر إرميا "هكذا قال الرب: قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم" (إر 6: 16).
انتهت حياة سيحون، الذي يمثل الشيطان المتكبر بضربه بالسيف، الذي هو كلمة الله، إذ يقول الرسول "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف 6: 17). هكذا إذ يختص المؤمن في كلمة الله ووصيته يهلك إبليس وتتبدد كل حيله.
قُتل سيحون بالسيف واستولى المؤمنون على أرضه كلها من أرنون إلى يبوق، على جميع المدن خاصة العاصمة حشبون.
أرنون هو نهر كان يفصل بين حدود الأموريّين شمالاً والموآبيّين جنوبًا، فيما بعد صار الفاصل بين سبط رأوبين شمالاً وموآب جنوبًا (تث 3: 8، يش 13: 16). وكان لأرنون معابر (إش 16: 2).
"يبوق" هو فرع شرقي لنهر الأردن، في ذلك الموضع صارع يعقوب مع الرب حتى الفجر بعد أن أجاز زوجتيه وأولاده (تك 32: 22). يُعرف الآن بنهر الزرقاء، وكان يمثل الحد الغربي لبني عمون ويفصلهم عن الأموريّين، وفيما بعد يفصلهم عن سبط جاد. وهو يشطر جلعاد إلى قسمين: القسم الجنوبي كان تبعًا لسيحون والذي صار لجاد، أما الجزء الشمالي فكان يملك عوج الذي أخذه منه نصف سبط مَنَسَّى (تث 2: 36-37، 3: 12-13، 16، يش 12: 2-6).
أما حشبون، مدينة سيحون ملك الأموريين، والتي هي في الأصل أُخذت من الموآبيّين. لقد عينها موسى لتكون من نصيب سبط رأوبين، وقد أعاد هذا السبط بناءها (عد 32: 37، يش 13: 17)، وقد صارت حدًا بين رأوبين وجاد (يش 13: 26)، امتلكها بعد ذلك جاد وقد عُينت كمدينة لجاد وُهبت للاويّين (يش 21: 39، 1 أي 6: 81). استولى عليها بنو موآب في أيام إشعياء النبي وإرميا النبي (إش 65: 4، 16: 8-9، إر 48: 2، 33-34). استولى عليها فيما بعد اسكندريانيوس وهيرودس الكبير[190]. لا تزال تُعرف باسم حسبان مدين مهدمة على تل معزول بين أرنون ويبوق، على بعد حوالي 6 أميال شمال ميدَبَا.
يرى العلامة أوريجينوس أن أرنون تعني "لعنات"، أما يبوق فتعني "صراع" حيث فيها صارع يعقوب مع الله. وكأن حدود مملكة الشيطان تبدأ باللعنات وتنتهي بالصراع. إذ يدخل الإنسان أرضه يمتليء لعنات ويبقى هكذا حتى يخرج منها خلال صراعه كيعقوب لتحل عليه البركة ويتحرر من مملكة إبليس، إنه يقول: [مملكة سيحون المتكبر والعقيم تبدأ باللعنات وتنتهي في يبوق أي الصراع. كل من يريد أن يخرج من مملكة الشيطان ويهرب منها يجد الصراع... فإن صارع وغلب تكف يبوق عن أن تكون مدينة لسيحون، وتتحوَّل إلى إسرائيل[191]...].
أما عاصمة مملكته فهي حشبون أي "حساب"، فمن يفكر بحساب مادي زمني يصير فكره هذا هو مركز مملكة إبليس في حياته، أما إن تحررت بالرب وصارت حساباته روحيّة، يحمل فكرًا إيمانيًا، حاسبًا حساب النفقة فيصير فكره هذا هو مركز حياته الجديدة في المسيح يسوع. يتحول الفكر من مملكة إبليس إلى مملكة المسيح. لعل هذا هو ما جعل العلامة أوريجينوس يقول أن حشبون تشير إلى "التفكير". يقول: [لماذا تدعى عاصمة ملك سيحون حشبون؟ لأن حشبون تعني التفكير، وهو الجزء الأكثر أهمية في مملكة الشيطان، هو أساس قدرته. وقد قال السيد المسيح "لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل، وجميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان" (مر 7: 21-23). لهذا لابد من إضرام النار في هذه المدينة وحرقها بالنار، بالتأكيد النار التي قال عنها المخلص "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت[192]؟" (لو 12: 49)].
جاء بعد هذا: "يقول أصحاب الأمثال: ايتوا إلى حشبون فتُبنى وتُصلح مدينة سيحون، لأن نارًا خرجت من حشبون، لهيبًا من قرية سيحون. أكلت عار موآب، أهل مرتفعات أرنون. ويل لك يا موآب. هلكت يا أمة كموش" [27-29]. من هم أصحاب الأمثال الذين يرون نار الروح القدس التي أضرمها السيد المسيح على الأرض التي ملكها سيحون زمانًا، مشتهين أن يعاد بنائها وإصلاحها؟ أصحاب الأمثال بلا شك هم الشريعة وجماعة الأنبياء الذين رأوا خلال الرموز كيف تهدم مملكة إبليس لكي تقوم مملكة المسيح بروحه القدوس الناري، أما الذين يفهمون هذه الأمثال فهم رجال العهد الجديد الذين أدركوا الحق وتكشف لهم ما كان قبلاً رمزًا ولغزًا. يقول العلامة أوريجينوس: [من الذي تحدث بالأمثال إلاَّ الناموس والأنبياء؟ اسمع كيف يُعبِّر داود النبي عن ذلك قائلاً: "أفتح بمثل فمي، أُذيع ألغازًا من القِدَم" (مز 78: 2). بألغاز يعلن أيضًا كاتب آخر هو إشعياء: "وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين: اقرأ هذا، فيقول لا أستطيع لأنه مختوم، أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: اقرأ هذا، فيقول لا أعرف الكتاب" (إش 29: 11-12). إنه كتاب مختوم لأنه مملوء بالأمثال ومغلف بالألغاز.
أصحاب الأمثال هؤلاء يقولون: "ايتوا إلى حشبون فتُبنى". لقد سقطت حشبون الأولى. ماذا أقول؟ إنها ضُربت واحترقت، لذا يجب أن تُبنى من جديد، لتُبنى حشبون أخرى. كيف يتحقق ذلك؟ أوضح هذا بمثال: إن رأيت وثنيًا يعيش في عار وضلال ديني تقول عنه بغير تردد أنه مدينة حشبون الواقعة في مملكة سيحون، إذ يتسلط عليها الملك العقيم والمتكبر في أفكاره. فإن اقترب هذا الرجل إلى إسرائيل (الجديد) وصار ابنًا للكنيسة، فيلقي عنه كل مقاومة لكلام الله، حاملاً ضد ذلك سيف الروح (أف 6: 16)، تنهدم فيه كل المتاريس أي العقائد الوثنيّة، ويحترق كبرياء إدراكه بنار الحق. بهذا يُقال أن حشبون مدينة ملك سيحون قد دُمرت، لكنها لا تترك كصحراء مهجورة هذه التي نزعت عنها عقائد الوثنيّين... إنما لتبنِ في قلبه الأفكار الصالحة والشعور بالتقوى وتوضع فيه مباديء الحق ويتعلم الطقوس الدينية وأسس الحياة وتُقام فيه العادات التي تطابق الشريعة. حينئذٍ يقول بحق أصحاب الأمثال الواحد للآخر: "ايتوا إلى حشبون فتُبنى، التي هي مدينة سيحون". لقد دُعي أبناء الكنيسة أيضًا أصحاب الأمثال لأنهم يفهمون بالروح رموز الشريعة والألغاز. هذا ما عناه إرميا النبي في حديث رمزي عندما قال له السيد الرب: "ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر، قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتنقض وتبني وتغرس" (إر 1: 9-10). ماذا يقلع؟ وماذا يهدم؟ مدينة حشبون التي كان يملكها ملك سيحون. أي شيء يقلعه أو يهدمه؟ أفكار الكفر والنجاسة! ماذا يبني فيها من جديد؟ أو يغرس فيها؟ أفكار التقوى والعفاف. يجب أن تكف حشبون عن أن تكون مدينة الأموريّين لتصبح مدينة أبناء إسرائيل (الروحي[193])].
6. نصرتهم على عوج ملك باشان:
يُعلِّق على هذا العلامة أوريجينوس قائلاً: [إذ تسلطوا على مدن الأموريّين "تحوَّلوا وصعدوا في طريق باشان" لكنهم لم ينزلوا إليها ولا بعثوا رسلاً كما لم يطلبوا المرور في أرضها، إنما شرعوا في الحال في محاربته (عوج) حيث هزموه هو وبنيه. ما هي باشان؟ باشان تعني "عار". إنه بحق لم يبعث برسل إلى هذا القوم ولا طلب المرور على أرضه، لأنه يجب ألاَّ يكون لنا هناك أي ممر أو طريق يدخل بنا إلى العار. يلزمنا أن نهاجمها ونحترس منها دائمًا. من ناحية أخرى فإن "عوج" الذي هو ملك باشان يعني "إعوجاج" أو "عائق"، فهو يمثل الأمور الجسديّة، هذه التي محبتها تعوق النفس وتبعدها عن الله. لهذا يجب إشهار الحرب ضد عوج (أي ضد محبة الزمنيات[194])].
كما يقول: [بخصوص مملكة حشبون لم يكتب "لم يبقَ له شارد" [35]، ولا أيضًا بخصوص مملكة موآب، لأنه ربما نحتاج إلى بعض سكانها، ربما يلزم وجود بعضهم لكفاحنا وتدريبنا، "وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم" (1 كو 5: 10). أما عن باشان، أي العار، فلا حاجة لنا بشيء منها. لا يترك فيها شيء يعيش بل يجب إبادة كل أعمال العار، فإنه لا يُحسب العار صالحًا عند أحد[195]].
الباب الثالث
حادثة بلعام
(ص 22- ص 25)
الأصحاح الثاني والعشرونقصة بلعام
إذ أشرف الشعب على الدخول إلى أرض الموعد، ابتكر الشيطان حربًا جديدة لا خلال قواد وجنود بل خلال بلعام النبي، لا بأسلحة منظورة إنما بطلب اللعنة أن تحل عليهم لكي لا ينجحوا في الطريق. إنها آخر سهم يصوب من الشيطان لمحاربتهم قبل عبورهم الأردن. وقد اهتم الوحي الإلهي بعرض القضيّة في كثير من التفاصيل وإن كانت لا تزال تعتبر لغزًا في نظر الكثيرين.
1. شخصيّة بلعام بن بعور
2. دعوة بالاق الأولى له 1-8.
3. ظهور الله لبلعام 9-13.
4. تكرار الدعوة له 14-21.
5. بلعام في الطريق 22-35.
6. استقباله في موآب 36-41.
1. شخصيّة بلعام بن بعور:
إذ رأى بالاق بن صفور ملك موآب الخطر يحوط به عِوَض أن يستعد للحرب بخطة حربيّة، التجأ إلى بلعام لكي يلعن الشعب فينهزم أمامه.
من هو بلعام هذا؟ من أي شعب هو؟ وهل هو نبي حقيقي أم عرَّاف؟ من الذي كان يتحدث معه الله أم إلهًا وثنيًا؟
أولاً: من جهة جنسه فواضح أنه ليس من شعب الله، فقد كان مستقرًا في المنطقة، ويبدو أن له ماضي طويل في أعمال خارقة للطبيعة يعرفها الملك جيدًا، إذ يقول له: "لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون" [6]. وكان بلعام قد مارس أعمالاً نجح فيها. وفي حديث الملك معه عن الشعب الذي يريد أن يلعنه يظهر بوضوح أن لا علاقة لبلعام به، إذ يقول له: "هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشى الأرض" [11].
يقول بلعام للملك: "هوذا أنا منطلق إلى شعبي، وهلم أنبئك بما يفعله هذا الشعب بشعبك في آخر الأيام" [24]. وكأنه يتحدث عن ثلاث شعوب، شعب بلعام، وشعب الملك، والشعب الذي سيتصرف بشعب الملك، فماذا يقصد بلعام بقوله "شعبي"؟... غالبًا ما كان بلعام من الأمم المجاورة المتحالفة مع بني موآب في ذلك الحين مثل المديانيّين، وهم شعب كثير التجوال في الصحراء، وكان على علاقة طيبة مع موآب في ذلك الوقت، لهذا استعان الملك بشيوخ مديان. وربما قصد بلعام بقوله "شعبي" الجماعة التي يعيش في وسطها كشعب محلي يقيم حول هذا الرجل في خضوع له وولاء أمام شهرته وإمكانياته الفائقة.
ثانيًا: هل كان بلعام نبيًا حقيقيًا أم عرافًا؟
رأى البعض أن بلعام كان نبيًا حقيقيًا، دخل في معاملات مع الله، فكان غالبًا ما يستشيره قبل أي تصرف. ويكرر الكتاب المقدس مثل هذه العبارات: "فأتى الله إلى بلعام" (ع 9)، "فقال الله لبلعام" (ع 12)، "كشف الرب عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب" (ع 31)، "فوافى الرب بلعام ووضع كلامًا في فمه" (23: 16)... هذا وقد نطق بلعام بخمسة نبوات إلهيّة غاية في الروعة (ص 23-24).
عند أصحاب هذا الرأي، ليس بالأمر الغريب أن يتعبد إنسان أممي لله، ففي العصر الرسولي وُجد كرنيليوس الذي كان يعبد الله بتقوى (أع 10: 35)، إذ نعمة الله غير قاصرة على أمة معينة لكنها تعمل في النفس التي تسعى نحو الرب بقلب مملوء إخلاصًا.
ويُعلّلون صحة نبوته أنه لو كان ساحرًا أو عرافًا فلماذا اهتم الله بإصرار ألاَّ يلعن الشعب، فإن ما يخرج من فم الشيطان وأتباعه ضد أولاد الله لا قيمة له! أما كون بلعام قد أخطأ وتكرر خطأه، وانتهت حياته بجريمة كبرى ارتكبها في حق الله وأولاده، فإنهم يرون أن كلمة "نبي" لا تعني وظيفة دائمة متى أُعطيت لإنسان رافقته كل حياته، وإنما يمكن أن يوهب روح النبوة لإنسان فترة مؤقتة لتحقيق خطة إلهيّة ومقاصد سماويّة بعدها ينزع عنه هذا الروح. هذا والأنبياء أنفسهم لهم أخطاؤهم لا في حياتهم الشخصيّة فحسب، بل وأحيانًا في الخدمة إن تصرفوا من ذواتهم كما حدث مع ناثان النبي حين أخبره داود النبي أنه يبني بيتًا للرب، فأجابه من نفسه: "اذهب افعل كل ما بقلبك لأن الرب معك" (2 صم 7: 1-3). لكن ناثان صحح الموقف في اليوم التالي عندما أعلن له الرب أن داود لن يبني البيت بل ابنه (2 صم 7: 4-16).
لقد رأت الكنيسة الأولى بآبائها في بلعام رجلاً ساحرًا وعرافًا استخدمه الله لتحقيق رسالة إلهيّة ومقاصد علويّة، فإنه ليس غريبًا أن يخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة. وفيما يلي موجزًا لنظرة الآباء لشخصيّة بلعام والأحداث التي دارت حوله:
أ. يرى القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص أن بلعام كان ساحرًا يحمل قوة شيطانيّة، وقد دعاه الملك ليلعن الشعب، فأراد الله أن يوضح عجز الشيطان عن إصابة أولاد الله بضرر، فإنه حتى إن أراد أن يلعن يلتزم أن يبارك، وإن أراد أن يسب فلا يجد فيهم مجالاً لسبهم. كما التزمت الشياطين أن تشهد للسيد المسيح أنه قدوس الله وكانت تنطق بالحق مع أن طبيعتها مملوءة كذبًا، ولم يرد الرب شهادتها له، لكنه سمح بذلك لإعلان غلبة الحياة المقدسة حتى على افتراءات الشياطين.
يقول القدِّيس: [لقد دعى الساحر كرفيق له ضد من يهاجمهم. يقول التاريخ أن هذا الساحر كان عرافًا ومتكهنًا، يستمد قوته المؤذية بالحدس من أعمال الشياطين لمحاربة الأعداء، وقد طلب منه الحاكم أن يلعن الذين يعيشون مع الله، لكن ما حدث أن اللعنة تحولت إلى بركة. إننا ندرك خلال الأحداث الماضية التي تأملناها (سحرة مصر أثناء الضربات العشر) أنه ليس للسحر فاعليّة ضد الذين يعيشون في الفضيلة، بل بالعكس الذين يتحصنون بالعون الإلهي يغلبون كل هجوم...
في تاريخ الإنجيل كانت جماعة الشياطين "لجيئون" مستعدة لمقاومة سلطان الرب. لكنه إذ اقترب إليهم ذاك الذي له سلطان على كل شيء حيًا لجيئون سلطانه الفائق ولم يُخفِ الحقيقة أنه بلاهوته سيعاقب المخطئين في الوقت المناسب. خرجت أصوات الشياطين هكذا: "نحن نعرفك، من أنت، أنت قدوس الله". "أتيت قبل الوقت لتعذبنا". لقد حدث ذلك قبلاً عندما رافقت القوة الشيطانيّة بلعام العرَّاف وأعلمته أن شعب الله لا يُغلب...
حقًا إن الذي يرغب أن يلعن السالكين في الفضيلة لا ينطق ضدهم شيئًا ولا يلعن، بل تتحول اللعنة إلى بركة. ما نقصده أن الانتهار المملوء خزيًا لن يقترب من الذين يعيشون في الفضيلة. فإنه كيف يمكن أن يُسب بالطمع من كان لا يملك شيئًا؟ أو كيف يُتَّهم أحد بالإسراف وهو يعيش في حياة العزلة والبعد عن الآخرين؟ أو يُتَّهم بالترف من كان في عاداته معتدلاً؟ أو يُتَّهم بأمور أخرى ملومة متى كان الإنسان يمارس ما هو ضدها؟ فإن هؤلاء (السالكين في الفضيلة) يقدموا حياتهم بلا لوم حتى كما يقول الرسول: "يخزى المضاد إذ ليس له شيء رديء ضدهم" (تي 2: 8). عندئذٍ يقول من دُعي لكي يلعنه: كيف ألعن من لم يلعنه الله؟ بمعنى كيف أسب من لم يترك مجالاً قط لسبه؟ فإن حياته لا ينفذ إليها شر لأنه يتطلع نحو الله[196]].
كأن الله سمح بهذا الأمر الخاص ببلعام قبل دخول الشعب أرض الموعد ليعلن أن الإنسان المتحصن بالله، المتبرر بدم السيد المسيح والملتهب بروح الله القدوس إذ يرتفع نحو أورشليم السمائيّة لا تقدر حتى الشياطين أن تلعنه أو تفتري عليه، بل يشرق النور الإلهي فيه، ويشهد الكل له! ولعله لهذا ألزم الرسول بولس في اختيار الأسقف لا أن يكون مشهودًا له من الداخل فحسب، بل والذين هم من خارج.
يليق بنا ألاَّ ندافع عن أنفسنا حتى ضد الشيطان نفسه، لكننا نترك الحياة المقدسة التي لنا في المسيح يسوع ربنا تشهد لنا وتسندنا.
ب. يذكر الكتاب: "فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان وحلوان العرافة في أيديهم وأتوا إلى بلعام" [7]. لقد حملوا أجرة العرافة والسحر، الأمر الذي لم يرفضه بلعام، إنما استضاف الرجال ليرد عليهم جوابًا (ع 8). يقول العلامة أوريجينوس: [توجد أشياء يصفها الكتاب المقدس بحلوان العرافة، أما في تقليد الوثنيّين فتسمى مشاجب ومراجل أو أسماء أخرى مشابهة، تكرس لهذا العمل، حيث تستخدم في العرافة[197]].
وفي موضع آخر نجد بلعام يطلب من بالاق أن يبني له سبعة مذابح في مرتفعات بعل (22: 41، 23: 1) ليقدم ذبائح للبعل، وبعد تقديم الذبائح ذهب إلى رابية لعل الله يجيبه (23: 2).
يقول بلعام في نبوته الثانية: "ليس عِيافة على يعقوب ولا عرافة على إسرائيل" (23: 23)، وكأن إمكانياته في العِرافة قد توقفت تمامًا.
يرى العلامة أوريجينوس أن بلعام كان ساحرًا وأراد أن يمارس عرافته بالسحر، لكن الله تدخل ليس عن استحقاق وإنما إعلانًا عن رعايته لشعبه، إذ يقول: [عادة كانت الشياطين تحضر عندما يأخذ بلعام حلوان العِرافة، لكنه رأى العكس فقد هربت الشياطين والله حضر. لهذا السبب كان يقول أنه يسأل الله، إذ لم يعد يرى الشياطين التي كانت تطيعه. لقد جاء الله بنفسه ليلتقي مع بلعام، لا عن استحقاق للزيارة وإنما لكي تهرب الأرواح التي اعتادت أن تحضر إليه لتجلب اللعنة والأذي بالسحر، مؤكدًا سهره على شعبه[198]].
ج. اعتاد الله أن يتعامل مع البشر حسب ظروفهم وباللغة التي يفهمونها، فتسمع أنه في معبد أبولون يشهد كاهن الوثن أن الإله الوثني أعلن عجزه من أجل المتجسد، فصار ذلك بابًا بين الوثنيّين لقبول الإيمان. أما بخصوص هذا الساحر، فيقول العلامة أوريجينوس أنه كان مشهورًا وقد صار له تلاميذ كثيرون احتفظوا بنبواته في بلاد المشرق، ومنها عرف المجوس عن السيد المسيح، إذ جاء فيها "يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل" (24: 17). بهذا إذ ظهر لهم النجم أدركوا النبوة وعرفوا أنها تحققت، فصاروا أفضل من الشعب اليهودي الذين لم يسمعوا لكلمات الأنبياء الذين بين أيديهم. "هم أدركوا حسب المخطوطات الوصيّة التي تركها بلعام أن الوقت قد جاء فأسرعوا يبحثون عنه ويسجدوا له، مظهرين عِظَم إيمانهم بإكرامهم هذا الملك الطفل الصغير[199]].
ثالثًا: من الذي كان يتحدث معه، هل الله حقًا أم إلهًا وثنيًا؟... أترك الإجابة عن هذا التساؤل إلى الحديث في البند رقم 3 "ظهور الله لبلعام".
2. دعوة بالاق الأولى له:
إذ رأى بالاق بن صفور ملك موآب ما حدث مع الأموريّين فزع من الشعب جدًا وقال لشيوخ مديان: "الآن يلحس الجمهور كل ما حولنا كما يلحس الثور خضرة الحقل" [4]. لماذا استخدم بالاق هذا التشبيه؟ يقول العلامة أوريجينوس: [بدون أدنى شك لأن الثور وهو يلحس خضرة الحقل يستخدم لسانه كمنجل فيقطع كل ما يجده. هكذا كان هذا الشعب كالثور الذي يحارب بالفم والشفتين، مستخدمًا أسلحته التي هي كلمات (العبادة) والصلوات. إذ عرف بالاق ذلك أرسل رسلاً إلى بلعام لكي يواجه الكلمات بكلمات والصلوات بصلوات[200]].
لقد أدرك بالاق أن سرّ القوة في هذا الشعب ليس في أسلحته الماديّة لكن في وجود الرب- سرّ البركة- وسطهم، لهذا عِوَض أن يجهز جيشًا لمحاربته أرسل رسلاً وقدَّم هدايا كثيرة ووعد بوعود لكي يأتي بلعام ويلعن هذا الشعب، فتزع عنه البركة سرّ قوته. يقول العلامة أوريجينوس: [الحرب تهددك أيها الملك بالاق بن صفور، وستمائة ألف رجل مسلحين يتسلطون على أرضك، لهذا يلزمك أن تُعد سلاحك وتجمع جيشك وتفكر في الحرب حتى تتقدم إلى الأمام بقوة ضد العدو الذي لا يزال بعيدًا... لكن المل أرسل إلى بلعام متجاهلاً الحرب، واضعًا كل رجائه في الكلمات التي ينطق بها واللعنات التي يصوبها كسهام. إنه يحاول أن ينتصر بكلمات بلعام ضد الشعب الذي لم يقدر الجيش الملكي أن يغلبه... إنه لسلوك غريب، أين ومتى رأينا أمرًا كهذا. أي ملك أمام معركة أكيدة ينسى الحرب ويتجاهل جيشه ملتجيء إلى خدمات عرافة[201]!].
أرسل إليه يدعوه قائلاً:
"هوذا شعب قد خرج من مصر،
هوذا قد غشى وجه الأرض وهو مقيم مقابلي،
فالآن تعال والعن لي هذا الشعب،
لأنه أعظم مني،
لعله يمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض،
لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون" [5-6].
يقول العلامة أوريجينوس: [كان بلعام مشهورًا بفنونه السحريّة، ليس له مثال في سحره المؤذي. لا يحمل بمراسيمه بركة، بل يملك اللعنة، فإنه حيث تدعى الشياطين تلعن ولا تبارك... حقًا لقد لاحظوا أن الكثير من الجيوش قد هزمت بلعناته، وكان الملك يترجى أن يبلغ هذه النتيجة بلعناته، الأمر الذي لا يقدر أن يبلغه بالحديد والأسلحة. كان له هذا اليقين وأمامه الخبرة المتجددة. ترك بالاق كل وسائل الحرب وأساليبها ليرسل رسلاً ويقول: هوذا شعب قد خرج من مصر، هوذا قد غشى وجه الأرض وهو مقيم مقابلي.
في رأيي كان الملك مندفعًا بقوة. يبدو لي أنه قد تعلم أن أبناء إسرائيل حصلوا على النصرة ضد أعدائهم بالصلاة لا بالأسلحة، بالتضرعات أكثر مما بالحديد، إنهم لم يستخدموا قط أسلحة ضد فرعون، إذ قيل لهم: "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 14). وفي المعركة ضد عماليق لم تكن لقوة الأسلحة فاعليّة صلوات موسى، بل كان إذا رفع موسى يديه نحو الله ينهزم عماليق، وإذا أرخى يديه حلت الهزيمة بإسرائيل (خر 17). بكل تأكيد سمع بالاق ملك موآب بهذه الأمور، فقد كتب: "يسمع الشعوب فيرتعدون. تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذٍ يندهش أمراء أدوم. أقوياء موآب تأخذهم الرجفة، يذوب جميع سكان كنعان" (خر 15: 13-14). إذن قد بلغهم الخبر كما تنبأ موسى قبلاً في نشيده عند عبور البحر الأحمر. لقد تعلَّم موآب أن هذا الشعب ينتصر بالصلوات ويحارب خصومه بالفم لا بالسيف. لقد تبصّر في الأمر وقال في نفسه: بما أن الأسلحة لا تقدر أن تقاوم صلوات هذا الشعب وتضرعاته فعليَّ أن أجد تضرعات وأسلحة شفاهيّة وصلوات تقدر أن تغلبهم[202]].
لقد أسرع الملك برسله ليأتوا ببلعام فيلعن الشعب، قائلاً له: "لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون" [6]. يقول العلامة أوريجينوس: [أعتقد أن الملك لا يعرف إن كان الذين قد باركهم بلعام قد تباركوا، إنما ينطق بهذا- كما يبدو لي- ليجامله ويلاطفه لتحقيق مقاصده بتفخيم فنه وتعظيمه، فإن السحر لا يعرف أن يبارك، إذ لا تعرف الشياطين فعل الخير. إسحق ويعقوب يعرفان أن يباركا وهكذا كل القدِّيسين، أما الأشرار فلا يعرفوا أن يباركوا[203]].
3. ظهور الله لبلعام:
إذ وصل الرسل طلب منهم بلعام أن يبيتوا عنده حتى يستشير الرب ويجاوبهم "فأتى الله إلى بلعام... فقال الله لبلعام لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك" [9، 12].
هنا يقف الكثيرون في حيرة من الذي جاء لبلعام وتحدَّث معه بكلمة الحق، هل الله حقًا أم ألزم الله آلهة بلعام أن تنطق بالحق حتى ولو بغير إرادتها؟
قبل أن ندخل في المناقشات أود أن أوضح أنما قد أعلن لبلعام هو كلمة حق، سواء كان المتحدث الله نفسه مباشرة أو عن طريق الروح الذي يتصل به بلعام. فإن الله أراد أن يعلن ويكشف رعايته، لهذا فإن الأمر صدر من قِبَل الله، دون اعتبار للوسيلة. لقد رأى كثير من الآباء أن المتحدث غالبًا ما كان إله بلعام نفسه وليس الله الحق، لكن الله استخدمه، من هولاء العلامة أوريجينوس والقدِّيسين باسيليوس وإمبروسيوس وإغريغوريوس أسقف نيصص.
يقول القدِّيس إغريغوريوس النيصي: [أيضًا بلعام بكونه عرافًا وراءٍ يشتغل في العِرافة جلب تعليم الشياطين وعِرافة السحر، فقيل عنه في الكتاب أنه نال مشورة من الله[204]]، إذ هو حسب هذا إلهه. ويقول القدِّيس إمبروسيوس: [اذكر ماذا حمل بلعام ضدك طالبًا معونة فن السحر ولكنني ألزمته ألاَّ يضرك[205]]. ويقول القدِّيس باسيليوس: [بلعام أيضًا عراف وراءٍ، إذ صارت الأقوال بين يديه عندما أخذ تعاليم من الشياطين بفنون العِرافة وصفه الكتاب المقدس أنه أخذ مشورة من الله[206]]. ويكمل القدِّيس موضحًا أن الكتاب المقدس يتحدث عن الناس بسبب الألفاظ الدارجة لهذا يسمي الأصنام آلهة. أما العلامة أوريجينوس فتحدَّث في هذا الأمر بشيء من التوسع أحاول إيجازه هنا في الأسطر التالية:
يرى العلامة أوريجينوس[207] أنه حينما يكتب اسم الرب أو الله في العبريّة "يهوه" فإنه يقصد به الله الحق ذاته، أما إذا كتبت بغير هذا التعبير فتأخذ الاحتمالين. فقد قال الرسول بولس: "لأنه وإن وجد ما يسمى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون، لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به" (1 كو 8: 5-6)... لهذا يتشكك أوريجينوس في ظهور الله نفسه لبلعام بكونه لم يذكر "يهوه". هذا وفي الكلمات: "لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك" [12]، لماذا لم يقل لا تلعن شعبي؟ في كل الأحاديث الطويلة التي تحدَّث بها الرب مع بلعام لم يذكر قط هذا التعبير "شعبي"!!!
على أي الأحوال، فإن الأمر صدر من قِبَل الله نفسه ألاَّ يلعن بلعام شعب الله، سواء جاء عن طريقه مباشرة أو ألزم آلهته أن تنطق بذلك، إنها رعاية الله الفائقة بأولاده.
4. تكرار الدعوة له:
إذ رفض بلعام أن يذهب مع رسل بالاق، عاد فأرسل إليه أناسًا أعظم "رؤساء موآب" [14]، وأغراه بالمال قائلاً له: "لأني أكرمك إكرامًا عظيمًا وكل ما تقول لي أفعله. فتعال إلعن لي هذا الشعب" [18]. لقد أجاب في حزم "ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبًا لا أقدر أن أتجاوز قول الرب إلهي لأعمل صغيرًا أو كبيرًا" [18]. إنها إجابة قاطعة وقويّة توبخ المؤمنين، وكما يقول السيد المسيح أن أبناء هذا الدهر صاروا أحكم من أبناء الملكوت لقد سجلها الوحي الإلهي لتوبيخنا، كما وبخ الله يونان النبي بواسطة رجل وثني، إذ قال له: "مالك نائمًا. قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك" (يون 1: 6).
مع هذه الإجابة القويّة مال قلبه نحو المكافأة الأرضيّة فعِوَض أن يرد عليهم بما أخبره الرب أولاً سألهم ان يمكثوا ليلة ليسمع صوت الرب ثانية، وكأنه كان يأمل أن يغيِّر رأيه، لهذا سمح له الرب بالنزول حسب سؤل قلبه. كثيرًا ما يستجيب الله لنا حسب انحراف قلبنا إن أصررنا على طلبتنا. يعلق العلامة أوريجينوس على تصرف بلعام هذا قائلاً: [إنه يريد أن يسمع، فإن الإنسان الجشع لا يستطيع أن يرفض المنفعة بسهولة. فإنه ماذا يسمع من الله في هذه المرة؟ "إن أتى الرجال ليدعوك فقم اذهب معهم" [20]. لقد تركه الرب لرغبته الخاصة لكي ما يستفيد، فيتحقق فيه ما كتب: "سلمتهم إلى قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم" (مز 81: 12). وفي نفس الوقت تكمل خطة الإرادة الإلهيّة... إذ كانت شهوة المنفعة الماديّة تسود على قلبه لهذا لم توضع كلمة الله في قلبه إنما في فمه. عجيبة هي كلمة الله وعظيمة، فإنه إذ لا يمكن أن تصل إلى الأمم النبوات الخاصة داخل إطار إسرائيل، لهذا استخدم الله بلعام الذي كان الأمم يثقون فيه، لكي يعرفوا أسرار المسيح المخفيّة ويقدم لهم كنزًا ثمينًا، لا خلال القلب والروح بل بالأكثر خلال الفم والكلام[208]].
5. بلعام في الطريق:
تكلَّم الرب مع بلعام حسب اشتياق قلبه المنحرف نحو المادة، أو كما قال على لسان حزقيال النبي: "الذي يصعد أصنامه إلى قلبه ويضع معثرة إثمه تلقاء وجهه ثم يأتي إلى النبي فأنا الرب أجيبه حسب كثرة أصنامه" (حز 14: 4). لقد أمره بالذهاب مع الرجال "رؤساء موآب"، وإذ تمم بلعام الأمر "حمي غضب الله لأنه منطلق، ووقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه وهو راكب أتانه وغلاماه معه، فأبصرت الأتان ملاك الرب واقفًا في الطريق وسيفه مسلول في يده، فمالت الأتان عن الطريق ومشت في الحقل، فضرب بلعام الأتان ليردها إلى الطريق" [22-23].
حادثة بلعام وحماره الذي نطق موبخًا إياه فريدة وعجيبة، أما سرّ استخدام الله هذا الحيوان الأعجم لتوبيخ بلعام فله معانٍ كثيرة:
أولاً: يقول العلامة أوريجينوس: [فتح الرب فم الأتان (28) حتى تصير الأتان ديانًا له، بصوت الحيوان الأعجم يخزى من كان يظن في نفسه أنه إله وحكيم[209]].
ثانيًا: لما فتح الرب فم الأتان فقالت لبلعام: "ماذا صنعت بك حتى ضربتني الآن ثلاث دفعات؟" [28]. لم يظهر بلعام أي علامة اندهاش بل أجاب: "لأنك ازدريت بي، لو كان في يدي سيف لكنت الآن قد قتلتك" [29]. ودخل معها في حوار ذلك لأن بلعام كعرَّاف اعتاد أن يتحدث مع الطيور والحيوانات العجماوات، لهذا وبخه الرب بذات الوسيلة التي اعتادها في سحره وعِرافته. يقول القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص: [يقدم لنا التاريخ شهادة عن العِرافة بملاحظة الطيور حينما تقول عن الشخص المشار إليه أنه يملك قوة العِرافة ويتقبل مشورة من الطير... مثل هذا يتعلم أمورًا خلال ما اعتاد عليه، وذلك بواسطة نهيق حماره. فقد اعتاد أن يقبل المشورة بأصوات حيوانات غير عاقلة تحت تأثير شيطاني، لذا وصف الكتاب المقدس بوضوح ما نطق به الحمار. بهذا الطريق أظهر الكتاب أنهم عِوَض التعقل قبلوا التعليم خلال الحيوانات غير العاقلة. بانتباهه إلى الحمار تعلم عن الأمور التي خدعته وعرف أن قوة الذين استؤجر ضدهم لن تقهر[210]].
ثالثًا: حملت القصة مفاهيم رمزيّة، فإن الملاك الذي ظهر للأتان يشير إلى ملاك الرب الذي كان يسير أمام شعبه (خر 32: 34)، هذا الذي رأته الأتان ولم يقدر بلعام أن يراه. أما الأتان- فكما يرى العلامة أوريجينوس[211]- تشير إلى الكنيسة البسيطة التي كانت قبلاً حاملة بلعام الذي يعني "شعب باطل". لقد حملت قبلاً كل ما هو باطل، لكن السيد المسيح أرسل إليها تلميذيه يحلانها ويأتيان إليه بها فيركبها (مر 11: 2). لقد حلها التلاميذ من الرباطات لكي يصعد الرب عليها ويدخل بها إلى المدينة المقدسة، أورشليم السمائيّة (عب 12: 22). بهذا تحقق قول النبي: "ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زك 9: 9).
ماذا فعلت الأتان؟ "فلما أبصرت الأتان ملاك الرب زحمت الحائط وضغطت رجل بلعام بالحائط فضربها أيضًا" [25]. إذ يظهر لها الحق لا تطيق بلعام بل تدخل به في الطريق الضيق وتضغط على رجليه فلا يقدر بعد أن يمشي ولا أن يمتطيها بل يتركها لكي يصعد السيد ويملك في كنيسته.
6. استقباله في موآب:
خرج الملك بنفسه لاستقباله، وفي عتاب قال له: "ألم أرسل إليك لأدعوك؟ لماذا لم تأتِ إليَّ؟ أحقًا لا أقدر أن أكرمك؟" [37].
الأصحاح الثالث والعشريننبوات بلعام
يتحدث هذا الأصحاح عن:
1. إقامة سبع مذابح 1-6.
2. نبوته الأولى 7-10.
3. تغيير المكان 11-15.
4. نبوته الثانية 16-24.
5. تغيير المكان ثانية 25-30.
1. إقامة سبع مذابح:
أخذ بالاق بلعام إلى مرتفعات بعل، وهناك طلب الأخير من بالاق أن يبني له سبعة مذابح ويهييء له سبعة ثيران وسبعة كباش، وقدَّم بالاق وبلعام ثورًا وكبشًا على كل مذبح (22: 41، 23: 1) قبل أن ينطلق إلى رابية ليسمع صوت الرب. لقد أخطأ بلعام إذ بنى هياكل وقدَّم عليها ذبائح للشياطين، ومع هذا "وضع الرب كلامًا في فم بلعام" [5]. فقد أراد الله أن يشهد للحق أمام الأمم ولو خلال عرَّاف.
2. نبوته الأولى:
استغل الله هذا الموقف لكي يقدِّم للأمم خمسة نبوات على فم بلعام بقيت في سجلات الأمم:
النبوة الأولى (22: 7-10) تتحدث عن التجسد الإلهي.
النبوة الثانية (22: 16-24) تتحدث عن آلام السيد وقيامته.
النبوة الثالثة (23: 1-14) تتحدث عن يوم البنطيقستي.
النبوة الرابعة (23: 15-19) تتحدث عن الكرازة بالسيد المسيح.
النبوة الخامسة (23: 21-25) تتحدث عن اقتناء المسيح يسوع ربنا.
هكذا حملت النبوات فيما احتوته عرضًا سريعًا عن أعمال الله الخلاصيّة في ملء الأزمنة من تجسد الابن الوحيد، آلامه وموته وقيامته، وحلول الروح القدس على الكنيسة، الكرازة بين الأمم، وأخيرًا غاية إيماننا "اقتناء السيد المسيح".
أما نص النبوة الأولى فهو:
"من أرام أتى بي بالاق ملك موآب من جبال المشرق،
تعال العن لي يعقوب وهلم اشتم إسرائيل،
كيف ألعن من لم يلعنه الله وكيف أشتم من لم يشتمه الرب؟
إني من رأس الصخور أراه، ومن الآكام أبصره،
هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب،
من أحصى تراب يعقوب، ورُبع إسرائيل بعدد؟
لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم" [7-10].
قبل أن ندخل في المعاني الرمزيّة التفصيليّة لهذه الكلمات أريد أن أوضح أن جوهر هذه النبوة أن بلعام لم يقدر أن يلعن هذا الشعب ولا أن يشتمه، لأنه قد ارتفع إلى رأس الصخور إلى السيد المسيح نفسه الصخرة الحقيقيّة فنظر الشعب وإذا به ليس كسائر الشعوب، رآه جسد المسيح يسوع السري، له طبيعة جديدة على صورة خالقه لا يمكن أن تُلعن ولا تُشتم، قد تبررت في دم السيد المسيح وتقدَّست. رأى تراب يعقوب أي أموره الأرضيّة قد تباركت وتقدَّست. إذ يتقدس المؤمنون روحًا وجسدًا، بل صار حتى موتهم- في المسيح يسوع- بركة يشتهي بلعام أن ينعم بها.
يقول: "من أرام أتى بي بالاق ملك موآب من جبال المشرق" [7]. ولعل "أرام" وهي أكادية تعني "الأرض المرتفعة"، أطلق على هذا الإقليم في الترجمة السبعينيّة "المصيصة Mespopotania" أو "سوريا"، وقد ظهرت عدة دويلات أراميّة في الوقت الذي فيه نشأت مملكة في أرض إسرائيل، منها "أرام النهرين" (تك 24: 10)، والنهران هما دجلة والفرات. ويظن البعض أنهما نهر خابور والفرات، وكان "فدان أرام" يقع في هذا الإقليم (تك 29: 4-5). في هذا الإقليم كانت تقع مدينتا نصيبين والرها اللتين اشتهرتا كمركزين للثقافة والآداب السريانيّة.
يتأمل العلامة أوريجينوس في هذا النص، حيث يرى بالاق قد جاء ببلعام إلى ما بين النهرين على الجبال من جهة المشرق. لقد دخل به إلى ما بين الأنهار، ليست الأنهار المقدسة التي تنبع عن نهر الحياة كقول السيد "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38)، الأنهار الدائم التسبيح لله بالأعمال المقدسة كما يقول المرتل: "الأنهار لتصفق بالأيادي" (مز 98: 8)، إنما انطلق به إلى أنهار بابل التي كُتب عنها: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون" (مز 137: 1). يدعوها العلامة أوريجينوس "أنهار الفتور"، قائلاً: [إذا ما أتى بنا وسط هذه الأنهار التي لبابل، إذا ما فاضت مجاري اللذة واستحممنا في أمواج عدم العفة... هناك سبونا في هذا الموضع[212]
جاء به من أنهار الفتور والملذات من الجبال... أي جبال هذه؟ إنها ليست الجبال المقدسة التي كُتب عنها: "أساساته في الجبال المقدسة" (مز 78: 1)، وفي موضع آخر "أورشليم المبنية كمدينة متصلة كلها. أورشليم الجبال حولها، والرب حول شعبه" (مز 122: 3، 125: 2). إنها جبال الفتور (القائمة بين النهرين)، دُعيت بجبال العتمة (إر 13: 16)، وعنها قيل: "أتوا إليك، جبل الفساد". إنها الجبال التي خصصت لهذا العمل "كل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 10: 5). هذه هي الجبال التي أُخذ بلعام إليها[213]].
أما كونها "من المشرق"، فإنه "لها أيضًا نورها الذي يشرق"، إذ "يغير شكله إلى شبه ملاك نور" (2 كو 11: 14). لها هذا النور الذي قيل عنه "نور الأشرار ينطفيء" (أي 18: 5)... وهو مضاد للنور القائل: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12). إنه من الشرق المضاد للشرق الذي كُُتب عنه في زكريا: "هوذا الرجل الغصن (الشرق) اسمه[214]" (زك 6: 12)].
يقول له بالاق: "العن لي يعقوب، وهلم اشتم إسرائيل" [7]. لعله أراد أن يؤكد أنه يلعن يعقوب ويزيد اللعنات على إسرائيل، فحين قَبِل يعقوب البركة من أبيه إسحق هاج العدو عليه حتى اضطر إلى الهروب، أما وقد صارع بعد أن رأى الرؤى فقد ازداد هياج العدو. هكذا كلما التقت النفس مع الله وصارع الإنسان مجاهدًا من أجل الملكوت تزايدت الحرب الروحيّة ضده.
يجيب بلعام: "كيف ألعن من لم يلعنه الله؟ وكيف أشتم من لم يشتمه الرب؟" [8]. كان فم بلعام مملوء من اللعنة، "تحت لسانه مشقة وإثم" (مز 10: 7). وُجد في الدسائس مع الأغنياء، إذ كان ينتظر الأجرة من الملك لأجل قتل الأبرياء بطريقة غير ظاهرة. لكن الله "الصانع العجائب وحده" (مز 136: 4) يستخدم حتى أعدائه في صنع السلام. وضع كلماته في فم بلعام، مع أن قلبه لم يقدر أن يتقبل كلمات الله... لم يحمل بلعام كلام الله في قلبه وإنما على لسانه فقط. لكنه على أي الأحوال نطق بكلام الله[215]...].
ربما يتساءل البعض: هل الله يلعن؟
يُجيب العلامة أوريجينوس هكذا: [أعتقد أن الله يلعن أي شخص (أو كائن) آخر، إذ نقرأ أن الرب يقول للحيّة: "ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن وحوش البريّة" (تك 3: 14)، ولآدم: "ملعونة الأرض بسببك" (تك 3: 17)، ولقايين: "ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك" (تك 4: 11)، وفي موضع آخر يقول: "ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتًا أو مسبوكًا" (تث 27: 15). لا تعتقد أن هذه التعبيرات لا نجدها إلاَّ في العهد القديم فإننا نجد ما يشبهها في الأناجيل. إذ جاء فيها أن الرب يقول للذين عن يساره: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبديّة" (مت 25: 41)، وعندما يقول: ويل لكم أيها الكتبة والفريسيّين" (مت 23: 29)، "ويل لكم أيها الأغنياء" (لو 6: 24)، ماذا يفعل إلاَّ أن يلقي عليهم اللعنات. إذًا ما هو موقف الوصيّة المُعطاة من الرسول: "باركوا ولا تلعنوا" (رو 12: 14)؟... عندما يلعن الله إنما عن استحقاقهم للعنة، إنه ينطق بالحكم لأنه لا يخطيء لا في حكمه على طبيعة الخطيّة، ولا على نية الخطاة. لكن الإنسان لا يقدر أن يدخل إلى العمق، لا يقدر أن يرى إرادة غيره أو يدركها. فإننا أن لفظنا باللعنة حسب نظرة الديان الذي يصدر الحكم، نفعل ذلك خارج حقنا إذ نجهل شعور الخاطيء[216]].
"إني من رأس الصخور (قمة الجبال) أراه، ومن الآكام أبصره (ألاحظه)، هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب" [9]. إن كان بالاق قد جاء بي إلى جبال الفتور إلى خداعات الشياطين، لكن الرب نقله إلى جبال الله إلى "قمة الجبال" وإلى التلال المقدسة، هناك يرى شعب الله ويدرك أسراره. "لأن إسرائيل (الروحي) يقع على الجبال المرتفعة وعلى التلال العالية، أي يعيش حياة فاضلة وصعبة، حيث لا نستطيع بسهولة أن نكون جديرين بالتطلع إليها أو إدراكها ما لم نتسلق المرتفعات وقمم المعرفة، لهذا لم يلعنه الله. إن حياته عالية ومرتفعة، وليست دنيئة أو منحطة. لكن يبدو لي أن الله لا يقول هذا عن إسرائيل حسب الجسد بل عن ذاك الذي يسير في الأرض وسيرته في السموات[217] (في 3: 20)].
هكذا على المرتفعات العالية رأى بلعام أولاد الله، أو كنيسة الله التي تتأسس على السيد المسيح "الصخرة" الحقيقيّة.
إن أردنا أن ننظر كنيسة الله، إسرائيل الروحي الجديد، فلنرتفع على جبال الشريعة المقدسة ونصعد على تلال النبوات العالية، خلالها نرى رأس الكنيسة نفسه، السيد المسيح، ومن خلاله نرى كنيسته المقدسة، بكونها جسده السري. لهذا يقول "هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب". إنه يسكن في المسيح يسوع، حاملاً الطبيعة الجديدة التي تميزه. لا يراه شعبًا بالمفهوم الزمني، فيُحسب وسط الشعوب، إنما يراه الكنيسة الواحدة المقدسة، تحيا في السمويات. هكذا يرى بلعام التجسد واضحًا خلال ظلال الشريعة والنبوات، ويرى الكنيسة واضحة خلال التجسد، لكنها فوق كل إدراك.
"من أحصى تراب يعقوب ورُبع إسرائيل بعدد؟" [10]. وفي الترجمة السبعينيّة "من أحصى بذار يعقوب تمامًا، ومن أحصى عائلات إسرائيل؟". يقول العلامة أوريجينوس: [هذا يذكرنا بالقول: "ثم أخرج الله إبراهيم إلى خارج وقال: انظر إلى السماء وعدّ النجوم إن استطعت أن تعدها. وقال له: هكذا يكون نسلك. فآمن إبراهيم بالرب فحُسب له برًا" (تك 15: 5-6). لا يستطيع إبراهيم ولا أي إنسان آخر ولا ملاك ولا رئاسات عليا أن تحصي عدد النجوم ولا نسل إبراهيم، إذ كُتب عنه "هكذا يكون نسلك". أما الله فقيل عنه "يُحصي عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء" (مز 147: 4). هذا الذي قال: "قد أعطيت أوامري لكل الكواكب"، فإنه يقدر أن يُحصي تراب يعقوب وربع إسرائيل بعدد. هو وحده الذي يعرف بحق من هو يعقوب الحقيقي من هو إسرائيل الحقيقي. فإن الأمر لا قيمة له من جهة اليهودي حسب الظاهر، ولا الختان الذي في الظاهر في الجسد، بل "اليهودي في الخفاء" (رو 2: 28)، ختان القلب لا الجسد، إنه وحده القادر أن يعدّ وأن يسجل، بحسب حكمته الفائقة الوصف غير المدركة.... هذا الإحصاء لا يكون مقدسًا وعجيبًا إلاَّ إذا تم بناء على أمر إلهي. أما إذا أراد أحد أن يصنع تعدادًا بغير ما أمر به الرب، حتى ولو كان داود النبي العظيم هو الذي أمر به (2 صم 24)، يُحسب هذا التصرف ضد الشريعة، ويصير الشخص موضع اتهام ويسقط تحت العقاب[218]].
"لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم" [10]. وفي الترجمة السبعينيّة "لتمت نفسي مع نفوس الأبرار". وكأن بلعام وقد رأى كنيسة العهد الجديد المقدسة خلال التجسد الإلهي لم يشتهِ العضويّة فيها فحسب بل أراد أن ينعم بحياتها خلال التمتع بالموت مع السيد المسيح. وكأنه أدرك خلال الظل كلمات الرسول بولس: "إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعموديّة للموت" (رو 6: 3-4)، و"إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه" (2 تي 2: 11). يقول العلامة أوريجينوس: [بخصوص هذا الموت يقدِّم بلعام نبوءة مدهشة، وبواسطة كلمة الله جعل لنفسه صلاة رائعة، فإنه يطلب أن يموت عن الخطيّة ليحيا لله[219]]. ويقول القدِّيس إمبروسيوس: [اشتاق بلعام إلى هذا الأمر بروح النبوة إذ رأى فيه القيامة الأبديّة للبشريّة، بهذا لم يَخَفْ أن يموت إذ يقوم ثانية. إذن ليت نفسي لا تموت في خطيّة ولا ترتكب شرًا بل تموت في نفس البار فتتقبل برّه فيها. فإن من يموت في المسيح يصير شريكًا لنعمته داخل الجرن[220]].
للأسف لم يتحقق لبلعام هذا الطلب إذ ختم حياته بمشورته الشيطانيّة التي قدمها لبالاق ليسقط أولاد الله في الزنا، فيحلّ عليهم غضب الله (أصحاح 25). انتهت حياته بالقتل بالسيف (عد 31: 8، 16، يه 11). يقول القدِّيس إيرينيئوس: [ذُبح بلعام بن بوعز بالسيف لأنه لم يعد ينطق حسب روح الله بل أقام ناموسًا آخر هو ناموس الزنا المضاد لناموس الله (رؤ 2: 14). لم يعد يُحسب نبيًا وإنما مثل عرَّاف، إذ لم يستمر في إعلان وصيّة الله بل تقبَّل الجزاء العادل لمشورته الشريرة[221]].
لم تتحقق هذه الطلبة في حياته الخاصة، لكنها تحقت في تلاميذه، جماعة المجوس، الذين جاءوا من المشرق وقبلوا السيد المسيح كملك، مقدِّمين له ذهبًا ولبانًا ومرًا، مؤكدين ملكوته الروحي وكهنوته وآلامه. لقد تنبأ بلعام في شخصه عن الأمم التي قبلت الموت مع السيد المسيح.
أخيرًا لم يكن سهلاً أن ينطق بلعام بهذه الكلمات مشتهيًا الموت، في وقت كان فيه الموت عند اليهود كما عند الأمم علامة غضب الله، وعلامة نجاسة. لكن رؤيته بروح النبوة موت السيد المسيح جعل "الموت" شهوة يطلبها من يرغب في التبرر بدم السيد.
3. تغيير المكان:
أُصيب الملك بفزع إذ رأى بلعام ينطق بغير ما كان يتوقع. سمعه يبارك عِوَض أن يلعن، فلم يحتمل، بل عاتبه قائلاً: "ماذا فعلت بي؟ لتشتم أعدائي أخذتك، وهوذا أنت قد باركتهم؟" [11]. وإذ أصرّ بلعام أن ينطق بالكلمات التي يضعها الرب في فمه، أخذه بالاق إلى موضع آخر يرى منه إسرائيل، لكنه لا يرى إلاَّ أقصاءه وليس كل الجماعة ليلعنه من هناك. أخذه إلى صوفيم في رأس الفسجة وبنى له هناك سبع مذابح وأصعد ثورًا وكبشًا على كل مذبح.
أخذه إلى موضع جديد لعل الله يغيِّر رأيه، وقد أطاع بلعام بغير تردد أملاً في الأجرة. أما اختيار المكان فغريب، منه يرى أقصى الجماعة لكنه لا يرى كل الجمهور، والحكمة في ذلك إن بالاق ربما ظن أن بلعام كان يرتعب من كثرة الجمهور، فكان يخشى أن يلعنه، فيسيء إليه الشعب عندما يغلب موآب. أراد من بلعام أن يكون كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل حينما ترى الخطر محدقًا بها عِوَض أن تهرب من الخطر أو تواجهه.
"حقل صوفيم" بالعبريّة يعني "حقل الناظرين"، في رأس الفسجة وتعني "قسم أو منطقة". هذه الأخيرة جزء من منطقة جبل عباريم الواقعة في الطرف الشمالي الشرقي من البحر الميت. إذ كان البحر تحت سفوحها، قمتها تشرف على البريّة، وفي نفس الوقت يمكن من قمتها التطلّع على جزء كبير من أرض كنعان غرب نهر الأردن. هناك نظر موسى أرض الموعد (تث 3: 7، 34: 1-4)، حاليًا غالبًا هي رأس السياغة.
على رأس الفسجة على جبال عباريم تطلَّع بلعام نحو البريّة ليرى الشعب في أقصائه ولا يراه جميعه فيلعنه، وعلى نفس الجبال تطلَّع موسى إلى أرض الموعد فانفتح قلبه على السماء واشتهى العبور إليها! أقول بالعين الشريرة ينظر الإنسان إلى الأرضيات فيمتليء قلبه شرًا ويشتهي اللعنة للآخرين، وبالعين البسيطة ينظر المؤمن إلى السمويات فينفتح قلبه على البركة والسلام. ما أحوجنا لا إلى تغيير الأماكن أو الظروف التي نعيش فيها بل تغيير النظرة وتقديسها، فعِوَض تركيزها على العالم والزمنيات ترتفع إلى فوق نحو الله والسمويات.
4. نبوته الثانية:
إن كانت النبوة الأولى قد ركَّزت على التجسد الإلهي، من خلاله تطلع إلى إسرائيل الجديد أو كنيسة العهد الجديد التي حملت طبيعة جديدة فصارت ليست شعبًا بين الشعوب، بل له طبيعته، وأيضًا بركته فلا يقدر أحد أن يحصيه غير الله وحده! الآن يركز على عمل الفداء من آلام الرب وصلبه وقيامته، إذ يقول:
"قم يا بالاق واسمع، اصغَ إليَّ يا ابن صفور،
ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم،
هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلَّم ولا يفي؟
إني قد أُمرت أن أبارك، فإنه قد بارك فلا أرده،
لم يبصر إثمًا في يعقوب ولا رأى تعبًا في إسرائيل،
الرب إلهه معه، وهتاف ملك فيه،
الله أخرجه من مصر، له مثل سرعة الرِّئم،
إنه ليس عِيافة على يعقوب، ولا عِرافة على إسرائيل،
في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله،
هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد،
لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى" [18-24].
مع أن هذا الشعب كثير التذمر، وتعرَّض لتأديبات قاسية جدًا ومُرَّة أثناء رحلته في البريّة، لكن خلال الصليب والقيامة لم يرى الله في شعبه إثمًا ولا تعبًا، بل يجد فيه برّ المسيح وسرّ راحته، يصير موضع سروره. لقد أخرجه من أرض العبوديّة وعبر به إلى الراحة واهبًا إياه الغلبة على قوات الظلمة (العِيافة والعِرافة). أقامه كعروس مقدسة، كامرأة الأسد الخارج من سبط يهوذا، لبوة تنجب أشبالاً أقوياء... الخ.
يبدأ نبوته الثانية الخاصة بأعمال السيد المسيح الخلاصيّة بقول: "قم يا بالاق". مع أن بالاق كان واقفًا عند محرقته مع رؤساء موآب (ع 17)، لكنه يأمره "قم يا بالاق". إن كانت كلمة "بالاق" تعني "المتلف" أو "المخرِّب"، فإن الدعوة هنا موجهة إلى جماعة الأمم التي عاشت زمانًا طويلاً تتعبد للأوثان فصارت بكل طاقتها في حالة سقوط وانهيار، بل صارت متلفة للنفس ومخرِّبة للقلب، لهذا صارت إليها الدعوة أن يقوم مع السيد المسيح القائم من الأموات فلا تصير بعد مخرِّبة ولا مُتلِفة، بل تحمل طبيعة الحياة المُقامة فيها.
هذه هي الدعوة التي سمعها شاول الطرسوسي الذي كان يُخرِّب كنيسة الله ويُتلفها بإفراط: "قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (أع 9: 6). لقد نادى الرب الإنسان وهو مُلقى في الطريق محطم النفس ودعاه أن يتمتع بالقيامة معه ليدخل المدينة الجديدة وهناك يعرف كيف يسلك في الرب. لقد تمتع الرسول بقوة القيامة، لهذا صارت كلماته الكِرازيّة تدور حول خبرة القيامة، إذ يقول: "قم من الأموات فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14).
"اصغَ إليَّ يا ابن صفور"؛ إن كانت كلمة "صفور" تعني "عصفور"، فإن بالاق وهو كالعصفور الساقط بلا ثمن في عيني الناس لكنه ليس منسيًا لدى الله (لو 12: 6).
"ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم،
هل يقول ولا يفعل؟
أو يتكلم ولا يفي؟" [19].
لقد وعد أنه يبارك شعبه، وهو ملتزم بالوعد، لا بأن ينطق بكلمات البركة إنما ملتزم "أن يفعل، وأن يفي". مباركته لشعبه تكلفه الكثير، إذ يلتزم أن يحمل أجرة اللعنة التي سقطوا تحتها حاملاً عار الصليب عنهم، ويقوم فيقيمهم إلى الحياة المباركة الجديدة. يدخل بهم إلى قوة قيامته، فلا يظهر فيهم إثم ولا يوجد فيهم تعب. إنهم يتمتعون ببره عِوَض إثمهم، وبراحته عِوَض تعبهم.
يكمل النبوة هكذا: "الرب إلهه معه، وهتاف ملك فيه" [21]. لقد حلّ وسط شعبه وملك فيهم بصليبه، معلنًا كمال حريتهم فيه وبه. لهذا يقول "الله أخرجه من مصر" [22]. هذه هي الحريّة، أنه وهبهم فصحًا حقيقيًا بعبوره بهم من أرض العبوديّة إلى حريّة مجد أولاد الله.
هذا العبور الإلهي في حياة المؤمنين يتم بقوة وبسرعة فائقة "له مثل سرعة الرئم" [22]. الرئم هو حيوان يرجح أنه الأوروخس، نوع من الثور الوحشي انقرض من العالم، يمتاز بسرعته الفائقة، وقوته العظيمة (عد 24: 8)، لا يمكن إحناء عنقه للنير أو تسخيره لخدمة الإنسان في الأعمال الزراعيّة (أي 39: 9-12). يشير الرئم إلى السيد المسيح القائم من الأموات، إذ له قرن علامة الملك (دا 8: 22)، قيل "قرناه قرنا رئم، بهما ينطح الشعوب معًا إلى أقاصي الأرض" (تث 33: 7). وكأن السيد القائم من الأموات يملك روحيًا على الشعوب، ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 33).
إذ يملك الرب على الأمم روحيًا يحطم كل قوى الشيطان تحت أقدامهم، إذ يقول: "أنه ليس عِيافة على يعقوب، ولا عِرافة على إسرائيل" [23].
إن كان الله قد حرّم استخدام العِيافة والعِرافة بواسطة شعبه، أي معرفة الغيب عن طريق السحر، مستخدمين في ذلك حيوانات وطيور معينة، هذه التي اعتبرها الكتاب دنسة، ليس لأجل ذاتها وإنما بسبب إساءة الإنسان استخدامها، في نفس الوقت يعطي الرب طمأنينة لأولاده أنه لا يستطيع أحد أن يستخدم السحر لضررهم ما داموا محفوظين في يده.
إذ ملك الرب على شعبه لا يستطيع الشيطان بكل فنون سحره أن يسيطر عليهم، فتوجد الكنيسة كامرأة الأسد (لبوة) تتمتع بقيامة عريسها وترتفع معه إلى سمواته: "هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد"... هذه هي صورة الكنيسة الحيّة وأولادها الأقوياء كأشبال يحملون قوة مسيحهم الأسد الغالب.
يقول العلامة أوريجينوس: [في الواقع الأسد والشبل لا يخشيان أي حيوان آخر... بل كل الحيوانات تخضع لهما. هكذا إذ يحمل المسيحي الكامل صليبه ويتبع المسيح (مت 16: 24)، يستطيع أن يقول: "قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6: 14) ويدوس كل شيء تحت قدميه، قاهرًا كل شيء. بالحق يحتقر كل ما في العالم ويرذله، مقتديًا بالأسد الخارج من سبط يهوذا[222] (رؤ 5: 5)].
يختم النبوة الثانية بقوله: "لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى" [24]. هذا الشعب الذي صار عروسًا للأسد لا يستريح حتى يأكل فريسة، أي حتى يغتصب ملكوت السموات اغتصابًا (مت 11: 12). إنه يجاهد كل أيام غربته حتى النفس الأخير من أجل التمتع بالملكوت. أما قوله "يشرب دم قتلى" فلا تحمل مفهومًا حرفيًا، بل كما قيل في سفر التثنية "دم العنب شربته خمرًا" (تث 32: 14)، مشيرًا إلى التمتع بدم السيد المسيح الذي ذُبح لخلاصنا.
إن كان السيد المسيح قد ربض على الصليب فحطم إبليس كفريسة، وأهلك جنوده الشريرة، هكذا بالاتحاد معه نحمل روح الغلبة على الشيطان وكل أرواحه المقاومة.
أخيرًا نلاحظ أنه في النبوة الأولى قد أعلن سرّ بركة هذا الشعب أنه مرتفع على الجبال الشاهقة لا تقدر سهام اللعنات الشيطانيّة أن تقترب إليه، إنه شعب فريد (روحيًا) ينمو ويتكاثر روحيًا. أما في هذه النبوة فيؤكد عدم إمكانية لعنته، لقد يئس تمامًا من ذلك أولاً لأن مواعيد الله له ثابتة لا تتغير، ولأنه حاليًا بلا لوم ولا شرّ، ولأنه قوي بأعماله الماضية (خروجه من مصر) وأعماله الحاضرة (كلبوة يقوم وكأسد يرتفع). بهذا لم يعد هناك أي رجاء لبالاق.
5. تغيير المكان للمرة الثانية:
لم يعد لبالاق إلاَّ أن يطلب من بلعام أن يُغيِّر موضعه مرة أخرى لعل الله يأذن له بلعنهم. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [ظن الملك البائس أنه لم تتهيأ الأماكن المناسبة لسحر بلعام لأجل تحقيق اللعنات، ولم يدرك أن الأمر يحتاج إلى الإرادة. لقد ظن أنه ينجح بتغيير الموضع[223]].
لقد دعاه إلى رأس (قمة) فغور، التي تعني قمة الفجور والملذات. أراد أن يسحب نظره من الله إلى الفجور والملذات. والعجيب أن هذا الموضع كما يوضح الكتاب "يشرف على وجه البريّة"، فحيث توجد الملذات الزمنيّة يوجد الجفاف الروحي والتغرب عن الله.
الأصحاح الرابع والعشرون
(تابع) نبوات بلعام
يحوي هذا الأصحاح:
1. نبوته الثالثة 1-14.
2. نبوته الرابعة 15-19.
3. نبوته الخامسة 20-25.
1. نبوته الثالثة:
إذ جاء بالاق ببلعام إلى رأس الملذات ليعزله عن الرب فينطق بلعناته الخاصة عِوَض بركة الرب أدرك بلعام على العكس أنه لن يقدر أن يتصرف من ذاته فتنبأ للمرة الثالثة، بظروف اختلفت عن النبوتين السابقتين من جهة:
أ. لم يستخدم الفأل أي السحر كعادته (ع 1).
ب. لم ينسحب إلى مكان منعزل بل ذهب مباشرة متجهًا نحو الشعب ومعسكرهم (ع 2).
ج. حلّ عليه روح الرب فانفتحت عيناه لرؤية الموقف في أكثر وضوح (ع 2، 4).
أ. عدم استخدامه الفأل: توقف بلعام عن استخدام كل فنون سحره ليس حبًا في الله وإيمانًا به، وإنما غالبًا إدراكًا لعجز شياطينه تمامًا عن مساندته في تمكينه من النطق بلعناته. يقول العلامة أوريجينوس: [نستطيع أن نتساءل بماذا عرف بلعام أنه قد حسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل؟ لقد لاحظ أنه عندما أحرق الذبائح لم يتقدم شيطان واحد ولا تجاسرت سلطة معادية أن يظهر بالقرب من ضحاياه، فقد ابتعد خدام الشرّ الذين اعتادوا على مساعدته في تقديم لعناته[224]]. ولعل شهادة الكتاب "رأى بلعام أنه يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل" (ع 1)، أولاً تعلن شوق الله لمباركة إسرائيل الجديد أي الكنيسة، كما يرى البعض فيها نبوة عن عودة اليهود عن جحودهم وعدم إيمانهم فيقبلوا السيد المسيح في آخر الأزمنة، ويتمتعوا بالبركة الروحيّة عِوَض العنصريّة الصهيونيّة.
ب. انسحابه ليرى معسكر الجماعة المقدسة، إذ تنبأ قبلاً عن التجسد (النبوة الأولى) ثم عن أحداث الصلب والقيامة (النبوة الثانية) انفتحت عيناه لرؤية الكنيسة المتحدة بالمسيح المتمتعة ببركة الخلاص، لهذا انطلق مباشرة ليعاينها.
ج. حلول الروح عليه، لما كانت النبوة الثانية تخص يوم البنطيقستي، يوم ميلاد الكنيسة المتمتعة بالخلاص بالمسيح يسوع خلال عمل الروح القدس لهذا "كان عليه روح الرب". لكن للأسف كشف الروح له عن أسرار الله في معاملته للبشريّة، فانفتحت عيناه دون قلبه، وعِوَض التوبة ازداد عجرفة وكبرياء، قدَّم معرفة دون اتضاع، وامتلأ قلبه جفافًا بسبب محبته للفضة
أما موضوع النبوة فشمل أمرين: الشعب الذي يراه بعينيه الجسديتين كنواة مقدسة، والشعب الذي يراه بعيني النبوة بكونه كنيسة العهد الجديد التي تقوم بواسطة الروح القدس في يوم البنطيقستي كجسد المسيح يسوع.
فمن جهة الشعب الذي يراه أمامه بعينيه الجسديتين يرى فيه: شعبًا مملوءً جمالاً "ما أحسن خيامك يا يعقوب..."، مثمرًا على الدوام "كأودية ممتدة كجنات على نهر"، يحمل كرامة "يتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته"، مملوئين قوة في الماضي "الله أخرجه من مصر" وفي الحاضر، "مثل سرعة الرئم" وفي المستقبل القريب "يأكل أممًا"، وأخيرًا عن أثره على من هم حوله واهتمام الله به- هذه نبوة تحققت فعلاً في بدء انطلاق هذا الشعب، لكنها نزعت عنهم بإنكارهم المسيَّا المخلص، فصارت هذه النبوة ميراثًا لإسرائيل الجديد، الكنيسة التي جاءت من الأمم. وفيما يلي شرح مبسط للنبوة.
"وحيّ بلعام بن بعور، وحيّ الرجل المفتوح العينين،
وحيّ الذي يسمع أقوال الله،
الذي يرى رؤيا القدير مطروحًا وهو مكشوف العينين" [3-5].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس هكذا: [من المدهش أن يمتدح بلعام بمثل هذا المديح... كيف يكون بلعام مفتوح العينين هذا الذي سلَّم نفسه للعِرافة والسحر؟... لقد استحق هذا المديح العظيم إذ قيل عنه "فكان عليه روح الله"، "ووضع الرب كلامًا في فمه" (23: 16)، الأمر الذي لا نجده حتى في موسى أو في نبي آخر، أن يرتفع إلى مكانٍ عالٍ هكذا[225]].
جاءت كلمات بلعام عن نفسه "الرجل المفتوح العينين" تشير إلى حالة المؤمن في كنيسة العهد الجديد حيث رفع البرقع، فانكشفت أعماق الشريعة وحلّ الحق عِوَض الظلّ، وتحققت النبوات. صار الإنسان "يسمع أقوال الله" ليس خلال حروف بل مسجلة بالحب على الصليب في ابنه الوحيد، و"يرى رؤيا القدير" لا خلال أحلام كدانيال أو إعلانات رمزيّة بل كما قال الرسول "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).
لقد صار الإنسان بالخطيّة مفتوح العينين إذ تعرف على الشرّ ومارسه، وبالمسيح يسوع ربنا صار مفتوح العينين يتعرف على الأمور الإلهيّة السماويّة ويعيشها في حياتنا اليوميّة. يقول العلامة أويجينوس: [قالت الحيّة لحواء بأن الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما] (تك 3: 5)، فأكلت ويقول الكتاب: "وانفتحت أعينهما" (تك 3: 7). لكن يوجد نوعان من الأعين: "الأعين التي تنفتح بالخطيّة، وأعين نظر بها آدم وحواء قبل أن تنفتح هذه الأعين[226]". وقد جاء السيد المسيح ليفتح البصيرة الداخليّة الروحيّة التي كانت عمياء، ويعمي هذه الأعين التي تتعرف على الشرّ وتشتهيه. لهذا يقول: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون (أي تنفتح البصيرة الروحيّة) ويعمى الذين يبصرون (أي تغلق أعين الشرّ التي فتحها الشيطان بناء على نصيحة الحيّة)" (يو 9: 39). ما أحوجنا أن يفتح الرب أعيننا على السمويات ويغلقها نحو الشرّ!!
خلال نصيحة الحيّة انفتحت عيني الإنسان على الشرّ فصار أعمى، وخلال السيد المسيح انغلقت عينيه عن الشر لتنفتحا على الإلهيات فصار بصيرًا أو مستنيرًا.
إذ انفتحت عيناه قال: "ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل" [5]. في الترجمة السبعينيّة "ما أحسن مساكنك يا يعقوب، خيامك يا إسرائيل". إن كان المسكن يشير إلى حالة الاستقرار فإن الخيمة تشير إلى حالة التحرك المستمر. فالكنيسة في حالة استقرار بكونها جسد المسيح السري، مستقرة في حضن الآب، وفي نفس الوقت هي دائمة الحركة والنمو، تنطلق بالروح القدس من مجد إلى مجد لكي يبلغ أعضاؤها إلى قياس ملء قامة المسيح. بالمسكن أراد إعلان دخولنا إلى الاتحاد مع الله في ابنه يسوع المسيح بواسطة روحه القدوس فتعرفنا على أسرار معرفة الثالوث القدوس كخبرة نعيشها ونمارسها، وبالخيام أراد تأكيد حالة النمو المستمر في المعرفة، ننطلق بقيامنا من خبرة إلى خبرة، وندخل من معرفة إلى معرفة... بهذا "نمتد إلى ما هو قدام" (في 3: 13) كالبدو الرحل لا نتوقف عن طلب المزيد من المعرفة الروحيّة البناءة حتى نراه وجهًا لوجه.
"كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود غرسها الرب، كأرزات على مياه. يجري ماء من دلائه، ويكون زرعه على مياه غزيرة ويتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته" [6-7].
يا لها من صورة حيّة ليوم البنطيقستي، يوم ميلاد كنيسة المسيح المقدسة بالروح القدس! لقد وهبها الاستقرار كمساكن مقدسة وأعطاها حيويّة النمو الدائم كخيام دائمة الحركة. الآن يراها بلعام أودية بلا حدود وجنات مثمرة على الدوام!
جاءت الترجمة السبعينيّة: "كحدائق (غابات صغيرة) مظللة، كجنات على نهر، كخيام نصبها الله، كأرزات على مياه. يأتي رجل من زرعه ويحكم على أمم كثيرة، وتتسامى مملكة جوج، وتتزايد مملكته" (ع 6-7). هنا يبرز عمل الروح القدس في حياة الكنيسة، فيجعلها كالغابات المظللة التي تستضيف الحيوانات والطيور، وكجنات على نهر تفرِّح قلب الإنسان وتعيد إليه سلامه المعهود، وكخيام نصبها الله فصارت مقدسة تتحرك نحو صانعها لتستريح فيه، وكأرزات مرتفعة ومستقيمة، وكرجل يحكم بسلطان لا يقدر الشيطان بكل جنوده عليه!
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا النص، قائلاً: [يقدم بلعام صورة ساحرة وعجيبة: "كغابات صغيرة مظللة، كجنات على نهر، كخيام نصبها الله، كأرزات على مياه". الذين يتعبون في الطريق يسيرون خلال "الأشجار المظللة" التي هي جماعة الأبرار وطغمة الأنبياء القدِّيسين. هؤلاء تتذوق أرواحهم الرطوبة تحت ظلّ المعاني التي يجدونها في كتاباتهم وفي سيرهم في تعاليمهم، متلذذين من عمق الأشجار!... إنهم كجنات على نهر، يحملون صورة الفردوس حيث يوجد فيه شجرة الحياة على الأنهار أي الكتابات الإنجيليّة والرسوليّة... مخلصنا هو النهر الذي يُفرِّح مدينة الله (مز 46: 5). بالروح القدس أيضًا لا يصير لنا فقط النهر بل ينبوع مياه توهب لنا في بطوننا (يو 4: 13). أيضًا الآب يقول: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" الذي هو مصدر هذه الأنهار (المياه). لهذا ينصب الإسرائيليّون خيامهم ليستقوا من هذه الأنهار، هذه الخيام التي نصبها الله نفسه[227].
ما أجمل الكنيسة وما أعظمها فقد نصب الله نفسه خيامها على الأنهار المقدسة لتستقي من ينابيع معرفة الثالوث القدوس، تفرح بالآب "ينبوع المياه الحيّة" والابن "نهر الحياة" والروح القدس الذي يفجر ينابيع مياه حيّة داخل النفس!
ماذا يعني نصب الخيمة على المياه المقدسة إلاَّ غرس المؤمنين في مياه المعموديّة المقدسة، حيث يخلع الإنسان كل وصمة للخطيّة ويحمل الإنسان الجديد على صورة خالقه. في الجرن يغرس عضوًا في جسد المسيح، يصير هيكلاً للروح القدس، ويتمتع بحق الاستقرار في حضن الآب بكونه ابنًا له.
بهذا تتحول الكنيسة إلى غابات مظللة، يلجأ إليها كل إنسان ليستريح تحت ظلالها من ضربات شمس التجارب الحارقة للنفس. وتصير كجنات على نهر، تناجي عريسها قائلة: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16). ويجيبها العريس متهللاً: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مري مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا ايها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
تصير كأرزات على مياه، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [هذه الخيم هي أيضًا كأرزات على مياه. الأرز هنا لا يحمل الكبرياء الشرير، إنما هو "أرز الله" الذي يسند فروع الكرمة التي نقلت من مصر (مز 80: 8)، لكي ينضج الثمر ويغطي ظلها الجبال[228]].
إذ رأى عمل الروح القدس في حياة الكنيسة تحدَّث عن دوره في حياتها الكرازيّة، فقال: "يأتي رجل من رزعه ويحكم على أمم كثيرة" فإن السيد المسيح يأتي متجسدًا من بيت إسرائيل، هذا الذي يملك روحيًا على أمم كثيرة خلال عمل روح الله القدوس في كنيسته. يقول العلامة أوريجينوس: [إنه المسيح الذي خرج من ذريّة إسرائيل حسب الجسد. كيف يملك على الأمم؟ هذا لا يحتاج إلى شرح، خاصة إن قرأنا ما يقوله الآب: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 8). لكن ماذا يعني: "يتسامى ملكه على جوج؟ إن "جوج" تعني فوق السطوح، فلا نأخذ هذا النص بكونه اسم شعب معين... إنما يعني "يتسامى مملكته فوق السطوح وتنمو مملكته". التسامي فوق السطوح يخص الكاملين والنمو يخص جميع المؤمنين. عند الكاملين تسمو مملكة المسيح فوق السطوح، أي فوق الذين يشغلون الأجزاء الفضلى ويسكنون المرتفعات العالية... لهذا السبب أظن أن المخلص يقول: "والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا" (مت 24: 17)، محذرًا الذين بلغوا درجات الكمال العُليا ألاَّ ينزلوا عنها إلى الأماكن السفلى والدنيئة في هذا العالم... إما نمو مملكته فيعني تزايد الكنائس وتكاثر المؤمنين، فترتفع مملكته إلى أن "يضع الآب جميع الأعداء تحت قدميه، آخر عدو يبطل هو الموت[229]" (1 كو 15: 25-26).
إذن تنمو الكنيسة في اتجاهين، نمو كل مؤمن نحو الكمال ليرتفع فوق السطوح ويبلغ السمويات، ونمو ليضم الكثيرين إلى معرفة الله، أي الكرازة في العالم.
أما علامات هذه الكرازة فهي: "الله أخرجه من مصر"، كأن غايتها انطلاق النفس وعبورها من أرض العبوديّة متجهة نحو أرض الموعد كما انطلق الشعب القديم. ويرى البعض في هذه العبارة إشارة إلى هروب السيد المسيح إلى أرض مصر، لكي يُدعى من مصر فيعبر بالأمم إلى طريق الإيمان. يقول العلامة أوريجينوس: [أخرجه الآب من مصر، وجعله يأتي إليه، لكي يفتح الطريق للذين هم من مصر هذا العالم فيصعدون نحو الله[230]].
يكمل قائلاً: "له سرعة الرئم"، وقد رأينا في تفسيرنا الأصحاح السابق (23: 22) أنها تشير إلى الكرازة بالسيد المسيح بقوة ليملك روحيًا إلى أقاصي الأرض (تث 33: 17).
"يأكل أممًا مضايقيه ويقضم ويحطم سهامه" [8]. خلال هذه الكرازة يحطم الروح القدس أفكار الشر في الإنسان التي كانت كالأمم المقدومة للنفس، يقضم عظامهم أي الشهوات الجسديّة، ويحطم سهام التجارب الشريرة. بهذا ينقل الروح القدس الإنسان نفسًا وجسدًا إلى الحياة المقدسة، واهبًا إياه روح الغلبة والنصرة.
أما موضوع الكرازة فهو: "جثم كأسد ربض كلبوة، من يقيمه؟ مباركك مبارك ولاعنك ملعون" [9]. يحدث العريس والعروس معًا، لأنهما متحدان، فقد جثا العريس كأسد على الصليب وربضت معه عروسه، من يقيمهما؟ يقوم السيد بسلطانه، إذ قال "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها"، واهبًا عروسه قوة القيامة. بهذا حملت الكنيسة إمكانيات عريسها، فصار من يباركها يتبارك بعريسها، ومن يلعنها يحمل غضب عريسها.
اشتعل غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه علامة الحيرة الشديدة والعجز عن التصرف، لم يبقَ له إلاَّ التهديد... "اهرب إلى مكانك... هوذا الرب منعك من الكرامة!". وشعر بلعام أنه لا علاج للموقف لهذا قرر أن يرجع إلى شعبه، لكنه قبل أن ينطلق نطق بنبوتين أخرتين (الرابعة والخامسة) دون أن يطلب منه بالاق أن يتكلم.
2. النبوة الرابعة
قلنا أن النبوة الأولى ركزت بالأكثر على رؤية إسرائيل الجديد من خلال التجسد، والثانية من خلال الصلب والقيامة، والثالثة من خلال الروح القدس، والآن يوضح بالأكثر عن الكنيسة الكرازي دون أن يفصل هذه الأعمال الخلاصيّة عن بعضها البعض.
بدأ مقدمته بذات الكلمات التي نطق بها في مقدمة النبوة السابقة لكنه يضيف هنا عبارة عجيبة لا يجرؤ نبي أن ينطق بها: "ويعرف معرفة العلي" (ع 16). لماذا نطق بهذه الكلمات؟ هل لأنه ما رآه وتعرَّف عليه يفوق كل إدراك بشري، لم يكن يتوقعه قط فحسب في نفسه أنه قد أدرك معرفة العلي؟ أو لأنه تعرَّف على أسرار الابن الوحيد الذي قال "لا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27)، وكأنه يريد أن يؤكد أن الابن المتجسد والذبيح يكشف له أسرار الآب؟ أو لأنه دخل خلال النبوة إلى يوم البنطيقستي والتقى بالروح القدس الذي "يفحص كل شيء حتى أعماق الله؟" (1 كو 2: 10) أو لعله كإنسان قد تمتع بهذه العطايا وأدرك هذه الأسرار أراد أن يميز بين معرفته السابقة ومعرفته الحالية، قبلاً كان يستخدم فنون السحر والعِرافة ويعتمد على الشياطين مدعيًا معرفة المستقبل، أما نبواته هذه فهي عطيّة الله، إنها معرفة الله الصادقة لا الشياطين المضللة. ويرى البعض أن بلعام كإنسان غير نقي القلب إذ تمتع بعطايا الله ومعرفته تحوَّل إلى الكبرياء والاعتداد بالذات عِوَض الاتضاع والانسحاق.
يقول: "أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا" [17]. من الذي يراه ولكنه كمن هو بعيد؟
"يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل،
فيحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى.
ويكون أدوم ميراثًا، ويكون سعير أعداؤه ميراثًا.
ويصنع إسرائيل ببأس.
ويتسلط الذي من يعقوب ويهلك الشارد من مدينة" [17-19].
يقول "أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا"، وبحسب الترجمة السبعينيّة يقول "سأشير إليه ولكن ليس الآن، أباركه ولكنه لم يقترب" رآه بروح النبوة او أشار إليه لكنه بعيد عنه، إذ بقي أكثر من 1500 عامًا على تجسده حين نطق بلعام، إنه يشير إليه من بعيد حتى يأتي ملء الزمان (غل 4: 4) فيقترب إلى الأمم ويفهم المجوس هذه الكلمات. حينئذٍ يباركون الرب مقدمين قلوبهم وحياتهم مع ذهبهم ولبانهم ومُرّهم. يقول بلعام "أبارك" لكنه لم يقترب بعد، يأتي وقت فيه يقترب الرب فتنفتح ألسنة الأمم بكلمات التسبيح والبركة.
أما قوله: "يبرز كوكب من يعقوب، يقوم قضيب (إنسان) من إسرائيل"، فيحمل نبوة عن لاهوت السيد وناسوته، فهو الكوكب السماوي الذي جاء متجسدًا ليملك (قضيب) على قلوب البشريّة. وكما سبق فقلنا أن هذه النبوة سجلت في كتب أبناء المشرق، خلالها تعرف المجوس على الملك المولود حين ظهر لهم النجم في المشرق.
بظهوره كوكبًا منيرًا في قلوب الأمم خلال الكرازة بالإنجيل "يحطم طرفي موآب". إن كان رؤساء موآب يعني تحطيم عمل الشيطان وخداعاته اليمينيّة (البر الذاتي) والشماليّة (الخطايا والنجاسات). الكرازة بالإنجيل تحرر موآب من رؤسائه، أو كما يقول العلامة أوريجينوس: ["هذا المولود من إسرائيل يحطمهم عندما يجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارًا على صليبه" (كو 2: 15)، فيخلص الموآبيّين ويقودهم إلى معرفة الرب[231]].
"ويهلك بني الوغى"، وفي الترجمة السبعينيّة: "ويهلك بني شيث". يرى العلامة أوريجينوس أنه بعد قتل هابيل أنجبت حواء "شيث" الذي خرج منه كل جنس البشر، أما نسل قايين فأهلكه الطوفان. هذا الجنس صار غنيمة للشياطين. لهذا إذا جاء السيد وصارت كلمة الكرازة بالإنجيل حطم الشيطان وسبى هؤلاء الذين كانوا تحت قبضته، فصار كغنيمة للسيد (أف 4: 8). هنا يهلك السيد الشرّ الذي فيهم ويقتنيهم أسرى الخلاص، ليدخل بهم إلى سمواته. لهذا يقول العلامة أوريجينوس: [إني أشتهي أن أكون أنا أيضًا أسير المسيح، يقتادني مع غنائمه، ويحفظني مقيدًا برباطاته، فأستحق أن يقال عني: "أسير يسوع المسيح" (أف 3: 1)، كما كان الرسول بولس يقول مفتخرًا[232]].
يقول بلعام: "ويكون أدوم ميراثًا، ويكون سعير (عيسو) أعداؤه ميراثًا" (ع 18). قلنا قبلاً أن أدوم هو بعينه سعير الذي هو عيسو. فإن كانت كلمة "أدوم" تعني إنسانًا دمويًا محبًا للقتال، وسعير تعني "شعر". فإن أدوم ربما تشير إلى النفس البشريّة وقد فسدت بالخطيّة فصارت محبة للقتال، وسعير تشير إلى الجسد المملوء شعرًا وكأنه بالكرازة بالإنجيل يملك الله على النفس والجسد معًا، فينزع عنا الإنسان العتيق العامل في نفوسنا وأجسادنا ونوهب الإنسان الجديد كميراث الله فينا.
يرى العلامة أوريجينوس أن أدوم كما سعير يشيران إلى الجسد، بكون أدوم يشير إلى الدم (الجسد) وشعير إلى الشعر. لهذا يُعلِّق قائلاً: [أدوم هو الجسد الذي يقاوم الروح (غل 5: 17)، عدو الروح. ولكن في مجيء المسيح إذ نخضع الجسد للروح برجاء القيامة يحصل الجسد أيضًا على الميراث. لأنه ليس فقط النفس كانت عدوًا للروح بل والجسد أيضًا، فبإطاعته للروح القدس يكون له نصيب في الميراث الآتي[233]].
أما قوله: "يصنع إسرائيل ببأس" (ع 18)، فإن المؤمن وقد خضع بنفسه وجسده لعمل الروح القدس وصار ميراثًا للرب، يصير رجل بأس لا يقدر عدو الخير على مقاومته. حقًا لا يعود يحارب جسده وعواطفه وأحاسيسه، بل تتجند هذه جميعها لا لمحاربة النفس بل لمحاربة الخطيّة، ويصير الجسد الذي كان ثقلاً على النفس معينًا لها.
لهذا يكمل قائلاً: "ويتسلط (يظهر) الذي من يعقوب ويهلك الشارد من مدينة" (ع 19). من هو هذا الذي يظهر أو يتسلط إلاَّ السيد المسيح الذي خرج من إسرائيل، يتجلى في حياة الإنسان المؤمن ببهاء مجده، ويهرب الشيطان الشارد من مدينة الله (القلب). يدخل السيد المسيح إلى القلب بصليبه فيهلك الشيطان ولا يكون له موضع في داخل النفس. يتسلط الإنسان الجديد الحامل سمات المصلوب ويهرب الإنسان القديم بأعماله.
3. النبوة الخامسة:
لقد رأى عماليق فنطق بالنبوة الخامسة والأخيرة، وإن كان البعض يعتبرها جزءًا لا يتجزأ من النبوة الرابعة.
يقول: "عماليق أول الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك" [20]. إن أول حرب تمت في البريّة كانت ضد عماليق أول الشعوب وقد بقوا في حرب مستمرة مع هذا الشعب حتى انتهى عماليق في أيام حزقيا (1 أي 4: 43).
إن عدنا إلى سفر التكوين (14: 7) نسمع عن الملوك رجعوا إلى عين مشفاط (الدينونة) التي هي قادش (مقدس) وضربوا كل بلاد العمالقة. لهذا حيث تقوم الدينونة ويفرز الشرّ عن البرّ، والنجاسة عن التقديس يقتل العمالقة في قادش أي في المقدسات. وكأنه حيث توجد القداسة لا يمكن أن يوجد العمالقة (جنود الشر). يقول العلامة أوريجينوس: [إذًا الذين يلتفون حول المقدسات (قادش) ويهتدون إلى التقديس والطهارة يقتلون عماليق ويزيلونه هذا الذي يقتنص الشعب بسرعة ويجعله منحرفًا... في القداسة (قادش) التي هي عين شفاط (الدينونة... وبقلب طاهر يتأمل عقاب الخطاة وسعادة الأبرار، بهذا يصارع ليطرح أمراء عماليق. أما الذين لا يهتدون إلى قادش أي القداسة ولا إلى عين الدينونة فلا يتأملون يوم الدينونة القادم، هؤلاء يخضعون لأمراء عماليق. يخطفهم عماليق بسرعة ويفترسهم وينحرف بهم بعيدًا عن الله[234]].
إن عدنا إلى التكوين (36: 11-12) نسمع أيضًا عن عماليق بن أليفاز بكر عيسو الذي ولدته أمه تمناع. هذا هو عماليق المقاوم لأولاد الله الذي ينبغي مقاومته، والده أليفاز الذي يعني (إلهي شتتني[235])، وأمه تمناع التي تعني (ممتنعة)... هنا عماليق ثمرة الاضطراب والتشتت بعيدًا عن الله والامتناع عن الرجوع إليه. إنه يمثل حالة التغرب عن الله والامتناع عن اللقاء معه. لهذا حسب أول عدو لشعب الله لأنه مقاوم لله ولشعبه، يلتقي بأولاد الله في البريّة ليهلكهم.
إن كان عماليق يمثل باكورة المقاومة لله في شعبه، فإن السيد المسيح يمثل باكورة الطاعة لله فيهم، لهذا جاء السيد الذي هو الباكورة (1 كو 15: 32) ليهلك باكورة الشرّ أي عماليق. لهذا يقول بلعام "وأما آخرته فإلى الهلاك" وفي الترجمة السبعينيّة "وأما زرعه فيهلك". هذا الزرع كما يقول العلامة أوريجينوس هو [الاعتقاد الذي جعله راسخًا في ذهن الناس أن ينحرفوا بعيدًا عن الرب. هذا هو الروح الفاسد، والعقيدة البغيضة، الزرع الذي غرسه فيهم. هذا يهلك خلال الرجوع بتنهدات ليخلصوا[236] (إش 45: 22)].
يكمل بلعام النبوة قائلاً: "ثم رأى القيني... وقال ليكن مسكنك متينًا وعشك موضوعًا في صخرة". ماذا يعني (القيني) إلاَّ المقتني أو المالك (تك 14: 7) فإن كان يلزمنا إبادة روح الشرّ عماليق وكل زرعه أي معتقداته وشروره إنما يجب أن نقتني آخر أو نكون نحن موضوع اقتنائه، ألا وهو السيد المسيح الصخرة ففيه نجد مسكنًا متينًا، وندخل إليه كالعصفور الذي يجد له فيه عشًا! يقول العلامة أوريجينوس: "يستطيع القيني أن يخلص إن نصب عشه على الصخرة، أي وضع رجاءه في المسيح، فلا يلتفت إلى خداعات الهراطقة الذين حوله[237]...].
يقول: "لكن يكون قاين حتى متى يستأسرك أشور" [22]. إنه يحذر من دخل إلى السيد المسيح ووجد له فيه مسكنًا، إن عاد يتطلع إلى أشور (الهراطقة) ينحرف عن الحق فيهلك. إن كان عماليق يمثل الخطر خارج الكنيسة (الخطيّة والشرّ) فإن أشور يمثل الخطر داخل الكنيسة خلال الهرطقات تحت اسم المسيح.
يقول: "آه! من يعيش حين يفعل ذلك؟" [23]. لقد أدرك أنه يتنبأ عن العصر الماسياني الذي يبعد عنه أكثر من 1500 عامًا، كما أدرك أنه بعيد من جهة التصديق إذ تحدث أمور فائقة للعقل.
نختم نبوته بالقول: "وتأتي سفن من كتيم (كريت) وتخضع أشور وتخضع عابر فهو أيضًا إلى الهلاك" [24]. لقد رأى بروح النبوة أحداثًا كثيرة منها:
أ. ما فعله إسكندر المقدوني قادمًا من جزيرة كريت (الحاكم اليوناني)، ويرى البعض أنه يشير إلى الاستعمار الروماني قادمًا من الغرب حيث كانت كتيم تشير لا إلى كريت وحدها بل كل الغرب.
ب. تشير إلى خضوع العبرانيّين (عابر) للسبي البابلي (أشور).
ج. يرى البعض في خضوع عابر للهلاك إشارة إلى رفض العبرانيّين شخص السيد المسيح ودخولهم إلى الهلاك خلال عدم الإيمان.
الأصحاح الخامس والعشرونالسقوط مع الموآبيات
إذ لم يستطع بلعام أن يلعن الشعب قدَّم لبالاق مشورة شريرة وهو أن يُلقي معثرة لهذا الشعب خلال الموآبيات فيحلّ بهم غضب الله وينهزموا:
1. السقوط مع الموآبيات 1-5.
2. غيرة فينحاس الكاهن 6-15.
3. الأمر بقتل الأشرار 16-18.
1. السقوط مع الموآبيات:
يقول العلامة أوريجينوس أنه إذا منعت الإرادة الإلهيّة بلعام من لعنه الشعب أراد أن يرضي بالاق الملك فقدم له هذه المشورة: "لا يحصل هذا الشعب على النصرة بقوته وإنما بعبادته الله وحياة الطهارة. فإن أردت أن تهزمه ابدأ بهدم طهارته فينهزم بأسلحته. إنه ينهزم بالجمال النسائي لا بقوة الجيوش، بنعومة النساء لا بصلابة رجال الحرب. لتستبعد أيدي المحاربين لتجمع نخبة من الجميلات، يسرن على نغمات رقص وصفقن بأيديهن. فإن الجمال ينزع الأسلحة من المحاربين واستبعدوا السيوف؛ الرجال الذين لا يُقهرون في الحرب يهزمهم الجمال. فإذا ما لاحظت الموآبيات أن الرجال تركوا أنفسهم للشهوات، وأحنوا رقابهم للخطيئة، عليهن ألاَّ يرضين رغباتهم بل أن يطعموهم من ذبائح الأصنام. هكذا تحت سطوة الشهوة يخضعوا لإرادة النساء ويتعرفوا على أسرار فغور[238] التي هي أصنام (فجور[239])".
هذه المشورة خرجت من بلعام لأجل إرضاء الملك لنوال الأجرة إذ يقول الكتاب عن هؤلاء النساء: "إن هؤلاء كن لبني إسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة للرب في أمر فغور فكان الوبأ في جماعة الرب" (عد 31: 16). وبأكثر وضوح جاء في سفر الرؤيا: "ولكن عندي عليك قليل أن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يُلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان ويزنوا" (رؤ 2: 14). وفي رسالة يهوذا: "انصَبُّوا إلى ضلالة بلعام لأجل الأجرة" (يه 11).
نعود إلى النص الوارد في سفر العدد أصحاح 25، إذ يقول: "وأقام إسرائيل في شطيم، وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب" [1]. تم هذا الشر في شطيم، وكما يقول العلامة أوريجينوس أن (شطيم) كما جاءت في القواميس العبريّة تعني (إجابة أو رد[240]). في الوقت الذي كان الله يصارع مع بلعام وبالاق لكي لا يلعن هذا الشب بكلمة، مرسلاً له ملاكه في الطريق ومعلنًا أسراره لساحر أجير من أجل محبته لشعبه، كان رد الفعل لدى الشعب أنه زنى مع بنات موآب وعبد آلهتهن! حقًا ما أقسى قلب الإنسان، إنه دائم الجحود لله الذي يرعاه ويهتم به.
يُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص على هذه المشورة الشريرة، قائلاً: [إذ فشل مخترع الشرّ في ذلك (في إثارة بلعام ليلعن شعب الله) لم يتوقف قط عن مواجهة من يقاومهم، فإنه يلجأ إلى حيلة تناسب طبيعته مستخدمًا الملذات لاجتذاب الطبيعة للشرّ. حقًا إن الملذات تشبه طعمًا شريرًا، تُلقى بخفة ليسحب النفوس الشرهة نحو طعم السمكة المهلك؛ فإنه بواسطة الشهوة الخليعة تنسحب الطبيعة التي بلا أساس نحو الشرّ. هذا بحق هو ما حدث في هذه المناسبة. فإن الذين غلبوا أسلحة العدو، وبرهنوا أن كل هجوم يوجه ضدهم بأسلحة حديديّة هو ضعيف أمام قوتهم. استطاعوا بقدرة أن يتحملوا في المعركة التي أثارها أعداؤهم، لكنهم هم أنفسهم جُرحوا بسهام الملذات النسائيّة. هؤلاء الذين كانوا أقوى من الرجال هزمتهم النساء. فما أن ظهرت النساء أمامهم مبرزين جمالهن عِوَض الأسلحة حتى نسوا قوتهم الرجوليّة وتبدَّدت عزيمتهم أمام اللذة[241]].
مرة أخرى يقول القدِّيس إغريغوريوس: [يبدو لي أن التاريخ يقدم لنا هنا نصيحة نافعة للبشر. إنه يعلمنا إنه من بين الآلام العظيمة التي تحارب فكر الإنسان ليس شيء أقوى من مرض الملذات.هؤلاء الذين هم إسرائيليّون، الذين كانوا بكل وضوح أقوى من فرسان مصر وقد غلبوا عماليق وصاروا مرعبين للأمم الأخرى. وانتصروا على فرق المديانيّين، هؤلاء صاروا عبيدًا لهذا المرض في اللحظات التي رأوا فيها النساء الغريبات. كما سبق فقلت أن اللذة هي عدونا الذي يصعب محاربته والتغلب عليه].
بالغلبة التي صارت للذة التي ظهرت على الذين لم تغلبهم الأسلحة، أقامت نصبًا تذكاريًا عن العار الذي لحق بهم، يعلن عن خزيهم أمام جمهور الإهانة. لقد أظهرت اللذة أنها حوَّلت البشر إلى حيوانات مفترسة... تجتذبهم إلى الدعارة فينسون طبيعتهم الإنسانيّة. إنهم لا يخفون تهورهم بل يزينون أنفسهم بعار الشهوة، ويجمِّلون أنفسهم بوحمة الخزي، إذ يتمرغون كالخنزير في حمأة الدنس علانية ليراهم كل أحد.
إذن ماذا نتعلم من هذا الأمر؟ الآن إذ نعرف قوة الشرّ العظيمة التي لمرض الملذات فلنوجه حياتنا بعيدة عنها قدر ما نستطيع حتى لا يجد له المرض فتحة فينا يدخل خلالها إلينا، كالنار التي بمجاورتها يحدث لهيب شرير. لقد علَّمنا سليمان ذلك عندما قال بحكمة أنه يلزم على الإنسان ألاَّ يسير على جمر ملتهب حافي القدمين، ولا يخفي نارًا في حضنه. هكذا في مقدورنا أن نبقى غير متأثرين بالألم مادمنا نبتعد عما يلهبه. إن اقتربنا إليه لنقف على النار الملتهبة، تلتهب نار الشهوة في صدورنا وتحرق أقدامنا وصدورنا معًا.
لكي نُحفظ من شرّ كهذا قطع الرب في الإنجيل أصل الشر ذاته، أقصد الرغبة التي تثير النظر، إذ يعلمنا أن الإنسان الذي يرحب بالألم خلال نظراته يفتح الباب للمرض الذي يضره. لأن الآلام الشريرة كالوباء إذ يملك على موضع لا يتوقف حتى يسبب موتًا[242]!".
نعود إلى الشعب الساقط في الزنا مع بنات موآب، إذ يقول الكتاب "فَدَعَوْن الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن" [2]. بالزنا الجسدي انجرفوا إلى آلهتهن والملذات الجسديّة فامتلأت بطونهم من الذبائح الوثنيّة وسجدوا للآلهة الغريبة، أي انحرفوا إلى الزنا الروحي في أبشع صوره وهو (العبادة الوثنيّة). يقول العلامة أوريجينوس: [لم يكتفوا بالأكل وإنما سجدوا أيضًا. انظر كيف تقدموا في الشرّ، إذ ترك خدام الرب أنفسهم أولاً للشهوة ثم الشراهة وأخيرًا للكفر. الكفر هو أجرة البغاء، فقد قرأنا في مناسبة أخرى النصوص الخاصة لسليمان. فإن كل حكيم- مهما يكن- إذ يعطي أحضانه لكثير من النساء يزيغ قلبه عن الله، إذ يقول الناموس: "لا يكثر له النساء لئلا يزيغ قلبه" (تث 17: 17). مع أنه كان حكيمًا جدًا ونال استحقاقات عظيمة أمام الله لكنه زاغ لأنه ترك نفسه لكثير من النساء. ما نسميه بعدد كبير من النساء أظن أن العدد الضخم من البدع والفلسفات المختلفة التي تدرس في كثير من الأمم. أراد أن يتعرَّف عليها ويتعمقها كعالم وحكيم، فلم يستطع أن يحفظ نفسه في الناموس الإلهي. الفلسفة الموآبيّة أغرت سليمان وأقنعته أن يذبح لآلهتهم. وكذلك فلسفة بني عمون وهكذا فلسفات الأمم التي قيل أنه أخذ منها نساءً، فكرم الأصنام بتشييد المعابد وتقديم الضحايا. إنه عمل إلهي عظيم أن نألف مع النساء كثير من المعتقدات دون أن ننحرف عن أصل الحق، فنقول بأمانة: "هن ستون ملكة، وثمانون سرية، وعذارى بلا عدد" "واحدة هي حمامتي كاملتي، الوحيدة لأمها هي عقيلة والدتها هي[243]" (نش 6: 8-9).
كأن العلامة أوريجينوس وهو يفضل ألاَّ يرتبط الإنسان بفلسفات كثيرة لئلا تسحبه إليها عن كلمة الله، يعود فيسمح باستخدام الفلسفات، لكن بحذر- وبقوة إلهيّة- فتكون في نظره كالسراري والعذارى الكثيرات، لكن تبقى كلمة الله كعروس وحيدة للنفس لا ينافسها أحد[244]!
نعود إلى الشعب القديم الذي أغوته بنات موآب، إذ يقول "وتعلق الشعب ببنات فغور". لقد وجدوا لذة في هذه الشهوات فتعلقوا ببعل فغور أي "سيد الفجور"، أو "سيد القبائح"، يتعلقون بالنجاسات لأجل ذاتها، ويصيرون عبيدًا لها وهي سادتهم. يقول العلامة أوريجينوس: [لنتعلم أن الزنا يحاربنا، فإننا مُعرَّضون لسهام النجاسة، لكنها لا تقدر أن تصيبنا إن كانت لا تنقصنا الأسلحة التي يدعونا الرسول أن نتسلح بها "ممنطقين أحقاءنا بالحق ولابسين درع البرّ، وحاذين أرجلنا باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع السهام الملتهبة نارًا" (أف 6: 14-17). هذه هي الأسلحة التي تحمينا في هذه الحرب. إن أهملناها نترك جانبنا لضربات الشيطان فيسبينا كل صنوف الشياطين سبيًا (أف 2: 8)، ويحلّ غضب الرب علينا، ونعاقب في هذا العالم كما في الدهر الآتي[245]].
كما يقول: [يليق بنا أن نعرف أن كل إنسان يرتكب أي عمل فاجر، ويسقط في أي شكل من أشكال القبائح، يحسب مشتركًا في الاعتقاد ببعل فغور، شيطان المديانيات[246]].
[لا تقترب من أبواب منازل الشرّ، إن شعرت بأن روحًا شريرًا يحدثك في قلبك، ويريد أن يقودك إلى عمل الخطيّة، افهم جيدًا بأنه يريدك أن تتعلق بعبادة الشيطان. إنه يريد أن يقودك لتقبل أسرار الشيطان، أسرار البغى[247]].
يكمل الكتاب: "فحمي غضب الرب على إسرائيل. فقال الرب لموسى: خذ جميع رؤس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل" [3-4].
أخطأ الشعب لكن الرب يأمر بقتل جميع رؤساء الشعب وتعليقهم أمام الشمس لكي يرتد حمو غضب الرب عنهم. فإن الرؤساء هم الملتزمون عن خطايا الشعب، إذ أهملوا في تعليمهم وتحذيرهم، أما قتلهم وتعليقهم مقابل الشمس فإشارة إلى الدينونة الرهيبة في يوم الرب العظيم التي تتم في حضرة "شمس البرّ".
2. غيرة فينحاس الكاهن:
إذ رأى فينحاس الكاهن أن إسرائيليًا قدَّم مديانيّة إلى إخوته أمام عيني موسى وأعين كل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع، أخذ رمحًا بيده ودخل وراء الرجل إلى القبة وطعنه هو والمديانيّة فامتنع الوبأ عن الشعب بعد أن مات أربعة وعشرون ألفًا. كلَّم الرب موسى قائلاً: "فينحاس بن ألِعازار بن هرون الكاهن قد ردّ سخطي عن بني إسرائيل بكونه غار غيرتي في وسطهم حتى لم أفنِ بني إسرائيل بغيرتي، لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقي ميثاق السلام، فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي.." [11-13].
لقد سحبت هذه القصة قلوب الآباء، إذ رأوا فيها صورة حيّة للغيرة المقدسة على مقدسات الله، وكشفت عن بشاعة خطيّة الزنا في عيني الله، ورمزًا للعمل الإلهي في حياة الإنسان داخل مياه المعموديّة المقدسة.
فمن جهة الغيرة يقول العلامة أوريجينوس أن اليهود كانوا يعتقدون بأن فينحاس هو بعينه إيليا، وأن الله قد أطال عمره جدًا بسبب غيرته على بيت الله[248]. وإن كنا لا نقدر أن نقبل هذا الرأي لكنه يعكس مشاعر الكنيسة اليهوديّة نحو ذاك الذي غار غيرة الرب ضد من ينجس مقدَّسات الرب بشهواته الجسديّة النجسة. وقد مدح القدِّيس أغسطينوس فينحاس قائلاً: [لو أنه صنع هذا عن كراهية من جهتهما وليس عن حب خلال غيرته على بيت الله التي ألهبته لما حسب ذلك له برًا[249]]. ويقول القدِّيس إغريغوريوس النزينزي: [دُعي فينحاس بالغيور إذ جرى وراء المديانيّة والرجل الذي ارتكب معها الزنا، ونزع العار بني إسرائيل]. كما يُعلِّق العلامة أوريجينوس على تصرف فينحاس الغيور بقوله: [يا من فُديت بالمسيح الذي رفع السيف المادي عن الأيدي مقدمًا سيف الروح لها، خذ هذا السيف حتى إذا ما رأيت فكرة إسرائيليّة قد تدنست بنساء زانيات من المديانيات، أي تختلط بأفكار شيطانيّة فلا تتردد بل اضرب في الحال، اقتل حالاً... انزع مصدر الخطيّة نفسه لكي لا تحبل قط، ولن تلد... فإن فعلت هذا تطفيء غضب الرب في الحال[250]]. هكذا يليق بنا أن نمتليء غيرة فنضرب الخطيّة التي تريد أن تتحد معنا في أفكارنا في أحشائها ولا تترك مجال فينا! وعلى العكس فإن مهادنة الخطيّة والحوار معها يشعل غضب الله علينا، ويجعلها تتحد بنا فتنجب ثمارًا يصعب علينا تجنبها!
أما عن بشاعة خطيّة الزنا فيقول القدِّيس إكليمندس الإسكنري: [على أي الأحوال في سفر العدد واضح أن الإنسان الذي صوَّب سهمه في الزاني حُسب مباركًا بالله[251]].
وُيحذِّرنا القدِّيس ﭽيروم منها هكذا: [انظر لئلا يصوِّب فينحاس سهمه ضدك وأنت ترتكب الزنا مع المرأة المديانيّة[252]].
أما ما تحمله هذه القصة من رمز لعمل الله في سرّ المعموديّة فيرى القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص أن فينحاس يمثل موت السيد المسيح الذي يضرب بسهمه فينا فيقتل إنساننا العتيق أي الخطيّة التي ملكت علينا لكي نصير هيكلاً مقدسًا للرب "الآن إن كنا نمتثل بموته تصير الخطيّة التي فينا بالتأكيد جثمانًا قد طعنها رمح المعموديّة كما طعنت غيرة فينحاس الزاني[253]].
إن كان فينحاس قتل الرجل مع المديانيّة، إنما بهذا يشير إلى تمتع النفس والجسد معًا بالموت عن الإنسان العتيق، فقد تحدَّثنا أثناء تفسيرنا لسفر الخروج أن الرجل يشير إلى النفس والمرأة للجسد[254]. وكأن النفس وقد زنت روحيًا بخضوعها لشهوات الجسد عِوَض أن ترتفع معه في دائرة الروح القدس، لهذا أطلق فينحاس الحقيقي- السيد المسيح- رئيس الكهنة الأعظم صليبه كسهم يقتل أعمال الإنسان القديم ويخلق فينا بروحه القدوس الإنسان الجديد، فنعيش مقدَّسين نفسًا وجسدًا.
3. الأمر بقتل الأشرار:
إن كان فينحاس الكاهن قد غار غيرة الرب فقتل زمري الذي ربما يعني "من يشبه بقر الوحش" وهو رئيس في سبط شِمْعون كما قتل كزبّى التي تعني "كاذبة" وهي ابنة صور رئيس قبائل مديان، إنما يشير إلى إبادة الخطيّة، فالرجل كان شهوانيًا يتصرف كمن يشبه بقر الوحش بغير تفكير ولا تعقل والمرأة كاذبة ومخادعة... وهذه هي سمات الزنا: الطيش والتهور مع الكذب والخداع.
لقد أمر الرب ضرب مديان كلها بسبب الشر الذي وضعوه كفخ لهلاك الشعب.
الباب الرابع
الاستعداد لدخول كنعان
(ص 26- ص 36)
الأصحاح السادس والعشرونالتعداد الثاني
الأصحاحات الأحد عشر الأخيرة (26-36) لا تعرض أحداثًا مثيرة كما في الأصحاحات السابقة التي سجَّلت لمحات هامة من معاملات الله مع الإنسان في رحلته داخل البريّة، إنما قدَّمت لنا الاستعدادات الطويلة لتهيئة الشعب لأهم حدث تم في العهد القديم وهو دخول أرض الموعد وتقسيم الأرض على يدي موسى كرمز لدخولنا الميراث الأبدي على يدي ربنا يسوع. بدأت الاستعدادات بصدور أمر إلهي بإقامة تعداد جديد.
1. الأمر الإلهي بعمل التعداد 1-4.
2. تسجيل التعداد 5-51.
3. تعليمات خاصة بالتقسيم 52-56.
4. تعداد اللاويّين 57-62.
5. ملاحظة على التعداد 63-65.
1. الأمر الإلهي بالتعداد:
للمرة الثانية يصدر الأمر الإلهي بالتعداد، المرة الأولى بعد الخروج بسنة وشهر للاستعداد للجهاد في البريّة، أما الآن فاللاستعداد لدخول أرض الموعد وتقسيم.. لهذا لم يصدر الأمر إلاَّ بعد توقف الوبأ (ع 1) وانتهت مرحلة التأديب وصار الشعب مهيأ للتمتع بأرض الموعد. وقد جاء التعداد يحمل ذات شروط التعداد الأول (أصحاح 1) مع اختلافات بسيطة ظهرت في تسجيل وقائعه ونتائجه.
2. تسجيل التعداد:
قدَّم لنا السفر تسجيلاً لوقائع الإحصاء ونتائجه، خلاله يلاحظ في هذا الإحصاء الآتي:
أولاً: في التقسيم الأول لم يذكر اسماء العشائر مكتفيًا بأسماء الأسباط، أما هنا فقسم كل سبط إلى عشائره موضحًا أسماء العشائر. ويلاحظ أن سبط دان له عشيرة واحدة ومع ذلك فتعداده يأتي وراء يهوذا مباشرة. زبولون له ثلاث عشائر، وأفرايم ويَسَّاكَر ونفتالي ورأوبين لكل منهم أربعة عشائر، ويهوذا وشِمْعون وأشير لكل منهم خمسة عشائر، ولكل من جاد وبنيامين سبعة، ومَنَسَّى ثمانية. ومع أن يوسف قد أنجب عشرة أولاد في مصر (تك 46: 21) لكن يبدو أن ثلاثة منهم لم ينجبوا أو أن عشائرهم قد انقرضت تمامًا.
إن أخذنا بمبدأ رمزيّة الأرقام نجد الآتي:
أ. رقم (1) يشير إلى اللاهوت الذي لا يستطيع أحد أن يتمتع بعمله فيه ما لم يجد له موقعًا في سبط دان، أي يدين نفسه. إذ يدخل الإنسان في عضوية هذا السبط ينعم لا بالتعرف على الله الواحد فحسب وإنما التمتع بسماته خلال الاتحاد معه.
ب. رقم (3) يشير إلى الأقانيم الإلهيّة التي ينعم بها أعضاء سبط زبولون، أي (المسكن)، بمعنى من ينعم بالاتحاد مع الله، أي الثبوت فيه والسكنى فيه إنما ينعم بعمل الثالوث القدوس في حياته، إذ يتحد مع الآب في ابنه بالروح القدس.
ج. رقم (4) وهو يشير إلى الأناجيل الأربعة أو عمل الخلاص (تجسد، صلب، قيامة، صعود) إنما يتمتع بها رجال أسباط أفرايم (ثمار كثيرة) ويَسَّاكَر (جزاء) ونفتالي (متسع) ورأوبين (ابن الرؤيا). ينعم بها من له من ثمر التوبة المتزايد، متقبلاً مكافأته أو جزائه من الله، حاملاً قلبًا متسعًا لله وأخيه وله بصيرة روحيّة (ابن الرؤيا).
د. رقم (5) يشير إلى ذبائح العهد القديم رمز ذبيحة الصليب من جوانبها المتعددة، يقبلها الله عن أسباط يهوذا (اعتراف أو إيمان) وشِمْعون (مستمعون) وأشير (سعيد). وكانت هذه الأمور الثلاثة إذ تلتحم معًا: الإيمان والطاعة مع الفرح الروحي يدخل بنا إلى أسرار الذبيحة المقدسة.
هـ. رقم (7) يشير إلى الكمال الذي ينسب لسبطي جاد وبنيامين، أي الرجال المجاهدين المملوئين جدية (جاد) والذين يقفون عن يمين الله (بنيامين)، فإذ تلتحم جدية الجهاد القانوني مع الثبوت عن يمين الله يبلغ الإنسان كمال غايته.
ز. أخيرًا رقم (8) وهو يشير إلى الحياة المقبلة، أي ما بعد أيام الأسبوع السبعة إنما يتمتع بها أبناء مَنَسَّى، الذين ينسون العالم من أجل الأبديّة، وينسون كل اضطراب وَهَمّ من أجل الفرح السماوي.
ثانيًا: يلاحظ أن جميع الأسباط التي كانت تحت لواء مَحَلَّة يهوذا الذي منه يخرج السيد المسيح حسب الجسد قد تزايد تعدادهم، وهم يهوذا ويَسَّاكَر وزبولون. وكأن من يحتمي في ظل السيد المسيح ينمو ويتزايد ولا يهلك!
ثالثًا: لم يتزايد سبط قط مثل مَنَسَّى الذي كان قبلاً أصغر الأسباط، عدده (32.200) فصار (64.400) أي تضاعف، فإن من تدرب أن ينسى أمور هذا الزمان فيحسب هنا كأقل لكنه يحمل بركة مضاعفة في التعداد الأخير.
رابعًا: لم ينقص سبط مثل شِمْعون فقد كان تعداده (59.300) وصار (22.000)، أي فقد حوالي الثلاثين من تعداده. ويعلِّل البعض سرّ ذلك أن الوبأ الأخير حلّ غالبيته على هذا السبط، فإن زمري الذي قتله فينحاس الكاهن كان رئيس بيت أب من هذا السبط (25-14). فإن كان زمري يعني (من يشبه بقر الوحش) فإنه عِوَض أن يلتزم بسمة السبط (شِمْعون يعني مستمعون) انجذب وراء شهوات الجسد وملذاته كبقر الوحش ففقد الكثير. صار هذا السبط يمثل الإنسان الذي بدأ بالروح في طاعة مستمعًا لصوت الله وللأسف انتهى بالجسد يسلك وراء اللذة الجسديّة!
خامسًا: أثناء التعداد ذُكرت أسماء لها علاقة بأسماء رؤساء الأسباط ماتوا تحت ظروف معينة تأكيدًا لحرمان الأشرار من التمتع بنصيب في أرض الموعد. فقد ذُكرت الأسماء التالية:
داثان وأبيرام اللذا ابتلعتهما الأرض مع قورح (ع 9-10) وقد اغتصبوا الكهنوت وتذمروا على موسى وهرون (أصحاح 16).
عير وأونان ابنا يهوذا (ع 19) كان الأول شريرًا في عيني الرب فأماته بلا نسل (تك 38: 7) وأما أخوه أونان فقد أفسد على الأرض لكي لا يعطي نسلاً لأخيه فحمل ذات الجزاء (تك 38: 9).
ناداب وأبيهو ابنا هرون رئيس الكهنة الذان قربا نارًا غريبة أمام الرب (ع 61) فقتلهما (لا 10: 1-7، عد 26: 61).
3. تعليمات خاصة بالتقسيم:
"كلَّم الرب موسى قائلاً: لهؤلاء تقسم الأرض، نصيبًا على عدد الأسماء. الكثير تكثر له نصيبه، والقليل تقلل له نصيبه" [52-53]. مع أن يشوع بن نون هو الذي يقسم الأرض لكن الله أصدر التعليمات الخاصة بالتقسيم لموسى قبل نياحته. إن دخول الموعد لن يتم إلاَّ بيشوع رمز "يسوع" المسيح ربنا، لكن موسى ممثل الناموس تقبل التعليمات حيث لا فصل بين الناموس والإنجيل.
يرى العلامة أوريجينوس أن هذا الأمر الإلهي أنه كلما كثر العدد تأخذ العشيرة مساحة أكبر إشارة إلى الذين يريدون يعيشون هنا في ترف، أما العشائر الأقل عددًا فتنال مساحة أصغر إشارة إلى الداخلين من الباب الضيق والطريق الكرب (لو 13: 23). إنهم يرثون القليل على الأرض لينعموا بالكثير في السماء. لهذا فإن اللاويّين لم يرثوا شيئًا قط على الأرض ليكون الرب وحده نصيبهم. وقد قدَّم فلك نوح مثلاً، فإن القسم الأسفل هو القسم المتسع جدًا احتلته الحيوانات أما العلوي وهو أقل الأقسام مساحة فاحتله نوح وعائلته حيث يكونون مع الرب في الأعالي. هكذا كلما ارتفع الإنسان المؤمن نحو السمويات تنازل عن الأرضيات ليكون الرب وحده نصيبه.
يقول العلامة أوريجينوس: [بما أن تقسيم الأرض وهذا الأرض هو رمز أرضي وظل الخيرات العتيدة (عب 10: 1)، ويقدم نموذجًا للميراث السماوي الذي يشتهيه المؤمنون والقدِّيسون، فإنني أبحث في هذا الميراث الذي نشتهيه هل نطلب الأكثر عددًا أم الأقل عددًا؟ إنني أجد أن الآخرين أكثر سعادة من الأولين. فإنه "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه" (مت 7: 13-14). لكن الذين يدخلون من الباب الضيق والطريق الكرب المؤدي إلى الحياة فقليلون. في موضع آخر قيل: "أقليل هم الذين يخلصون؟" (لو 13: 23). وأيضًا "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12) وليس محبة قليلين. وفي بناء فلك نوح الذي أُعطيت مقاييسه من السماء هكذا يصنعه ثلاثمائة ذراع يكون طوله، وخمسين عرضه، وثلاثين ارتفاعه. لكنه كلما ارتفع البناء ضاق ونقص عدد الأذرع... السبب في هذا أن الأجزاء السفليّة التي تشمل مساحات واسعة وفسيحة يدخل فيها الحيوانات والقطعان، الجزء الأكثر ارتفاعًا تدخله الطيور، أما القمة فضيقة وصغيرة السعة فهي مكان الإنسان الناطق[255]].
أما التقسيم فيتم بالقرعة (ع 57): يلاحظ عند التقسيم أن كالب بن يفنة أخذ حبرون كامتياز له دون القرعة (يش 14: 6-15) لأنه مع يشوع شدَّد قلب الشعب منذ خمسة وأربعين عامًا قبل التقسيم، كذلك بعد المعركة كان المحاربون الممتازون يأخذون نصيبهم في الغنائم بدون قرعة كمكافأة لهم أم الآخرون فيأخذون بالقرعة. يقول العلامة أوريجينوس: [يبدو لي أن سيدي يسوع المسيح سيفعل هكذا، فإن البعض الذين يعرف أنهم قد تألموا أكثر من الآخرين ويعلم أعمالهم العظيمة وفضائلهم السامية يهديهم شرفًا وأمجادًا استثنائية عظيمة، إن استطعت القول أنها تشبه أمجاده. أما يبدو لك أنه يهب تلاميذه الحواريّين بعض تطويباته بقوله: "أيها الآب أريد أن هؤلاء يكونون معي حيث أكون أنا" (يو 17: 24)، "تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (مت 19: 28)، "ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك" (يو 17: 21). هذه جميعها لا تُعطى بالقرعة لكنها تُمنح كامتياز مختار من الذي وحده فاحص القلوب وعارف ضمائر الناس. أما نحن فإن كنا لسنا ضمن المختارين الاستثنائيّين الذين هم فوق القرعة، فلتكن لنا كرامة التمتع بنصيب مع قرعة القدِّيسين[256]].
4. تعداد اللاويّين:
إن كان اللاويّون لا يدخلون في التعداد العام لأنهم لا يرثون معهم في الأرض بل يكون الرب نفسه نصيبهم وهم أنفسهم نصيبه. لكنه أمر بتعدادهم على انفراد علامة رعايته بهم.
إن كان لكالب بن يفنة امتيازًا خاصًا به بسبب موقفه المملوء إيمانًا وشجاعة ورجاءً في مواعيد الرب، أما اللاويّون الذين كرَّسوا حياتهم لخدمة الرب والسهر في الحراسة فامتيازهم هو عدم تمتعهم بميراث زمني ليكون الرب نفسه نصيبهم وميراثهم كما رأينا في دراستنا للأصحاح الثامن عشر.
يقول العلامة أوريجينوس: [في الوقت الذي عمل فيه اقتراع وجد أناس لهم موضع خاص لا يخضعون للاقتراع. إنهم كل اللاويّين، بمعنى أن الذين يبقون في خدمة الرب ويسهرون الليل في الحراسة لا يكون نصيبهم على الأرض بل الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم. إنهم يمثلون الذين لم يفشلوا لسبب عوائق الطبيعة الجسديّة أن يجتازوا مجد كل الأمور المنظورة ويضعوا في الرب كل حياتهم مع تداريبها، فلا يطلبون شيئًا جسديًا، أي شيئًا غريبًا عن العقل. هؤلاء يطلبون الحكمة ومعرفة أسرار الله، "وحيث يكون كنزهم هناك يكون قلبهم أيضًا" (مت 6: 21). إذ ليس لهم ميراث على الأرض بل يرتفعون إلى فوق حيث السماء. هناك يكونون مع الرب إلى الأبد في كلمته وحكمته وذات معرفته، يشبعون بحلاوته، ويكون هو غذاءهم ومأواهم وغناهم ومملكتهم. هذا هو مصيرهم وهذه هي الممتلكات التي يعرفونها أن الله هو ميراثهم الوحيد[257]].
5. ملاحظة على التعداد:
ختم التعداد بهذه الملاحظة: "وفي هؤلاء لم يكن إنسان من الذين عدهم موسى وهرون الكاهن حين عدّا بني إسرائيل في بريّة سيناء. لأن الرب قال لهم إنهم يموتون في البريّة فلم يبقَ منهم إنسان إلاَّ كالب بن يفنة ويشوع بن نون" [64-65]. بهذا يؤكد أنه لا مكان للشرّ في الميراث الأبدي!
الأصحاح السابع والعشرونقانون الميراث وإقامة يشوع
يحوي هذا الأصحاح أمرين جاءا في خاتمة حياة العظيم في الأنبياء موسى، هما قصة بنات صلفحاد وتعيين يشوع قائدًا للشعب:
1. بنات صلفحاد 1-5.
2. قانون الميراث 6-11.
3. إقامة يشوع قائدًا 12-23.
1. بنات صلفحاد:
أثناء التعداد السابق ظهرت قضية واحدة وفريدة وهي أن بني جلعاد صاروا عشائر يضمون ذكورًا دخلوا في الإحصاء ما عدا صلفحاد، إذ قيل "وأما صلفحاد بن حافر فلم يكن له بنون بل بنات، وأسماء بنات صلفحاد مَحَلَّة ونوعة وحجلة وملكة وترصة" (عد 26: 33)، بهذا لم يدخل صلفحاد في التعداد. لكن بناته الخمسة كن شجاعات مملوءات إيمانًا ورجاءً في نوال نصيب مع بقية الشعب، فوقفن أمام موسى وألِعازار الكاهن وأمام الرؤساء ولكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع يعرضن قضيتهن بقوة حجة، قائلات: "أبونا مات في البريّة ولم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح بل بخطيته مات، ولم يكن له بنون، لماذا يُحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له ابن؟ أعطنا ملكًا بين إخوة أبينا" [3-4] لقد تحدثن بشجاعة لكن في وقار وباتضاع، واعترفن أن أباهن مات بخطيته كما مات كل الجيل السابق بخطيته لكنه ليس من مغتصبي الكهنوت كقورح وجماعته، فلماذا يُحذف اسمه من بين وارثي الأرض الجديدة؟
إنها كلمات إيمانيّة وتمسك بوعود الله يفتح السماء للاستجابة، فألزم الله الجماعة كلها بقانون للميراث فيه يرث الابن أباه، فإن لم يكن للمتوفي ابنًا فابنته، وإن لم يكن له ابنة فإخوته، أو أعمامه، أو أقرب من له في عشيرته.
هذه القصة الفريدة التي سجلها الوحي الإلهي تحمل أيضًا مفهومًا رمزيًا سجله لنا العلامة أوريجينوس، فيرى أن "صلفحاد" يعني "ظلّ في فمه"، أو ظلّ فيه حماية من الخوف. إنه يمثل الإنسان الذي ينطق نعمة الناموس كظلّ للحق دون أن يتعرَّف عليه في أعماقه كحياة، الإنسان الحرفي الذي لا ينجب أولادًا. "هذا الرجل الذي لا يدرك أي معنى روحي أو أي فكر عميق، ليس له إلاَّ ظل الشريعة في فمه، فلا يقدر أن ينجب أفكارًا حيّة وروحيّة، لكنه ينجب أفعالاً وأعمالاً (بنات) هذه التي تخدم عامة الشعب[258]". إنه لا يحمل أفكارًا لأن الأولاد الذكور يشيرون إلى الفكر أو العقل، إنما أعمالاً لأن البنات يُشِرن إلى الجسد والعمل.
يمكننا أيضًا أن نرى فيها صورة رمزيّة حيّة لحياة المؤمن، فإن كان "صلفحاد" يعني "ظلّ في فم" أو "ظلّ في خوف" فهو يشير إلى الجسد بكونه كالظلّ يظهر في العالم ليختفي، إذ يموت الجسد مع السيد المسيح كما مات صلفحاد فإنه يحمل بنات مباركات هن الحواس الخمسة التي تتقدس خلال التمتع بالموت مع المسيح. هؤلاء البنات يعترفن أن أباهن قد مات في السيد المسيح ولم يهلك مع قورح وجماعته. مثل هذه الحواس المقدسة والمصلوبة مع السيد المسيح تنتصب مراحم الله وحكمه المملوء حبًا وترفقًا لينعم الجسد مع النفس بالميراث الأبدي ولا يحذف اسمه من بين عشيرة السمائيّين!
2. قانون الميراث:
بسبب قضية بنات صلفحاد جاء قانون الميراث يعلن الورثة الشرعيّين كما قلنا الابن، فالبنت، فالإخوة، فالأعمام أو أقرب من في العشيرة. ويرى العلامة أوريجينوس في هذا القانون ظلاً للخيرات السماويّة، إذ يرى هؤلاء الورثة الخمسة على الأرض فيرمزون للورثة في السماء. ففي الدرجة الأولى درجة الأبناء هؤلاء الذين لهم معرفة روحيّة، أما الدرجة الثانية "الابنة" فتشير لأصحاب العمل الممتاز، لأننا كما سبق فكرَّرنا أن الذكر يشير إلى الفكر أو العقل أو المعرفة، أما الأنثى فتشير إلى الجسد أو العمل والخدمة. الأولون يمثلون أصحاب التأمل والآخرون يمثلون المجاهدين في الخدمة والعمل. الدرجة الثالثة، أي درجة الإخوة، فيمثلون الذين يجاهدون متمثلين بالآخرين كإخوة لهم. الدرجة الرابعة أي العم ففي رأيه يمثل جماعة البسطاء الذين يمارسون العادات الطيبة دون عمق فكري. وأخيرًا درجة أي قريب تشير إلى الورثة الذين يضمهم الرب لأجل أي عمل يصنعونه في بساطة، إذ يشتاق الرب إلى خلاص الكل.
3. إقامة يشوع قائدًا:
شخصيّة موسى النبي تزداد بهاءًا ومجدًا مع كل يوم يعيشه في الخدمة حتى اللحظات الأخيرة التي فيها أسلم روحه في يدي الله. بين أيدينا دعوة من الله موجهة لهذا النبي العظيم ليصعد على جبال عباريم يلقي نظرة على أرض الموعد من بعيد ويُضَم إلى آبائه... وهنا تلألأت نفس هذا الجبار بتصرفه الحكيم المملوء روحانيّة والبعيد كل البعد عن روح الأنانية أو العجرفة...
كانت كلمات الرب لموسى: "اصعد إلى جبل عباريم، وانظر الأرض التي أعطيت بني إسرائيل، ومتى نظرتها تُضَم إلى قومك أنت أيضًا كما ضُم هرون أخوك" [12].
كانت دعوته أن يصعد إلى جبل عباريم، كما سبق فصعد هرون أخوه إلى جبل هور وهناك تنيَّح بسلام وفرح بعد أن خلع ثياب الكهنوت ليرتديها ابنه ألِعازار (أصحاح 21)، هكذا يرتفع موسى النبي على جبل عباريم أي جبل العبور وهناك يرى مواعيد الله تتحقق فيرقد بسلام وفرح. وكما قلنا عن هرون أنه لم ينزل إلى الهاوية كقورح وجماعته بل صعد إلى جبل هور، هكذا صعد أيضًا موسى. فالموت بالنسبة له ارتفاع صعود وليس نزول وخسارة!
وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل: [انظر أولاً كيف أن الرجل الكامل والسيد لا يموت في وادي أو في سهل لا على تل بل على الجبل، أي على مكان مرتفع يصعب الوصول إليه. لأن نهاية حياته كانت لها المرتفعات كمسوح. هذا وهناك ينظر بعينيه أرض الموعد، يتمعن في كل شيء من مكان مرتفع بعيد. حقًا ينبغي للرجل الذي يريد أن يبلغ منتهى الكمال ألاَّ يظل جاهلاً (الأرض) بل يتعرف على كل الأشياء، يراها ويسمعها. عندما يدخل إلى عالم الروح ونقاوة الفكر يعود إلى الأمور التي تعرف عليها وهي في شكلها المادي أثناء وجوده في الجسد فيستمع إلى دروس الحكمة ويمكث في مدرستها ويدرك أسبابها ودواعيها بسرعة. أي منفعة أخرى له مثل أن يرى قبل رحيله من هذا العالم الأراضي والأماكن التي ليس له أن يتغلب على صعابها (إذ هو يستريح من التعب) دون أن يحصل على مزاياها (لأنه يتركها[259])!]. حقًا ما قد جاهد من أجله عشرات السنوات لينعم به هو وشعبه الآن يراه من بعيد لتستريح نفسه فيه!
إنه يرى أرض الموعد من بعيد ويُضَم إلى قومه كهرون، فهو لا يراها لتبكيته وإنما لتفرح نفسه في داخله من أجل دخول شعبه إليها لهذا يُضَم إلى قومه أي إلى صفوف آباء هذه الجماعة، فيستريح مع الآباء دون أن ينفصل عن الجماعة.
لقد ذكَّر الرب موسى بحرمانه هو وأخيه من دخول الأرض بسبب ما حدث عند ماء مريبة (أصحاح 20) لا لتبكيته وإنما ليزداد موسى تزكية أمام الله، فإنه لا يشفع عن نفسه ولا عن أخيه في هذا الأمر بل يهتم بالجماعة فيصرخ من أجل اختيار القائد المناسب الذي يراه "إله أرواح جميع البشر" مناسبًا! ياله من حب عجيب حينما ينسى القائد الروحي- حتى النسمات الأخيرة- كل ما يخصه شخصيًا لأجل بناء الجماعة وسلامها ونموها!
ولعل الله سمح بتأكيد ضعف موسى حتى اللحظات الأخيرة ليعلن عجز الناموس عن التقديس، إذ يقول الرسول "قد ملك الموت من آدم إلى موسى" (رو 5: 14)، "دخلت الخطيّة إلى العالم، وبالخطيّة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12)... صارت الحاجة إلى آخر غير موسى قادر لا أن يرى الأرض من بعيد بل يدخل بشعبه إليها. لقد أعلن الناموس عن السمويات لكن من بعيد خلال الظلّ أما يشوع الحقيقي، فقد أجلسنا في السمويات.
اهتم موسى بالصلاة طالبًا من الله أن يختار بنفسه الرجل الذي يقود الجماعة... لم يفكر في ابنيه ولا في أقربائه ليحلّ أحدهم مركزه لكنه اهتم أولاً وقبل كل شيء في الجماعة التي يحبها من كل قلبه. يقول العلامة أوريجينوس: [يجب على رؤساء الكنيسة بدلاً من أن يوصوا بأقربائهم حسب الدم والجسد... أن يتعلموا الرجوع إلى أحكام الله، وبدلاً من أن يختاروا حسب عواطفهم البشريّة أن يتركوا تعيين من يخلفهم لقرار الله. ألم يكن يستطيع موسى أن يختار رئيسًا للشعب بحكمة حقيقيّة وبقرار صالح وعادل، هذا الذي قال الله له "اجمع إليَّ سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب" (11: 16)، وقد اختارهم حسب روح الله الذي حلَّ عليهم فتنبأوا جميعًا؟ لكن موسى لم يفعل هذا ولا عيَّن أحدًا. إنه لم يجسر على فعل هذا، لماذا؟ حتى لا يترك للأجيال القادمة مثالاً فيه يعتمد الإنسان على رأيه. إنه يقول: "ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم ويدخلهم لكي لا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها" [17]. إن كان رجل عظيم كموسى لا يترك لحكمه الخاص في أمر تعيين رئيس على الشعب، وتنصيب خلف له، فمن الذي يجسر من وسط هذا الشعب... أو حتى بين صفوف الكهنة أن يعتبر نفسه قادرًا على إعطاء رأيه في هذا الأمر، اللهم إلاَّ في حالة إلهام يحصل عليها خلال الصلوات الكثيرة والتضرعات المقدمة لله[260]؟].
أجاب الله طلبته بتوصيته أن يضع يده على تلميذه يشوع بن نون. حقًا ما أعظم فرحة موسى بهذا الأمر الإلهي، فقد اختار الرب الرجل الذي كان الذراع الأيمن لموسى زمانًا طويلاً، هذا الذي كان لا يفارق الخيمة (خر 33: 11). يتشرب الروح الكنسيّة العميقة والداخليّة. الإنسان الذي دخل أرض الموعد وجاء يقدم لإخوته عربون الحياة الجديدة مع تأكيدات بدخول الأرض والتمتع بخيراتها... وإنني أترك الحديث عن هذا القائد الجديد عند تفسير يشوع إن سمح الرب وعشنا، مكتفيًا هنا بالكشف عن مراسيم إقامته رئيسًا للجماعة:
جاءت الوصيّة الإلهيّة لموسى: "ضع يدك عليه" [18]. وأوضح سفر التثنية فاعليّة هذا العمل: "ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يده" (تث 34: 19). لقد تسلم عمل امتلأ روح حكمة أو روح القيادة. لهذا ارتبط وضع الأيدي غالبًا بسيامة خدام الله.
في الكتاب المقدس استخدم "وضع الأيدي" في أمور كثيرة أهمها:
أ. استخدم "وضع الأيدي" لتسليم بركة إلهيّة، كما فعل أبونا يعقوب مع ابني يوسف، فوضع يمينه على الأصغر أفرايم الواقف على يساره، ووضع يساره على الأكبر مَنَسَّى الواقف على يمينه، وكأنه بسط يديه على شكل صليب لتحلّ بركة الرب عليهما... وحين بارك السيد المسيح الأطفال "وضع يديه عليهم" (مت 19: 13، 15). لهذا كان الأسقف يضع يديه على طالبي العماد أثناء الصلاة عليهم قبل العماد[261]، وخاصة أثناء الصلوات الخاصة بطرد الشيطان[262].
ب. كما يستخدم هذا الطقس لنقل بركة الرب، هكذا يستخدم كعلامة لإلقاء حمل خطايا الإنسان على آخر ليصير ذبيحة عنه (لا 1: 4؛ 3: 4، 24؛ 16: 21)، كرمز لما حدث مع السيد المسيح "وضع عليه إثم جميعنا" (إش 53: 6).
ج. في شفاء المرضى قيل "وضع يديه على مرضى فشفاهم" (مر 6: 5؛ 8: 23، لو 4: 4؛ 13: 13، مت 9: 18)، وقد استخدم الرسل أحيانًا نفس الطقس (أع 28: 8).
يقول القدِّيس كبريانوس[263] بأن خدام الكنيسة يمتثلون بالسيد المسيح الذي كان يضع يديه على المرضى فيشفيهم، هؤلاء الذين هم مرضى روحيًا الذين يأتون تائبين. ولا يزال هذا الطقس قائمًا حيث يضع الكاهن يده على الرأس حين يصلي "تحليلاً" لتائب.
د. يذكر القدِّيس إكليمندس الإسكندري وضع الأيدي على العريسين في الزواج لمباركتهما[264].
هـ. جاء في سفر الأعمال "وضع الأيدي" عند طلب حلول الروح القدس للمعمدين حديثًا... ولما وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم (أع 19: 6)، وبقيت الكنيسة الأولى تمارس هذا الطقس حتى استبدلته بمسحة الميرون، وإن كان للأساقفة حق العودة لهذا الطقس عند الضرورة كما في حالة عماد السيدات فيضع الأسقف يديه عليهن وينفخ في وجوههن نفخة الروح القدس.
ز. أخيرًا فإن "وضع الأيدي" ارتبط بالأكثر بالسيامات الكنسيّة، ففي سيامة الشمامسة قيل "الذين أقاموهم أمام الرسل فصلوا ووضعوا عليهم الأيدي" (أع 6: 6)، وحين أفرز برنابا وشاول للخدمة قيل "فصاموا حينئذٍ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي" (أع 13: 3). وعندما قدَّم الرسول بولس تعليمات عن السيامة، قال: "لا تضع يدًا على أحد بالعجلة ولا تشترك في خطايا الآخرين" (1 تي 5: 22)، كما قال: "أُذكِّرك أن تُضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ" (2 تي 1: 16). هكذا صار "وضع الأيدي" يحمل معنى "السيامة"، ولا زالت الكنيسة الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة تتطلع بهذا المنظار الإنجيلي، وفي كنيسة إنجلترا يعتبر "وضع الأيدي" هو الطقس الرئيسي في سيامة الأساقفة[265].
نعود إلى إقامة يشوع بن نون عِوَض موسى النبي لنسمع الصوت الإلهي: "وأوقفه قدام ألِعازار الكاهن وقدام كل الجماعة وأوصِهِ أمام أعينهم" [18]. رأينا في سيامة اللاويّين (أصحاح 8) الدور الإيجابي للكهنة والشعب في السيامة. فالشعب كما الكهنة لا يقفوا متفرجين بل يلتزمون بالمساهمة في هذا العمل والتعاون معهم.
يقول الرب: "أجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كل جماعة بني إسرائيل" [20]، فإن كان موسى يضع الأيدي، لكن الله الذي وهب موسى روحه ومهابته هو الذي يهب يشوع ذات العطايا.
إن كان يشوع يُقام رئيسًا يقود الشعب إلى أرض الموعد، لكن في تعاون مع رئيس الكهنة ألِعازار الذي يسأل له أمام الرب بقضاء الأوريم (ع 21). الأوريم والتُّمِيم ويعنيان "الأنوار والكمالات" غالبًا هما حجران كريمان في صورة رئيس الكهنة (خر 28: 30، لا 8: 8) يستخدمهما في معرفة إرادة الله. إنهما يشيران إلى عمل الروح القدس الذي يهب الإنسان استنارة (الأنوار) وكمالاً (الكمالات) فيسلك المؤمن طريق الرب بغير انحراف.
الأصحاح الثامن والعشرونأعياد وتقدمات دائمة
لا يقف الاستعداد لدخول أرض الموعد والاستقرار فيها بعد فترة التجول في البريّة على عمل الإحصاء لتقسيم الأرض، ووضع قوانين الميراث، وتعيين القائد الجديد الذي يدخل بهم أرض الموعد ويقسم الأرض، وإنما أراد الله قبل دخولهم مباشرة أن يوضح مفهوم الراحة التي يتمتعون بها في الأرض الجديدة، إنها ليست راحة كسل وتراخي، بل راحة فرح مستمر خلال ذبائح المصالحة والحب المقدمة يوميًا كل صباح ومساء، وأسبوعيًا، وشهريًا، وسنويًا. أراد أن تكون حياتهم أعياد بغير انقطاع علامة الفرح الدائم.
1. الذبائح اليوميّة 1-8.
2. الذبائح الأسبوعيّة 9-10.
3. الذبائح الشهريّة 11-15.
4. أعياد سنويّة: الفصح 16-25.
5. أعياد سنويّة: عيد الخمسين 26-31.
1. الذبائح اليوميّة:
أود أن أترك الحديث عن رمزيّة الذبائح- بتفاصيل طقوسها- للصليب لتفسيرنا لسفر اللاويّين إن سمح الرب وعشنا، حتى نتجنب التكرار والإطالة. هذا ويلاحظ أن الأصحاحين (28-29) وهما يتحدثان عن الذبائح والتقدمات المستمرة تحوي 71 عددًا، منها 13 عددًا يتحدث عن ذبيحة الخطيّة، والباقي حوالي 58 عددًا يتحدث عن رائحة سرور للرب. هذا يبرز لنا ما أراد الوحي التركيز عليه في نظرتنا إلى ذبيحة الصليب. فإن الصليب غايته غفران خطايانا: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3: 16)، فإن الجانب الآخر المكمل له وله دوره الهام في حياة الكنيسة وهو أن الصليب هو "رائحة سرور الآب"، يشتم الله فيه رائحة رضا نحونا في المسيح يسوع. هذا للأسف ما يتجاهله الكثيرون في تعلقهم بالصليب. إن كان الصليب قد غفر خطايانا، ولكن ما هو مكمل- بل إن صح التعبير ما هو أهم- أنه قد نقلنا من حالة العداوة إلى حالة فرح الآب بنا وسروره ورضاه عنا خلال ابنه. لهذا صار الصليب وليمة فرح وسرور، بل محفل مقدس فيه يضمنا الآب إلى حضنه لنجد فيه موضعًا أبديًا! هذا ما نلمسه في هذين الأصحاحين.
بدأ الرب حديثه هكذا: "أوصِ بني إسرائيل وقل لهم: قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقربوه في وقته" [2]. قدم لهم هذه الوصيّة لأن غالبية الداخلين أرض الموعد لم يسمعوا الشرائع التي قد قدمت للشعب في بدء رحلتهم، إذ مات الجيل القديم وجاء جيل جديد، لهذا أكد على تقديم القرابين والذبائح في وقته. أما تأكيده "في وقته" فكان ضروريًا لأنهم داخلين في حروب مع شعوب هذه الأمم فلا يظنوا أن هذه الحروب تعفيهم من التقدمات، وإنما بالحري تجعلهم في حاجة إلى تقديمات لأنها رائحة سرور الرب، بدونها لا يتمتعون بالغلبة والنصرة.
إنها قرابينه وطعامه ووقائده ورائحة سروره، هذه كلها تعبيرات تكشف عن شوق الله إلى الإنسان، وسروره به خلال ابنه الحبيب الذبيح. هذا من جانب، ومن جانب آخر ما يقدمه الإنسان إنما ليس من عندياته بل من عطايا الله له. إنها قربان الرب ووقائده. وقد جاءت الترجمة السبعينيّة في أكثر وضوح: "احرصوا أن تقدموا لي في أعيادي عطاياي، هداياي، محرقاتي، رائحة سرور". ويُعلِّق البابا أثناسيوس الرسولي على ذلك هكذا: [إذ نرد إلى ربنا قدر طاقتنا، وإنما نرد إليه لا من عندياتنا بل من الأشياء التي أخذناها منه، التي هي نعمته، فهو يسألنا عطاياه التي وهبنا إياها. وقد حمل شهادة بذلك، قائلاً: "تقدموا لي عطاياي" لأن ما تقدمونه لي كأنه منكم إنما قد نلتموه مني، إذ هو عطيّة من قبل الله[266]].
بدأ بالمحرقة الدائمة، تقديم خروفين حوليين كل يوم، خروف في الصباح وآخر بين العشاءين، وكأننا في حاجة إلى محرقة بلا انقطاع لكي نكون في مصالحة مع الله ليل نهار بغير توقف. هذه هي المحرقة الدائمة أو "عيد الرب الدائم" إنه يفرح ويسر بمصالحتنا معه كل أيام حياتنا، نهارًا وليلاً. لهذا بدأ بهذه المحرقة الدائمة كمقدمة التقدمات التي يوصينا بها كوقود "رائحة سرور الرب" (ع 8).
يقول العلامة أوريجينوس: العيد الأول للرب هو "العيد الدائم"؛ حقًا إنه مطلوب تقديم قربان في الصباح والمساء باستمرار بغير انقطاع. ففي تشريع الأعياد هنا لم يبدأ الرب بعيد الفصح ولا بعيد الفطير أو عيد القربان المقدس، ولا بأي عيد آخر، إنما وضع العيد الأول هو عيد "المحرقة الدائمة". فهو يريد للذي يصبر إلى الكمال والقداسة ألاَّ تكون له أيام أعياد وأيام بدون أعياد مقدسة لله، وإنما يحتفل بعيد دائم. الذبيحة التي يجب أن تُقدم صباحًا ومساءًا باستمرار يعني ضرورة التفكير في الناموس والأنبياء الذين يمثلون الصباح، التفكير في الإنجيل الذي أُعلن في المساء أي مجيء المسيح في آخر الأيام. هذه هي الاحتفالات التي قال عنها الرب: "ستبصرون أعيادي" (1 تس 5: 17). إذًا يوجد عيد للرب إن كنا نقدم الذبيحة على الدوام، أي "نصلي بلا انقطاع"، إن كان رفع أيدينا إليه يصعد كالبخور قدامه (مز 141: 2) في الصباح وذبيحة مسائية في المساء. إذن الاحتفال الأول هو المحرقة الدائمة التي يجب على تلاميذ الإنجيل أن يقدموها كما سبق فشرحناها. لكن تحولت أعياد الخطاة إلى نوح كما يقول النبي (عا 8: 1) وأغانيهم إلى مراثٍ. فبلا شك الخاطي الذي يحتفل بيوم الخطيّة لا يقدر أن يحتفل بعيد. الأيام التي يخطيء فيها لا يقدر أن يقدم الذبيحة الأبديّة. فإنه لا يقدر أن يقدمها إلاَّ إذا اتبع البرّ واحترس من الخطيّة، أما اليوم الذي يمارس فيه الخطيّة فلا يقدم للرب الذبيحة الأبديّة[267]".
2. الذبائح الأسبوعيّة:
إن كان الله يريد أن تكون كل أيامنا أعيادًا له يفرح فيها بنا خلال ذبيحة ابنه الوحيد فيتقبل صلواتنا النهاريّة والليليّة، ولا يكون في أيامنا يوم واحد غير عيد، فإنه أقام لنا أيضًا عيدًا أسبوعيًا هو "عيد السبت" أو "عيد الراحة"، لهذا يقول الرسول: "إذا بقيت راحة لشعب الله" (عب 4: 9).
قلنا أن الرب استراح في اليوم السابع لا بتوقفه عن العمل بل بفرحه بالإنسان وراحته، ونحن أيضًا إذ نتمتع بيوم الأحد، يوم قيامة السيد المسيح كيوم الراحة، إذ نجد في ذبيحته غير المتوقفة سرّ تمتعنا بالحياة المُقامة فنستريح في الله الذي أقامنا معه وأجلسنا في السمويات ويستريح الله فينا إذ يجد له فينا موضعًا.
يبقى الأحد عيدًا أسبوعيًا، سبتًا حقيقيًا لله والكنيسة، أو لله وللإنسان في المسيح يسوع المُقام من الأموات إلى أن نلتقي معه وجهًا لوجه يوم الراحة العظيم حين يتمتع جسدنا بالقيامة من الأموات ويحمل طبيعة روحيّة جديدة ويوجد الإنسان مع الله ممجدًا في أحضانه. وكأن كل أعيادنا الحالية هي عربون للعيد الأبدي، أو كما يقول العلامة أوريجينوس: [السبت الحقيقي الذي فيه يستريح الله من كل أعماله يكون في الدهر الآتي، حين تنهزم الآلام والأحزان والتنهدات ويكون الله هو الكل في الكل. في هذا السبت يهبنا الله أن نعيّده معه، ونحتفل به مع ملائكته القدِّيسين بتقديم ذبيحة التسبيح وإيفاء النذور التي نطقت بها شفاهنا هنا[268]].
في هذا العيد الأسبوعي كان الشعب يلتزم بتقديم "محرقة كل سبت فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها" [10]. إنها ذبيحة واحدة غير متكررة، لكنها ذبيحة المسيح القائمة والفعالة بغير انقطاع تجتمع حولها الكنيسة يوم الأحد احتفالاً براحة القيامة بجانب ذبائح الحب اليوميّة من صلوات وتسابيح تقدم خلال الصليب!
3. الذبائح الشهريّة:
في رأس كل شهر نحتفل بعيد الرب فيه تقدم محرقة رائحة سرور (ع 13) مع ذبيحة خطيّة للرب (ع 15) فضلاً عن المحرقة الدائمة اليوميّة صباحًا ومساءً.
ويلاحظ هنا قوله "رؤس شهوركم" مع أنه إذ يتكلم عن السبت يلذّ له أن يقول "سبوتي" (خر 31: 13، لا 19: 13، 30، 26: 2) وكأنه يعتز بها كسرّ فرحه هو، أما في حالة صنع الشرّ فيودّ أن يدعوها "سبوتكم[269]" (لا 26: 35). حقًا ما أجمل أن يدعو الله السبت "سبوتي"، والأعياد "أعيادي" والتقدمات "تقدماتي" لأنها جميعًا تشير إلى الدخول إلى الراحة الأبديّة والعيد الدائم وتقدمة السيد المسيح الأبديّة، فيها يستريح الإنسان في الله كما الإنسان في أحضان الله، أما الشهور فيدعوها "شهوركم"، لأن الشهر يشير إلى الزمن المتغير من شهر إلى شهر، هذا الذي ينتهي بنهاية العالم. من أجلنا خُلق الزمن بوجود الكواكب، ومن أجلنا تنتهي الأزمنة ولا يعود بعد هناك شهور وسنوات بل توجد في نهار واحد بلا انقطاع يكون فيه الشمس التي لا تغيب، يوم سبت غير منقطع، يوم راحة أبديّة.
مع بدء شهورنا نحتفل بعيد ثالث للرب بجانب العيد الدائم وعيد السبت فيه نفرح بالرب الذبيح الذي وهبنا "الحياة الأبديّة" فيه. يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا العيد بقوله: [الاحتفال الثالث هو عيد الهلال، اليوم الذي فيه أيضًا تقدم ذبيحة. يكون هذا الاحتفال عند ظهور القمر من جديد. نقول أن القمر صار جديدًا عندما يقترب جدًا من الشمس باتصاله به... أي منفعة للاحتفال بعيد الهلال الجديد؟ إنه يعني اقتراب القمر من الشمس جدًا ويتحد بها. المسيح هو "شمس البرّ"، والهلال يعني كنيسته الممتلئة من نوره، تتصل به وتتحد معه بقوة، كقول الرسول "وأما من التصق بالرب فهو روح واحد" (1 كو 6: 17). إنها تحتفل بعيد الهلال إذ تصير جديدة بتركها الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد بحسب الله في البرّ وقداسة الحق (أف 4: 24). بهذا يستحق الاحتفال بعيد التجديد أو عيد الهلال... النفس التي اتحدت بالله وعرفت بهاؤه ونوره، التي ليس لديها فكر أرضي أي الانشغال بأمر دنيوي أو شهوة إعجاب الناس بها، هذه التي سلَّمت نفسها لنور الحكمة وحرارة الروح وأصبحت غير ماديّة بل روحيّة، لا يمكن أن يراها البشر ولا هي تتعلق بنظرات البشر بها، لا يدرك الإنسان الطبيعي الإنسان الروحي ولا يصل إليه؛ مثل هذه النفس تستحق بحق أن تحتفل بالعيد وتقدم ذبيحة الهلال للرب الذي جددها[270]].
4. أعياد سنويّة: الفصح:
قدَّم لهم الرب مجموعتين من الأعياد السنويّة، مجموعة يحتفل بها مع بدء السنة، ومجموعة أخرى تبدأ بالنصف الثاني من السنة أي الشهر السابع. ففي النصف الأول من السنة يحتفل بعيد الفصح (اليوم الرابع عشر من الشهر الأول) وعيد الباكورة أو الخمسين (البنطقستي) أو عيد الفصح أو عيد العبور فتحدثنا عنه قبلاً في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج، والأصحاح التاسع من سفر العدد.
ركَّز هنا على سبعة أيام الفطير حيث يمتنع عن أكل الخمير واستعماله لكي تبدأ سنة جديدة لا ترتبط بالخمير العتيق. يقول العلامة أوريجينوس: [تستحق أن تحتفل بهذا العيد إن نزعت من نفسك كل خمير الشرّ (1 كو 5: 8) والخطيّة، محتفظًا بفطير الإخلاص والحق. فإنه لا يليق بنا أن نتخيل أن الله القادر على كل شيء يشرع للإنسان قوانين تخص استخدام الخمير، ويقوم بقطع تلك النفس من شعبها (عد 9: 13) إن كانت قد نَسَت أن تكنس ما عندها من خمير... لكن ما يكرهه الله وبحق هو خمير الروح الشريرة المتذمرة والظالمة، هذه التي اختمرت بخميرة الشر. هذا هو ما يريده الله من النفس، فإنها إن لم تنزع هذه الخميرة من مسكنها تُقطع!... فإن الذي يترك في نفسه أقل بذرة للشرّ يزداد من يوم إلى يوم ويزداد شرًا. فإن أردت الاحتفال بعيد الفطير مع الله فلا تترك في نفسك أقل خميرة للشرّ[271]].
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [إذًا لنُعيِّد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشرّ والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1 كو 5: 8). وإذ نخلع الإنسان العتيق وأعماله، نلبس الإنسان الجديد المخلوق حسب الله (أف 4: 22، 24)، ونلهج في ناموس الله نهارًا وليلاً، بعقل متضع وضمير نقي. لنطرح عنا كل رياء وغش، مبتعدين عن كل كبرياء ومكر. ليتنا نتعهد بحب الله ومحبة القريب، لنصبح خليقة جديدة، متناولين خمرًا جديدًا إذًا لنحفظ العيد كما ينبغي[272]].
يرى القدِّيس أغسطينوس في الفطير رفض الخميرة القديمة وقبول الجديد، فيكون لنا الحياة الجديدة والتسبيح الجديد الخ... [إن كان لنا حياة جديدة فلنُغنِ أغنية جديدة وننشد للرب تسبحة جديدة[273]].
5. أعياد سنويّة: عيد الخمسين (الأسابيع):
لأجل تقديس الزمن، لتكون أيام الإنسان كلها مقدسة للرب، جعل الرب عند اليهود اليوم الأخير أو السابع "سبت للرب"، فبتقديس اليوم السابع يتقدس الأسبوع كله، لأن كلمة أسبوع تاتي من رقم "سبعة" خاصة في العبريّة إذ يُدعى (شبوع) أي (سبعة).
وقدس الرب الأسابيع بإقامة "عيد الأسابيع" الذي هو عيد الخمسين لأنه بعد سبعة أسابيع من بدء الحصاد يحسب سبتًا للرب. كان عيدًا مرتبطًا بالزراعة، ولما كان من الصعب تحديد بدء يوم الحصاد، لهذا استقر الأمر أن يحسب من عيد الفصح، فصار اليوم الخمسين من عيد الفصح، في هذا العيد يظهر الشعب أمام الله غير فارغين (خر 23: 15)، بل يقدمون للرب من الحصاد الجديد، لذا يقول "حين تقربون تقدمة جديدة للرب في أسابيعكم" [26]. ما هي هذه التقدمة الجديدة؟ يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يليق بك أن تدخل بيت الله بدون ذبائح، فلا تذهب الاجتماع غير مصطحب إخوتك، فإن هذه الذبيحة والتقدمة أفضل من تلك، متى قدمت لله نفسًا معك في الكنيسة[274]]. في يوم الخمسين حلّ الروح القدس على التلاميذ في عُلِّية صهيون الروح الناري القادر أن يجتذب تقدمات جديدة للرب، فقد قدم بطرس الرسول في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفسًا للرب (أع 2: 41). هذه هي تقدمة المؤمنين في عيد الأسابيع، الدخول بالنفوس المتعبة لتستريح في أحضان الرب.
الأصحاح التاسع والعشرونأعياد وتقدمات دائمة
يكمِّل الرب حديثه عن الأعياد والتقدمات فيذكر هنا المجموعة الثانية من الأعياد السنويّة، التي تقام في النصف الثاني من السنة، مع ختام عن التقدمات الشخصيّة التي يقدمها الإنسان دون التزام بوصيّة معينة.
1. يوم الهتاف العظيم 1-6.
2. يوم الكفارة 7-11.
3. عيد المظال 12-38.
4. التقدمات الشخصيّة 39-40.
1. يوم الهتاف العظيم:
في الشهر السابع يُحتفل بثلاث أعياد عظام مترابطة معًا: عيد الأبواق أو الهتاف، وعيد الكفارة وعيد المظال. أما اختيار هذا الشهر لهذه الأعياد فسّره الآتي:
أ. كما تقدس أيام الأسبوع يتقدس اليوم السابع، وتقدس الأسابيع بتقديس عيد الأسابيع في الأسبوع السابع، هكذا أيضًا تتقدس الشهور بإقامة هذه الأعياد الثلاثة في الشهر السابع، وكأنها سبت الشهور. لقد حرص الرب على تقديس كل ما هو سابع في الزمن على كل المستويات.
ب. يسمى هذا الشهر عند اليهود "تشري" أي "تشرين الأول" (أكتوبر) وهو بدء السنة المدنيّة، سماء الحاخاميّة يوم ميلاد العالم.
ج. كانت هذه الفترة هي فترة راحة بالنسبة للعاملين في الزراعة، ما بين الحصاد وبذر البذور، وكأن الله أراد أن يفرِّغهم للعبادة المفرحة في هذه الفترة.
د. كما يبدأ الله السنة بالفصح في الشهر الأول علامة على أن الله هو الذي عبر بهم من العام الماضي ليدخل بهم إلى عام جديد، رمز عبورنا من الحياة الزمنيّة إلى الحياة الأخرى، هكذا أراد أن يقدس الشهر السابع أي عند نهاية نصف السنة لكي يشعر الإنسان أن الله بدأ هو يكمل إلى التمام. فلا يكفي أن نقدم لله بكور حياتنا وإنما نسلمه كل الحياة ليقودها بنفسه.
أما بالنسبة لعيد الأبواق أو عيد الهتاف العظيم فإنه يُدعى محفلاً مقدسًا حيث تُضرب الأبواق، كأن الله يعلن لشعبه أن يستعدوا للعيدين العظيمين والمتكاملين معًا: عيد الكفارة العظيم وعيد المظال. وبحسب التقليد اليهودي لا يُضرب في هذا اليوم بالبوقين الفضيين المذكورين في الأصحاح العاشر بل بالشوفار أي قرن الكبش الذي كان يستخدم في مناسبات خاصة مهيبة مثل المناداة بسنة اليوبيل (يش 6).
2. يوم الكفارة:
في العاشر من الشهر السابع يكون لهم محفل مقدس فيه يتذللون، فيه يقربون محرقة للرب رائحة سرور (ع 8). هكذا يمتزج تذللهم بالفرح إذ يسر الله بهم لا من أجل تذللهم ولكن من أجل المصالحة التي تتحقق بينه وبينهم خلال المحرقة في يوم الكفارة العظيم.
تحدَّث سفر اللاويّين في شيء كبير من التوسع عن هذا اليوم العظيم (لا 16، 23: 26-32)، فهو يوم صوم واتضاع وتكفير عن خطايا الشعب كله لكن دون أن ينسى أن يكفر رئيس الكهنة عن نفسه أيضًا. الأمر الذي استلفت نظر الرسول بولس في مقارنته بين السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذي بلا خطيّة دخل بنا إلى السموات عينها ورئيس الكهنة اليهودي الذي يدخل ظل السمويات مرة في السنة بعد تقديم دم عن نفسه كما عن جهالات الشعب (عب 9: 1-12، 24-28). وإنني أرجو أن أعود إلى تفاصيل طقسه في دراستنا لسفر اللاويّين إن شاء الرب وعشنا.
3. عيد المظال:
إن كان عيد الكفارة هو عيد صوم وتذلل، فإن عيد المظال الذي يلحقه في الخامسة عشر من نفس الشهر ويستمر ثمانية أيام هو عيد الفرح والتهليل. إن كان الكفارة يشير إلى الصليب لهذا ارتبط بالصوم والتذلل، فإن عيد المظال يشير إلى ثمار الصليب بما يحمله من قوة قيامة وصعود وتمتع بالروح القدس. فاستمرار العيد ثمانية أيام إنما يشير إلى الحياة المُقامة أي الحياة الأخرى، إذن اليوم الثامن هو اليوم الأول بعد الأسبوع، أي الدخول في أسبوع جديد. في هذا العيد يلتزم كل رجل أن يظهر أمام الرب في الهيكل (تث 16: 16) وكانوا يسكنون خيامًا ينصبونها أثناء العيد في ساحات المدينة وعلى سطوح البيوت وأفنيتها وفي دور الهيكل (نح 8: 16) وعلى الجبال المجاورة لأورشليم، بهذا كان قمة الأعياد إذ يشير إلى انطلاق الكنيسة خارج المسكن الأرضي. وكانت الشريعة تُقرأ كل سبع سنين أمام الشعب في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال (تث 31: 9-13). وقد أُدخلت مراسيم كثيرة للعيد بجانب الذبائح والتقدمات التي نتحدث عنها في دراستنا لسفر اللاويّين إن سمح الرب. ففي وقت ذبيحة الصباح كان الشعب يحمل سعف النخيل وأغصان الآس والصفصاف والفاكهة ويطوفون حول المذبح مرة كل يوم، وسبع مرات في اليوم السابع[275] كما ظهرت عادة أخرى وهي أن كاهنًا يملأ وعاءً ذهبيًا من ماء بركة سلوام ويحمله إلى الهيكل عند الذبيحة الصباحيّة والمسائيّة كل يوم من أيام العيد، فسيتقبلونه بهتاف البوق وكلمات إشعياء النبي "فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (12: 3). ولعل رب المجد قد أشار إلى هذا بقوله: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). وكأن السيد قد وَجَّه أنظارهم إلى الروح القدس الذي يتقبلونه في داخلهم واعتادوا أيضًا في المساء اللاحق لأول يوم في العيد أن يضيئوا دار النساء من منارتين عاليتين تحمل كل منهما أربعة مصابيح كبيرة فتلقي بنورها على المدينة إشارة إلى عمل الروح القدس "الاستنارة الداخليّة".
كأن عيد المظال هو عيد الفرح بالقيامة والانطلاق نحو السمويات خلال التمتع بالروح القدس الذي يفجِّر ينابيع مياه حيّة في داخلنا ويُنير بصيرتنا الداخليّة.
استخدام المظال أيضًا يشير إلى حالة الشعب بعد انطلاقه من أرض العبوديّة ورحيله في البريّة في خيام ليعبر إلى أورشليم مدينة الملك العظيم. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [نحن الآن قبل أن ندخل أرض الموعد، أعني الملكوت الأبدي نعيش في البريّة في مظال... الإنسان الذي يدرك أنه عابر في هذا العالم يكون في مظال. هذا الإنسان يفهم أنه راحل في مدينة غريبة إذ يرى نفسه يئن مشتاقًا إلى وطنه[276]].
أما بالنسبة للذبائح والتقدمات في هذا العيد فيلاحظ الآتي:
أولاً: كثرة الذبائح والتقدمات ففي أيام العيد يذبح كمحرقات سرور للرب 71 ثورًا 15 كبشًا و105 خروفًا حوليًا صحيحًا الخ... فبقدر ما يزداد الفرح تعلن الذبيحة بصورة، لأنه فرحنا إنما ينبع عن مصالحتنا مع الله خلال ذبيحته، وسروره بنا من خلالها! بمعنى آخر كلما اكتشفنا قوة الذبيحة إنما ننعم بالفرح السماوي!
ثانيًا: إن كان فرح العيد يبعث فيهم تقديم ذبائح وتقدمات لكن دون تجاهل للمحرقة الدائمة اليوميّة في الصباح والمساء. وكأن العيد وهو يدفعنا بالأكثر للتمتع بالشركة مع الله وممارسة عبادتنا الليتورجية لا يعني توقفنا عن تداريب حياتنا اليوميّة.
ثالثًا: في أيام العيد لا تختلف الذبائح فيما عدا اليوم الثامن حيث الاعتكاف، أما عدد الثيران فيبدأ برقم (13) وينتهي في اليوم السابع برقم (7) بتناقص ثور واحد كل يوم عن اليوم السابق له.
رابعًا: يقدم كل يوم ذبيحة خطيّة كما في سائر الأعياد ملتحمة مع المحرقات وجود رائحة سرور للرب... وكأن سرور الآب بنا يلتحم مع غفران خطايانا خلال العمل الخلاصي الواحد: الصليب!
4. التقدمات الشخصيّة:
بجانب هذه الذبائح والتقدمات الجماعيّة على مستوى كل يوم، وكل أسبوع وكل شهر وكل سنة توجد النذور والتقدمات والسكائب والذبائح التي يقدمها الإنسان بإرادته الشخصيّة، ليلتحم العمل الجماعي مع الشخصي وعبادة الجماعة مع عبادة كل عضو فيها.
الأصحاح الثلاثونالنذور
إذ ختم حديثه عن التقدمات والذبائح بالتقدمات الشخصيّة أراد أن يوضح مدى التزام المؤمن بنذوره مميزًا بين الرجل الناضج وبين الابنة التي تحت وصاية أبيها والزوجة المطيعة لرجلها.
1. نذر الرجل 1-2.
2. الابنة في بيت أبيها 3-5.
3. الزوجة في رعاية رجلها 6-8.
4. الأرملة والمطلقة 9-16.
1. نذر الرجل:
المبدأ العام في النذر أن الملتزم بالنذر "فلا ينقص كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل" [2]. هذا النذر أو القسم يلتزم به مادام "للرب"، فهو ينذر نذرًا يليق بالرب فيه طاعة لوصاياه، وإلاَّ فلا يحسب هذا نذرًا أو قسمًا يخضع لما ورد في هذا الأصحاح.
وقد لاحظ العلامة أوريجينوس أن العبارة هنا جاءت في الأصل تكرر كلمة "الرجل" مرتين: "إذا نذر الرجل رجل نذرًا للرب"، وهو يتساءل عن سبب تكرار الكلمة، وفي نفس الوقت يجيب بأن هذا يشير إلى مبدأ روحي هام. وهو أن الناذر نذرًا إنما هو "الرجل رجل" إي إنسان يحمل في داخله "الإنسان الجديد" أو "الإنسان الداخلي". فإن الإنسان لا يقدر أن يقدم للرب شيئًا، ولا يفي له نذرًا ما لم يحمل في داخله الإنسان الجديد الذي حمل إمكانيات روحيّة تفرح الله؛ إذ يقول: "لا تستطيع أن تقدم للرب نذورًا دون أن نملك في أنفسنا أو في طبيعتنا شيئًا نقدمه. الإنسان الخارجي لا يمكنه أن يقبل ناموس الله ولا أن يقدم بنفسه نذورًا، إذ لا يمكن أن يوجد لديه ما يكون لائقًا بالرب. وعلى العكس، الإنسان الداخلي له في طبيعته (الجديدة) ما يقدمه للرب، إذ فيه تتركز كل الفضائل ومجموعة العلم والمعرفة، فيه تتجدد صورة الله. عندما ينال الصورة التي وهبه الله إياها في البدء، عندما يحيي الفضائل، وعندما يعود إلى جماله الأول، حينئذٍ يقدر أن يقدم للرب نذورًا، فلا نسميه "الرجل" بل يدعى "الرجل رجل" إن لم يُهذب الإنسان الداخلي ونحافظ عليه ونزينه بالفضائل ونهيئه بالعادات الصالحة وندربه بالتداريب الإلهيّة، وإن لم يبحث عن حكمة الرب ويجتهد في معرفة الكتب المقدسة، لا يمكن أن يدعى "الرجل رجل" بل "الرجل" فقط، أو "الإنسان الجسداني"... إن رأينا الإنسان الداخلي الذي فينا مختبيء تحت أوساخ الخطايا وعفونة الرذائل يجب علينا أن نسرع في تخليصه من الأدناس وانتزاعه من نجاسة الجسد والدم وإقناعه بالتوبة ليتذكر الله ويأمل في الخلاص... هكذا نستطيع أن نقدم النذور للعلي ونسمي "الرجل رجل[277]".
هذا عن الإنسان مقدم النذور، لكننا نتساءل: ما هو النذر الي يطلبه الرب؟ يُجيب العلامة أوريجينوس: [ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك؟ (تث 10: 12). إن كنا لا نقدم له أولاً فلا نأخذ منه... إن أعطيتم المجد لله فستنالون مجدًا، لأن الله نفسه يقول: "أكرم الذين يكرمونني" (1 صم 2: 30). أما من جهتي فأقول أنه إذا قدمنا طهارة أقصد طهارة الجسد ننال منه طهارة الروح. وإن سلمناه فكرنا فهو يقدم لنا فكره ككلمات الرسول "أما نحن فلنا فكر المسيح[278]" (1 كو 2: 16)].
إذًا الله يريد القلب كاملاً، يطلب أعماقنا وحبنا وجهادنا فلا ينسى تعب المحبة، يأخذ مما له فينا نذره ليرده إلينا مضاعفًا. نعطي لذلك مثالاً في حياة موسى حين أعلن حبه لله ولشعبه بإصراره "إن لم يَسِر وجهك فلا تصعدنا من ههنا" (خر 33: 15). قدم موسى النبي حبًا إذ صمم ألاَّ يتحرك ما لم يحتل الرب مكانه وسط شعبه، وكأنه يقول لله: لك في وسطنا موضع من يقدر أن يحتله غيرك؟، لهذا بعد قليل يقول الرب لموسى: "هوذا عندي مكان" (خر 33: 21). ردَّ الله الحب بالحب! وعلى العكس حينما حمل إسرائيل في قلبه أصنام الأمم عِوَض محبة الله، وذهبوا يسألون النبي، قال الرب: "أنا الرب أجيبه حسب كثرة أصنامه، لكي آخذ بيت إسرائيل بقلوبهم" (خر 14: 5)، حتى يرجعوا عن أصنامهم.
في العهد القديم نذرت حنة للرب ثمرة بطنها وكرَّست صموئيل للهيكل (1 صم 1: 11، 24)، وللأسف نذر يفتاح أن الخارج من أبواب بيته للقائه عند رجوعه من معركته مع بني عمون يصعده محرقة للرب، وإذا بالخارجة للقائه ابنته الوحيدة كانت تستقبله بدفوف ورقص فمزق ثيابه وامتلأ حزنًا وكدرًا وقدمها محرقة (قض 11: 30-40). وآخرون قدموا بيوت وحيوانات نذرًا للرب. أما السيد المسيح فقدَّم حياته نذيرًا للآب، حاملاً صليبه ذبيحة حب للبشريّة ووقود رائحة سرور للآب. فاشتمه الآب رائحة رضا عن البشريّة المؤمنة والمقدسة فيه. ونحن أيضًا إذ نحمل هذا النذير الفريد في داخلنا نقبل سمات نذره فينا، فنحمل صليبه في داخلنا ونقدم حياتنا كاملة لله، فلا نعيش بعد لذواتنا بل لله الذي افتدانا. أما علامة نذورنا فهو: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20)، "إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه" (2 تي 2: 11).
2. الابنة في بيت أبيها:
إذا نذرت ابنة نذرًا وهي في بيت أبيها وسمع أبوها النذر ولم ينتهرها في نفس اليوم تلتزم الابنة بكل ما نذرته. هذا هو حال كنيسة العهد القديم التي كانت أشبه بفتاة قاصرة في بيت أبيها. لقد نذرت نذرًا حين سمعت وصايا الرب وشرائعه فقالت بلسان "جميع الشعب بصوت واحد... كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل" (خر 24: 3). وصارت الكنيسة ملتزمة أن تحقق هذا النذر، لكنها للأسف كسرته، لأن الجميع وُجدوا كاسرين للوصيّة.
3. الزوجة في رعاية رجلها:
إذا نذرت زوجة نذرًا وهي في بيت رجلها وسمع النذر ولم ينتهرها في نفس اليوم تلتزم بكل ما نذرته. إنها حال كنيسة العهد الجديد التي صارت عروسًا للرب، التزمت أن تقدم حياتها مقدسة له. حقًا إنها لن تستطِع أن تفي بالنذر إلاَّ بروح عريسها الذي نالته في داخلها ليقدسها على الدوام ويهيئها للعرس الأبدي.
4. الأرملة والمطلقة:
أظن أن الأرملة والمطلقة تشير إلى النفوس التي رفضت الإيمان وحُرمت من بيت عريسها... فهل تقدر أن تفي بنذرها؟
الأصحاح الحادي والثلاثونحرب ختاميّة
أمر الله موسى النبي أن يقاتل المديانيّين الذين أجروا نسوة شريرات لعثرة بني إسرائيل، وذلك كآخر فصل في جهاد موسى النبي.
1. مقاتلة المديانيّين 1-7.
2. قتل الملوك وبلعام 8.
3. الغنائم 9-12.
4. قتل النساء الشريرات 13-20.
5. تطهير المعادن 21-24.
6. توزيع الغنائم 25-54.
1. مقاتلة المديانيّين:
أراد الله أن يختم موسى النبي حياته وجهاده بحرب غايتها "التقديس" بإبادة العثرة التي حطمت الشعب. لم يكن هدف الحرب هجوميًا ولا سلب غنائم لكنه أراد قتل الذين انصاغوا لكلمات بلعام فأجّروا نساء يحاربن الشعب بجمالهن والتنجس معهن يجب أن يقاتلوا حتى لا تتكرر العثرة. وكان ذلك إشارة إلى ضرورة بتر العثرة في حياة المؤمنين حتى يعيشوا بروح الغلبة والنصرة.
هذا هو نهاية كل عمل لموسى النبي قبل أن يصعد إلى جبل عباريم ويرى الأرض المقدسة من بعيد. إنه غاية عمل الناموس يكشف العثرة ويسند في الجهاد ضدها لكنه لا يقدر أن يهب البرّ ولا أن يعبر بالمؤمنين إلى حدود الأرض المقدسة. إنه يبعث فينا روح الجهاد ويرتفع بنا خلال الظلّ والرمز لنرى السموات من بعيد، لكنه عاجز أن يحملنا إليها.
أما ملامح هذا الجهاد الروحي المقدس فهو:
أولاً: نزع العثرة: يقول العلامة أوريجينوس: [العثرات التي أُلقيت لأبناء إسرائيل سببها مكيدة المديانيّين، الذين استأجروا النساء لسلب قلوبهم حتى يخطئوا أمام الرب، فكابد بنو إسرائيل عقابًا على ارتكابهم الخطيئة، أما المديانيّون إذ سببوا السقوط في الخطيئة صاروا موضع عقوبة أشد، نتعلم من هذا أننا إذ نُعثر الآخرين فيسقطوا نكون في حالة أشرّ من ارتكابنا الخطيئة هذا ما يعلمنا إياه الرب بقوله: "خير له لو طوّق عنقه بحجر رحى وطُرح في البحر من أن يُعثر أحد هؤلاء الصغار[279]" (لو 17: 2)].
ثانيًا: حين سقط الشعب في الخطيئة انهزم إسرائيل بغير محاربين ظاهرين، إذ لا نسمع عن حرب بينه وبين المديانيّين والموآبيّين، لكن أربعة وعشرون ألفًا ماتوا بالوبأ بغير حرب (25: 9). ولولا غيرة الكاهن فينحاس على المقدسات لفني الشعب كله (25: 11). أما الآن وقد تقدَّس الشعب فلا حاجة لخروج رجال الحرب البالغين أكثر من ستمائة ألف رجل وإنما يكفي اختيار ألف رجل عن كل سبط ليخرج الاثنا عشر ألف رجل فيغلبوا وينتصروا. فهي ليست حرب العدد الكبير ولا الإمكانيات الحربيّة من أسلحة وتخطيطات عسكريّة، إنما هي قوة التقوى والقداسة على الشر والخطيئة. يقول العلامة أوريجينوس: [لم يحصل على النصرة بكثرة عدد الجند وإنما بواسطة برّه وتقواه... فقد قيل: إذا اتَّبعوا ناموس الرب، واحد فقط يطارد ألفًا واثنان يجعلان ألفين يهربون (26: 8). هكذا ترى أن قديسًا واحدًا فقط في صلواته يكون أقوى من جيش لا يُحصى من الأشرار. صلاة البار تخترق السماء، فكيف لا نحصل على النصرة على الأرض؟ لهذا يلزمك أن تبحث أولاً عن برّ الله (مت 6: 33)، فإننا إن وجدنا واحتفظنا به نخضع كل الأعداء بشرط أن نكون لابسين درع البرّ، ممنطقين أحقاءنا بالحق، نحمل خوذة الخلاص وسيف البرّ، نحمل فوق الكل ترس الإيمان الذي به نقدر أن نطفيء جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 14-17)... بهذه الأسلحة ينهزم كل معسكر الشياطين وجيشه ونرنم بثقة، قائلين: "إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي، وإن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن[280]" (مز 37: 3)].
ثالثًا: إن كان رقم (12) يشير إلى ملكوت الله على الأرض، حيث يملك الثالوث القدوس في كل جهات المسكونة (3×4) فإن رقم (1000) يشير إلى الحياة السماويّة لأن يومًا عند الرب كألف سنة. إذن فرقم (12.000) يشير إلى ملكوت الله السماوي على الأرض، هذا الذي له الغلبة على روح الشرّ والعثرة. من ينضم إلى العضويّة في مملكة المسيح الروحيّة، حاملاً السمات السماويّة ينهزم أمامه إبليس وكل جنوده.
رابعًا: لم نسمع في هذه الحرب عن قيادات عسكريّة ولا استعدادات بالأسلحة لكننا نقرأ: "فأرسلهم موسى ألفًا من كل سبط إلى الحرب هم وفينحاس بن ألِعازار الكاهن إلى الحرب وأمتعة القدس وأبواق هتاف في يده" [7]. كانت طاقات الحرب هي الألف رجل أي الحياة السماويّة التي تسمو على الخطيّة وترتفع فوق كل إغراءاتها، تحت قيادة فينحاس الكاهن الغيور على مقدسات الله الذي يشير إلى العبادة الناريّة بالروح القدس والملتهبة بلا انقطاع، وأمتعة القدس خاصة تابوت العهد الذي يشير إلى حضرة الله كسرّ تقديسنا ونصرتنا، وأبواق هتاف تشير إلى كلمة الله إذ هي "حيّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب 4: 12). هذه هي الإعدادات الحقيقيّة للغلبة في الحرب الروحيّة: الحياة بفكر سماوي، العبادة الملتهبة غير المتقطعة، والشعور بحضرة الله الدائمة، التمسك بكلمة الله.
خامسًا: كانت الحرب موجهة ضد "كل ذكر". قلنا أن الذكر يشير إلى الفكر أو العقل أو النفس كما أن الأنثى تشير إلى الجسد أو العمل أو العاطفة. ففي حربنا ضد الخطيّة نصوب سهامنا الروحيّة ضد كل فكر شرير هذا الذي يفسد النفس والجسد معًا. نحن لا نعادي الجسد بل نقام الفكر المفسد له ولعواطفه وأحاسيسه.
2. قتل الملوك وبلعام:
"وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم: أوي وراقم وصور وحور ورابع. خمسة ملوك مديان وبلعام من بعور قتلوه بالسيف" [8].
بجانب كل ذكر أي كل فكر شرير قتلوا الملوك الخمسة المذكورة أسمائهم أعلاه مع بلعام... من هم هؤلاء الملوك الخمسة ومن هو بلعام؟
أولاً: من هم هؤلاء الملوك الخمس إلاَّ الحواس التي ينبغي أن تموت عن الخطيّة لتتمتع بالحياة المقدسة! فلا حياة لهذه الحواس ما لم تمت أولاً بالصليب عن أعمال الإنسان العتيق. يتحدث العلامة أوريجينوس عن الملوك الخمسة، قائلاً: [بالاختصار الذين يسيرون على الرذائل- حسب الكتاب المقدس- هم خمسة ملوك، بهذا نتعلم بوضوح أن كل رذيلة تسود على الجسد تتبع أحد الحواس الخمسة. إذًا يجب قتل الحواس الخمسة في مملكة المديانيّين لكي يسودهم البرّ عِوَض الرذائل وعِوَض العمل المعثر يصير العمل الصالح الذي للبنيان، لأن هذه الحواس كانت تُستخدم للعثرة لدى المديانيّين. لهذا أمر الرب "إن كانت عينك اليمين تعثرك فاقلعها والقها عنك" (مت 5: 29-30). ها نحن نرى الرب يأمر بنزع الملوك الخمسة وقتلهم، "لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم". إنه لا يأمرنا بقلع العين الجسديّة وبتر اليد أو الرجل الجسديتين إنما يأمر ببتر الحس الجسداني المنحرف بالشهوات الجسديّة، لكي "تنظر عيناك إلى قدامك وأجفانك إلى أمامك مستقيمًا" (أم 4: 25). لكي ما تسمع آذانك كلمة الله وتلتهمها، وتلمس يداك كلمة الله وتلتصق بها. بهذا فإنه إذ يموت ملوك المديانيّين وتقتلع الرذائل المعثرة يسود برّ سيدنا يسوع المسيح، إذ "منه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداءً[281]" (1 كو 1: 30)].
هكذا يموت الملوك الخمسة فلا يكون للشيطان سلطانًا على حواسنا لا لنعيش بلا حواس في جحود، وإنما لتنطلق أحاسيسنا ملتهبة بالروح القدس لحساب الملك الجديد رب المجد يسوع.
ثانيًا: هؤلاء الملوك تحمل أسماءهم معانٍ رمزيّة، فالملك "أوي" يشير إلى الرغبة كما يرى البعض. وكأن بدء الملوك بعد "الفكر" هو "الرغبة"، متى سيطر عليها إبليس وملك حطم حياة الإنسان واستعبدها. عمل الروح القدس في حياة الناس هو تحويل "الرغبة" من مملكة الخطيّة إلى مملكة البرّ، أو من أسر إبليس إلى حريّة الحياة في المسيح يسوع ربنا.
غير أن العلامة أوريجينوس يرى أن كلمة "أوي" تعني "حيوان مفترس"، لهذا فمع قتل كل فكر شرير "كل ذكر" يلزم على المؤمن أن يبدد العادات الحيوانيّة المتوحشة، قائلاً: [كيف يمكنك أن تتمتع بالتطويب: "طوبى للودعاء" (مت 5: 5)، ما لم تقتل أولاً أوي وتسلم الغضب المتوحش للموت؟ في رأيي أن الكتاب المقدس لا يذكر هذه الأسماء ليروي قصة، إنما يقدمها لأجل معرفة الحقائق... إن النص السماوي- كما أعتقد تمامًا- تعليم النفوس، إذ يريدنا أن نحارب هذه الأنواع من الرذائل. لنطردها عن مسكنها الذي في داخل أجسادنا. لنطرد هؤلاء الملوك من مملكة أجسادنا. هذا ما يقوله الرسول بوضوح: "لا تملكن الخطيّة على جسدكم الفاني[282]"].
ثالثًا: الملك الثاني الذي ينبغي قتله هو "راقم"، الذي يعني "رقش" أو "تلوين[283]". إن كان الملك الأول يمثل العنف والشراسة فإن هذا الملك يحارب الروح باتجاه مضاد وهو التلون ومجاراة الناس والمداهنة لاقتناص النفس. الأول يقتل النفس بعنف والثاني يقتلها باللطف المخادع. لهذا يحثنا القدِّيس أغسطينوس أن نحذر الذئب حتى إن لاطفنا أو عانقنا، ولا نخشَ الحمامة حتى إن دخلت معنا في صراع إذ يقول: [الحمامة تحب حتى في صراعها، والذئب يبغض حتى وهو يعانق[284]]. لنقتل هذا الذئب (الشيطان) حتى في ملاطفته إيانا. عن هذا الملك المخادع يقول داود النبي: "أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال، ألين من الزيت كلماته وهي سيف مسلولة" (مز 55: 21).
رابعًا: الملك الثالث يدعى "صور" أي "صخر[285]"، هذا الذي يفقد الإنسان إنسانيته فيكون قلبًا قاسيًا كالصخرة. لهذا يقول الرب: "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" (خر 36: 26). إنه يقتل الملك "صور" ليملك بروحه القدوس فيقيم قلبًا لحميًا ومملكة مملوءة حبًا عِوَض العنف والقسوة.
خامسًا: الملك الرابع هو حور، وهو اسم مصري في الغالب مشتق عن الإله حورس. وإن كان البعض يراه اسمًا أكاديًا يعني "طفل". وهو يقاوم الإنسان لا كالملك السابق بتحجير قلبه وإنما يجعله كطفل يلهو في غير جدية. يمارس عبادته في استهتار واستهانة، ولا يتطلَّع إلى خلاص نفسه وأبديته برجولة ناضجة.
سادسًا: الملك الخامس وهو "رابع" ويعني "الرابع"، ربما يشير إلى الحياة الجسدانيّة الزمنيّة، إذ رقم (4) يشير إلى الأرض باتجاهاتها الأربعة. هذا هو الملك الشرير الذي يربط قلب الإنسان بالأرض فلا تقدر النفس أن تنطلق بجناحي الحمامة إلى الأعالي، بل تنجذب دومًا نحو أمور هذا العالم الزائلة.
هذا الذي قدم المشورة الشريرة لبالاق بإلقاء معثرة للشعب خلال النساء الشريرات... إنه يليق بنا إبادة كل مجال للعثرة!
3. الغنائم:
ماذا فعل المنتصرون ببني مديان؟
أولاً: سبوا النساء وأطفالهن وجميع البهائم والمواشي وكل الممتلكات؛ كان ذلك عملاً رمزيًا للإنسان الغالب روحيًا فإنه يسبي الجسد "النساء" ليعمل لحساب الله في اتفاق مع النفس. أما الأطفال فيشيرون إلى الثمار، فعِوَض أن يكون الجسد بأعماله يخدم الشيطان يصير آلة برّ لله، مقدسًا وطاهرًا. أما البهائم وكل الممتلكات فتشير إلى الغرائز والطاقات... هذه التي كانت دنسة تصير مقدسة، وعِوَض أن تكون ثقلاً تصير معينًا لنا في عبادتنا لله.
إيماننا لا يحمل عداوة ضد الجسد ولا ضد أحاسيسه أو عواطفه أو أعماله أو طاقاته ومواهبه، إنما يحمل تحولاً جذريًا له بكل ممتلكاته وأعماله للعمل لحساب مملكة المسيح.
ثانيًا: حرق جميع المدن والحصون بالنار، إذ يغلب الإنسان روحيًا لا يستهين بالصغائر بل يحطم كل موضع فيه عثرة، قاطعًا كل جذور الخطيّة من قلبه، لكي لا يكون لعدو الخير حق الدخول إليه من جديد. إن كل تهاون في تنظيف القلب تمامًا من كل آثار الخطيّة يعطي لها حق الرجوع إلى موضعها في الوقت المناسب لها.
ثالثًا: أخذوا الغنيمة وجاءوا بها إلى موسى وألِعازار الكاهن وإلى الجماعة، "إلى المَحَلَّة، إلى عربات موآب التي على أردن أريحا" (ع 12).
قلنا أن هذه الغنائم تشير إلى تقديس الجسد بكل طاقاته فيتحوَّل من العداوة ضد الروح (غل 5: 17) ليصير بأعضائه "آلات برّ لله" (رو 6: 3)... لكن ما هو سرّ تقديسها؟
أ. جاءوا بالغنائم إلى موسى مستلم الشريعة إعلانًا عن أن الوصيّة أو كلمة الله هي سرّ تقديس الإنسان بكل أعضائه. "كلمة الله حيّة وفعالة..." (عب 4: 12)، يحفظها الإنسان في قلبه فتقدس كل ما له وتنزع عنه الخطيئة: "خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطيء إليك" (مز 119: 11). وجد فيها المرتل سرّ حياته الروحيّة، إذ يقول: "لصقت بالتراب نفسي فأحيني حسب كلمتك" (مز 119: 25)، أي لصقت نفسه بالجسد بكل شهواته وليس من يعين هذه النفس إلاَّ كلمة الله التي تهبه حياة من بعد الموت بالخطيّة.
ب. جاءوا بها إلى ألِعازار الكاهن إلى الجماعة إلى جوار الأردن. هنا إشارة إلى تقديس الجسد بكل طاقاته خلال مياه المعموديّة المقدسة، الأردن، بواسطة الكهنوت وسط الجماعة أي الكنيسة. ففي الجرن المقدس يحطم السيد المسيح إبليس ويعطي للإنسان إمكانيّة الحياة الجديدة، الحياة المُقامة معه (كو 4: 6).
4. قتل الشريرات:
سخط موسى على رؤساء الألوف ورؤساء المئات الذين وإن كانوا قد غلبوا المديانيّين وجاءوا بغنائم كثيرة لكنهم احتفظوا بالنساء الشريرات اللواتي كن سبب عثرة للشعب، لهذا أمر بقتل كل امرأة قدَّمت جسدها للشرّ للشعب واعترته. وكأن موسى أراد ألاَّ يترك مجالاً للسقوط مرة أخرى باختفاء العثرة داخل الشعب. لقد قُتلت النساء الشريرات وأطفالهن الذين كانوا ثمرة النجاسة. وكأنه لم يُرد أن يترك أثرًا حتى لتذكار الشرّ حتى لا يعود إليه الإنسان من جديد.
5. تطهير المعادن والثياب:
طلب ألِعازار رئيس الكهنة من الجند القادمين من المعركة أن يقدموا المعادن التي يمكن أن تجتاز النار مثل "الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص" (ع 22) لكي يُجيزونه في النار فيكون طاهرًا غير أنه يتطهر بماء النجاسة (الماء الذي يطهّر من النجاسة ع 19)، أما ما لا يدخل في النار فيُجيزونه في الماء. ورجال الحرب أنفسهم إذ لمسوا المديانيّين وقتلوهم يغسلون ثيابهم في اليوم السابع ليتطهروا وعندئذٍ يدخلون المَحَلَّة (ع 24).
نلاحظ في هذه الشريعة:
أولاً: صورة رمزيّة رائعة لجيش الله الروحي الذي غلب وانتصر على الخطيّة منطلقًا نحو المَحَلَّة الحقيقيّة، أورشليم "مسكن الله مع الناس" (رؤ 21: 3). إنهم ينطلقون نحو عريسهم ليستريحوا معه وفيه في أحضان أبيه القدوس وأعمالهم تتبعهم. يحملون معهم الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص، يحملون معهم ثيابهم وقد غسلوها وبيَّضوها في دم الخروف (رؤ 7: 14). ما هو هذا الذهب الذي اجتاز النار إلاَّ الحياة السماويّة التي انسكبت في حياة المجاهدين خلال الروح القدس الناري. وما هي الفضة إلاَّ الكرازة بكلمة الله التي صُفيت كما بنار سبع مرات (مز 12: 6) وهكذا يدخل المؤمنون إلى المَحَلَّة السماويّة يحملون أتعاب محبتهم، يقدمونها ثمرًا نفيسًا للعريس المتهلل بعروسه المقدسة فيه. أما الثياب المغتسلة بالدم فتشير إلى أجسادنا التي تقوم في يوم الرب العظيم وقد تقدست في دم المسيح لتشارك النفوس إكليلها الأبدي وأمجادها السماويّة.
ثانيًا: العجيب أن الشريعة حسبت هؤلاء المجاهدين الذين صارعوا مع الخطيّة وغلبوا أنهم في حالة نجاسة، يلزمهم أن تغتسل ثيابهم في اليوم السابع ليدخلوا المَحَلَّة. كأن الرب أراد أن يؤكد أن جميع المجاهدين- مهما بلغت قامتهم الروحيّة- يتعرّضون للضعف، وهم محتاجون إلى التستر في دم السيد المسيح المطهّر من كل خطيّة. إنهم وإن حُسبوا أبطالاً لكن دخولهم المَحَلَّة لن يكون قانونيًا إلاَّ خلال السيد المسيح الذي يطهّر البشريّة من كل نجاسة.
6. توزيع الغنائم:
يُلاحظ في توزيع الغنائم الآتي:
أولاً: نصف الغنائم تُوزع على رجال الحرب (12.000) بينما النصف الآخر على بقية الشعب (أكثر من 600.000 رجل- 12.000)، وكأن رجل الحرب الغالب يأخذ أكثر من (50) ضعفًا مما يأخذ الإنسان العادي. هكذا يكلل الله المجاهدين الغالبين بامتيازات خاصة، إذ يقول الرب نفسه: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). ويقول الرسول بولس: "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد" (1 كو 15: 41). وقد رأينا ذلك الأمر واضحًا حتى في تقسيم أرض الموعد (راجع تفسير عدد 26: 55).
ثانيًا: مع أن الغنائم وُزعت عليهم كمكافأة إلهيّة، لكن التزم الكل أن يقدم منها زكاة أو رفائع للرب (ع 28). فالمجاهدون الغالبون يقدمون نفسًا عن كل خمسمائة نفس، وحيوانًا عن كل خمسمائة حيوان، أما البقية فتقدم واحد عن كل خمسين. هكذا في نصرتنا ونحن نتقبل هبات إلهيّة نقدم له من هباته تقدمات حب له، علامة الحب المتبادل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العطاء هنا تاكيد أن القيادة الحقيقيّة في هذه الحرب كانت للرب نفسه، هو الذي غلب بهم، فنقدم نصيبه في الغنيمة لكهنته وخدام بيته. هنا رقم (500)، ورقم (50) يُذكِّرنا بالمثل الذي قاله السيد المسيح عن الدائن الذي سامح المدينان، الأول عليه خمسمائة والثاني خمسون دينارًا (لو 7: 41-42)، فالأول يحب الدائن أكثر. هذان الرقمان كما سبق فقلنا[286] يشيران إلى الحريّة، حيث في سن الخمسين يتحرر اللاوي من خدمة المسكن المنظور ليستعد للمسكن غير المنظور، وفي يوم الخمسين حلّ الروح القدس ليهب البشريّة الحريّة من الخطيّة في استحقاقات الدم، وفي اليوبيل (السنة الخمسين) تتحرر الأرض ويتحرر العبيد ويتحرر الإنسان من كل دينونة الخ...
إذن ما يدفعه هؤلاء إنما يجعلهم أحرارًا في تصرفهم فيما تبقى لهم.
ثالثًا: شملت الغنائم أنفسًا بشريّة (نساء وأطفال) مع حيوانات إشارة إلى أسر كل فكر فينا إلى طاعة المسيح (2 كو 10: 5). ما كان تحت سلطان ملوك مديان يُنزع منهم ليصير تحت قيادة السيد المسيح نفسه.
رابعًا: أخذ موسى وألِعازار الذهب وأتيا به إلى خيمة الاجتماع تذكارًا للشعب أمام الرب (ع 54). إن كان الذهب يشير للحياة السماويّة فإنه وحده دون غيره من الغنائم يبقى في حضرة الرب، لأن كل ما هو ليس سماوي، حتى وإن كان عطيّة من قِبَل الله سينتهي أمام الفكر السماوي والحياة السماويّة التي تعمل فينا فهي تبقى لنا أمام الرب تشهد عن غلبتنا ونصرتنا لحسابه.
الأصحاح الثاني والثلاثونأرض جلعاد
إذ نُصبت خيام الشعب في سهول موآب تطلَّع سبطا رأوبين وجاد إلى أرض جلعاد فاشتهيا أن يملكاها لأنها أرض رعي وهما سبطان يملكان ثروة عظيمة من الأغنام.
1. طلب أرض جلعاد 1-5.
2. تأنيب موسى لهما 6-15.
3. التزامهما بالجهاد مع إخوتهما 16-27.
4. وصيّة موسى عنهما 28-33.
1. طلب أرض جلعاد:
إذ استولى الشعب على منطقة شرقي الأردن في طريقهم لعبور الأردن والتمتع بأرض الميعاد طلب سبطا رأوبين وجاد أن يمتلكا هذه الأرض ولا يعبرا الأردن مع بقية الجماعة (ع 5) ويشتركا معهم في أرض الموعد. وربما طلب أيضًا معهما نصف سبط مَنَسَّى نفس الأمر.
أما عن جلعاد، فيرى البعض أنها مشتقة عن العربية وتعني قاسي أو خشن[287]، ويرى البعض أنها تعني "رجمة الشهادة" (تك 31: 47) حيث أقام هناك يعقوب رجمة علامة العهد الذي قطع بينه وبين خاله[288]. تحمل جلعاد معنى واسع يشمل كل المنطقة شرق الأردن (تث 34: 1، يش 22: 9، قض 20: 1، 2 صم 2: 9، 1 مل 5: 17، 24-27). أما جلعاد بمفهوم أكثر تحديد فهو منطقة جبليّة شرق الأردن تشمل حاليًا البلقاء الحديثة، غرب عمون عند حدود حشبون تقريبًا من جهة الجنوب وحدود يرموك من جهة الجنوب. يبلغ ارتفاعها حواي "2000" قدم فوق مستوى البحر، تشمل في بعض المناطق غابات وأيضًا حقول ووديان ومجاري مياه. تصلح للرعي حتى شبَّه العريس عروسه بقطيع معز رابض على جبل جلعاد (نش 4: 1، 6: 5). تشتهر بنوع من الأشجار يخرج منه مادة صمغيّة تسمى بلسان جلعاد ذات خواطر طيبة (إر 8: 22، 46: 11) قيل أن عصيره كان يُستخدم كعلاج للالتهابات وإن قيمته كانت مرتفعة جدًا حتى أنه في زمن الإسكندر كانت قيمته تقدر بضعفي وزنه من الفضة وجاء في سفر التكوين ( 37: 25) أنه يمثل تجارة هامة. حينما يتحدث الأنبياء عن إصلاح حال إسرائيل الجديد في العصر الماسياني يذكرون جلعاد كشبع لنفسه (إر 50: 19، ميخا 7: 14، زك 10: 10).
نعود إلى سفر العدد لنرى سبطي رأوبين وجاد اشتهيا هذه الأرض مقدمان لموسى النبي وألِعازار رئيس الكهنة ورؤساء الجماعة هذا التعليل: عطاروت وديب ويعزير ونمرة وحشبون وألِعالة وشَبام ونبو وبَعون، الأرض التي ضربها الرب قدام بني إسرائيل.
1. "حشبون" اسم موآبي يعني "حشبان" أو "تدبير"، لا تزال تُعرف باسم حسبان، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بن أرنون ويبوق، على بُعد حوالي سبعة أميال ونصف شمال ميدَبَا. يوجد هناك خزان مياه عظيم شرقي خرائب المدينة، ربما يكون إحدى البِرَك التي كانت خارج أسوار المدينة (نش 7: 4).
"هي أرض مواشٍ ولعبيدك مواشٍ... إن وجدنا نعمة في عينيك فلتعطِ هذه الأرض لعبيدك ملكًا ولا تُعبِّرنا الأردن" [5]. لقد أرادوا امتلاك المنطقة ببلادها، خاصة البلاد التالية:
أ. عطاروت: اسم عبري يعني "أكاليل" أو "تيجان[289]". وربما يعني "حظيرة غنم[290]". غالبًا هي خربة عطاروس الحالية، على المنحدر الغربي من جبل عطاروس، تبعد ثمانية أميال شمال غرب ديبون (ذيبان)، وثلاثة أميال شمال شرق فخاروس التي استشهد فيها القدِّيس يوحنا المعمدان.
ب. ديبون: اسم موآبي يعني "انحلال" وهي مدينة استولى عليها سيحون ملك الأموريّين من موآب (عدد 21: 26-30)، تسمى بالعربية ذيبان، وهي خربة تبعد ثلاثة أميال شمال نهر الأردن وميلان شمال غرب عروعير وأربعون ميلاً جنوب عمان في عام 1868م. وجد في خرائبها حجر موآب المشهور.
ج. يعزير: تعني "معين". أخذ سبط جاد هذه المدينة (يش 13: 25) وأعادوا بناءها، صارت مدينة للاويين (يش 21: 39، 1 أي 6: 81). استولى عليها بنو موآب (إش 16: 8-9، إر 48: 32) وأعادها يهوذا المكابي من العمونيّين (1 مل 5: 8). عرفت يعزير بكرومها (إش 16: 8، إر 32: 38). بحسب يوسابيوس تبعد يعزير "10" أميال رومانيّة غرب ربة عمون و"15" (شمال) حشبون.
د. نمرة: أو بيت نمرة، وتعني "بيت النمر[291]". وهي تل البليبل بالقرب من تل نمرين، تبعد عشرة أميال إلى الشمال من البحر الميت وثلاثة أميال إلى الشرق من مجرى الأردن.
هـ. ألعالة: كلمة عبريّة تعني "الله عال"، أعاد بناءها سبط رأوبين، وقد سقطت في يد بني موآب (إش 15: 4، 16: 9، إر 48: 34). خربها تدعى "العال" على قمة تل يبعد حوالي ميل شمال حشبون.
و. شبام: ومونثا "سبمة" (32: 38)، ويعني "بارد أو باردة"، صارت من نصيب رأوبين (يش 33: 19) واستولى عليها بنو موآب. عرفت بكرومها (إش 16: 8-9، إر 48: 32). حسب القدِّيس ﭽيروم تبعد حوالي نصف ميل من حشبون. حاليًا تسمى قرن الكبش بين حسبان ونبو، وتبعد ثلاثة أميال شمال شرق صياغة على وادي سلامة.
ز. نبو: كلمة أشورية تعني "مذيع[292]"، وهو اسم إله بابلي يسيطر على الأدب والعلم، ابن بعل مردوخ ورسوله، الذي يفسر إرادته للقابلين للموت. أما المدينة التي تحمل هذا الاسم فتقع على جبل نبو أو بجواره، الجبل الذي وقف عليه موسى النبي ليرى منه كنعان (تث 34: 11)، تبعد المدينة خمسة أميال جنوب شرقي حسبان، خاليًا هي خربة المخيط. بناها سبط رأوبين أي أعادوا بناءها، وبحسب ما جاء في الحجر الموآبي أن ملك موآب استولى عليها. وقد ذكرت ضمن مدن موآب في النبوات ضد بني موآب (إش 15: 2، إر 48: 1، 22).
ح. بلعون: أو بعل معون، أو بيت بعل معون (يش 13: 17)، أو بيت معون (إر 48: 23)، وتعني "بعل المسكن". حاليًا تدعى معين تبعد "9" أميال جنوب غربي حسبان، وحوالي "5" أميال جنوب غربي ميدَبَا (1 مل 9: 36).
لماذا أراد سبطا رأوبين وجاد ونصف سبط مَنَسَّى أرض جلعاد؟
أولاً: السبب الواضح هو اشتياقهم لهذه الأرض لما اتسمت به من صلاحية للرعي، وقد ملك سبطا رأوبين وجاد مواشي وفيرة جدًا، فأحسوا أنهم أحوج إلى هذه الأرض من غيرهم. إنها "شهوة العيون وتعظم المعيشة" (1 يو 2: 6) اللتان أفقدتا السبطين تطلعهما إلى الأرض التي وُهبت للجماعة كلها من قِبَل الرب، تفيض لبنًا وعسلاً. اختار السبطان بمنظار بشري ولم يدركا أنهما بهذا ينالان أرضًا بلا حدود طبيعيّة تعرضهما لهجمات الأعداء حتى اضطر إخوتهما للتدخل لإنقاذهما (1 صم 11، 1 مل 22: 3) بجانب بعد الأرض عن الجماعة فصارا كمن في عزلة.
يتطلّع الإنسان بمنظار بشري ضعيف وقصير المدى فيشتهي لنفسه أمورًا قد تضره وتحرمه من بركات روحيّة وزمنيّة في نفس الوقت.
ثانيًا: لعل السبب النفسي الخفي لاختيار هذا الموضع هو شعور رأوبين بن يعقوب البكر أنه فقد بكوريته، وأيضًا جاد الذي هو بكر من زلفة الجارية، وإحساس مَنَسَّى أن أخاه الأصغر منه "أفرايم" يفوقه في البركة... هؤلاء الثلاثة أرادوا بطريق أو آخر تعويض فقدانهم البكوريّة فاشتهوا التمتع ببكوريّة النصرة مع أنها خارج أرض كنعان، وبعيدة عن الخيمة.
ثالثًا: يرى العلامة أوريجينوس أن هناك سرًا خفيًا في اختيار هؤلاء الثلاثة لأرض جلعاد التي شرقي الأردن بينما يتمتع تسعة أسباط ونصف بأرض الموعد بعد عبورهم نهر الأردن وانتصارهم على أكثر من ثلاثين ملكًا. إنه يرى في المجموعة الأولى صورة حيّة لكنيسة العهد القديم التي كانت ولا تزال جزءً لا يتجزأ من كنيسة الله الواحدة لكنها ليست في غنى بركات كنيسة العهد الجديد التي عبرت مياه المعموديّة المقدسة وحملت في وسطها المقدسات. إنها صورة رائعة للجنس البشري المؤمن، جزء نال نصيب خلال الناموس (موسى) حيث تمت الغلبة على يديه أي في أيام قيادته، أما الجزء الأعظم فقد تحقق على يدي يشوع (يسوع) الذي دخل بهم إلى الأرض عينها التي تفيض عسلاً ولبنًا. الأولون أبكار لكنهم أقل أصالة فنالوا ميراث موسى، أما الآخرون فنالوا ميراث يشوع (المسيح ربنا). لقد سبقت كنيسة اليهود كنيسة العهد الجديد لكنها لم تنعم ما تمتعت به الأخيرة، لأن الأصغر في ملكوت السموات أعظم من يوحنا المعمدان (مت 11: 11).
يقول العلامة أوريجينوس: [لاحظ بكل دقة السبب الذي لأجله الوارثون القدامى يأخذون نصيبهم خلف نهر الأردن على حدة من الآخرين؛ فقد قيل لهم أن مواشٍ كثيرة وافرة جدًا (عد 32: 1-4). هذا هو السبب الذي لأجله لم يستطع رجال العهد القديم البلوغ إلى ميراث الأرض التي تفيض لبنًا، وتفيض عسلاً، أي تشرق بأشعة عسل بجانب الأرض الأخرى. هذا هو السبب الذي لأجله لم يتمكنوا من إدراك "الكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14)، إذ كان لهم مواشٍ كثيرة وافرة جدًا. فلا يستطيع الإنسان الطبيعي أن يقبل ما لروح الله، لأن عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه (1 كو 2: 14)... فحصل على نصيبه من الميراث خارج مجاري مياه الأردن وصار غريبًا عن الأرض المقدسة[293]].
لقد ركَّز العلامة أوريجينوس على وجود مواشي كثيرة وافرة جدًا إشارة إلى ارتباط شعب العهد القديم بالأمور الجسديّة الملموسة فلم يقدروا أن ينعموا بكمال سرّ العهد الجديد، بل نظروه خلال الظلّ والرمز من بعيد، أما رجال العهد الجديد فمعهم مواشي لكنها لا تعوقهم بل انطلقوا بمواشيهم وقطعانهم كما بنسائهم وأطفالهم ليعبروا الأردن ويتمتعوا بالمواعيد المقدسة، فتقدست أجسادهم (النساء) وثمارها (الأطفال) وعواطفها (المواشي) وكل طاقاتها فلا تعتزل الأنفس بل ترتبط معها في العبور، وترث الأجساد بركات سكنى الروح القدس فيها وتقديسها كمسكن للرب.
2. تأنيب موسى للسبطين:
لم يسترح موسى النبي لهذا الطلب بل وبَّخهم توبيخًا قاسيًا ومرًا، وإن كان قد دخل معهم في حوار عملي انتهى بمراضاة هؤلاء الرجال لكن بغير مجاملة على حساب الحق وبنيان الجماعة. هنا يظهر موسى النبي حتى في أيام شيخوخته الرجل الحازم الجاد، المملوء مرونة، يجابه المشاكل بقلب منفتح لا لفرض إرادته بروح السيطرة بل ليجد حلولاً بروح الحب والحكمة، خاصةً وأنه كان قد بلغ 120 سنة، ويُعرف عن الشيوخ عدم المرونة وتمسكهم برأيهم وخبرتهم الخاصة... أما هذا القائد العجيب فكان مرنًا حتى آخر نسمة في حياته.
أما سرّ توبيخهم وانتهارهم فهو:
أولاً: ختم الرجال كلماتهم هكذا "ولا تُعبِّرنا الأردن" [5]، الأمر الذي أحزن قلب هذا القائد الذي قضى أربعين عامًا في مرارة يشتهي أن يدخل هو وكل شعبه إلى أرض الموعد. فإن كان قد حرم الجيل السابق بسبب تذمرهم المستمر، وحُرم وهو وهرون من الدخول بسبب ضعفهما عند ماء المخاصمة إذا بهؤلاء يشتهون عدم الدخول وهم على الأبواب ما أقسى على قلبه أن يرى أبناء الموعد يحتقرون الموعد، وأصحاب الميراث يرفضون ميراث الله من أجل شهوة قلبهم الزمنيّة!
ثانيًا: اهتم الرجال بمواشيهم وقطعانهم فوجدوا في جلعاد مرعى خصبًا لها ولم يهتموا لا بمواعيد الله لهم ولا بمساندة إخوتهم في جهادهم القادم بعد عبور نهر الأردن. لقد أدرك موسى النبي أن الجانب الحيواني في حياتهم- شهوات الجسد- أعمت أعينهم عن رؤية نعم الله عليهم وأفقدتهم الاهتمام بإخوتهم.
ثالثًا: لعله قد أخفى الله عن نبيه العظيم موسى إدراك ما يحمله هذا العمل من رمزيّة بأنهم يمثلون رجال العهد القديم بينما التسعة أسباط ونصف الذين يعبرون إلى ما بعد الأردن يمثلون رجال العهد الجديد.
كان موقف موسى النبي مملوء حكمة ففي توبيخه لهم أوضح لهم سبب التوبيخ، طالبًا منهم ألاَّ يستريحوا في أرض جلعاد مع نسائهم وأطفالهم ومواشيهم بينما ينطلق إخوتهم للحرب (ع 6)، وألاَّ يمتثلوا بآبائهم الذين سمعوا للعشرة جواسيس في عدم إيمان بكلمات الرب فحمي غضب الرب عليهم وفنيَ جيلهم، فيزيدون من حمو غضب الرب (ع 14). يفقدوا إخوتهم ويفقدون الرب في وقتٍ واحد!
3. التزامهما بالجهاد مع إخوتهما:
أمام كلمات موسى النبي الحازمة والحكيمة والواضحة، إذ لا تحمل تحيّزًا ولا تسلطًا اضطروا إلى تقديم عرض جديد، جاء فيه:
أولاً: تراجعهم في عرضهم الأول من جهة عدم عبورهم الأردن، بل طلبوا أن يتقدموا صفوف الحرب: "أما نحن فنتجرد مسرعين قدام بني إسرائيل حتى نأتي بهم إلى مكانهم" [16]. لم يقفوا عند حدّ المشاركة في الجهاد بل أرادوا أن يتقدموهم في الجهاد.
ثانيًا: قرروا ألاَّ يرجعوا إلى بيوتهم حتى يقتسم بقية الأسباط أراضيهم، أي حتى تستريح نفوسهم من جهتهم (ع 18).
بهذا استراح قلب موسى النبي وقَبِل عرضهم الجديد، بل استراح قلب الكنيسة من جهتهم إذ صاروا يمثلون بحق رجال العهد القديم المملوئين إيمانًا، إن كانوا لم ينطلقوا إلى أرض الموعد بنسائهم وأطفالهم ومواشيهم لكنهم عدوا كرجال حرب يسندون إخوتهم رجال العهد الجديد. لقد عبروا إلينا ليسندوننا خلال نبواتهم ورموزهم والناموس الذي تسلموه. بحق تقدم آباء العهد القديم وأنبياؤه الموكب ليعلنوا الخلاص خلال ربنا يسوع المسيح!
كانت إجابة موسى بالموافقة عجيبة، إذ لم يردد ما قالوه أنهم يتجردون مسرعين أمام بني إسرائيل (ع 16) بل أكد أكثر من مرة "إن تجردتم أمام الرب للحرب" [20]... إنها ليست مجرد مساندة لإخوتكم لكنها إعلان خضوع وجهاد روحي في الرب وأمامه. وحسب عدم التنفيذ هو خطيّة موجهة ضد الرب نفسه (ع 23)... فعادوا يؤكدون التزامهم بالعرض الجديد (ع 27).
4. وصيّة موسى عنهما:
إذ يعلم موسى أن وقت انحلاله قد حضر سلَّم الوصيّة في أيدي ألِعازار رئيس الكهنة ويشوع ورؤس آباء الأسباط (ع 28) مكررًا بكل وضوح كل ما تعهد به الرجال وقد ظهر بينهم نصف سبط مَنَسَّى لأول مرة.
بنى هؤلاء الأسباط المدن وحصنوها لكي يتركوا فيها النساء والأطفال مع المواشي حتى يكمل رفقاؤهم جهادهم ويعودون إليهم. وقد غيَّر رأوبين أسماء ثلاث مدن عند إعادة بنائها نبو وبعل وسبمة، لأن نبو بعل أسماء إلهين وثنيين، وكانت الوصيّة الإلهيّة "لا تذكروا اسم آلهة أخرى ولا يُسمع من فمك" (خر 23: 13). أما سبمة فكما رأينا تعني "باردة". فإنه لا يليق بهم أن يسكنوا في حياة باردة بل أن تلتهب حياتهم بنار الحب الإلهي!
الأصحاح الثالث والثلاثونملخص الرحلة
لقد صدر الأمر الإلهي لموسى النبي أن يسجل صورة مختصرة للرحلة منذ انطلاقها من أرض مصر حتى بلغت عربات موآب شرقي الأردن استعدادًا للدخول إلى أرض الموعد.
أ. الأمر الإلهي بتسجيل الرحلة 1-2.
ب. محطات الرحلة 3-49.
جـ. الاستعداد للعبور 50-56.
أ. الأمر الإلهي بتسجيل الرحلة:
"هذه رحلات بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر بجنودهم عن يد موسى وهرون. وكتب موسى مخارجها برحلاتهم حسب قول الرب" [1-2].
لقد سبق فسجل موسى هذه الرحلات بشيء من التفصيل في سفري الخروج والعدد، فما الحاجة لهذا الملخَّص المقتضب للرحلة؟
أولاً: إن ما فعله موسى النبي لم يكن من ذاته بل يقول "حسب قول الرب"، أي ما جاء استجابة لأمر إلهي. ولعله كما أمر الله بالإحصاء مرتين، الإحصاء الأول في بدء الرحلة في السنة الثانية في بدء الشهر الثاني، والثاني قبيل دخولهم أرض الموعد، هكذا سمح بتسجيل الرحلات مرتين، المرة الأولى يقدم تفاصيل معاملات الله مع الإنسان، والمرة الثانية أيضًا قبيل دخولهم أرض الموعد من أجل التذكرة. وكما يقول موسى النبي: "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يُذلك ويُجرِّبك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا" (تث 8: 2).
في التسجيل الأول كان يقدم لنا تفاصيل معاملات الله معنا وتذمرات الإنسان ضده لكي يبعث فينا روح الجهاد والغلبة، فنكون دائمًا في تحرك مستمر بغير توقف مجاهدين من أجل بلوغ أورشليم العُليا، أما التسجيل الثاني فيمثل أنشودة أو تسبيحًا للرب.
ثانيًا: في هذا السجل المقتضب ظهر تحرك الإنسان في بريّة هذا العالم، تارة يتقدم خطوات وأخرى يتراجع، لكنه مادام تحت قيادة الله نفسه المظلّل عليه كسحابة والمنير له الطريق كعمود نار، فإنه حتمًا يبلغ هدفه ويحقق رسالته. حقًا إن طريق الله هو أكثر الطرق أمانًا حتى وإن كان ليس أقصر الطرق ولا أسهلها.
ثالثًا: من يتطلّع إلى هذا الأصحاح يظن لأول وهلة أنه يحوي أسماء بلاد وسهول وتلال وجبال مع ذكر لآبار ونخيل... أمور قد يظنها البعض لا نفع لنا بمعرفتها. لكن العلامة أوريجينوس يُعلِّق على ذلك في حديث طويل جدًا نقتطف منه العبارة التالية: [الدرس الذي بين أيدينا يبدو صعب الفهم وبلا فائدة للقراءة. لكننا لا نستطيع القول بأنه يوجد في كتابات الروح القدس شيء بلا نفع وزائد، حتى وإن بدا بالنسبة للبعض غامضًا. إنما يلزمنا بالحري أن نوجه عيون ذكائنا نحو (الرب) الذي أمر بالكتابة، ونطلب منه المعنى[294]].
في اختصار يرى العلامة أوريجينوس أن البعض يتطلَّعون إلى هذا العرض كشيء بلا نفع وزائد، فيكون مثلهم مثل الأسد الذي لا يأكل العشب بل اللحوم فيرى في وجود العشب على الأرض أمرًا لا نفع منه، بينما الماشية وهي تأكل العشب تجد شبعها في العشب بينما تظن في غيره من الأطعمة أنه بلا نفع. هكذا للإنسان طعام، وللحيوانات المفترسة طعام والحيوانات البريّة طعام والطيور طعام، فالأطعمة متنوعة لإشباع الكل. هكذا في الكتاب المقدس نجد أطعمة كثيرة تشبع هذا وذاك، فما يظنه إنسان أنه بلا نفع يجد غيره فيه لذته وشبعه. وقد قدَّم العلامة أمثلة لنفع هذا الأصحاح كعمل رمزي لخلاصنا ولتحريرنا من أرض العبوديّة إلى كنعان السماويّة، إذ يحمل كل اسم مدينة أو جبل أو سهل إلخ... مفهومًا روحيًا في طريق خلاصنا.
وصف موسى النبي الرحلة بقوله: "خرجوا من مصر بجنودهم عن يد موسى وهرون". لقد خرجوا كرجال حرب روحيّين بقيادة موسى وهرون ليسوا هاربين في عجلة إنما تحت قيادة الله نفسه خلال وصيته (موسى) وذبيحته المقدسة (هرون الكاهن)، إذ يقول إشعياء النبي: "لأنكم لا تخرجون بالعجلة ولا تذهبون هاربين، لأن الرب سائر أمامكم وإله إسرائيل يجمع ساقتكم" (إش 52: 12). لقد ظهروا كهاربين لكن خروجهم في أعماقه يحمل خطة إلهيّة تسلّم الرب تنفيذها بنفسه.
ب. محطات الرحلة:
سجّل لنا موسى النبي "42" محطة تنتهي بدخولهم أرض الموعد. هذا يذكِّرنا بقول الإنجيلي: "فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً" (مت 1: 17). وكأن الأجيال من إبراهيم أب الآباء إلى السيد المسيح "42" جيلاً، مطابقًا عدد المحطات التي عبر بها الشعب قديمًا في انطلاقه من مصر إلى أورشليم. كأن هذه المحطات تمثل الخلاص وتاريخه خلال البشريّة. لقد خرج بنو إسرائيل من مصر بجنودهم، أي يحملون قوة للجهاد الروحي، هذه القوة في حقيقتها هي السيد المسيح الذي عبر بالبشريّة خلال التاريخ كسرّ قوتهم حتى ظهر بتجسده بعد اثنين وأربعين جيلاً.
هذا من جهة العدد، أما من جهة أسماء المحطات، فتحمل عملاً رمزيًا مستمرًا برفع النفس من حالة العبوديّة للعبور بها إلى أعالي السموات. لهذا يسميها العلامة أوريجينوس [مركبة من كلمات غامضة]. هذه المركبة تعبر بنا من قوة إلى قوة (مز 84: 7) ومن مجد إلى مجد، يتخللها آلام كثيرة وتجارب تزيد من قوتنا الروحيّة وأمجادنا... وفيما يلي ملخص لأسماء المحطات الاثنين والأربعين الواردة في هذا الأصحاح وما تحمله من معاني رمزيّة.
1. رعمسيس: اسم مصري قديم يعني "ابن إله الشمس (رع)"، كما يعني "بيت رمسيس"، إذ بناها رمسيس الثاني كعاصمة للدلتا، في حدود مصر الشرقية وسماها باسمه. يظهر من (تك 47: 11) إنها في أرض جاسان، تسمى حاليًا "صَالحجر" أو "صان الحجر". الأرجح أنها إحدى مدن المخازن التي بناها الإسرائيليّون في مصر (خر 1: 11).
يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني "بلد الفساد[295]" أو "اضطراب مزعج" أو "اضطراب بالبرغوث[296]". تبدأ الرحلة بالانطلاق من موقع الفساد، مكان العثرة والخطيّة، حيث تكون النفس في حالة اضطراب. في هذا الموضع يدفن الأشرار أبكارهم (ع 4) ويفقدون سلامهم، لهذا يهرب المؤمنون منها. يقول العلامة أوريجينوس: [كل ما في العالم يسقط فريسة للاضطراب والقلق والفساد، الأمور الممثلة في البرغوث. لهذا يجب على النفس ألاَّ تمكث فيه (محبة العالم وإغراءاته) بل ترحل منه إلى سكوت[297]].
2. سكوت: اسم عبراتي يعني "مظلات" أو "خيام"، تقع غالبًا في وادي الطميلات، ظن البعض أنها المدينة المحيطة بفيثوم، لكن الرأي الأغلب أنها تل المسخوطة في نهاية شرق وادي الطميلات[298].
من الناحية الرمزيّة إذ تنطلق النفس من رعمسيس حيث الاضطراب الداخلي تنطلق إلى سكوت (الخيام) لتعيش متغربة ومتنقلة لا تستريح حتى تبلغ حضن الآب السماوي مستقرة في المسيح يسوع ربها. يقول العلامة أوريجينوس: [إذ تنفض عنك صدأ الفساد وتبتعد عن مجال الرذيلة أسكن في الخيام، هذه التي لا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها (2 كو 5: 4). يسكن في الخيام من يركض نحو الله حرًا بلا قيود ولا أحمال[299]]. وأيضًا: [أول تقدّم للنفس هو أن تتخلص من الاضطراب الأرضي وتعرف أنه يجب عليها أن تسكن في الخيمة كالبدو الرُحّل، فتكون كجندي تحت السلاح مستعد لمواجهة الأعداء (الروحيّين) ومتيقظ وغير مرتبك[300]].
3. إيثام: شرقي مدينة سكوت (تل المسخوطة) على طرف البريّة في نهاية الطرف الشرقي لوادي الطميلات. أمام بريّة إيثام فتقع شرقي إيثام. ويظن أن إيثام كانت بالقرب من مدينة الإسماعيليّة الحالية.
يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة "إيثام" تعني "علامة[301]"، أو "مضيق[302]". وهي المحطة الثالثة في الرحلة، لهذا يرى العلامة أوريجينوس أنها تحمل رمز قيامة المسيح في اليوم الثالث. فعند بلوغهم هذه المحطة جاءوا إلى حافة البريّة، واستطاعوا أن يتمتعوا بظلّ الحياة المُقامة مع السيد المسيح، إذ رأوا الله يظللهم كسحابة في النهار، وينير لهم الطريق ليلاً كعمود نار. هذه العلامة التي لهذه الرحلة، أو هذه الرؤيا... إنها رحلة القيامة مع السيد المسيح التي سبق لنا الحديث عنها[303].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على معنى إيثام كمضيق بقوله: [يجب علينا في المضيق أن نحتمل مصارعة عظيمة وإعلان قتال ضد الشيطان وسلاطينه المضادة. هكذا حارب إبراهيم في وادي (عمق) السديم (تك 14: 8) ملوكًا أشرارًا وغلبهم. إذن سياحتنا هي نزول إلى سكان الأعماق والأماكن السفليّة (المضيق) لكي لا نبطيء هناك إنما لكي نحصل على الغلبة].
إذن دخولنا إيثام إنما هو دخول إلى الحياة المُقامة في المسيح يسوع ربنا حيث نغلب به إبليس الساكن في الأعماق السفليّة أو المضيق.
4. فم الحيروث: أو فيهوحيروث: يظن الأب هابيل Père Abel أنها في مستنقعات جنفه Jeneffeh على حافة الممر بين الجبل والبحيرة المُرَّة[304]. تقع بين مجدل والبحر أمام بعل صفون (خر 14: 2، 9). وقد سبق أن عرضنا التفسير الرمزي لهذا الاسم وموقعه، إذ يرى العلامة أوريجينوس أن "فم الحيروث" تعني "الصعود القاسي أو القفر"، وإنها تقع بين مجدل التي تعني "برج" والذي يشير إلى ضرورة حساب نفقته (لو 14: 28)، والبحر يشير إلى أمواج التجارب المستمرة، أما كونها أمام بعل صفون[305] التي تشير إلى "الصعود بسرعة أو بخفة"، إنما يعني أن الإنسان إذ يدخل البريّة يلزمه أن يقبل الصعود القاسي أو القفر ، واضعًا أمام عيني قلبه حساب النفقة، متقبلاً التجارب غير المنقطعة، مسرعًا في الجهاد غير متباطيء في حياته الروحيّة[306].
هذا ملخص ما قدمه لنا أوريجينوس في عظاته على سفر الخروج لكنه يعود فيقدم لنا تفسيرًا آخر أثناء عظاته على سفر العدد. إنه يرى في "فم الحيروث" معنى "فم الكفور"، أي مدخل أو فم البلاد الصغيرة التي تحسب كفورًا لا مدنًا. وكأن "فم الحيروث" تعني الدخول إلى البلاد الصغيرة الضيقة حتى لا يوجد ترف المدن الكبرى بل التقشف والزهد. فإن كانت هذه هي أول محطة في البريّة بعد الخروج من إيثام آخر حدود مصر في ذلك الوقت فإنه يجب علينا أن نصعد إلى فم الضيق والتعب والألم، نصعد خلال الكفور الضيقة متجهين نحو مدينة الله العظمي، أورشليم العُليا. أما كونها تقع بين مجدل والبحر، فإن "مجدل" تعني "برج" كما تعني "مجد"، فالمؤمن يدخل إلى الضيق ناظرًا إلى الأمجاد السماويّة كدافع لجهاده المستمر غير متخوِّف من أمواج بحر هذا العالم.
5. مارَّة: اسم عبراني يعني "مرّ" أو "مرارة". وهي عين مياه مُرَّة جدًا بلغها الشعب بعد عبورهم بحر سوف حوالي ثلاثة أيام. مرارة المياه جعلت الشعب يدرك مدى صعوبة الرحلة فتذمروا، ولكن الله أمر موسى النبي أن يلقي بخشبة في المياه فتصير حلوة (خر 15: 23-26). تقع هذه العين في بريّة شور في الطريق إلى سيناء، غالبًا هي عين حوارة، تبعد حوالي "47" ميلاً من السويس، وبضعة أميال قليلة من البحر الأحمر تفصلها عنه سلسلة تلال. عمق العين حوالي "25" قدمًا وإن كان الاتساع يزداد في العمق. تربة هذه المنطقة بها نسبة عالية من الصودا ومياهها مالحة ومُرَّة[307].
إذ دخلوا في بريّة إيثام ثلاثة أيام التقوا بالمياه المُرَّة التي صارت خلال الخشبة عذبة ومروية، إشارة إلى تمتع المؤمن بالحياة المُقامة في المسيح يسوع خلال دفنه في مياه المعموديّة المقدسة ثلاث مرات باسم الثالوث القدوس، هكذا يتحول الدفن إلى قيامة، ويصلب الإنسان القديم بأعماله المُرَّة ويظهر الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. هنا أيضًا يشرب المؤمن مياه الناموس فلا يجدها مُرَّة خلال الحرف القاتل بل عذبة ومروية خلال نعمة الصليب الخشبة المحيية[308]
6. إيليم: اسم عبري يعني أشجارًا ضخمة مثل السنديان والنخيل والبطم. تُعرف حاليًا بواحة وادي غرندل، على بعد "63" ميلاً من السويس، بها أشجار نخيل ونبات الطرفاء (عبل) وشجر السنط. عبر إليها الشعب القديم بعد مارة فوجدوا بها "12" عين ماء و"70" نخلة (خر 15: 27؛ 16: 1)، فكان ذلك إشارة إلى انطلاق النفس من مرارة الناحية (مارة) إلى الحياة الإنجيليّة الغنيّة خلال الاثني عشر تلميذًا والسبعين رسولاً. إنها رحلة النفس من حرفيّة الناموس المُرَّة إلى عذوبة الفهم الروحي الإنجيلي. فلا يكفي للإنسان أن يشرب من مياه الناموس حتى بعد تحوله إلى ماء حلو خلال خشبة الصليب إنما يلزمه أن ينهل من المياه الإنجيليّة الرسوليّة ويتمتع بالطعام الجديد[309]
7. شواطيء بحر سوف: "ارتحلوا من إيليم ونزلوا على بحر سوف" (ع 10). قلنا أن سوف تعني "قصب الغاب"، لأن المنطقة الشماليّة للبحر من جانب مصر كان يمثل مجموعة من المستنقعات يكثر حولها قصب الغاب.
إذ بلغ الشعب إيليم وتمتعوا بالحياة الإنجيليّة الرسوليّة التزموا ألاَّ يعبروا بحر سوف مرّة أخرى بل أن ينزلوا على شواطئه. إنهم دخلوه مرة واحدة إشارة إلى المعموديّة التي لن تتكرر حتى إن أنكر المؤمن إيمانه وعاد مرة أخرى بالتوبة، فإنه لا ينزل إليها بل ينزل إلى جوارها خلال التوبة ليستعيد عمله فيها. لهذا يقول الرسول بولس: "لأن الذين استُنيروا مرة (نالوا المعموديّة التي هي سرّ الاستنارة) وذاقوا الموهبة السماويّة وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم (أي لا تُعاد معموديتهم التي هي سرّ تجديد الطبيعة) أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمي: [إننا لا ننال المعموديّة مرتين أو ثلاثة... لأنه يوجد "رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة" (أف 4: 5)، فلا تُعاد إلاَّ معموديّة الهراطقة إذ لا تحسب معموديّة[310]]. ويقول العلامة ترتليان: [لا يمكن إعادة السرّ[311]].
إنهم يعسكرون على شاطيء البحر يذكرون عمل الله العجيب خلال المياه المقدسة، كيف خلصهم من فرعون وحطم الشيطان وكل قواته الشريرة. هذا والوقوف بجوار البحر يُذكِّرهم أيضًا بالأمواج الشديدة التي يتعرضون لها خلال رحلتهم لكنهم لا يخافونها بل يذكرون خلاصهم.
8. بريّة سين: وهي غير بريّة صين. وهي غالبًا كلمة أكاديّة مشتقة من إله القمر "سين". غالبًا مكانها الآن دبة الرملة وهي كومة رمال في الجنوب الغربي من الداخل عند شبه جزيرة عند سفح جبل التيه. فيها أنزل الله المن للشعب لأول مرة.
يرى العلامة أوريجينوس أن "سين" تعني "عليقة" أو "تجربة"، وهو يربط بين المعنيين معًا. فإذ ينزل الإنسان إلى شواطيء بحر سوف يتأمل أعمال الله معه خلال مياه المعموديّة إنما يذكر العليقة التي تشير إلى التجسد الإلهي والصلب والقيامة فينفتح أمامه الرجاء في الخيرات الحقيقيّة، إذ يقول العلامة: [يبدأ الرجاء في الخيرات الحقيقيّة يتبسم لك. لكن من أين يأتي هذا الرجاء؟ إنه في العليقة التي ظهر فيها الرب وتحدَّث مع موسى، وكان ذلك أول ظهورات الله لبني إسرائيل[312]]. ولما كانت "سين" تعني أيضًا "التجربة" فإننا إذ نتطلَّع إلى العليقة يلزمنا أن نميز بين الرؤيا الحقيقيّة التي من الله والرؤيا المخادعة التي يجربنا بها الشيطان، هذا الذي يُحوّل شكله إلى ملاك نور ليخدعنا (2 كو 11: 4). ولهذا عندما رأى يشوع بن نون رؤيا، سأل في الحال: "هل لنا أنت أو لأعدائنا؟" (يش 5: 13). كأن من يبلغ هذه المحطة الثامنة يلزمه أن يحمل روح التمييز ليتقبل الرؤى الإلهيّة ويفرزها، فلا يسقط في تجارب إبليس وفخاخه.
9. دُفقة: اسم عبراني غالبًا يعني "سوق المواشي"، وهي في الطريق بين البحر الأحمر ورفيديم، ربما في سرابية الخادم أو بجوار وادي المغارة[313]. يرى العلامة أوريجينوس أن "دُفقة" تعني في العبريّة "صحة"، فإن النفس التي تدخل إلى بريّة سين وتُمحص بالتجارب ويكون لها روح التمييز الذي يفرز ما هو لله مما هو من الشيطان تُشفى من كثير من الأمراض الروحيّة وتتمتع بالصحة. حقًا إن لكثير من أمراضنا الروحيّة إنما هو ثمرة عدم تمييزنا الروحي.
في دُفقة تدرك النفس مسيحها كطبيب لها فترنم، قائلة: "باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني يبارك اسمه القدوس... الذي يغفر لك ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك" (مز 103: 1-3).
10. ألوش: بالقرب من رفيديم، يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني "أعمال". فإذ تدخل النفس إلى دُفقة أي إلى الصحة الروحيّة، وتُسبح الرب الشافي أمراضها تنطلق للعمل الروحي بفرح بلا ملل، فيقال للمؤمن: "لأنك تأكل تعب يديك، طوباك وخير لك" (مز 128: 2).
11. رفيديم: اسم عبري يعني "متسعات[314]"، تقع بين بريّة سين وسيناء (خر 17: 1، 19: 2). لم يكن فيها ماء فتذمر الشعب على موسى الذي بأمر إلهي ضرب الصخرة بالعصا مرتين فأفاضت ماءً (خر 17: 5-6). وفي رفيديم تمت المعركة ضد عماليق فكان إذ يبسط موسى يديه يغلب شعبه، وإذ يخفضهما ينغلب (خر 17: 8-13). وإليها جاء حمو موسى وسجد للرب مع شيوخ إسرائيل (خر 18: 1-12)، الأمور التي سبق الحديث عنها في دراستنا لسفر الخروج. أما عن موقعها فيُحتمل أن يكون وادي رفايد شمال غرب جبل موسى. هناك يتصل وادي ردوا، وهو مجرى ماء بارد بوادي رفايد حيث توجد واحة عند سفح جبل رفايد[315].
أما التفسير الرمزي لرفيديم ففي رأي أوريجينوس تعني "مديح التمييز"، قائلاً: [من الصواب أن يتبع الأعمال المديح، ولكن أي مديح هو هذا؟ إنه مديح بروح التمييز. فإن النفس تصير مستحقة للمديح حينما يكون لها تمييز صالح، تمييز جيد فتحكم في كل شيء ولا يحكم فيها أحد (1 كو 2: 15)].
12. بريّة سيناء[316]: كلمة "سيناء" مأخوذة عن الكلمة الأكاديّة "سين" إله القمر. ويُلاحظ أن كلمة "سيناء" تُطلق بصورة أعم على بريّة سيناء كما على جبل سيناء الذي يسمى أيضًا جبل حوريب. تبعد هذه البريّة المحيطة بالجبل عن قادش برنيع مسيرة "11" يومًا عن طريق جبل سِعِير (تث 1: 2). هذه البريّة متسعة تكفي أن يعسكر فيها الشعب عند سفح الجبل (خر 19: 20)، وهي ملاصقة للجبل، يمكن للجبل أن يلمسه الشعب (19: 12)، ويمكن للمعسكر أن يرى قمته (19: 16، 18، 20). على هذا الجبل استلم موسى الوصايا العشر وعند سفحه تم العهد بين الله وشعبه (خر 20: 1- خر 24: 8). لم يذكر فيما بعد الكتاب أي زيارة لهذا الجبل سوى هروب إيليا إليه عندما هددته إيزابل الشريرة (1 مل 19: 8).
هناك نظريات كثيرة بخصوص جبل سيناء، فالبعض يراه جبل سريال في وادي فيران، يرجع إلى عهد يوسابيوس المؤرخ، يمتاز بأنه جبل منعزل وعظيم جدًا، يبلغ ارتفاعه "6758" قدمًا، يُرى من مسافة بعيدة، لكن ليس حوله بريّة تتسع لمعسكر الشعب. أما الرأي الأخر فيرجع إلى جوستنيان، حيث يرى أن جبل موسى هو جبل سيناء وهو شديد الانحدار، في أسفله يوجد وادي الراحة الذي يبلغ مساحته حوالي أربعة أميال مربعة تكفي للمعسكر. لهذا الجبل أهميته العظمى فهو الجبل الذي تقدس بلقاء الله مع موسى على قمته ليهبه الوصايا العشر، وفيه وحوله نشأت عدة كنائس مسيحيّة، خاصة دير سانت كاترين الغني بمخطوطاته الأثريّة. في هذا الدير اكتُشفت النسخة السينائية للكتاب المقدس والتي ترجع للقرن الرابع الميلادي.
على أي الأحوال إن رجعنا إلى التفسير الرمزي يقول أن النفس بعد أن تدخل رفيديم وتستحق المديح خلال روح التمييز الصالح يمكنها أن تصعد على جبل سيناء لتلتقي مع إلهها في خلوة مقدسة تتسلّم فيها وصيته وتتعرف على أسراره، وتتمتع بانعكاسات مجده عليها.
13. قبروت هتأوة: موضع ما بين جبل سيناء وحَضَيْروت، على بعد "15" ميل شمال شرقي شيناء. فيها اشتهى الشعب اللحم فأرسل الله لهم السلوى ليأكلوا لحمًا شهرًا كاملاً، وإذ أكلوا بشهوة ضربهم بالوبأ.
"قبروت هتأوة" تعني "قبور الشهوة" أو "قبور الشهوانيّين" (عد 11: 34). يقول العلامة أوريجينوس: [إنها بلا شك الموضع الذي تدفن الشهوات وتبطل، فتنطفيء الرغبات الشريرة كلها، ولا يشتهي الجسد ضد الروح (غل 5: 17) بل نموت عن الناموس بجسد المسيح (رو 7: 14)].
14. حَضَيْروت: ربما هي عين خضراء التي تبعد حوالي "36" ميلاً شمال شرق جبل سيناء، هناك تذمرت مريم وهرون على موسى حيث صارت برصاء (عد 12).
كلمة "حَضَيْروت" تعني "استقرار"، ويرى العلامة أوريجينوس أنها تعني "بناء كامل (مستقر)" أو "تطويب"، لهذا يقول: [لاحظ أيها المسافر تتابع تقدم الرحلة، فإنك إذ تقبر شهوات الجسد وتسلّمها للموت تبلغ عظمة الموضع (الاستقرار) وتنال تطويبًا. حقًا طوبى لنفس التي لا تقهرها أي رذيلة جسديّة[317]].
يرى البعض أنها تعني "ديار" أو "حظائر"، وهو ذات المعنى "استقرار"، فإن النفس لا يمكن أن تستقر وتشعر بالراحة كمن في داره آمنًا ما لم يقبر أولاً بالروح القدس شهوات الجسد وقتلها بالصليب!
15: رِثمة: اسم عبراني يعني "رِثمة" وهو نبات من الشيح ينمو في المناطق الصحراويّة، يؤكل جذوره في المجاعات كما تُستخدم جذوعه وجذوره في صنع الفحم (مز 120: 4). ويرى العلامة أوريجينوس أن الكلمة تعني "رؤيا متممة"، فالنفس التي تقبر الشهوات الجسدانيّة وتستحق التطويب والاستقرار تتمتع برؤيا روحيّة سليمة، تتعرف على أسرار التجسد والتدبير الإلهي بطريقة كاملة وعميقة.
16: رِمُّون فارَص: لعلها "نقب البيار". أما معناها فهو "رمانة الشق أو الثغرة"، أي الرمانة التي تنبت على شق أو ثغرة. ويرى العلامة أوريجينوس أن "فارص" هنا تعني "قطع" أو "شق" بمعنى أنه يليق بالنفس بعد عبورها على رِثمة وتمتعها بالرؤى المتممة أن تقطع الأمور العلويّة السماويّة عن الأمور السفليّة الأرضيّة، تفصل الأبديات عن الزمنيات.
17. لِبْنَة: تعني "أبيض". إذ تدخل النفس إلى رِمُّون فارَص وتنعم بالفصل بين ما هو سماوي وما هو أرضي تختار ما هو سماوي فتنعم بالبياض رمز السماء. فقد رأى يوحنا الحبيب السيد المسيح السماوي رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج (رؤ 7: 14)، ورآه دانيال في ثياب بيض كالثلج (دا 7: 2) وأيضًا في تجليه "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). وفي أحداث القيامة والصعود ظهرت الملائكة بثياب بيضاء (أع 1: 10). وفي الملكوت يظهر الغالبون بثياب بيضاء (رؤ 7: 9) هؤلاء الذين غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14). لهذا يقول دانيال النبي "تتطهرون فتبيضّون" (11: 35).
إذن الدخول إلى لِبْنَة هو قبول الحياة المقدسة السماويّة، ورفض الأمور الدنسة.
18. رِسَّة: ربما كانت في قنديلة الجرافي بين قسيمة والعقبة، شمال غربي جبل روبسة النجين[318]. وهو اسم عبراني يعني "تحطيم أوندي أو مطر"، غير أن أوريجينوس يرى أنه يعني "تجربة منظورة"، هذا يعني المعنى القريب من "التحطيم"، كما يرى أنه يعني "مستحق للمديح". لهذا يقول: [مهما تقدمت النفس فإن التجارب لن تفارقها. واضح أن التجارب تلحق بها كحارس ووقاية لا. فكما أن اللحم يفسد بدون الملح مهما كان نوع اللحم، هكذا تفسد النفس إن لم تملح بتجارب متواصلة، إذ بدونها تتهاون النفس وتتراخى. لهذا السبب قيل: "وكل قربانك من تقادِمك بالملح تُملِّحه" (لا 2: 13). لهذا أيضًا يقول الرسول بولس: "لئلا أرتفع بفرط الإعلانات أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" (2 كو 12: 7). هذه هي التجارب المنظورة التي تجعلنا نستحق المديح[319]].
19. قُهَيْلاتة: يرجح أنها "قنتلة قراية" والتي تُدعى أيضًا "عجرود". حيث توجد بها آبار وخزان ماء، بها ممر يقود إلى بئر معين[320].
"قُهَيْلاتة" اسم عبري يعني "مجمع" كما يعني "رئاسة" أو "عصا[321]". كان دخول النفس إلى رَسَّة أي إلى التجارب لا يضعفها مادامت تحمل السمة السماويّة بل بالعكس يربطها بالأكثر بمجمع السمائيّين ويهبها سلطانًا أعظم، فتصير كملكة، يسيطر على القلب والفكر وكل الحواس، تقبل الفكر الذي تريده وتطرد ما تشاء، تتحكم في كل أعماقها الداخليّة بسلطان. إنها تمسك بعصا التي هي الصليب به تقول في قوة: "قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6: 14). إنها تسمع صوت عريسها يناجيها قائلاً: "جمُلتِ جدًا جدًا فصلُحتِ لمملكة وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14).
في قُهَيْلاتة تدخل النفس إلى مجمع السماء كملكة صاحبة رئاسة ومعها عصا عريسها، سرّ قوتها وجمالها، لتملك معه إلى الأبد.
20. جبل شافَر: يُحتمل أن يكون جبل عرايف الناقة، جنوب قادش. كلمة شافَر تعني "جمال" أو "أناقة". فالنفس التي تدخل إلى قُهَيْلاتة وتُحسب عضوًا في مجمع السمائيّين وتُوهب سلطانًا وعصا الصليب إنما تدخل إلى الجمال السماوي والأناقة على مستوى فائق. إنها تسمع صوت عريسها السماوي "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة" (نش 1: 15)، مؤكدًا إعجابه بها.
ويرى العلامة أوريجينوس أن شافَر تعني "أصوات أبواق"، فإذ تملك النفس مع السيد المسيح إنما تمسك بأصوات البوق التي تشير إلى كلمة الله، التي هي سرّ نصرتها وبهائها السماوي. إنها تضرب بالكلمة الإلهيّة أصوات بوق الغلبة والفرح لكي تُعيِّد عيدًا سماويًا بلا انقطاع (عد 10).
21. حَرادة: ربما في وادي لوسان[322]، أو وادي العين التي تبعد مسيرة يوم عن عين حضيرة.
حَرادة كلمة عبريّة تعني رعب أو خوف، فإن الإنسان مهما بلغ في تقدمه الروحي، حتى إن بلغ جبل شافَر، فصار له جمال السيد المسيح الروحي لكنه ينبغي أن يسلك في مخافة الرب، مكملاً خلاصه بخوف ورعدة. يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة حَرادة تعني "يجعله مستحقًا"، بهذا فإن من بلغ جبل شافَر بأبواق كلمة الله يستحق الإكليل.
22. مَقْهَيْلوت: ربما تكون هي بعينها قُهَيْلاتة عادوا إليها من جديد أم بلدة مشابهة في الاسم، إذ يرى البعض أنها أيضًا تعني "مجامع" ويرجحون أنها قنتلة قراية والتي تدعى عجرود[323]!
لعل العلامة أوريجينوس قد رأى أنها عودة للجماعة إلى ذات البلد الأولى حتى رأى فيها المعنى الرمزي "منذ البدء"، مع أن مَقْهَيْلوت تعني "مجامع"، قائلاً أن من يميل إلى التأمل في كلمة الله "جبل شافَر" ويتمسك بأبواقها ليغلب يلزمه أن يتأمل فيمن كان في البدء، أي في الله الكلمة ولا يتغرب عنه قط.
23. تاحَت: اسم عبراني يعني "ما هو تحت"، فمن يريد أن يتمتع بمَقْهَيْلوت أي بالمجامع المقدسة متأملاً في ذاك الذي من البدء، يلزمه أن يكون آخر (تحت) الكل وخادمًا للجميع. بهذا يحيا في سلام مع الله والناس.
يرى العلامة أوريجينوس أن تاحَت تعني "التثبيت". من يتضع "ينزل إلى تحت" يتأمل الذي كان من البدء لا تأملاً نظريًا، بل خلال الثبوت فيه (يو 15: 4).
يظن أن تاحَت موقعها عند جبل التيه.
24. تمارح: غالبًا بين عين الحضرة والقسيمة، وكلمة "تارح" كلمة عبريّة تعني "وعل" أو "نوع من العنز الجبلي". إلاَّ أن العلامة أوريجينوس يرى أنها تعني "الدهش" أو "الاختطاف بالروح". وكأن ثبوتنا في السيد المسيح "كلمة الله" يدخل بنا إلى إدراك أسراره الإلهيّة غير المنطوق بها ولا مدركة، فندخل إلى مدينة الدهش، حيث تُختطف أرواحنا إلى حجاله السماوي.
25. مِثْقة: ربما وادي أبو تقية الذي ينزل من نقب العرود إلى وادي الجرعفي. "مِثْقة" كلمة عبرانيّة تعني "حلاوة"، وكأنها تشير إلى عذوبة المسيح يسوع وحلاوته خلال ثبوتنا فيه.
يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني "الموت الجديد". فإن مدينة الدَهَش أو اختطاف الروح في الإلهيات تدفعنا بالأكثر إلى التمتع بموت السيد المسيح كموت جديد ليس ثمرة الخطيّة التي ارتكبناها أو ورثناها بل ثمرة الاتحاد مع السيد المسيح المصلوب والقائم من الأموات.
26. حَشْمونة: غالبًا هي وادي الهشيم. كلمة حَشْمونة تعني "خصب". فإن كانت مِثْقة تعني العذوبة في المسيح يسوع فإن حَشْمونة تعني خصوبة الحياة وإثمارها فيه.
يرى العلامة أوريجينوس أن حَشْمونة تعني "عظام"، فإن كانت مِثْقة في رأيه هي "الموت الجديد"، فإنه بموتنا مع المسيح لا نخاف ولا نضطرب فإن واحدة من عظامنا (الروحيّة) لا تنكسر.
27. مُسِيروت: موضعها غير معروف، لكنها بجوار جبل هور على حدود أدوم. كلمة "مُسِيروت" تعني "رباطات" أو "قيود"، لهذا يرى العلامة أوريجينوس أن من يدخل مدينة مُسِيروت يقيد العدو إبليس ويطرحه، فلا يكون له فينا موضع (أف 4: 27).
28. بني يَعقان: أي أبنا يَعقان، وهي قبيلة حوريّة من جبل سعير، اغتصبها الأدوميّين (تك 36: 20-21، 27؛ 1 أي 1: 38، 42؛ تث 2: 12). في أيام الخروج كَوَّن بني يَعقان قبيلة احتلت إقليمًا على حدود أدوم بالقرب من جبل هور حيث مات هرون، وقد عسكر بنو إسرائيل عند بعض آبارهم.
يرى العلامة أوريجينوس أن يَعقان تعني "ينابيع" أو "تنقية"، فإذ يطرح إبليس مقيدًا ولا يكون له فينا موضع، يلزمنا أن ننهل بالأكثر من ينابيع الله النقيّة، أي من كلمته أو وصيته التي تنقي أعماقنا الداخليّة.
29. حور الجِدْجاد: أي "كهف الجِدْجاد"، وهي الجدجود (تث 10: 6-7)، ربما تقع على وادي غدغودة أو غداغد التابع لوادي جيرافي أو جيرعفي شمال قنتيلة الجيرافي.