عاموس

  

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 
-

- مقدمة

 

الأصحاح الخامس (العظة الثالثة)

- الباب الأول الأصحاحان [1، 2]

 

الأصحاح السادس (مجموعة الويلات الثانية)

الأصحاح الأول (دينونة الأمم المجاورة)

 

- الباب الثالث الأصحاحات [7-9]

الأصحاح الثاني (دينونة إسرائيل ويهوذا)

 

الأصحاح السابع (الثلاث رؤى الأولى)

- الباب الثاني الأصحاحات [3-6]

 

الأصحاح الثامن (الرؤيا الرابعة)

الأصحاح الثالث (العظة الأولى)

 

الأصحاح التاسع (رؤيا المذبح)

الأصحاح الرابع (العظة الثانية)

 

 


 
مقدمة

عاموس:

1. "عاموس" كلمة عبريَّة تعني "حامل الثقل" أو "ثقل" ويقول التقليد اليهودي أنه كان ثقيل اللسان، متلعثمًا في كلماته. ولعلَّ اسمه يتناسب مع السفر فقد كشف عن ثقل الخطيَّة التي لا يحتملها الله ولا يطيقها، أيَّا كان مرتكبها، فهو يعاقب الأمم كما اليهود على خطاياهم.

2. يعتبر عاموس هو أول الأنبياء الكتَّاب Writing Prophets، سجل لنا نبوَّاته في أسلوب شعري عذب وبسيط، وإن كان أقل فصاحة من يوئيل. جاء السفر مشحونًا بالتمثيليات والصور المأخوذة من أعمال الفلاَّحين وسكان القرى من ناحية، ومن البريَّة من ناحية أخرى. فقد عاش في جو زراعي ريفي يعاني من البريَّة القريبة إليه.

3. يظهر من حديثه (1: 1، 7: 10) أنه عاش في أيام عزِّيا ملك يهوذا ويربعام الثاني ملك إسرائيل قبل حدوث الزلزلة المشهورة (1: 1، 5: 9) والتي أشار إليها زكريَّا النبي بعد 300 عام (زك 14: 5). غالبًا ما يكون قد ظهر حوالي عام 760 ق.م. فعاصره هوشع النبي في أواخر أيامه، كما عاصر فترة بدء خدمة إشعياء النبي، وفي أيامه أيضًا تنبَّأ يونان ابن أمتاي في إسرائيل (2 مل 14: 25)­[1].

4. عاش في تقوع على بعد حوالي 12 ميلاً جنوب أورشليم في وسط أسرة مجهولة وفقيرة، كراع للغنم (1: 7) وجاني جمِّيز (7: 14). فلم يكن أحد أعضاء مدرسة الأنبياء هو أو والده، لذا في اتِّضاع قال عن نفسه أنه ليس بنبي (رسمي) ولا ابن نبي، إنما التزم بالعمل النبوي بناء على دعوة إلهيَّة.

مع أنه نشأ في تقوع - في مملكة يهوذا - لكنه ذهب إلى بيت إيل حيث الهيكل الرئيسي لمملكة إسرائيل - مملكة الشمال - وتحدَّث عن خراب هذه المملكة بسبب خطاياها. الأمر الذي أثار الكاهن الأول لبيت إيل "أمصيا"، فقدَّم عنه تقريرًا ليربعام الثاني ملك إسرائيل كخائنٍ، وأمره أن يترك المدينة. ولعلَّه كتب هذا الموجز لنبوَّاته بعد عودته إلى بلدته تقوع[2].

الظروف المحيطة به:

1. من الجانب السياسي عاصر عاموس النبي يربعام الثاني حفيد ياهو القائد العظيم الذي قتل الملكة إيزابل الملكة الشرِّيرة ونسلها، وقد اشتهر يربعام بالقوَّة والصلابة فامتدَّت مملكته وازدهرت وفي نفس الوقت كان عزِّيا ملك يهوذا رجلاً ناجحًا وقويًا، فكانت مملكة يهوذا أيضًا تتَّسم بالقوَّة والاستقرار.

هذا وقد سند الجانب السياسي آرام (سوريا) قد انشغلت في ذلك الوقت في الحرب مع آشور، الأمر الذي أنهك قوي آرام، ممَّا جعل إسرائيل تسترد الكثير من ممتلكاتها التي اغتصبها آرام منه. كما أن آشور - في عصر عاموس - قد صار يحمل جوًا هادئًا من جهة مصر، فلم يعد يقوم بغارات على مصر مخترقًا إسرائيل لينهب ويقتل ويُشرِّد أثناء عبوره عليها.

2. هذا الاستقرار السياسي وازدهار إسرائيل ويهوذا أدَّى إلى ازدهار التجارة الداخليَّة وامتدادها إلى دمشق ممَّا رفع من المستوى الاقتصادي للمملكتين، لكن كثرة الأموال والغنى الفاحش أدَّى إلى ظهور طبقتين، طبقة غنيَّة جدًا هي طبقة التجَّار يعيشون في حياة الترف الزائد، وطبقة فقيرة للغاية هي طبقة الفلاَّحين، يئنُّون من قسوة الطبقة الغنيَّة وظلمها الفادح، وقد نشأ عاموس وسط هذه الطبقة يمارس حياة الحرمان والفقر المدقع، ويلمس من بعيد حياة البذخ المفرط الذي يعيشه الأغنياء، فجاءت نبوَّته أشبه بثورة اجتماعيَّة ضد الظلم والاستعباد والفساد. فهو لا يطيق أن يرى غنيًا على سرير من عاج، بينما يُباع الاخوة الفقراء بزوج من النعال!

هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي أدَّى إلى انحلال خلقي مُرَّ، كما تكشف النبوَّة عن ظهور صور بشعة من الزنا والغش والرشوة والكذب... الخ.

3. كثرة الأموال في أيدي الأغنياء جعلتهم يتطلَّعون إلى أن العبادة مجرد تقديم أموال للهيكل وتقدمات وذبائح لله؛ وكأن الله يُشترى بأموالهم أو يُرتشى بتقدماتهم... الأمر الذي أقام شرخًا بين الطقس والروح، فصارت الحياة التعبديَّة بعيدة كل البعد عن السلوك الروحي العملي، وفقدت الذبائح مفهومها اللآهوتي والروحي عندهم.

4. ربَّما الاستقرار السياسي مع كثرة الأموال أدَّى إلى نوع من القوميَّة اليهوديَّة المتعصِّبة التي بلا روح، فظنُّوا أن يهوه هو إله خاص بهم يحابيهم على حساب الأمم، مهما كان شرِّهم. لذا جاء هذا النبي يؤكِّد أن الله هو "إله الجميع" لا يطيق الخطيَّة، أيَّا كان مرتكبها سواء من الأمم أو من اليهود، وإذ يقدِّم الخلاص يدعو اسمه على جميع الأمم (عا 9: 12).

سمات عاموس النبي:

كشف هذا السفر عن سمات النبي نفسه من جهات كثيرة:

1. من جهة اتِّضاعه: إذ يسأله أمصيا كاهن بيت إيل عن حقيقة مركزه يُجيب "أنا راعٍ وجاني جمِّيز، فأخذني الرب من وراء الضأن" (7: 14-15)، دون أن يخجل من عمله القديم المتواضع.

2. شجاعته: بالرغم ممَّا اتَّسم به أمصيا من قوَّة لالتصاقه بالملك لكن عاموس بقى أمينًا لرسالته، لا يخشاه، بل يشهد للحق مُتنبِّئًا عن خراب بيته. تحدَّث بكلمة الله بأمانة دون مداهنة أو مجاملة.

3. اتَّسم بالحكمة، فلم يحدِّث الرؤساء والعظماء وحدهم، بل تحدَّث مع جميع فئات الشعب لأجل توبة الكل.

4. عمله كراعٍ وجاني جميز أعطاه فرصة للحياة التأملية، مقدمًا صورًا كثيرة من الواقع الذي عاشه بروح ملتهب وقلب مخلص جاد.

محتوياته :

إذ يتحدَّث هذا السفر عن دينونة الله لإسرائيل بسبب ما بلغ إليه من فساد كشف له عدل الله الذي يُدين كل الأمم المخطئة، وفي نفس الوقت إذ يُقدِّم تهديدًا وتوبيخًا يفتح أبواب الرجاء للجميع.

1. دينونة الأمم                       [1-2].

2.عظات لإسرائيل                    [3-6].

 3. الرؤى ووعد بالخلاص           [7-9].

<<

 


 

 

الباب الأول

 

 

 

دينونة الأمم

ص 1-2

 

 

 

1. دينونة الأمم المجاورة                [ص 1].

2. دينونة يهوذا وإسرائيل               [ص 2].

 


 

لما كان هذا السفر في مجمله موجهًا لإسرائيل بسبب قبوله العبادة الوثنيَّة ممتزجة بالعبادة لله الحقيقي، وما بلغه من رجاسات وظلم واستبداد، لهذا هيَّأ لله بالحديث عن خطايا الأمم المحيطة وخطايا مملكة يهوذا، ليُعلن أنه الله القدُّوس الذي لا يطيق الخطيَّة أيَّا كان مصدرها.

وفيما يلي أسماء الأمم وأهم خطيَّة اتَّسمت بها:

1. سـوريا (آرام) : الكبرياء (الذات البشريَّة).

2. فلســــطين : تجارة العبيد (محبَّة العالم).

3. فينيقيَّة (صور) : نقض عهد الأخوة (1 مل 5: 1-12).

4. أدوم            : الكراهيَّة وحب سفك الدم.

5. بنــو عـمون : القسوة بسبب الطمع.

6. بنــو مـوآب : الكراهيَّة (سرقة عظام ملك آدوم).

7. يـهــــوذا : تجاهله الوصيَّة الإلهيَّة.

8. إســـرائيـل : سقوطه في عبادة الأوثان ورجاساتها،

 انحرافه بالطقس عن الروح،

 ظلمه واستبداده،

 جحده لله المعتني بها.

<<

 

 


 

الأصحاح الأول

دينونة الأمم المجاورة

هيَّأ لله الحديث عن تأديب إسرائيل بإعلانه دينونة الأمم المجاورة، ليبرز مدى كراهيَّته للشرّ، وعدم تحيُّزه لأمَّة على حساب أمَّة، أو لشخص على حساب آخر:

1. مقدِّمة                            [1-2].

2. تأديب دمشق                      [3-5].

3. تأديب غزَّة                        [6-8].

4. تأديب صور                       [9-10].

5. تأديب أدوم                        [11-12].

6. تأديب بني عمون                 [13-15].

1. مقدِّمة:

"أقوال عاموس الذي كان بين الرعاة من تقوع التي رآها عن إسرائيل، في أيام عُزِّيا ملك يهوذا، وفي أيام يربعام بن يوآش ملك إسرائيل، قبل الزلزلة بسنتين" [1].

لم يخجل عاموس النبي من إبراز عمله كراعي غنم في تقوع، أي أنه من الطبقات الفقيرة، خاصة وأنه كان جاني جمِّيز، الأمر الذي لا يقوم به إلاَّ من كان في عوزٍ شديد. أمًا عدم ذكر اسم والده فلأنه من عائلة فقيرة ومجهول.

والعجيب أنه يقول: "أقوال عاموس... التي رآها"، وليس التي سمعها أو ألقاها، مؤكدًا أن ما يعلنه هنا من أقوال ليست من عنديَّاته لكنها ثمرة رؤى إلهيَّة وإعلانات بالروح القدس.

وقد حدَّد موقع نشأته وتاريخ قيامه بالعمل النبوي، الأمرين اللذين سبق لنا الحديث عنهما في المقدِّمة.

فقال: "إن الرب يزمجر من صهيون، ويعطي صوته من أورشليم، فتنوح مراعي الرعاة وييبس رأس الكرمل" [2].

هذه هي افتتاحيِّة نبوَّته، ولعلَّ سُكنى عاموس في تقوع على حافة البريَّة قدَّمت له خبرة زمجرة الأسد في البريَّة التي ترعب الرعاة وتبعث الهلع في حياة الفلاَّحين. وقد شبَّه عاموس النبي الله في غضبه على الخطيَّة بالأسد الذي يزمجر، قائلاً: "الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟! السيِّد الرب قد تكلَّم فمن لا يتنبَّأ؟!" (3: 8). زمجرة الأسد لا تنبعث عن فراغ، ولا تصدر بلا سبب "هل يزمجر الأسد في الوعر وليس له فريسة؟!" (3: 4).

لقد تحدَّث هوشع ويوئيل النبيَّان عن الله تبارك اسمه كأسد يعطي صوته فترتجف السماء والأرض، فيدرك الكل أنه ملجأ شعبه وحصنًا لهم، يسكن في وسطهم في جبل قدسه في أورشليم مقدسه فلا يقترب إليهم غريب (يؤ 3: 16-17). يزمجر فيجمع شعبه من مصر وأشور ويسكنهم في بيوتهم (هو 11: 10-11). أمًا هنا فعاموس النبي يرى الله القدُّوس كأسد رابض في صهيون يعطي صوته مزمجرًا بسبب خطايا إسرائيل ويهوذا وكل الأمم المحيطة. أنه لا يطيق الخطيَّة تقترب إلى مقدسه وتحيط به، لذا يُزمجر فيهز أساسات الخطيَّة ويحطِّم أعمال الإنسان القديم، تخرج نار من فمه فيحرق قصورها ويبدِّد كيانها!.

إذ يعطي الأسد صوته تنوح مراعي الرعاة، وييبس رأس الكرمل أخصب منطقة، إذ يدرك الكل أن صوت الرب يُجفف ما قام على الشرّ، ويحطِّم كل ثمر للفساد!.

لا تقول كلمة الرب على المجاملة أو المداهنة أو التعريج بين الخير والشرّ، إنما على تحطيم الشرّ لإقامة الخير، أو صلب الإنسان القديم لإعلان قيام الإنسان الجديد. فقد زمجر الأسد الخارج من سبط يهوذا مؤكدًا هذا: "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن المِلء يأخذ من الثوب فيصير الخَرْق أردأ، ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلاَّ تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتُحفظ جميعًا" (مت 9: 16-17). وكما يقول القدِّيس أمبرسيوس: [لهذا يمنعنا الرب من الخلط بين الجديد والقديم، ويحرِّم الرسول ارتداء الثوب الجديد فوق العتيق، إنما نخلع العتيق ونلبس الجديد فلا نوجد عراة (2 كو 5: 2-4) [3]].

لقد أدرك ذلك يعقوب عندما بارك ابنه يهوذا، الذي من صلبه يخرج الأسد الذي يزمجر ضد الخطيَّة ويرعب الموت، إذ يقول: "يهوذا جرو أسد، من فريسة صعدت يا ابني، جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه؟!" (تك 49: 9). فقد رآه رابضًا كأسد على الصليب، يزمجر على الخطيَّة التي أفسدت الحياة البشريَّة لكي يقتل فريسته إبليس وأعماله واهبًا للبشريَّة تقديسًا، جاعلاً منها صهيون وأورشليم المقدَّسة!

الحق أن نبوَّة عاموس في مجملها إنما هي زمجرة للأسد من صهيون، فقد بدأت بالتأديبات المرعبة، النار المحرقة للقصور، والمحطِّمة للحصون والمبددة للسكان، سواء من الأمم أو اليهود، لا لتبقى خرابًا بلا ساكن وإنما لكي يفتح أبواب الرجاء على مصراعيه في نهاية النبوَّة؛ فعِوض القصور يقيم خيمة داود الساقطة، وعِوض الحصون يُرمِّم شقوقها بنفسه ويقيم ردمها، ويبنيها كأيام الدهر ويسكن هو في وسطها فيدعى اسمه على جميع الأمم (9: 11-12). أنه يهدم ويبني، يقتلع ويغرس، يحطِّم الإنسان القديم ليقيم فينا الجديد! هذه هي زمجرة الأسد من صهيون، المعطي صوته من أورشليم مقدسه!

2. تأديب دمشق:

في تأديباته للأمم ويهوذا أخذ منهجًا واحدًا في الإعلان عن مقدِّم التأديب أي "الله نفسه"، وعن ذنوبهم الثلاثة والأربعة، وعن عدم الرجوع في التأديب، وعن إرسال نار محرقة... هذه كلها اشتركت معًا في الحديث عن تأديب جميع الأمم ويهوذا، لكن كل أمة اتَّسمت بخطيَّة أو خطايا معيَّنة خاصة بها.

في بدء كل تأديب يقول: "هكذا قال الرب..." (3، 6، 9، 11، 13، 2: 1، 4، 6)، فإن كانت ليست كل الأمم تتعبَّد له، لكنه هو ديَّان الجميع، إله الأرض كلها، يدين الكل ويهتم أيضًا بالكل!.

أما عن حديثه عن ذنوبهم الثلاثة والأربعة، فإن هذين الرقمين يُشيران هنا إلى مفاهيم كثير، نذكر منها:

أولاً: أن رقم 3 يُشير إلى النفس البشريَّة بكونها على صورة الثالوث القدُّوس ومثاله، ورقم 4 يُشير إلى الجسد بكونه مأخوذًا عن الأرض بجهاتها الأربع (الشرق، الغرب، الشمال، الجنوب)، فكأن لله يؤدِّبنا على خطايانا النفسيَّة (مثل الكبرياء والحقد) والخطايا الجسديَّة (مثل حب الترف والتخمة والشهوات الجسديَّة). وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [لأن الخطايا إمَّا أن ترتكب بالذهن كما بالإرادة وحدها، أو بأعمال الجسد أيضًا فتكون منظورة... فإن ثلاثة هي طبيعة النفس، وأربعة بسبب الجسد، إذ يتكوَّن الإنسان من كليهما[4]].

ثانيًا: يرى القدِّيس جيروم أن الذنوب الثلاثة والأربعة، إنما تعني الخطيَّة، وقد تطوَّرت إلى جيلها الثالث وجيلها الرابع، فتحوَّلت من مجرَّد فكرة في الذهن، إلى إعلانها خلال القول، فالعمل، وأخيرًا تصير عادة. فالله في طول أناته لا يعاقب الإنسان عندما تثور الخطيَّة في ذهن الإنسان، وإنما كما قيل: "يجعل ذنوب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والجيل الرابع" (عد 14: 18). هذا يعني أن لله لا يعاقبنا على أفكارنا في الحال، بل على الأفعال الشرِّيرة وعادات الخطيَّة التي تنبع عنها، كما قيل على فم عاموس: "من أجل ذنوب المدينة كذا وكذا الثلاثة والأربعة لا أرجع عنها"[5].

مرة أخرى يعلق القدِّيس جيروم على هذه الذنوب الثلاثة والأربعة أنها:

 أ. التفكير في الشرّ (الذنب الأول).

ب. عمل الشرّ (الذنب الثاني).

ج. عدم التوبة عنه أو الاستمرار فيه (الذنب الثالث).

 د. التعليم به (الذنب الرابع).

فمن كلماته: [الآن فإن ما يقوله (النبي) هو هذا: لقد قبلت الشرّ وأنا صفحت عنك، لقد فعلت الخطيَّة وغفرت لك، ولم تتب عنها وأعطيتك عذرًا؛ فهل تُعلَّم بالخطيَّة أيضًا؟!. هذا هو ما قصده الكتاب بخصوص الذنوب الثلاثة والأربعة[6]].

هذه هي الذنوب الثلاثة والأربعة التي لا يرجع عنها، بل يرسل نارًا تحرق قصور شرّهم، هي نار غضبه ضد الخطيَّة. إنه لا يطيق الخطيَّة لكنه محب للخطاة! لعلَّ هذه النار هي أيضًا الثمر الطبيعي للخطيَّة، النار الآكلة، فيترك الله الإنسان يجنى ثمر عمله، يحتضن نار خطيَّته فتحرق قصوره الباطلة التي تحمل مناظر برَّاقة مؤقَّتة.

هذا بالنسبة للأمم بوجه عام، والآن نتحدَّث عن كل أمَّة على حدة.

دمشق هي عاصمة سوريا (آرام)، وقد عاشت إسرائيل قرابة قرن من الزمان في حالة رعب من آرام، وشاهد بعض معاصري عاموس الحرب التي أثارها حزائيل ملك آرام وابنه بنهدد ضد إسرائيل (2 مل 8: 7-15، 28-29، 10: 32-33، 13: 3-7، 22-25)، وكانت جلعاد شرقي الأردن وشمال سوريا مسرحًا لهذه الحرب المريرة، والتي اتَّسمت بقسوة ووحشيَّة، حتى نرى إليشع يبكي، وإذ يسأله حزائيل - قبل اغتصابه المُلك - عن سرّ بكائه، يجيب: "لأني علمت ما ستفعله ببني إسرائيل من الشرّ، فإنك تطلق النار في حصونهم، وتقتل شُبَّانهم بالسيف، وتحطَِِّم أطفالهم، وتشق حواملهم" (2 مل 8: 12).

أما ثمر هذه القسوة فهو:

أولاً: تحرق النار قصر الملك حزائيل مثير الحروب وابنه بنهدد [4]. فإن كان هذا الملك وابنه يظنَّان أنهما قادران على تحطيم مملكة الله واحتلالها، فإن لله بنار عدله يرد عملهما إليهما، فترتد نار شرِّهما إلى قصرهما، مركز سلطانهما، وموضع تخطيطاتهما، ومكان اطمئنانهما وأمانهما... فيحترق ويتدمَّر.

في مرارة أقول أن حزائيلنا الداخلي إنما هو "الذات البشريَّة Ego"، التي تحتل القلب كقصر لها، فتقوم هي وما تولِّده من شرور (بنهدد) على استخدام الإنسان بكل طاقاته وإمكانيَّاته ومواهبه وقدراته للعمل لحساب الشرّ، عِوض أن يملك الرب في القلب ليعمل الإنسان كآلات برّ لله. بالحق فيما تظن "الأنا" أنها قادرة على أن تملك وتُسيطر وتسكن في قصرها الداخلي آمنة، إذا بها تجلب لنفسها نارًا تحرق إمكانيَّاتها وتفقد كل سلطان لها.

إذن لنترك قصرنا الداخلي لربنا يسوع عِوض حزائيل وبنهدد ليكون مسكنًا له ومركز مملكته، يُعلن ربنا فيه ملكوته بقوَّة، فلا تقدر نيران الخطيَّة خاصة "الأنا" أن تقترب إليه لأنه ملتهب بنار سماويَّة، بالروح القدس ذاته الذي يشكِّلها من يوم إلى يوم لعلَّها تبلغ قياس ملء المسيح، وينطلق بها من مجد إلى مجد، ليدخل بها في المسيح يسوع إلى حضن الآب وتستقر هناك إلى الأبد!

لنسلِّم قصرنا للملك السماوي بروحه الناري، فلا يقطن فينا حزائيل بعد مع ابنه بنهدد.

ثانيًا: كسّر الحصون المنيعة التي تحيط بدمشق، لا ليحيا الإنسان بلا حصون، وإنما عِوض الحصون الحجريَّة يجد الرب نفسه حصنه وملجأ حياته. فإنه إذ توجد الأذرع البشريَّة الحجريَّة يتَّكئ الإنسان عليها، لذا يُحطِّمها الرب ليهبنا الأذرع الأبديَّة عِوضًا عنها، فيقول: "أُحبَّك يا رب يا قوَّتي، الرب صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخرتي به أحتمي، ترسي وقرن خلاصي وملجأي" (مز 18: 1-2).

لتنهدم أسوار دمشق الحجريَّة الزائلة، لكي يقدِّم لنا الله نفسه صخر الدهور سور صخر لا تقترب إليه الحيِّة، ولا تقدر أن تخدعنا ونحن فيه، ندخل إليه ونستريح فيكون سور نار إلهي متَّقد يحيط بنا ويلهب أعماقنا فنكون كالسمائيِّين "خدَّامه نارًا ملتهبة" (مز 104: 4).

ثالثًا: تحوَّيل بقعة آون إلى خراب بلا ساكن، وتدعى أيضًا وادي البطلان، أو وادي الأصنام... فحينما يعمل الشرّ في الإنسان يظن أنه قد أقتنى الحكمة البشريَّة القادرة أن تُغنيه، فيربح الكثير على حساب غيره، وإذا به يُقيم في قلبه واديًا للبطلان أو مركزًا لعبادة الأوثان. أنه يشتري بالشرّ فراغًا، ويقتني وراء الخبث والدهاء حرمانًا! هذا هو نصيب الأشرار الذين قال عنهم المرتِّل: "مثل الحشيش سريعًا يُقطعون ومثل العشب الأخضر يذبلون" (مز 37: 2).

رابعًا: يموت كل عظيم "ماسك قضيب" في بيت عدن، أو في بيت البهجة والتنعُّم، فيفقد الإنسان فيه كل ما هو عظيم وما هو قوي خلال انهماكه بالملذَّات والتنعُّمات الزمنيَّة.

خامسًا: سبي الأراميِّين إلى قير مملكة الماديِّين، وقد تحقَّق ذلك تاريخيًا كما جاء في (2 مل 16: 9)، (إش 22: 5-6).

من هم هؤلاء الأراميُّون سكان أورشليم الذين يملك عليهم حزائيل وابنه بنهدد إلاَّ طاقات الإنسان وقدراته ومواهبه النفسيَّة والعقليَّة (الفكريَّة) والجسديَّة؟! فإنه إذ يملك عليها حزائيل، أي "الأنا" تتحوَّل إلى العبوديَّة، فتعمل لحساب مملكة الماديِّين. يفقد الإنسان طاقاته، لا ليعيش بدونها وإنما يعيش بطاقات قد توجهت للشر، وأنحرفت عن رسالتها السامية. يتحوِّل الإنسان بكل إمكانيَّاته للعمل لحساب عدوّ الخير تحت عبوديَّة إبليس عِوض السمو بها بالروح القدس لحساب مملكة الله!

في اختصار إن ثمرة ما صنعه حزائيل وابنه بنهدد، أي ثمرة الكبرياء والاعتداد بالذات، يفقد الإنسان قصره الداخلي، وتنهدم حصونه التي التجأ إليها، ويفقد كل عظمة وقوَّة كما في بيت آون، ويقتني الحرمان في بيت البهجة، وتُسبى كل طاقاته لحساب عدوّ الخير! بمعنى آخر يفقد سلطانه (قصره)، وسلامه (حصونه) وبهجته (في بيت عدن) وطاقاته جميعها!

هذا ما عناه الرب بتأديب دمشق... لكي يدرك الإنسان ما بلغ إليه من حرمان كامل ودمار شامل فيلجأ إلى الله وحده يرد إليه ما فقده مضاعفًا، على مستوى سماوي فائق!

3. تأديب غزَّة :

كانت غزَّة عاصمة فلسطين في ذلك الحين وكانت خطيَّة فلسطين - في ذلك الوقت - هو استغلالهم بني يهوذا الهاربين إليهم من وجه سنحاريب ملك آشور، فيقبضون عليهم ويبيعونهم عبيدًا لبني آدوم ألدّ أعدائهم. لقد أرادوا إبادة اسم إسرائيل في ذلك الحين كقول المرتِّل: "قالوا هلمَّ نُبيدهم من بين الشعوب ولا يُذكر اسم إسرائيل بعد" (مز 83: 4). لهذا فإن النار التي ارتدت إليهم إنما لتلتهم قصور المدن الرئيسيَّة: غزَّة وأشدود وأشقلون وعقرون.

يرى القدِّيس أغسطينوس أن كلمة فلسطينيِّين تعني "الساقطين من السكر"[7]، فتُشير إلى النفوس التي تسكر بمحبَّة العالم وترفه. ويفسر القدِّيس جيروم هذا الاسم بمعنى "الموت بسبب جرعة سامة"، وفي رأيه أنهم يمثّلون من يشربون كأس غواية الشيطان كسمّ للنفس يهلكها فيسقطون سريعًا[8].

4. تأديب صور:

كانت فينيقيَّة وعاصمتها صور، تعتز بأسطولها البحري وتجارتها الضخمة على مستوى دولي قوي.

 لقد نسيت صور معاهدة الأخوة بين ملكهم حيرام والملك سليمان (1 مل 5: 1-12، 9: 10-14)، فباعوا الإسرائيليِّين الهاربين إليهم عبيدًا لعدوِّهم آدوم. لذا سمح الله بالنيران تحرق قصورهم من أجل خيانة العهد الأخوي، وقد تحقَّق ذلك حرفيًا حين حاصرها نبوخذنصر واستولى عليها في القرن السادس ق.م.

ويرى القدِّيسان جيروم[9] وأغسطينوس[10] إن كلمة "صور" تعني ضيق أو محنة. لذا ما جاء عن صور خاصة في سفر حزقيال (أصحاح 28) إنما يُشير إلى الشيطان الذي يدفع الناس إلى المحن والتجارب الشيطانيَّة.

5. تأديب أدوم:

آدوم هو عيسو أخو يعقوب، وقد أخذ بنو أدوم موقفًا معاديًا لبني إسرائيل (يعقوب) عند عبورهم في البريَّة، إذ لم يسمحوا لهم بالعبور (عد 20: 13-21)، وكانوا دائمًا يقفون موقف الشماتة من بني إسرائيل بل وأحيانًا يقومون بأعمال هجوميَّة تخريبيَّة[11].

 كلمة "أدوم" مأخوذة عن "آدم"، وتعني "إنسان دموي"، أو "أرضي"[12]، تُشير إلى حب سفك الدماء من أجل الأرضيَّات.

إن كان أدوم ملتهبًا بنار الشرّ وحب سفك الدم، فإن النار ترتد إليه، لتحرق قصور أهم أقاليمه تيمان (تيمان قبيلة تسمََّت باسم بكر أليفاز بن عيسو)، والأقاليم الذي تسكنه (تك 36: 11، 15، 42) ويقع الإقليم في شمال أدوم (حز 35: 13)، وقد عرف سكانه بحكمتكم (إر 49: 7)[13].

أما بصرة التي تحترق قصورها، فهى مدينة في بلاد أدوم (إش 34: 6، 63: 1). كلمة "بصرة" تعني بالعبريَّة "قلعة" أو "حظيرة"، وقد خُرِّبت تمامًا كما تنبَّأ عنها إرميا النبي (إر 49: 13)... فإن كانت بصرة بإمكانيَّاتها تمثل قلعة تيمان بأدوم فإن الشرّ يحرق خيراتها ويهدم إمكانيَّاتها ويجعلها خرابًا.

6. تأديب بني عمون:

في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن بني عمون نسل بني عمى بن لوط (تك 19: 38)، كانوا قساة القلب يقدِّمون أولادهم ذبائح للإله ملكوم (1 مل 11: 5 -33). وكانوا في حرب دائمة مع بني إسرائيل[14].

يمثِّل بني عمون القسوة القائمة على الطمع: "لأنهم شقُُّّوا حوامل جلعاد لكي يوسِّعوا تخومهم" [13]. هكذا يفسد الطمع إنسانيَّة الإنسان وحنوُّه الطبيعي، فمن أجل مكسب أرضي يُشق بطن الحوامل، فيقتلهن ويعذِّبهن ويفقدهن الأجنَّاء! صورة بشعة للقلب الذي تحوِّله الأرض إلى حيوان مفترس لا يترفَّق بالنساء الضعيفات ولا بالأجنَّاء الذين ليس لهم ذنب وبلا قوَّة!

أما ثمرها الطبيعي فإن النيران تلتهم أسوار عاصمتها ربَّة (عمان) وتحرق قصورها، وتتحوِّل إلى منطقة قتال وزوابع، ويسبي ملكها ورجاله العظماء. إن كانت "ربة" تعني "كبيرة" فإن الإنسان الذي يقسو على الآخرين ويحطِّمهم لأجل نفعه الخاص الأرضي ليكون كبيرًا على الجميع وأغنى من الكل، يفقد أسواره وتحترق قصوره وتتحوََّل حياته الداخليَّة إلى ميدان قتال مرّ، ويخسر سلامه الحقيقي، ويُسبى فكره وقلبه وكل طاقاته إلى ما هو للعدوّ. يصير في حالة فقدان تام لكل شيء! ففيما يظن أنه يقتني بقوَّته وسطوته إذا به يدخل في فراغ شديد، وخسارة حتى لحياته وسلامه وإمكانيَّاته!

<<

 


 

الأصحاح الثاني

دينونة إسرائيل ويهوذا

في هذا الأصحاح أكمل حديثه عن دينونة الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل ليتحدَّث عن دينونة يهوذا وينتقل إلى جوهر الموضوع وهو "دينونة إسرائيل" فيتكلَّم عنها بأكثر تفصيل.

1. تأديب موآب             [1-3].

2. تأديب يهوذا              [4-5].

3. تأديب إسرائيل [6-16].

1. تأديب موآ :

في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن موآب هو من نسل لوط من ابنته الكبرى، وقد دعي "موآب"، لأن أمه أنجبته من أبيها، إذ الكلمة "موآب" تعني "من الآب"[15]. ويرى القدِّيس جيروم أن الابنة الكبرى استغلَّت سكْر أبيها فأنجبت منه موآب، ليشير إلى الشيطان وكل الخارجين عن الله أبيهم، والذين لا يفكِّرون فيه[16]. ويرى القدِّيس أغسطينوس أن بني موآب يشيرون إلى من يستخدم الناموس بطريقة غير ناموسيَّة خاطئة، فيتعثَّرون فيه كما استخدمت ابنة لوط أبيها بطريقة خاطئة[17].

إن جريمة بني موآب هي أنهم سرقوا عظام ملك أدوم وأحرقوها ليحوِّلوها إلى كلس، ومع أنها تبدو جريمة بسيطة، لكن الله يكره الخطيَّة مهما كأن معيارها بالنسبة لنا. والعجب أن العظام هي لملك مُعادٍ لشعب الله، لكن الله لا يحب القسوة أو العنف، ولو كانت موجَّهة ضد أموات أعداء.

أما ثمرة هذه القسوة فهي أنه يرد نار قسوتهم على أكثر مدنهم حصانة "قريوت"، والتي ربَّما كانت عاصمة موآب (هي خربة الربة تبعد 14 ميلاً جنوب نهر أرنون)، ويحوِّل موآب إلى منطقة حرب تموت من أصوات البوق، ويفقدها القاضي من وسطها، فلا يكون فيها عدل ولا حكمة ويقتل رؤساءها.

ما فعلته بالعظام الميِّتة بنفس شرِّيرة وقلبٍ قاسيٍ يرتد على مدنها ورؤسائها وشعبها!

2. تأديب يهوذ :

إن كانت كلمة "يهوذا" تعني "الاعتراف"، فإن من كان يلزمهم أن يُعلنوا إيمانهم ويعترفون به خلال طاعتهم للوصيِّة الإلهيِّة، هم أنفسهم "رفضوا ناموس الله، ولم يحفظوا فرائضه، وأضلَّتهم أكاذيبهم التي سار آباؤهم وراءها" [4]. عِوض الاعتراف بالحق قبلوا الباطل وساروا وراء الأضاليل والأكاذيب!

ممَّا يؤلم النفس أن النار ترتد لتحرق قصور أورشليم، فإن كانت أورشليم تعني "رؤية الله"، فإن الانحراف عن وصيَّة الله والجري وراء الأضاليل يفسد البصيرة الداخليَّة  فلا تعاين الله. لهذا يقول الرب: "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [لنُنقِّ قلوبنا بالإيمان لكي نتهيَّأ لذاك الذي لا يوصف، أي للرؤيا غير المنظورة[18]]. كما يقول: [إن كل ما تقدِّمه الكتب المقدَّسة الإلهيَّة لا يهدف إلاَّ إلى تنقية النظر الباطني، ممَّا يمنعه عن رؤية الله. وكما أن العين خُلقت لكي ترى هذا النور الزمني حتى إذا دخلها جسم غريب عكَّر صفوها وفصلها عن رؤية ذلك النور، كذلك هي عين قلبك فإنها إن تعكَّرت وجُرحت، مالت عن نور البرّ، وما تجاسرت أو تمكَّنت من النظر إليه... وما الذي يعكِّر صفاء عين قلبك؟ الشهوة والبخل والإثم واللذَّة العالميَّة، هذا كله يُعكِّر عين القلب و يغلقها و يعميها[19]].

3. تأديب إسرائيل:

قبل أن يُقدِّم لإسرائيل عظات، كشف لهم عن سرّ تأديبهم مُظهرًا ثلاثة أمور:

أولاً: الظلم الذي يمارسونه                     [6-8].

ثانيًا: مقابلة إحسانات الله لهم بجحود           [9-12].

ثالثًا: سقوطهم جميعًا تحت التأديب             [13-16].

أولاً: الظلم الذي يمارسونه [6-8]:

"هكذا قال الرب: من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة، لا أرجع عنه، لأنهم باعوا البار بالفضَّة والبائس لأجل نعليْن" [6].

لعلَّ هذا هو أول اتهام كتابي يوجِّهه نبي من "الأنبياء الكتَّاب" ضد إسرائيل باسم الرب نفسه: "إنهم باعوا البار بالفضَّة". من هو هذا البار الذي بيع بالفضَّة إلاَّ السيِّد المسيح الذي وحده بار بلا خطيَّة باعه يهوذا الخائن بثلاثين من الفضَّة بثمن عبد (مت 27: 5؛ لو 22: 5)، هذا الذي اشترانا لا بذهب أو فضَّة، وإنما بدمه الثمين. السيِّد قدَّم حياته فدية عن العبد، والعبد باع سيِّده بالفضَّة خائنًا له. في مرارة يقول زكريَّا النبي: "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضَّة. فقال ليّ الرب: ألقها إلى الفخَّاري الثمن الكريم الذي ثمَّنوني به" (زك 11: 12-13). هذا هو الثمن الكريم الذي ثُمّن به الرب!

إنها خطيَّة الأجيال كلها، تُبيع إسرائيل الرب بثلاثين من الفضَّة، إذ تعلو في عينيها فضَّة العالم عن الحياة مع الرب، وتقيّم الزمنيَّات أفضل من الإلهيَّات!

ماذا يعني أيضًا بيع البائس لأجل النعلين [6]؟ من هو هذا البائس الذي يُباع من أجل نعلين، إلاَّ السيِّد المسيح الذي يُقدِّم لنا ذاته خلال المتألِّمين والبائسين والمحتاجين؟! لقد طلب الله من نبيِّه موسى أن يخلع نعليه لكي يقدر أن يدخل المقدَّسات الإلهيَّة، ويُعاين أسرار الله، ويدخل معه في حديث وِدِّي، و يتسلَّم العمل الرعوي (خر 3)، ولنفس السبب طلب الرب من تلاميذه ألاَّ تكون لهم أحذية (مت 10: 10) حتى لا يسلكوا كأرضيِّين يسيرون بالأحذية على الأرض، وإنما يرتفعون بقلوبهم إلى السماء فيسحبون معهم كل قلب بالروح القدس إلى حيث المسيح جالس. لكن الإنسان في غباوته عِوض أن يخلع النعلين ليحيا في السموات ويرتفع إلى الإلهيَّات، يبيع المسكين "المسيح نفسه" بنعلين، مفضلاً بالحرى أن يرتبط بالأرضيَّات ويسلك في الزمنيَّات عِوض أن يتحرَّر من النعال ويحيا في السمويًّات.

يرى العلامة أوريجينوس[20] في النعلين إشارة إلى الحياة الميِّتة الزمنيَّة وإلى حب الظهور. فالنعال تُصنع من جلد الحيوان الميِّتة، والتي تُستخدم في الطبول التي تعطي أصواتًا بلا عمل. هكذا يُباع السيِّد المسيح بمجده الأبدي من أجل الحياة الميِّتة الزمنيَّة، أو لأجل اقتناء كرامة زمنيَّة باطلة لها المظهر البرَّاق دون العمل الجاد الداخلي!

عاد الرب ليكشف عن أمثلة غريبة من الرجاسات التي كان الإسرائيليُّون يرتكبونها فيها امتزجت النجاسة في أبشع صورها مع الظلم، ألاّ وهي:

أ. "الذين يتَّهممون تراب الأرض على رؤوس المساكين" [7]، وفي بعض الترجمات "يطأون رأس المسكين حتى تراب الأرض! ليس فقط لا يترفَّقون بأخوتهم المساكين، لكن في غلاظة قلبهم يظلمونهم، ساحبين رؤوسهم حتى التراب ليدوسوا عليها بأقدامهم.

من هو هذا رأس المساكين الذي يطأون عليه بأقدامهم إلاَّ السيِّد المسيح نفسه، رأس الكنيسة كلها، فيحتقرونه ويستخفُّون بخلاصة الثمين، وكما يقول الرسول بولس: "فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟!" (عب 10: 29).

إذ نحتقر المسكين ونستهين به، إنما نحتقر رأسه المسيح يسوع نفسه، لهذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يا لعظم مرتبة الفقراء لكونهم نظير خدر الإله والبارّ يختفي فيه. فالفقير يمد يده متسوّلاً، لكن الإله هو الذي يقبل صدقتك]، كما يقول على لسان السيِّد: [لقد بلغك عنّي أني متسربل النور كالرداء، لكنك متى كسوت عريانًا أشعر أنا بدفء وأنني تستََّرْت! [21]].

ب. "ويصدّون سبيل البائسين" [7]، أو يُغلقون الطريق أمام المتألِّمين... لا يقفون عند السلبيَّة، أي تجاهل الإنسان البائس والحزين، وإنما إن وجدوا قدَّامه طريقًا مفتوحًا لخلاصه يغلقونه. إنهم متطوِّعون للعمل لحساب مملكة الظلم.

ج. "ويذهب رجل وأبوه إلى صبيَّة واحدة حتى يدنّسوا اسم قدسي" [7]. إنها صورة بشعة للرجاسات أن يشترك الإنسان وأبوه في خطيَّة الزنا مع صبيَّة صغيرة واحدة! وكما يقول القدِّيس باسيليوس الكبير في رسالته إلى ديؤدور Diodorius: [إن الشريعة لم يسبق وذكرت شيئًا عن ارتكاب الإنسان وأبيه الزنا مع صبيَّة لأنه أمر بشع لا يحتاج إلى التحذير منه، وذلك كما قال الرسول بولس: "وأما الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يُسَمَّ بينكم كما يليق بقدِّيسين" (أف 5: 3)[22]].

د. "ويتمدّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح، ويشربون خمر المغرّمين في بيت آلهتهم" [8]. لا يقف الأمر عند إقامتهم لدى المذابح الوثنيَّة والاشتراك في ولائم بيت الآلهة الغريبة، إنما امتزج هذا العمل الرجس بالقسوة، ففيما يتظاهرون بالورع حيث يتمدَّدون بجانب كل مذبح، إذا بهم يتمدَّدون على ثياب المساكين الذين ارتهنوها لديهم، ولم يقدروا سداد المبلغ واستلام الثياب، ويشربون خمر الذين عليهم غرامات ماليَّة، وغير قادرين على سداد ما عليهم!! أنهم يتعبدون مستخدمين ثياب وخمر المساكين العاجزين عن اقتناء ضروريّات الحياة الأساسيَّة!.

ثانيًا: مقابلة إحسانات الله لهم بجحود [9-12]:

إن كان قد عدَّد صورًا لأمثلة مرَّة من رجاسات الإسرائيليِّين الممتزجة بالظلم والقسوة، فقد أراد تأكيد أنهم بلا عذر، إذ قدَّم الله لهم إحسانات كثيرة، وعِوض ردِّها بالحياة المقدَّسة اللطيفة، إذا بهم يسلكون في جحود.

"وأنا قد أبَدْت من أمامهم الأموري الذي قامته مثل قامة الأرز، وهو قوي كالبلوط، أبَدْت ثمره من فوقه وأصوله من تحت. وأنا أَصعدتكم من أرض مصر، وسرتُ بكم في البرِّيَّة أربعين سنة، لترثوا أرض الأموري، وأقمت من بينكم أنبياء ومن فتيانكم نذيرين، أليس هكذا يا بني إسرائيل يقول الرب؟! لكنكم سقيْتم النذيرين خمرًا وأوصيتم الأنبياء قائلين: "لا تتنبَّأوا" [9-12].

إنها قصّة الإنسان الدائمة، فالله في كل جيل يُقدِّم خلاصًا معلنًا محبَّته الإلهيَّة الفائقة للإنسان، والإنسان في غباوة قلبه يقابل الحب بالجحود!

فمن الجانب التاريخي أعدَّ الله الطريق لإسرائيل قديمًا، وإذ كان الأموريُّون عمالقة كالأرز وأقوياء كالبلّوط حطَّم الله ثمرهم واقتلع أصولهم من الأعماق، وانطلق بشعبه من أرض مصر محمولاً كما بجناحيّ محبَّته الفائقة، معتنيًا بهم طوال بقائهم في البريَّة أربعين عامًا، حتى سلَّمهم أرض الأموريِّين، وعلامة حبُّه لهم أنه جعل من بينهم أنبياء له، ومن فتيانهم نذيرين مكرَّسين باسمه! أمًا هم فقابلوا الحب بالكراهيَّة، وعطايا الله بالجحود والعصيان. علامة ذلك أنهم طلبوا من النذيرين أن يشربوا خمرًا، وأوصوا الأنبياء ألاَّ ينطقوا بكلمة الرب. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [اتَّهم الله الإسرائيليِّين مُظهرًا أنهم يستحقُّون تأديبًا أعظم لأنهم أخطأوا بعدما وهبهم كرامات عظيمة هكذا[23]].

والعجيب أنه وضع سقْيْ النذيرين خمرًا قبل توصيتهم الأنبياء بألاَّ ينطقوا بكلمة الرب ونبوَّاته، لأن شرب الخمر إنما يُشير إلى فقدان الإنسان اتِّزانه وحكمته، فيخدم بيت الرب وهو في حالة سكر، ممَّا يفسد بيت الله ويحطِّم سلامه. وكما يقول القدِّيس جيروم: [كان هرون وغيره من الكهنة يمتنعون عن شرب كل مسكر عند دخولهم الهيكل لئلاَّ يموتوا. وهذا يعلِّمنا أن الذين يخدمون في الكنيسة بلا وقار يموتون[24]]، فإن كان إلزام الأنبياء أن يتوقَّفوا عن الشهادة لله بإعلان كلمة النبوَّة خطيَّة جسيمة، فبالأكثر من يدخل بيت الله لا يقف صامتًا عن الحق فحسب، وإنما في عدم وقار يشوِّش الحق ويفسد مقدِس الله ويعطِّل العمل الروحي.

نعود مرَّة أخرى إلى عمل الله مع إسرائيل لنرى عمله مع كل أحد منَّا، فالأموري الذي حطَّمه أمامنا ما هو إلاَّ عدوّ الخير إبليس الذي سيطر على الأرض زمانًا، يبدو كعملاق كالأرز وقويًا كالبلُّوط، فكنَّا نخافه ونرهبه، لكن الرب بصليبه حطَّم سلطانه، وبالكرازة به رآه ساقطًا من السماء كالبرق (لو 10: 18). أصعدنا الرب كما من أرض العبوديَّة، حاملاً إيَّانا بَروحه القدُّوس لنرث الأرض التي ملكها الأموري زمانًا، فصرنا ملوكًا وكهنة للرب. ليتنا لا نصنع ما فعله الإسرائيليُّون فنشرب من خمر العالم ونتوقَّف عن روح النبوَّة أو الشهادة للرب.

ثالثًا: سقوطهم جميعًا تحت التأديب [13-16]:

يؤكِّد الرب أنهم إذ أخطأوا فلا إمكانيّة للهروب من التأديب، وقد بدأ حديثه بالقول: "هأنذا أضغط ما تحتكم كما تضغط العجلة الملآنة حزمًا" [13]. وفي كثير من الترجمات: "هأنذا أضغط من تحتكم كما تضغط العجلة الملآنة". وكأن الله يشكو من ثقل خطايانا التي تضغط عليه، وكأننا عجلة مملوءة حزمًا.

الله الذي يحمل العالم كله بكلمة قدرته يئن من خطايانا وآثامنا! يقول: "لستُ أطيق الإثم والاعتكاف، رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضَتْها نفسي، صارت عليَّ ثقلاً، مللت حملها" (إش 1: 13-14). مرة أخرى إذ يرى يرّتد شعبه عنه يقول في مرارة: "قد انقلب عليَّ قلبي" (هو 11: 8).

ليتنا لا نكون كالعجلة المملوءة حزم شرّ، تثقل على نفس قلب أبينا السماوي، وتضغط على فادينا القائل: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت... يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنيَّ هذه الكأس" (مت 26: 38-39)، وإنما لنكن مركبة الله الناريَّة نحمل طبيعته السماويَّة عاملة فينا، فلا نُمثِّل ثقلاً وضغطًا عليه بل نطير بروح الله القدُّوس محلِّقين في السمويًّات، مُرتفعين من مجد إلى مجد بلا عائق!

ليتنا عِوض أن نكون عجلة مثقَّلة بحزم الشرّ المعطِّلة لعمل الله الخلاصي، نكون كسحابة خفيفة سريعة حاملة للرب الراكب عليها، متَّجهًا نحو مصر ليُقيم له مذبحًا في وسطها (إش 19).

يُكمل الرب حديثه: ويبيد المناص عن السريع، والقوي لا يشدِّد قوَّته، والبَطل لا ينجيَّ نفسه وماسك القوس لا يثبت، وسريع الرجلين لا ينجو، وراكب الخيل لا يُنجيَّ نفسه، والقوي القلب بين الأبطال يهرب عريانًا في ذلك اليوم يقول الرب" [14-19].

يا لها صورة قاسية وصعبه، فإنه لا يستطيع أحد مهما بلغت حكمته وإمكانيَّاته الهروب من التأديب. فيبيد المناص عن السريع، أي يهرب الملجأ أو المفر عمن يظن في نفسه أنه سريع البديهة، قادر على الفرار. فإنه في ذلك الوقت إذ يسقط الإنسان تحت ثمر خطاياه لا تنقذه إمكانيَّاته الفكريَّة في ذلك الوقت على التصرُّف (السريع)، ولا قوَّة الجسد تشدِّده، ولا بطولته التي اشتهر بها، ولا القوس الذي في يديه ولا الخيل الذي يركبه ولا قوَّة القلب التي عُرف بها... أنه لا يقدر على النجاة، بل يقف عاريًا لأنه يوجد غير لابس "المسيح" برِّنا!

ليتنا نقتني "المسيح يسوع" ربنا في داخلنا، هو وحده الذي نلبسه فيسترنا، ندخل فيّه فنحتمي، نمسك بصليبه كقوس قوي لا يخيب، تتشدَّد أرجلنا فنسلك طريق الحق، ويكون لنا إمكانيَّة الانطلاق لا بخيل بل بمركبة سماويَّة ويتشدّد قلبنا به، فيتحوَّل يوم الرب إلى يوم بهجة ونصرة. يسوعنا وحده هو قوَّتنا ونصرتنا وسلاحنا الروحي وثوبنا الأبدي ومجدنا وفرحنا الذي لا يُنزع عنَّا.

في القديم كان عمل الناموس أن يُعلن بطلان كل إمكانيَّاتنا البشريَّة في الخلاص لا لنعيش محطَّمين وإنما لنقبل مسيحنا كمصدر حق لخلاصنا.

تطلَّع المرتِّل إلى من حوله لعلَّه يجد في الرؤساء عونًا لكنه أدرك ضعفهم، إذ يقول: "لا تتَّكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده، تخرج روحه فيعود إلى ترابه" (مز 146: 3). وفي مرارة لم يجد حتى في والديه إمكانيَّة الخلاص: "أبي وأمي قد تركاني والرب يضمّني" (مز 27: 10). وإذ لم يجد في كل البشر معينًا قال: "أنا قلت في حيرتي كل إنسان كاذب" (مز 116: 10). وإن ظنَّ الإنسان في نفسه جبَّارًا أو صاحب إمكانيَّات يوبِّخه الرب "لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبَّار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه" (إر 9: 23). وإن اتَّكل على خيله يسمع: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 23: 17)، "قلتم لا بل على خيل نهرب، لذلك تهربون، وعلى خيل سريعة نركب لذلك يسرع طاردوكم" (إش 30: 16).

إذن لنقبل الله نفسه هو مخلِّصنا، حكمتنا، غنانا، قوَّتنا، وكل شيء بالنسبة لنا!

<<

 

 


 

الباب الثاني

 

 

 

عظات لإسرائيل

 

ص 3-8

 

 

عظة 1: إلى بني إسرائيل                            [ص 3.]

عظة 2: إلى بقرات باشان                           [ص 4.]

عظة 3: مرثاة على عذراء إسرائيل                  [ص 5: 1-17.]

مجموعة الويلات الأولى                             [ص 5.]

مجموعة الويلات الثانية                              [ص 6.]


 

تحوي هذه الأصحاحات الأربعة (3-6) ثلاث عظات ومجموعتين من الويلات، تبدأ كل عظة "اسمعوا هذا القول"، وكل مجموعة ويلات بكلمة "ويل".

1. عظة 1 [ص 3] موجَّهة إلى بني إسرائيل.

2. عظة 2 [ص 4] موجَّهة إلى بقرات باشان.

3. عظة 3 [ص 5: 1-17] موجَّهة إلى عذراء إسرائيل.

4. مجموعة الويلات الأولى [ص 5: 18-27] ضد المشتهين يوم الرب بغير استعداد.

5. مجموعة الويلات الثانية [ص 6] موجَّهة ضد السالكين بترف وتدليل في كبرياء وتشامخ.

هذه العظات ومجموعتا الويلات هي في جوهرها دعوة للتوبة، فهي تفضح الكثير من خطايا بني إسرائيل، التي للأسف يرتكبها حتى بعض المؤمنين في العهد الجديد، إنها تكشف ضعفاتنا في حياتنا مع الله وسلوكنا مع اخوتنا بل ومع أنفسنا، كما تعلن تأديب الله الحتمي لنا بسبب خطايانا ليدفعنا للرجوع إليه... لذا تكرَّرت العبارات "ترجعوا إلى الرب" (4: 11)، "اطلبوا الرب فتحيوا" (5: 4، 6)، "اطلبوا الخير لا الشرّ" (5: 14)، "ابغضوا الشرّ واحبُّوا الخير واثبتوا في الحق" (5: 15).

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

العظة الأولى

إلى بني إسرائيل

في هذه العظة يقدِّم الله تبريرًا لمحاكمته شعبه:

1. يعاقبهم لأنهم شعبه               [1-2.]

2. لا يعاقب بلا سبب                 [3-8.]

3. يُشهِّد الأمم عليهم                 [9-11.]

4. ليس من يفلت منهم               [12-15.]

1. يعاقبهم لأنهم شعبه:

"اسمعوا هذا القول الذي تكلَّم به الرب عليكم يا بني إسرائيل، على كل القبيلة التي أصعدتها من أرض مصر قائلاً: إيَّاكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" [1-2.]

كأن الله بهذه المقدِّمة يدعوهم إلى محكمته معلنًا أنه جهة الاختصاص، فإنه يدعو كل الشعب بكونه كل القبيلة أو العائلة التي نزلت إلى مصر، ومن هناك أنقذها، لقد عرفها باسمها واهتم بها ودعاها باسمه دون سائر قبائل الأرض، هذا الحب وهذه الرعاية لا تعني أنه يغمض عينيه عن أخطائهم، وإنما تُحمِّلهم بالأكثر المسؤليَّة، فإنه لا يقبل الشركة مع أناس مذنبين. لقد عرفهم وعرفوه، إذ قيل "الله معروف في يهوذا" (مز 76: 1). لذلك فمسئوليَّتهم أعظم، إذ يقول الرب: "وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيِّده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيرًا، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاًً، فكل من أُعطيَ كثيرًا يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر" (لو 12: 47-48). كما ازدادت معرفتنا لإرادة الله وأسراره وأعمال محبَّته الفائقة صرنا نُطالب بأكثر، وتكون مسئوليَّتنا أمامه أعظم من غيرنا. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [الجريمة ليست موضع نقاش في حالة من كان يعرف إرادة سيِّده ويهملها، ولا يعمل بما يليق مع إنه من واجبه أن يعمل[25].]

2. لا يعاقب بلا سبب:

إن كان الله قد قدَّم شعبه للمحاكمة أمامه لأنه موضع الاختصاص، فإنه كأسد يزمجر علامة أنهم مستحقُّون الدينونة، فإن الله لا يطلب محاكمة شعبه بلا سبب، وقد وضع الرب الدليل خلال سبعة أسئلة تكشف أنه لا مجال لله أن يغضب بلا سبب... وأنه في نفس الوقت إذ يحاكم يدخل معهم في حديث مشترك موضِّحًا لهم أسرار محاكمته، إذ "يُعلن سرُّه لعبيده الأنبياء" [7.]

أما الأسئلة السبعة فهي:

"هل يسير اثنان معًا إن لم يتواعدا؟!

هل يزمجر الأسد في الوعر وليس له فريسة؟!

هل يعطي شبل الأسد زئيره من خدره إن لم يخطف؟!

هل يسقط عصفور في فخ الأرض وليس له شرك؟!

هل يُرفع فخ عن الأرض وهو لم يمسك شيئًا؟!

أم يُضرب بالبوق في مدينة والشعب لا يرتعد؟!

هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟! [3-6.]

فإن كانت كل الإجابات على الأسئلة السابقة بالنفي، فإنه يكمل على نفس الوتيرة: "إن السيِّد الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يُعلن سرُّه لعبيده الأنبياء. الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟! السيِّد الرب قد تكلَّم فمن لا يتنبَّأ؟! [7-8.]

إن كان هذا الحديث قد كشف أن المحاكمة التي تتم ليست أمرًا وهميًا، بل هي أمر جاد وخطير، حقيقة واقعة تتحقَّق ليس بدون أسباب، وإنما قد فاض الكيل من جهة ما ارتكبه الشعب ضد القدُّوس، وفي حق نفسه، فإن هذه الأمثلة السبعة كشفت عن جوانب هامة وخطيرة تمس علاقة الله بشعبه التي بسببها تتم المحاكمة، أهمها:

أولاً: الحاجة إلى عهد جديد، إذ يفتتح حديثه بالقول: "هل يسير اثنان معًا أن لم يتواعدا (أو يكون بينهما موعد واتفاق)؟!، حتمًا لا! كيف إذن يسير الله والإنسان معًا، وقد كسر شعب الله العهد ونقض الاتفاق؟! يقول الرب: "وإن لم تتأدّبوا منيّ بذلك، بل سلكتم معي بالخلاف، فإني أنا أسلك معكم بالخلاف وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم" (لا 26: 23-24). إذا نقض الشعب العهد فكيف يسير الله معه؟! لهذا صارت الضرورة ملحَّة إلى إقامة عهد جديد فيه يتصالح الله مع شعبه.

هذا ما أعلنه الرب بإرميا النبي: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد... اجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون ليّ شعبًا" (إر 31: 31-33). وقد تحقَّق ذلك في خميس العهد، حيث قدَّم لنا السيِّد المسيح جسده المبذول عهدًا جديدًا، فيه نلتقي مع الآب باتِّحادنا معه في ابنه يسوع المصلوب. ننعم بالجسد المكسور عنَّا والدم المبذول لأجل خلاصنا كعهد جديد، فيه تثبت بنوّتنا للآب، وأبوَّته لنا باتِّحادنا في جسد ابنه وحيد الجنس! حقًا في المسيح يسوع الذبيح نلتقي مع الآب ونسير معًا، إذ قد تواعدنا معًا بفكر ابنه وعهده الأبدي.

ثانيًا: يُعلن الله أنه في المُحاكمة لا يعرف التراخي، ففي عدله يتركنا للشرّ الذي اقتنيناه لأنفسنا بحرِّيتنا، فيكون هو كالأسد الذي يُزمجر في الوعر حيث البشريَّة الوعرة التي بلا ثمر، كالصحراء الجافة، صرنا فريسة تُلتهم. ويكون هو كالشبل الذي يمسك بالفريسة المقدَّمة له ليأخذ منها نصيبًا... صرنا فريسة، ولا هروب من زمجرة الأسد وزئير الشبل إلاَّ بالالتجاء إلى الصليب، لنرى الأسد الخارج من يهوذا مزمجرًا ليس علينا بل على خطايانا، ولا ليفترسنا وإنما ليحطِّم إبليس عدوِّنا! لنهرب من الغضب الإلهي الذي يُزمجر بسبب قبولنا العدو، بالهروب إلى الله مخلِّصنا الذي يفدينا من هذا العدو!

ثالثًا: إذ يقدِّم لنا مثَل العصفور الذي يسقط بسبب وجود فخ، أو الفخ الذي يُرفع لأنه قد اقتنص عصفورًا، إنما يُعلن الرب إننا في المحاكمة أشبه بالعصفور الساقط في فخ، هل نقدر أن نخلص بأنفسنا؟! بالرب فادينا نقول: "لأنه ينجِّيك من فخ الصيَّاد ومن الوبأ الخطر" (مز 91: 3). "انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيَّادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا، عوننا باسم الرب الصانع السماوات والأرض" (مز 123: 7). يقول القدِّيس جيروم: [ما هو الفخ الذي انكسر؟ يقول الرسول: "(الرب) سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا" (رو 16: 20)، "فتستفيقوا من فخ إبليس" (2 تي 2: 26). ها أنتم ترون الشيطان هو الصيَّاد، يشتاق أن يصطاد نفوسنا للهلاك. الشيطان هو سيِّد فخاخ كثيرة، وخداعات من كل نوع... لكن متى كنَّا في حالة النعمة تكون نفوسنا في أمان، لكن ما أن نلهو بالخطيَّة حتى تضطرب نفوسنا وتصير كسفينة تلطمها الأمواج[26].] ويقول أيضًا: [كما إن الرب يلقي الشبكة ويصطاد عددًا ضخمًا من السمك، وتلاميذه كصيَّادي سمك يجمعون الذين يَقبلون الإيمان به خلالهم ويحضرونهم إليه، هكذا أيضًا إبليس له شيَّاطينه الخاضعة له الذين ينصبون الشباك للناس ويقتادونهم إليه[27].]

ويقدِّم لنا القدِّيس أغسطينوس سرّ انفلاتنا من الفخ: [لأن الرب في النفس ذاتها، لهذا فلتت النفس هكذا كطائر من فخ الصيَّادين... ليكن الرب في داخلك، وهو يخلِّصك من تهديدات أعظم، من فخ الصيَّادين... الفخ سينكسر، تأكَّد من هذا، فإن ملذَّات الحياة الحاضرة لن تدوم عندما يتحقَّق مصيرها النهائي. لذا ليتنا لا نرتبك بها حتى متى أِنكسر الفخ نفرح قائلين: الفخ أِنكسر ونحن نجونا. ولئلاَّ تظن أنك تستطيع ذلك بقوَّتك الذاتيَّة، أُنظر من الذي يعمل على نجاتك وقل: [عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض"[28]...]

رابعًا: يقول: "أم يضرب بالبوق في مدينة والشعب لا يرتعد؟!. إنها حالة حرب روحيِّة دائمة! ما دمنا في العالم فالعدوّ لا يتوقَّف عن مقاومتنا حتى يغتصبنا من ملكوت الله إلى ملكوت ظلمته، لذا فالرب يرسل خدَّامه ليضربوا دومًا ببوق الإنجيل حتى تتحقَّق النصرة النهائيَّة. يقول الرسول بولس: "أخيرًا يا أخوتي تقوُّوا في الرب وفي شدَّة قوَّته، ألبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيِّة في السماويًّات" (أف 6: 10-12).

يقول القدِّيس أغسطينوس: [لنتطلَّع إلى عدوِّين، العدوّ الذي نراه، والعدوّ الذي لا نراه، والإنسان نراه، والشيطان لا نراه، لنحب الإنسان ولنحذر من الشيطان. لنصلِّي من أجل الإنسان، ولنصلِّي ضد الشيطان، ويقدِّم تعليلاً لذلك: "فإننا إذ نعاني من البشر الذين يضايقوننا، إنما لأنهم آنية للشيطان، هو يستخدمهم ويلهبهم كآنية يحرِّكها لحسابه[29].]

خامسًا: يُعلن الرب أنه هو الذي يسمح بالمحاكمة لأجل التأديب. "هل تحدُث بليَّة (شرّ) في المدينة والرب لم يصنعها"؟!. وقد تحدَّث الآباء كثيرًا عن كلمة "شرّ" الواردة هنا أو في العبارات المماثلة مميِّزين بين نوعين من الشرّ، الشرّ الذي بطبعه شرًا ومضاد للفضيلة أو الصلاح، والشرّ الذي هو ألم أو ضيق نحسبه نحن شرًا. هذا ما أكَّده القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[30] في أكثر من موضع، وكما يقول الأب يوحنا الدمشقي: [لا يقصد بهذه الكلمات أن الله هو علَّة الشرّ، بل أن كلمة "شرّ" تستخدم بطريقتين، بمعنيين. أحيانًا تعني ما هو شرّ بطبيعته، هذا هو ضد الفضيلة وضد إرادة الله، وأحيانًا تعني ما هو شرّ وضيق لإحساسنا، أي الأحزان والكوارث. هذه تبدو شرًا لأنها مؤلمة، وإن كانت في الحقيقة هي صالحة، إذ تكون بالنسبة للفاهمين صفَّارة للتحوِّل والخلاص. هذه يقول الكتاب عنها إن "الله هو مصدرها"[31].] كما يقول الأب ثيؤدور: [حينما يتحدَّث الحكم الإلهي مع البشر يتكلَّم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشريَّة. فالطبيب يقوم بقطع أو كيّ الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحّتهم، ومع هذا يراه غير القادرين على الاحتمال أنه شرّ[32].]

سادسًا: يُعلن الله أنه إن كان هو الذي يسمح بالتأديب، فهو "يُعلن سرّه لعبيده الأنبياء"، هذا ما نراه في كل أسفار الأنبياء، أن الله لا يتعامل بصورة دكتاتوريَّة، ويأمر وينهي، وإنما يُعلن أسراره ويحاجج. لهذا فكثيرًا ما يكرِّر في أحاديثه من أجل ضعف الإنسان حتى يدرك الأسرار غير المدركة، ومقاصد الله العُليا قدر ما يستطيع الإنسان أن يتقبَّل.

الله يحب الإنسان، يتحدَّث معه كمن هو نِدّ لنِدّ، فعندما أراد حرق سدوم وعمورة قال: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟!" (تك 18: 17). وأعطى لإبراهيم فرصة الحوار في أمر سدوم وعمورة، حتى قال له إبراهيم: "أفتُهلك البار مع الأثيم؟!... أديَّان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟!" (تك 18: 23-25). ولم يغضب الرب عليه بل أكمل الحوار وكأنه صديقه ونِدُّه!! وفي أكثر من موضع يُعلن "هلم نتحاجج يقول الرب"... أنه يريد الحوار مع الإنسان ليُعلن سرّه للمستقيمين خائفيه. فقد قيل: "أما سرُّه فعند المستقيمين" (أم 3: 32)، "سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم" (مز 25: 14).

سابعًا: أخيرًا يعاتبهم الرب: "الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟! السيِّد الرب قد تكلَّم فمن لا يتنبَّأ؟!" [8]، إن كان الله في محبَّته يُعلن سرّه لأنبيائه، فكيف لا يُعلنون هم بدورهم للشعب زمجر الأسد الخارج من سبطه فيهابونه وكلماته ليستعد الكل لملاقاته. إن عمل الأنبياء تبليغ الرسالة الإلهيَّة ولو ظهرت كنار محرقة أو زمجر أسد، حتى يخاف الكل ويرجع إلى الله... أما غاية هذا كله فهو أن ينطق الأنبياء بالنبوّات كطريق تمهيدي لمجيء السيِّد.

وللقدِّيس أغسطينوس تعليق لطيف على القول: "الأسد قد زمجر فمن لا يخاف؟!" إذ يقول: [إن الإنسان قد استطاع أن يُروِّض الأسد فلا يخافها متى رُوِّضت، لكنه لا يقدر أن يُروِّض نفسه، فليُسلِّمها لله وحده مُروِّض النفوس. هل أنت أقوى من الأسد؟ لأنك على صورة الله! ماذا؟ هل تستطيع صورة الله (أي الإنسان) أن تروِّض الوحوش المفترسة ولا يقدر الله أن يروض صورته؟![33].] إذن لنسلِّم نفوسنا في يديه، فهو وحده القادر على ترويضها.

3. يُشهد الأمم عليهم:

لقد أراد الله أن يُشهد عليهم جيرانهم الوثنيِّين، أغنياء أشدود بفلسطين (في الترجمة السبعينيّة آشور) وأغنياء مصر، القريبين إليهم والبعيدين ليأتوا ويشهدوا منصًّة الحكم، وكأن الله لم يجد من يُحكم بينه وبين كرمه رجالاً أبرارًا من شعبه، فالتجأ إلى الغرباء ليحكموا إن كان في قضاء الله ظلم نحو شعبه. ولعلَّه أراد بدعوتهم أيضًا أن يتلامسوا معه ويُدركوا قداسته، فيتعظَّوا، لأنه إن كان يُحاكم شعبه على خطاياهم فهل ينحاز لغير شعبه؟! ففي حضورهم فرصة لمراجعتهم لأنفسهم هم أيضًا.

إن بشاعة ذنوب السامرة - عاصمة إسرائيل - في داخلها قد بلغت لا إلى الله القدُّوس فلا يطيقها، وإنما حتى إلى الأمم فتشهد عليهم بشرِّهم... لأن رائحة الشرّ بلغت إليهم. يا للمرارة عِوض أن يشهد أبناء الملكوت ضد الأشرار ويدينوهم، صار الأشرار شهودًا ضد شعب الله، يرون في وسطهم شغبًا عظيمًا وتشويشًا، عِوض الحياة السمائيَّة الفائقة المجد، وفي داخلها مظالم عِوض العدل والبرّ، تحوَّلوا إلى مخازن للظلم والاغتصاب حتى لم يقدروا أن يصنعوا الاستقامة. يقول الرب للأمم عن شعبه "اجتمعوا على جبل السامرة وانظروا شغبًا عظيمًا في وسطها، ومظالم في داخلها، فإنهم لا يعرفون أن يصنعوا الاستقامة... أولئك الذين يُخزِّنون الظلم والاغتصاب في قصورهم" [9-10.] لذلك يُحاصرها بالضيق من كل ناحية وينزع منها عزّها وسلطانها!

لقد صار إسرائيل كالملح الذي كان يجب أن يُصلح الآخرين، لكنه وقد فسد فبماذا يملَّح؟ "لا يصلح لشيء إلاَّ لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس" (مت 5: 13). كان إسرائيل في عيني الله أشبه برئيس الكهنة الذي يشفع عن الأمم الوثنيَّة، فإن أخطأ هو من يشفع عنه؟! كأن يليق بإسرائيل أن يكون معلِّم الأمم عن الخلاص، لكنه إذ ترك الإيمان ماذا يكون جزاؤه؟

هذا كله يرعب المسيحي خاصة الكاهن، فإنه قدر ما تتَّسع مسئوليَّتنا يكون العقاب أشدّ متى أخطأنا. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن سقط الآخرون ربَّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلِّم، فإنه بلا عذر ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة[34].]

4. ليس من يفلت منهم:

لقد قدَّم الله تشبيهًا عجيبًا في تأديبه لشعبه، فإنه وإن كان هو الراعي الذي يبحث عن كل خروف ضال، ينتشله من فم الأسد، ولو لم يبق فيه سوى ساقين أو جزءًا حتى من أذنه... هذه الرعاية الفائقة والحب العجيب هو الذي يجعله أيضًا يفتش عن شعبه أينما وُجدوا، ليسمح لهم بالسبي لأجل التأديب.

لقد اهتزَّت مشاعر كثير من الآباء أمام محبَّة الله الفائقة الرعويَّة حتى قال القدِّيس باسيليوس في إحدى رسائله: [جاهد أن تقوم من الأرض، وتذكَّر أن لك الراعي الصالح الذي يقـتـفي أثرك ويخلِّصك حتى وإن لم يبق فيك سوى ساقين أو قطعة من الأذن، يُخرجها من فم الوحش الذي جرحك. تذكَّر مراحم الله، فإنه يشفيك بالزيت والخمر. لا تيأس من الخلاص[35].]

الرب الذي بحبُّه ينتزعنا من فم الأسد، هو ينتزع الإسرائيليِّين من أرضهم أيَّا كانوا، "الجالسون في السامرة في زاوية السرير" [12.] ويقتفي أثرهم حتى إن هربوا إلى دمشق، ولو في فراش فمن هناك يسحبهم إلى أرض السبي.

إنه يُعاقب لا لأجل العقاب في ذاته، وإنما لأمرين: نزع عبادة الأوثان "أُعاقب مذابح بيت إيل، فتُقطع قرون المذبح وتسقط إلى الأرض"، وتحطيم حياة الترف والتدليل، هؤلاء الذين اشتروا بيوتًا خاصة بالصيف وأخرى خاصة بالشتاء، ويقيمون لأنفسهم بيوتًا عظيمة وثمينة من العاج!

<<


الأصحاح الرابع

العظة الثانية

إلى بقرات باشان

يوجِّه الرب حديثه إلى بني إسرائيل داعيًا إيَّاهم بقرات باشان السمينة التي ترعى على جبل السامرة، لا على حساب غيرها فحسب، وإنما أيضًا تحطَِّمهم، لذا استحقَّت التأديب مهما قدَّمت من ذبائح وتقدمات. أنه تأديب مستمر وبطرق متنوِّعة حتى تطلب الخلاص.

1. بقرات باشان الظالمة             [1 ـ 3].

2. رفض العبادة مع الظلم            [4 ـ 5].

3. تأديبات متنوِّعة                   [6 ـ 11].

4. إشراقة الخلاص                  [12 ـ 13].

1. بقرات باشان الظالمة:

"اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة، الظالمة المساكين، الساحقة البائسين، القائلة لسادتها: هات لنشرب" [1].

"باشان" اسم عبري يعني "أرض مستوية أو ممهَّدة"، كان يشير إلى نصف سبط منسَّى (تث 3: 13)، تقع في أرض كنعان شرقي الأردن بين جبل حرمود وجلعاد (عد 21: 33)، تربتها خصبة للغاية وماؤها غزير. ذُكرت في الكتاب المقدَّس حوالي 60 مرَّة. عُرفت بقطيعها (مز 22: 12، حز 39: 18)، الذي اتَّسم بالشحم الكثير (تث 32: 14)، واشتهرت بغابات البلُّوط الدائمة الخُضرة (إش 2: 13، حز 27: 6، زك 11: 2) حتى يومنا هذا[36].

هنا يشبِّه الرب شعب بني إسرائيل ببقرات باشان السمينة والقويَّة، التي ترعى في مراع دسمة، وقد اتَّسمت بظلمها للمساكين وسحْقها للبائسين. لقد رعى أغنياء الشعب وأشرافه وسط غنى فاحش، مغتصبين كل شيء لحسابهم. وعِوض أن يغيثوا البائسين والمظلومين يستغلُّون فقرهم وبؤسهم وعجزهم ليسحقوهم بالأكثر بالظلم والاستبداد، فيزداد الغني في غناه، والفقير في فقره وبؤسه.

هؤلاء الأغنياء يذهبون إلى السادة الظالمين مثلهم ويقولون: "هات لنشرب"، أي لنسكر معكم في ولائكم وننعم بالملذَّات والشهوات وسط سحق البائسين ودموع المظلومين، وكأنهم لا يجدون لذَّة في السكر إلاَّ بمزجها بالدموع وخلطها بالظلم. وكما يقول الحكيم: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس، فهوذا دموع المظلومين ولا مُعزّ لهم، ومن يد ظالميهم قهر" (جا 1: 4).

ويرى البعض[37] أن بقرات باشان هنا ليست إلاَّ النساء الإسرائيليَّات اللواتي صِرن سمينات من كثرة الولائم، وحياة الترف الزائد وعنيفات، هؤلاء اللواتي يسكُنَّ في السامرة يطلبن من رجالهن، أي من سادتهن أو "بعولهن" أن يحقَّقوا لهُنَّ ما يطلبه البعل الأعظم. فإن كانت عبادة البعل تقوم أساسًا على السكر بصورة صارخة، لهذا فهؤلاء "البعول" يقدِّمن الشرب لنسائهن. وكأن بقرات باشان هن مسئولات بصورة رئيسيَّة عن الظلم الذي يقع على الفقراء والبائسين بسبب تحريضهن بعولهن على ذلك لتحقيق ملذَّاتهن الزائلة، خاصة السكر الدائم بغير انقطاع!

ماذا يفعل الله بهؤلاء البقرات الظالمات؟

قد أقسم السيِّد الرب بقدسه: "هوذا أيام تأتي عليكن يأخذونكن بخزائم (صنَّارة أو كلاّب) وذُرِّيتكن بشصوص السمك، ومن الشقوق تخرجن كل واحدة على وجهها وتندفعن إلى الحصن (القصر، هرمون) يقول الرب" [2-3].

ماذا يفعل الرب بهن؟

أولاً: يقسم الرب بقدسه أنه يتدَّخل من أجل ما فعلته بقرات باشان بأولاده البائسين المحتاجين، لتحقيق شربهن وملذَّاتهن، فإنه يأخذهن بخزائم، وكما يقول الرب لسنحاريب ملك أشور على لسان إشعياء: "لأن هيجانك عليّ وعجرفتك قد صعدا إلى أذنيّ، أضع خزامتي في أنفك وشكيمتي في شفتيك وأرُدَّك في الطريق الذي جئت فيه" (إش 37: 29، 2 مل 19: 28).

يبدو أن الخُزامة كانت توضع في أنف الحيوان العنيف لسحبه في مذلَّة، وخاصة الحيوانات المفترسة كالأسود، لذلك استخدمت في سحب المسبيِّين خاصة الملوك لإذلالهم، كما فعل ملك أشور بمنسى (2 أي 33: 11)[38]. فإن كانت بقرات باشان قد هاجت على المساكين لأجل ملذَّاتهن، فإن الله يسحبهن كأسيرات، يمسك بهن ويضع خزائم في أنوفهن ليصرن مسبيَّات بلا كرامة ولا سلطان أو قوَّة!.

العالم في ملذَّاته يلهو بالإنسان فيجعله كحيوان مفترس، ظانًا أنه ليس من يهرب من بين يديه وأنيابه، لكنه سرعان ما يجد نفسه مقتادًا في مذلَّة إلى حيث يذوق ثمرة ظلمه.

ثانيًا: لا يقف التأديب عند البقرات، وإنما يصطاد أولادهن كالسمك بالصنَّارة! فالإنسان في لهوه يهيِّئ الخسارة بل والهلاك حتى لأولاده.

إن كان بنو إسرائيل يمثِّلون النفس البشريَّة، فإن نساءهم أي بقرات باشان يُشرن إلى الجسد الذي يسقط في مذلَّة مع النفس ويتحطَّم، أمَّا الأولاد فيُشيرون إلى مواهب الإنسان التي تهوى مع الخطيَّة ليفقد الإنسان روحه وجسده وكل مواهبه وطاقاته بسبب الخطيَّة. على العكس فإن الصدِّيق تفرح نفسه ويتقدَّس جسده وتنمو مواهبه، وكما يقول المرتِّل: "اِمرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك، هكذا يبارَك الرجل المتَّقي الرب" (مز 128: 3-4)، يتبارك هو وامرأته وأولاده، أي نفسه وجسده وكل مواهبه!

ثالثًا: تخرج كل بقرة من الشقوق على وجهها لتندفع إلى الحصن، أو إلى القصر أو إلى هرمون (حسب النص اليوناني). لعلَّ الشقوق قد حدثت في الأسوار، إذ رفضت بقرات باشان بظلمها ونجاساتها أن تبقى داخل أسوار الوصيَّة الإلهيَّة، فهربت من الشقوق لكي لا تلتقي بالوصيَّة، وانطلقت إلى القصر الذي صنعته لنفسها أو الحصن الذي هو من عمل يديها، لعلَّه يقدر أن يحميها، كما فعل الإنسان قديمًا حين حاول بناء برج بابل ليختفي فيه من وجه الله عند الطوفان!

إن كان النص اليُّوناني ذكر "حرمون" عِوض الحصن، فلعلَّ الشقوق هنا تعني أن بقرات باشان اللواتي صنعن ظلمًا ضد البائسين تسقطن تحت السبي عندما تتشقَّق أسوار السامرة وتنهدم، فلا تجدن مهربًا بل يؤخذن للسبي كما للذبح، وينطلق بهن العدوّ إلى هرمون حيث السبي[39]، أو إلى القصر أو الحصن ليبقين هناك مسبيَّات ذليلات.

2. رفض العبادة مع الظلّم:

ربما يظن بني إسرائيل أن هذه التحذيرات لا تخصُّهم، فإنهم يذهبون إلى بيت إيل ليقدِّموا ذبائح كل صباح، ويوفون العشور كل ثلاثة أيام بلا تأخير، ويوقدون تقدمة شكر لله... أنهم في نظر أنفسهم محبُّون لله، يقدِّمون له عطايا وتقدمات بلا حصر!

ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه، فيعالج شرُّه لا بالتوبة والرجوع إلى الله وإنما بالتوقّف عند بعض مظاهر العبادة، فيحرمون الطقس الكنسي من روحه بعزله عن الحياة الإيمانيَّة العمليَّة، ويشوِّهون التقدمات والعطايا بتقديمها دون القلب!

"هلُمَّ إلى بيت إيل واذنبوا إلى الجلجال وأكثروا الذنوب" [4].

يقول الرب هذا بلغة التهكُّم، فإنهم يصنعون كل الشرور والمظالم ويذهبون إلى الأماكن المقدَّسة يملأونها... وكأنه شعب متَّسم بالتديّن والروحانيَّة! يذهبون إلى المقدَّسات وهم غير مقدَّسين. يزورون بيت الله ولا يرجعون إلى الله نفسه! لهذا يقول لهم: "أذنبوا... وأكثروا الذنوب"، وكأنه يقول إن كانت كثرة زياراتكم للمقدَّسات هي تغطية لشروركم الخفيَّة، فإنكم تزيدون الذنوب ذنبًا، وتعالجون الجراحات بجراحات أخطر!

"أحضروا كل صباح ذبائحكم وكل ثلاثة أيام عشوركم" [4].

لقد التزم اليهودي أن يقدِّم ذبيحة سنويَّة (1 صم 1: 3، 7، 21)، وأن يقدِّم حسابات عشوره كل ثلاث سنوات (تث 14: 28، 26: 12). فإن قدَّم الظالم ذبيحة يوميَّة عِوض السنويَّة، وأعطى عشوره كل ثلاثة أيام عِوض كل ثلاثة سنين فهو ليس بمقبول لدى الله... فإن الله لا يرتشي بالتقدمات والأموال، إنما يطلب روح العطيَّة، الثمر الداخلي في القلب، لا العطيَّة في ذاتها. وكما يقول القدِّيس بولس لشعب فيلبِّي المملوء حبًا: "أرسلتم إليّ مرَّة ومرَّتين لحاجتي، ليس أني أطلب العطيَّة بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4 : 16-17). لهذا السبب عينه يحذِّرنا ذات الرسول من العطاء بلا حب، قائلاً: "إن أطعمت كل أموالي وإن سلَّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس محبَّة فلا أنتفع شيئًا" (1 كو 13: 3).

"وأوقدوا من الخمير تقدمة شكر ونادوا بنوافل وسمعوا، لأنكم هكذا أحببتم يا بني إسرائيل يقول السيِّد الرب" [5]. كأنه يقول: إن كنتم تأتون إلى بيتي ومقدَّساتي وتقدِّمون الذبائح وتدفعون العشور، فقد أحببتم أن تغيظوني، لأنكم تقدِّمون الخمير تقدمة شكر والنوافل لبيتي. فقد منعت الشريعة تقديم الخمير: "كل التقدمات التي تقربونها للرب لا تصطنع خميرًا، لأن كل خمير وكل عسل لا توقدوا منهما وقودًا للرب" (لا 2: 11). كان الخمير يُشير إلى الشرّ الذي ينتشر كالخمير وسط العجين، هكذا فيما هم يقدِّمون التقدمات يحملون في وسطها شرّهم وكأنها تقدمة شكر... وإن كانت في الواقع هي تقدمة إغاظة للرب.

وفي الترجمة السبعينيّة: "يقرءون الشريعة خارجًا ويدعون إلى محافل عامة". ولعلَّه يقصد بذلك أنهم يتظاهرون بالتديّن بالحديث عن الشريعة الإلهيَّة مع غير المؤمنين، ويجادلون معهم فيها بغيرة شديدة، ويؤكِّدون هذه الغيرة بالدعوة للمحافل العامة. يقابل هذا أنهم لا يحملون الشريعة في قلبهم في الداخل، وليست لهم علاقة شخصيَّة مع الله! هذه هي أخطر صور التديّن حين ينصبّ كله في الغيرة التي بلا حياة داخليَّة، وإلى اشتراك في العبادة الجماعيَّة والاحتفالات الدينيّة دون العلاقة الخفيّة في النفس أو في المخدع مع الله! هذا هو ما أحبَّه بنو إسرائيل كما يقول الرب.

3. تأديبات متنوّعة:

لقد عدَّد لهم التأديبات التي سمح لهم أن يسقطوا تحتها، ومع ذلك لم ينتفعوا منها، إذ في كل مرَّة يعاقب قائلاً: "فلم ترجعوا إليّ يقول الرب" [6، 8-11]. وكأن التأديب في عيني الله ليس انتقامًا لنفسه وإنما هو حب... أنه يشتهي رجوع الإنسان إليه.

إن كانت التأديبات الماضية مع كثرتها وتنوُّعها لم تحقِّق هدفها بسبب قسوة قلب الإنسان، فإنه يلتزم بتقديم تأديب أقسى حتى يفوق الإنسان من سكره ويتعرَّف على الله ويستعد للقاء معه: "فمن أجل أنيّ أصنع بك هذا فاستعد للقاء إلهك يا إسرائيل" [12]. ولعلَّ هذه العبارة هي مفتاح السفر كله، بل مفتاح الكتاب المقدَّس كله، إن كل ما يصنعه الله بشعبه من الطف أو حزم، ترفُّق أو شدَّة، إنما لكي يستعد للقاء إلهه النازل إليه ليسكن فيّه ويقدِّسه شعبًا له!

ما هي التأديبات التي سمح الله بها لشعبه؟

"وأنا أيضًا أعطيتكم نظافة (خمول أو توقُّف عن العمل) الأسنان في جميع مدنكم، وعوز الخبز في جميع أماكنكم" [6]. فقد صارت أسنانهم نظيفة بسبب حرمانها من المضغ والأكل، فلا يدخل فمهم شيء قط! وفي الترجمة السبعينيّة: "صارت أسنانهم عاطلة بلا عمل... وكأنها بالإنسان العاطل الذي بلا نفع لنفسه أو لغيره.   

قوله "أنا أعطيتكم" يُشير إلى إن ما يحدث من كوارث طبيعيَّة، تسبب مجاعات حتى تصير أسنانهم نظيفة بسبب عدم الاستعمال، هذه تتم ليس محض صدفة، وإنما بخطة إلهيَّة محكمة وتدبير علوي فائق. هذا وإن ما يحدث إنما هو عطيَّة الله "أنا أعطيتكم"، يهب الخيرات كما يمنح الضيق والتجارب والمجاعات. بحبّه يترفَّق بنا ويشبعنا، وبحكمته يحرمنا ويؤدِّبنا لنرجع إليه.

ما يسمح به من تجارب وتأديبات، إنما يكشف بها عن عمل الخطيَّة فينا وثمرها الخفي في داخلنا، إذ تُسبب:

أولاً: مجاعات "عوز الخبز في جميع أماكنكم" [6]، ولعلَّه قصد بها المجاعة التي حدثت في أيام إليشع النبي وظلّت سبع سنوات (2 مل 8: 1). هكذا تدفع الخطيَّة إلى مجاعة روحيِّة فيصير الإنسان في عوز الخبز الروحي في كل حياته الداخليَّة. يعيش بلا شبع، في فراغ شديد لا يقدر أحد أن يملأه سوى الرب نفسه الخبز النازل من السماء (يو 6).

ثانيًا: جفاف روحي "وأنا أيضًا منعت عنكم المطر إذ بقي ثلاثة أشهر للحصاد، وأمطرتُ على مدينة واحدة وعلى مدينة أخرى لم أمطر... فجالت مدينتان أو ثلاث إلى مدينة واحدة لتشرب ولم تشبع" [7-8]. إذ ترفض النفس ينبوع المياه الحيِّة (إر 2: 13) أي المسيح المخلِّص، تُحرم من مطر الروح القدس فتبقى في حالة جفاف! مدينتان متجاورتان ترتوي إحداهما بمطر الروح وتجف الأخرى، ضيعتان أو حقلان في مدينة واحدة، يرتوي حقل بنعمة الروح ويبقى الآخر جافًا! هكذا يضم العالم قلوبًا متنوِّعة، منها قلوب انفتحت على عطيَّة الروح الناري لتلتهب به وتحمل الطبيعة السماويَّة، وأخرى تنغلق على ذاتها لتحيا في جفافها ميِّتة بالروح لا تنعم بشيء إلاَّ العقم والهلاك! وكما يقول الرب: "هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون، هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون، هوذا عبيدي يفرحون وأنتم تخزون، هوذا عبيدي يترنَّمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كآبة القلب ومن انكسار الروح تولولون" (إش 65: 13-14).

ما هي المدينتان أو الثلاث اللواتي جلن إلى مدينة واحدة لتشرب ماء ولم تشبع إلاَّ العذارى الجاهلات اللواتي يسألن الحكيمات زيتًا لئلاَّ تنطفئ مصابيحهن، فتجيب الحكيمات: "لعلَّه لا يكفي لنا ولكُنّ" (مت 25: 9)، فيخرجن خارج العرس ويغلق الباب دونهن!

ثالثًا: الضرب بالحشرات المفسدة كاللفح واليرقان والجراد، فتأكل ثمار النفس، تفسد جنَّتها الداخليَّة وتحكم كرومها وتينها... وقد سبق لنا الحديث بأكثر توسُّع عن حملات الجراد والكروم والتين في دراستنا لسفر يوئيل.

إن كانت النفس هي الفردوس الداخلي أو الجنَّة التي يفرح الله بكرومها الروحيِّة وتينها، فإن الخطيَّة كالحشرة تحوِّل الفردوس برَِّيَّة وأشجار الفاكهة وعرًا!

رابعًا: الوبأ الذي يصيب النفس والجسد معًا، يصيِّر الإنسان في حالة مرض، مستلقي على الفراش بلا قوَّة وعاجز عن العمل! أنه يحتاج إلى المخلِّص، طبيب النفس الحقيقي!

خامسًا: قتل فتيانهم بالسيف، أي تحطيم مواهب الإنسان (أولاده) وطاقاته.

سادسًا: سبي خيّلهم، فإن كان الخيل يُشير إلى القوَّة والجبروت، فإن الإنسان إذ يرتكب الخطيَّة يفقد سيادته لنفسه، ويصير مسبيًا بلا قوَّة ولا حرِّيَّة عمل!

سابعًا: صعود نتن محالِّهم إلى أنوفهم... عِوض أن يحمل الإنسان رائحة المسيح الذكيَّة التي تُفرِّح قلب الآب وتبهج السمائيِّين، يفوح من الإنسان نتانة رائحة ذاته الداخليَّة، وكأنه ميِّت قد أنتن! أنه يحتاج أن يسمع صوت ربنا يسوع: "لعازر هلمَّ خارجًا" فيخرج الميِّت الذي أنتن من قبره يحمل رائحة حياة عِوض الموت!

ثامنًا: التحطيم بالزلازل والبراكين: "قلَبْتُ بعضكم كما قلب الله سدوم وعمورة، فصرتم كشعلة منتشلة من الحريق" [11]. قد هدَّد الكل بإلقاء البعض في النيران خلال الصواعق والبراكين وانتشل البعض ليتوبوا، فلم يرجعوا إليه... لقد صرنا في حاجة عِوض أن تحطِّمنا البراكين والصواعق بنيرانها المهلكة أن يدخل الرب إلينا، كما على سحابة خفيفة سريعة ليُحطِّم أوثاننا الداخليَّة، ويحرق شرورنا ويقيم في وسط قلبنا مذبحًا له، كما قال إشعياء النبي في حديثه عن الرب المسرع على السحابة إلى أرض مصر (إش 19).

هذه هي التأديبات الإلهيَّة التي فضحت عمل الخطيَّة في القلب، بل في الإنسان بكلِّيته من جوع روحي، وجفاف، وإصابة بالحشرات المفسدة للثمار، والإصابة بأمراض روحيِّة، وتحطيم للمواهب (الفتيان)، وحرمان من الحرِّيَّة (سبى الخيل)، وصعود رائحة فساد ونتانة، وتحطيم بنيران الصواعق القاتلة! أما غاية هذه التأديبات فهو: "استعد للقاء إلهك يا إسرائيل" [12].

4. إشراقة الخلاص:

فضحت تأديبات الله حالنا الفاسد، وكأنها بمشرط الطبيب الذي فتح الجرح ليكشف عن النتانة التي اختفت في الجسم، والآن كيف يضمَّد الجرح، ويصلح من حالنا؟ أو كما قال: كيف يتحقَّق "استعد للقاء إلهك يا إسرائيل"؟ يُجيب: "فإنه هوذا الذي صنع الجبال وخلق الريح (الروح) وأخبر الإنسان ما هو فكره (مسيحه)، الذي يجعل الفجر ظلامًا، ويمشي على مشارف الأرض، يهوه إله الجنود اسمه" [13].

يقول رب المجد: "وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حرب لا يجلس أولاً ويتشاور، هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفًا؟! (لو 14: 31)، فإن كان إسرائيل قد دخل في خصومة ضد الله فليعلم من هو الله، وما هي إمكانيَّاته وإلاَّ فيصطلح معه! هنا يُعلن النبي إن الله، هو صانع الجبال فإن كان الملوك يحتمون أثناء الحرب في الجبال الراسخة، فالله لا يحتمي فيها بل هو خالقها. وكما يقول المرتِّل: "يا رب إله الجنود، من مثلك قوي رب وحقك من حولك، أنت متسلِّط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تُسكتها... لك السموات، لك أيضًا الأرض، المسكونة وملؤها أنت أسَّسته" (مز 89: 8-11). إن كانت الجيوش تجد خلاصها في الجبال، فالله هو مؤسِّس كل المسكونة.

يقول: "خلق الريح" وفي الترجمة السبعينيّة "خلق الروح"، فخالق الريح الذي يهتم بأمره قائد الجيش قبل بدء المعركة هو الله نفسه.

أنه يجعل الفجر (الصباح) ظلامًا، لأنه يُرسل سحابه الكثيف فيغطِّي الأرض ويحجب النور، وهو الذي يتمشَّى على مشارف الأرض أو قممها العالية... أنه يهوه الذي لا يدرَك ولا يعبَّر عنه! هذا هو إلهك الذي يُلزم أن تستعد للقائه يا إسرائيل، لا للخصومة وإنما للمصالحة!

جاء النص في الترجمة السبعينيّة هكذا: "الذي يؤسِّس الرعد ويخلق الروح يُعلن للإنسان مسيحه". ويرى كثير من الآباء مثل القدِّيس أغسطينوس[40] إن هذا النص يحمل نبوَّة واضحة عن العصر المسياني، فإنه يستعد إسرائيل الجديد للقاء مع إلهه خلال إعلان الآب عن مسيحه للإنسان، فيقبله كسرّ مصالحة بين الآب والإنسان.

وقد حاول بعض الهراطقة استخدام هذا النص للادِّعاء بأن الروح القدس مخلوق، إذ قيل "يخلق الروح". وقد ردَّ كثير من الآباء عليهم، منهم القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص، إذ يقول: [يليق بنا أن ندرك أن النبي يتحدَّث عن خلقة روح آخر في تأسيسه للرعد، وليس خلقة الروح القدس. فإن اسم "الرعد قد أُعطيَ في اللغة السرِّيَّة للإنجيل. فالذين يتأسَّس فيهم الإيمان بالإنجيل دون اهتزاز يعبرون من الجسد إلى الروح كقول الرب: "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو 3: 6). إنه الله هو الذي يؤسِّس صوت الإنجيل، ويجعل الإنسان روحًا (روحيًا)، فمن يولد من الروح ويصير روحًا، بهذا يُعلن المسيح له كقول الرسول: "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس" (1 كو 12: 3)[41].

هذا هو سرّ لقاء إسرائيل الجديد، إن الله يؤسِّس الرعد، أي يبعث إلينا كلمة الكرازة التي تُرعد في النفس، ويخلق فينا الطبيعة الروحيِّة عِوض الحياة الجسدانيَّة، فيُعلَن المسيح رب المجد فينا بروحه القدُّوس!

بهذا حوَّل النبي ذهن إسرائيل من التأديبات القاسية التي لم تستطع أن تردُّهم إلى الله إنما فضحت ضعفهم وعمل الخطيَّة فيهم، إلى المسيّا المخلِّص الذي يُعلنه الآب للإنسان فيقبله بالروح القدس فاديًا ومخلصًا!

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس

العظة الثالثة

مرثاة على عذراء إسرائيل

في هذه العظة الثالثة والأخيرة، يوجِّه حديثه إلى بني إسرائيل كمرثاة على عذراء إسرائيل الساقطة، مُظهرًا سوء حالها، ومقدِّمًا طريق الحياة عِوض الموت الذي سيطر عليها، وقد حوى هذا الأصحاح مجموعة من الويلات [18-27]، وإن كان البعض يعتبر العبارات [10-17] مجموعة سابقة للويلات، على أي الأحوال فإن الأصحاح كله وأيضًا الأصحاح التالي في مجموعها هما عظة واحدة لعذراء إسرائيل الساقطة:

1. عذراء إسرائيل الساقطة                    [1-3].

2. اطلبوا الرب لا الوثن                        [4-9].

3. الظلم في مجالس القضاء                   [10-15].

4. ولولة ونحيب                               [16-17].

5. مجموعة الويلات الأولى                   

          أ. اشتهاء يوم الرب                  [18-20].

          ب. العبادة المظهريَّة                  [21-24].

          ج. الخلط بالعبادة الوثنيَّة             [25-27].

1. عذراء إسرائيل الساقطة:

يبدأ العظة الثالثة بمرثاة على عذراء إسرائيل:

"اسمعوا هذا القول الذي أنا أنادي به عليكم مرثاة يا بيت إسرائيل، سقطت عذراء إسرائيل لا تعود تقوم،

انطرحت على أرضها ليس من يقيمها،

لأنه هكذا قال السيِّد الرب:

المدينة الخارجة بألف يبقى لها مائة،

والخارجة بمائة لها عشرة من بيت إسرائيل" [1-3].

القول الذي بين أيدينا إنما هو مرثاة أقامها الرب نفسه يصف فيها بحزن ما بلغت إليه عذراء إسرائيل، ولعلَّه دعا إسرائيل "عذراء" ليُعلن أن هذه المرثاة التي تقام على ميِّت إنما أقيمت على عذراء إسرائيل، التي تشبه عروسًا ماتت في شبابها المبكِّر وهي عذراء، قبل أن تنعم بفرح الحياة الزيجيَّة. إنها العذراء التي ينتظر منها الرب أن تكون عروسه الدائمة، لكنها اختارت طريق الموت الروحي، ففقدت حياتها قبل أن تنعم بحياة الاتِّحاد مع عريسها.

ولعلَّ الله دعاها "عذراء إسرائيل" علامة أنها حتى هذه اللحظة كانت العذراء التي لم تنهزم بعد ولا سقطت تحت السبي... لكنها بشرِّها تفقد عذراويَّتها بل وتفقد كل حياتها. إن لله غيرة عليها لأنها عروسه العذراء، وقد حمل الرسول بولس روح سيِّده حين قال: "فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح، ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحيِّة حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 1-2).

لقد سقطت عذراء إسرائيل عمَّا كان ينبغي أن تكون عليه، كعذراء للرب تحمل قداسته وبهاءه، للأسف سقطت ولا تعود تقوم لأنها ترفض تأديبات عريسها للرجوع إليه، اتَّكلت على ذاتها أو على الآخرين دون عريسها فلم تجد من يقيمها. لقد انطرحت على أرضها، علامة الضعف الكامل، فإنها لم تخرج لتحارب ولا انسحبت إلى أرض معركة خارجيَّة، لكنها انهزمت أمام ذاتها، بسبب ضعفها الداخلي. وكما يقول الرب نفسه: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). في أورشليمنا الداخليَّة نسقط حين نقبل الأنا، ونعيش لذواتنا لا للرب الذي يحبنا!.

إذ يسقط الإنسان في معركته الداخليَّة بسبب الأنا التي تطلب ما لنفسها لا ما للآخرين تفقد الكثير، فإن خرجت بألف يبقى لها مائة، وإن خرجت بمائة يبقى لها عشرة... إنها تفقد الكثير وتبقى البقيَّة القليلة الأمينة محفوظة لدى الله. هذه البقيَّة التي تمثِّل العشر في عيني الله غالية وثمينة، ويلتزم بالحفاظ عليها من أجل أمانته نحو مؤمنيه، وقد رأينا ذلك بأكثر وضوح في دراستنا لسفر حزقيال في أكثر من موضع[42].

الله لا ينسى المائة من أجل بقيَّة الألف، ولا العشرة من أجل بقيَّة المائة، لم ينس لوطًا وبِنتيْه من أجل كل منطقة سدوم وعمورة، ولا نسيَ نوحًا وعائلته من أجل فساد العالم كله!

2. اطلبوا الرب لا الوثن:

إذ قدَّم مرثاة على عذراء إسرائيل لم يقف عند الوصف المحزن، وإنما كشف عن باب النجاة باللجوء إلى الله مصدر الحياة وترك العبادات الوثنيَّة، إذ يقول: "اطلبوا فتحيوا، ولا تطلبوا بيت إيل، وإلى الجلجال لا تذهبوا، وإلى بئر سبع لا تعبروا" [4-5].

لقد حمل الشعب في ذلك الوقت مظاهر التديُّن، فكانوا يخرجون للعبادة إلى الأماكن المقدَّسة، لكن يبدو إن العبادة لله قد امتزجت بالعبادة الوثنيَّة خاصة في المراكز الرئيسيَّة في إسرائيل: بيت إيل والجلجال وبئر سبع، أو لعلَّه قد صارت عبادتهم مجرَّد ترضية ضمائر، يذهبون إلى تلك الأماكن يقدِّمون الكثير لله، لكنهم لا يطلبونه بقلبهم ولا يحفظون وصيَّته في حياتهم وسلوكهم، وكما سبق فقلت انفصل الطقس عن الحياة الروحيِّة عندهم، وصارت عبادتهم تمثَِّل عمليَّة تغطية لمواقفهم الشرِّيرة.

إن كنَّا نطلب الأماكن المقدَّسة، فليكن طلبنا الأول والأخير فيها هو الحياة مع الله وبه "اطلبوا فتحيوا". يلاحظ إن كلمة "اطلبوا" لا تعني مجرَّد السؤال بالفم وإنما الشوق الحقيقي الداخلي نحو الله سرّ حياتنا الحقَّة.

وكما يقول القدِّيس أغسطينوس مناجيًا الله سرّ حياته: [إذن كيف أطلبك يا رب، فإنني إذ أطلبك يا إلهي أطلب الحياة السعيدة. أطلبك فتحيا نفسي، لأن جسدي يحيا بنفسي ونفسي تحيا بك[43]].

الأماكن التي كانت يومًا مقدَّسة صارت مُعثرة بالعبادات الوثنيَّة، لذا يقول: "لأن الجلجال تُسبى سبيًا وبيت إيل عدمًا". لقد كان الجلجال وبيت إيل موضعين مقدَّسين لكن إذ أفسدهما الإنسان يُسبى الموضع الأول ويتحطَّم الثاني تمامًا حينما قالت السامريَّة للرب يسوع: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه" (يو 4: 20). أجابها السيِّد: "يا امرأة صدِّقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب... الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 21، 24).

لسنا ننكر أن الله يُسرّ حتى بالمواضع المقدَّسة التي يقدِّمها الإنسان في حب لتكون موضع عبادة له، لكنه يفرح بها من أجل الإنسان الذي يتقدَّس به! حتى في الكنيسة المدشَّنة يرتفع قلب المؤمن فوق كل حدود للمكان والزمان لينطلق نحو الأبديَّة، فيجد روح الله قد رفعه إلى السماء عينها! وقد سبق ليّ الحديث كثيرًا عن المبنى الكنسي ومفهومه وارتباطه بالحياة الداخليَّة للنفس كما بالحياة السماويَّة والليتورجيَّة[44]. فإن فقد بيت الله معناه الروحي وانحصر الإنسان في التراب والأرض فإنما يحوِّل بيت الله إلى عائق بدلاً من أن يكون سرّ انطلاقة للنفس!

يكرِّر الرب "اطلبوا الرب فتحيوا" [6]، هذه هي غاية كل عبادتنا، أن نلتقي مع ربنا يسوع ونطلبه من كل القلب كسرّ حياتنا.

يُهدِّد الرب: "لئلا يقتحم بيت يوسف كنار تحرق، ولا يكون من يطفئها من بيت إيل" [6]. لعلَّ كثير من أسباط إسرائيل كانوا يطوِّبون بني يوسف لأن جبل بيت إيل قد جاء من نصيبهم (يش 16: 1-2)، لكن هذا الجبل صار نارًا تحرق إذ أُسيء استخدامه. لعلَّه كالكهنوت إذ يعطي الإنسان إمكانيَّات روحيِّة ورعويَّة جبَّارة، لكنه إن أُسيء استخدامه يصير ذات السلاح للهلاك ولماذا نقول عن بيت إيل أو الكهنوت فإن السيِّد المسيح نفسه وهو سرّ خلاص الكثيرين صار مجيئه سرّ دينونة لجاحديه، إذ يقول: "لو لم أكن قد جئت وكلّمتهم لم تكن لهم خطيَّة، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيَّتهم... لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطيَّة، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي" (يو 15: 22-24). كما يقول الرسول بولس عن السيِّد المسيح: "لأننا رائحة المسيح الذكيَّة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).

نعود إلى إسرائيل لنجده وقد مزج العبادة لله الحيّ بالعبادة الوثنيَّة، فتحوَّل بيت إيل لهلاك بيت يوسف، وهنا يقصد به كل إسرائيل القادم إلى بيت إيل، إذ تلتهب حياتهم بنار الشرّ وليس من يقدر أن يطفئها. بهذا يحوِّلون الحق إلى مرارة الظلم ويفسدون البرّ السماوي بطرحه أرضًا: "يا أيها الذين يحوِّلون الحق أفسنتينًا ويُلقون البرّ إلى الأرض" [7].

إن كان الأفسنتين هو عشب مرّ للغاية ملقى في الأرض لا يطيقه الإنسان، فإن الحق الذي يُفرِّح قلب الله والإنسان إذ ينقلب إنما يتحوَّل إلى الضد، فيصير أفسنتينًا. هكذا أصحاب الطاقات العظمى والمواهب متى تقدَّسوا بروح الحق الممتزج حبًا واتِّضاعًا يشهدون للحق ويقدِّمون بالروح القدس أعمالاً تشهد بها الأجيال وتثبتها السماء، لكنهم متى انحرفوا لا يقفوا سلبيِّين، وإنما يصيرون أفسنتينًا مرًا في فم الله وكنيسته، يتحوَّلون إلى آلات هدم عِوض البناء. إنهم يلقون بالبرّ أرضًا إذ يحمِّلهم فكرهم طبيعة أرضيَّة قاتلة وهم لا يدرون.

إذن ليكن "الرب" نفسه هو موضوع طلبنا الدائم لنحيا، ولا نتحوَّل إلى أفسنتين أو نُلقي بالبرّ في التراب... لكن من هو هذا الرب الذي نطلبه؟

"الذي صنع الثريَّا والجبَّار،

ويحوِّل ظلّ الموت صبحًا،     

ويُظلِم النهار كالليل.

الذي يدعو مياه البحر ويصبَّها على وجه الأرض،

يهوه اسمه.

الذي يفلح الخرب على القوي، فيأتي الخرب على الصحن" [8-9].

أولاً: خالق الثريا والجبَّار، وهما مجموعتان من الكواكب كانتا مشهورتين في ذلك الحين فإن كان إسرائيل قد انحرف إلى عبادة النجوم، فإن الله الحقيقي هو خالق الكواكب كلها، هذا الذي يليق بهم أن يطلبوه.

لقد برز في الترجمة السبعينيّة للنص أن الله هو خالق الأشياء وهو أيضًا مغيِّرها... وللقدِّيس يوحنا الذهبي الفم حديث جريء للغاية، إذ يرى في الله الخالق يدرِّبنا نحن أولاده على الحياة الخلاَّقة، إذ يقول: [لقد أعطانا الله جسدًا من الأرض، إنما لكي نحمله معنا إلى السماء. حقًا إنه جسد أرضي لكنه يجب أن يكون سماويًا... كأنه يقول: أنا خلقت السماء والأرض، ووهبتكم سلطان الخلق. اجعلوا أرضكم سماء، فإن هذا في سلطانكم. أنا خالق الأشياء ومحمولها [8]. كما يقول الرب نفسه، لقد أعطى الإنسان سلطانًا مشابهًا، وكأنه فنّان وأب حنون يُعلِّم ابنه فنُّه! لقد خلقت جسدكم جميلاً وأعطيتكم سلطانًا لتصنعوا أمرًا أفضل... فإن كنتم لا تقدرون أن تخلقوا الإنسان لكنكم (بالروح القدس) تقدرون أن تجعلوه بارًا ومقبولاً لدى الله. أنا شكَّلت المادة، فزيِّنوا أنتم الإرادة! اُنظروا كيف أنّي أحبُّكم وأسلِّمكم سلطانًا في أمور عُظمى! اُنظروا أيّة كرامة لنا![45]].

ثانيًا: الله الذي نطلبه يحوِّل ظلّ الموت (الليل) صباحًا، ويُظلم النهار كالليل. ليس فقط خالق السماء والأرض من العدم لكنه أيضًا يقوم بالتغيير، يغيِّر الليل إلى صباح، والنهار إلى ليل.

ما هو هذا الليل أو ما دعاه بظلّ الموت الذي تحوَّل إلى صباح إلاَّ تحقيق نبوَّات العهد القديم وظلال الناموس، حيث كان الإنسان ساقطًا تحت الموت كمن هو في ليل، إلى نهار مجيئه المفرح، فاستنرنا بنوره الإلهي. وكما يقول النبي: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش 9: 2).

لنقدِّم له ليّنا فيجعله صباحًا، نُسلِّمه كل أتعابنا وأحزاننا يشرق علينا فتتحوَّل إلى مباهج روحيِّة وسلام فائق وفرح مجيد لا ينطق به.

أما النهار الذي يُظلم فيصير ليلاً فيذكِّرنا بالعمل الإلهي في فترات الصلب حيث تحوَّلت الظهيرة إلى ظلمة بسبب خطايانا التي حملها فادينا على كتفيه. هذا هو عمل الرب الفائق، إذ حمل خطايانا فيه، هذا الذي لم يعرف خطيَّة!

ما هو النهار الذي يصير ظلمة أيضًا إلاَّ نهار الأشرار، الذين يعيشون في ترف الحياة وملذَّاتها، حاسبين أن فرح العالم لا يزول وأن ملذَّاتهم لا تنتهي... لكن في محبَّته يحوِّل نهارهم إلى ليل خلال تأديباته التي تبدو قاسية حتى لا يرتبطوا بنهار العالم وملذَّاته!

ثالثًا: يدعو مياه البحر ويصبَّها على وجه الأرض... أنه يحوِّل مياه البحار إلى سحب تغطِّي الأرض وتمطر عليها. وقد رأينا في دراستنا لسفر يوئيل (2: 23) إن المطر المبكِّر والمطر المتأخِّر إنما يُشير إلى نعمة الروح القدس العاملة في أولاد الله. فالله الذي نطلبه، هو الخالق، وهو الذي يُغيِّر حياتنا بمجيء المسيَّا المخلِّص، وهو واهب الثمر خلال مياه الروح القدس، كما قال السيِّد نفسه: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب، من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ، قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطيَ بعد" (يو 7: 37-39).

إن كنَّا نحن أرضًا لكن مياه الروح القدس تحوِّلنا إلى فردوس الله المُبهج، نحمل ثمر روحه فينا!

رابعًا: الله الذي نطلبه اسمه يهوه، فبعدما قدَّم لنا ذاته كخالق ومجدِّد لطبيعتنا خلال عمل المسيح الخلاصي، وواهب الثمر فينا بروحه القدُّوس، دخل بنا إلى أسراره... أنه يهوه أي "الكائن" الذي لا يُدرك. إن كان قد اقترب إلينا جدًا خلال عمله الخلاصي وإرساله روحه القدُّوس لكنه يبقى الإله غير المقترَب إليه في كمال جوهره. وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم اسم الله "يهوه" في دراستنا لسفر الخروج (ص 3).

خامسًا: الله الذي نطلبه "الذي يُفلح الخِرَب على القوي، فيأتي الخرب على الحصن" [9]. يُعطي نجاحًا وقوَّة للإنسان المسلوب أو المنهوب ضد القوي الذي ظلمه، حتى أنه يقدر أن يهجم على حصنه ويرد حقّه المسلوب. إنه الإله الذي ينتصر للنفس المغلوبة ويهبها قوَّة وغلبة!

3. الظلم في مجالس القضاء:

كانت مجالس القضاء عند اليهود تُقام في ميدان عام عند باب المدينة (تث 22: 15، إش 29: 21) تحت قيادة قاض أو نبي ينتهر الظالم، ويسند البار. لكن للأسف تحوَّلت مجالس القضاء إلى مجالس للظلم، يقول:

"إنهم في الباب يبغضون المنذر ويكرهون المتكلِّم بالصدق،

لذلك من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هديَّة قمح، بنيْتم بيوتًا من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كرومًا شهيَّة ولا تشربون خمرها،

لأني علمت أن ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة أيها المضايقون البار، الآخذون الرشوة الصادُّون البائسين في الباب" [10-12].

إنها مظاهر مؤلمة للظلم الذي ساد مجالس القضاء، فمن جهة كان هؤلاء الشيوخ عِوض أن يوبِّخوا الظالمين، يكرهون من يوبِّخهم أو يُنذرهم، إنهم يريدون مجاملة الظالمين على حساب الحق، حتى كانوا يكرهون من ينطق بكلمة حق. لأنها تجرح الأغنياء الظالمين، ومن جهة أخرى عِوض أن يرفعوا البائس عن المزبلة يدوسونه بالأقدام. يطلبون منه هديَّة هي أقرب إلى الرشوة، وإذ لا يملك مالاً يقدِّمه يلزمونه بتقديم قمحه، ويبقى هو وعائلته جائعًا. لقد منعت الشريعة رِبا الطعام (تث 23: 9). وهؤلاء يسلبون طعام المساكين لكي يقيموا لأنفسهم بيوتًا من حجارة منحوتة لا تقدر أن تهبهم طمأنينة، ولكي يغرسوا لأنفسهم كرومًا شهيَّة لا تقدر أن ترويهم بخمر الفرح.

أخيرًا في ظلمهم يضايقون البار، ويأخذون الرشوة التي تمنعها الشريعة (خر 21: 30، عد 35: 31).

وإذ تزايد الظلم جدًا حتى في مجالس القضاء قيل: "لذلك يصمت العاقل في ذلك الزمان لأنه زمان رديء" [13]. إذ يدرك الإنسان أن دفاعه عن البائسين لا يُجدي يلتزم بالصمت ليس جبنًا ولا خوفًا من الظالمين، وإنما من أجل الحكمة حتى لا يفسد وقته فيما لا يُجدي. لقد كتب القدِّيس باسيليوس في آخر كتابه عن "الروح القدس"، يقول: [لما كانت الترتبيات الإنجيليَّة بسبب الفوضى قد اختلطت تمامًا، فقد أصبح الهجوم للتقدُّم في المناصب الرئيسيَّة يفوق الخيال فكل من محبِّي الظهور يجعل من نفسه قبل غيره بالقوَّة... فصارت ابتهالات الرؤساء عقيمة وباطلة، لأن الكل في بحار جهله يحكم بأن من واجبه أن يصدر الأوامر للآخرين ولا يطيع هو أحدًا، لهذه الأسباب آثرت الصمت على الكلام، لأنه ليس في صوت بشري من القوَّة ما يجعله يسمع في ضجيج كهذا. فلو صدق قول المبشر: "كلمات الحكماء تسمع في هدوء" (ابن سيراخ 9: 7) للزم التوقُّف عن الكلام في الوقت الحاضر[46]].

الإنسان الحكيم يصمت في الزمان الرديء ولا يتكلَّم إلاَّ بالقدر الذي يدرك أن لكلماته منفعة، متشبَّهًا بالله نفسه الذي لا يُقدِّم كل أسراره الإلهيَّة إلاَّ بالقدر الذي نحتمل سماعها أو ادراكها أو الانتفاع بها. تبقى أسراره مخفيَّة حتى تصير لنا الأذن الروحيِّة القادرة على الاستماع، وإدراك الأسرار بطريقة بنَّاءة. من كلمات القدِّيس إكليمنضدس الإسكندري: [يقول الرب: "من له أُذنان للسمع فليسمع" (مت 11: 15)، معلنًا أن السمع والفهم ليسا للجميع. في هذا يكتب داود: "جعل الظلمة سترته" حوله مظلَّته ضباب المياه وظلام الغمام. من الشعاع قدَّامه عبرت سحبه، برَدْ وجمر نار" (مز 18: 11-12)، مظهرًا أن الكلمات المقدَّسة مخفاة[47]].

صمت العاقل في الزمان الرديء هو في ذاته شهادة حق ضد الظلم والاستبداد... لكن لا يقف الأمر عند هذا الحد، إنما يطالب الرب بالرجوع إليه، خلال رجوع هؤلاء القضاة أو الشيوخ الظالمين عن الظلم في مجلس القضاء (في الباب)، إذ يقول: "اطلبوا الخير لا الشرّ لكي تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم" [14]. كأنه يقول لهم إن كنتم تفتخرون بأن الله رب الجنود معكم وفي وسطكم، فإن علامة هذا السلوك العملي بطلب الخير ورفض الشرّ، بهذا تحيون بالرب الساكن في وسطكم.

لقد ظن إسرائيل خطأ أن اختيار الله لهم كشعب يعفيهم من العقوبة مهما أخطأوا، وأن الله يسكن في وسطهم مهما كان حالهم، لذلك يُصحِّح الله مفاهيمهم معلنًا أن اختياره لهم من بين جميع قبائل الأرض يزيدهم مسئوليَّة ويسقطهم بالأكثر تحت العقوبة إن أخطأوا (3: 2). وهنا يؤكِّد إن حلوله في وسطهم لن يكون إلاَّ بطلبهم الخير الأعظم ورفضهم الشرّ عمليًا في حياتهم وقضائهم، أخيرًا يتحدَّث عن اختياره لهم يجعلهم كالحنطة في الغربال بين يديّ الله يعاقبهم بشدَّة ويدقِّق معهم دون أن يُبيدهم (9:  7-10).

في بداية العظة قال لهم "اطلبوا الرب" (3: 6)، وهنا يُعلن التزامهم بطلبه خلال سلوكهم العملي: "أبغضوا الشرّ وأحبُّوا الخير وثبتوا الحق في الباب لعلَّ الرب إله الجنود يتراءف على بقيَّة يوسف" [15]. سيتعرَّض إسرائيل لتأديبات مرَّة ويموت بعضهم ويُقتل البعض بالسيف ويسبي البعض... لكن الله لا ينسى البقيَّة الأمينة له. إن ثبتت في الحق وأحببت الخير وأبغضت الشرّ يتراءف عليها ويُعلن حلوله في وسطها.

4. ولولة ونحيب:

يختم المرثاة بعبور الله في وسطهم لا كسرّ حياتهم وإنما لمعاقبتهم وتأديبهم، لذا يتحوَّل إسرائيل كله إلى مكان ندب وولولة، إذ صار الكل في حالة موت. صارت حضرة الله للحزن لا للفرح!

هنا يقدِّم صورة واقعيَّة للحزن الشرقي القديم حيث يستأجرون أناسًا متخصِّصين في الأغاني المؤلمة أثناء مراسيم الوفاة.

5. مجموعة الويلات الأولى:

هذه المجموعة في الواقع هي جزء من العظة الثالثة، حيث يُعلن الله الويل للشعب بسبب ثلاثة أمور:

أولاً: اشتهاء يوم الرب: "ويل للذين يشتهون يوم الرب، لماذا لكم يوم الرب هو ظلام لا نور، كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه الدبّ، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته حيَّة. أليس يوم الرب ظلامًا لا نورًا؟! وقتامًا لا نور له؟!" [18-20].

إن كان الله نور، ويومه نور في ذاته لكن بالنسبة للأعمى روحيًا. غير القادر على معاينة النور يصير النور ظلامًا. وكما يقول القدِّيس باسيليوس: [يوم الرب ظلمة للذين يستحقُّون الظلمة[48]].

يوم الرب في ذهن اليهود كان يعني إعلان الله قوَّته ونصرته في شعبه ضد أعدائهم. لهذا كان يومًا للفرح والغلبة، يوم افتخار على الأمم. أمّا وقد ارتبك الشعب بخطاياهم الكثيرة وذنوبهم بلا توبة تحوَّل إلى يوم دينونة ومرارة.

لا يستطيع أحد أن يهرب من الدينونة، فإن من يهرب يكون كمن يهرب من الأسد فيلتقي بدب شرس، أو من يُريد أن يحتمي في بيته فيضع يده على حائط يتَّكئ عليها فتلدغه حيَّة.

ثانيًا: العبادة المظهريَّة، وهذا خط واضح في أغلب كتابات الأنبياء، إذ كان إسرائيل يصنع الشرّ ويذهب إلى الأماكن المقدَّسة للعبادة العامة وتقديم محرقات وتقدمات وابتهاج بالأعياد... الله لا يُغش بالمظاهر الخارجية إذ يطلب القلب أولاً (مز 12: 33).

في مرارة يوبِّخهم: "بغضت كرهت أعيادهم ولست ألتذ باعتكافاتكم (اجتماعاتكم)، إني إذا قدَّمتم ليّ مُحرقاتكم وتقدماتكم لا ارتضي، وذبائح السلامة من مسمِّناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجِّة أغانيك ونغمة أربابك لا أسمع، وليجرِ الحق كالمياه والبرّ كنهر دائم" [21-24]. إنه يرفض العبادة الخارجية غير الملتحمة بالحب الداخلي، وقد نسب كل العبادة إليهم لا إليه، فيقول: "أعيادكم، محرقاتكم"، مع أنه إذ يُسرّ الله بهم يحسبها أعياده وسبوته ومحرقاته هو، يبتهج بنسبتها إليه.

الله لا يطيق تسابيحهم وترنيماتهم فيحسبها ضجيجًا "ضجة أغانيك"، وكما يقول الرسول بولس إن كنت أتكلَّم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبَّة فقد صرتُ نحاسًا يطن أو صنجًا يرن" (1 كو 13: 1).

لكي تكون عبادتهم مقبولة يقول: "ليجرِ الحق (القضاء) كالمياه. والبرّ (الصدقة) كنهر دائم"... أي لتمتزج حياتكم بالعدل وحب العطاء، عِوض الظلم والقسوة.

ثالثًا: الخلط بالعبادة الوثنيَّة: "هل قدَّمتم ليّ ذبائح وتقدمات في البريَّة أربعين سنة يا بيت إسرائيل؟! بل حملتم خيمة ملكوكم وتمثال أصنامكم نجم إلهكم الذي صنعتم لنفوسكم فأسبيكم إلى ما وراء دمشق، قال الرب إله الجنود اسمه" [25-27].

كان الأنبياء يتطلَّعون إلى فترة البريَّة كأفضل فترة عاشها إسرائيل في علاقته بالله (هو 2: 26، إر 2: 1-3)، بكونها فترة مثاليَّة كان الله يعول إسرائيل بطريقة فريدة وفائقة. في هذه الفترة لم يُشدِّد الرب على شرائع الذبائح، وإنما على الوصايا الأدبيَّة، ولعلَّ تجوالهم في البريَّة جعل تقديم الذبائح أمرًا صعبًا، فنسمع أنهم لم يقدِّموا الفصح بعد السنة الثانية حتى عبورهم إلى كنعان.

يُلاحظ هنا إن عاموس النبي لم يقل: "لم تُقدِّموا ذبائح وتقدمات" إذ لم ينفيها بالمرَّة، لكنها لم تكن هدفًا أثناء تجوالهم في البريَّة.

لقد مزجوا عبادة الله بالوثنيَّة فكانوا يحملون خيمة "مولوك" أو "ملكوم" إله العمونيِّين كإله لهم، يحمُّون ذراعيه حتى تحمرَّا ثم يضعون عليهما الأطفال وسط دق الطبول. وأيضًا يتعبَّدون لآلهة هي مجموعة من النجوم والكواكب، لذلك كما سبوا أنفسهم إلى العبادة الوثنيَّة يذلَّهم الله بالسبي تحت سطوة عبدة الأوثان، إلى ما وراء دمشق (آرام) أي إلى سبي أشور الذي يبعد كثيرًا عن دمشق. هم حملوا الوثنيَّة في قلبهم، لذلك تركهم الله يُحملون بواسطة الوثنيِّين!.

<<


الأصحاح السادس

مجموعة الويلات الثانية

هذه المجموعة من الويلات تُمثل الجزء الأخير من العظة الثالثة، فيها يُقدِّم الله الويلات لإسرائيل بسبب ما أتَّسم به من:

1. الطمأنينة الخادعة                 [1-7].

2. الحياة المتعجرفة                  [8-11].

3. الفرح بالباطل                     [12-14].

1. الطمأنينة الخادعة:

"ويل للمستريحين في صهيون، والمطمئنيَّن في جبل السامرة، نقباء أول الأمم، يأتي إليهم بيت إسرائيل" [1].

يُقدِّم الويل ربَّما للعظماء والإشراف وكل أصحاب القيادات الدينيَّة والمدنيَّة في يهوذا وإسرائيل، فقد اطمأنُّوا واستكانوا في صهيون والسامرة، في حياة مُترفة ومُدلَّلة، خاصة وأنهم يُحسبون كنقباء أول للأمم أي أنهم مُعظِّمون ومُكرَّمَون أكثر من جميع الأمم أو أنهم باكورة الأمم.

لقد عُرفت صهيون بأبراجها ومتاريسها، كما يقول المرتِّل: "طوفوا بصهيون ودوروا حولها، عِدُّوا أبراجها، ضعوا قلوبكم على متاريسها، تأمَّلوا قصورها لكي تُحدِّثوا بها جيلاً آخر" (مز 48: 12-13)، ضمَّت داخلها كراسي بيت داود (مز 122: 5). أما جبل السامرة فقد صار مركز الحياة الدينيَّة للمملكة الشماليَّة. فقد استرخى العظماء في المنطقتين مطمئنيِّن، إذا صار في يدهم القوَّة المدنيّة والقيادة الدينيّة، يهابهم الأمم وياتي إليهم بيت إسرائيل.

هذا هو حال النفس التي تجد لها ملجأ في غير الله، تطمئن من أجل نجاحها الزمني أو سمعتها الدينيّة، الكل ينظر إليها بإكرام وإعجاب، وفي غباوة استكانت واستراحت مطمئنَّة،  بدلاً من الجهاد المستمر والنمو في الرب.

لكي يُثير الرب أهل صهيون وجبل السامرة للتوبة قدَّم لهم أمثلة لمدن عظمى حملت صيتًا لزمان طويل وقد هلكت، فذكر كلنة التي بناها نمرود في أرض شنعار (تك 10: 10) وقد خُرِّبت تمامًا، وحماة بسوريا التي اِفتخر سنحاريب أنه أباد آلهتها (2 مل 18: 34)، وجت بفلسطين التي خرَّبها حزائيل منذ فترة وجيزة (2 مل 12: 17)... فهل صهيون وجبل السامرة أفضل من هذه المدن، أو تخومها أكثر اِتساعًا من تخومهم؟!

حقًا، يليق أن نتَّعظ ممَّا يحدث للآخرين، فإن كانت الخطيَّة قد حطَّمت جبابرة، والتهاون أفسد الممالك، يليق بنا ألاَّ نقبل الخطيَّة ولا نسلك برخاوة، حتى لا نصير عبرة ومثلاً كالآخرين!

كان إسرائيل لا يتَّعظ بما حلّ بالممالك المحيطة به، ولا يبالي بتهديدات الله له، منهمكًا في ظلمه حتى في مجالس القضاء حاسبًا أن التأديب لن يحل به قريبًا. "أنتم الذين تبعدون يوم البليَّة (التأديب)، وتقرِّبون مقعد الظلم" [3].

هذه الحياة التي اتَّسمت بالاستكانة للشرّ والظلم، وعدم الاكتراث بإنذارات الله قد سندها حياتهم المُترفة المُدلّلة، إذ انسحب قلبهم في الملذَّات والشهوات يقول الله موبخًا إيَّاهم:

"المضطجعون على أسرَّة من العاج، والمتمدِّدون على فرشهم، والآكلون خرافًا من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة (المعلف)" [4].

اتَّسمت حياتهم بالنوم والتراخي، يقضون أوقاتهم مضطجعين على أسرَّة مطعَّمة بالعاج ومستلقين على فراشهم، يأكلون الكثير من الخراف والعجول السمينة... أُناس لا يعرفون الجهاد الروحي والجدِّيَّة، فعِوض المُسوح التي كان يلزمهم أن يأتزروا بها بسبب خطاياهم، استلقوا على الأسرَّة متمدِّدين كل أيام حياتهم، وعِوض الصوم والتذلُّل يأكلون بشراهة، وكما يقول الرسول بولس عن بعض المعلِّمين الأشرار: "لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم" (رو 16: 18). وفي موضع آخر يقول: "الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيَّات، فإن سيرتنا نحن في السموات" (في 3: 19-20).

هكذا يعيشون لأجل بطونهم ويسلكون كترابيِّين يطلبون الملذَّات الزمنيَّة، وعِوض التمتُّع بالتسابيح الإلهيَّة السماويَّة يحبُّون حياة المرح الزائد مقدِّمين أغاني مفسدة مرتبطة بموسيقى خليعة هي من عمل أيديهم، كما قدَّم داود مزاميره لكن لسحب قلبه للسماء: "الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود" [5]. ربَّما كانوا في وقت لهوهم يترنّمون ببعض الأغاني الدينيَّة لا للتوبة وإنما للسخرية، كما طلب أهل بابل من شعب إسرائيل أن يترنَّم بتسابيح صهيون في أرض السبي، فأجابوا: "كيف نرنِّم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟!" [4]. أمّا هؤلاء فترنَّموا بترنيمات الرب وسط لهوهم وسكرهم في جو غريب عن الرب!

سيطر التدليل على كل حياتهم، في نومهم وأكلهم ولهْوِهم وأيضًا في سُكرهم وتطيِيبهم بأدهان باهظة الثمن: "الشاربون من كؤوس - طاسات وهي كؤوس كبيرة تُستخدم في أغراض ذبيحيَّة (حز 38: 3، ز 14: 20)- الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان" [6].

يُعلّق القدِّيس إكليمنضدس الإسكندري على هذه العبارات النبويَّة، قائلاً: [إذ نطق الروح القدس بصوته خلال عاموس أعلن بؤس الأغنياء من أجل حياتهم المُترفة[49]]. كما يقول العلاَّمة ترتليان: [حقًا لقد وجد (الأغنياء) تعزيتهم ومجدهم وكرامتهم وعلوّ مركزهم في غناهم. وفي المزمور 48 يردِّنا عن الاهتمام بهذه الأمور، قائلاً: "لا تخشى إذا استغنى إنسان، إذا زاد مجد بيته، لأنه عند موته كله لا يأخذ ولا ينزل وراءه مجده" (مز 49: 16-17)، وفي المزمور 62 يقول: "لا تشتهوا الغنى وإن زاد الغني فلا تضعوا عليه قلبًا" (مز 62: 10). أخيرًا نطق بهذا الويل بالنبي ضد الغني الذي يرتبط بالمباهج[50]]. ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [اُنظر كيف يلوم الله الترف أيضًا، فإنه لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرَّد التبذير. ها أنت تأكل بتخمة والمسيح ليس له الضروري. أنت تأكل كعكًا متنوِّعًا والمسيح ليس له الخبز الجاف. أنت تشرب خمرًا من Thasian ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن. أنت ترقد على فراش ناعم مطرَّز وهو يهلك بردًا![51]].

يكمِّل الرب وصفه لهذه الجماعة المسترخية المُترفِّهة بقوله: "ولا يغتمون على انسحاق يوسف" [6]. هذه الخطيَّة التي يختم بها وصفه لهذه الجماعة ليحكم عليها: "لذلك الآن يُسبون في أول المسبيِّين ويزول صياح المتمدِّدين" [7]. ما هي هذه الخطيَّة التي يختتم بها حتى يحسبهم مستحقِّين أن يكونوا أول المسبيِِّين وتُنزع عنهم ولائمهم التي كانوا يبسطونها ويتمدَّدون عليها؟!.    

غالبًا ما يُشير "يوسف" إلى إسرائيل ككل، وكأن هؤلاء العظماء المسترخين قد انسحب قلبهم إلى الترف واللهو بعيدًا عن الانسحاق الذي يمر به إسرائيل، كالإنسان الذي في ترفه ينسى آلام الكنيسة وأحزانها.

لعلَّ "انسحاق يوسف" يُذكِّرنا برئيس السُقاة الذي عاد إلى عمله ووقف أمام فرعون، فنسى يوسف في السجن (تك 40: 21، 23). هكذا حينما يعيش الإنسان في راحة ووسع ينسى إخوته المتألِّمين والمحرومين... إنها صورة بشعة تكشف عن أنانيَّة الإنسان وبتْره لنفسه عن عضويََّته في الجماعة المقدَّسة.

يربط كثير من الآباء بين هذا التعبير "لا يغتمون على انسحاق يوسف" وما ورد في سفر (مي 1: 11) "الساكنة في صانان لا تخرج لتنوح على الموضع الذي بجوارها" (الترجمة السبعينيَّة)، قائلين بأن ما أصاب إسرائيل (يوسف) وجيران صانان إنما هو بسماح من الله لتأديبهم، ومع ذلك فإنه إذ لا نشترك معهم في حزنهم يُحسب ذلك خطيَّة علينا. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [وإن كانوا يؤدِّبون بعدل، لكن لا يليق بك أن تفرح لضررهم... فإن الله يُريدك أن تُظهر حُنُوًّا حتى على هؤلاء. فإن كنا ونحن أشرار متى عاقبنا خادمًا ورأينا زميله العبد يضحك نثور بالأكثر ونصب غضبنا على الزميل (لأجل ضحكه) فكم بالأكثر الله يعاقب الذين يتكبَّرون على من يؤدِّبهم؟![52]]. كما يقول أيضًا: [إن كانوا بعدل يعاقبون، لكن الله يُريدنا أن نواسيهم ولا نفرح أو نسبُّهُم. إنه يقول: "إن كنت أُعاقِب فلا أُسرّ بذلك، لا أُسرّ بعقاب الخاطئ، إذ لا أشاء موته (حز  18: 32). هكذا يليق بك أن تمتثل بربِّك، وتحزن لأن الخاطئ سقط تحت عقوبة عادلة، فإن من يقتني حزنًا صالحًا كهذا يجمع نفعًا عظيمًا[53]].

2. الحياة المتعجرفة:

يُقدِّم الله الويل لإسرائيل لأنه سقط في الكبرياء، قائلاً: "إني أكره عظمة يعقوب وأبغض قصوره فأُسلِّم المدينة وملأها" [8]. المدينة التي يحبُّها ودعيَ اسمه عليها يُسلِّمها بقصورها وكل ملئها من أجل عظمتها الباطلة وافتخارها. إنه يكرهها ويُسلِّمها للتأديب بقَسَم حتى يتأكَّد الكل أنه لن يُرد الحكم.

يقول القدِّيس يوحنا الدرجي عن الكبرياء: [الكبرياء جحود لله وصنع الشيَّاطين وازدراء للناس، وأم للإدانة وابنة للمدائح وعلامة العُقم، وتنحِّ عن معونة الله ونذيرة بضلال العقل، ونصيره للسقطات وعلّة للصرع وينبوع للغضب، وباب للرياء وعون للأبالسة وصائنة للخطايا ووليَّة لقساوة القلب وجهل للحنوّ، ومحاسب مرّ وقاض ظالم، وخصم لله وأصل التجديف]، كما يقول: [حيثما حلَّت سقطة فهناك سبقت وسكنت الكبرياء، لأن حضور هذه يؤذن بحلول تلك[54]].

إذ سقطوا في الكبرياء القاتل صار يتعقَّبهم بالتأديبات المتوالية، حتى إذا بقي عشرة رجال فقط في بيت واحد يموتون. وقد قدَّم صورة مرَّة لحالهم، فإن العَمْ يحمل جثمان ابنة أخيه، مع أن المتوقَّع أن الإنسان يحمل جثمان أبيه وعمُّه، ويقدِّم حريقًا للميِّت تكريمًا له (إر 34: 5؛ 2 أي 16: 14؛ 21: 19)، وإذ يسأل عمن في البيت فيجد أن الكل قد مات، حتى تحنق القلوب على الرب (أم 19: 3) ولا  تذكر اسمه. هكذا يبلغ الخراب ببيوت إسرائيل حتى لا يوجد من يذكر اسم الرب، والعجيب أن الرب يضرب البيت الكبير بالهدم والبيت الصغير فيصير شقوقًا، يُحطِّم الكبير قبل الصغير وبصورة أعنف بسبب كبريائه المتزايد!

3. الفرح بالباطل:

أما التعليل الثالث لسقوطهم تحت الويلات فهو: "أنتم الفرحون بالباطل، القائلون: أليس بقوَّتنا اتَّخذنا لأنفسنا قرونا؟!" [13]. إنهم يفرحون وسط تدليلهم وترفُّههم كأنه لا يصيبهم شيء، أو كأن ما يُقال لهم كإنذارت إنما هي كلمات باطلة، مُتَّكلين على ذواتهم وقوَّتهم... وهذا هو سرّ فشلهم، إذا يغلقون على أنفسهم كل طريق للنجاة، إذ يقول: "هل تركض الخيل على الصخر، أو يَحرث عليه بالبقر حتى حوَّلتم الحق سُمًا وثمر البرّ أفسنتينًا؟!" [12]. كأنه يقول لهم قد أرسلت إليكم الأنبياء يحملون الإنذارات لأجل توبتكم ورجوعكم إليّ، فوجدوا قلوبكم صخرًا لا يمكن للخيل أن تركض عليها ولا البقر أن تحرثها. لقد حوَّلتم الحكم إلى سُم ومرارة! أفقدتم طعم الحق والبرّ فائدتهما! لهذا فإنه يختم عظته بإرسال أمّة تُضايقهم من كل جانب من الشمال "مدخل حماة"، ومن الجنوب "وادي العربة"، وهو وادي في جنوب البحر الميِّت حتى خليج العقبة...

<<

 


 

الباب الثالث

 

 

الرؤى ووعد بالخلاص

 

ص 7- ص 9

 

 

v  رؤيا 1 ضربة الجراد            [ص 7].

v  رؤيا 2 ضربة النار المدمِّرة     [ص 7].

v  رؤيا 3 رؤيا الزيج              [ص 7].

v  وشاية أمصيا الكاهن            [ص 7].     

v  رؤيا 4 سلَّة للقطاف             [ص 8].

v  رؤيا 5 رؤيا المذبح والخلاص  [ص 9].

 

 

<<


الأصحاح السابع

الثلاث رؤى الأولى

ومقاومة الكاهن له

في هذا الأصحاح يعرض لنا النبي الثلاث رؤى التي أظهرها الله له، لأجل انذار إسرائيل على ذنوبهم، ويختم الأصحاح بوشاية أمصيا كاهن بيت أيل لدى الملك ضد النبي وموقف النبي منه.

1. رؤيا الجراد                        [1-3].

2. رؤيا النار المدمِّرة                 [4-6].

3. رؤيا الزيج                        [7-9].

4. وشاية أمصيا                    [10-11].

5. طرد عاموس                      [12-13].

6. موقف عاموس                    [14-17].

1. رؤيا الجراد:

لقد سبق الله فهدَّد بعاموس النبي إسرائيل أنه سيرسل جرادًا ليأكل جنَّاتهم وكرومهم وتينهم وزيتونهم (4: 9)، وقد أراه الآن خطَّته التي امتزجت بالعدل والرحمة معًا، ففيما هو يؤدِّب كان يترفَّق، وبينما هو يُخطِّط ينتظر كلمة شفاعة من النبي لكي يتوقَّف عن التأديب [3].

لقد أرسل جرادًا أعدَّه بنفسه [1]، فهو لا يأتمن أحدًا على تأديب أولاده إنما حتى إن استخدم الجراد أو الأعداء، لكن تبقى يد الله هي المدبِّرة وعيناه تتطلَّعان إليهم، كالخزَّاف الذي يهتم بالأواني التي وضعها في الأتون إلى حين، لقد أعدّ الجراد لكن في مرحلته كدود (في أول طلوع) [1]، وقد ظهر بعد جزَّاز الملك (أي بعد الحصاد الأول الذي كان يقدَّم كجزية للملك). لم يسمح للجراد أن يأكل الزرع قبل الحصاد الأول حتى يعيشوا بما سبق أن حصدوه كجزية للملك فلا يهلكوا جوعًا. وكأنه فيما هو يؤدِّب لا يسمح بالهلاك، فتركهم يحصدون الحصاد الأول، وعندئذ أباد الحصاد بالجراد. وكما يقول المرتِّل: "لا تتركني إلى الغاية" (مز 119: 8) أو "لا تتركني كثيرًا"، ففي التأديب يبدو الله كأنه قد تركنا، لكن إلى حين نرجع إليه فيرجع إلينا.

لقد تشفَّع النبي عن إسرائيل في اتِّضاع قائلاً: "أيها السيِّد الرب اِصفح، كيف يقوم يعقوب فإنه صغير" [2]. هذا هو يعقوب الذي قال عنه الله "إنّي أكره عظمة يعقوب وأُبغض قصوره" (6: 8). ما أن شفع فيه النبي قائلاً أنه صغير لا يحتمل التأديب حتى ندم الرب وتوقّف، لا بمعنى تغيير فكره عنه وإنما بمعنى تغيير الموقف ذاته.

الله حتى في أمرّ لحظات تأديبنا يشتاق أن يسمع صوت عاموس فينا يشفع لديه بروح الاتِّضاع، معلنًا أننا صغار ومحتاجون إليه، فيرفع تأديبه ويحتضنَّا.

يرى بعض الدارسين أن حملة الجراد إنما هي أحد الهجمات ضد إسرائيل، سواء أثارها آرام أو أشور أو غيرهما.

2. رؤيا النار المدمِّرة:

في المرَّة الأولى كان الله يؤدِّب وهو يترفَّق للغاية، وإذ لم يرجع إسرائيل عن ذنبه إلى الله عاد ليؤدِّب بأكثر قسوة، ففي هذه المرَّة لا يؤدِّبهم بطريقة خفيَّة، وإنما علانيَّة "دعا للمحاكمة بالنار" [4]. وكما قيل بإشعياء النبي: "لأنه هوذا الرب بالنار يأتي ومركباته كزوبعة ليرد بحمو غضبه وزجره بلهيب نار، الآن الرب يُعاقب وبسيفه على كل بشر ويكثر قتلى الرب" (إش 66: 15-16)، كما قال: "قد انتصب الرب للمخاصمة وهو قائم لدينونة الشعوب" (إش 3: 13)، وأيضًا: "لذلك أُخاصمكم بعد يقول الرب وبني بنيكم أُخاصم" (إر 2: 9)، "إن للرب محاكمة مع سكان الأرض" (هو 4: 1).

الله يدعو للمحاكمة العلنيَّة لا لينتقم بمفهومنا البشري، وإنما لكي يرد الشرِّير عن شرِّه بنار التأديب، يحرق ذنوبه، فيرجع إليه ويتمتَّع بمحبَّته الإلهيَّة.

في التأديب الأول اكتفى بجزء من المحصول، لكن هذه المرَّة إذ يؤدِّب بأكثر حزم يحرمهم من الماء والطعام، تأكل النار الغمر العظيم والحقل، فيشعر الإنسان بالحاجة إلى من يرويه ويشبعه... فيجد في الله شرابه وطعامه.

وفي هذه المرة أيضًا ينتظر الله شفاعة نبيِّه ليصفح عن شعبه.

3. رؤيا الزيج:

لقد وقف الرب أمام الحائط بالزيج (مقياس يُعرف به استقامة الحائط)، قاس الله مملكة إسرائيل بزيجه الإلهي فقال: "لا أعود أصفح له بعد" [8].

كان يليق بالكنيسة اليهوديَّة أن تكون سورًا للإيمان بالمسيّا، لكنها رفضت هذا العمل وجحدت مخلِّصها... هذا ما كشفه مطمار الله، فاستحقَّت الهدم. وهكذا النفوس التي تتسلَّم عملاً قياديًا روحيًا إن لم تكن أمينة، وتسلك كسور للآخرين تسندهم في جهادهم الروحي، تستحق الهدم.

يقول الرب بإشعياء: "وأجعل الحق خيطًا والعدل مطمارًًا" (إش 28: 17)، وقاس داود النبي الموآبيِّين بالحبل للقتل وبحبل للاستحياء (1 صم 8: 2)، وعندما صنع منسَّى ملك يهوذا الشرّ قال الرب: "وأمد على أورشليم خيط السامرة ومطمار بيت آخاب وأمسح أورشليم، كما يمسح واحد الصحن ويقلبه على وجهه" (2 مل 21: 13).

لعلَّ استخدامه للزيج يعني أن تأديباته الإلهيَّة إنما يقدِّمها بمقياس، بدقَّة شديدة قدر احتمالنا، وقدر احتياجانا للبنيان، وإن كان يسبقه هدم ما هو منحرف فينا.

يكمِّل النبي حديثه: "فتقفر مرتفعات اسحق، وتخرب مقادس إسرائيل، وأقوم على بيت يربعام بالسيف" [9]. ماذا يقصد بهذا الدمار؟ إن كانوا يحتَمون بالمرتفعات ويحسبون المقدَّسات تحصِّنهم وملكهم الحالي قوي، فإن مرتفعاتهم تصير قفرًا، ومقادسهم خرابًا، وملكهم يربعام بكل بيته يُقدَّمون للذبح.

في عصر الآباء البطاركة كانت المرتفعات تعتبر أفضل موضع لإقامة مذابح وتقديم ذبائح للرب، ربَّما لأنها مرتفعة... وكأن الإنسان في علاقته مع الله يرتفع فوق الأرضيَّات والزمنيَّات. لكن اختلاط اليهود بالأمم جعلهم يقيمون المذابح الوثنيَّة على المرتفعات، لذا قام الأنبياء يهاجمون المرتفعات بكونها رمزًا للوثنيَّة، خاصة وقد صار للرب هيكله في أورشليم، ولا يجوز تقديم ذبائح خارجه.

ربَّما اِختار "مرتفعات اسحق" لأن "اسحق" تعني (ضحك)، وكأنهم يصيرون أضحوكة وهزأة بين الأمم بسبب ما يصيبهم من دمار.

أما السيف الذي يقوم على بيت يربعام الثاني فهو سيف أشور.

4. وشاية أمصيا:

عِوض أن يُقدِّم إسرائيل بملِكه وقادته وكهنته وشعبه التوبة، كما فعل أهل نينوى عندما سمعوا يونان النبي يوبِّخهم، إذا بكاهن بيت إيل يُوشي بعاموس النبي لدى الملك يربعام الثاني،  قائلاً: "قد فتن عليك عاموس في وسط بيت إسرائيل، لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله، لأنه هكذا قال عاموس: يموت يربعام بالسيف ويُسبى إسرائيل عن أرض" [10-11].

عِوض أن يقوم أمصيا بعمله ككاهن يُعلن الحق، إذا به يحوِّل الحق أفسنتينًا، فجعل من نبوَّات عاموس فتنة ضد الملك في وسط الشعب، وحسب كلمات النبي ليست رسالة للتوبة وبنيان الجماعة، وإنما حسبها إثارة للشعب ضد الملك ورجاله! لقد انحرف قلب الكاهن عن الخدمة إلى المراكز الزمنيَّة والمجد الأرضي ومحبَّة العالم، فليس عجيبًا أن يقوم بتحريف رسالة النبي وتشويه العمل الإلهي، بكونه عملاً ضد الملك والشعب... وكأنه خيانة وطنيَّة!

يقول للملك "لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله"، موحيًا للملك أن الشعب كله ضد عاموس، وأن كرازته غير محتملة من أحد. إنها كلمات عدوّ الخير في كل عصر إذ يُوحي للبشر أن كلمات الله غير مقبولة، والكرازة بالإنجيل غير محتملة ولا واقعيَّة، حتى يحرِّفهم عن عمل الله، ويخرج بهم خارج دائرة الصليب.

يقول "لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله"... حقًا لقد كان أمصيا الكاهن أرضًا لا سماءً لم يطق أقوال النبي. الإنسان الجسداني إنسان ترابي يسلك بفكر أرضي فلا يقبل ما لله ولا يحتمل الحياة السماويَّة، لذا "لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله".

حينما تحدَّث السيِّد المسيح عن جسده ودمه المقدَّسين المقدَّمين سرّ حياة أبديَّة، قال كثيرون من تلاميذه: "إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه؟!... ومن هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه" (يو 6: 60، 66).

5. طرد عاموس:

"فقال أمصيا لعاموس: أيها الرائي اِذهب اهرب إلى أرض يهوذا وكلْ هناك خبزًا، وهناك تتنبَّأ، وأما بيت إيل فلا تتنبَّأ فيها بعد، لأنها مقدس الملك وبيت الملك" [12-13].

لقد ظن أمصيا في عاموس أنه نبي لكي يأكل خبزًا، لكن عاموس لم يكن هكذا، فهو يتنبَّأ لا كعمل وظيفي يعيش منه، إنما لأنه أداة في يد الله خالقه. ليس عجيبًا أن يطرد الكاهن النبي، فإن الأخير مع بساطته يكشف بأمانته وشجاعته سرّ الأول ويفضح حياته.

يقول القدِّيس جيروم: [لقد طُرد عاموس من السامرة، لماذا؟ بالتأكيد لأنه هنا كما في حالات أخرى هو جرَّاح روحي يَبتر الأعضاء المصابة بالخطيَّة، ويحث الناس على التوبة. يقول بولس الرسول: "أفَقَد صرتُ إذًا عدُوًا لكم لأني أُصدِق لكم؟!" (غلا 4: 16)[55]].

لم يكن عاموس نبًيا رسميًا من مدرسة الأنبياء، اقتنى النبوَّة بالعلم أو الميراث... لكنه كان أمينًا في عينيّ الله أفضل من صاحب السلطة الرسميَّة كاهن بيت إيل، لذا يقول القدِّيس جيروم في إحدى رسائله: [ليس كل الأساقفة هم أساقفة بحق. أنت تنظر إلى بطرس فلتلاحظ أيضًا يهوذا. أنت تتطلَّع إلى إسطفانوس، انظر نيقوديموس الذي حُكم عليه في الرؤيا بشفتي الرب نفسه (2: 6)، الذي أقام هرطقة النيقولاويِّين بسبب تخيُّلاته. إذن "ليمتحن الإنسان نفسه" (1 كو 11: 28) ويأتي، فليست الدرجة الكنسيَّة هي التي تجعل منه مسيحيًا![56]].

6. موقف عاموس:

في اتِّضاع مملوء شجاعة قال عاموس لأمصيا: "لست أنا نبيًّا، ولا أنا ابن نبي، بل أنا راعٍ وجاني جمِّيز، فأخذني الرب من وراء الضأن، وقال ليّ الرب: اذهب تنبَّأ لشعبي إسرائيل" [14-15].

في اتِّضاع لم ينكر عمله القديم المتواضع كراعي غنم وجاني جمِّيز، وفي شجاعة أعلن أن الرب هو الذي دعاه من وراء الضأن ليتنبَّأ لشعب الله إسرائيل... إنه ليس نبيًا في ذهن البعض، لأنه لم يتتلمذ في مدرسة الأنبياء، ولا ورث النبوَّة، إذًا هو ليس بابن نبي، لكنه نبي بُناء على دعوة شخصيَّة من الله، لذا يلتزم بالعمل من قبل من دعاه.

يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل هذا ليفتخر بذاته (أن الله دعاه للنبوَّة)، وإنما ليُسكت أفواه الذين ظنُّوه ليس بنبي، مظهرًا لهم أنه ليس مخادعًا ولا يتكلَّم بشيء من عنديَّاته[57]].

ويتحدَّث القدِّيس غريغوريوس النزينزي عن الروح القدس الذي عمل في عاموس ليقيمه نبيًا، قائلاً: [هذا الروح، إذا هو كلِّي الحكمة والحب، متى تملَّك راعِ جعله مُرتِّلاً يطرد الأرواح الشرِّيرة بمزموره (1 صم 16: 23)، ومتى اِقتنى راعي غنم وجاني جمِّيز جعله نبيًا. تذكَّر داود وعاموس![58]].

أخيرًا في جرأة لم يصمت عاموس النبي بل أعلن له أن امرأته تزني، وبنيه وبناته يسقطون بالسيف وأرضه تُقسَّم بالحبل، ويموت هو في أرض نجسة ويُسبى إسرائيل عن أرضه. ولعلَّ ذلك قد تحقََّق حرفيًا عند سبي إسرائيل بواسطة آشور، فارتكب أحد الجنود المهاجمين الشرّ مع امرأة أمصيا، وفقد أولاده وبناته بينما حُمل إلى أرض وثنيَّة ليموت هناك.

يا للمرارة حينما يَفسد كاهن الرب أو ابنه، فيتخلَّى الرب عنه ليُفسد جسده كامرأة أمصيا التي زنت، ويخسر مواهبه وطاقاته التي تتبدَّد كأبناء وبنات أمصيا القتلى بالسيف، وعِوض أن يرث يفقد ما لديه فيُقسِّم الغرباء أرضه ويصير في عار، وبسببه أيضًا تُسبى الكنيسة، إذ يسقط كثيرون ويتعثََّرون!

<<

 

 


 

الأصحاح الثامن

الرؤيا الرابعة

سلَّة للقطاف

في هذه الرؤيا يُعلن الله عن تعجيله بالخراب الذي هدَّد به، كاشفًا عن ثمر الخطيَّة المرّ الذي يُجمع في سلَّة للقطاف، لتُقدَّم  حزنًا وولولة وجوعًا وموتًا.

1. سلَّة للقطاف المرّ                 [1-3].

2. محاكمة الظالمين                  [4-10].

3. مجاعة لكلمات الرب              [11-14].

1. سلَّة للقطاف المرّ:

لقد أراه الله سلَّة للقطاف، وفي العبريَّة جاءت الكلمة تعني "فاكهة في أواخر الصيف أو في الخريف"، فقد جاء الوقت لأكل الثمار، لكنها ليست ثمارًا مفرحة إنما ثمار الخطيَّة الناضجة، التي لا يمكن الانتظار عليها. لقد اقترب وقت الشتاء المظلم، وكان لابد من أكل الثمر الذي لا يبقى بعد للشتاء!

لقد أعطاهم الله فرصًا كثيرة للتوبة عن خطاياهم والرجوع إليه، تارة بالإعلانات وأخرى بالهبات والإحسانات وثالثة بالتهديدات... كان يؤدِّب ليعود فيصفح، لكن الآن قد هيَّأوا أنفسهم للهلاك... "قد أتت النهاية على شعبي إسرائيل" [2]. إنه لا ينسى أنه شعبه، لكن نهايتهم قد أتت لإصرارهم على شرّهم، إذ يقول: "لا أعود أصفح له بعد" [2]. تتحوَّل أغاني القصر (الهيكل) وأفراحهم إلى الندب وبكاء، وعِوض الفرح تُجمع الجثث بلا عدد صامتين، إذا يرون الهيكل صار خرابًا، والضيق أشد من أن يُحتمل، أو لأنهم لا يجدون الطاقة للبكاء من كثرة الموتى، ولعلَّ الصمت أيضًا علامة الخوف من العدو لئلاَّ يسمع أصواتهم فيأتي ويقتل البقيَّة الباقيَّة!

إن كان الله طويل الأناة جدًا، لكن كما يقول الرسول: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تُذخِر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله" (رو 2: 4-6).

الله في محبَّته يترقَّب فينا إشارة إليه ليرجع إلينا، يشتهي السُكنى فينا والدخول معنا إلى أمجاده، لكننا إن تمسَّكنا بالرفض وسلكنا في الشرّ، تنضُج خطايانا لتُجمع كما في سلَّة القطاف المرَّة التي لا يطيقها الرب، وتأتي نهايتنا مع أنّنا أولاده، وتكون بنوَّتنا له سرّ عذاب للنفس وشهادة دينونة، وعِوض تسابيح الفرح تصير ولولة للنفس، تجد الهيكل قد فرغ وكل ما في داخلها من عطايا وهبات قد انتهت! لنرجع إليه إذن فيرجع إلينا، ليكون لنا في داخلنا فردوسه المُفرح عِوض هذه السلَّة المحزنة!

2. محاكمة الظالمين:

يُقدِّم لنا النبي صورة لحال الظلم والفساد التي عاشها إسرائيل في ذلك الحين، فمن ملامحها:

أولاً: يقول: "اسمعوا أيها المتَّهمون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض" [4]. إنهم يريدون تحطيم المساكين، يوَدُّون أن يبتلعونهم في بطونهم أو يدوسونهم بأقدامهم، أن يبيدوا بائسي الأرض. في حبُّهم لذاتهم يستبيحون لأنفسهم الظلم حتى إبادة المساكين والبائسين تمامًا بكل وسيلة لحساب غناهم وبطنهم ولهوِهم!

حين تنتفخ الأنا يظن الإنسان في نفسه مركز العالم، يعمل الكل لحسابه، ويهلك الكل من أجل سعادته، أمَّا رب المجد يسوع فقيل عنه "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9). وإذ نحمله فينا نغتني به، وعلامة غنانا أننا نقبل أن نفتقر معه لكي يغتني اخوتنا بالمسيح الساكن فينا. نشتهي أن نُستعبد لكي يتحرَّروا فيه، وأن نموت لكي ينعموا بالحياة معه،  وأن نترك كل شيء لكي يقتنوه هم كسرّ غناهم. هكذا سلك معلِّمنا بولس الرسول بروح سيِّده حين قال: "فإني إذ كنت حرًا من الجميع استَعبدتُ نفسي للجميع لأربح الكثيرين" (1 كو 9: 20)، "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع" (2 كو 4: 5).

ثانيًا: "قائلين متى يمضي رأس الشهر لنبيع قمحًا والسبت لنعرض حنطة" [5]. يُتمِّمون الناموس حرفيًا فيتوقَّفون عن العمل في رأس الشهر وكل سبت، كأنهم متديِّنون محبُّون لله، لكن تمر عليهم هذه الأيام ثقيلة للغاية، إذ يشتهون أن تمضي ليعودوا لتجارتهم ومكسبهم المادي. في نظر الناس وربّما في نظر أنفسهم أبرار، يقدّسون أيام الأعياد والسبوت، لكن قلبهم في واقعه غير مقدَّس، إذ هو مشغول بالربح والمادة، حتى وإن توقّف العمل من الخارج! وكما قيل: "لأن بأفواههم يظهرون أشواقًا وقلبهم ذاهب وراء كسبهم" (حز 33: 31).

إنها صورة مؤلمة للنفس التي صارت أرضًا، تستثقل يوم الرب، وتشعر في العبادة أنها طويلة بلا نفع، بينما تقضي أكثر وقتها مبتهجة بالمكاسب الماديَّة!

ثالثًا: "لنصغرّ الأيفة ونكبرّ الشاقل ونعوِّج موازين الغش" [5]. قيل في الأمثال "موازين غش مكرهة الرب" (أم 11: 1).

يفسِّر البعض تصغيرهم للأيفة وتكبيرهم للشاقل، أنهم يبيعون للناس بالأيفة فيغشُّونهم بتصغيرها عمَّا يجب أن تكون عليه، وعندما يشترون بالجملة إنما يشترون بالشاقل، فيكبِّرونه ليغشُّوا المزارعين الذين يشترون منهم. وكأنهم يسرقون في معاملاتهم في الشراء كما في البيع لحسابهم الخاص.

رابعًا: "لنشتري الضعفاء بفضَّة والبائس بنعلين ونبيع نفاية القمح" [6]. في دراستنا للأصحاح الثاني يقول الرب: "باعوا البار بالفضَّة والبائس لأجل نعلين" (2: 6)، ورأينا أنهم في الواقع يبيعون الرب البار وحده من أجل المادة، ويستهينون به في شخص المساكين والبائسين من أجل نعلين. سبق فأعلن لموسى أن يخلعهما (خر 3)، وللتلاميذ ألاَّ يقتنوهما (مت10: 10).

إنهم يشترون الضعفاء بفضَّة، إذا صار الفقراء في بؤس شديد فيتقدَّمون للأغنياء من بني جنسهم يبيعون أنفسهم وأولادهم لهم عبيدًا ثمنًا للطعام، حتى يقدروا أن يعيشوا الأمر الذي أثار نحميا فيما بعد (نح 5).

أما بيعهم لنفاية القمح ففيه نقض للناموس ونزع للمحبَّة، إذ كان يجب أن يُترك ليتمتَّع به الفقراء العاجزين عن شراء القمح، فيأخذون النفاية، بهذا المبدأ جاء في سفر التثنيَّة: "إذا حصدت حصيدك في حقلك ونسيت حزمة في الحقل فلا ترجع لتأخذها، للغريب واليتيم والأرملة تكون، لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يديك..." (تث 24: 19).

إذ بلغ إسرائيل - شعب الله – إلى  هذا الحال المرّ سقط تحت المحاكمة القاسية إذ يقول النبي: "قد أقسم الرب بفخر يعقوب أني لن أنسى إلى الأبد جميع أعمالهم. أليس من أجل هذا ترتعد الأرض وينوح كل ساكن فيها وتطمو كلها كنهر، وتفيض وتنضب كنيل مصر؟! ويكون في ذلك اليوم يقول السيِّد الرب أني أُغيب الشمس في الظهر، وأُقتم الأرض في يوم نور، وأُحول أعيادكم نوحًا، وجميع أغانيكم مراثي، وأُصعد على الأحقاء مُسُحًا، وعلى كل رأس قرعًا وأجعلها كمناحة الوحيد وآخرها يومًا مرًا" [7-10].

مع كل ما صنعه إسرائيل من الظلم والآثام حتى أقسم الرب أنه لن ينسى جميع أعمالهم الشرِّيرة هذه، أي لا يصفح بعد، لكنه لا يزال يحمل لهم معزَّة خاصة إذا يقول: "أقسم الرب بفخر يعقوب"... إننا أولاده، يفتخر بنا، ويشتهي خلاصنا بالرغم مما صنعناه وما أسأنا به إليه.

أمام ظلم هذا الشعب ارتعدت الأرض كلها وناح سكّانها، وطمت كنهر وصارت تهتز كما بزلزال، وكأنها بنهر النيل الذي يفيض بالمياه في وقت الفيضان ليعود فيَقل ماءه! لا تستطيع الشمس معاينة هذا الشرّ فتغيب وقت الظهيرة وتتحوَّل الأرض إلى ظلام عِوض النور، وتتحوَّل الأعياد إلى نوح والأغاني إلى مراثي، ويلبس الناس المسوح عِوض الزينة، ويصيرون كمن فقد ابنه الوحيد، في مرارة قاسية.

إنها ثمرة طبيعيَّة مرَّة يتذوَّقها من امتلأ كأسه بالشر، فإن أرضه أي جسده الذي يقدِّم له الملذَّات يرتعد أمام الله ويفقد حيويَّته، وينوح كل سكَّانه، أي تفقد أحاسيسه ومشاعره كل بهجة ليدخل في حالة من القنوط والتبرُّم، تهتز حياة الإنسان كما بزلزال فيصير كنيل مصر يعلو ويهبط على الدوام بلا استقرار. تغيب عنه شمس البرّ فيفقد كل استنارة سبق فتمتَّع بها، وتتحوَّل أرضه الداخليَّة إلى قِتام الجهل. لا يعرف الفرح الروحي بل تتحوَّل أعياده الداخليَّة إلى مأتم، وعِوض التسبيح ينطق بالمراثي، وعِوض الزينة الروحيِّة الداخليَّة يصير في عار كمن يلبس المسوح. تتحوَّل حياته كمن في مأتم فيحلق شعر رأسه ليصير أقرع، ويبكى كمن فقد وحيده، الذي هو نفسه الواحدة!

والعجيب أن هذا الثمر المرّ قد حمله السيِّد عنَّا حين أحنى ظهره للصليب، "والرب وضعَ عليه إثم جميعنا" (إش 53: 6). فتحقَّقت هذه النبوَّة حرفيًا. فقد ارتعدت الأرض كقول البشير "والأرض تزلزلت والصخور تشقَّقت والقبور تفتَّحت وقام كثير من أجساد القدِّيسين الراقدين" (مت 27: 51-52).

تزلزلت الأرض وتزلزل الجحيم أيضًا. وغابت الشمس في الظهر كقول ذات البشير "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة" (مت 27: 45). وتحوَّلت أعياد اليهود بعد ذلك إلى نوح وأغانيهم إلى مراثي، حيث فقدوا الهيكل وتشتَّتوا في كل البلاد وخسروا مركزهم كشعب الله، فصاروا كمن هم في مناحة الوحيد.

رأي كثير من الآباء في هذه العبارات نبوَّة صارخة عمَّا حدث أثناء آلام السيِّد المسيح، منهم الأب لكتانتيوس[59] والعلاَّمة ترتليان والقدِّيس إيرينيئوس.

ويقول القدِّيس إيريناؤس: [لقد أعلن بوضوح عن كسوف الشمس في وقت صلبه أنه يتم في الساعة السادسة فما بعد (8: 9)، بعدها تتحوَّل أعيادهم التي حسب الناموس وتسابيحهم إلى حزن ونحيب عندما يُسلَّمون للأمم[60]]. وبنفس المعنى يقول العلاَّمة ترتليان: [قد سُبيتم وتشتُّتم بعد آلام المسيح كما سبق فأنبأ الروح القدس[61]]. كما يقول: إشعياء: "ألبس السموات ظلامًا" (إش 50: 3). هذا هو اليوم الذي يكتب عنه عاموس: "ويكون في ذلك اليوم يقول السيِّد الرب أني أُغيب الشمس في الظهر، وأُقتم الأرض في يوم نور". ففي الظهر انشقَّ حجاب الهيكل بهروب الكاروبيم (حز 11: 22-23)، حيث تُركت "ابنة صهيون كمظلَّة في كرم، كخيمة في مقثاة" (إش 1: 8) [62]].

ويعطي القدِّيس يوحنا الذهبي الفم مفهومًا روحيًا في حياتنا اليوميَّة لكسوف الشمس وحلول الظلمة على الأرض قائلاً: [يبدو ليّ أنه ليس فقط الأرض، وإنما حتى طبيعة الجو ودائرة أشعة الشمس تتطلَّع بحزن، فصارت أشعَّتها بالأكثر غشاوة (قتامًا)، لا لأن عناصرها قد تغيَّرت، وإنما لأن أعيننا قد ارتبكت بسحب الحزن فصارت عاجزة عن معاينة نور الأشعَّة بوضوح... هذا ما يبكيه النبي قديمًا بقوله: "إنيّ أُغيب الشمس في الظهر وأُقتم الأرض في يوم نور". يقول هذا ليس لأن كوكب النهار اِنكسف أو النهار اختفى، وإنما الذين هم في حزن لا يقدرون إدراك نور الظهر بسبب ظلام عماهم[63]]. إننا في حاجة أن ينزع الله عنَّا ظلام الخطيَّة فتستنير أعيننا بروحه القدُّوس لمعاينة المسيح يسوع شمس البرّ والتمتُّع ببهائه فينا!

أما من جهة تحويل الأعياد إلى حزن والأغاني إلى نوح فهذا عمل الخطيَّة الطبيعي، أمَّا التوبة فتهبنا العكس بالمسيح يسوع، إذ إليه نرجع، وفيه نجد عيدنا مفرحًا ومبهجًا بحق. وكما يقول القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب: [من واجبنا أن نحفظ هذا العيد، ناظرين أنه يملأ العالم كله فرحًا وبهجة. لنحفظه بالمزامير والتسابيح والأغاني الروحيِّة... لقد أكَّد لنا ربنا أنه يحوِّل أحزاننا إلى فرح خلال ثمر التوبة[64]].

3. مجاعة لكلمات الرب:

إن ثمر الخطيَّة تحطيم من كل جانب، تحطيم جسدي حيث ترتعد الأرض وينوح كل ساكن فيها [8]، وتحطيم نفسي حيث تفقد النفس نورها وتتحوَّل إلى حالة كآبة وتكون في مناحة بلا انقطاع، وأخيرًا تحطيم روحي حيث يفقد الإنسان طعامه الروحي، إذا يقول: "هوذا أيام تأتي يقول السيِّد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب... في ذلك تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان" [11-13].

هذا هو ما يهدِّد به الله الأشرار أنهم يدخلون في جوع وعطش لا إلى خبز وماء بل إلى كلمات الرب واهبة الحياة. فيجولون من بحر إلى بحر، أي من معلِّم يتَّسم بالسمة الزمنيَّة، لأن البحر يُشير إلى العالم بأمواجه المضطربة، يطلبون شبعًا لنفوسهم وسلامًا من معلّمين محرومين من الشبع الروحي والسلام الحقيقي، يبحثون في كل جهات المسكونة من الشمال إلى الجنوب... لكن بلا جدوى، حتى تذبل بالعطش الروحي كل مواهبهم وطاقاتهم وإمكانيَّاتهم، فتموت العذارى الجميلات والفتيان الأقوياء بالعطش! إنهم يدركون ذنب السامرة، فيبحثون عن الآلهة الغريبة في الشمال "دان" وفي الجنوب "طريق بئر سبع"، "فيسقطون ولا يقومون بعد" [14].

إنها مجاعة بشعة فيها تطلب النفس شبعًا روحيًا فلا تجد، لا لأن الله قد حرمها، وإنما لأنها بذنوبها المتكاثرة وعدم رغبتها في التوبة، تفقد إدراكها لكلمة الله كخبز الحياة.

ليتنا إذن ننعم دائمًا بكلمة الرب التي يقول عنها السيِّد نفسه: "الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [(كلمة الله) طعام النفس، وحُليِِّها، وضمانها، ففي عدم السماع لها مجاعة وحرمان[65]].

يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص[66] أن الله إذ يُهدِّد الأشرار بمجاعة ليست من الخبز، وظمأ ليس إلى ماء، فإنه من الجانب الآخر يمنح أولاده فـي الفردوس

ثمارًا تليق بمواعيده، ليست ثمارًا ماديَّة ومياه ماديَّة بل خبز الحياة وينبوع الحياة.

هذا هو الخبز الحيّ الذي يلزمنا أن نشبع به ونقدِّمه لأخوتنا الجائعين، كما قدَّم يوسف قمحًا وسط المجاعة لأبيه وأُمُّه وأخوته والغرباء أيضًا. بهذا المفهوم دعا القدِّيس غريغوريوس النزينزي[67] القدِّيس باسيليوس "يوسف الثاني" الذي أنقذ مصر من المجاعة بتدبيره الحكيم، مقدِّما خبز الملائكة الذي تقتات به النفوس الجائعة إلى الله. لقد أعلن أنه قدَّم طعامًا لا يُستهلك بل يبقى إلى الأبد يهب حياة.

وحينما تحدَّث القدِّيس غريغوريوس النزينزي إلى الوفد القادم من مصر مع شحنة غلال قال: [لقد جلبتم معكم علاجًا لا لمجاعة الخبز والارتواء بالماء، فإن مثل هذه المجاعة ليست مرعبة وعلاجها سهل، لكنكم تعالجون مجاعة الاستماع لكلمة الرب، التي هي بحق أكثر خطورة وعلاجها شاق للغاية في الوقت الحاضر بسبب الشرّ المتزايد ونُدرة وجود أُناس سامعين أصليِّين[68]].

إذن لنرجع إلى الرب فلا نبقى في مثل هذه المجاعة نجول من بحر إلى بحر من موضع إلى آخر فتذبل بالعطش العذارى الجميلات أو الصالحات والفتيان [13].

قلنا أن العذارى الجميلات هن الحواس التي قدَّمها لنا الله صالحة وجميلة، فإن حَرمنا أنفسنا من كلمة الله يذبلن ويصرن قبيحات وشرِّيرات، ليس لهن زيتًا ليتمتَّعن بالعرس الأبدي (مت 25). بالحرمان من كلمة الله، خلال المجاعة، تتحوَّل العذارى الصالحات التي لنا إلى عذارى جاهلات يفقدن نورهن بأفكارهن الجسديَّة.

<<

 

         

 


 

الأصحاح التاسع

رؤيا المذبح

والتمتُّع بالعصر المسياني

في هذا الأصحاح يرى النبي السيِّد الرب قائمًا على المذبح ليؤدِّب دون أن يفلت أحد من تأديباته أينما كان موقعة، لكن البقيَّة القليلة الأمينة تبقى محفوظة لا تسقط حبَّة منهم على الأرض، وأخيرًا يختم نبوَّته بفتح أبواب الرجاء على مصراعيه لكل الشعوب والأمم داخل خيمة داود الجديدة، في العصر المسياني.

1. رؤيا المذبح                       [1-4].

2. سمات المؤدِّب نفسه              [5-6].

3. خلاص البقيَّة الأمينة              [7-10].

4. العصر المسياني                   [11-15].

1. رؤيا المذبح:

اختلفت مقدِّمة هذه الرؤيا عن بقيَّة الرؤى السابقة، إذ لا يقول: "هكذا أراني السيِّد"، وإنما يبدو أنه تجاسر ليدخل إلى بيت الرب ليرى السيِّد قائمًا على المذبح. هنا يُعلن الرب الخصومة من على المذبح لا من خلال الكاروبين أو كرسي الرحمة، فإنه جاء يطلب عدله من أجل مقدَّساته التي تدنَّست، فصار المذبح عِوض أن يكون علّة مصالحة بين الله والناس، علَّّة غضب الله على شعبه الذي دنَّس مقدَّساته كخطيَّة بيت عالي التي قال عنها الرب: "أقسمت لبيت عالي أنه لا يكفِّر عن شرّ بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد" (1 صم 3: 14).

ولعلَّه قد أعلن آخر الرؤى لعاموس من على المذبح الذي قد تدنَّس لكي يحطِّمه ويفارقه، كما أعلن بأكثر وضوح لحزقيال النبي (حز 10) إذ لم يكن ممكنًا للرب أن يستقر حيث يصمِّم الإنسان على الشرّ[69].

ويرى بعض الدارسين أن الرؤيا هنا لا تخص مذبح الرب في أورشليم، في هيكله، وإنما تخص بيت إيل حيث كانت المملكة الشماليَّة تتعبَّد هناك، وقد مزجت في ذلك الحين عبادة الله بالعبادة الوثنيَّة[70].

على أي الأحوال صدر الأمر بالخراب مبتدأ بالأمر بضرب تاج العمود، أي عمود الهيكل لترتجف الأعتاب وتتكسَّر على رؤوس الجميع فيقتل الكل بالسيف إلى آخرهم ولا يهرب منهم هارب ولا يفلت منهم ناج [1].

ربَّما قصد بالتاج الكاهن الأول لبيت إيل، أو رئيس الكهنة في هيكل أورشليم، والأعتاب هم العظماء والمُشيرين والقادة الدينيِّين المنحرفين، وعندئذ يهلك كل الشعب الشرِّير ولا يفلت أحد. هكذا يبدأ الله بالمسئولين الروحيِّين أولاً، فإنه من نال كرامة أعظم أو تسلَّم مسئوليَّة أكبر يُدان أولاً، ففي مثل الوزنات بدأ الرب بمحاسبة صاحب العشرة وزنات ثم الأقل حتى انتهى بصاحب الوزنة الواحدة (مت 18: 34). لعلَّه لهذا السبب كثيرًا ما كان القدِّيس يوحنا الذهبي الفم يبكت نفسه قائلاً: [عجبي من أسقف يخلص]. وكما قال العلاَّمة أوريجينوس: [تبدأ الدينونة ببيت الله[71]].

هذا لا يعني أن الهروب من المسئوليَّة هو طريق الخلاص، وإنما الهروب من الشرّ، إذ قيل "الشرّ يتبع الخاطئين والصديقون يجتازون خيرًا" (أم 13: 21). فالشر يتبع الخاطئتن أينما وُجدوا، إن كانوا في المراكز الأولى في الكنيسة أو في الصف الأخير، إن هربوا إلى الهاوية أو ظنُّوا أنهم في السماء، إن اختبأوا في الأماكن الخفيَّة التي يصعب الوصول إليها كرأس الكرمل، أو غطسوا إلى أعماق البحر أو التجأوا إلى السبي! فالخطيَّة إن وُجدت في ألقاب يلاحقها الثمر أينما وجد الشرِّير غير التائب.

يقول الرب "إن نقبوا إلى الهاوية، فمن هناك تأخذهم يدي، وإن صعدوا إلى السماء فمن هناك أنزلهم" [2]. لعلَّه قصد بالهاوية هنا موضع الأموات (إش 14: 9)، فإنهم حتى إن ماتوا بالجسد فثمر خطيَّتهم يلاحقهم، فلا يقدر الموت أن يحجب عنهم جزاء ما ارتكبوه. بقوله "السماء" أراد أن يأخذ المضاداة (أي 11: 8)، وكأنه يقول إن نزلوا حتى إلى الهاوية أو ظنُّوا أنهم يرتفعون حتى إلى السماء فلا يفلتون من المحاكمة. ولعلَّه قصد بالهاوية اليأس وبالصعود إلى السماء التشامخ إلى فوق، فلا اليأس القاتل ولا الكبرياء يحميان الإنسان من غضب الله على شرِّهم.

"وإن اختبأوا في رأس الكرمل فمن هناك أُفتِّش وآخذهم" [3].

فقد عرفت رأس الكرمل بغاباتها الكثيفة وكهوفها المظلمة لذلك صارت رمزًا لعدم إمكانيِّة البلوغ إلى الهارب فيها... لكن يد الله لا تقصر عن أن تمسك بالمختبئ منه!

"وإن اختفوا من أمام عينيَّ في قعر البحر فمن هناك آمر الحيَّة فتلدغهم" [3]. إن كان البحر يُشير إلى العالم بأمواجه المضطربة، وإمكانيِّة أن يسحب الإنسان إلى أعماقه فيهلك، فلوياثان الحيِّة الهاربة (إش 27: 1) إنما تُشير إلى إبليس الذي يُسيطر على الغارقين في محبَّة العالم وشهواته، فمتى سلَّم الإنسان نفسه للعالم وانسحب بقلبه إلى أعماقه، يسمح الله له بالتأديب بتركه، لتستلمه الحيَّة أي الشيطان فيذوق مرارة ما فعله. لأنه أراد الشرّ، فلا يلزمه الله بالرجوع قسرًا، لكنه يتركه للشرِّير يتأدَّب في مرارة لعلَّه يرجع ويتوب!

"وإن مضوا في السبي أمام أعدائهم فمن هناك آمر السيف فيقتلهم، وأجعل عينيّ عليهم للشرّ لا للخير" [4]. ربَّما يتساءل الإنسان: هل يمضي أحد إلى السبي أمام أعدائه بإرادته حتى يأمر الرب السيف لقتله؟ في الحقيقة إن كان السبي كواقع تاريخي يتحقَّق قسرًا، لكن كحقيقة إيمانيّة إنما يتم بإرادة الإنسان، الذي بشرِّه يُسلِّم نفسه للسبي. فما حدث لإسرائيل ويهوذا بواسطة أشور وبابل لم يكن إلا ثمرة رجاسات وعناد لسنوات طويلة، وكان الله يُرسل الأنبياء للتحذير بكل الطرق، وإذ رفضوا سقطوا في السبي، وهناك في السبي أيضًا سمح بتأديبهم. إنها صورة مؤلمة تحدث في حياتنا حين يُحذِّرنا الله بكل وسيلة، لكن إصرارنا على الشرّ يسقطنا تحت سبي إبليس وعبوديَّته القاسية، فيسمح الله لنا بالتأديب ونحن في أرض غريبة.

2. سمات المؤدِّب نفسه:

في كل مرَّة يهدِّد شعبه يُعلن عن نفسه لكي يتأكَّدوا أنه قادر على تحقيق ما هدَّد به، والآن أيضًا يكشف عن ذاته مؤكِّدًا أنه يؤدِّب الأشرار دون تجاهل للبقيَّة الأمينة مهما كان عددها أو حجمها.

"السيِّد رب الجنود الذي يمس الأرض فتذوب وينوح الساكنون فيها، وتطموا كلها كنهر وتنضب كنيل مصر" [5].

لقد قيل عنه أنه يمس الجبال فتدخِّن (مز 104: 32، 144: 5)، فمن يظن في نفسه راسخًا كالجبل لا يحتمل التلامس مع الله بذاته... ومن يبقى أرضًا، يسلك في الأرضيَّات، يمسُّه رب الجنود فيذوب كالماء! أمًا الساكنون في الأرض فهى حواس الإنسان وطاقاته، التي تنوح عندما يفقد الجسد قدسيَّته وكيانه أمام غضب الله وعدله، وتطمو كلها كنهر أو كطوفان، وتنصبْ أو تغرق كنيل مصر...

أي يصير بكل طاقاته في حالة ضياع تام!

"الذي بني في السماء علاليه (مواضعه العليا)، وأسَّس على الأرض قبَّته (فرقة حراسة له)، الذي يدعو مياه البحر ويصبُّها على وجه الأرض، يهوه اسمه" [6].

يؤكِّد لبني إسرائيل عدم هروبهم من تأديباته، فإنه إن مسَّهم كأرض ذابوا كالماء وحزن كل سكَّانها،  وفي نفس الوقت قد أقام مواضعه العُليا (علاليه). في السماء يقدر أن يُلقيهم بحجارة عظيمة من البرَدْ فيموتون، كما فعل قبلاً مع ملوك الأموريِّين الساكنين في الجبل (يش 10: 11).

إن كانوا في شرِّهم عبدوا الكواكب فهو في السموات يحرِّك الكواكب ليحاربهم بما قيل "الكواكب من حبكها حاربت سيسرا" (قض 5: 20).

وفي قوله "الذي بني في السماء علاليه" يفتح أيضًا أبواب الرجاء لهم، فإن كانوا أرضًا ويخشون أن يمسُّهم رب الجنود فيذوبون، فليصيروا سماء ليسكن فيهم ويفرح بهم وهم يتهلّلون بسكناه فيهم. هذا ما فعله لنا السيِّد المسيح بصعوده، إذ وهبنا إمكانيِّة الصعود به لنكون سماء له، ويكون فينا. يقول العلاَّمة ترتليان: [يعد لنا المسيح هذا الصعود إلى السماء الآن، إذ يلزم للمسيح الذي تكلَّم عنه عاموس أن "يبني في السماء علاليه" لنفسه ولشعبه"[72]]. كما يقول: [الآن يوجد باب قد أعدَّه المسيح، خلاله يُقدِّم لنا المجد. عنه يقول عاموس: "الذي بنى في السماء علاليه"، بالتأكيد ليس لنفسه وحده، وإنما أيضًا لشعبه الذي يكون معه. يقول: "وتتنطَّقين بهم كعروس" (إش 49: 18). فإنه إذ يعجب الروح بالتحليق في السماء في العلالي يقول: "يطيرون كالحدأة، يطيرون كالسحاب، كالحمام يطيرون إلى بيوتها (راجع إش 60: 8)[73]].

إذن لنكن في المسيح الصاعد إلى السماء فنسكن في السماء آمنين، عندئذ تصير بقيَّة أيام غربتنا على الأرض لحساب السيِّد المسيح، إذ يقول: "وأسّس على الأرض قبَّته" أو فِرقة مجتمعة معًا له... أي تصير جماعته المحاربة ضد إبليس، جنود روحيِّين للرب تعمل معًا لحساب ملكوته وكما يقول القدِّيس كبريانوس: [لقد أردت أن أحارب بشجاعة، واضعًا في ذهني السرّ Sacramentum الذي له، حاملاً سلاحيّ التكريس والإيمان[74]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما يطبع الختم على الجلد هكذا يطبع الروح القدس على المؤمنين[75]].

أخيرًا فإنه يحوِّل مياه البحر إلى سحب، ومطر يصبَّها على وجه الأرض، وقد رأينا في ذلك إشارة إلى عمل الروح القدس، المطر الذي يحوِّل أرضنا الجافة إلى فردوس روحي للرب.

3. خلاص البقيَّة الأمينة:

بعد أن كشف السيِّد الرب عن نفسه أنه قادر أن يؤدِّب، كما هو قادر على رفعنا إلى السماء وتكريسنا للعمل لحساب ملكوته خلال المسيّا الصاعد إلى السماء في علاليه، والروح القدس الذي يُمطر على الأرض فيهبها قوَّة الإثمار، يتحدَّث عنها، عن البقيَّة الأمينة أنه يهتم بها ويسندها حتى النهاية.

مرة أخرى إذ يُرفق وعوده كما تهديداته بأمثلة عمليَّة، اخترها العالم في علاقته بالله، يوضِّح هنا بأمثلة كيف أنقذ أُممًا من العبوديَّة أو السبي واهتم بهم في الماضي، كدليل عملي عن رعايته للبقيَّة الأمينة. يقول: "ألستم ليّ كبني الكوشيِّين، يا بني إسرائيل يقول الرب؟!" [7]. كأنه يقول إن كنتُ قد خلصت بني كوش عبدة الأوثان – في ذلك الحين – من العبوديَّة فهل هم ليّ أكثر منكم، أفلا أهتم بكم لأخلِّصكم؟! إنه لم يرد أن يسدل الستار على النبوّات بالرؤى المُرَّة والقاسية، إذ وهو يُعلن حزمه الشديد يعود فيؤكِّد أنهم له أكثر من الجميع، فلماذا لا يرجعون إليه؟! عجيب هو الله في محبَّته للإنسان حتى في أمرّ لحظات التأديب.

مرة أخرى يذكِّرهم كيف اِهتم بهم وأخرجهم من عبوديَّة فرعون، وكيف أنقذ الفلسطينيِّين من كفتور (غالبًا جزيرة كريت)[76] والأراميِّين من قير.

إنه يهتم بالبشريَّة كلها، فكيف لا يهتم بالبقيَّة الأمينة. في عبارة جميلة ومطمئنة يؤكِّد: "لأني هأنذا آمر فأُغربل بيت إسرائيل بين جميع الأمم، كما يغربل في الغربال وحبَّة لا تقع على الأرض" [9]. إن كان الكثيرون قد صاروا قشًا فسيرميهم الغربال إلى الأرض التي أحبُّوها، لكن حبَّة واحدة من الحنطة مهما كانت صغيرة لا تقع من غربال الرب على الأرض، إنه يحفظها في يده فلا يخطفها أحد منه، ويرتفع بها إلى هيكله السماوي، يفرح بها من أجل أمانتها له!

4. العصر المسياني:

كسائر الأنبياء في العهد القديم يشرقون على الشعب بالبهجة الروحيَِّة ويفتحون أمامهم باب الرجاء خلال المسيّا بن داود القادم ليقيم مملكته الروحيِّة، التي تضم إسرائيل الجديد من كل الأمم والألسنة والشعوب، كل نبي يكشف عن جوانب معيَّنة من هذا العصر المبارك.

الآن ما هي سمات العصر المسياني كما قدَّمه لنا عاموس النبي؟

أولاً: إقامة مظلَّة داود الساقطة: "في ذلك اليوم أقيم مظلَّة داود الساقطة، وأُحصِّن شقوقها وأُقيم ردمها وأبنيها كأيام الدهر" [11]. في سفر حزقيال إذ كان التركيز كله يدور حول مفارقة مجد الرب بيته بسبب الرجاسات التي دخلت إليه، لهذا عندما أعلن عن إصلاح الموقف في العصر المسياني، قدَّمه لنا بكونه هيكل الرب الجديد (أصحاحات 40-48) بسمات رمزيَّة معيَّنة تكشف عن عمل المسيّا في حياتنا بعدم هدم هيكل إنساننا القديم لإقامة الإنسان الجديد، أمَّا هنا فإذ اتَّسم السِفر بهدم قصور إسرائيل ويهوذا وقصور الأمم المحيطة بإشعال النار فيها، عِوض هذه القصور يقدِّم لنا السيِّد المسيح مظلَّة داود وقد أقامها بعد السقوط، إنه يقيمها بنفسه إذ قام من الأموات ليقيمنا معه، ويُحصِّن شقوقها ويُقيم ردمها، ويبنيها بروحه القدُّوس كأيام الدهر لا يقدر الموت أن يهزمها.

سمة عصر المسيّا الذي ننعم به هو سمة القيامة، إذ صارت لنا الحياة الداخليَّة المُقامة فيه، نعيشها حتى متى جاء الرب في مجده تقوم أيضًا أجسادنا فتنعم النفس مع الجسد بالقيامة الأبديَّة.

يرى الأب ميثوديوس في هذه العبارة تأكيدًا لقيامة الجسد، إذ يرى على منكري قيامة الجسد، قائلاً: [إن تعبير "قيامة" لا ينطبق على ما لا يسقط بل على ما يسقط ليقوم ثانية، وذلك كقول النبي: "أقيم مظلَّة داود الساقطة". الآن فإن مظلَّة النفس المشتهاة جدًا هي ساقطة وغارقة في تراب الأرض (دا 12: 2). فالمستلقي ليس ما هو ليس بمائت بل ما هو مائت. فالجسد هو الذي يموت وأما النفس فخالدة؟ فإن كانت النفس خالدة والجسد هو الجثَّة الهامدة، فمن يقول بوجود قيامة، ولكن ليس للجسد، إنما ينكر القيامة بوجه عام، فالذي يقوم هو ما يكون مستلقيًا ليس ما هو قائم، كما هو مكتوب: "هل يسقط ولا يقول أحد ولا يرجع؟!" (إر 4:8)[77]].

ثانيًا: فتح الباب لجميع الأمم، إذ يقول: "لكي يرثوا بقيَّة أدوم وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم، يقول الرب الصانع هذا" [12]. وكما يقول القدِّيس إيريناؤس[78]: [إن هذه العبارة تؤكِّد فتح الباب للأمم حيث يُدعى اسم الرب عليهم].

إن كانت "أدوم" تعني "من التراب" أو "من الدم"، فإن مظلَّة داود المُقامة، أي كنيسة العهد الجديد، ترث أدوم لتحوِّله من التراب إلى السماء، ومن حب سفك الدم إلى وداعة المسيح، لقد قبلت الكنيسة في أحضانها الوثنيِّين فغسلتهم وقدَّستهم للرب آنية روحيِّة سماويَّة ملائكيَّة!

ثالثًا: فيض نعمة بلا حساب، إذ يقول: "ها أيام تأتي يقول الرب يدرك الحارث الحاصد، ودائس العنب باذر الزرع" [13]. فكأن الحصاد وفير للغاية يبقى من بعد الحصاد، حتى يأتي الحارث في السنة الجديدة فيجد بركة الحصاد قائمة، وهكذا بالنسبة لدائس العنب في المعصرة تبقى بركة العصير حتى السنة التالية.

علامة البركة أن المؤمنين وقد صاروا جبالاً راسخة وتلالاً يقطرون عصيرًا ويسيلون بركة [13]، كما سبق فرأينا ذات التعبير في سفر يوئيل (3: 18).

رابعًا: عصر الحريَّة الروحيِّة حيث ينطلق الإنسان من أسر إبليس وسبي الخطيَّة فتقوم في داخله مدنًا مقدَّسة عِوض الخراب الذي سبَّبه الشرّ وتغرس كروم الروح القدس المثمرة فرحًا، ويتحوّل القلب إلى فردوس إلهي من صنع الله نفسه، إذ يقول: "وأرد سبي شعبي فيبنون مدنًا خربة ويسكنون، ويغرسون كرومًا ويشربون خمرها، ويصنعون جنَّات ويأكلون أثمارها، وأغرسهم في أرضهم، ولن يُقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم قال الرب إلهك" [14-15]. صورة مبهجة لكنيسة المسيح الجنَّة التي تُفرح قلب الله وتبهج السمائيِّين ببنيانها الروحي، وغروسها المثمرة، وخمرها المُفرح، وثباتها إلى الأبد بلا تزعزع!.

<<

 


 

[1] J.H. Raven: O.T. Introduction , N.Y., 1910 , P. 219.

[2] Ibid , 218.

[3] القدِّيس أمبروسيوس: تفسير لو 5: 27 الخ (ترجمة مدام عايدة حنا بسطا).

[4] Ser. on N.T. Lessons, Ser. 1:34.

[5] Ep. 130:8.

[6] On Ps. hom 1 ; Comm. on Amos 1:5.

[7] On Ps. 83:5.

[8] حزقيال، 1981م، ص174-175.

[9] Pl 25:240.

[10] On Ps. 83:5.

[11] حزقيال ص173-174.

[12] On Ps. 83:5.

[13] New Westminster Dict., of Bible , P. 929.

[14] حزقيال ص169-171.

[15] حزقيال ص171-173.

[16] On Ps. hom. 34.

[17] On Ps. hom. 83:5.

[18] . In Ioan 5:8.

[19] خواطر فيلسوف في الحياة الروحيِّة (الخوري يوحنا الحلو) بيروت 1970م، ص291-292.

[20] للمؤلف: الخروج، 1981م، ص31-32.

[21] للمؤلف: الحب والعطاء، 1970م، ص43.

[22] Ep. 160:3.

[23] On Priesthood 6:11

[24] Adv. Javinian 2:15

[25] In Lude , Ser. 93.

[26] On Ps. hom. 20.

[27]  Ibid 51.

[28] On Ps. 124.

[29] Ibid 56.

[30] That demons do not govern the world 5: In Matt. 22:5.

[31] Expos. of Orthodox Faith, 19.

[32] Cassian: Conf. 6:6.

[33] Ser. on N.T. Lessons 5:3.

[34] In Matt. hom. 15:11.

[35] Ep. 44:2.

[36] New Westminster Diet. of the Bible , P. 94, 95.             حزقيال ص 182

[37] Jerome Biblical Comm. , P. 248.

[38] New Westminister Diet., P. 403.

[39] Ibid , P. 365.

[40] City of God 18:28.

[41] On the Faith (to Simplicius).

[42] حزقيال ص 85.

[43] Confession 10:20.

[44] راجع سلسلة "الكنيسة بيت الله" بالعربيَّة والإنجليزيَّة 15 جزءًا.

[45] In I Tim. hom. 15.

[46] On the Spirit 77 , 78.

[47] Strom. 6:15.

[48] Hixameron 2.

[49] Paed. 2:2.

[50] Adv. Marc. 4:15.

[51] In Matt. hom. 48:8.

[52] In Matt. hom. 79. 4.

[53] Conc. Stat. hom. 18:9.

[54] يوحنا السُلَّمي: السُلَّم إلى الله (تعريب رهبنة دير مارجرجس الحرف، 1980م)، 23: 1، 4.

[55] Ep. 40:1.

[56] Ep. 14:9.

[57] In 2 Cor. hom. 24:3.

[58] On Pentecost 14.

[59] Divine Instil. 4:19 ; Epitome of Div. Inst. 46.

[60] Adv. Haer. 4:33:12.

[61] An Answer to Jews, 10

[62] Adv. Marc. 4:43.

[63] Conc. Statues 2:6.

[64] Four Homilies , 2 (On the Annunciation to the Holy Virgin Mary).

[65] In Matt. hom. 2: 10.

[66] On the Making of Man 19.

[67] Panegyric on S. Basil 36.

[68] Oration 34: 2.

[69] حزقيال ص87-88.

[70] Jerome Biblical Commentary , P. 252.

[71] In Matt. hom. 14:10.

[72] Adv. Marc. 5:10.

[73] Ibid 3:2.

[74] De Lapsis 13.

[75] PG 61:418 .

[76] Jerome Com., P. 252.

[77] On Resurr. 1:12.

[78] Adv. Haer. 3:12:14

 

الصفحة الرئيسية