الأمثال

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

سفر الأمثال والكنيسة المعاصرة

لسفر الأمثال أهميته الخاصة في الكنيسة الأولى، هذه التي لم تفصل الإيمان عن الحياة. فإن كان سفر الأمثال لم يتعرض كثيرًا لعقائد إيمانية، بل ركز على السلوك التقوي، ففي نظرها هذا السلوك هو ترجمة عملية للإيمان الحيّ والشركة مع الله.

فالقديس إكليمنضس السكندري الذي عاش كفيلسوف لم يفصل بين الفلسفة والمعرفة، وبين الإيمان والحياة اليومية. بنفس الروح يربط القديس البابا أثناسيوس الرسولي بين الإيمان والصلاح، فيقول: "الإيمان والصلاح ينتميان لبعضهما البعض. إنهما أختان. من يؤمن بالله فهو صالح، ومن هو صالح يؤمن بالأكثر[1]". لهذا اهتم كثير من الآباء بسفر الأمثال.

يجد المؤمن المعاصر في هذا السفر مرشدًا إلهيًا يترجم له الإيمان إلى حياة عملية.

يوليو 1997

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة القديسة مارينا للأقباط الأرثوذكس

جنوب أورانج كاونتي – كاليفورنيا


 

-

- مقدمة

 

الأصحاح السابع عشر (بيت المحبة)

- القسم الأول الأصحاحات [1-9]

 

الأصحاح الثامن عشر (العزلة المقدسة والعزلة الشريرة)

الأصحاح الأول (نداء الحكمة)

 

الأصحاح التاسع عشر (يا لعظمة السلوك بالكمال)

الأصحاح الثاني (مكافاءات الحكمة)

 

الأصحاح العشرون (وصايا الحكمة)

الأصحاح الثالث (طريق الحكمة العملي)

 

- القسم الثالث الأصحاحات [21 – 30]

الأصحاح الرابع (الحكمة: إيجابيًا وسلبيًا)

 

الأصحاح الحادي والعشرون (طريق الملوكية!)

الأصحاح الخامس (صوت الزانية)

 

الأصحاح الثاني والعشرون (الغِنى والفقر)

الأصحاح السادس (التصرفات غيرالمسئولة)

 

الأصحاح الثالث والعشرون (التدقيق في الحياة)

الأصحاح السابع (اهرب من الزانية)

 

الأصحاح الرابع والعشرون (النصرة للحق لا للقوة الغاشمة)

الأصحاح الثامن (نداء علني للحكمة الأزلي)

 

الأصحاح الخامس والعشرون (الأمثال التي جمعها رجال حزقيا)

الأصحاح التاسع (مائدة الحكمة)

 

الأصحاح السادس والعشرون (فئات يلزم تجنبها!)

- القسم الثاني الأصحاحات [10 – 20]

 

الأصحاح السابع والعشرون (الأمانة)

الأصحاح العاشر (مكافآت الحياة السامية)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (الصدِّيق والاستقرار الداخلي)

الأصحاح الحادي عشر (طرق البرّ مملوءة أمانًا)

 

الأصحاح التاسع والعشرون (الصدِّيق المتهلل واهب الفرح)

الأصحاح الثاني عشر (وصايا الحكمة عن السلوك المتناقض)

 

 -القسم الرابع الأصحاح الثلاثون

الأصحاح الثالث عشر (سعادة الحكيم وشبعه)

 

الأصحاح الثلاثون (كَلاَمُ أَجُورَ ابْنِ مُتَّقِيَةِ)

الأصحاح الرابع عشر (وصايا الحكمة عن مخافة الرب)

 

- القسم الخامس الأصحاح الحادي والثلاثون

الأصحاح الخامس عشر (عبور الحياة بقلبٍ باشٍ)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (كَلاَمُ لَمُوئِيلَ مَلِكِ مَسَّا)

الأصحاح السادس عشر (وصايا الحكمة من العناية الإلهية)

 

 


 

مقدمة في سفر الأمثال

الأسفار الحكمية[2]:

يوجد نوعان من الكتابات الحكمية في العهد القديم:

النوع الأول يحوي أحاديث عملية فعّالة توضح كيف يمارس المؤمن حياته الروحية والاجتماعية، فيجد شبعه وسعادته وعربون مكافأته الأبدية. نجد مثل هذا النوع من الكتابة يسود سفر الأمثال.

النوع الثاني من الكتابات الحكمية يعالج الصراع مع متاعب الحياة، فتثير في ذهنه الأسئلة التالية:

هل للحياة كما نعرفها معنى؟

وهل يمكننا بلوغ أي نتائج عقلية لمعنى الحياة؟

وما هو مدى تجاوبنا مع متناقضات الحياة في العالم الواقعي؟

نجد مثل هذا النوع من الكتابات الحكمية في سفر الجامعة، وأيضًا في سفر أيوب.

من بين الكتابات الحكمية أسفار الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد، منسوبة جميعها إلى الملك سليمان. هذه الأسفار الثلاثة غنية في استخدامها للمجازات والتشبيهات.

يجيب سفر الأمثال على التساؤلات السلوكية بوضوح وحزم، فلا يعرف أنصاف الحلول، بل يكشف عما هو أسود أو أبيض، ولا يوجد فيه ما هو بين الاثنين، أي اللون الرمادي.

يوضح سفر الجامعة أن الكثير من الأشياء في حقيقتها ليست كما تبدو في الظاهر، فالتعلم والغنى والشهرة والشبع ليست دائمًا علامات على بركات الرب، إنما يمكن أن تكون فارغة وبلا معنى. ويثير سفر الجامعة تساؤلات كثيرة لكي يدخل بنا إلى مفاهيم أعمق.

يهتم سفر نشيد الأناشيد بتقديس الحب والعلاقات الزوجية والرباط بين الخطيبين كظل للوحدة الفائقة بين السيد المسيح وكنيسته، أو بينه وبين النفس البشرية.

لكل سفر من هذه الأسفار الثلاثة تطلعه المختلف عن السفرين الآخرين، فسفر الأمثال يهدف نحو الإرادة المقدسة، والجامعة نحو العقل المقدس، والنشيد نحو القلب المقدس.

بحسب التقليد اليهودي كتب سليمان الملك هذه الأسفار في مراحل حياته المختلفة، سفر النشيد في شبابه، والأمثال في منتصف عمره، والجامعة في شيخوخته.

على أي الأحوال توجد بعض الملامح الهامة مشتركة بين هذه الأسفار، فسفرا الأمثال والجامعة يمثلان نموذجين كلاسيكيين من نوع معين من الأدب ظهر في أيام الملك سليمان واستمر يزدهر حتى بعد عودة اليهود من السبي البابلي.

يشترك سفرا الجامعة والنشيد في تمايزهما كسفرين خاصين بالأعياد من بين خمسة أسفار كانت تُقرأ في الأعياد السنوية حسب التقليد اليهودي. أما الأسفار الثلاثة الأخرى فهي راعوث وإستير والمراثي.

سليمان الملك كرجل حكيم ومختبر للحياة قدم رسالة هامة لنا جميعًا. هذه الرسالة ببساطة هي هذه: "إن تطلعنا إلي الحياة نجدها طويلة وشاقة، لكنها ليست بلا معنى، ولا تسير بلا خطة محكمة. يوجد شبع عميق في الحياة التي نتقبلها من الله ونودعها بين يديه الإلهيتين. فالله بالنسبة للمؤمن هو إله العدل (الأمثال) والحب (نشيد الأناشيد)، وهو وحده الذي يهب الحياة معنى (الجامعة). وإذ هذا حق يمكـننا أن نتبع بثقة مشورة الكاتب الحكيم: "اتكل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد. في كل طرقك اعرفه، وهو يوجه كل طرقك" (أم5:3-6) [3].

لغة الخبرات البشرية

يرى البعض أن الأمثال هو سفر يحوي تجميعًا لخبرات بشرية قُدمت في شكل أمثال، لتكون قائدًا للإنسان في حياته الزمنية بروح تقوي، ويكون ناجحًا في كل جوانب حياته. هذا ما لا ننكره، لكن يلزمنا إدراك أنه سفر عملي إيماني يُقدمه لنا روح الله القدوس، مستخدمًا لغة الخبرات البشرية.

بمعني آخر، الله في حبه يوَدْ أن يتحدث معنا بكل وسيلة لأجل لقائنا معه، ودخولنا في حياة الشركة معه، ونموِّنا، ونجاحنا في هذه الحياة، وتمجيدنا في الحياة الأخرى.

يمكننا القول بأن الله استخدم معنا الوسائل التالية للحديث معنا وتعليمنا:

1. الوصايا الإلهية: كما فعل الله مع آدم وحواء. حقًا لقد أحبنا الله أولاً، لكننا كنا في حاجة أن نجد الفرصة لنعبر عن حبنا له عمليًا بطاعتنا له. بالوصايا يختبر الإنسان الحب المتبادل بينه وبين الله. وإذ كسر أبوانا الأولان الوصية قدم الله وصايا أو شرائع طبيعية، ثم شريعة مكتوبة على لوحي حجر بأصبعه الإلهي على جبل سيناء، سلمها لموسى النبي أول قائد لشعبه.

2. الطبيعة: يحدثنا الله عن طريق المخلوقات الجامدة أو النباتات أو الحيوانات أو الحشرات، فقد صار الإنسان محتاجًا أن يتعلم حتى من النملة (أم 6:6).

3. كلمة الله المكتوبة: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن الإنسان لم يكن محتاجًا إلى كلمة مكتوبة ليسمع الصوت الإلهي، إذ كان اللقاء بين الله والإنسان وجهًا لوجه، لكن بسبب السقوط وضعف الإنسان صارت هناك حاجة إلى الكلمة المكتوبة.

4. الرؤى والأحلام: تحدث الله مع الآباء والأنبياء بإعلانات إلهية خلال الرؤى والأحلام. وجاء أغلبها ظلاً وتمهيدًا لتجسد الكلمة نفسه، كما حدث مع موسى حين رأى العليقة الملتهبة نارًا (خر2:3).

5. لغة التسبيح: يحدثنا الله ويعلمنا خلال التسبيح الوارد في الكتاب المقدس، لندرك أن غاية وصيته هو تهليل قلبنا به، وتمتعه بعربون السماء أو ملكوت الله الداخلي المفرح. ويُعتبر سفر نشيد الأناشيد نموذجًا رائعًا فريدًا للحديث الإلهي معنا خلال التسبيح. وقد استخدمت الكنيسة هذا الأسلوب، فحوّلت العبادة إلى تسبيح يحمل أحاديث إلهية ممتعة ومفرحة.

في ليتورجيات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعتبر القراءات المقتبسة من الكتاب المقدس بعهديه ليست مجرد قراءات مجردة، لكنها أيضًا تُرنم كتسابيح بنغم مختلف، فتتطلع إلى الكتاب كله ككتاب تسبيح.

6. الأمثال Parables والتشبيهات الإلهية: جاء العهدان القديم والجديد مشحونان بالأمثال والتشبيهات لإدراك الأسرار الإلهية بلغة سهلة، مثل تشبيه الكنيسة بالكرمة (إش5).

7. الرموز Allegories: إذ تعجز اللغات البشرية عن الحديث عن السماويات يستخدم الله الرموز، كما جاء في سفر الرؤيا.

كلمة "رمزية" allegorism مشتقة من الكلمتين اليونانيتين "alla" ، أي "الآخر"، وagoreuo"" وتعنى "يُظهر"، وهي تشير أصلاً إلى نوعٍ من الحديث عرّفه شيشرون Cicero بأنه  "مجرى مستمر من المجازات[4]".

والرمزية عند القديس أغسطينوس هي نوع من الحديث، به نفهم شيئًا بتشبيهه بشيءٍ آخر[5].

يرى بعض الدارسين أن "الرمزية" وسيلة تفسير الحقائق الأرضية بطريقة رمزية لتشير إلى حقائق سماوية، بينما المِثاليَّة" typology هي تفسير الحقيقة التاريخية كظلٍ لحدثٍ آخر، خاصة لشخص السيد المسيح وعمله[6]. كلمة "مثاليّ" typology باليونانية تعني أساسًا "يطبع" أو "يختم". والختم هو تحقيق الحدث في العهد الجديد الذي تمّ تشكيله أو طبعه في قالب نبوي في صفحات العهد القديم[7].

8. الأحداث التاريخية: يتحدث الله معنا خلال الأحداث الماضية، خاصة ما ورد في العهدين القديم والجديد، كما يحدثنا خلال الأحداث المعاصرة. يتحدث الله مع كل أحدٍ شخصيًا، خلال ما يحدث معه ومع أقربائه وأصدقائه والغرباء عنه، وما يحدث بين الدول.

9. الأمثال Proverbs: يحدثنا الله بخبرة أناس ناجحين أو فاشلين ليؤكد لنا أن ما يعلنه بوسيلة أو أخرى تؤكده الخبرة البشرية. بهذا يمكننا القول بأن سفر الأمثال هو حديث إلهي نحو محبوبه الإنسان خلال لغة الواقع التي يقدرها الإنسان كأمرٍ ملموس حوله.

10. أخيرًا تحدث الله معنا خلال تجسد الكلمة الإلهي، اللوغوس والحكمة، وكما يقول الرسول بولس: "الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" عب 1:1. لقد طأطأ الكلمة الإلهي السماء ونزل، ليلتقي بالإنسان، ويتحدث معه بلغة الحب العملي. يتحدث آباء الإسكندرية عن الكلمة المتجسد كمعلم لنا ومدرب.

صار كلمة الله إنسانًا، إنما لكي نتعلم كيف يصير الإنسان إلهًا[8].

V      هكذا نزل إلينا،

 هكذا التحف بطبيعة بشرية،

 هكذا بإرادته احتمل آلام الإنسان،

 حتى إذ نزل إلى قياس ضعفنا يرفعنا إلى قياس قوته[9].

القديس إكليمنضس السكندري

V      يوجد في لاهوت الكلمة قوة، ليس فقط تعين المرضى وتشفيهم... بل وتُظهر للأنقياء في الجسد والذهن "إعلان السرّ"... أُرسل الكلمة الإلهي كطبيب للخطاة، ومعلم للأسرار الإلهية، وذلك للذين هم بالفعل أنقياء وبلا خطية[10].

بنور الكلمة نطرد ظلمة التعاليم الشريرة...، لأن الكلمة يفتح عينيْ نفوسنا، فنرى الفارق بين النور والظلمة، ونختار على كل حال أن نقف في النور[11].

العلامة أوريجينوس

الأمثال كطريق للتعليم

المثل هو قول قصير يقوم مقام مقال أو محاضرة كاملة، له تأثيره على السامعين، وهو يركز إما على مقارنة بين أمرين أو مقابلة مضادة بينهما، له رنينه على الأذن ويستأثر الانتباه.

كان استخدام الأمثال طريقًا سهلاً للتعليم، بلا تعقيد. وكان من أفضل طرق التعليم، يجيب بطريقة عجيبة ليحقق الهدف، يمكن فهمه بسرعة ويُحفظ بسهولة.

اُستخدمت هذه الوسيلة للتعليم في العصور التي كانت فيها الكتب نادرة جدًا، وباهظة التكلفة. لكن حتى يومنا هذا، في عصر العلم الحديث، لازال للأمثال أثرها الكبير. تتناقل الأجيال الأمثال جيلاً بعد جيل، ونتنسمها كالهواء، سواء كنا نسلك بحكمتها أم لا؛ وهي تذكرنا بأن الحياة المنظمة حياة صالحة.

تساعد الأمثال البشر على الاتصال ببعضهم البعض، إذ تمثل تجميعًا لأفكار خاصة بثقافة معينة.

في الواقع العالم تحكمه الأمثال، فكثيرًا ما نردد القول: "كما يقول المثل عند القدماء" (1صم13:24)، أو "كقول القدماء". هذه التعبيرات كثيرًا ما تجري بين غالبية البشر لتشكل مفاهيمهم، وتقدم لهم حلولاً محددة ثابتة لمشاكلهم وإجابات لتساؤلاتهم.

استخدام الأمثال أكثر الطرق قدمًا في التعليم. فمنذ بدء التاريخ وُجدت أمثال خاصة بكل أمة. لذلك فإن الأمثال كثيرة في كل اللغات ولدى كل الشعوب. لا توجد ثقافة قط دون أن تخزن خبراتها العامة بطريقة ما في شكل أمثال. وكما أن سمات الشعب تُشكل الأمثال، فإن الأمثال بدورها تشكل سمات الشعب الذي يستخدمها.

اُستخدمت الأمثال قديمًا عند اليونانيين، فكان لكل واحد من السبعة رجال اليونانيين الحكماء قول قيِّمَ به نفسه فصار مشهورًا. هذه الأمثال نُحتت على أعمدة، وصار لها تكريمها العظيم.

تبدو كثير من الأمثال كأنها حديثة تفيض من أفواهنا اليوم، لكنها في الحقيقة بلغت إلينا من أزمنة قديمة جدًا.

الأمثال في الفكر الإلهي والفكر البشري

1. تختلف الأمثال في فكر الله عنها في الفكر البشري، فقد عُرف الكثير من الفلاسفة والحكماء بأمثالهم الصالحة، لكنهم لم يستطيعوا أن يقدموا الحق كاملاً. يرى آباء الإسكندرية أنه ليس فقط الأمثال بل والفلسفة بوجه عام غير كاملة، فإنها وإن كانت هبة من الله لكن البشر أفسدوها.

يقول القديس إكليمنضس السكندري: "الله نفسه الذي قدم العهدين، أي العهد الذي للشريعة والعهد الذي للفلسفة، هو واهب الفلسفة اليونانية، لكي يتمجد بها القدير بين اليونانيين[12]". وأحيانًا يمتدح العلامة أوريجينوس الفلسفة والعلوم، ففي نظره "كل حكمة هي من الله[13]". يقول إننا نستطيع أن نستخدم الفلسفة كما انتفع موسى من نصيحة يثرون حميه. وفي عظته الحادية عشر على سفر الخروج يقول أوريجينوس: "إن وجدنا شهادة حكمة لدى كاتبٍ وثنيٍ لا نرفض أفكاره بسرعة دون تفكير وذلك لمجرد اسمه. ففي الحقيقة الشريعة التي نتبعها، هذه التي تسلمناها من الله، لا تدعونا أن نُبتلع بالكبرياء، ونرفض أن نصغي إلى حكيم. لا، وإنما كما يقول الرسول: "امتحنوا كل شيء، تمسكوا بالحسن" (1تس21:5) [14].

2. ليس فقط يعجز الفلاسفة والحكماء عن تقديم الحق كاملاً، بل ولهم أخطاؤهم، فلا يستطيعون أن يحققوا ما ينطقون به. إنهم أيضًا لا يحملون قوة لإعانة الغير لتحقيق ما ينصحون به. أما رجال الله فيستخدمون الأمثال الإلهية التي تعلن الحق كاملاً بتمامه، ولديهم قوة النعمة المجانية لممارستها، وإعانة الغير على تحقيقها.

3. بينما تهتم الحكمة اليونانية بتأملات في الأمور غير المنظورة بطريقة غامضة ونظرية، إذا بالحكمة المذكورة في الكتاب المقدس، الصالحة والشريرة، تشير إلى الخبرة العملية الخاصة بسلوك المؤمن أو الشرير في حياته[15].

أ. في سفر الخروج 3:28 تشير فكرة الحكمة إلى الخبرة العملية: "وتُكلم جميع حكماء القلوب الذين ملأتهم روح حكمة أن يصنعوا ثياب هرون لتقديسه ليكهن لي". وجاء في خروج 3:31-6؛ 30:35-35، أن الفنانين صانعي خيمة الاجتماع في البرية نالوا حكمة من الله لإتمام عملهم، فحُسب فنهم حكمة.

ب. في 2مل6:2 اُستخدمت "الحكمة" للتعبير عن المهارة.

ج. الحكمة التي تسلمها الملك سليمان من الله ظهرت بمهارته في الحكم في قضية السيدتين اللتين ادعتا أنهما والدتا طفل معين (1مل16:3-28).

د. حُسبت الوسائل التي استخدمها فرعون ضد تزايد تعداد الشعب العبراني وسائل حكيمة (خر10:1).

هـ. كان حكماء مصر الذين لم يستطيعوا تفسير حلم فرعون يمارسون السحر وفنون استخدام قوة الشيطان (تك40).

و. لُقب يوناداب في 2صم3:13 كإنسان حكيم، لأنه أخبر أمنون كيف يخدع أخته ثامار التي من أبيه.

ز. حُسبت أرملة تقوع امرأة حكيمة، لأنها مارست خِداعًا أمام الملك داود، إذ دفعته إلى رد ابنه إبشالوم من منفاه (2صم1:14-24).

ح. في إش3:10 اُستخدمت الحكمة لتصف فنون الجيش.

4. يرى الكتاب المقدس أن الحكمة الفائقة الإلهية التي هي هدف الأمثال هبة إلهية تُعطى لأناس الله، وفي نفس الوقت لا يتجاهل الحكمة الطبيعية الممنوحة من الله لكل البشر بصفة عامة، وهي تختلف من شخص إلى آخر حسب مواهبه وظروفه وجدّيته وروحانيته.

5. الحكمة - الإلهية أو الطبيعية - تحتاج أن تنمو بالدراسة والدخول في علاقات مع الغير، مستندة على نعمة الله.

وُجدت في الدول القديمة مثل مصر وما بين النهرين مدارس خاصة بتعليم الحكمة. تركزت هذه المدارس حول قصور الملوك، يلتحق بها الأمراء وأبناء رجال الدولة والنبلاء والكهنة. كانوا يجتمعون معًا، يحفظون أقوال الحكماء الأولين، كما يُقدمون تأملاتهم وتعليقاتهم بخصوص خبرتهم مع الناس وفي تدبير الأمـور[16]. وعندما تبنّت ابنة فرعون موسى النبي تعلّم حكمة المصريين (أع22:7). أما سليمان فنال حكمة عظيمة وفهمًا واتساع فكرٍ كعطية إلهية (1مل29:4). كان ملكًا عظيمًا، اشتهر بالحكمة.

يقول القديس ديونسيوس: "ادرس كل شيء يقع بين يديك، فأنت قادر أن تمتحن كل شيء".

ويرى القديس إكليمنضس أن المسيحيين جميعًا يتقبلون المعمودية كأطفال في المسيح، ويحتاجون إلى النمو الدائم خلال تعليم المعلم Paidagogos وتدريبهم بواسطته. إن حياة المؤمن الحقيقي تحمل طابع الطفولة التي لا تتوقف عن النمو، تفيض بمعرفة الحق الذي لا يشيخ ولا يقدُم ولا يتوقف، فيصبغ على الحياة هذه الطبيعة الدائمة النمو. يقول: "إن اسم الطفولة بالنسبة لنا هو موسم الربيع الممتد في الحياة كلها، لأن الحق الساكن فينا لا يخضع للشيخوخة، ووجودنا الذي يفيض بهذا الحق لا يشيخ لأن الحكمة دائمة الثمر... إذ يدعونا المدرب أو المعلم الأصاغر يعني أننا الآن مستعدون للخلاص أكثر من حكماء العالم الذين إذ يظنون في أنفسهم أنهم حكماء أعموا أعينهم".

يؤكد القديس إكليمنضس أنه لا يوجد إنسان ما كامل في كل شيء دفعة واحدة: "أنا أعرف أنه ليس أحد كامل في كل الأشياء دفعة واحدة، وهو لا يزال بشريًا... إلا ذاك وحده الذي لأجلنا التحف بالبشرية... أما كمال الغنوسيين (أصحاب المعرفة الروحية) في حالة الإنسان القانوني فهو قبول الإنجيل، الذي يصير كاملاً بعد الناموس".

يليق بنا أن نجاهد في دراسة الحكمة، وفي نفس الوقت نعرف أن الله لا يزال يشتاق أن يهب كل مؤمنيه الحقيقيين حكمته بسخاء مجانًا، لكن ليس قسرًا، إذ هو يقدس حرية الإنسان.

العنوان

استُخدمت كلمة مَثَل في العبرية mishel في معاني كثيرة، منها:

أ. رمز allegory، كأن يُرمز للسيد المسيح في علاقته بالكنيسة أو النفس البشرية بالعريس (حز2:17).

ب. حديث (عد8:22).

ج. أغنية تعبر عن النصرة (إر4:14).

د. حوار أو جدل argument (أي2:29).

هـ. مثال Type أي شيء يُقابل شيئًا.

و. مرثاة.

ز. حكمة: أي كلمات مقتضبة تعبر عن معانٍ كثيرة.

ح. تدبير الشيء أو إدارته rule  (تك18:1؛ 16:3؛ خر8:21). لذا فإن هذه الأمثال تكشف عن تدبير الله السماوي لحياتنا الزمنية اليومية، تدبيرها فكريًا وعمليًا، لتحقيق خطة الله من جهتنا.

غرض السفر

1. سفر الأمثال في الواقع هو دائرة معرفة تضم التعرف على السلوك والحياة. كما يضم السفر بعض النصوص التعليمية، ويعلن عن السعادة الحقيقية وكيفية البلوغ إليها.

يوجد طريق واحد للتمتع بهذه الفيتامينات الروحية وهي القراءة اليومية في السفر مع رفع القلب إلى الله لكي يكشف في الأعماق عن الحكمة. عمل سفر الأمثال أن يحيا المؤمن بكل أمانة صالحة لكي يزين تعليم مخلصنا الله في كل شيء (تي10:2). حتى غير المؤمن يجد في سفر الأمثال منهجًا حيًا للسلوك الناجح، لكن يكتشف الحاجة إلى نعمة الله كي تسنده في هذا العمل. والعجيب أن السفر يحوي 31 إصحاحًا ليؤكد حاجة الإنسان إلى التمتع بإصحاح منه كل يوم من أيام الشهر.

2. أن نعرف الحكمة ونسلك فيها عمليًا (2:1). يشرح القديس إكليمنضس السكندري كيف يجب أن نعطش إلى الحكمة حتى نستريح في الله نفسه. يقول: "تنمو الرغبة في الحكمة عندما نهتم بالدراسة ونتغذى بها، وهي تنمو مع نمو إيمان الدارس". كما يقول: "من له الله مستريحًا في داخله لا يشتهي أن يطلب شيئًا آخر. ففي الحال إذ يترك كل العقبات ويستخف بكل أمر يشتته، يلتصق بالسماء خلال المعرفة، ويعبر خلال الأمور الروحية، ويتمتع بالسلطة وأحكام الأمور، ويتلامس مع العروش العلوية، مسرعًا نحوها وحدها من أجل ما قد تعرف عليه بنفسه... فإن العمل يتبع المعرفة كما يتبع الظل الجسد".

3. ننعم بالتأديب والفهم.

إلى من يُوجه السفر؟

سفر الأمثال، أكثر من غيره، هو سفر الشباب. هنا لا تعني كلمة "شاب" المراهقين فحسب، فإن قدماء اليونانيين يحسبون أن الإنسان يُحسب شابًا حتى الأربعين.

مفتاح السفر

مفتاح السفر هو كلمة "الحكمة. وقد أشير إليها 104 مرة في هذا السفر، ولعل من أفضل العبارات الواردة في هذا السفر هي: "مخافة الرب بدء الحكمة" (10:9)، إذ يدعونا إلى التعليم في مدرسة الله. كل حكمة حقيقية هي من الله وتقود إلى الله. أينما وُجدنا، فإن المفتاح الذي يفتح أسرار الحكمة مستقر في الله.

يقول: "مخافة الرب" وليس "مخافة الله". ففي العبرية يُستخدم تعبير "ألوهيم" ليظهر الله بكونه "القدير" ليُشير إلى قدرة الله وسلطانه. أما التعبير العبري "يهوه" فيُشير إلى الله أيضًا، بكونه الإله الذي يدخل في عهد حب مع شعبه. هكذا يرتبط الخوف بالرب (يهوه) الذي يرغب أن يحل في وسطهم. هكذا مخافة الرب التي تهب الإنسان الحكمة لا تعني الخوف الذي يسبب لنا اضطرابًا وإحباطًا، بل يهبه سلامًا وفرحًا. مخافة الرب تعني الانشغال به لكي لا نجرح مشاعره، إذ يليق بنا أن نرد له حبه بحبنا، وأمانته نحونا بأمانتنا نحوه.

تاريخ السفر

أغلب الأمثال كتبها سليمان حوالي 950-900 ق.م، وما جمعه حزقيا الملك كان حوالي 700ق.م. لذلك من المعقول أن السِفر قد جُمع معًا حوالي سنة 700ق.م.

سمات السفر

1. سفر سلوكي: حينما يشير إلى الإيمان يترجمه إلى سلوك عملي. وحينما يتحدث عن الحكمة أو الفهم أو التمييز لا يقصد بذلك معرفة عقلانية بحتة intellectual، لكنه يتحدث عن حياة عملية.

استخدمت الكلمة العبرية "chokmah الحكمة" في سفر الأمثال أكثر من 40 مرة وفي سفر الجامعة 27 مرة، وهي تعني شيئًا مثل "المهارة في الحياة". فالحكمة معرفة عملية لا نظرية ولا غيبية. إنها سلوك روحي أخلاقي أكثر منه فلسفة. إنها تعني كيف يعرف الإنسان أن يتصرف بحكمة، ويحيا في طريق ملتزم ومنتجٍ ونامٍ وتقويٍ.

يقول القديس إكليمنضس السكندري أن غاية التعليم المسيحي هو "الجانب العملي لا النظري، وهدفه هو إصلاح النفس لا التعليم، وتدريبها لتسمو إلى حياة فاضلة لا إلى حياة عقلانية (بحتة)". كما يقول: "الأعمال تتبع المعرفة، كما يتبع الظل الجسد[17]".

2. يوحي لنا هذا عن اهتمام الله الفائق بأدق التفاصيل الخاصة بأفكار أولاده وكلماتهم وسلوكهم؛ هذا هو إلهنا وخالقنا ومخلصنا.

3. يحمل سفر الأمثال أكثر من طابع من الجانب اللغوي: شعـر، وأمثال قصيرة، وأسئلة قاطعة، وقصص قصيرة، ومقابلات contrast.

4. سفر الأمثال ليس أدبًا عالميًا بل يحمل فكرًا إلهيًا، لهذا لا نعجب إن ورد اسم الله Jehovah 86 مرة في هذا السفر.

5. يقسم السفر البشرية إلى حكماء وأغبياء، وإن كان يمكن للإنسان أن ينتقل من فريق إلى آخر، ويمكنه أن ينمو في ذات الفريق. الحكماء هم محبو المعرفة والساعون وراءها لاقتنائها والسلوك بها، أما الأغبياء فهم أصناف متعددة:

ا. البسطاء: وهم فريق جاهل لا يستطيعون أن يميزوا بين الحق والباطل، هم بلا روح تمييز وبلا اشتياق إلى المعرفة.

 يحبون البساطة أو الجهل (22:1).

 يتجنبون الفهم (7:7).

 يصدقون كل كلمة (7:7)، لذلك كثيرًا ما يصطادهم الهراطقة.

 يموتون بسبب ارتدادهم عن الحكمة (32:1).

 يرثون الغباوة [18:14،24).

ب. المستهزئون: يعرفون الحق والباطل، لكنهم يسخرون بالحكمة من أجل اللهو بالشر أو التمتع بملذات الجسد، أي لهم معرفة لكن بغير حكمة، يرفضون أن يترجموا المعرفة إلى عمل. عندما يُحذرون من نتائج الشر يقولون: "هذا لن يحدث لنا".

 يجدون لذتهم في السخرية بالغير (22:1).

 يهينون من يحاولون الإصلاح من شأنهم ويُبغضونهم (7:9-8؛ 12:15).

 يرفضون الاستماع إلى كلمة توبيخ (1:13).

 باطلاً يبحثون عن الحكمة التي بحسب هواهم (6:14).

 متكبرون ومتشامخون (24:21).

 يسببون نزاعات (10:22).

 يسقطون تحت سخرية الله بهم (34:3)، ويواجهون حتمًا الدينونة الإلهية (29:19)، ويستخف بهم الغير (9:24).

ج. الحمقى: يجهلون الحكمة بإرادتهم، ولا يهتمون بالبحث عما إذا كان الأمر صالحًا أم شريرًا. إنهم يقولون: "ماذا لنا في هذا الأمر؟!"

يكرهون المعرفة (22:1).

يلهون وهم يفعلون الشر (23:10).

يتحدثون بغباوة مع الغير (23:12، 16:13).

يثورون عندما يُقدم لهم أيّ تعليم، إذ يثقون في أنفسهم وحدهم (16:14).

يستهينون بالوالدين (20:15).

أكثر خطورة من الدببة الثائرة (12:17).

يحبون أن يقدموا آراءهم لا أن يتعلموا (2:18).

يحتقرون الحكمة (9:23).

حكماء في أعين أنفسهم (5:26).

يهلكون بسبب انشغالهم بذواتهم وحدهم (23:1)، معدون للضرب (29:19؛ 3:26).

د. المتمردون: يكرهون الحكمة حتى يمكن القول بأنهم غير مؤمنين وثائرون.

يحتقرون الحكمة والتأديب (7:1).

متأكدون أنهم على حق دائمًا (5:12).

يسخرون بفكرة وجود الخطية (9:14).

يستهينون بتعليم الوالدين (5:15).

يحاولون إصلاح أنفسهم بأنفسهم في غباوة (22:16).

سريعو الخصام (3:20).

لا يمكن عزلهم عن غباوتهم (22:27).

مُعدون للسقوط (8:10،10)، ويموتون بسبب فقدان الحكمة (21:10).

6. يربط هذا السفر بين الحكمة والمخافة الربّانية والبرّ العملي وأيضًا بين الجهالة والانغماس في الملذات.

7. السفر في جوهره لا يُقدم حكمة بشرية، لكنه لا يتجاهل الخبرات البشرية المقدسة في الرب والخبرات البشرية الشريرة. إنه يعطي الفرصة للمؤمن كي يتشبه بالله ويصير موضع سروره.

8. يحوي سفر الأمثال العديد من المفاضلات (المقارنات): حياة الإنسان في مجملها هي اتخاذ قرارات حاسمة بين مفاضلات تواجهه، خلال هذه القرارات تتشكل كل جوانب حياته، وتتخذ لها مسارًا تدفع به إلى طريق النجاح والمجد الأبدي أو الدمار الشامل. وقد قدم لنا هذا السفر العديد من هذه المقارنات أو المفاضلات، نذكر منها:

أ. الحكمة أفضل من الغنى (13:3،14).

ب. مخافة الرب أفضل من الكنوز (16:15).

ج. وجبة طعام بسيطة مع حب أفضل من وليمة عظيمة معها كراهية (17:15).

د. التصاق الإنسان بالمتواضعين أفضل من الشركة في وليمة مع متكبرين (19:16).

هـ. مالك روحه خيرٌ ممن يأخذ مدينة (32:16).

و. الفقر مع الأمانة أفضل من الغنى مع الالتواء (1:19-2؛ 1:22؛ 6:28).

ز. الانتهار الواضح أفضل من الحب الذي لا يُعبر عنه (5:27).

9. يهتم السفر بالمرأة ودورها، خاصة في حياة الأسرة بكونها عماد المجتمع: "اسمع وصية أمك..."

قدم لنا في الأصحاح الأخير المرأة الفاضلة كنموذج حيّ لكل إنسان يود أن يعيش بالروح.

الأمثال والعهد الجديد

اقتبس كتَّاب العهد الجديد من سفر الأمثال وأشاروا إليه أكثر من عشرين مرة.

تُدعى رسالة يعقوب "أمثال العهد الجديد"، إذ تهتم بسلوك المؤمنين.

نظرة السفر إلى السيد المسيح

في هذا السفر تظهر الحكمة كشخص، في محبتها للبشر تنزل إلى الشوارع وأبواب المدينة وتصعد إلى المرتفعات لتدعو الجميع إلى الوليمة التي أعدتها لهم، حتى ينعموا بالحياة المطوّبة وينجحوا في طرقهم ويسعدون.

علاقة السيد المسيح بسفر الأمثال هي أعمق بكثير من أن تظهر على السطح. تكمن قوة هذا السفر وجماله في المعنى الحقيقي لكلمة "الحكمة". واضح أن هذه الكلمة أعظم من أي ثناء مهما بلغ قدره، فما ذكره سفر الأمثال عن الحكمة إنما هو إشارة إلى شخص السيد المسيح نفسه بكونه حكمة الله (كو30:1). لقد حدثنا الأمثال عن الحكمة المتجسد (أم8)، حيث أن كل كنوز الحكمة والمعرفة هي في المسيح يسوع (كو3:2). حينما تقرأ سفر الأمثال ضـع السيد "المسيح" بدلاً من كلمة "الحكمة"، فتجد قوة عجيبة في هذا السفر. تراه الصديق الألصق من الأخ (24:18).

والإنسان الحكيم كما جاء في الأمثال هو الإنسان البار، وليس أحد بارًا إلا الذي يلتحف ببرّ المسيح. فالإنسان الحكيم حقيقة هو ذاك الذي يتمتع بالميلاد الجديد والحياة المقامة في المسيح.

الحكمة كما جاءت في هذا السفر تطابق في سماتها سمات كلمة الله وعمله كما جاء في إنجيل القديس يوحنا:

 توجد الحكمة قبل الخليقة (أم22:8-26؛ يو1:1).

 تفرح الحكمة دائمًا أمام الله (أم30:8؛ يو1:1).

 لذة الحكمة في بني البشر (أم31:8، يو14:1).

 تسكن الحكمة مع التعقل، وتوجِد الفهم (أم12:8-14؛ يو14:1).

 تملأنا الحكمة بالكنوز (أم21:8؛ يو16:1).

يتكرر نفس الأمر بالنسبة لكتابات الحكيم القديس بولس الرسول.

 توجد الحكمة قبل الخليقة (22:8-26؛ كو17:1).

 الحكمة هي البكر (22:8، كو15:1).

 الحكمة هي البدء والرأس (أم22:8، كو1:18).

 الحكمة هي الخالق (أم22:8-30؛ كو16:1).

 تهبنا الحكمة كنوزًا أبدية (12:8-14؛ كو16:1).

السيد المسيح هو نفسه الحكمة والمعلم

V      يظهر الكلمة كمعلمٍ، هذا الذي به خُلقت المسكونة! الكلمة الذي من البدء وهبنا الحياة عندما شكَّلنا كخالق، يعلمنا الحياة الصالحة كمعلمٍ لنا، وبكونه الله يمدنا بالحياة الأبدية.الآن يعطف علينا لأجل إصلاحنا ليس لأول مرة، فقد عطف علينا قي القديم، منذ البدء، لكن الآن إذ هلكنا يظهر ويخلصنا.

القديس إكليمنضس السكندري

الحكمة في العهد القديم

لدى أغلب الثقافات في العالم مخازن تُجمع فيها الحكمة، سواء خلال التراث الأدبي أو التقليد الشفوي فمًا لفم. يقول روبرت لي: "لاشك، الشرق هو بيت الأمثال الأصلي. تقريبًا كل الأمثال في أوربا يمكن ردها إلى الشرق، كما يقول رجالنا[18]".

عندما تبنت ابنة فرعون موسى تعلم حكمة المصريين (أع22:7). ازدهرت حكمة إسرائيل مع ظهور سليمان الحكيم (1مل9:3-12). لقد صار الشخص الضال في العالم في أيامه، وفي نفس الوقت كانت حكمته أعجوبة زمانه.

اتسمت حكمة سليمان بالآتي:

1. اهتم سليمان بالطبيعة (1مل33:4)، حتى دَعي الإنسان لكي يتعلم من العالم المحيط به، بما فيه من حيوانات وحشرات. عليه أن يكتشف الطبيعة، ويتعلم منها، حتى من النملة (6:6).

2. كشف عن الكتاب المقدس كله بكونه الحكمة السماوية.

3. الله هو مصدر الحق.

4. يظهر سفر الأمثال بكل وضوح أنه يليق بالمؤمن ألا يتوقف عن البحث عن طلب المعرفة والحكمة (16:16).

5. الحكمة معلنة في يسوع المسيح. لقد أعلن أنه هو الحق (يو6:14). لكي تعرف الحق ينبغي أن تتحرر (يو32:8)، وفي المسيح ننعم بالحق والحرية الداخلية.

6. تصير الحكمة بين أيدينا إن تمتعنا ببرّ الله.

7. لا توجـد ثنائية في حياة المؤمن: حياة روحية وأخرى علمية، بل هي حياة واحدة في المسيح الذي هو الحق والحياة.

8. وإن كنا نتعاون مع المجتمع غير المؤمن، لكننا ندرك أننا لا نرى الأمور بنفس الطريقة التي يرى بها غير المؤمنين (قارن أم4 مع رو35:8-39).

9. عمل الأمثال أن يشعر المؤمن بالتزامه وبالمسئولية للعمل في عالم غريب.

سفر الأمثال بين سفري الجامعة ونشيد الأناشيد

1. ترمز الأسفار الثلاثة: "الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد" إلى الحياة مع الله. ففي سفر الأمثال يقتني المؤمن الحكمة ويسلك فيها، فيرتفع قلبه بالحب نحو صديقه الأبدي، وفي الجامعة يكتشف الإنسان أن العالم لا يساوي شيئًا، إذ يدرك تفاهة الأمور الزمنية، وأما في سفر نشيد الأناشيد فيدخل في شركة الحب الحيّة مع الله.

2. يرى بعض الآباء أن سفر الأمثال يمثل التفسير الحرفي للكتاب المقدس، وسفر الجامعة التفسير الأخلاقي، وأما سفر نشيد الأناشيد فيمثل التفسير الرمزي أو الروحي.

بين سفر الأمثال وسفر المزامير[19]

1. نرى في سفر المزامير المؤمن راكعًا على ركبتيه ليتحدث مع الله ويناجيه، طالبًا منه نعمته، أما في سفر الأمثال فنراه سائرًا على قدميه في الطريق الملوكي، يمارس هذه النعمة الإلهية.

2. سفر المزامير هو سفر العبادة الإلهية لمعرفة إرادة الله، أما سفر الأمثال فهو السفر الذي يوجِّه أنشطتنا وأخلاقياتنا عمليًا لنسلك حسب إرادة الله.

3. التقوى في سفر الأمثال حياة عملية، لهذا يتضمن سفر الأمثال كل العلاقات، مثل التزامنا نحو الله ونحو أقربائنا والوالدين والأبناء، ومسئولياتنا نحو الوطن. أما سفر المزامير فيجد فيه المؤمن الطريق ليسأل الله فيهبه قوة لتنفيذ ذلك.

سفر الأمثال وبيت الله

يشبِّه اليهود سفر الأمثال بالدار الخارجية في الهيكل، والجامعة بالقدس، ونشيد الأناشيد بقدس الأقداس.

لنذكر أن مذبح المحرقة والمرحضة موجودان في الدار الخارجية. فإن أتينا إلى سفر الأمثال يمكننا كمؤمنين أن نغتسل ونتطهر، عندئذ نجد المذبح حيث يمكننا تقديم ذبائح الحب  لله.

يحملنا سفر الأمثال إلى حيث يوجد الشعب. هنا نمارس حياتنا اليومية، ويلتقي كل منا بالآخر في طرق الحياة السريعة. إنه سفر التعليم اليومي، يُعالج شئون الحياة العملية[20].

سفر الأمثال والحياة النسكية

يشير القديس يوحنا كاسيان في كتابه "المناظرات" إلى الثلاثة أسفار لسليمان الحكيم كرمز إلى درجات الحياة النسكية:

أ. يشير سفر الأمثال إلى الدرجة الأولى من الحياة النسكية، حيث يترك الإنسان أرضه من أجل الله.

ب. ويشير سفر الجامعة إلى الدرجة الثانية من الحياة النسكية حيث يترك الإنسان شعبه، أي عاداته التي تعلمها من مجتمعه.

ج. ويشير نشيد الأناشيد إلى الدرجة الثالثة من الحياة النسكية حيث يترك الإنسان بيت أبيه ويقبل محبة الله، ويمارس بنوته له.

واضع السفر

ذكرت أسماء كثيرة في سفر الأمثال بخصوص واضعي السفر:

1. سليمان: منذ قديم الزمن، منذ أيام سليمان تسلم اليهود سفر الأمثال بكونه من وضعه بإعلان الروح القدس، وبالتالي فهو أحد أسفار الكتاب المقدس.

لا يوجد نزاع يُذكر بخصوص واضع السفر أو قانونيته، سواء بين اليهود أو المسيحيين. يرى البعض أن سليمان جمع بعض هذه الأمثال من الذين سبقوه، سواء كانوا عبرانيين أو من الأمم. هذا لا يسبب مشكلة، فإن الكتاب المقدس لا يحتقر عطية الله حتى لغير المؤمنين. فما جمعه سليمان هو بإرشاد روح الله ليحتضن ما هو حق وإلهي، حتى وإن نطق به أناس من الأمم. لم يُسجل سليمان كل ما جمعه، لكن بإعلان إلهي اختار ما يتفق مع الفكر الإلهي، وأودعه بين أيدي المؤمنين.

لقد جُمعت أمثال متناثرة عبر تاريخ إسرائيل، ربما تم ذلك بواسطة داود نفسه أو كلف آخرين بهذا العمل، ليُقدمها لابنه سليمان لتثقيفه.

2. تنسب بعض الأمثال إلى الحكماء (17:22-34:24). نجد في 1مل31:4 إشارة إلى مثل هذه الطبقـة من الناس. فإن كان الحكماء المذكورين في أم17:22 عاشوا في وقت سابق لسليمان، فيمكن أن يكون هو نفسه قد جمع كتاباتهم وأضاف إليها من عنده. أما عن طبقة الحكماء ففي أيام العهد القديم كان يحكم إسرائيل القضاة ثم بعد ذلك الملوك. وكان يخدمهم الكهنة والأنبياء والمؤرخون والمسبِّحون والحكماء أو الفلاسفة. فداود الملك كان ملكًا ونبيًا ومسبِحًا. وابنه سليمان كان ملكَا وحكيمًا أو فيلسوفًا. وكان "الحكيم" اليهودي غالبًا من الشيوخ، يرتبط بإحدى مدارس الحكمة، ويُشارك اخوته في الخبرة العملية نحو النظر إلى الحياة والعالم.

3. بعض الأمثال نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا، وهي تتضمن الأصحاحات 25-29. كتبها سليمان وبعد حوالي 200 عامًا نشرتها جماعة عيَّنها الملك حزقيا (حوالي 700 ق.م)، يظن البعض أن هذه الجماعة تُدعى "رجال حزقيا" (1:25)، ربما ضمت إشعياء وميخا اللذين كانا معاصرين للملك.

4. أجور (1:30)، ربما كان من بين الحكماء.

5. لموئيل (1:31): تسلم الملك هذه الأمثال من أمه، سواء كانت هي الواضعة لها أو مجرد مرددة لها، هذا ما لا نعرفه. يرى البعض أن كاتب هذا الأصحاح هو سليمان الملك، إذ لا يوجد ملك يُدعى "لموئيل". وقد أعطى الله لسليمان اسمًا جديدًا وهو "يديديَّا"، معناه "محبوب الرب" (2صم25:12)، أما لموئيل فيعني "المكرس للرب"، وغالبًا كان هذا هو الاسم الذي كانت تلقبه به أمه منذ ولادته. يخجل كثير من الرجال، خاصة أصحاب المراكز العُليا، من ذكر الاسم الذي كانت والدتهم تلقبهم به في طفولتهم. لكن سليمان يعتز بهذا الاسم، لأن والدته الحكيمة اختارت له اسمًا يذَكِّره بدوره في الحياة كلما ناداه أحد وهو بعد طفل.

لعلَّها كلما نادت ابنها بهذا الاسم كانت ترفع قلبها لله كي يُقدسه ويُكرسه له، فيكون بحق كأبيه داود الذي شهد له الله أن قلبه يحمل صورة قلب الله.

يرى آخرون أنه لا يقصد بلموئيل سليمان، لأن الوالدة هنا تقول: "من هو ابن رحمي؟ ومن هو ابن نذري؟" [2] مما يوحي أن الكاتب كان بكرًا لدى أمه التي نذرته للرب. وفي رأيهم أن هذا لا ينطبق على بثشبع والدة سليمان، فإنه لم يكن ابنها البكر ولا ابن نذرها. لقد مات ابن الزنا الذي ولدته من داود، ولم نسمع أنها نذرت للرب من تنجبه بعد ذلك.

أما كلمة "مسَّا " فربما تُعني موضعًا معينًا. يرى البعض أنها تُعني "تعليمًا" وهو موضوع الإعلان أو الوحي الإلهي.

سليمان الحكيم

كان سليمان فيلسوفًا، رجل علم له قدرته العلمية، ومهندسًا قام بإنشاء الهيكل، كما كان ملكًا. وهو أول واضع لسفر في الكتاب المقدس يُذكر اسمه على رأس السفر.

يرى البعض أنه إن أخذنا في الاعتبار أن سليمان جلس على العرش سنة 970ق.م فيكون قد ملك من 440 إلى 400 عامًا قبل كورش ملك فارس. وفي أيام كورش ظهر السبعة رجال الحكماء الفلاسفة اليونانيين مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو. ولما كان سليمان قد عاش عدة قرون قبل ظهور كل هؤلاء الكُتَّاب غير الموحى إليهم، فواضح أن سليمان لم يقتبس شيئًا منهم، ولا اقتنى شيئًا من العالم الوثني الأممي.

إن كان سليمان قد بنى الهيكل إلا أنه لم يكن أحد الكهنة الحافظين للناموس أو للعبادة، ولم يكن واحدًا من الأنبياء، لكنه كان مهتمًا بإعلان إرادة الله، مفسرًا الأحداث المعاصرة له ومتنبئًا عن مجيء المسيا. كان اهتمام الكهنة والأنبياء دينيًا، أما اهتمام سليمان فهو التمتع بالحكمة والكرازة بها، فكان ضمن جماعة الحكماء، مؤمنًا بأن الحكمة تسند المؤمن ليحيا إنسانًا ملتزمًا، وناجحًا، وعاملاً في المجتمع بكل أبعاده، وسعيدًا، ومتدينًا.

لم يكن يوجد أحد من الأنبياء قادرًا على كتابة سفر الأمثال مثله، فقد كانت شهوة قلبه وطلبته الوحيدة لدى الله أن يتمتع بالحكمة. وكان يشتهي أن يتمتع كل المؤمنين، بل كل البشر، بالحكمة السماوية. ومما ساعده على كتابة هذا السفر أنه حمل خبرات كثيرة منها:

بلغ أوج الغنى والعظمة والكرامة مع السلطة.

ترك لنفسه العنان للشهوات الجسدية إلى حين، فصارت له خبرة مرة في الخطية والشر.

زواج سليمان بالأجنبيات الوثنيات

عاش سليمان الحكيم فترة ضياع خطيرة في حياته بعد زواجه بالأجنبيات الوثنيات، لكنه إذ رجع إلى إلهه حوّلت نعمة الله هذه الخبرة إلى بنيانه وبنيان الآخرين، إذ قدم لنا خلاصة خبرته بالكشف عن حقيقة الجري وراء الملذات الجسدية. هكذا حوّل الله أخطاء سليمان إلى بركة، مستخدمًا سليمان نفسه ليُسجل لنا بإعلان الروح القدس الأسفار المقدسة، خاصة الجامعة والأمثال ونشيد الأناشيد. هذا هو صلاح الله الذي يُخرج من الضعف قوة، ويحول الأحداث المرة إلى أحداث للبنيان.

قبل الناموس قدّس الله مشاعر يوسف المضُطهَد من اخوته ليرى أن كل ما قد مرّ بحياته، حتى حين قصد له اخوته شرًا، قد صار لخيره وخير عائلته (تك4:45-9).

وفي ظل الناموس حوّل الله خبرة سليمان الشريرة للكشف أن خارج دائرة الله الكل باطل وقبض الريح.

وفي أرض السبي أدرك مردخاي أن الله أقام إستير ملكة لأجل خلاص شعبه (إس13:4-14).

وفي عهد النعمة أوضح الرسول بولس لفليمون أن هروب عبده أنسيمس بعد أن سرقه هو للخير، فقد صار فيما بعد له أخًا نافعًا له كما لبولس، وصار ابن قُيود بولس وأحشاءه ونظيره!

أهم مواضيع سفر الأمثال

1. الغضب: 17:14،29؛ 18:15؛ 32:16، 11:19.

2. العفة.

3. البشاشة.

4. الاهتمام بالفقراء.

5. تهذيب الأبناء: كثير من الأمثال موجهة نحو الشباب كحكمة من الآباء إلى أبنائهم (8:1؛ 1:2،11،21؛ 1:4). هذا يعكس طبيعة الثقافة العبرية، حيث يتوقع الأبنـاء أن يرثوا قيادة أسرهم ودولتهم. بمعنى آخر، توجه هذه الأمثال إلى الجيل الجديد، لا للتضييق عليهم، بل لمساعدتهم أن يصيروا قادة صالحين (24:13؛ 18:19؛ 6:22،15؛ 13:23،14). فيحذر هؤلاء الشباب لئلا يسقطوا في الفخاخ التالية:

 التجارب الخاصة بالجنس (15:5-20؛ 1:7-27).

 الغباوة (15:12-16).

 محبة المال (2:10؛ 11:13).

 الكلام البطّال (2:13-3؛ 1:15).

 السكر (4:31).

 الكبرياء (1:16-9).

6. ضمان القروض (1:6-5): يحذر سفر الأمثال من أن يضمن الإنسان آخر حتى إن كان صديقًا له، حيث يكون الخطر أحيانًا عظيمًا.

7. المشورة (6:24): يؤكد سفر الأمثال حاجة كل إنسانٍ يود أن يكرم الله في حياته إلى المشورة. إنه يقدم مبادئ أساسية تعين الإنسان في استخدامه المشورة بطريقة حكيمة.

8. مخافة الرب: 7:1؛ 7:3؛ 10:9؛ 27:10؛ 26:14،27؛ 16:15،33؛ 6:16؛ 23:19؛ 17:23؛ 21:24.

9. الأغبياء: 18:10،21،23؛ 15:12،16؛ 9:14،16؛ 2:15؛ 10:17،12،24؛ 3:20؛ 9:23؛ 22:27؛ 26:28؛ 11:29.

10. الصداقة: 17:17؛ 24:18؛ 4:19؛ 10:27،17. أحد المشاكل الخطيرة المتطورة في حياة المدن هو سرعة نمو الجماعات الخطيرة بين الشباب "عصابات عنيفة gang" . ويحذرنا سفر الأمثال من ضياع الإنسان خلال ارتباطه بالصداقة في مجموعة أشبه بعصابة gang (10:1،19).

11. السهر.

12. الأمانة.

13.البطالة والكسل (6:6،11؛ 4:10،5؛ 27:12؛ 4:13؛ 9:15؛ 9:18؛ 15:19،24؛ 4:20،13؛ 13:22؛ 30:24-34؛ 13:26-16).

14. العدالة.

15. الترفق بالأعداء.

16. المعرفة.

17. المادة: يهتم اليونانيون بنفس الإنسان، متطلعين إلى كل الأمور المادية كشرٍ. أما الكتاب المقدس فيُعلن عن صلاح خليقة الله المادية. الله لا يريدنا أن ننسحب من العالم، بل يشجعنا أن نكون بشرًا كما خلقهم الله.

18. الأمهات: يحث السفر الشباب مرارًا أن يخضعوا إلى تعليم أمهاتهم (8:1، 20:6؛ 1:10، 7:3).

19. الخضوع للموت.

20. البرّ.

21. الجهاد: 30:3؛ 12:10؛ 18:15؛ 28:16؛ 1:17،14،19؛ 6:18،19؛ 3:20؛ 10:22؛ 8:25؛ 33:30.

22. الغضب: 1:20؛ 17:21؛ 1:23-3؛ 29:23-35؛ 16:25؛ 4:31-7.

23: العشور: تكريم الله بكل ما نملك (9:3-10).

24. اللسان: 24:4؛ 11:10-32؛ 6:12،18،22؛ 3:13؛ 19:20؛ 23:21؛ 28:26؛ 32:30.

25. الثروة والغنى: 2:10،15؛ 4:11،28؛ 7:13،11؛ 6:15؛ 8:16؛ 11:18؛ 4:19؛ 24:27؛ 6:28،22.

26. الحكمة: للحكمة منافع عملية لكل أحد، حتى بالنسبة للذين لا يعرفون الله (25:30-28).

27. النساء: المرأة المذكورة في أم 31 هي مثال للنساء والرجال، في طريقة الحياة التي تهب شبعًا. إنها تعرض مثالاً حيًّا للعمل والحب يقوم على حكمة إلهية.

أقسامه

1. وصايا موجهة إلى الشباب1-9.

2. وصايا موجهة إلى الجميع10-20.

3. وصايا للقادة، خاصة الملوك والرؤساء21-30.

4. المرأة الفاضلة31.


 

من وحي سفر الأمثال

لأقتنيك يا حكمة الله،

فأنت شبعي يا شهوة نفسي!

V      عجيب أنت يا حكمة الله!

 من أجلي صرتَ إنسانًا لتحل بيننا كواحدٍ منّا!

 نزلتَ إلى شوارع قلبي،

 ودخلتَ إلى أزقة نفسي،

 تدعوني لأقتنيك،

 وأتمتع بمائدتك السماوية.

V      لغباوتي رفضت دعوتك،

 وانخدعت بدعوة الجهالة والنجاسة المعسولة.

 ظننت إني أتمتع بالحياة المملوءة بملذات الخطية،

 فانحدر كل كياني نحو الهاوية،

 وتحطمت نفسي ودُفنتُ في ظلمة القبر.

V      اجتذبني بروحك القدوس،

 فاستجيب لدعوتك الإلهية،

 أتعلم الطاعة لك،

 فأطيع الكنيسة عروسك ووالدي وكل مُشيريّ.

 هب لي أن أُشاركك في الطاعة،

 يا من أطعت حتى موت الصليب من أجلي.

V      اجتذبني إلى أورشليمك العُليا،

 فلا أنغمس في وحل الرجاسات.

 بل ارتفع بروحك الناري إلى سماتك،

 وانعم بحكمتك المخلِّصة المجيدة.

V      ماذا أطلب؟

 لأصرخ مع سليمان الحكيم :

 هب لي حكمتك، ففيها كل غايتي.

 تتقدس أحاسيسي ومشاعري وكل طاقاتي،

 تتقدس كلماتي وكل أعمالي الظاهرة.

V      بك يا حكمة الله أصير حكيمًا.

 أعرف كيف التقي بالله أبيك،

 وأتمتع بعمل روحك القدوس فيّ.

 أعرف كيف أتعامل مع والديّ وكل أفراد أسرتي.

 أكون حكيمًا في معاملاتي مع أصدقائي وزملائي ومع من يعاديني.

 أرى كل الخليقة جميلة،

 في قدسية أتطلع إلى كل جسد،

 وبكل وقار وحكمة استخدم كل طاقاتي.

V      نعم، لأقتنيك فتتغير كل مفاهيمي،

 وتتجدد كل أعماقي،

 وتنفتح أمامي أبواب الرجاء المفرح.

<<


القسم الأول

 

 

 

مشورات مقدمة للشباب

 

أمثال 1-9


 

يبدأ سفر الحكمة بأحاديث موجهة إلى الشباب، هؤلاء الذين يهتم بهم الله إذ عبروا من مرحلة الطفولة البسيطة وصاروا على أبواب الالتزام بمسئولية الحياة، لذلك يدعوهم الله لكي تمتزج حياتهم العملية بخبرتهم الحيّة مع خالقهم ومخلصهم. قيل: "أذكر خالقك في أيام شبابك". وفي هذا السن أيضًا يوجه عدو الخير ضرباته لكي يفسد أحاسيسهم النامية وعواطفهم المقدسة، بل ويحطم نظرتهم إلى الحياة الأبدية.

1. يكشف هذا السفر عن شوق الله إلى الشباب، فبينما تظهر الغباوة أو الجهالة أو الخطية كسيدة مزينة تُغوي بجمالها الظاهري وكلماتها المعسولة الشاب لكي تحتضنه فتهوى به إلى الجحيم، إذا بالله يرسل حكمته، كلمة الله الحيّ، ليُقدم ذاته هبة إلهية مجّانية للشاب. في حديث رمزي تظهر حكمة الله في شكل سيدة تدعو الشاب لكي يقتنيها فيقتني الفهم والمعرفة والتمييز مع الحياة الأبدية، ويدخل إلى وليمتها السماوية.

في هذا القسم تظهر الحكمة كسيدةٍ، وذلك لأن كلمة "حكمة" في العبرية اسم مؤنث. ترتبط النفس المقدسة بالحكمة، لذا يوصينا الحكيم: "قل للحكمة أنتِ أختي، وادع الفهم ذا قرابة" (4:7).

تظهر الحكمة كسيدة تدعو المؤمن للاقتراب منها لتقدسه، وتظهر الجهالة كزانية تدعو البشرية إليها لهلاكهم. 

2. يُقدم هذا القسم مقابلات بين الحكمة والجهالة، وهي في الواقع مقابلة بين الصلاح والشر. يُقدم الصلاح بكونه الحكمة والأدب والفهم والعدل والحكم والاستقامة والمعرفة والتمييز والعلم والمشورات، لكن علي وجه الخصوص "الحكمة"، التي وردت 17مرة في هذا القسم من سفر الأمثال.

3. إن كانت عبارة "رأس الحكمة مخافة الرب" (7:1) هي مفتاح هذا القسم بل مفتاح السفر كله، فقد وردت حرفيًا في مز10:111، وجاء اصحاح 28 من سفر أيوب في صلبه يحمل نفس المعني:

"أما الحكمة فأين توجد؟! وأين مكان الفهم؟!

لا يعرف الإنسان قيمتها، ولا توجد في أرض الأحياء.

الغمر يقول ليست فيَّ، والبحر يقول ليست عندي.

لا يُعطي ذهب خالص بدلها، ولا تُوزن فضة ثمنًا لها.

لا تُوزن بذهب أوفير أو بالجزع الكريم أو الياقوت الأزرق

الله يفهم طريقها، وهو عالم بمكانها.

لأنه هو ينظر إلى أقاصي الأرض، تحت كل السماوات يري

ليجعل للريح وزنًا ويعاير المياه بمقياس،

لما جعل للمطر فريضة ومذهبًا للصواعق.

حينئذ رآها وأخبر بها، وأيضًا بحث عنها.

وقال للإنسان: هوذا مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي20:28-28).

رأس الحكمة مخافة الرب، وأما رأس الجهالة فهو اعتداد الشاب بذاته وعدم خضوعه بالطاعة للمشورة المقدسة في الرب. الموضوع الرئيسي لهذا القسم هو هذه المقابلة بين مخافة الرب وجنون الإرادة الذاتية التي تحتقر الحكمة الإلهية والتأديب حيث يظن الشخص في هذا تحطيمًا لإرادته وإهانة لشخصيته.

 يُعلن الكاتب بوضوح أن الله يطلب المخافة الربانية ليُقدس إرادة الإنسان، فيسلك حسبما خلقه الله، كائنًا محبوبًا لديه صاحب سلطان، يسلك بتدبير ونظام في علاقته بالله وبوالديه ومرشديه وكل ما حوله، حتى علاقته مع نفسه في داخله. لقد ركَّز على الطاعة للوالدين بكونها صورة حيّة لخضوع النفس لله نفسه، وتمتعها بأُبوة الله الذي يحتضنها بحبه.

4. عالج هذا القسم الجانب الإيجابي الخاص ببركات التمتع بالحكمة الإلهية، والدخول إليها من باب مخافة الرب والطاعة للوالدين، كما عالج الجانب السلبي الخاص بخطيتين كثيرًا ما ينزلق فيهما الشاب، وهما: العنف والفساد.

فالإنسان الذي يفقد مخافة الرب يظن أنه يؤكد قوة شخصيته واستقلاليته باستخدامه للعنف وانغماسه في الشهوات الجسدية، ويرتبط الاثنان معًا. هذا ما شاهدناه في وقت الطوفان، إذ قيل أن الأرض قد فسدت أمام الله وامتلأت عُنفًا. وهذا أيضًا ما نلاحظه في العصر الحديث حيث تتزايد نسبة الجرائم في العالم جنبًا إلى جنب مع الانحلال الأخلاقي، وذلك تحت ستار الحرية الفردية، وأن الانحلال لا يضر أحدًا.

حقًا إننا في حاجة إلى سفر الأمثال كمرشدٍ إلهي يسندنا في إصلاح أعماقنا الداخلية ومفاهيمنا.

<<


الأصحاح الأول

نداء الحكمة

يرى الملك سليمان أن أهم ما يجب أن نعرفه هو أنه يلزمنا أن نهاب الرب الذي يطلب أن يُقيم عهدًا مع الناس، نهابه كأبناء له. لذلك كثيرًا ما يربط سفر الأمثال بين الحكمة أو المعرفة الروحية ومخافة الرب؛ كل معرفة صادقة تنبع عن مخافة الرب، ومخافة الرب هي كمال المعرفة ومركزها.

في هذا الأصحاح أيضًا يُشار إلى العنف بكونه عصيانًا على الالتزامات التي تطلبها منا إرادة الله. لذلك تصرخ الحكمة بصوتٍ عالٍ لكي يُسمع صوتها، مُعلنة دينونة من يحتقر سبلها[21].

إنه السيد المسيح الذي يبسط يديه للخطاة ويدعوهم إلى خلاصهم ومجدهم، لكنهم إذ يُصرّون على رفضه يدينون أنفسهم، لأنهم رفضوا حكمة الله. إنه يدعو نفسه الحكمة. وهو مركز كل إعلانٍ إلهيٍ، هو حكمة الله التي بها ينطق الآب السماوي متحدثًا مع الناس.

1. العنوان 1.

2. غرض الحكمة 2-7.

3. تحذير من الارتباط بالجماعات المُخرِّبة gangs 8-19.

4. نداء الحكمة 20-30.

1. العنوان

"أمثال سليمان بن داود ملك إسرائيل" [1].

ظهر اسم سليمان في ثلاثة أجزاء من هذا السفر (1:1؛ 1:10؛ 1:25). وقد تطلع المفسرون القدامى إلى السفر كله أنه من وضع سليمان الحكيم. ورد في 1مل32:4 "تكلم بثلاثة آلاف مثلٍ، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا"، ولا يزال بعض الدارسين يأخذون بهذا.

  كلمة "مثل" كما سبق فرأينا تعني في العبرية "يحكم" أو "يدير" الأمر، ويري البعض أنها تعني "تقديم الشيء أو الشخص بما يشبهه". وكأنه السفر الذي فيه يقدم سليمان الحكيم الحياة الإيمانية كما يديرها الله فينا وبنا خلال الواقع العملي.

يذكر سليمان اسمه وانتسابه لوالده داود وصفته كملك إسرائيل، لكي يعلن شوقه أن نقتدي به فنصير أبناء سلام، ننتسب لابن داود الملك الحقيقي، ونصير به ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ8:1).

يُشير سليمان إلى نفسه في الآية 1 أنه الملك ابن داود. ونحن نتطلع إلى الحَكمة ذاته ابن داود، ملك الملوك، نقتنيه فنحمل الحكمة فينا.

V      إنه ابن حكيم لأب حكيم، لهذا أضاف اسم "داود"، الذي ولد سليمان. لقد تعلم من الطفولة الكتب المقدسة، ونال سلطانه ليس بالقرعة ولا بالعنف، ولكن بحكم الروح وبقرار إلهي[22].

القديس هيبوليتوس

2. غاية الحكمة

تخبرنا الآيات 2-6 لماذا كتب سليمان هذه الأمثال. وفي اختصار تسندنا هذه الأمثال لممارسة الحكمة عمليًا، فننعم بالنجاح الحقيقي والسعادة الدائمة. متى كان الشاب مهتمًا بحياته، يريد أن يسلك كما يليق، مُدركًا جهله الذاتي، مُشتاقًا إلى التعلم والتمتع بالمعرفة، عندئذ ينال المعرفة والفهم والتمييز.

اُستخدمت عشرة كلمات في الآيات 2-4 تبدو كأنها مترادفات. حتمًا توجد علاقة بينها، لكن تختلف هذه المرادفات الواحدة عن الأخرى، من بين هذه الكلمات:

أ. الحكمة chochmah: في الكتاب المقدس تعني "القدرة على استخدام المعرفة باستقامة". اُستخدمت في هذا السفر وحده 37 مرة، وهي كلمة لها أهميتها في الكتاب المقدس. ربما الحكمة تعني ليس فقط العلم الإلهي الذي به يمكننا اكتشاف نهاية حياة الإنسان الفُضلى وكيف يمكننا البلوغ إليها بطرق لائقة، وإنما تعني التعليم السماوي الذي به نكتشف أنفسنا كما نتعرف على الله، فتوجهنا الحكمة إلى كل الحق، وتُشكل التدين الحقيقي بكامله[23]. فالحكمة تدخل بنا إلى المعرفة الحقّة والعملية، إذ يوجد أُناس كثيرون موهوبون ذكاءً خارقًا ولهم معرفة، لكن تنقصهم الحكمة، فيُسيئون استخدام المعرفة.

 الحكمة هو موضوع مدرسة الله وغايتها. والحكمة في العهد القديم تُعني يسوع المسيح بالنسبة للمؤمن المعاصر. "ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمةً من الله وبرًا وقداسة وفداءً" (1كو30:1).

إذ تتعرف على السيد المسيح ترفض اللهو بالجهالة والفساد، وتصير حكيمًا. وإذ تقبل السيد المسيح في حياتك تدخل في خبرات جديدة في المعرفة وتحسب بالحق حكيمًا[24].

ب. أدب musar instruction: تظهر 26 مرة في سفر الأمثال. المعنى اللغوي يعني التعليم أو الإصلاح بالتأديب كما جاء في (أم24:13) "من يمنع عصاه يمقت ابنه، ومن أحبه يطلب له التأديب" (راجع أم11:3؛ 15:22).

التأديب هنا للتعليم وليس للعقوبة والانتقام[25] (أف14:4؛ 2بط6:1). فالله في حبه للإنسان الخاطي يسلمه لثمرة أعماله إلى حين لا لينتقم منه، إنما ليختبر ما تقدمه الخطية من مرارة وموت، فيرجع إلى نفسه ويعود إلى الله مخلصه الذي ينتشله من الخطية، بهذا تُصلح النفس. هذا ما يجب أن نفعله نحن أيضًا كآباء أو قادة، أن نحمل روح الحب والبذل حتى مع من نؤدبه، فإنه للأسف أحيانًا يُلقى المجرمون في السجن لتهذيبهم، بينما نُعاقب أولادنا بغضبٍ وعنفٍ. نؤدب المجرمين لإصلاحهم، بينما نعاقب أولادنا كأننا ننتقم منهم. هذا نوع من التشويش وعدم اتساع قلبنا للأجيال الجديدة.

ج. المعرفة: هي معلومة صادقة ونافعة. اُستخدم الفعل "يعرف" حوالي ألف مرة في العهد القديم.

يؤكد الكتاب المقدس أن الإيمان لا يُضاد المعرفة، إذ يقدم الإيمان للإنسان ككائن عاقل يحرص على التمتع بالمعرفة الحقة. ويقول القديس اكليمنضس السكندري: "هنا توجد الملاحظات التي تشكّل غنوصيتنا (معرفتنا): أولاً التأمل، بعد ذلك إتمام الوصايا، وأخيرًا قيام الصالحين بالتعليم. عندما تتحقق هذه الأمور في شخصٍ ما يصير غنوصيًا (ذا معرفة)[26]."

د. الفهم: المؤمن الذي يقبل السيد المسيح "الحكمة" في حياته، ويتجاوب مع التأديب ينال فهمًا لخِطّة الله في حياته.

V      الفهم هو عين النفس، لذلك فإن كلمة "إسرائيل" معناها: "الذي يرى الله، أي ذاك الذي يفهم الله[27][28].

القديس اكليمنضس السكندري

هـ. العدل: وهو البرّ، ويعني السلوك باستقامة.

و. الحكم (الحق): تعني أن نصدر أحكامًا أو نأخذ قرارات حكيمة بكوننا أبناء الله نتمم إرادته. في كل يوم يقف المؤمن في مفترق الطرق ليأخذ قرارًا أين يسير في حياته. هذا يحتاج إلى عونٍ إلهيٍ وحكمةٍ سماويةٍ.

ز. الاستقامة equity: وتعني التكامل الروحي. هنا يُشير إلى مبدأ أكثر منه سلوك.

أولاد الله لا يخضعون لأحكام، بل تُوهب لهم مبادئ ترشدهم في الطريق. وكما جاء في رو22:14: "طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه". فالمؤمن يحمل مشاعر قوية داخلية تقوده نحو الحق، وإن كان يُدرك أنه في مرات كثيرة يسير على قشر بيض[29]، فهو في حاجة إلى عون داخلي يقوده حتى لا يسقط.

ح. التدبير (التمييز): تعني التمييز بين الصالح والشرير، الثمين والتافه، النافع والضار. يلتحق المؤمنون بمدرسة الله لكي يصيروا أولاد الله الحكماء، والأبرار، والمكرمين.

"لمعرفة حكمة وأدب لإدراك أقوال الفهم" [2].

يبدأ بالمعرفة لتأكيد ارتباط الإيمان بالمعرفة؛ ثم يربط بين الحكمة والأدب، فإن كانت الحكمة هي مدرسة الله التي تترجم المعرفة الحقة إلى سلوكٍ مستقيمٍ (حكمة عملية)، فإنه لن يبلغ المؤمن ذلك بدون الانحناء لتأديبات الله التي تقَّوم النفس وتنمي الفهم. فالمؤمن يحتاج إلى تعليم وتدريب وتهذيب، بهذا ينال فهمًا صادقًا لخطة الله بالنسبة له.

V      أما عن الحكمة والأدب [2] قيل إن الحكمة هي علم كل الأمور البشرية والإلهية وعلاتها، لهذا من كان لاهوتيًا عاملاً يعرف الحكمة. "لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1كو6:2،7)[30].

القديس باسيليوس الكبير

"لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة" [3].

هنا يوضح العبارة السابقة مؤكدًا أن غاية الحكمة هي قبول التأديب بفرح لنوال المعرفة المشبعة للقلب والفكر، والبرّ الذي هو السلوك بروح الاستقامة، واقتناء الحق والاستقامة.

هكذا يكشف الحكيم عن العلاقة الحية بين المعلم الإلهي والتلميذ المؤمن. فإن غاية المعلم ليس مجرد اقتناء سلوكٍ نبيلٍ، وإنما تمتع بالمعرفة والبرّ الإلهي والحق السماوي في حياة متكاملة مستقيمة تمس كيان المؤمن كله: قلبه وفكره وإرادته وأحاسيسه وكل تصرفاته الخفية والظاهرة. هي تمتع التلميذ بأيقونة معلمه الإلهي، الحكمة ذاته!

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن هذه العطايا الإلهية من معرفة وعدل وحق واستقامة تحول النفس إلى بستانٍ مملوءٍ ثمرًا روحيًا ، أو إلى عروسٍ تحمل جمال عريسها.

V      يا لبهجة هذا البستان الذي ثماره تمثل جمال العريس!

إنه هو النور الحقيقي، والحياة الحقيقية، والبرّ الحقيقي وما إلى ذلك كقول الحكمة.

عندما يصير للشخص هذه الصفات بأعمال صالحة، ينظر إلى عنقود (الفضائل الذي) لضميره، ويرى العريس هناك يعكس نور الحق بحياته الطاهرة[31].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"لتعطي الجهال ذكاء، والشاب معرفة وتدبيرًا" [4].

جاءت كلمة "تدبير" في العبرية في الجمع "تدابير"، وهي تستخدم بالنسبة لربان السفينة الذي يمسك بيده دفّة السفينة يحركها ويوجهها كما يشاء. هكذا بالحكمة يصير المؤمن قائدًا لأفكاره ومدبرًا لحياته الداخلية، يقود سفينة حياته بروح الله القدوس في الطريق الملوكي.

وتستخدم الكلمة أيضًا بالنسبة لرعاية الغنم، حيث يرعى الإنسان كل طاقاته وإمكانياته كقطيع غنم يسمع إليه.

يرى آدم كلارك أن كلمة "الجهال simple" تُستخدم في أكثر من معنى. فهي تعني البسطاء، هؤلاء الذين يسلكون بوضوح وانفتاح، والذين يُظهرون في الخارج ما هم عليه في الداخل. هنا البساطة تحمل معنى البراءة وعدم الخبث، وعدم أذية الغير. لكن إذ صار قلة قليلة جدًا من الناس يحملون هذه السمة أُسيء استخدام الكلمة، فتحولت إلى مفهوم الغباوة وعدم الحكمة وعدم الخبرة. هنا تُستخدم الكلمة بالمعنى الأخير[32].

"يسمع الحكيم فيزداد علمًا، والفهيم يكتسب تدبيرًا" [5].

كُتبت هذه الأمثال ليس فقط للشباب وإنما أيضًا للحكماء، إذ يليق بهم أن ينموا في الحكمة بكونهم مستعدّين للتعليم. يليق بهم أن يكونوا راغبين في الاستماع وغير مكتفين بأنفسهم. فإنهم حتى في إرشادهم للغير يلزمهم أن يسمعوا ويتعلموا. وكما يقول القديس أمبروسيوس تحتاج البشرية كلها أن تتعلم، الله وحده يُعلِّم ولا يحتاج أن يتعلَّم.

الإنسان في اتضاع ينحني ليُنصت إلى صوت الحكمة، شاعرًا بالحاجة إلى النمو الدائم في المعرفة. بهذا يقول مع القديس بولس الرسول: "يتكلم بحكمة بين الكاملين" (1كو6:2). وكما يقول السيد المسيح أن الذي له يُعطى فيزداد، فالحكيم باشتياقه للتعلم يزداد حكمة، والجاهل برفضه التعلم يزداد جهلاً وغباوةً.

"لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم" [6].

إن كانت الحكمة تنادي على المرتفعات وتنزل إلى الأسواق لتُقدم دعوة الخلاص المجانية في بساطة لكل إنسانٍ، فإنها تحتفظ ببعض الأسرار المخفية، تقدمها هدية للجادين في البحث عنها وطلبها من الله.

الله لا يبعثر اللآلئ على الأرض، والجواهر الثمينة يخفيها عن أعين البشر لكي يطلبوها فيجدوها. الذهب واللآلئ وكل ما هو ثمين يُبحث عنه في المناجم وأعماق الأرض، والبترول يُستخرج من الأعماق. هكذا يخفي الله أسراره لنُدرك أنها تستحق البحث عنها بالدراسة مع الصلاة. وكما يقول السيد المسيح: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكن حياة فيها[33]".

دعوة سفر الأمثال لنا اليوم: أحفر! ادرس بعمق لكي تُعلن لله اشتياقك الجاد في التمتع بعطية الحكمة والفهم، فيكشف لك أسرار كلمته".

ماذا يعني بالغوامض (chidoth) dark sayings؟ يعتقد البعض أنه يقصد بذلك الأمثال parables التي قدمها ربنا يسوع المسيح.

بعد أن استعرض غاية الحكمة، قدم لنا شعار السفر كله وهو:

"مخافة الرب رأس المعرفة، أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب" [7].

هذه الآية هي مفتاح السفر. وقد سبق أن أشرت إلى معنى "مخافة الرب".

توجد هنا مقابلة بين مخافة الرب التي تحث المؤمن على التعلم، والجهالة التي لا تريد التعلم من الحكمة بل ترفضها كما ترفض الأدب.

الأساس الأول الذي يجب أن يوضع لإقامة البناء الروحي هو مخافة الرب. أما ما يحطمه فهو جنون الاعتماد على الإرادة الذاتية وعدم الرغبة في التعلم مع العصيان ورفض كل مشورة وكل تأديب. فبجانب معرفة ما هو صالح وما هو شرير، الأمر الذي تحققه مخافة الرب يلزم الخضوع للنظام الذي وضعه الله بضبط الإرادة وتقديسها بالخضوع للوالدين والقادة الحقيقيين والمشيرين.

ما هي العلاقة بين مخافة الرب والحكمة الحقة؟

أما يوجد بين الملحدين أو على الأقل منكري الإيمان من بلغوا درجات عالية من المعرفة؟ إننا لا ننكر أن بعضًا من الذين يتجاهلون وجود الله، بل ويُجدفون على اسمه، ويحتقرون كلمته، لهم معرفة عالية بكثير من اللغات، أو لهم باع في المعرفة العلمية أو نالوا درجات علمية في الفلسفة أو السياسة أو التاريخ الخ. هذه المعرفة قد تكون نافعة وأحيانًا تضر إن دفعت الإنسان إلى الكبرياء والتشامخ حتى على الخالق نفسه. أما المخافة الحقة فتسند الإنسان في علاقته بالله وباخوته، بل وحتى بجسده ونفسه، كما تفتح أمامه أبواب الرجاء في السماويات، فيعيش بروح الفرح والتهليل، بهذا يُحسب الإنسان حكيمًا حقيقيًا.

V      إن كان القانون يجلب خوفًا، فإن معرفة القانون هي بدء الحكمة، فالإنسان لا يكون حكيمًا بدون القانون. فمن يحتقر القانون غير حكيم وبالتالي يحسب شريرًا[34].

القديس اكليمنضس السكندري

V      الشخص المتعجرف والغضوب يصير فريسة لأهوائه المتلاحقة بسبب فقدان الحكمة، لهذا يقول النبي: "ليست في جسدي صحة، جراحاتي فاحت وأنتنت بجهلي" (مز3:38،4)، مُظهرًا أن كل الخطايا تبدأ بالجهالة. هكذا الإنسان الفاضل الذي له مخافة الرب يفهم أكثر من غيره، وكما يقول الحكيم: "مخافة الرب بدء الحكمة" [7]. فإن كان من يخاف الرب ينال حكمة، والشرير ليس له هذه المخافة، لذا فهو محروم من الحكمة الحقيقية. وإذ يفقد ما يُدعى بالحكمة الحقة يصير أكثر جهالة من غيره. ومع هذا يُعجب الكثيرون بالأشرار ظانين أنهم قادرون أن يظلموا ويضروا الغير، ولم يعرفوا أن هؤلاء بالحق يجب أن نحسبهم أشقياء أكثر من كل البشر، هؤلاء الذين إذ يظنون أنهم يضرّون الغير يضربون بالسيف ذواتهم. هذا عمل غاية في الجهالة، أن يضرب إنسان نفسه وهو ولا يدري، ظانًا أن يؤذي الغير بينما هو يقتل نفسه[35].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      "مخافة الرب بدء الحكمة"، الشعور بالخطية يقود إلى التوبة، ويهب الله حنوه على التائبين.

القديس إيرينيؤس

V      يقول (الفلاسفة) أنه يلزم ألا يُخاف من الله، ففي نظرهم كل الأشياء حرة وبلا ضابط يحكمها.

لماذا لا يُخاف من الله إلا لأنه غير موجود؟

إن كان الله غير موجود فالحق أيضًا لا يوجد

لكن حيث يوجد الله توجد مخافة الله التي هي بدء الحكمة.

وحيث توجد مخافة الله تكون هناك الجدية، والاجتهاد المكرم المتزن، مع حرص بحذر، وارتباط معتبر (بالخدمة المقدسة)، وشركة معًا مملوءة أمانًا، تقدم خدمة صالحة، وخضوعًا (للسلطة)، وإنصاتًا تقويًا، وجريًا متضعًا، وكنيسة متحدة، ويكون الله في كل شيء[36].

العلامة ترتليان

يرى كثير من الآباء حاجة المؤمن، خاصة في بدء الطريق إلى المخافة الربانية، فهي قائد الجسد والنفس مع الفكر وكل الطاقات للسلوك في الطريق الملوكي، والعبور بالشخص إلى الحضرة الإلهية، والتمتع بالشركة الحية مع الله. لهذا يحذرنا القديس غريغوريوس النزينزي من البدء في حياتنا الروحية بالتأمل في الإلهيات دون الالتزام بالمخافة.

V      يليق بنا ألا نبدأ بالتأمل ونترك المخافة (لأن التأمل دون ضابط ربما يدفعنا نحو التهور)، لكن يلزمنا أن نتأسس ونتنقى ونصير بالخوف خفيفين، فنرتفع إلى الأعالي. فإنه حيث يوجد الخوف تُحفظ الوصايا، وحيث تُحفظ الوصايا تُوجد طهارة الجسد الذي هو السحابة التي تغطي النفس وتحجب عنها رؤية الشعاع الإلهي. وحيث تُوجد الطهارة تكون الاستنارة، وحيث تُوجد الاستنارة تُشبع رغبات المشتاقين إلى الأمور العظيمة، وإلى أعظم الأمور، أي الله الذي يفوق كل عظمة[37].

القديس غريغوريوس النزينزي

إن كان سفر المزامير قد دعي في العبرية "تهاليم" أي "التهليلات"، لأنه سفر النفس المتهللة بالرب حتى في وسط آلامها وأحزانها، لهذا كثيرًا ما يتكرر فيه تعبير "مخافة الرب". إذ يرتبط خوف الرب بالهتاف المفرح فيقول المرتل: "اعبدوا الرب بخوفٍ، واهتفوا برعدةٍ" (مز11:2). وفي المزمور 11:115 يُدعى المؤمنون الحقيقيون خائفي الرب: "يا خائفي الرب اتكلوا على الرب"؛ وقيل عن السيد المسيح نفسه كلمة الله المتجسد "ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب" (إش2:11،3). وكأن النبي يدعونا أن نشترك في هذه السمة باتحادنا بالكلمة، فنحمل روح مخافة الرب بلذة وفرح. 

"أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب" [7].

كلمة "الجهال" تعني الأشرار، أي الأشرار في قلوبهم وفي أفكارهم وفي طرقهم، هؤلاء الذين يعتمدون على إرادتهم الذاتية، وهم متحجرون لا يريدون أن يصغوا إلى أية نصيحة. وكما أن الحكيم يريد أن يتعلم بشغفٍ، فإن الجاهل أيضًا هو ذاك الذي لا يطيق أن يسمع إرشادًا يقوده نحو النجاح والسعادة الحقيقية.

3. تحذير من الارتباط بالجماعات المخربة  gangs

"اسمع يا ابني تأديب أبيك، ولا ترفض شريعة أمك" [8].

توجه الأصحاحات السبعة إلى: "ابني". هذا التعبير الذي اُستخدم حوالي 15 مرة. إذ نستمع في هذه الأصحاحات إلى ضربات قلب والدٍ يود لابنه أفضل حياة. إنه صوت الأب الروحي، كما هو صوت الوالدين، أي صوت الكنيسة وصوت كنيسة الأسرة.

يليق بنا أن ندرك أن العلاقة بين المعلم الحقيقي وتلميذه هي علاقة أبٍ بابنه. فالتعليم في الكنيسة الأولى هو عمل أسقفي، أو عمل أبوي. التعليم ليس مجرد تقديم لعقائدٍ وتعاليمٍ، بل هو تقديم خبرة حية للحياة الجديدة في المسيح يسوع، يختبرها التلاميذ مع آبائهم.

لقد دُعي إبراهيم واسحق ويعقوب "آباء" (بطاركة)، أو آباء إسرائيل (تك24:1 LXX، خر13:3؛ تث8:1؛ أع13:3؛ 2:7،12؛ رو12:4،16؛ 2بط4:3). وبحسب التقليد اليهودي كان اللقب الرسمي للكتبة هو "أب". وفي كنيسة العهد الجديد كان اليهود والوثنيون عند استشهاد القديس بوليكربوس أسقف سميرنا يصرخون: "هذا هو أب المسيحيين[38]". وعندما أشار البابا أثناسيوس الرسولي إلى القديسين ديونسيوس السكندري وديونسيوس الروماني وغيرهما استخدم كلمة "الآباء[39]".

كان التعليم والتلمذة لا ينفصلان عن بعضهما البعض. خلال الأبوة الصادقة كان الأساقفة والكهنة يتطلعون إلى التعليم ليس ثمرة لعقائد نظرية، بل هو ثمرة لمحبتهم الأبوية، حيث يرددون كلمات القديس بولس: "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" 1كو15:4[40].

V      عندما يتعلم شخص من فم آخر، يُقال عنه أنه ابن ذاك الذي يعلمه، ويُدعى الآخر والده[41].

القديس إيرينيؤس

V      الكلام هو ابن للنفس، لذلك ندعو الذين يعلموننا آباءنا[42].

القديس اكليمنضس السكندري

يشير هنا إلى الوالدين، وليس إلى الأب وحده. فقد قامت الأمهات والجدات بدورٍ رئيسي في كل عصرٍ حتى عصرنا الحاضر. كثير من عظماء الرجال تمتعوا بغنى البركات التي تعلموها من ركب أمهاتهم. من بين هؤلاء الأمهات والجدات العظيمات حنة وزوجة منوح وأم ليموئيل ولوئيس وافنيكي والأم دولاجي والقديسة رفقة والقديسة مونيكا.

ليس فقط يليق بالأبناء أن يُكرموا والديهم، وإنما يليق بالآباء أيضًا أن يُدركوا مسئوليتهم نحو تعليم أبنائهم وتدريبهم. يُفترض في الوالدين أن يكون لهما مخافة الرب، قادرين على تقديم أفضل نصيحة لأبنائهم، وأن يُقدما لهم مثالاً دقيقًا للحياة التقوية. فإن نصيحة الوالدين تكون باطلة إن كان سلوكهما غير مستقيمٍ.

عادة يُقدم الأب تعليمات ويوقع التأديبات لكنه غير موجود دائمًا في وسط الأسرة بسبب العمل، أما الأم فغالبًا ما تكون داخل الأبواب، لذلك فإن نظام الأسرة يرتبط بها، وهي التي تقدم لأبنائها الشريعة.

"لأنهما إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك" [9].

جاءت هذه العبارة في الترجمة السبعينية: "فتنال إكليل نعم لرأسك، وقلائد عنقك"(LXX)

الاحترام والطاعة البنوية يخلقان كرامة ومجدًا وجمالاً روحيًا في حياة الابن الحكيم. تهب الطاعة زينة النعمة لرأسه إكليلاً وتاجًا وقلائد ذهبية ولآلئ.

كان أولاد النبلاء والأشراف يضعون قلادة حول أعناقهم لتمييزهم عن بقية الشعب. وهنا يوجه سفر الأمثال أنظارنا إلى أن من يستمع إلى أبيه ويقبل تأديباته يصير نبيلاً من النبلاء.

V      يُصنع الإكليل أيضًا من مادة عجيبة من مراحم الله الحانية، إذ يقول المرتل": باركي يا نفسي الرب، الذي يتوجك بالمراحم والرأفات" (مز2:103،4).

ويُصنع أيضًا من المجد: "بالمجد والكرامة توجته" (مز6:8)؛ "بالبركة تكللنا بتُرسٍ" (مز12:5 LXX).

وأيضًا من النعمة: "تنال إكليل نعمة على رأسك" (أم9:1 LXX).

انظروا هذا التاج من بين أكاليل كثيرة يفوق غيره في النعمة[43].

القديس يوحنا الذهبي الفم

في سفر نشيد الأناشيد نرى العروس قد تزين عنقها بقلائد الطاعة والخدمة للآخرين فقيل عنها: "ما أجمل خديك بسموطٍ (كحمامة) وعنقك بقلائد" (نش9:1). عنق الإنسان بغير زينة غالًبا ما يشير إلى غلاظة الطبع البشري، أما إذا تزين بمواهب الروح القدس فيصير رمزًا للجمال الروحي والرقة في احتمال الآخرين... هذه هي القلائد الكنسية (الكردان أو العقد). فقد كان عنقنا يحمل عارًا وخزيًا بسبب عصياننا وكبريائنا ، أما الآن فيحمل نير المسيح، ويقبل طاعته، فصار يحمل الجمال الروحي الفائق[44].

V      "ما أجمل خديك كخدي حمامة، وعنقك بقلائد"  (نش9:1)...

لنفسر عنق العروس... أنها تشير إلى النفوس التي قبلت نير المسيح القائل: "احملوا نيري عليكم... لأن نيري حلو"(راجع مت29:11،30).

دٌعي"عنقا" من أجل طاعتها.

وقد صار عنقها جميلاً كما بقلائد، وبالحق هو هكذا.

فإن كان العصيان الذي للتعدي جعله قبلاً معيبًا، فإن طاعة الإيمان جعلته الآن جميلاً ورائعًا...

دُعي الخضوع والطاعة عنقًا، لأنه يُقال عن العنق أنه يقبل نير المسيح ويقدم طاعة الإيمان خزينة.

عنقها، أي طاعتها، هي المسيح. لأنه هو نفسه أولاً أطاع حتى الموت (في 8:2)، وكما بعصيان إنسانٍ واحدٍ، أي آدم، صار كثيرون خطاة، هكذا بطاعة واحدٍ، أي المسيح، يصير كثيرون أبرارًا (رو19:5).

هكذا فان زينة الكنيسة وقلادتها هي طاعة المسيح[45].

العلامة أوريجينوس

"يا ابني إن تملقك الخطاة فلا ترضَ" [10].

تشير الآيات 10-19 إلى أن الحياة مملوءة بالإغراءات. هنا نلاحظ جماعات (العصابات) الخاصة بالشباب في زوايا الطرق تدعو شابًا ليشترك معهم في سرقة مسلحة. فإن الأشرار متحمسون لخداع الآخرين حتى يسلكوا الطريق المدمر. يحب الخطاة الصحبة في الخطية، ولهم أسلوبهم المغري جدًا. لذلك يليق بالشباب أن يكونوا حذرين للغاية.

يقول: "لا ترضَ". إنهم لا يستطيعون أن يسببوا لك ضررًا ما لم ترتبط بهم بكامل إرادتك. فإن غاية الله السرمدية بالنسبة للإنسان أن يمارس حرية إرادته، أو بالأحرى الإرادة التي هي أساسًا حرة لا يمكن لقوةٍ ما أن تُلزمها بأمرٍ ما. فالشيطان نفسه لا يقدر أن يقود إنسانًا ما إلى الخطية ما لم يوافق الإنسان على ذلك. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يوذِ الإنسان نفسه.

"إن قالوا: هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبريء باطلاً" [11].

هذا هو أسلوب الأشرار في كل العصور، وهو دعوة الآخرين للاشتراك معهم في ممارستهم للشر ضد الأبرياء. يجدون لذتهم لا في اضطهاد الأتقياء فحسب، بل وفي اشراك الكثيرين معهم في هذا العنف.

ينطبق هذا القول على الشعب اليهودي الذي كرَّس كل طاقاته، خاصة على مستوى القيادات الدينية لقتل السيد المسيح البريء الذي بلا خطية وحده. لقد أرادوا قتله واغتنام ممتلكاته، أي الكنيسة، لا لكي يغتنوا بها، بل ليُحطموها.

V      لقد فهم (الحكيم) هذه الأمور عن شعب اليهود، وجريمتهم الخاصة بسفك دم المسيح، إذ ظنوا أن مواطنته هي على الأرض فقط[46].

القديس هيبوليتس

V      ما نقرأه في الأمثال عن الأشرار القائلين: "لنختفِ للبريء..." ليس بالأمر الغامض الذي لا يُفهم. فإنه لا يحتاج إلى جهد في تفسيره إذ ينطبق على المسيح وما يمتلكه، أي الكنيسة. حقًا جاء المثال الوارد في الإنجيل عن الكرَّامين الأشرار يُظهر أن ربنا يسوع المسيح نفسه قال ما يشبه ذلك: "هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت38:21)[47].

القديس أغسطينوس

V      اقبل نصيحتي يا صديقي وكن متباطئًا في صنع الشر ومسرعًا في خلاصك. فإن الاستعداد للشر والتباطؤ في عمل الخير كليهما متساويان في الرداءة.

إن دُعيت إلى التمرد لا تُسرع إلى ذلك.

وإن كان إلى الارتداد فأقفز هاربًا.

إن قال لك صحبة الأشرار: "هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبرئ باطلاً" [11]، لا تمل إليهم حتى بأذنيك.

بهذا تنال مكسبين عظيمين: يعرف الآخر خطيته، وتُسْلِم نفسك من صحبة الأشرار.

إن كان داود العظيم يقول لك: "هلم نفرح في الرب"، أو نبي آخر يقول: "هلم نصعد إلى جبل الرب"، أو الرب مخلصنا نفسه يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"، أو "قم، اذهب فتُشرق بالبهاء وتتلألأ أكثر من الثلج، وأكثر بياضًا من اللبن وتُضيء أكثر من الياقوت الأزرق"، ليتنا لا نُقاوم ولا نتأخر[48].

القديس غريغوريوس النزينزي

"لنبتلعهم أحياء كالهاوية،

وصحاحًا كالهابطين في الجب،

فنجد كل قنية فاخرة نملأ بيوتنا غنيمة" [12،13].

 إنهم "يسرعون كالموت، حيث تنشق الأرض وتبتلعهم فجأة".

يبدو أنه يشير هنا إلى دمار مدينة بأكملها، كأن الأشرار يقولون: "لنُهلِك الرجل والمرأة والطفل، وعندئذ نمد أيدينا ونحمل كل ممتلكاتهم فننال غنيمة عظيمة".

تشَّبه الجماعات المخربة نفسها بالأرض التي انشقت لتبتلع قورح وجماعته الذين قدموا نارًا غريبة (عد30:16، 33)، أو ما قيل بالمزمور: "ليبغتهم الموت، لينحدروا إلى الهاوية أحياء، لأن في مساكنهم في وسطهم شرورًا" (مز15:55). هكذا يبتلعون كل شخص يقبل مشورتهم مقدمين نارًا غريبة عن الله، فعوض نار الحب الإلهي يوقدون نار الشر والعنف.

لعله يشير هنا إلى الجماعات المخربة كقبور تنفتح علي الدوام لتبتلع النفوس الميتة بالشر دون أن تشبع! لهذا يليق بنا أن نصرخ مع المرتل: "إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي لئلا تسكت عني، فأشبه الهابطين في الجب" (مز1:28). "بين الأموات فراشي، مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا" (مز5:88). أنهم يريدون أن يكون نصيبه مع إبليس الذي قيل عنه: "وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصن أشنع، كلباس القتلى المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب كجثة مدوسة" (إش19:14).

إنهم لن يشيروا قط إلى النتائج السلبية لجرائمهم، بل بالأحرى يقدمون ما يبدو مكافآت ومزايا. هذا هو طريق الخطية المغري. يُبرز الشيطان ما يبدو حسنًا، ويترك الجانب المُظلم بقبحه مخفيًا، يُكتشف بعد فوات الأوان.

"تُلقى قرعتك وسطنا،

يكون لنا جميعًا كيس واحد" [14].

كيف يلقون قرعته وسطهم ليعرف نصيبه، وفي نفس الوقت لهم جميعًا كيس واحد؟ في بساطة يؤكدون له أمرين، الأول أنه سيكون كواحدٍ منهم، لا يظلمونه في شئ، إنما ينال نصيبه بالقرعة مثلهم. وفي نفس الوقت لن يُترك معتازًا إلى شيء حيث لهم كيس واحد، يأخذ كل منهم حسب احتياجه.

"يا ابني لا تسلك في الطرق معهم،

امنع رجلك عن مسلكهم" [15].

تشير هذه الآية إلى طريقين أو سبيلين، وهذا يذكرنا بطريقي الحياة كما جاء في مزمور 1، طريق الأبرار الذي يعرفه الرب ويحبه، وطريق الأشرار الذي يقود إلى الهاوية.

بعد وصفه لإغراءات الأشرار المستمرة، يقدم الحكيم لابنه مشورة صالحة وتحذيرًا معطيًا لذلك ثلاثة أسباب.

·        أما السبب الأول لتحذيره فهو:

"لأن أرجلهم تجري إلى الشر وتسرع إلى سفك الدم" [16].

كلماته هنا تحمل نغمة السرعة. فالفعلان "تجري وتسرع" يضربان ناقوس "الطوارئ". وقد استخدم إشعياء النبي في 7:59 نفس التعبيرين عند وصفه للأشرار: "أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم". وهكذا أيضًا القديس بولس في رو15:3 "أرجلهم سريعة إلى سفك الدم".

·        والسبب الثاني لتحذيره هو:

"لأنه باطلاً تُنصب الشبكة في عيني كل ذي جناحٍ" [17].

يستخدم سليمان الحكيم هذا المثل بمعنى خاص. فإن الأشرار يترصدون خفية لاصطياد الأبرياء. بهذا وحده يأملون في تحطيمهم والاستيلاء عليهم، لأنه إن عُرفت خططهم، سيتخذ الأبرياء حظرهم منهم. إذ باطلاً تُنشر الشباك أمام أعين الطيور التي يريد الإنسان أن يقتنصها.

·        والسبب الثالث لتحذيره هو:

"أما هم فيكمنون لدم أنفسهم، يختفون لأنفسهم" [18].

يحصد الأشرار ما يزرعونه. الكامنون يكمنون لأنفسهم حيث يسقطون في الفخ. ومن يهاجمون في أماكن مختفية إنما يهاجمون أنفسهم. الخطط الشريرة تنفجر وتحمل أخبارًا شريرة للمجرمين، أما الأخبار الصالحة فتُقدم لمن يقاوم هذه الأعمال.

"هكذا طرق كل مولعٍ بكسبٍ، يأخذ نفس مقتنيه" [19].

يحذرنا سليمان الحكيم من محاولة الاغتناء بواسطة العنف أو الخداع. فإن الطمع هو خطية كل ساعة.

V      إنك مسبي لأموالك وعبد لها، إنك مقيد بسلاسل الطمع ورباطاته، أنت الذي حلك المسيح مرة، صرت في قيود أشد. أنت تحتفظ بمالك، هذا الذي إذ تحفظه لا يحفظك[49].

الشهيد كبريانوس

في اختصار يقدم لنا الحكيم صورة للصَديق الشرير تتلخص في النقاط التالية:

1. متملق يغري صديقه [10]: يبدو من الخارج رقيقًا، لكنه في الداخل يقدم سمًا.

2. في داخله عنف: "لنكمن في الدم" [11].

3. يخطط [12].

4. طماع [13].

5. يقيم فخًا لنفسه وهو لا يدري.

4. نداء الحكمة

في أمثال20:1، 1:8؛ 3:9 تقدم الحكمة دعوة. وكأن كلاً من الحكمة والجهل يطلبان لهما أتباعًا، ولكن بصفة عامة نرى الحكمة تقدم نداءها علانية في الشوارع، وميادين المدينة ومداخلها، أما الجهل والميل إلى الشر فهما مخفيان وسرّيان. تقف الحكمة لتنادي بصوتٍ عالٍ في مناطق استراتيجية هامة حتى يسمع الكل صوتها.

"الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها" [20].

هنا تظهر الحكمة كشخصٍ، وصوتها يقف في مضادة لصوت الأشرار المخادعين، هؤلاء الذين سبق الإشارة إليهم في الآيات [10-19]. يُسمع هذا الصوت في كل موضع، في الأماكن العامة والخاصة، في الشوارع كما في الحجرة الخاصة.

"تدعو في رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب،

في المدينة تبدي كلامها، قائلة:

إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل والمستهزئون يُسرّون بالاستهزاء،

والحمقى يبغضون العلم" [21-22].

كثيرًا ما يشتكي الإنسان أن الله يتحدث إليه وهو في سمواته، لا يشعر بالضعف البشري ولا يلمس الحياة علي الأرض. لكننا هنا نجد حكمة الله تنزل إلى رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب حيث يمارس البشر علاقاتهم الاجتماعية. فعند مداخل أبواب المدينة اعتاد القادة أن يجتمعوا للقضاء (23:31؛ را 11:4؛ أي7:29)، وفي رؤوس الأسواق يجتمع التجار والشعب معًا للمعاملات التجارية. وكأن حكمة الله تلتقي بالبشر في واقع الحياة، في مجالس القضاء كما في الأسواق، لتقودهم إلى الحق العملي. حكمة الله المتجسد، يسوع المسيح ، نزل إلينا، وحلّ بيننا كواحدٍ منا.

إذ أظهر سليمان الحكيم مدى خطورة الاستماع إلى صوت إبليس، يُعلن هنا عن خطورة عدم الاستماع إلى نداءات المسيح بكونه حكمة الله.

يُشير سفر الحكمة إلى أربعة أنواع من الجهال، سبق لنا الحديث عنهم في المقدمة (ص 20،21) وها هنا يدعو السيد المسيح ثلاثة منهم:

1. البسطاء أو الجهال pethayim، هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا بدقة بين الحق والباطل، لأنهم فاقدون القدرة على التمييز. يمكن بسهولة خداعهم لأنهم سذج، ويسهل التأثير عليهم في الأمور الصالحة كما في الشريرة.

2. المستهزئون: أناس متكبرون وساخرون، يحولون كل شيء إلى هزل. يضحكون على الحكمة، ويستخفون بمشورتها. ليس في نظرهم شيء ما مقدسًا أو جادًا. عندما يحذرهم أحد مما يرتكبونه من شر يقولون: "هذا لن يحدث لنا".

3. الحمقى: يبغضون التعلم، ويحملون كراهية دفينة للتقوى. بإرادتهم يجهلون الحكمة، ويعيشون حسب هواهم. إنهم لا يبالون في أي شيء إن كان صالحًا أو شريرًا. كل ما يهمهم هو: "ماذا ينفعني في هذا الأمر؟"

4. المتمردون: يكرهون الحكمة حتى يمكن القول بأنهم غير مؤمنين وثائرون.

"ارجعوا عند توبيخي.

هأنذا أفيض لكم روحين،

أعلمكم كلماتي" [23].

عبارة "ارجعوا عند توبيخي" يُمكن فهمها بطريقتين.

الأولى ربما تعني: حيث أنكم لا تريدون أن تصغوا إلى دعوتي، ارجعوا الآن وأصغوا إلى توبيخي. إني أسكب روحي عليكم لتكتشفوا حكمي الذي يحل عليكم.

والمعنى الثاني هو: ارجعوا وتوبوا عند توبيخي. إني أسكب روحي عليكم ليعينكم في توبتكم.

"لأني دعوت فأبيتم،

ومددت يدي وليس من يبالي" [24].

"بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي" [25].

إنها لكارثة أن الله يريدنا أن نكون حكماء ونحن لا نريد. رفض الإنسان للحكمة الإلهية يجعل منه شخصًا عنيدًا، بل ويصير كما لو كان كائنًا غير عاقلٍ. في القديم رفض إسرائيل الله (إش4:1؛ 24:5)، وفي العهد الجديد رفضوا المخلص (مت37:23). إنه يبسط يديه على الدوام (إش 65:2).

"فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم،

أشمت عند مجيء خوفكم" [26].

"إذا جاء خوفكم كعاصفة،

وأتت بليتكم كالزوبعة، إذا جاءت عليكم شدة وضيق" [27].

تبدو أن هذه الكلمات وما تليها تخص أولئك الذين سبق وصفهم في العبارات 10-19، هؤلاء الذين يرفضون التراجع عن طرقهم الشريرة حتى يسقطوا في قبضة العدالة الإلهية.

لا يحمل الضحك هنا أثرًا للقسوة أو الانتقام، إنما هو لغة رمزية تكشف عن غباوة الإنسان الذي يسخر بالله القدير فيكون كحشرة تسخر بلهيب النار.

إنهم صاروا على أبواب الدخول في المعاناة من متطلبات الشريعة. يلزم أن يموتوا، لأن جرائمهم صارت ضدهم، والعدالة تتركهم بين يديْ آثامهم التي لا تعرف الرحمة. يصير خرابهم كعاصفةٍ، كهبوب ريحٍ مقاومٍ.

حقًا إن محبة المسيح والوعود الإلهية الممتزجة معًا مع توبيخاته يجب أن تكون موضع انشغال كل أحدٍ.

الآن يعيش الخطاة في الحياة السهلة، لكن كارثتهم قادمة. الآن الله مستعد أن يستمع إلى صلواتهم، لكنهم فيما بعد يصرخون باطلاً. هل لازلنا نحتقر الحكمة؟ لننصت باجتهاد ولنطع ربنا يسوع المسيح حتى ننعم بالسلام والثقة في الله، نتحرر من الشر في هذه الحياة وننعم بالمجد الأبدي.

"حينئذ يدعونني فلا استجيب،

يبكرون إليّ فلا يجدونني" [28].

V      كثيرون يدعونه لكن ليس في الحق[50].

القديس أغسطينوس

إن كان الله محب للخطاة، إنما لأجل توبتهم وتقديسهم ومجدهم برجوعهم إليه، لهذا فهو يرفض أن ينصت إلى الخطاة المُصرِين علي عدم التوبة، كما فعل مع إسرائيل (تث 45:1؛ إش 15:1). إنهم يبكرون إليه لا ليتمتعوا به، بل لنوال بركات زمنية دون التمتع به لذلك لن يجدوه، لأن من يجد الحكمة يجد الحياة والبركة (13:3؛ 17:8،35). برفضه صلواتهم يحثهم علي العودة إليه فيجدوا فيه قيامتهم من الموت ومجدهم الأبدي وفرحهم الدائم وشبعهم الداخلي.

"لأنهم أبغضوا العلم،

ولم يختاروا مخافة الرب" [29].

الحياة الحاضرة هي فترة اختبار، أما في الأبدية فتصير الحياة ثابتة دائمًا بلا تقلب، هناك يبقى المذنب مذنبًا على الدوام.

ليته لا يقسي أحد قلبه بسبب طول أناة الله، لأنه إن مات في خطاياه لن يكون بعد مع الله. وعندما تُغلق عليه النيران التي لا تنطفئ لن يطلب رحمة، إذ يرى بوضوح ويشعر أن رجاءه في الخلاص قد انقطع تمامًا.

"فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم،

ويشبعون من مؤامراتهم" [31].

لكل إنسانٍ أن يحدد خياراته في الحياة، لكنه لا يصير حُرًا في اختيار نتائج هذه الاختيارات، فما يزرعه إياه يحصد (غلا7:6؛ أم20:18،31:31؛ أش10:3). كثيرًا ما نسمع عن الله الذي ينتقم أو الذي يميت. أنه يتحدث معنا بلغتنا البشرية. لكن الله الكلي الحب وواهب الحياة لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا. الذي ينتقم أو يميت في الواقع هو خطايانا التي تجلب ثمرها. فعندما ينزع الله نعمته عنا يرفع مراحمه، وإذ نُصر علي عدم تجاوبنا معه نشرب من كأس أعمالنا.

"لأن ارتداد الحمقى يقتلهم،

وراحة (غنى) الجهال تبيدهم" [32].

صارت هذه الشهادة ضدهم، عندما صاروا في غناهم وفيما يظنوه أمانًا لهم إذا بهم يُسحبون بسهولة إلى ثمرة آثامهم ويفقدون حياتهم.

V      فإنه تحت رمز الأدوميين الذين سمحوا لأنفسهم أن ينهزموا بوفرة غناهم.

الذين يفرحون بنجاح هذا العالم يوبخون بالقول: "الذين جعلوا أرضي ميراثًا لهم بفرح كل القلب والفكر" (حز5:36). يُلاحظ في هذه الكلمات أنهم وُبخوا بعنف، ليس فقط لأنهم يفرحون، وإنما لأنهم يفرحون بكل القلب والفكر. لهذا يقول سليمان: "لأن ارتداد الحمقى يقتلهم، وغنى الجهال تبيدهم" [32]. ينصحنا بولس قائلاً: "الذين يشترون كأنهم لا يملكون، والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه" (1كو30:7،31)[51].

الأب غريغوريوس (الكبير)

"أما المستمع لي فيسكن آمنًا،

ويستريح من خوف الشر" [33].

من هبات الله الفائقة الأمان الداخلي، إذ نجد فيه حصنًا لأعماقنا، فنكون فيه كما في مساكن السلام. هذا ما سبق فوعد به: "ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة" (إش18:32)، أما سّر الطمأنينة فهو فيض خيراته الروحية علينا مع تحريرنا من سبى الخطية: "وتعطي شجرة الحقل ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها، ويكونون آمنين في أرضهم، ويعلمون إني أنا الرب عند تكسيرى رُبُط نيرهم، وإذا أنقذتهم من يد الذين استعبدوهم" (خر27:34).

من يستمع إلى صوت الحكمة، مفضلاً إياه عن إغراءات الأشرار يسكن آمنًا، أي يصير في أمانٍ تامٍ، ويستريح من خوف الشر، متمتعًا بغنى برّ المسيح وحمايته له.

V      ما هو صالح بالحقيقة يُرى أنه مبهج، وينتج ثمرًا شهيًا: هدوء النفس!

قيل: "أما المستمع إليّ فيسكن آمنًا، ويستريح من خوف الشر" [33]. "اتكل على الله من كل قلبك وكل فكرك على الله"[52].

القديس اكليمنضس السكندري

V      "لكننا نشتهي أن كل واحدٍ منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية... حيث دخل يسوع كسابقٍ لنا لأجلنا، صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد" (عب11:6-30). بنفس الطريقة بولس الرسول المملوء حكمة يقول: "أما المستمع لي فيسكن آمنًا واثقًا في رجاء"

بالنسبة للتعبير "يسكن" أُضيف بطريقة جميلة "واثقًا"، مظهرًا أن من ينال راحة يتمتع بالرجاء فيما قد ترجى، لذلك أضيف: "يستريح من خوف الشر[53]".

القديس اكليمنضس السكندري

  

 


 

من وحي الأمثال 1

هب لي ذاتك

يا أيها الحكمة الإلهي!

V      نفسي تشتاق أن أكون بالحق حكيمًا.

أنت هو مدرسة الحكمة،

أنت هو الحكمة الإلهي.

أعرفك فأحبك وأقتنيك وأحيا بك.

V      بك أتعرف على الحب الإلهي وسط تأديباتي!

أدرك اتساع القلب الإلهي،

وأجد لي فيه موضعًا.

تتحول أحزاني إلى مدرسة فلسفة،

تُقيم مني إنسانًا حكيمًا!

V      خلقتني كائنًا عاقلاً!

هب لي المعرفة، أقتنيها وأحيا بها.

هب لي المعرفة، فاتضع أمامك ولا أنتفخ!

هب لي المعرفة، فأدرك أسرارك الفائقة.

V      مع كل صباح أسمع عن اكتشافات جديدة.

الكل يفرح بالمعارف الجديدة.

ماذا عن معرفتنا للسمويات!

بنورك اكشف لي عن سمواتك،

فأنعم بإشراقات مجدك،

وأنال فهمًا فائقًا لا يُعبر عنه!

V      أدخلني إليك، فاختفي فيك.

أنت معلمي ومهذب نفسي.

أنت وحدك تحكم على أعماقي،

فلا أخشى من حكم الغير، مادمت داخلي!

V      هب لي روح التمييز والإفراز،

فأسلك في الطريق الملوكي،

ولا انحرف يمنة أو يُسرة.

بل أنطلق كملك نحو ملك الملوك!

V      هب لي الحكمة،

فأُوازن بين كل احتياجاتي.

أُعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

أعرف ماذا أُعطي لجسدي، وماذا لفكري،

وأيضًا ماذا لروحي!

أحيا في تكاملٍ وتوازنٍ دائم.

V      أبقى كل حياتي متعطش إليك،

بك أزداد حكمة وعلمًا وتدبيرًا.

بك أُدرك الغوامض والأسرار!

بك أنعم بالمخافة الربانية مانحة التهليل!

بك أهرب من كل إغراء بشري!

V      أرى الأشرار في جهلهم فتحزن نفسي.

بروح الطمع يظلمون الأبرياء ويفسدون الأرض!

بروح الشر يحفرون لأنفسهم فخاخًا تدخل بهم إلى الهاوية!

من ينقذني منهم إلا أنت يا أيها الحكمة الإلهي!

<<


الأصحاح الثاني

مكافاءات الحكمة

خُتم الأصحاح الأول بالكشف عن أن الحكمة تهب تابعيها مكافاءاتها، وجاءت الأصحاحات الثلاثة التالية [2-4] توضح هذه الحقيقة.

في هذا الأصحاح يقدم الله لمؤمنيه دعوة لكي يقبلوا وصاياه وحكمته لكي تدخل إلى أعماق النفس [1،10]. في اللحظات التي ترى النفس جراحات السيد المسيح وجنبه المطعون أبوابًا إلهية للدخول إلى أحشاء الكلمة الإلهي، يشتهي الكلمة أن يدخل إلى أحشائنا خلال أبواب القلب المفتوحة له. يُقدم الله الكلمة نفسه ملجأ لنا وقوة وحكمة لكي نختفي فيه، ونقدم نحن له قلوبنا لكي يختفي هو فينا!

يدخل حكمة الله المتجسد - السيد المسيح - إلى أعماقنا، فيُقيم مملكته فينا، ويملك كما على عرش القلب ليُحرك عواطفنا وأحاسيسنا وأفكارنا وكل أعضاء جسدنا فتعمل لحساب ملكوته، لبنيان نفوسنا وخلاص الكثيرين، لامتداد الكنيسة جسد المسيح.

وفي هذا الأصحاح يكشف لنا سليمان الحكيم أن الذين يبحثون عن الحكمة باجتهاد يجدونها، واعدًا تلاميذه بالمكاسب العظيمة التي ينالها من يتبعون الحكمة [1-9]. الطريق للتمتع بالحكمة الإلهية هو كلمة الله [1-2] مع الصلاة [3-4] والبحث عنها بغيرة متقدة [4]، فنتعرف على الإرادة الإلهية، ونُسر بها ونمارسها بنعمته الفائقة[54]. هذا هو طريق الحكمة.

جاءت الـ22 آية في هذا الأصحاح تطابق الـ22 حرفًا للهجائية العبرية[55].

1. الحث على طلب الحكمة    1-9.

2. مكاسب الحكمة     10-22.

أولاً: تهب لذة وسعادة لمن يسلكون بها [10،11].

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار الفاسدة [12-15].

ثالثًا: تحفظه من حبائل النساء الفاسدات [16-19].

رابعًا: تجعله في صحبة الأبرار، وفي طريق الصالحين [20].

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار [21-22].

1. الحث على طلب الحكمة

يتحدث سليمان الحكيم في هذه الفقرة [1-9] مع المؤمن كما مع ابنه الروحي، حيث يحثه على الإنصات إلى كلمة الله التي ينطق بها، ليُخبئها كنزًا في أعماقه، ويميل بأذنه إليها، ويفتح قلبه لها كي تستقر فيه. بهذا يتمتع بمخافة الرب وينال معرفة الله، ويتحصن بأسلحة الله الروحية، ويسلك الطريق الملوكي المستقيم.

"يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك..." [1].

يتحدث  "سليمان" كمعلمٍ مع تلميذه حاسبًا إياه ابنه، إذ يقدم له قلبه المملوء حبًا مع كلمة تعليم. ويقول القديس إكليمنضس السكندري: "كل شخص يتعلم، يخضع لمعلمه كابن[56]".

ليتنا قبل أن نقدم كلماتنا للغير، نقدم قلوبنا المملوءة حبًا لهم، والملتهبة بالشوق الحقيقي إلى خلاصهم ومجدهم.

يطلب الأب من ابنه أن يقبل كلامه وأن يخبئ وصاياه. هذا هو أول درس في مدرسة هذه الحياة، وهو قبول الابن وتجاوبه مع كلمات والديه. وكأنه يرد الحب الأبوي الصادق بالحب البنوي العملي. ليس فقط أن يتجاوب معه، بل ويخفيه في قلبه بكل عناية واهتمام بكونها أثمن الكنوز وأفضلها. يقف المؤمن الحيّ من وقت إلى آخر متطلعًا نحو كنزه الداخلي، متأملاً في الكنوز التي اقتناها، وقام بتخزينها، معجبًا بها كهبات إلهية عاملة في حياته اليومية.

ينصحنا سليمان الحكيم أن نخبئ وصايا الوالدين تلك التي بلا شك في تناغم تام مع وصايا الكتاب المقدس. نخبئها في قلوبنا، حتى متى أتممناها يصدر سلوكنا ممتزجًا بمشاعر القلب الداخلية، نتممها بكامل حريتنا بفرح شديد، وليس كمن يمارسها قسرًا كمن يتمم واجبًا يلتزم به. من يضع الوصية في قلبه، يتممها بقلبه ويرافقه قلبه أينما ذهب، فيجد مسرته في إرادة أبيه السماوي.

يخفي المؤمن في قلبه وصية الله، كنزه الثمين، أثمن ما في حياته، مركز الحب والحياة، وموضع الأمان، فلا يقدر العدو أن يسطو عليه ليغتصبها منه. نخبئ وصية الله، فلا تقدر خطية ما أن تختفي في القلب أو تتسلل إليه، إذ لا يمكن للظلمة أن تجد لها موضعًا حيث يوجد النور. ولعل الحكيم يطلب منا أن نخفي الوصية في قلبنا كي نتأملها وننشغل بها فتهضمها معدتنا الروحية. فكما أن الطعام الذي لا يُهضم لا يفيد الجسم بشيء هكذا من يسمع الوصية ولا يتأملها وينشغل بها لا تنتفع بها نفسه[57].

يقدم أنثيموس أسقف أورشليم ثلاثة أسباب لإخفاء كلام الله في القلب[58]:

[ا - إنه يخفي كلام الله في قلبه ذاك الذي يحذر من الخطأ؛ ليس فقط في العمل الظاهر وإنما أيضًا في الفكر الخفي. مثل هذا يجتنب ليس فقط الفسق وإنما انحراف شهوته وميلها الخفي...

ب - وأيضًا الذي يخفي في قلبه أسرار الإيمان ولا يبيح بها للكفار، عاملاً بقوله: "لا تطرحوا درركم أمام الخنازير".

ج - كذلك من يخفي أقوال الله في قلبه لئلا تخطفها طيور السماء، أعني بها الشياطين الساقطين من السماء، فلا تسلبها إياها بالشك أوالكبرياء أو بفكر شرير...]

V      من لا يقبل تعاليم الله سطحيًا وظاهريًا كما يخفيها في قلبه حتى يتقوَّم فكره وأيضًا نياته، فيصير خاليًا من الخطية أمام الله الذي يرى الخفيات، فإنه لا يرتكب فقط الزنا بل وكل شهوة شريرة. تطابق هذه الآية الكلمات: "يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك حتى تميل أذنك إلى الحكمة" (أم 1:2،2)[59].

القديس ديديموس الضرير

V      إن لم نخفِ أقوال الله في قلبنا مثلما نخفي جوهرة يأتي الشرير ويخطفها (مت19:13)[60].

القديس أثناسيوس الرسولي

V      طلب أولاً العون الإلهي لئلا تُخفى كلمات الله في قلبه بلا ثمر، حيث لا يتبعها أعمال البر. لهذا فإنه بعد قوله هذا أضاف: "مبارك أنت يارب، علمني برك" [12].

لأنني أخفيت كلماتك في قلبي لكي لا أخطئ إليك يا من أعطيتني الناموس، هبني أيضًا بركة نعمتك، حتى بعمل ما هو مستقيم أتعلم ما أوصيت به...[61]

القديس أغسطينوس

جيد للإنسان أن يدرس الكتاب المقدس مستعينًا ببعض المراجع الدراسية والتفاسير، لكن لا يوجد كتاب يمكن أن يحل محل كلمة الله. لذا يليق بالمؤمن أن تكون له جلسته الهادئة مع كلمة الله، طالبا من الله أن يتذوقها في أعماقه لكي يعيشها في حياته اليومية أينما وجد.

الاعتماد على الدراسات السابقة نافعة، خاصة كتابات الآباء في الكتاب المقدس ، إذ كانت حياتهم إنجيلاً عمليًا مفتوحًا، لكن إن لم يلتقِِ الإنسان مع الكلمة شخصيًا تصير هذه الدراسات جافة بلا ثمر روحي متجدد.

"حتى تميل أُذنك إلى الحكمة،

وتعطف قلبك على الفهم،

إن دعوت المعرفة،

ورفعت صوتك إلي الفهم" [2،3].

يحثنا الحكيم أن نكرس كل حواس الجسد وأعضائه مع النفس لكي نطلب أن نتعلم الحكمة والمعرفة والفهم. هذا ما نطلبه بكل طاقاتنا، ونصغي إليه، ونحمله إلى قلوبنا. نميل بآذاننا ونفتح قلوبنا ونصرخ بلساننا حتى تدخل حكمة الله إلى أعماقنا، إلى الذهن كما إلى القلب. تهبنا فهمًا، وتشبع قلوبنا.

لنصرخ إلى الله بألسنتنا كما بأصواتنا الداخلية، فإن الله يُسر بصرخات القلب، وهو وحده واهب الحكمة. لقد عبر الرسول بطرس عن شوق المؤمنين إلى الحكمة الإلهية، قائلاً: "كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به" (1بط2:3). حينما يرى الطفل أمه تعد زجاجة اللبن يتحرك بكل أعضاء جسمه، بلسانه وبيديه وقدميه ورأسه الخ.، ليعبر عن رغبته في الرضاعة. هكذا نحن كأبناء لله نعلن عن لهفتنا إلى لبن الكلمة صارخين إليه.

الصلاة  خاصة من أجل التمتع بالمعرفة الإلهية هي لغة شوق النفس نحو الله. إنها المترجم لاشتياق القلب. لهذا يميز القديس أغسطينوس بين من يقدم بصلاته صوتًا ومن يقدم ضجيجًا لا معنى له. فيقول إنه عندما نصلي بدون حب تكون صلواتنا ضجيجًا لا يُسر الله بها. وعلى العكس فإنه يُسر بالصلاة التي تحمل صوتًا له معنى، إذ تحمل معها حبًا. لهذا كثيرًا ما يستخدم المرتل تعبير "الصوت" عند حديثه عن الصلاة:

"بصوتي إلى الرب أصرخ" مز4:3.

"يا رب بالغداة تسمع صوتي" مز3:5.

"فسمع من هيكله صوتي" مز6:18.

"بصوتي أدعو فارحمني" مز7:27.

"اسمع يا الله صوتي" مز1:64.

"اصغي إلي صوت صلاتي" مز66:19.

V      من يقدر أن يشك في أن الصرخات التي ترتفع إلى الرب في صوت sound صلاة تكون باطلة إن نطقت بصوت الجسد لا بصوت القلب الثابت في الله؟!

أما إذا صدرت عن القلب فإنها تفلت من ملاحظة البشر إن كان بسبب الضعف الجسداني يكون الشخص صامتًا، لكنها لا تفلت من ملاحظة الله. لذلك عندما نصرخ إلى الرب بصوت الجسد - حيث تتطلب الظروف هكذا - أو بالصمت يلزمنا أن نصرخ من القلب[62].

V      يقول "صوت voice صلاتي" مز 7:140؛ أي حياة صلاتي، أو نفس soul صلاتي، وليس مجرد أصوات sounds كلماتي، إنما ما يهب الكلمات من حياة. لأن كل ضجيج آخر بلا حياة يمكن أن يُدعى أصواتًا sounds وليس كلمات.

الكلمات تخص من لهم نفوس، أي تخص الأحياء، ولكن كيف يصلى كثيرون لله وهم بلا فهم لائق بالله ولا أفكار مستقيمة نحوه؟ مثل هؤلاء ربما يكون لهم صوت sound الصلاة ولا يمكن أن يكون لهم الصوت المفهوم voice، لأن لا توجد حياة في صلواتهم[63].

V      لا يتم الصراخ لله بصوت جسدي، بل بالقلب. كثيرون شفاهم صامتة،  لكنهم يصرخون بالقلب، وكثيرون يقدمون ضجيجًا بشفاههم، أما قلوبهم فصارت عاجزة عن تقديم أي شيء. لذلك إن صرخت إلى الله، أصرخ إليه من الداخل حيث هناك يسمعك[64].

V      يتحدث الفم خلال وساطة الكلمات؛ ويتكلم القلب خلال وساطة رغباته. صلاتك هي رغبة قلبك[65].

V      الله لا يطلب الكلمات بل قلوبكم[66].

V      إننا بالقلب نسأل، بالقلب نطلب، ولصوت القلب ينفتح الباب[67].

V      من يصلي برغبة يسبح في قلبه حتى إن كان لسانه صامتًا. أما إذا صلى (الإنسان) بغير شوق فهو أبكم أمام الله حتى إن بلغ صوته آذان البشر[68].

القديس أغسطينوس

"إن طلبتها كالفضة،

وبحثت عنها كالكنوز" [4].

يُقارن البحث عن الحكمة بالبحث عن الفضة وغيرها من المعادن الثمينة في المناجم العميقة. فالحكمة مثل هذه الكنوز لا تُوجد مصادفة بواسطة عابر طريق، إنما يحتاج الأمر إلى مجهودات ضخمة واكتشاف وحفر. هكذا يليق بنا أن نبحث عن خلاص نفوسنا بغيرة متقدة كما يبحث محب المال عن الغنى. ونخجل من أنفسنا متى كان شوقنا للخلاص والتمتع بالحكمة كغنى حقيقي أقل من بحثنا عن غنى العالم. لنبحث عن الحكمة في اجتهاد غير منقطع النظير ورغبة متقدة وصبر عظيم.

يلاحظ أن كلمة "كنوز" هنا تعني امتلاك ما هو مخفي في الأرض وفي الكهوف، كما يُمكن أن تعني المعادن الثمينة والحجارة الكريمة التي توجد في المناجم. كيف نطلبها؟ بحفر المناجم حتى نبلغ إليها في باطن الأرض.

V      الله لا يريدنا أن نصغي إلى الكلمات والعبارات الواردة في الكتاب المقدس بإهمالٍ، بل باهتمامٍ شديدٍ. هذا ما دفع الطوباوي داود أن يضع العنوان "للفهم" في مواضع كثيرة لمزاميره. كما يقول: "افتح عن عينيّ، فأرى عجائب من شريعتك" (مز42:32، 18:119). ومن بعده جاء ابنه أيضًا يُظهر ضرورة أن نطلب الحكمة كالفضة، ونتاجر فيها كأثمن من الذهب (4:2؛ 14:3) [اقتبس أيضًا: "فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي" يو39:5]. عندما يحث الرب اليهود أن يفتشوا الكتب يحثنا بالأكثر أن نبحث. فإنه ما كان يقول هذا لو كان ممكنًا أن ندرك الكتب تمامًا فور قراءتها. لا يُفتش أحد ما هو واضح وبين يديه، بل يفتش عمَّا هو مخفي في ظلٍ، والذي يلزم أن نجده بالبحث. هكذا لكي يحثنا على البحث يدعوها "الكنز المخفي" (أم4:2؛ مت44:13). قيلت لنا هذه الكلمات لكي لا نطبق كلمات الكتاب بتراخٍ أو بغير اكتراثٍ، وإنما بدقةٍ عظيمةٍ. فإنه إن أصغى أحد لما يُقال في الكتب دون أن يبحث عن المعنى الروحي بل يقبل المعنى الحرفي، يظن أمورًا غير لائقة بالله، مثل أنه غضوب وثائر، وما هو أردأ من هذا[69].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"فحينئذ تفهم مخافة الرب وتجد معرفة الله،

لأن الرب يُعطي حكمة،

من فمه المعرفة والفهم.

يُذخر معونة للمستقيمين.

هو مجن للسالكين بالكمال" [5-7].

في سفر الأمثال يؤكد  سليمان الحكيم العلاقة الوثيقة بين الحكمة ومخافة الرب. فقد سبق فرأينا أن مخافة الرب هي بدء الحكمة، وفي نفس الوقت من يبلغ الفهم ويتمتع بالمعرفة والحكمة يُدرك مخافة الرب ويتلامس معها عمليًا. مخافة الرب ليست شعارًا لسفر الأمثال وحده، بل هي شعار الكتاب المقدس كله. يقول القديس أمبروسيوس أنه يمكن بناء بيت الحكمة فقط إن تأسس خوف الله بعمق في النفس.

البحث عن الحق يجب أن يرافقه دائمًا سيرة في الحق الذي نجده. بهذا يقدم الله لأتقيائه مفاهيم متجددة للحق، وخبرة حية متزايدة لقوة الحق.

V      أريد أن يكون لي خوف مناسب مؤسس على العقل والإدراك... فلا يكون لنا خوف دون إدراك، ولا إدراك دون خوف[70].

العلامة أوريجينوس

يرى سليمان الحكيم الحكمة صادرة كما من فم الله لتتجه نحو أًذنيّ المؤمن، وتنطلق إلي قلبه كما إلى فكره، وهناك تستقر حيث تُقدس إرادته وأحاسيسه ومشاعره، وبالتالي كلماته وتصرفاته.

الله هو ينبوع كل حكمة ومعرفة وفهم، والحكماء والفهماء الحقيقيون هم قنوات يفيض خلالها الله بالحكمة على كثيرين[71]. الحكمة الإلهية هي مجن لأُناس الله الذين يسلكون باستقامة، أو معين لهم لنوال النصرة. فإننا إذ نتمسك بالحكمة ونحفظها، تتمسك هي بنا وتحفظنا.

V      بالنسبة للذين يتبررون بالفلسفة، تقودهم المعرفة إلى التقوى كمُعين لهم[72].

القديس إكليمنضس السكندري

يعلق العلامة أوريجينوس على ما ورد في الترجمة السبعينية: "يجدون حاسة إلهية" للنص العبري: "تجد معرفة الله" [5]، موضحًا أنه كما يحمل الجسد حواسه الخاصة بالأمور الزمنية هكذا تتمتع نفس المؤمن بحواسٍ إلهيةٍ تخص الأمور السماوية.

V      لكي تتعلم من الكتابات المقدسة أنه توجد حاسة إلهية غير حواس الجسد، اقرأ فقط ما يقوله سليمان الحكيم: "ستجد حاسة إلهية" [5] [73].

V      لئلا يُظن أن قولنا بأنه لا تُعرف الأمور العقلية بالحواس قول غير سليم استخدم سليمان الحكيم مثلاً، إذ يقول: "ستجد أيضًا حاسة إلهية"، مظهرًا بهذا أن هذه الأمور العقلية لا يُبحث عنها بحاسة جسدية، بل بحاسة أخرى معينة يدعوها "إلهية". يليق بنا أن نتطلع خلال هذه الحاسة إلى كل كائن من الكائنات العاقلة التي نحسبها علوية. بهذه الحاسة تُفهم الكلمات التي ننطق بها، وبها توزن عباراتنا التي نكتبها. لأن الطبيعة الإلهية تعرف تلك الأفكار التي  تدور في داخلنا ونحن في صمت[74].

V      عرف (سليمان) أن في داخلنا نوعين من الحواس: حواس قابلة للموت، يمكن أن تفسد وهي بشرية، والأخرى خالدة وعاقلة، يدعوها "إلهية".

بهذه الحاسة الإلهية، ليست بحاسة العينين، بل حاسة القلب النقي، الذي هو العقل، يُرى الله للذين يستحقون ذلك. فإنه بالتأكيد تجد في كل الكتب المقدسة، القديمة والجديدة، تعبير "القلب" يتكرر عوض "العقل"، أي القوة العاقلة[75].

العلامة أوريجينوس

يعلق القديس أغسطينوس على العبارة "من فمه (وجهه) المعرفة والفهم" [6]، قائلاً:

V      الإيمان الحقيقي والتعليم الصادق يُعلنان أن كلا النعمتين هما من الله. يقول الكتاب المقدس: "من وجهه المعرفة والفهم"، وفي سفر آخر يقول: "المحبة هي من الله" (1يو7:4) [76].

V      "الرب يُعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم" [6]. منه ينالون الرغبة ذاتها نحو المعرفة، إذا ما تلاحمت (تزوجت) بالتقوى[77].

القديس أغسطينوس

"يذخر معونة للمستقيمين،

هو مجن للسالكين بالكمال.

لنصر مسالك الحق path of judgment

وحفظ طريق أتقيائه saints" [7،8].

الله نفسه يحفظ مسالك الحكم paths of judgment التي هي مسالك بره، لكي يسلك فيها مؤمنوه تحت رعايته وحمايته. وهو الذي يحفظ طريق قديسيه الذين يحفظون عهدهم معه. وكأن الله الذي يهب الحكمة والمعرفة والفهم يُعطي أيضًا نصرة لمؤمنيه ويقوم بحمايته إذ يسلكون طريقه.

"حينئذ تفهم العدل والحق والاستقامة،

كل سبيل صالح" [9].

بقوله "حينئذ" يوضح أن الله وهو واهب كل هذه العطايا، إذ نتجاوب مع عطاياه بروح المخافة يهبنا فهمًا أكثر لنُدرك شريعة عدله وحقه وبره. وكأنه تدخل الحكمة أعماقنا فتنير ذهننا لإدراك إرادة الله وأسرار عمله.

2. مكاسب الحكمة

إذ ننصت بخوف الرب ونطلب منه الحكمة والمعرفة والفهم ننعم بهذه العطايا في أعماقنا، هذه التي تقدم لنا المكاسب التالية:

أولا: لذة قلبية وسعادة داخلية مع شبع فكري

"إذا دخلت الحكمة قلبك ولذَّت المعرفة لنفسك" [10].

إذ نميل بآذاننا ونصرخ بأفواهنا إلى الله، تنفتح أبواب قلوبنا لتستقبل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية، فتصير وصايا الله ليست ثقلاً على النفس، ويصير نير المسيح هينًا وعذبًا للنفس. حكمة الله تهب النفس بهجة، إذ تجد في استقبالها للحكمة اتحادًا مع المسيح حكمة الله. هذا الاتحاد هو في ذاته مكافأة يتمتع بها المؤمن عربونًا للمكافأة السماوية. بالحكمة الإلهية يدرك المؤمن أن غاية حياته هي تمجيد الله والسرور به.

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار

"فالعقل (التمييز) يحفظك، والفهم ينصرك،

لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب،

التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة" [11-13].

يُعلمنا سفر الأمثال أن أُناس الله يجب أن يكونوا حذرين من شخصين خطيرين: الرجل الشرير، والمرأة الغريبة الفاسدة.

أ. الإنسان الشرير، وهو يعطي القفا لله لا الوجه، يسير في طريقه بإرادته الذاتية، مستقلاً عن الله، شاعرًا أنه ليس في حاجة إليه.

ب. المرأة الزانية، وهي تقلب الموازين، فتحول الحب إلى شهوات، والجسد خليقة الله الصالحة إلى أداة للذة مؤقتة، والقلب المتسع إلى الأنانية! إنها تلبس قناع الحب والعاطفة والبشاشة مع شفتين تقطران عسلاً... وتخفي في أعماقها سمًا قاتلاً للنفس وسيفًا ذي حدين. إنها صيادة ماهرة للنفوس الحمقاء التي تحمل صورة البساطة.

نرى في الإنسان الشرير استقلالاً عن الله، وفي الزانية نرى إفسادًا للحياة التقوية الدينية. وكما يكشف لنا سفر الرؤيا عن مملكة ضد المسيح في أواخر الدهور أنها ستحمل هاتين السمتين، لذا يدعوها "بابل العظيمة أم الزواني".

متى دخلت الحكمة إلى قلوبنا، وصارت موضوع لذتنا، لا ننخدع سريعًا، بل نصير حذرين، قادرين على تجنب الصحبة الشريرة وعدم مشاركتهم في سلوكهم الشرير. بمعنى آخر تقودنا الحكمة بعيدًا عن طريق الأشرار وتحفظنا من عالمهم وإغراءاتهم.

إذ تملك الحكمة على القلب وتسيطر على العقل تحفظهما ضد كل فسادٍ داخلي أو خارجي. تسحب عنا كل رغبة أو ميل نحو طريق الظلمة، إذ ندرك أن هذا الطريق غير مريح ولا آمن.

سبق فرأينا في الأصحاح الأول كيف يجد الأشرار لذتهم في ارتكابهم الخطية كما في إغراء الآخرين على ارتكابها. أما دور الحكمة فهو تقديس القلب والعقل والحواس، فتحفظ المؤمن من الشهوات الجسدية والإغراءات الزمنية، فيتجاوب الجسد والنفس معًا مع عمل روح الله القدوس.

إذ نحب الحكمة الإلهية ننعم بالعقل أو التمييز الذي يحفظ المؤمن بكليته، ويجعله قادرًا على أخذ قرارات حكيمة تنقذه من حبائل الأشرار. هكذا يتمتع المؤمن بحياة مصونة من كل جوانبها، هاربًا من الفساد الذي في العالم خلال الشهوة[78].

"الفرحين بفعل السوء،

المبتهجين بأكاذيب الشر.

الذين طرقهم معوَّجة،

وهم ملتوون في سبلهم" [14،15].

كما يفرح المؤمنون الحقيقيون بعطايا الله الحيّة، خاصة الحكمة والمعرفة والفهم، يفرح الأشرار بفعل السوء ويبتهجون بالكذب، لكن يوجد فرق بين فرح داخلي ينمو ويكمل في السماء، وآخر مؤقت ينقلب إلى مرارة وحزن.

بينما يُدعى طريق الرب مستقيمًا وآمنًا؛ إذا بطرق الأشرار معوَّجة تنحرف يمينًا ويسارًا عن الطريق المستقيم، مملوءة بالزوابع المحطمة للنفس.

ثالثًا: تحفظ المؤمن من حبائل النساء الفاسدات

"لإنقاذك من المرأة الأجنبية،

من الغريبة المتملقة بكلامها،

التاركة أليف (قائد) guide صباها،

والناسية عهد إلهها" [16،17].

يُقصد بالمرأة الأجنبية هنا "المرأة الزانية"، إذ أقام الله شريعة خاصة بالمرأة الإسرائيلية التي تُمارس الدعارة، فإنها تخرج بطريقة تلقائية خارج  إسرائيل. وكأن "المرأة الأجنبية" هنا يقصد بها المرأة التي جاءت من الأمم تُمارس الدعارة في وسط إسرائيل.

المرأة الزانية المتملقة hechelikah هي التي تقدم كلمات معسولة لطيفة. فالكلمة العبرية تعني لسانًا زلقًا ينطق بالكلمات كالزيت اللين. بينما الأشرار يُحاولون إغراء الغير بروح الطمع (11:1-19)، إذا بالزانيات يُحاولن إغرائهم بالشهوات الجسدية.

إن كانت الزانية رقيقة بكلماتها المعسولة، لكنها خائنة لمن أحبته وتزوجت به في صباها؛ تنسى عهدها معه كما تكسر عهدها مع الله إلهها. من طبعها الخيانة والغدر حتى في تعاملها مع أقرب من لها، بل ومع الله نفسه. لقد تعهدت أمام الله أن تتزوج رجلها، وأن تترك بيت أبيها، وتخضع بروح الأمانة لمن اختارته قائدًا لها في صباها الذي يحبها ويبذل ذاته لأجلها، وهي تخضع له في الرب.

هنا يربط سليمان الحكيم بين الحياة الزوجية والدخول في عهد مع الله، لأن الزواج أيضًا هو عهد يُقيمه الله نفسه بين الزوجين، ويكون شاهدًا وقاضيًا لهذا العهد المقدس. يقول القديس غريغوريوس النزينزي في اعتذاره لغيابه عن حضور حفل الزواج بين أولمبياس ونبروديوس: "بالرغم من مرضي أشارككم احتفالكم، إذ أربط أيدي العروسين معًا في يديْ الله[79]".

"لأن بيتها يسوخ (يميل) إلى الموت،

وسبلها إلى الأخيلة (الموتى)" [18].

إن كانت الحكمة كما الجهل قد رُمز إليهما بامرأتين، لكن من الواضح أن الحديث هنا ليس مجازيًا، إنما يقصد المرأة الزانية، والتحذير منها واضح وصريح، حيث تضم من تغريه إلى بيتها، أي إلى الموت الأبدي، وتسير به في طرق الموتى، فلا يشتم رائحة حياة. هذا ما يدفع المؤمن الحقيقي إلى الهروب من الزنا، متجنبًا المرأة الزانية مهما كلفه الأمر[80]. بينما يسير الإنسان معها إلى بيتها، إذا به ينحدر تدريجيًا نحو الموت الأبدي، يشاركها طريق الخطية المدمّر. واضح أن كلمة "الموت" هنا لا تُعني الموت الذي يخضع له الجميع بل المصير الأبدي[81].

"كل من دخل إليها لا يؤوب (يعود)،

ولا يبلغون سبل الحياة" [16].

يُسرع الزنا بالإنسان منحدرًا به إلى طريق الموت بلا رجعة. بمعنى أن من سقط في حبائل الزنا مع شخص ما يصعب بل ويستحيل الخلاص منه، ما لم تتدخل نعمة الله الفائقة لتسنده وتهبه روح التوبة الصادقة. لهذا ينصح كثير من الآباء من يسقط في خطية الزنا ألا يلتقي مع من سقط معه، ولا يذهب إلى الموضع الذي ارتكب فيه الخطية، معلنًا بهذا رغبته الأكيدة وتجاوبه مع روح الله القدوس واهب التوبة والغفران والتقديس.

رابعًا: تدخل به إلى طريق الصالحين

"حتى تسلك في طريق الصالحين،

وتحفظ سبل الصديقين" [20].

لا تقف عطايا الحكمة عند السلبيات كالحفظ من طرق الأشرار وإنقاذ المؤمن من النساء الفاسدات، لكنها تقدم ما هو إيجابي، وهو الدخول بالإنسان إلى طريق الصالحين. لأن المسيح "حكمة الله" يحمل مؤمنين ويدخل بهم إليه بكونه "الطريق". فيه يلتقي المؤمن مع رجال الله القديسين، ويدخل في صحبة الآباء والأنبياء والرسل وجميع القديسين، بل ويشارك السمائيين تسبيحهم وحبهم!

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار

"لأن المستقيمين يسكنون الأرض،

والكاملين يبقون فيها،

أما الأشرار فينقرضون من الأرض،

والغادرون يستأصلون منها" [21،22].    

في ظل الشريعة الموسوية نال الأبرار مكافأتهم، وهي أرض كنعان الآمنة. أما في العهد الجديد فقد صارت هذه الهبات رمزًا لهبات سماوية روحية. فالمؤمن وإن لم ينل أرضًا مادية كمكافأة لبره في المسيح يسوع، إلا أنه يرى كل الأرض وهي للرب ولمسيحه صارت له. يعيش عليها مختفيًا في المسيح ملك السماء والأرض، ليملك معه. يقول مع  الرسول بولس: "كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء". ويترنم مع داود النبي قائلاً: "كل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح... لأن الرب يعرف طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك" (مز3:1-6).

في رسالة القديس اكليمنضس الروماني إلى أهل كورنثوس يسألهم أن يعيشوا بالاستقامة، بروح الوحدة واللطف حتى يتمتعوا بهذا الوعد الإلهي، إذ يقول:

[يصيبنا ضرر ليس بالقليل، بل نصير في خطر عظيم، إن كنا في اندفاع نخضع لإغراءات الناس الذين يهدفون نحو إثارة نزاعات وفتن لكي يسحبوننا مما هو صالح.

لنكن لطفاء الواحد تجاه الآخر على مثال حِنوّ مراحم خالقنا ولطفه، إذ مكتوب "طيبوا القلب يسكنون الأرض، والكاملون يبقون فيها، أما العصاة فينقرضون عن وجهها[82]".]


 

من وحي الأمثال 2

لأقتنيك وأحملك في صدري

يا حكمة الله!

V      هب لي يا رب أن أدخل إلى أحشائك،

انطلق إليها خلال جراحاتك،

أتلامس مع أحشاء حبك الملتهبة من نحوي.

فأنعم بالحب الإلهي،

ويلتهب قلبي حبًا ولكل بشر!

V      هب لي أيضًا أن أفتح أبواب قلبي لك!

أنت كلمة الله وحكمته الفائق!

لتدخل ولتقم ملكوتك في أعماقي.

لتحطم عرش إبليس وكل قوته،

لتهدم مملكة الخطية القائمة في داخلي!

مملكتك يا كلي النور تبدد كل مملكة للظلمة!

لتدخل إلى أعماقي فأقتنيك.

أخفيك يا أيها الكنز السماوي!

أنت غناي ومجدي يا واهب كل البركات!

تهبني ذاتك حكمة وفهمًا ومعرفة.

أدرك أسرار حبك، وأتعرف على مجدك.

تشبع أعماقي بك، وتمتلئ معرفة ومجدًا!

كثيرون يكرسون كل طاقاتهم للبحث عن المعادن الثمينة،

يعرضون حياتهم للدمار من أجل الغنى.

هب لي أن أبحث عنك يا حكمة الله!

لأطلبك وأصرخ إلى الله أبيك،

أصرخ بفمي وكل كياني.

أنت هو كنز حياتي!

V      لست أسأل عن مكاسب اقتنائك!

فأنت هو لذة قلبي وسرّ سعادتي.

أنت تحوّل مرارة الحياة إلى عذوبة،

وطريق الصليب الضيق إلى أبواب السماء المفتوحة!

V      من ينقذني من خداعات الأشرار؟

من يحملني حتى لا أسقط في شباك الشريرات؟

من يدخل بي إلى طريق الأبرار؟

أنت هو الطريق الملوكي،

فيك أنعم بالصلاح مع السلام والأمان.

احملني فيك يا أيها الطريق الفريد!

V      في القديم دخلتَ بشعبك إلى أرض الموعد،

واستأصلت الأشرار واقتلعتهم منها.

احملني إلى كنعان السماوية،

ولتدخل بي إلى حضن أبيك.

هناك التقي معك بروحك القدوس.

أصير في صحبة آبائي إبراهيم واسحق ويعقوب،

مع سارة ورفقة وليئة وراحيل،

وأنعم بشركة أطفال بيت لحم الأبرار.

كما التقي بالأنبياء والرسل.

هناك أتعلم لغة السمائيين وأشاركهم تسابيحهم الخالدة!

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

طريق الحكمة العملي

في الأصحاح الثاني تحدث سليمان الملك على مكاسب الحكمة وبركاتها، وفي هذا الأصحاح يُحدثنا عن الطريق العملي للحكمة. وفي نفس الوقت يؤكد الحكيم أن الذين يُطيعون وصايا الله ويقبلون القيادة الإلهية بتعرفهم على الله والصلاة بإيمان يجدون صحة لنفوسهم، وممارسات صالحة للجسد، ونجاحًا صادقًا في كل جوانب الحياة.

في كل غنى العالم لا يوجد تذوق للسعادة الفائقة كتلك التي تُقتنى في المسيح يسوع، الذي فيه تُذخر كل كنوز الحكمة التي تُوجد في معرفة الله ومحبته.

في هذا الأصحاح يُقدم الحكيم الخطوط العريضة للسلوك في طريق الحكمة من جهة علاقتنا بالله والناس، خاصة مرشدينا والفقراء والمحتاجين والمحيطين بنا، وأيضًا نظرتنا للمادة كما للضيقات الخ.

1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس1-4.

2. الاتكال على الله يقوِّم سبل الإنسان5-6.

3. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد7-8.

4. العطاء يهب غنى9.

5. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة11- 12.

6. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد13-20.

7. المشورة طريق آمن21-26.

8. المحبة الأخوية واللطف27-30.

9. اللعنة والبركة31-35.

1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس

"يا ابني لا تنسى شريعتي،

بل ليحفظ قلبك وصاياي.

فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة" [1].

يبدأ سليمان الحكيم بالكشف عن الطاعة كطريق الحكمة. ولعل المتحدث هنا هو سليمان كأبٍ روحيٍ ومرشدٍ، أو المتحدث هو "الحكمة" أي "السيد المسيح". على أي الأحوال الطاعة هي مشاركة للسيد المسيح في طبيعته: "إذ أطاع حتى الموت موت الصليب" (في8:2). ونحن إذ نثبت فيه كأعضاء جسده نحمل روح الطاعة لله ولوصيته ولرجاله ولمن يقودنا في الرب، بل ونجد عذوبة في ممارسة الطاعة حتى لمن هم أصغر منا أو أقل منا في المعرفة ما دامت "في الرب”. لقد بكى القديس باخوميوس وناح زمانًا في توبةٍ لأنه لم يطع كلمات ابنه الروحي تادرس، إذ كان الأخير مسئولاً عن مخازن الملابس وطلب من أبيه أن يستبدل ثوبه الرث بثوبٍ جديدٍ، فرفض الأب... لكنه ندم على عدم طاعته لابنه!

في اختصار يدعو سليمان تلميذه بروح الأبوة الحانية، سائلاً إياه أن يتذكر شريعة أبيه الروحي، بل شريعة الرب التي ينطق بها أبوه. يرددها دائمًا في أعماقه وعلى لسانه حتى لا ينساها، ويُمارس ما يتذكره لكي تُحفظ بالأكثر داخل القلب. وكأنه يقول له: "لست أطلب فقط أن تتذكرها بفكرك، وتحفظها عن ظهر قلبك، لكن ما هو أهم أن تنقشها في قلبك وتمارسها. بهذا تدخل الوصية إلى القلب لا لكي يغلق عليها كجوهرة ثمينة يلزم إخفائها فحسب، وإنما لكي تملك عليه وتقوده في الطريق الملوكي، وتدخل به إلى حضن الله نفسه. هكذا يقتني القلب "حكمة الله"، السيد المسيح، واهب كل الكنوز والغنى، حاملاً شركة طبيعة الطاعة اللذيذة التي له.

في صلاة نصف الليل نردد ما يقوله داود النبي: "خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك" (مز11:119). كما نردد دومًا ما قيل عن الكاهن الشاب عزرا: "لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليُعلِّم إسرائيل فريضة وقضاءً" (عز10:7).

عندما نسمع: "فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة" [1]، لا نشتهي البقاء على وجه الأرض، وإن كان ذلك عطية إلهية صالحة، لكننا نطلب زيادة طول أيامنا المثمرة. كثيرون بقوا أحياء حتى بعد موتهم، وبقيت سيرتهم وصلواتهم وكلماتهم عاملة في حياة الناس، فهم وإن ماتوا لكنهم يعملون خلال نعمة الله التي قُدمت لهم.

يقول الحكيم: "سني حياة"، لأن البعض يعيشون "سني موت". ربما تطول أيام غربتهم على الأرض إلى عشرات السنوات، لكنها سنوات موت، لا تحمل حياة ولا حبًا، وجودهم على الأرض كعدم وجودهم...

أما عن السلامة فيطلب المؤمن "سلام" القلب الداخلي، حتى وإن أحاطت به النيران من كل جانب، فيمارس مع الثلاثة فتية تسبيحهم وهو في أتون النار.

بالطاعة في الرب، النابعة من القلب نسلك الطريق الملوكي، طريق الرحمة والحق.

"لا تدع الرحمة والحق يتركانك،

تقلدهما على عنقك" [3].

بقوله: "لا يتركانك" واضح أنه لا يتحدث عن مجرد سمتين، بل عن علاقة شخصية مع الرحمة والحق اللتين في الواقع هنا أقنوم الكلمة الإلهي الذي يود ألا يتركنا ولا نتركه. 

مسيحنا هو الطريق، نقتنيه فنحمل روح الحب والرحمة واللطف، هذا الروح الذي يسلك في الحق بلا انحراف يمينًا أو يسارًا. ففي حبنا نحمل الحق، وفي تمسكنا بالحق نمارس الحب. فالحب بدون الحق يتحول إلى ميوعة قاتلة للنفس كما للغير. والحق بلا حب يولد غضبًا يفسد العينين. الحب الصادق هو جانب آخر للحق، والحق الصادق هو الوجه الآخر للحب!

إذ نمارس الرحمة والحق تتحول الوصايا التي تبدو ثقيلة للغاية، وأحيانًا مستحيلة إلى قلادة ثمينة وجميلة تتزين بها عنق النفس بكونها أميرة سماوية، كما حدث مع يوسف في بيت فوطيفار (تك41:41) لذا يقول: "تقلدهما على عنقك" [3].

وصيتا الرحمة والحق تدخلان إلى الأعماق، وهناك تُنقشان على لوحيْ القلب، فلا تستطيع الأحداث أن تميل بالمؤمن إلى جانب أو آخر، بل يسلك باستقامة. لذا قيل: "اكتبهما على لوح قلبك" [3].

يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على القول: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك" [3]، قائلاً بأن علاقتنا بالله ووصاياه ليست علاقة مؤقتة لفترة قصيرة، إنما نتمسك بالرحمة والحق على الدوام بلا انقطاع ولا نتركهما قط فلا يتركانا، فإننا في حاجة إليهما على الدوام.

V   يليق بنا أن نسر الله ليس مرة واحدة، بل على الدوام. الذي يدخل في سباق إن جرى عشرة أشواط وتوقف عن الجريّ آخر مسافة يفقد كل ما فعله. ونحن إن بدأنا الأعمال الصالحة ثم تهاونّا، نفقد كل ما صنعناه، ونفسد كل شيء.

لتصغِ إلى النصيحة النافعة: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك" [3]. لا يقول افعل هذا مرة واحدة، أو مرتين أو ثلاث أو عشرة أو مائة مرة بل "لا تدعهما يتركانك"، مظهرًا أننا في حاجة إليهما، وليس هما في حاجة إلينا. إنه يُعلمنا أنه يجب أن نبذل كل الجهد لنحفظهما معنا[83].

V   لنطعهما الآن، ليس يومًا واحدًا، ولا ثلاثة أيام، بل يقول الحكيم: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك". لم يقل: "لمرة واحدة أو مرتين". وكما نعرف كان لدى العذارى زيت يبقى معهن إلى النهاية (مت3:25،8). هكذا نحن في حاجة إلى زيت كثير، فنكون كشجرة الزيتون الخضراء في بيت الرب (مز8:52)[84].

القديس يوحنا الذهبي الفم

تُوضع وصيتا الرحمة والحق حول العنق كي تكونا موضع نظرنا، لا نتجاهلهما قط، كما تُنقشان على لوح القلب كي تمتصا كل مشاعرنا وتملكا على أحاسيسنا؛ نشعر بهما بقلوبنا كما نراهما بعيوننا الداخلية.

أما ثمرة الطاعة التي تدخل بنا إلى هذا الطريق فهي: "تجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس" [4]. يُسر الله بنا ويهبنا فهمًا مقدسًا أكثر فأكثر، وإن قاومنا البعض لكن كثيرين يكرموننا ويطلبون مشورتنا.

هكذا يحثنا الحكيم لكي نجاهد في التصاقنا بالرحمة والحق بنعمة الله على الدوام حتى نبلغ الكمال. ففي حديث الطوباوي إكليمنضس عن البتولية تحدث عن ضرورة الجهاد المستمر بلا توقف لبلوغ الفضيلة الكاملة، ولا يقف البتوليون عند مظهر البتولية.

V   يليق بكل البتوليين من الجنسين من الذين بالحق عقدوا العزم لحفظ البتولية من أجل ملكوت السموات - كل واحدٍ منهم - أن يكون مؤهلاً لملكوت الله في كل شيء. فإنه ليس بالبلاغة ولا بالشهرة، أو بالمركز ، أو الأصل، أو الجمال أو القوة، ولا بطول الحياة نبلغ ملكوت السموات، إنما نناله بقوة الإيمان عندما يظهر الإنسان أعمال الإيمان. فمن كان بالحق بارًا أعماله تشهد لإيمانه، إنه بالحقيقة يؤمن، بإيمان عظيم، إيمان كامل، إيمان بالله، إيمان يشرق في أعمال صالحة، فيتمجد أب الكل في المسيح.

الآن الذين هم بالحقيقة بتوليون من أجل الله يخضعون للقائل: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك، تقلدهما على عنقك. فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس" [3،4][85].

القديس اكليمنضس الروماني

أخيرًا بقوله: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك" يدعونا أن نكون في رفقتهما الدائمة، فهما صديقان مخلصان نحتاج إلى صحبتهما المستمرة. بل هما صديق واحد، شخص السيد المسيح "الرحمة والحق"، نتمسك به، قائلين مع العروس التي جاهدت تبحث عنه فوجدته وأمسكت به ولم تُرْخِه (نش4:3). التصقت به كمن هو عريسها وحدها، قائلة لمن حولها: "أُحَلِّفَكُنَّ يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظْنَ ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء" (نش5:3).

2. الاتكال على الله يُقوِّم سبل الإنسان

"توكَّل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد.

في كل طرقك أعرفه، وهو يقوِّم سبلك" [5،6].

هذه هي أهم الوصايا، ترتبط بإيماننا بالله مصدر كل الخيرات، محب البشر والأب السماوي القدير والحكيم المهتم بنا، حتى بالأمور الصغيرة، يَعِد ويفي بوعده لنا. يليق بنا أن نثق في الرب بكل قلوبنا، فإنه يريد أن يقدم لنا ما هو أفضل، وقادر على ذلك. من يعرفون أنفسهم يُدركون أن فهمهم - بدون العون الإلهي - أشبه بقصبة مكسورة، إن اتكأوا عليها فشلوا. لذلك يليق بنا ألا نُخطط أمرًا ما إلا بما يتناغم مع الوصية الإلهية، طالبين من الله مشورته، كما نطلبه أن يقدس فكرنا ويقود سلوكنا. حقًا إن من يتكل على فهمه وخبراته وقدراته بغير العون الإلهي يكون غبيًا!

في كل طرقنا الخاصة والعائلية والخاصة بالعمل أو المجتمع المحيط بنا يليق بنا أن نعرف الله قائدًا لنا، فنخضع له، ونُعلن سرورنا بتتميم إرادته ووصاياه، حينئذ يوجه هو طرقنا ويُقوِّمها، فنعيش في سلام وسعادة، مفصلين كلمته في حياتنا باستقامة (1تي15:2).

نعرفه قائدًا لنا في بداية كل طريق نسلكه، مرافقًا لنا طوال رحلتنا، يتحدث معنا ونحن معه بلا انقطاع، ويعبر بنا حتى النهاية، عندئذ نقول مع تلميذيّ عِمْواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو22:24).

3. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد

لا يمكننا ممارسة الطاعة ولا ننعم بالاتكال على الرب بطريق آخر غير الاتضاع، لذا يقول:

"لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك.

اتق الرب وابعد عن الشر،

فيكون شفاءً لسرتك، وسقاءً لعظامك" [7،8].

الحكمة التي يهبها الله لنا تعطي ليس فقط شفاء للنفس وحدها، وإنما تقدم بركة خاصة للجسد، فينعم الإنسان بالشفاء لسرته أي لأمراض بطنه الخفية، كما تكون نخاعًا خفيًّا في داخل عظامه أي لهيكل جسمه، أو لقوته الجسمية. حينما نكرم الرب بروح الاتضاع يتقدم إلينا كطبيب لأنفسنا وأجسادنا يعمل في أعماقنا الخفية ليهبنا الحياة والنمو والقوة.

يشير الحكيم إلى شفاء السُرّة، لأن المؤمن يحسب نفسه كجنين في رحم الكنيسة أمه، لم يكتمل بعد نموه الروحي. إنه لا يتقبل الطعام بفمه أو بعضو آخر، إنما يتمتع بالحياة والنمو خلال حبل السُرّة، يكشف عن عمل الله معه خلال الكنيسة. بدون هذا العمل الإلهي يموت الجنين ولا يولد. هكذا بغير الحكمة الإلهية تموت النفس ولا يكون لها وجود في السماويات.

4. العطاء يهب غنى

"اكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلَّتك،

فتمتلئ خزائنك شبعًا،

وتفيض معاصِرك مِسْطارًا" [9،10].

في العهد القديم كان المؤمنون يُقدمون البكور، أي بكور القطعان وبكور المحاصيل في وقت الحصاد. يُقدمونها في هيكل الله في يوم الخمسين (عد26:28). بهذا يُعلنون شوقهم نحو تقديم كل ما يملكونه لله، مكرمين الرب بكل قلوبهم ومن ممتلكاتهم وأعمالهم وأموالهم. لقد أعلن لشعبه أن الأرض بكاملها هي له، لهذا جاءت الوصية تؤكد ألا يبيعوا الأرض إلى الأبد، فإنها ملك لله (لا23:25). هكذا يشعر المؤمن انه قد تسلم أرض قلبه من يديْ الله، كما تسلم شعب إسرائيل أرض كنعان. إننا لا نكتفي بتقديم المتكأ الأول لله في القلب، بل نسلمه القلب كله، لنستلمه من جديد من يديه كوكلاء أمناء على ما هو له!

يحذرنا العهد الجديد من توقعنا أن يُكافئنا الله ببركات مادية مقابل تقوانا (1تي3:6-6). فإن الله لا يريد أن يستأجر المسيحيين، إذ لا يريدهم أُجراء، بل أبناء له على شبه السيد المسيح، وذلك في الحب والقداسة والطهارة. يريدنا أن نطلبه لأجل ذاته لا ليقدم لنا مكسبًا جسديًّا أو ماديًّا. مكافأة الطاعة لله هي الالتصاق به، والتمتع باتحاد أعمق معه، وسُكناه في داخلنا (يو15:14-18، 21-31). كما يريدنا أن نقتنع بما يمدنا به ولا نطمع فيما هو أكثر (1تي6:6).

5. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة

"يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تكره توبيخه،

لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأبٍ بابنٍ يُسر به" [11-12].

اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في رسالته إلى العبرانيين ليربط بين تأديب الرب والبنوة له، قائلاً: "قد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخر إذا وبخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه (في التأديب) فأنتم نغول لا بنون" (عب5:12-8).

يقدم الرسول الحقائق التالية:

1. يقبل المؤمن كل ضيقة كتأديب من الرب وليس من الناس، فإن الله يؤدب من واقع طبيعته بكونه "الله محبة"، مؤكدًا طبيعته التي تشع علينا بالحب مهما بدا التأديب قاسيًا. إن أيّ تأديب، وإن صدر من قلب حنون، يُحسب قاسيًا إن قورن بالتأديب الإلهي. الرب يؤدب حسبما يرى فيه بنياننا وقدر ما نحتمل!

2. إن قبلنا التأديب بلا شكر يتحول إلى توبيخ مرّ فنخور. وكأن ما يحل بنا من متاعب يتوقف إلى نظرتنا للتأديب الإلهي، فالنظرة الخارجة من قلب بنوي يرى في التأديب بنيانًا فتتهلل نفسه، أما المتذمر فيرى فيه توبيخًا مرًا.

3. جميع الأبناء شركاء في التأديب... بدونه يكون الإنسان ابنًا غير شرعي (من النغول)!

الله في محبته الأبوية يفتقدنا أحيانًا بالضيقات والأمراض لأجل بنياننا لكي يجعلنا حكماء وصالحين. أما من جانبنا فإذ نُدرك بنوتنا له لا ننهار أمام التجارب، مهما ثقلت أو طال زمانها. لا نيأس قط ولا نُخطئ، بل ننتظر خلاص الرب بشكر.

الله لا يضرب بالسياط أبناء الشيطان، إنما يلطم أبناءه هو. فإن حلول التأديبات شهادة صالحة أنك تنتمي إليه، إذ يقول أليفاز التيماني في حديثه مع أيوب أثناء تجربته: "هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير، لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان. في ست شدائد ينجيك، وفي سبعٍ لا يمسك سوء" (أي17:5-19).

V      توجه الكلمات: "يا ابني لا تبتعد عن تأديب الرب" إلى إرادة الإنسان الحرة. قال الرب: "طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو32:22)، حتى يستند الإنسان بالنعمة[86].

القديس أغسطينوس

V      يعلمنا أن نشكر ونفرح أكثر فأكثر عندما نُحسب أهلاً للتأديب. يقول: "الذي أُحبه أؤدبه". يا لك من خادم طوباوي، إذ يهتم الرب بإصلاحك. إنه يتنازل ويغضب معك! إنه لا يخدعك فيخفي توبيخاته!

في كل الأحوال يلزمنا أن نرتبط بالالتزام بالصبر، سواء كانت (التجارب) بسبب أخطائنا أو صادرة عن شباك العدو، أو هي توبيخات من قبل الرب. فإن مكافأة هذا الواجب (الصبر) عظيمة، ألا وهي السعادة. لأنه من هو هذا الذي يدعوه الرب سعيدًا إلا الصابر، قائلاً: "طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السموات"[87].

العلامة ترتليان

V      هكذا تأديب الحكمة ("لأن الذي يحبه الرب يؤدبه" [12]) يسبب آلامًا لكي تجلب فهمًا وترد السلام والخلود[88].

القديس اكليمنضس السكندري

V      إن كان الله يوبخ من يحبه، ويوبخه بقصد إصلاحه، هكذا فإن الاخوة، خاصة الكهنة، لا يكرهون من يوبخونهم بل يحبونهم، وذلك لأجل إصلاحهم. فإن الله أيضًا سبق فأنبأ خلال إرميا مُشيرًا إلى وقتنا هذا، قائلاً: "وأعطيكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بطعام التأديب" (إر15:3)[89].

القديس كبريانوس

V      التوبيخ هو إحضار الخطية ووضعها أمام الشخص. هذا النوع من التعليم ضروري إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب ضعف إيمان الكثيرين... يستخدم الله لغة الألم والضرب التي للتوبيخ مع تقديم تعزياته بواسطة سليمان، فيلمح إلى المحبة بطريقة خفية نحو الأبناء الذين يتفاعلون مع تعليمه. "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب...". "الإنسان الخاطئ يهرب من التوبيخ" (ابن سيراخ 21:32). لهذا يقول الكتاب: "ليُوَبخني البار ويردني، أما زيت الخاطئ فلا يدهن رأسي"[90].

القديس اكليمنضس السكندري

V      اسمع كلمات داود: "خير لي أنك أذللتني لكي أتعلم فرائضك" (مز71:119). ويقول نبي آخر: "جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" (مرا 27:3). وأيضًا: "طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب" (مز12:94). وآخر يقول: "لا تحتقر تأديب الرب" (أم11:3). وأيضًا: "إن تقدمت لتخدم الرب أعدد نفسك للتجربة" (ابن سيراخ 1:11). كما قال السيد المسيح لتلاميذه: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن افرحوا" (يو33:16).

وأيضًا: "أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح" (يو20:16). وأيضًا: "ما أضيق الباب" (مت14:7). أرأيتم كيف تُمتدح الضيقة في كل موضع؟![91]

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      ليُنصح المرضى أنهم يدركون بأنهم أبناء الله عندما يُجلدون بسياط التأديب. لأنه لو لم يهدف الله إلى إعطائهم ميراثًا بعد إصلاحهم لما كان يهتم بتثقيفهم بالأحزان. لهذا يقول الرب ليوحنا بواسطة الملاك: "من أُحبه انتهره وأؤدبه" (رؤ19:3؛ أم11:3). كُتب أيضًا: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُر إذا وبّخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" (عب5:12،6). يقول المرتل: "كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" (مز20:33). أيضًا يصرخ أيوب الطوباوي في حزنه ويقول: "إن تبرَّرت لا أرفع رأسي، إني شبعان هوانًا وناظر مذلتي" (أي15:10).

ليُقال للمرضى إنهم إن كانوا يؤمنون بالمدينة السماوية أنها مدينتهم، فإنهم يحتاجون أن يحتملوا أتعابًا في هذه المدينة كمن هم في أرضٍ غريبة. فإن كان يلزم ضرب الحجارة بالفأس في الخارج حتى تُوضع بدون صوت الفأس في مبنى هيكل الرب، هكذا أيضًا نحن الآن نُضرب بالسياط من الخارج حتى نوضع فيما بعد في مواضع داخلية بدون ضربات التأديب، في هيكل الله.

في النهاية تُنتزع هذه الضربات ما هو غير نافع ولا ضروري، وخلال وحدة الحب وحدها نرتبط معًا في البناء[92].

الأب غريغوريوس (الكبير)

V      الآن يُعاقب الله بغضب ذأبناء الغضب، لكنه يُعاقب (يؤدب) برحمة أبناء النعمة[93].

القديس أغسطينوس

6. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد

"طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة،

وللرجل الذي يجد الفهم" [13].

يليق بالمؤمن أن يطلب الحكمة ويجد في البحث عنها ويسأل الرب لاقتنائها، فإنها تهب الحياة المُطوبة، كما تُقدم له الغنى والمجد الحقيقيين الدائمين.

يقول "طوبى"... لأن التمتع بالحكمة يجعلنا ننعم بالاتحاد مع الآب في ابنه بالروح القدس. هذه الحياة الجديدة هي شركة في الحياة الإلهية التي تستحق التطويب. لقد افتتح السيد المسيح عظته على الجبل بالدعوة إلى التمتع إلى هذه الحياة المُطوبة، مكررًا الكلمة "طوبى..." (مت5). فقد خلقنا الله لكي نختبر هذه الحياة المًطوبة التي ننالها في كمال صورتها في الحياة الأخرى.

يرى الحكيم أن البحث الجاد عن الحكمة أشبه بعمل تجاري أو مشروع خطير يُقدم عليه المؤمن لينال ربحًا. فالمؤمنون هم مستثمرون يتطلعون إلى مكاسب روحية.

يُقارن الحكيم بين الحكمة وما تجلبه من مكاسب وبين المشاريع الزمنية وما تجلبه من غنى، مؤكدًا أن الجواهر الثمينة وكنوز الأرض لا تُقارن بالحكمة الإلهية الحقيقية. فالأولى زمنية مؤقتة وأما الثانية فأبدية. الأولى هي تمتع ببعض العطايا أما الثانية فهي اقتناء واهب العطايا وخالق الكل. حقًا طوبى لمن يجد السيد المسيح، الذي هو الحكمة، يقود بروحه القدوس في حياتنا اليومية.

"لأن تجارتها خير من تجارة الفضة،

ربحها خير من الذهب الخالص"

هي أثمن من اللآلئ، وكل جواهرك لا تساويها" [14-15].

هذه العبارة عينها من بين عبارات كثيرة خلالها يُمارس المستثمرون الروحيون حقهم في الخيارات من ذلك نمارس هذا الحق كأحرار مستندين على غنى نعمة الله.

"خذوا تأديبي لا الفضة، والمعرفة أكثر من الذهب المختار،

الحكمة خير من اللآلئ وكل الجواهر لا تساويها" (11:8).

"القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم مع هوان،

أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بفضة" (16:15،17).

"ثمري (ثمر الحكمة) خير من الذهب ومن الإبريز،

وغلتي خير من الفضة المختارة" (19:8).

"تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (19:16).

"البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (32:16).

"لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (1:17).

"الفقير السالك بكماله خير من ملتوي الشفتين وهو جاهل" (1:19).

"الصيت أفضل من الغنى العظيم، والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب" (1:22).

"التوبيخ الظاهر خير من الحب المستتر" (5:27).

V      تعلن الحكمة: "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، والقابل الموت الذي يرى الفهم، فمن يخرج البر، ولسانها يحمل الناموس والرحمة" [13، 16  LXX]. فإن الناموس والإنجيل كلاهما عمل الرب الواحد، الذي هو رحمة لأن فيه خلاصنا[94].

القديس إكليمنضس السكندري

يقول المرتل: "ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 72:119). ويتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل كان القديس بطرس فقيرًا حينما لم يكن له ذهب ولا فضة ليعطي المقعد؟[95]

V      هذا يعنى خير لي الناموس الصادر عن فمك؛ الذي هو المسيح. إني أستهين بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة لكي أتلذذ بناموس فمك وأتنعم به.

يمكننا القول بأن "ناموس الفم" هو ترتيب الكلمات الصادرة عن فم الله: الكلمات الأولى قيلت للمبتدئين، بينما الكلمات التالية قيلت لمن تسلم الأولى حتى يبلغوا الكمال[96].

العلامة أوريجينوس

V      يقول النبي أنه بالنسبة له خير له شريعة فم اللَّه أكثر من كل شهوات العالم، مشيرًا إلى الشهوات بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة[97].

القديس أغسطينوس

V      بالتفسير الرمزى، الفضة تمثل العقل، والذهب يشير إلى الروح، فمع وجود آلاف من القطع الذهبية والفضية التي يستخدمها المجادلون بحكمة العالم في مدارس الفلسفة، إلا أن الذى يعيش الحكمة الإلهية والحق الإلهي يقول: "ناموس فم الرب خير لي". حقًا إن الناموس الصادر عن فم اللَّه هو وحده الذى يمكنه أن يقدم المكسب الحقيقي للذين يتمسكون به[98].

القديس ديديموس الضرير

ألوف الذهب أو الفضة قد تضيع أو تُسرق أو تسبب خطرًا على حياة صاحبها، أما ناموس فم الرب فيقدم غِنى ثابتًا إلى الأبد، لا يستطيع أحد أن ينتزعه منا.

يستخدم القديس إكليمنضس السكندري العبارة السابقة [13] في توجيه النساء اللواتي ينشغلن بثقب آذانهم لوضع "حلقان" ثمينة للغاية فيها، ووضع مساحيق خاصة بزينة العينين، موضـحًا أن استماع الأذن لصوت الحكمة أمر طبيعي وثمين أفضل من كل الجواهر، وانفتاح العينين لرؤية الإلهيات والمقدسات هو الجمال الحقيقي، حيث يرى المؤمن ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر.

V      لا تدعن آذانكن تُثقب على خلاف الطبيعة، لكي تلتصق بها "حلقان"، وتتدلى منها. فإنه لا يليق إلزام الطبيعة على عمل ما يضادها. ولا يمكن وجود حُليّ تزين الأذن أفضل من التعليم الذي يجد طريقًا طبيعيًا في ممرات السمع.

دهْن العيون بالكلمة وثقْب الآذان بالوصية يجعل من الإنسان مستمعًا ومتأملاً في الأمور الإلهية والمقدسات، فيُعلن الكلمة الجمال الحقيقي: "ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن" (1كو9:2)[99].

القديس اكليمنضس السكندري

"في يمينها طول أيام،

و"في يسارها الغنى والمجد،

ومن فمها يخرج البرّ،

ولسانها يحمل الناموس والرحمة" (الترجمة السبعينية) [16].

V      زينة يدها اليمنى هي امتداد الأجيال حيث يقول الكلمة :"في يمينها طول أيام".

وفي يسارها غنى الفضائل الثمينة مع بهاء المجد، "في يسارها الغنى والمجد" [16].

يتحدث بعد ذلك سليمان عن رائحة فم العروس الذكية التي تبعث رائحة البرّ الصالحة:

"من فمها يخرج البرّ (الترجمة السبعينية)" [16][100].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يري بعض الآباء أن اليد اليمنى هنا تشير إلى الخيرات والأمجاد الأبدية، بينما اليد اليسرى تشير إلى البركات الزمنية على الأرض، لهذا تترنم العروس في النشـيد قائلة: "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 6:2)، هذا هو صوت الكنيسة الحيّ التي تطلب الأمجاد الأبدية كيدٍ يُمنى تحتضنها، أما البركات الزمنية فلا تنشغل بها كثيرًا.

V      تقول الكنيسة بصوت المختارين: "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 6:2).

اليد اليسرى لله تعني الخيرات الوفيرة في الحياة الحاضرة، تضعها الكنيسة تحت رأسها لكي تضغط عليها من أجل حبها السامي.

أما اليد اليمني لله فتحتضنها، لأنها في تكريسها الكامل تُشمل بالبركات الأبدية. لهذا مرة أخرى يقول سليمان إن طول الأيام (الأبدية) في يمينها، وأما في يسارها فالغني والمجد [16].

بحديثه عن الغنى والمجد أنهما موضوعان في يسارها أظهر بأية طريقة نتطلع إليهما. لهذا يقول المرتل: "خلصني بيمينك" (مز 7:117). إذ لم يقل "بيدك"، بل "بيدك اليمنى"، لكي يشير باليمنى إلى الخلاص الأبدي الذي يبحث عنه. مرة أخرى كُتب: يمينك يا رب تحطم العدو" (مز 6:15)، لأن العـدو وإن كان مزدهرًا في يد الله اليسرى إلا انه يتحطم في يده اليمنى، لأنه كثيرًا ما يرتفع الأشرار في الحياة الحاضرة، لكن مجيء البركات الأبدية (في يوم الرب العظيم) يدينهم[101].

البابا غريغوريوس (الكبير)

جاء في الترجمة السبعينية "لسانها يحمل الشريعة والرحمة"، ويعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلاً:

V      هكذا بخصوص حكمة (الله) قيل: "لسانها يحمل الشريعة والرحمة". الشريعة التي تحكم على المتكبرين، والرحمة التي تبرر المتواضعين[102].

V      لسنا نُبطل الناموس بالإيمان، بل نثبّته (رو3:3)، فالخوف يقود إلى الإيمان. هكذا بالتأكيد ينشئ الناموس غضبًا، حتى تهب مراحم الله نعمة للخاطي، فيرتعب ويتحـول إلى تحقيق برّ الناموس بيسوع المسيح ربنا الذي هو حكمة الله التي قيل عنها: "لسانها يحمل الناموس والرحمة".

بالناموس تخيف، وبالرحمة تعين.

قُدم الناموس خلال عبيده، وأما الرحمة فيقدمها بنفسه.

كان الناموس كعصا إليشع (2مل 29:4 الخ) بُعث بها لإقامة ابن الأرملة، ففشلت في إقامته. "لأن لو أُعطي ناموس قادر أن يُحي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس" (غلا 21:3). أما الرحمة فكانت كاليشع نفسه، الذي حمل رمز المسيح؛ وبتقديمـه الحياة للميت ارتبط بسرٍّ عظيم كما بالعهد الجديد[103].

V      عندما قيل: "لنحب بعضنا بعضًا"، هذا ناموس! وعندما يُقال: "لأن المحبة من الله" هذه نعمة!

فإن لسان حكمة الله يحمل الناموس والرحمة. لهذا جاء في المزمور: "الذي يعطي الناموس يهب أيضًا البركات" ( راجع مز 6:84)[104].

القديس أغسطينوس

"طرقها طرق نِعمْ، وكل مسالكها سلام" [17].

الحكمة ليست فقط كنزًا، نقتنيها باقتنائنا خالق الكنوز، لكنها أيضًا تحمل نوعًا من الأبوة أو من الوالدية، تحمل المؤمنين كأطفال صغار، ليتكئوا على صدرها، وتسير بهم في الطريق الملوكي، حيث ينعم المؤمنون بالبركات السماوية والسلام الفائق.

هي شجرة حياة لممسكيها،

والمتمسك بها مغبوط" [18].

هكذا تدعونا الحكمة للتسلق عليها كشجرة حياة، تُقتطف منها ثمار الروح، فتُمارس الحياة المغبوطة أو المطوَّبة.

إن كانت الحكمة هي شجرة حياة فإنه لن يتمتع بثمرها الكسالى والمتراخون. هي عطية إلهية مجّانية تُقدم للنفس المشتاقة إلى التمتع بها والجهاد من أجل نوالها. هي شخص المسيح الذي يود تقديم ذاته لنا، لكن بتراخينا نَحرم أنفسنا منه.

V      يؤكد البعض بأن النبي إشعياء أشار إلى هذه الأيام الخاصة بشجرة الحياة بكونها الزمن الحاضر لكنيسة المسيح، وأنه قد سبق التنبوء عن المسيح نفسه بأنه شجرة الحياة، لأنه هو الحكمة، عنها يقول سليمان: "هي شجرة حياة لكل من يحتضنها"[105].

V      بحق قيل عن (الحكمة): "هي شجرة حياة لممسكيها". كما كانت هناك شجرة واحدة في الفردوس المادي هكذا توجد شجرة أخرى للفردوس الروحي. الواحدة تُقدم قوة لحواس الإنسان الخارجي والأخرى للإنسان الداخلي[106].

القديس أغسطينوس

V      يُعلمنا سليمان النبي ما هي شجرة الحياة هذه وذلك في حثِّه بخصوص الحكمة. إنها شجرة حياة لكل ممسكيها والمتكئين عليها. هذه الشجرة حيَّة، ليس فقط حية بل بالأكثر يقودها العقل، بمعنى تقدم ثمرًا ليس بطريقة اعتباطية ولا في غير أوانٍ، بل في أوانها. هذه الشجرة مغروسة على مجارى المياه في منطقة ملكوت الله، أي حتمًا في الفردوس، وفي الموضع حيث ينبع المجرى وينقسم إلى أربعة أنهار[107].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

V      لأن شجرة الحياة هي الحكمة المولودة قبل الكل. "هي شجرة حياة لممسكيها"، كما يقول النبي، "والمتمسك بها مُطوَّب". إنها شجرة مغروسة على مجاري المياه، تُعطي ثمرها في حينه"، بمعنى أن التعليم والمحبة والتمييز يُقدمون من مخازنها في حينه للذين يأتون إلى مياه الخلاص.

من لا يؤمن بالمسيح، ولا يفهم أنه هو الأساس الأول وشجرة الحياة، ولا يستطيع أن يُظهر لله خيمته مزينة بأفضل الثمار كيف يمكنه أن يحتفل بالعيد؟ كيف يفرح؟ ألا يشتهي ثمر الشجرة الصالح؟ لتُدرك كلمات ربنا يسوع المسيح كيف يصيرون مسرورين أكثر من بني البشر[108].

الأب ميثوديوس

"الرب بالحكمة أسس الأرض.

أثبت السموات بفهم" [19].

V      ينسب سليمان كل عناصر الخليقة إلى قوة الحكمة، ويزينها بأسماء كثيرة، فإنه يقصد بالحكمة والتعقل والإدراك والمعرفة والفهم وما أشبه ذلك نفس الشيء[109].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

V       إن كان الله هو ينبوع الحكمة والحياة، ويُدعى هكذا، كما قيل في إرميا: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة" (إر13:2)؛ وأيضًا: في سفر باروخ: "تركتم ينبوع الحكمة" (با12:3)، هذا يستدعي أن الحياة والحكمة ليسا غريبين عن جوهر الينبوع، بل هما لائقان به، ولم يكونا قط غير موجودين، بل موجدان على الدوام. الآن الابن هو كل هذا، هذا الذي يقول: "أنا هو الحياة" (يو6:14)، "أنا الحكمة أسكن مع التعقل". أليس من الخطأ أن تقول بأن الابن لم يكن موجودًا في وقتٍ ما؟ لأن هذا يعني أن الينبوع كان في وقتٍ ما جافًا، وخالٍيًا من الحياة والحكمة. يا له من تهور! فإن الله يَعِد الذين يتممون إرادته أنهم يصيرون كينبوع لا ينضب، قائلاً بإشعياء النبي: "يُشبع في الجدوب نفسك، ويُنشِّط عظامك، فتصير كجنة ريَّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إش11:58)، ومع أن "ينبوع الحكمة" يُدعى هكذا، أنت تهينه كمن هو عقيم لا يحمل حكمته؟!

إن تعاليم (الأريوسيين) باطلة، فإن الحق يشهد أن ينبوع حكمة الله سرمدي، وإن كان الينبوع سرمديًّا يلزم أن تكون الحكمة سرمدية. فإنه فيها خُلقت كل الأشياء كقول داود في المزمور: "في الحكمة خلقت الكل" (مز24:104)، ويقول سليمان: "الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السموات بالفهم" [19]. هذه الحكمة هي الكلمة، الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1)[110].

القديس أثناسيوس الرسولي

"بعمله انشقت اللُجج،

وتقطر السحاب ندى" [20].

بحكمة أصر أن يشق الأعماق العظيمة ليجلب ماء للأرض، وبها أَوْجد قوانين الطبيعة لتتمتع الأرض بالندى والأمطار.

إن كان الله يهتم باحتياجات الأرض التي خلقها من أجل الإنسان، فقدم لها مياه المحيطات والبحيرات والأنهار، وأفاض عليها بالأمطار من فوق، كيف لا يهتم بالإنسان. إنه في حبه يُقدم لنا في أعماقنا مياه تجري في القلب كأنهار مياه حيَّة، تحول جفاف القلب وبريته إلى فردوس الله المثمر. كما يمطر على القلب من ندى الروح وأمطاره حتى ينعم القلب بكل عذوبة وراحة.

7. المشورة طريق آمن

إن كان الله يشق في أعماقنا أنهارًا تفيض بالمياه العذبة، ويمطر علينا بنعمة الروح، فإنه يحذرنا من الكبرياء وعدم طلب المشورة، قائلاً:

"يا ابني لا تبرح هذه من عينيك.

احفظ الرأي والتدبير.

فيكونا حياة لنفسك ونعمة لعنقك.

حينئذ تسلك في طريقك آمنًا ولا تعثر رجلك.

إذا اضطجعت فلا تخاف، بل تضطجع ويلذ نومك.

لا تخشى من خوف باغت، ولا من خراب الأشرار إذا جاء.

لأن الرب يكون معتمدك، ويصون رجلك من أن تُؤخذ" [21-26].

تكررت كلمتا "لا تبرح" في هذا السفر (21:3؛21:4) وهي تعني ثبوت الحكمة في داخل القلب حتى لا ينحرف عن الحق، بل يسير القلب كالسفينة في مسار الطريق الملوكي. وقد استخدم القديس اكليمنضس السكندري هذا التعبير في حديثه عن المرأة: "لا تلبس الأزياء المبهرجة حتى لا تنزلق بعيدًا عن الحق[111]".

إذ يضع المؤمن وصية الرب وحكمته نصب عينيه، واثقًا في غنى نعمته المجانية يطلب تدبيرًا روحيًا لحياته في الرب، بهذا يسلك الطريق الآمن، إذ يتمتع بالبركات التالية:

·        حياة النفس، فلا تكون ميتة بلا إحساس.

·        كرامة في عيني الله، حيث يصير موضع سروره.

·        يسير في أمان بالرغم من مقاومة العدو له، فإنه يَدكُّ بقدميّ المسيح النحاسيتين (رؤ15:1) كل حجرٍ مقاومٍ.

·    لا يخشى من مخاوف المستقبل القريب أو البعيد، إذ يُدرك أن حياته في يديّ إله محب حكيم وقدير، كل لحظة من لحظات عمره مضبوطة بيد أبيه السماوي.

·    إذ يضطجع ينعم بنوم عميق، ليس نوم الكسل والتراخي، بل نوم الثقة واليقين في عمل الله معه. يُدرك أن الله يهتم به حتى في أحلامه، فيجدها سماوية عذبة. كثيرون إذ ينامون يخشون ألا يستيقظوا، أما المؤمن الحقيقي فينام مطمئنًا أنه إن استيقظ ووجد نفسه في حضرة الرب يترنم: "قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد". وإن استيقظ ليجد نفسه في هذا العالم، يمجد الله في كل شيء.

8. المحبة الأخوية واللطف

 "لا تمنع الخير عن أهله حين يكون في طاقة يدك أن تفعله" [27].

ماذا يعني بقوله: "عن أهله"؟ ليس كل ما لدينا هو ملك لنا، بل للمحتاجين نصيب فيما هو بين أيدينا. حين تقدمه لهم، إنما قدم لهم حقهم الذي كنا مجرد حارسين له. إننا وكلاء على ما هو ملك للفقراء، حين نُقدم إليهم ما هو ملك لهم نُحسب وكلاء أمناء، لا فضل لنا إلا في الأمانة التي نمارسها بنعمة الله.

"لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غدًا وموجود عندك" [28].

إذ الوقت مقصر وشرير لنسرع إلى ممارسة الخير مع طالبيه لئلا يحل الموت بنا أو بهم فنفقد فرصتنا في التمتع بعمل الخير معهم.

"لا تخترع شرًا على صاحبك وهو ساكن لديك آمنًا.

لا تُخاصم إنسانًا بدون سبب،

إن لم يكن قد صنع معك شرًا" [29-30].

يسألنا ألا نحمل روح النزاع والخصام، فكما يحمل البعض روح الحب ليحتضن إن أمكن الكل، يحمل آخرون روح النزاع فيجدوا لذتهم في الخصام مع كثيرين.

بحسب الناموس يليق بنا أن نعامل الآخرين على أساسٍ سليم، فلا نظلمهم، أما في عهد النعمة فنرتفع لنعاملهم كما يتعامل الله معنا.

9. اللعنة والبركة

"لا تحسد الظالم،

ولا تختر شيئًا من طرقه.

لأن الملتوي رجس عند الرب.

أما سرَّه فعند المستقيمين" [31-32].

يليق بنا ألا نحسد الظالم ولا نقتدي به، لأننا بهذا نصير رجسين في عينيْ الرب. أما الذي يسلك باستقامة فيجد في الله صديقًا له يتحدث معه حتى عن أسراره الإلهية الفائقة.

حقًا كثيرون عبر العصور يحسدون الأغنياء حتى إن كانوا ظالمين لكنهم في النهاية يكتشفون أن الله يدين الأغنياء الأشرار، كقول المرتل (مز37).

كاد آساف أن يزل عن الإيمان، لأنه كان يحسد الأشرار على نجاحهم. "لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار، لأنه ليست في موتهم شدائد ، وجسمهم سمين، ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون" (مز 3:73-5)، لكنه إذ اقترب إلى مقادس الله، وتطلع إلى نهاية حياتهم أدرك "كيف صاروا للخراب بغتة" (مز93:73) صرخ: "من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئا في الأرض" (مز 25:73) ، وختم مزموره بالقول: "فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك" (مز28:73).

إن نال الظالم بركات زمنية كثيرة، لكنه يحمل رجاسة عند الرب، أما الصديق أو المستقيم القلب فيتعرف على أسرار الله الفائقة.

"لعنة الرب في بيت الشرير،

لكنه يُبارك مسكن الصديقين.

كما أنه يستهزئ بالمستهزئين هكذا يُعطي نعمة للمتواضعين.

الحكماء يرثون مجدًا،

والحمقى يحملون هوانًا" [33-35].

ليس لدى الله لعنة، بل هو مصدر كل بركة، لكن الشرير المصمم على الشر، إذ يُصر أن يتغرب عن الله، يحرم نفسه بإرادته من مصدر البركات، فيسقط في اللعنة التي تتم بسماح إلهي كثمرة للعمل الشرير، لهذا تدعى مجازًا "لعنة الرب".

V      كما هو مكتوب: "يُقاوم الله المستكبرين ويُعطي نعمة للمتواضعين" (أم34:3، 1بط5:5؛ يع6:4). الآن هذه النعمة هي هبة من الله. لكن أعظم العطايا هي الروح القدس نفسه، لذا دُعِي "النعمة".

القديس أغسطينوس

يتحد الحكماء بالسيد المسيح حكمة الله، يصيرون في مياه المعمودية أبناء الله، لذا قيل عنهم أنهم يرثون مجدًا كحق شخصي لهم إذ هم أبناء. أما الحمقى فإنهم يَحرمون أنفسهم من التمتع به، وبالتالي من شركة مجده، فيصيرون في عارٍ أبديٍ.

V      (الحكماء) ليس فقط ينالون (مجدًا) بل ويرثونه.

أيضًا الأشرار وإن تعظّموا فإنهم يتعظمون لينالوا هوانًا أعظم. وكما أن الإنسان لا يُكرم زميله الرديء إن تشامخ، بل بالأحرى يهينه، إذ يُعلن خزيه أمام العدو، هكذا الله يُمجد الشرير (إلى حين) لكي يُظهر عاره بالأكثر. فإن فرعون (في أيام موسى) تعظّم إنما لكي يدينه العالم[112].

القديس هيبوليتس


 

من وحي أمثال 3

احملني إليك أيها الطريق الملوكي

V      احملني إليك يا أيها الحكمة الإلهي،

أسير فيك وبك إلى حضن أبيك،

 لا انحرف يمينًا ولا يسارًا.

 أنت هو الطريق الملوكي الآمن!

V      لأسمع صوتك في أعماقي،

 وباتضاع انحني لأنصت إلى كل مشورة روحية.

 أتعلم الطاعة لأتشبه بك،

 أنت خالق الكل حملت الطاعة لأبيك،

 احملني فأتمتع بشركة الطاعة المجيدة!

 بالطاعة تُسر بي، وأجد نعمة حتى في أعين الناس!

V       على من أتكئ إلا عليك؟!

 صدرك مملوء حنانًا وحكمة!

 اتكئ عليه فتطمئن نفسي،

 استريح وأتمتع بقيادتك!

V       من ينزع تشامخي؟

 من يهبني روح الاتضاع؟

 أنت وحدك يا طبيب النفوس والأجساد!

 لأتضع، فأصير كجنين محمول في أحشاء كنيستك أمي!

 خلال الصرة أرتوي بدمك الثمين،

 فأتغذى وأنمو وتكتمل صورتي.

 أصير بالحق أيقونة لك!

 أحمل اتضاعك العميق في نفسي!

V       قدمت لي ذاتك طريقًا أسلك فيه.

 أدخل فأجدك تُعطي حتى ذاتك لأعدائك!

 هب لي روح البذل والعطاء فأقتنيك يا كنزي الثمين!

V       في وسط الطريق تؤدبني بحبك،

 تؤدبني ليس انتقامًا مني،

 بل لأنعم بأبوتك الفائقة،

 وتتجدد أعماقي، وتتشكل بروحك القدوس!

V       أدخلني وأخفيني فيك،

 فأقتطف طوال الطريق من ثمار الحكمة مع الغنى الحقيقي والمجد.

 أدخل فأشعر بدفء حبك.

 أسير في أمان واطمئنان.

 حتى في نومي تلذ لي أحلامي المحصورة فيك.

V      أشكرك يا أيها الطريق والحق والحب.

 فإنني إذ أنعم بحبك أحب كل أخ وأخت لي.

 أقدم الحب واللطف مع كل صلاح.

 أقدم قلبي الذي لك لكي يتمتعوا بك.

 أقدم لهم مما وهبتني يا كلي الحب والحكمة.

 هكذا لتحل بركتك عليَّ في هذا العالم!

 واختبر شركة مجدك هنا كما في الدهر الآتي!

<<

 

    

 

 

 


الأصحاح الرابع

الحكمة: إيجابيًا وسلبيًا

إذ كشف سليمان الحكيم عن أهمية الحكمة (ص1)، وبركاتها (ص2)، وطريقها (ص3)، أوضح طريق الحكمة الإيجابي وأيضًا السلبي.

1. حث على اقتناء الحكمة 1-9.

2. الحكمة وحياة الاستقامة10-13.

3. التحفظ من الأشرار والشر14-27.

1. حث على اقتناء الحكمة

يؤكد سليمان الحكيم الحاجة إلى اقتناء الحكمة من الله خلال الطاعة للوصية مع الصلاة والطلبة وقبول مشورة الوالدين والقادة الروحيين، مقدمًا نفسه مثلاً لهم، إذ يقول:

"اسمعوا أيها البنون تأديب الرب،

واصغوا إلى معرفة الفهم.

لأني أعطيكم تعليمًا صالحًا فلا تتركوا شريعتي.

فإني كنت ابنًا لأبي، غضًا ووحيدًا عند أمي" [1-3].

يتقدم سليمان الحكيم إلى تلاميذه كأبناء له حتى يمكنهم أن يتقبلوا كلماته التي تحمل أحيانًا توبيخًا أو انتهارًا. لقد أحبه والداه لذا علماه، ومن جانبه كان منصتًا ومطيعًا لهما. كأنه يقول:

"ما تقبلته من والديَّ أقدمه لكم. لقد قدما لي تعاليم الحكمة ممتزجة بالحب نحوي. فأنصتوا إليّ كما كنت أنصت إليهما، أنصتوا لتتقبلوا مع الوصايا الحب الأبوي".

قال هذا ليُظهر لهم أن ما تسلمه من والديه ويقدمه لهم إنما هي تعاليم ثمينة للغاية. بهذا يجتذب انتباههم ليجد طريقًا ينفذ به إلى قلوبهم.

سليمان الحكيم كابن أطاع والديه، الآن يعلم أولاده لا بالوصايا فحسب، وإنما أيضًا بحياته كمثالٍ لهم. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

V   الأب البار يربي (أبناءه) حسنًا عندما يكون مجتهدًا في تعليم الآخرين في تناغم مع سلوكه الحسن، حتى لا يخجل سامعًا المعارضة: "فأنت إذًا الذي تُعلم غيرك ألست تُعلم نفسك؟!" (رو21:2)، بل بالأحرى يكون كالعبد الصالح الذي يخلص نفسه ويقتني الغير. عندما تصير له النعمة التي تقبلها مضاعفة، إذ يسمع: "نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير" (مت21:25)[113].

البابا أثناسيوس الرسولي

يُعلن الحكيم أنه يقدم لهم تعليمًا صالحًا وشريعة، وكما يقول القديس هيبوليتوس: [يليق بنا أن نلاحظ أنه يدعو الشريعة عطية صالحة، وذلك بالنسبة للإنسان الذي يأخذ العطايا في حضنه باستقامة.]

أما هذا التعليم الصالح فيتحقق بأمرين: "الاستماع إلى تأديب الرب"، كأن التأديب معلم ننصت إليه، و"الإصغاء إلى معرفة الفهم".

"وكان يريني ويقول لي:

ليضبط قلبك كلامي.

احفظ وصاياي فتحيا.

اقتن الحكمة. اقتن الفهم.

لا تنس ولا تعرض عن كلمات فمي" [4-5].

V   بقوله: "فأحيا" لا يطلب طول العمر العادي، إذ يطلب حياة مرضية لله، لذلك يقول: "وأحفظ أقوالك"، لأن حفظ أقوال الله وعمل وصاياه هما العمر الحقيقي وعلة الحياة الأبدية[114].

أنثيموس أسقف أورشليم

V      كلمة "فأحيا" توحي بحركة حياة في المستقبل. فإنني لست أفكر في الحياة الحالية، إذ يقول "سأحيا"، وهذا يتمشى بالتأكيد مع الحياة الحقيقية.

لنسمع القديس بولس وهو يتحدث عن نفسه وعن أمثاله: "حياتنا مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تضيئون أنتم أيضًا معه في المجد" (راجع كو3:3).

لنفهم "سأحيا" أنها تخص المستقبل، وأيضًا "أخبئ كلامك" سيكون ذلك حقيقة ليست في مرآة ولا في لغز[115].

العلامة أوريجينوس

V      إنني لا أشعر بأنني أتمم وصاياك بدون مكافأة؛ أعطنا أجر هذا حياة خالدة سعيدة أعيشها وأحفظ أقوالك[116].

القديس ديديموس الضرير

V   من يقدر أن ينكر أن عطية الحياة هي عمل العظمة الإلهية؟ مكتوب "احيي عبدك". إذن يحيي من هو عبد، أي الإنسان، الذي لم تكن له حياة من قبل، بل تسلمها كعطية له[117].

القديس أمبروسيوس

"لا تتركها فتحفظك،

أحببها فتصونك" [6].

بقوله لا تتركها يشخصن الحكمة، مقدمًا إياها حارسة وصديقة، فإنك إن كنت لا تتركها تبقى هي أمينة في حراستها لك، وإن أحببتها تقوم بحمايتك.

إذ يتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص إلى البتوليين من كلا الجنسين، يسألهم أن يقبلوا مشورة سليمان الحكيم، فيحبوا الحكمة كمعينٍ ورفيقٍ لهم، فإنها هي أيضًا تهب الحب بكونه ثوب العرس الذي بدونه لن يتم زفاف النفس مع السيد المسيح. يرى في الحكمة الإلهي عريسًا للنفس، يشبع أعماقها ويملأها فرحًا.

V   إن كان إنسان ما يقبل نصيحة سليمان ويهتم بالمعينة والرفيقة، أي الحكمة الحقيقية التي قيل عنها: "أحببها فتصونك"، "كرِّمها فتحتضنك" ، بهذا يعد نفسه بطريقة لائقة لمثل هذا الحب، حتى يحتفل مع الضيوف المتبتلين بالعرس مرتديًا ثوبًا بلا دنس. فلا يُطرد عندما يجلس في الاحتفال، لأنه لم يلبس ثوب العرس.

واضح أيضًا أن ما يُقال هنا خاص بالرجال والنساء على قدم المساواة، لكي يتحركوا نحو العرس[118].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"الحكمة هي الرأس (الأساس)،

فاقتنِ الحكمة،

وبكل مقتناك اقتنِ الفهم" [6].

المسيح رأس الكنيسة وأساسها هو الحكمة، من يقتنيه ينعم بالحكمة والفهم، حيث يدرك أسرار الله الفائقة وخطته لخلاصنا.

لنقتنِ الحكمة كأساس لبنيان ملكوت السموات في داخلنا. هي كنزنا الأبدي، ورصيدنا الدائم، وعلة شركة المجد السماوي.

شتان ما بين حكمتنا وفهمنا وبين حكمة الأشرار وفهمهم، فإن حكمتنا تقوم على الإيمان الحي العملي، أما الأشرار فقد يكون لهم الإيمان مع المعرفة النظرية، لكنهم لا يحملون خبرة الاتحاد مع الله في ابنه بالروح القدس، الإيمان العملي الحي، الذي خلاله نمارس بنوتنا الصادقة لله.

إذ يصير السيد المسيح رأسنا، وهو الحكمة الإلهي، يتسلم قيادة حياتنا، فنمارس الحكمة في عبادتنا الكنسية كما في حجرتنا الخاصة، وفي عملنا كما في الطريق، وفي معاملاتنا مع الأحباء كما مع المقاومين، وفي شركتنا مع السمائيين كما مع المؤمنين المجاهدين... يحكم السيد المسيح كل تطلعاتنا ونظراتنا وسلوكنا، حتى أحلامنا! نرى كل شيء من خلاله، ونراه متجليًا أمامنا في كل شيء.

"ارفعها فتُعليك،

تمجدك إذا اعتنقتها" [8-9].

يرى البعض أن كلمة "يرفع" هنا تعني "يقوى". فإن كانت الحكمة هي عطية إلهية مجانية، وهي اقتناء السيد المسيح نفسه حكمة الله، فإنه لا يقطن في قلب متراخٍ أو مستهتر، إنما يُدعِّم سكناه فينا بالجهاد الحيّ والتمتع بالفضائل المقدسة، لنُعانقه لا بكلمات مجردة بل بالحب العملي الحيّ. نرفع الحكمة ونقوِّيها فينا، إذ تحوط بها الفضائل من كل جانب، فترفعنا الحكمة وتقوينا. ترفعنا في عينيْ الله كما في أعين السمائيين والأرضيين، حتى الشياطين تهابنا، إذ نحن مختفون في المسيح، الحكمة الحقيقية.

V   ماذا يعني "ارفعها (قوِّيها)"؟ أي حوِّط حولها بالأفكار المقدسة، فإنك محتاج إلى دفاع قوي، حيث توجد أشياء كثيرة معرضة للخطر مثل ممتلكات. لكن إن كان في سلطانك أن ترفعها، وإن كان في مقدورك أن تمارس فضائل تكرم معرفة الله، فإن هذه تصير حصونًا لها. كمثال لذلك من يحفظ ممارسة (الفضيلة) وحب الدراسة وبقية سلسلة الفضائل يكرم الحكمة، أما المكافأة فهي أن تُكرم أنت بالتصاقك بها، واحتضانك لها في بهاء السماء[119].

القديس هيبوليتس

V   كانت الفلسفة تهيئةً لإعداد الطريق لمن يصير كاملاً في المسيح. يقول سليمان: "ارفعها فتعليك، تمجدك إذا اعتنقتها. تعطي رأسك إكليل نعمة، تاج جمال تمنحك" [8-9]. عندما تُقوى الحكمة بثوب الفلسفة وباستخدام حسن، تحفظها من هجوم السوفسطائيين[120].

القديس إكليمنضس السكندري

"تُعطي رأسك إكليل نعمة،

تاج جمال تمنحك" [9].

تُقيم الحكمة من المؤمن أميرًا أو ملكًا يحمل على رأسه تاج نعمة وشركة مجد، فيترنم قائلاً: "جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه" (رؤ8:1)، أو يُقيم من النفس ملكة مُتوَّجة بالمجد والجمال السماوي الفائق.

2. الحكمة وحياة الاستقامة

يتحدث سليمان الحكيم عن طريق الحكمة الإيجابي، قائلاً:

"اسمع يا ابني واقبل أقوالي،

فتكثر سنو حياتك" [10].

الاستماع إلى المشورة المقدسة هو بداية الطريق الإيجابي للحكمة، حيث بروح الاتضاع يطيع المؤمن، سالكًا في الوصية. أما ثمرة هذا الطريق فهو "كثرة سني الحياة"، أو طول العمر. هذا مبدأ عام أو ثمرة عامة، لا يمكن تطبيقها بطريقة حرفية على جميع المؤمنين، إذ استشهد بعض الأطفال والشبان في مقتبل عمرهم، لكنهم لم يموتوا، إذ لازالوا في الفردوس يمارسون العبادة ويشفعون من أجل خلاص العالم. فالحديث هنا صادق تمامًا، إن أُخذ بالمفهوم الروحي.

هذا ومن الجانب الحرفي فإننا نعلم أن الشرور بصفة عامة، خاصة الغضب والزنا وغيرهما يؤثران على صحة الإنسان الجسدية والنفسية بجانب الروحية، مما يفقده سلامه الداخلي، ويجعله عرضة لأمراض كثيرة. حتى إن امتدت حياته على الأرض لكنها تُحسب كلا شيء. أما الحكمة فينبع عنها التناغم بين الجسد والنفس والروح، فيسلك الإنسان باعتدال وبروح التوازن، مما يهبه مقاومة ضد كثير من الأمراض. الإيمان الحيّ السليم والعملي سيد قوي لا للروح وحدها بل وللجسد كما للجانب النفسي.

"أريتك طريق الحكمة،

هديتك سبل الاستقامة [11].

في أبوة حانية يتقدم سليمان إلى سامعيه كمعلمٍ وهادٍ، يكشف عن أعين تلاميذه الداخلية فيروا طريق الحق، ويمسك بأيديهم ليُهديهم إلى سبل الاستقامة. وهو في هذا يحمل ظلاً لعمل السيد المسيح الذي يحلو لآباء الإسكندرية أن يدعوه "المعلم" أو "المدرب"، وقد سجل لنا القديس إكليمنضس السكندري كتابًا في هذا الأمر دعاه "المدرب Paedagogos"، فيه أظهر كيف يحتاج العالم كله إلى السيد المسيح كمعلم وطبيب، وأنه يقود مؤمنيه في طريق الكمال حتى يحملوا صورته فيهم. علم البشرية بتجسده وحلوله في وسطهم وصلبه كي يتعرفوا عليه ويقتنوه فيجدد طبيعتهم بروحه القدوس.

أورد الكتاب عينات مختلفة من المعلمين، منهم:

1. موسى النبي: أول قائد لشعب الله الذي علم شعب الله الشريعة الإلهية، كما سأل الآباء والأمهات أن يُعلموا أولادهم (تث5:4). فالقائد الحيّ يخلق قادة أحياء، وكل جيل يطلب من الجيل التالي أن يقود من يأتي بعده.

2. بصلئيل وأهوليب: صانعان ماهران موهوبان، دُعيا ليُعلما الآخرين صنع الخيمة (خر30:35-35)، فالقائد الماهر هو من يدرب الآخرين ليصيروا ماهرين وعاملين معه.

3. صموئيل النبي: آخر قاضي لشعب إسرائيل قبل إقامة النظام الملكي، هذا حسب أن التراخي في الصلاة وتعليم الشعب هو خطية موجهة ضد الله نفسه، إذ يقول: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب، فأكف عن الصلاة من أجلكم، بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1صم23:12).

4. داود: لم يستطع أن يبني الهيكل، لكنه أعد ابنه سليمان ليبني الهيكل ويُقيم أثاثاته (1أي9:28-21). فالمعلم أو القائد هو الذي يُسر بنجاح تلاميذه ونموهم أكثر منه.

5. سليمان: عُرف بالحكمة التي نالها هبة من الله، استخدمها ليُعلم شعبه أن يكونوا حكماء في كل شيء.

6. عزرا: كاتب وكاهن التزم ليس فقط بحفظ الناموس، بل وأن يُعلمه للآخرين (عز10:7).

7. برنابا: أحد المعلمين من بين مؤمني إنطاكية (أع1:13)، كان له أثره الفعّال على شاول الطرسوسي بعد قبوله الإيمان (أع26:9-30).

8. غمّالائيل: حاخام يهودي مشهور، كان معلمًا لشاول الطرسوسي في صباه، كان له أثره عليه في السلوك حسب الناموس حرفيًا، حتى التقى بالسيد المسيح وأدرك الحاجة إلى نظرة جديدة روحية نحو الناموس.

9. بولس: ربما أكثر معلمي الكنيسة الأولى فاعلية لسبب مواهبه الفذّة. علّم في العالم الروماني وواجه الأفكار الفلسفية، خاصة اليونانية.

10. بريسكلا وأكيلا: أسرة حوّلت بيتها إلى كنيسة، علّمت شابًا بليغًا موهوبًا يُدعى أبُلُّوس طريق الرب (أع20:18).

11. أبُلُّوس: معلّم له تأثيره القوي، إسكندري، تعاليمه مهّدت الطريق لقبول الإنجيل في أفسس (أع24:18-26).

12. تيموثاوس: شاب هداه القديس بولس إلى المسيحية، صار أسقفًا (1تي3:1؛ 2تي2:4).

13. تيطس: شاب آخر هداه أيضا القديس بولس إلى المسيحية وصار أسقفًا على الكنيسة في كريت (تي1:2-15).

"إذا سرت فلا تُضيق خطواتك،

وإذا سعيت (جريت) فلا تعثر" [12].

إذ يحمل المؤمن الحكمة فيه يسلك في حياته اليومية بروح الوضوح مع الاستقامة وبغير خوف من المستقبل. لذا نجده ليس فقط في عبادته، وإنما في عمله اليومي أيضًا، يسير بخطوات واسعة يعمل بلا توقف، يجري بفرحٍ مستظلاً بعناية الله الفائقة.

السير بخطوات متسعة والجري بغير عثرة يحملان السلوك المستقيم حيث لا يعرف المؤمن الخبث والخداع، ولا يُفسد وقته ولا عمله في الطرق الملتوية.

"تمسك بالأدب لا ترخه،

احفظه فإنه حياتك" [13].

يُقصد بالأدب ليس السلوك الحسن فحسب، أو النُبل في التعامل مع الغير، بل الالتصاق بالرب نفسه. فما يقوله سليمان الحكيم هنا يكرره في سفر النشيد على لسان العروس التي أمسكت بعريسها السماوي ولم تُرخه حتى تدخل به إلى أعماق نفسها وتتحد به (نش4:3).

3. التحفظ من الأشرار والشر

بعد الحديث عن الجانب الإيجابي لطريق الحكمة يُحدثنا الحكيم عن الجانب السلبي، وهو التحفظ من الأشرار والشر.

ربان السفينة الحكيم ليس له إلمام كامل بكل صخور المحيط والشُعب والمناطق الخطرة، لكنه يدرس بكل دقة الطريق المستقيم، ويعرف اتجاهاته، ويدرك التفاصيل الخاصة به، لذا يسير وهو مطمئن. هكذا يحيد إنسان الله عن طرق الأشرار الوعرة، ولا يفسد وقته بالانشغال بها، إنما ينشغل بطريق الحق، ويعرف ملامحه وكل تفاصيله وهو يسير فيه وهو مطمئن.

"لا تدخل في سبيل الأشرار،

ولا تسير في طريق الأثمة.

تنكَّب عنه (تجنبه).

لا تمر به. حدْ عنه وأُعبر" [14-15].

لنهرب من الالتصاق بالأشرار في سلوكهم الآثم. لنتجنب طرقهم، فلا نجاملهم على حساب خلاصنا، بل لتكن نفوسنا جادة في إغلاق كل باب يدخل بنا إلى الخطية. لا نمر مع الأشرار في طريقهم مجاملة لهم، أو رغبة في إشباع شهوات جسدية أو لنوال مكاسب مادية أو معنوية. إن لاحظنا أننا قد اقتربنا إليه فلنعطه ظهرنا ونرجع عنه ملتصقين بالرب. لنعبر عنه سريعًا حتى لا نسقط في الفخاخ.

يرى القديس هيبوليتس إن الحكيم ينصحنا بالابتعاد عن طريق الهراطقة الذين في شرهم يفسدون التعاليم، كما عن المنحرفين في سلوكهم هؤلاء الذين يدعوهم بالأثمة.

V      الهراطقة هم "الأشرار"، والعصاة على الناموس هم الأثمة؛ يأمرنا أن نبتعد عن طرقهم التي هي أعمالهم[121].

القديس هيبوليتس

لما كان طريق الهراطقة برَّاقًا بفلسفات باطلة، وأيضًا طريق الأثمة مغريًا بملذاته الجسدية ومكاسبه المادية والمعنوية، لهذا بقوة لا يطلب منا الحكيم أن نحتفظ بمسافة ما بعيدًا عن هذه الطرق، بل نعطيها ظهورنا تمامًا. فطريق برّ المسيح هو نور، بينما طريق الشر والإثم ظلمة؛ وليست هناك شركة بين النور والظلمة، وبين البرّ والفساد، وبين الحق والباطل.

إننا في حاجة إلى قائد يُدير حياتنا في اتجاه مضاد للشر، هو الروح القدس، روح المسيح القادر أن ينطلق بنا إلى حيث المسيح جالس!

يكمل الحكيم حديثه عن الأشرار قائلاً:

"لأنهم لا ينامون إن لم يفعلوا سوءًا،

ويُنزع نومهم إن لم يُسقِطوا أحدًا" [16].

لا يستريح الهراطقة وأيضًا الأثمة حتى يقتنصوا ما استطاعوا من النفوس في حبائل الهرطقات أو شباك الفساد. يقضون ليالي عمرهم بلا نوم لكي يدفعوا كل إنسان ما استطاعوا نحو طريقهم.

"لأنهم يطعمون خبز الشر،

ويشربون خمر الظلم" [17].

طعامهم هو من الخبز المسروق، وشرابهم هو خمر العنف. سِمتان تُلازمان الأشرار: السرقة أو عدم الأمانة والعنف أو الظلم. هنا لا يعني بالسرقة في مفهومها الضيق، فقد يختلس الشرير مجد الله أو يسلب الحق بتشويه صورته. أما عن الظلم فيُقدمونه أحيانًا خلال كلمات معسولة مملوءة رقة ولطفًا من الظاهر.

"أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد ويُنير إلى النهار الكامل،

أما طريق الأشرار فكالظلام،

لا يعلمون ما يعثرون به" [18-19].

الطريق المستقيم متميز عن الطريق الخاطئ. الطريق الأول يقود إلى مدينة الله العليا، حيث يوجد حمل الله الذي ينيرها، لذا فالطريق بهي ومشرق يحمل قبسات من المجد السماوي ينير بها اذهان السالكين فيه، فيقولون: "لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم" (عد10:23). أما طريق الأشرار فيحمل سمات نهايته ألا وهو مملكة الظلمة.

جاءت كلمة "سبيل" في الترجمة السبعينية بالجمع: "سبل الصديقين". فإن كان الحق هو طريق واحد، هو شخص السيد المسيح، فإنه يجتذب المؤمنين إليه بطرق كثيرة. حقًا يلزم للكل أن يكون لهم الإيمان الواحد، لكن لكل واحد موهبته الخاصة. إنسان يلتقي مع الرب بروح العبادة الدائمة، وآخر بروح الحب والعطاء للغير، وثالث بروح الخدمة والكرازة، وكما يقول القديس بولس الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل. ولكنه لكل واحدٍ يُعطي إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحدٍ يُعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد... (1كو4:12-9).

V      طريق الحق واحد، لكن فيه نهر دائم الجريان، تفيض منه مجاري من كل جانب. لذلك يقول الوحي: اسمع يا ابني واقبل أقوالي، ويكون لك طرق كثيرة للحياة. أريتك طريق الحكمة فلا تنضب ينابيعك"، هذه التي تفيض من الأرض ذاتها. إنه لا توجد فقط طرق متنوعة للخلاص يستخدمها الإنسان البار، بل يُضيف (الله) طرقًا أخرى كثيرة للبار، إذ يقول: "سبل الصديقين كنورٍ مشرق" [18][122].

القديس إكليمنضس السكندري

عندما تحدث القديس يوحنا كاسيان عن اقتدائنا بالغير، حذرنا من الارتباط بشخصٍ واحدٍ، إذ لا يوجد شخص كامل فيه كل الفضائل.

يشبّه الحكيم سبل الصديقين بالأرض وقد أشرقت عليها شمس البرّ، وتبقى تبعث أشعتها حتى يتزايد النور ويبلغ إلى القمة. أما طريق الأشرار فتحتجب عنه شمس البرّ، لذا يسوده الظلام، ويتعثر السالكون فيه.

V      يقول: "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت16:5). ليس شيء مليء بالنور مثل الحوار السامي جدًا. وكما يقول أحد الحكماء: "سبل الصديقين كنور مشرق" (أم18:4 LXX)، وهم يشرقون ليس لأنفسهم وحدهم حيث يشعلون لهيب أعمالهم (المنيرة)، وليس فقط لأجل البرّ، وإنما يشرقون أيضًا على أقربائهم[123].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"يا ابني أصغِ إلى كلامي،

أمل أذنك إلى أقوالي.

لا تبرح عن عينيك،

احفظها في وسط قلبك.

لأنها هي حياة للذين يجدونها،

ودواء لكل الجسد" [20-22].

يعود فيسأل الحكيم ابنه أن يُكرس كل أعضاء جسده وطاقاته للتمتع بالحكمة، فيطلب منه أن يميل بأذنيه، وأن يتطلع إليها بعينيه على الدوام، ويدخل بها إلى أعماق قلبه. يسأله أن يخزنها في وسط قلبه لتُحرك كل طاقاته ورغباته واشتياقاته وكلماته وسلوكه.

"فوق كل تحفظ احفظ قلبك،

لأن منه مخارج الحياة" [23].

كما أن الدم الفاسد يدخل إلى القلب ثم يخرج منه نقيًا خلال الشرايين ليُغذي الجسم كله من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، هكذا برّ المسيح يدخل إلى أعماق القلب ليتوجه كل كيان الإنسان الداخلي والخارجي.

ما نحتفظ به في قلبنا يملك على أفكارنا وكلماتنا وسلوكنا، سواء كان ذلك هو برّ المسيح أو الشر.

V   لنحفظ قلوبنا، ولنحفظ أفواهنا، فقد كُتب عن كليهما. في هذا الموضع أمرنا أن نَحذَر من فمنا، وفي موضع آخر قيل لك: "احفظ قلبك بكل اجتهاد". إن كان داود يأخذ حذره أفلا تحذر أنت؟!

إن كان لإشعياء شفتان نجستان، إذ قال: "ويل لي، إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين" (إش5:6)؛ إن كان لنبيّ الرب شفتان نجستان فكيف تكون لنا شفتان طاهرتان؟[124]

القديس أمبروسيوس

V      احفظ قلبك بكل اجتهاد، أي ليس خفية، فإنه يجب إظهار الأفكار والكشف عن الأعمال. استخدم يديك في العمل، وقلبك في التأمل في الصلاة[125].

القديس مار أفرآم السرياني

V   لنكن متحفظين بكل عناية، كما هو مكتوب: "احفظ قلبك بكل سهر". لأن أعداءنا مرعبون وماكرون - هم الأرواح الشريرة - نصارع ضدهم، وكما يقول الرسول لسنا نُصارع ضد لحم ودم، بل ضد الرئاسات، ضد القوات، ضد رؤساء عالم هذه الظلمة، ضد أجناد الشر في السماويات. ما أكثر عددهم في الهواء المحيط بنا! فإنهم ليسوا بعيدين عنّا[126].

البابا أثناسيوس الرسولي

الملك سليمان والعالِمْ هارفي

يرى البعض في حديث سليمان الحكيم "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" [23] أنه سابق للعالم هارفي صاحب الاكتشاف العظيم عن الدورة الدموية التي تتحقق بواسطة القلب؛ هذا الاكتشاف الذي أحدث ثورة في الفكر الطبي. هنا نجد سليمان يتحدث بهدوء وفي يقين، مستخدمًا هذه الحقيقة العلمية للكشف عن حقيقة روحية. فكما أن القلب هو مركز النظام الجسمي، منه تصدر الحياة، هكذا القلب أو الإنسان الداخلي هو مركز الحياة الروحية1.

"انزع عنك التواء الفم،

وأبعد عنك انحراف الشفتين" [24].

ما هو التواء الفم إلا الغضب والإدانة والاندفاع في الكلام، أما انحراف الشفتين فيعني النميمة وتشويه الحقائق.

"لتنظر عيناك إلى قُدامك (باستقامة)،

وأجفانك إلى أمامك مستقيمًا.

مهِّد سبيل رجلك، فتثبت كل طرقك" [25-26].

عمل رجال العهد القديم هو تهيئة الطريق لكي يسلكه المؤمنون بروح القوة والغلبة، بنفوس متشددة بروح الرجاء الحيّ. صرخ القديس يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا ليُهيئ الطريق للرب قائلاً: "أعدوا طريق الرب. اصنعوا سُبله مستقيمة، كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقًا سهلة. ويُبصر كل بشر خلاص الله" (لو4:3-6).

هكذا يشترك سليمان الحكيم  مع بقية رجال العهد القديم في إعداد البشرية لقبول الرب، لتسلك في مسالك مستقيمة بأرجلٍ قويةٍ قادرة على العبور في الطريق الملوكي الذي لا تجد فيها شخصًا أعرج قط! لا يسلكه من يُعرِّج بين الله وبليعال، ولا بين الروحانية الملتهبة والحرفية القاتلة، ولا بين السماء والأرض، بل يُستعلن فيه إنجيل المسيح واهب الفرح السماوي!

V   من أجل التعلم، قيل في سليمان حسنًا: "يا ابني لا تفعل شيئًا بدون مشورة، وعندما يتحقق ذلك لا تندم" (ابن سيراخ 24:32). وأيضًا: "لتكن أجفانك أمام خطواتك" [25]. لأنه بالحق أجفاننا تسير أمام خطواتنا عندما تضبط المشورات الصالحة أعمالنا. لأن من يهمل النظر إلى قدام، فيغلق عينيه عندما يريد أن يتقدم للعمل أثناء رحلته، فإنه لا يتقدم للعمل متطلعًا إلى قدام، لهذا سرعان ما يسقط، إذ لا يحذر بجفنيْ عين المشورة ليُدرك أين يجب أن يضع قدم علمه[127].

الآب غريغوريوس (الكبير)

V   من كانت أفكاره متحررة من الهوى، ينظر باستقامة، ويكون حكمه سليمًا من الانفعال بالمظاهر الخارجية. عندما يقول "لتنظر عيناك باستقامة"، يعني بصيرة النفس[128].

القديس هيبوليتس

أخيرًا يقول الحكيم:

"لا تمل يمنة ولا يسرة،

باعد رجلك عن الشر" [27].

يحذرنا من السير في الطرق الملتوية، والمنحرفة سواء من جهة اليمين أو اليسار، فإن الطريق المستقيم الملوكي هو طريق الاعتدال.

V      يليق بنا حقًا أن نسلك الطريق الملوكي، ولا ننحرف إلى جانبٍ منه سواء كان عن اليمين أو اليسار، وذلك كما يقول سفر الأمثال[129].

القديس غريغوريوس النزينزي

V   يحذرنا سليمان، أحكم إنسان، ألا ننحرف إلى الجانب اليمين أو الجانب اليسار. فلا تتشامخ بسبب فضائلك، ولا تنتفخ من أجل ما بلغته من روحيات، منحرفًا نحو اليمين. ولا تتمايل نحو طريق الرذائل، نحو اليسار، مفتخرًا بما هو عار (في19:3)[130].

القديس هيبوليتس

V      تحتل الفضيلة مركزًا متوسطًا؛ فيُقال إن الشجاعة الناضجة هي الطريق ما بين الجسارة والجبن[131].

القديس يوحنا كاسيان

V   الانحراف نحو اليمين هو أن يخدع الشخص نفسه فيقول إنه بلا خطية. والانحراف نحو اليسار هو أن يحيط الإنسان نفسه بخطاياه ظانًا انه لا يًصاب بضررٍ ولا يُعاقب[132].

القديس أغسطينوس

وفي حديث القديس يوحنا كاسيان عن "كيف يهاجم المجد الباطل الراهب من اليمين ومن الشمال" يقول:

V   من يصبو أن يسير قدمًا في الطريق الملكي "بسلاح البر لليمين ولليسار"، ينبغي وفق تعليم الرسول أن يمر "بمجد وهوان، وبصيت رديء وصيت حسن" (2كو7:6،8).

يسير بعناية لتوجيه مجراه المستقيم وسط أمواج التجارب المتلاطمة. وبحذر يمسك بالدفة، فيهب روح الرب، وينشر عبيره حولنا.

إننا نعلم أننا إذا انحرفنا قليلاً نحو اليمين أو اليسار سرعان ما تتحطم سفينة حياتنا فوق الصخور الوعرة. لذلك يحذرنا سليمان الحكيم قائلاً: "لا تمل يمنة ولا يسرة" (أم27:4). بمعنى لا تمتدح فضائلك أمام نفسك، ولا تزهو بإنجازاتك الروحية من اليمين، ولا تتحول إلى طريق الرذائل نحو الشمال، وتختار شيئًا من هذه الرذائل لنفسك، وباستخدام كلمات الرسول: "فخرًا في خزيك" (في19:3).

لأنه حين لا يستطيع إبليس أن يبعث بالمجد الباطل في إنسانٍ عن طريق حسن هندامه وأناقة لباسه، يحاول اصطناعه عن طريق زيٍّ أشعث ولباسٍ قذرٍ مهملٍ.

وإذا لم يستطع أن يسقط إنسانًا بالفخر يسقطه بالاتضاع.

وإذا لم يستطع أن يدفعه نحو التعالي بنعمة المعرفة والفصاحة، يسحبه إلى أسفل تحت ثقل الصمت.

وإذا صام إنسان علانية يهاجمه كبرياء الزهو والغرور، وإذا أخفاه احتقارًا لما يسفر عنه من فخار وقع فريسة لخطية الكبرياء ذاتها.

ولكي لا تدفعه وصمة المجد الباطل فإنه يتجنب إطالة الصلوات على مرأى من الاخوة، لكن لأنه يمارسها سرًا، دون أن يشعر به أحد لا ينجو من كبرياء الزهو[133].

القديس يوحنا كاسيان

  

 

 


 

من وحي الأمثال 4

احملني في طريق الحكمة

فلا انحرف عنه يمنه أو يسرة

V      لتحملني يا أيها الحكمة الإلهي على ذراعيك،

فانحني بروح الطاعة والاتضاع،

مقتديًا بك يا سيد الكل!

V      احملني، فأنت هو الرأس،

من اقتناك يقتني كل ما هو صالح!

ترفعني من وسط وحل العالم،

فأُمجدك مجاهدًا للبقاء بين يديك!

V      تحتضني لتُقويني،

واحتضنك بأعمال برَّك فيَّ، فأثبت فيك!

تكللني، فأنت هو إكليلي وجمالي وعزّي وقوتي!

V      تسير بي في طريقك الملوكي،

فأجري نحو أحضان أبيك،

واجتذب معي كثيرين يُشاركوني في الطريق!

أُوسِّع خطواتي مسرعًا نحو السماء،

وأجري ولا تتعثر قدماي!

V      أستنير بك يا شمس البرّ،

فيزداد بهاؤك فيَّ!

أبغض الظلمة وأكره طريق الأشرار.

لكن بالحب أصرخ لأجل خلاص الساقطين!

V      بك لا انحرف يمينًا،

إذ أشعر ببرك لا برِّي!

ولا انحرف شمالاً،

إذ أطلب لذة الشركة معك، لا ملذات الخطية.

V      نعم، احملني على ذراعيك،

ارفعني، أنر أعماقي،

فتلتصق نفسي بك وحدك!

<<


الأصحاح الخامس

صوت الزانية

بعد أن تحدث عن طريق الحكمة من الجانبين الإيجابي والسلبي (ص4)، بدأ يحذرنا من حبائل المرأة الزانية، خاصة من صوتها اللَين كالزيت، مخصصًا الأصحاحات 5-7 لهذا التحذير.

كل إنسان يميل بأذنيه الداخليتين إلى صوت المرأة الزانية المخادعة بالعذوبة الظاهرة لا يستطيع أن يميلهما إلى صوت الحكمة. يروي لنا سفر الملوك الأول القصة المُرة لسليمان نفسه وقد مال بأذنيه لابنة فرعون وغيرها من الأجنبيات ففقد ملكوت الله الذي في أعماقه. "وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه... وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه" (1مل1:11-6).

يطالبنا الحكيم أن نتجنب كل ما يمكن أن ينحرف بنا إلى خطية الزنا، أو مجرد الميل إليها بالفكر. فإن أفكار الشهوة قاتلة لكل بذور الفضيلة، والذين يسقطون في حبائلها يصيرون على مقربة من أبواب الهاوية.

1. دعوة لطلب الحكمة 1-2.

2. سمات المرأة المنحلّة  3-14.

3. علاج الانحلال  15-21.

4. نهاية الشر  22-23.

1. دعوة لطلب الحكمة

لكل إنسانٍ أذنان في أعماقه تنصتان إلى صوتٍ أو آخر، فمن لا تنصت أذناه لصوت الحكمة حتمًا تنصتان إلى الأصوات الغريبة مثل صوت المرأة الزانية المخادعة. لهذا قبل أن يحذرنا من هذا الصوت المدمر يقدم لنا الصوت الأبوي الحكيم البنَّاء.

يكرر الحكيم هذه الدعوة لكي يصغي المؤمن ويميل بأذنيه كما بقلبه إلى صوت أبيه الروحي، ويحفظ التدابير وتصير له معرفة تنطق بها شفتاه.

 "يا ابني أصغِ إلى حكمتي.

أمل أذنك إلى فهمي،

لحفظ التدابير،

ولتحفظ شفتاك معرفة" [1-2].

يدعونا للتمتع بالخبرات الحية الروحية التي يعيشها الأب الروحي في الرب.

تحدث القديس يوحنا كاسيان في الكتاب الرابع من "المؤسسات" في الفصلين 9 و10 عن  التزام الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئًا من أفكارهم عن الشيخ المختبر الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. وأن تكون طاعة الرهبان الحديثين كاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادرًا من السماء.

V   من كان له الفكر الصالح وفي اتضاع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلاً من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلاً إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس[134].

الأب بيامون

V   مكتوب: يا ابني أصغِ إلى حكمتي، أمل أذنك إلى تعقلي، لكي تُحفظ أفكارك [1]. فإنه حقًا ليس شيء مثل القلب يحاول الهروب (من الحكمة)، هذا الذي يخذلنا عندما ينزلق بالأفكار الشريرة، لهذا يقول المرتل: "قلبي قد تركني" (مز12:40)[135].

الأب غريغوريوس (الكبير)

يطلب الحكيم من ابنه الروحي أن يصغي كما يسأله أن يميل بأذنه إلى فهمه، فإن كان الإصغاء يشير إلى الرغبة في التعلم والاستعداد للطاعة، فإن ميل الأذن الداخلية يشير إلى العلاقة السرية الخفية، فمن يميل بأذنه ليستمع همسات آخر إنما يعلن عن شوقه للاستماع إلى كلمات خاصة غير معلنة. يقدم الإنسان مع أذنه قلبه وكل مشاعره وأحاسيسه.

استخدم الحكيم تعبير "أمل أذنك إلى فهمي" ربما نقلاً عن والده الذي كان يحلو له أن يناجي الله قائلاً: "أمل أذنك إلىَّ (مز6:17). فقد أمال الآب أذنه إلى البشرية بنزول ابنه إلينا، يتحدث معنا ونحن معه كما في علاقة شخصية سرية، يسمعها القلب وتتجاوب معها النفس بكل طاقاتها الخفية.

لكي لا نستمع إلى صوت المرأة الزانية أو الخطية المخادعة فلنمل أذننا إلى حبيبنا السماوي قائلين: "صوت حبيبي، هوذا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2).

يرى القديس إكليمنضس السكندري في الآية 2 "لحفظ التمييز ولتحفظ شفتاك معرفة" كشفًا عن نظرة المسيحية إلى الثقافة أو المعرفة العلمانية، إذ يقول:

V   إنه ينصحنا أن نستخدم حقًا الثقافة العلمانية، لكن لا نتباطأ ونقضي وقتًا (طويلاً) فيها. فما يُمنح لكل جيل بطريقة نافعة وفي أوقات مناسبة، هو تدريب بدائي لكلمة الرب. فإنه فعلاً إذ سقط البعض في حبائل الوصيفات احتقروا فلسفتهم المرافقة لهم، وشاخوا. سقط البعض خلال الموسيقى، وآخرون الرياضيات، وآخرون النحو، والغالبية البلاغة[136].

القديس إكليمنضس السكندري

استخدم ملاخي النبي تعبير "حفظ الشفتين للمعرفة" قائلاً: "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملا7:2). وكأن فم المؤمن الحيّ يصير أشبه بخزانة للمعرفة تحت حراسة الشفتين الحكيمتين، تخرجان من هذه الكنوز حسب الحاجة وبالقدر اللائق لبنيان النفوس.

2. سمات المرأة المنحلّة

إن كانت شفتا المؤمن المنصت لصوت الحكمة تحفظان معرفة فإن شفتيْ المرأة المنحلة تنساب منهما كلمات معسولة لينة كالزيت.

"لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً،

وحنكها ألين من الزيت.

لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين،

حادة كسيفٍ ذي حدّين" [3-4].

سبق لنا الحديث عن المرأة الأجنبية في هذا السفر، أنها تعني امرأة أممية زانية، لأنه بحسب الشريعة المرأة الإسرائيلية التي تُضبط في الزنا تُرجم. لذلك جاءت بعض الشريرات وسكنّ في وسط إسرائيل. وربما تعني أيضًا الإسرائيلية الساقطة في الزنا سرًا، فإنها تُحسب أجنبية وغريبة لأنها فصلت نفسها عن العهد الإلهي وفقدت انتسابها للشعب المقدس.

كلماتها من الخارج حلوة كالعسل، وفي الداخل مرة للغاية كالأفسنتين؛ من الخارج لينة كالزيت ومن الداخل كسيفٍ قاتلٍ ذي حدّين. يرى البعض أن العاقبة المرة كالافسنتين والسيف ذو الحدين هي الأمراض التناسلية التي يعاني منها كثير من الساقطين في الزنا[137]. ولعل الله سمح بذلك لكي خلال ما يحل بالجسد يدرك الإنسان خطورة ما يحل بالنفس. فإن كان العالم قد اهتز منذ سنوات قليلة بسبب اكتشاف مرض الإيدز الذي غالبًا ما ينتقل خلال العلاقات الجسدية الخاطئة، فإن البشرية ستهتز حينما يفقد الكثيرون أبديتهم ومجدهم السماوي وشركتهم مع السمائيين بسبب الاستعباد للشهوات الجسدية الدنسة.

غالبًا ما يُقصد بالشفتين والفم هنا القبلات المثيرة للشر مع الكلمات العاطفية الغاشة.

يتطلع الإنسان الحكيم إلى المرأة الشريرة بفمها ذي الشفتين الناعمتين كعدوٍ خطيرٍ يقف ممسكًا بسيف ذي حدين. كل شفاه أشبه بحد سيف، أينما توجه السيف يقطع ويدمر... هكذا فم الشريرة.

V   يُقدم أحدهم هذه النصيحة: "لا تُلاحظ جمال المرأة الأجنبية، ولا تلتقي بامرأة تُدمن الزنا. إذ تقطر شفتا الزانية عسلاً، الذي إلى حين يبدو لينًا لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الأفسنتين، وأكثر حدّة من سيفٍ ذي حدّين. فالمرأة الزانية لا تعرف كيف تُحب بل تصطاد؛ قبلاتها مملوءة سمًّا، وفمها مخدِر ضار. إن كان هذا لا يظهر في الحال، فبالأكثر يجب تجنبها، لأنها تحجب هذا التدمير وتختم على هذا الموت ولا تسمح له بالظهور في البداية[138].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V   تبدو ملامح الزانية مقبولة. أنا أعلم ذلك، إذ يقول الكتاب: "شفتا المرأة الأجنبية تقطران عسلاً" [3]. لهذا السبب احمل كل هذا التعب حتى لا تكون لك خبرة هذا العسل، فإنه في الحال يتحول إلى إفسنتين. هكذا يقول أيضًا الكتاب المقدس: "هذا الذي إلى حين ليّن لحنجرتك، لكنه بعد ذلك تجده أكثر مرارة من الإفسنتين، وأشد حِدّة من سيفٍ ذي حدّين" [3،4 LXX][139].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      هكذا حرم الإنسان نفسه من ثمار الأمور الصالحة وملأ (بطنه) بالثمر الذي يجلب دمارًا خلال العصيان[140].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"قدماها تنحدران إلى الموت.

خطواتها تتمسك بالهاوية.

لئلا نتأمل طريق الحياة،

تمايلت خطواتها ولا تشعر" [5-6].

بدأ وصفه للمرأة الزانية بشفتيها اللتين تقطران عسلاً مسمومًا، قد دهنتهما بزيت الخداع لتسحب كل قلب إليها. من يستمع إليها ينزل إلى الأسافل، "قدماها تنحدران إلى الموت"، ولا يرتفع إلى قمم الجبال العالية والتلال الراسخة، فيعجز عن إدراك صوت حبيبه الحقيقي. يفقد قدرته على الترنم قائلاً: "صوت حبيبي. هوذا آتيًا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2). وكما يعلق القديس غريغوريوس النيصي على هذه التسبحة الرائعة فيقول بأن العروس وقد تيقظت بطرق كثيرة بلغت قمة السعادة. لقد تحدث معها عريسها خلال الآباء والأنبياء، خلال الجبال والتلال، والآن قدُم إليها بنفسه ليتحدث معها فمًا لفمٍ ووجهًا لوجهٍ[141].

خطورة المرأة الزانية أن حركاتها تميل يمينًا ويسارًا، أو خطواتها غير ثابتة، لهذا تسحب قلب من يرتبط بها إلى حيث لا يدري. الأمر الأكيد أنها تضم معها من يرتبط بها إلى مملكة الموت.

في البداية تظهر كحيّة تبث سمومها، شهواتها الباطلة تشكل كل كيانها وحركاتها وكلماتها لكي تحدر النفوس إلى الموت آجلاً أو عاجلاً. الالتصاق بها يُسرع بالجسد إلى الدمار ويُسقط النفس في الموت الأبدي. إنها تسحب القلب والفكر من التأمل في طريق الحياة الأبدية، ليس علانية، ولكن بالخداع ومع مرور الزمن ينسى المُلتصق بها يوم الدينونة، فلا تشتهي نفسه أكاليل المجد، ولا تخشى نار جهنم.

العلامات الظاهرة لطريق الخطية هي: العاطفة والحب والعذوبة والتنعم والحياة المترفة والتدليل والميوعة... أسماء براقة جذابة للإنسان، فيظن أن الحياة بدونها لا طعم لها، أما العلامات الخفية الحقيقية لهذا الطريق فهي الموت والهاوية والدمار الأبدي. وإذ وضع الحكيم هذا اليوم العظيم أمام أعين تلاميذه يقول:

"والآن أيها البنون اسمعوا لي،

ولا ترتدّوا عن كلماتي" [8].

V      حسنًا، لقد بدأ يخاف يوم الدينونة.

ليته بالخوف يُصلح حياته، ليسهر ضد أعدائه، أي خطاياه.

ليبدأ ينطلق نحو الحياة الداخلية مرة أخرى ويميت أعضاءه التي على الأرض كقول الرسول[142].

القديس أغسطينوس

"أبعد طريقك عنها،

ولا تقرب إلى باب بيتها" [9].

يُقدم لنا الحكيم هذه النصيحة، وهي الابتعاد عن طريق الخطية وعدم الاقتراب إلى مدخل بيتها، حتى لا تسقط في حبائلها.

V    هذه النصيحة التي يُقدمها لنا كاتب الأمثال: "أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها" [8] هي بخصوص الزانية. أود أن أردد نفس الأمر بالنسبة لمحبة المال. فإنه بالدخول التدريجي إليها تسقط في محيط الجنون ولا تقدر أن تتخلص منها بسهولة. فتكون كمن في عاصفة، تجاهد ما استطعت لكنك لا تبلغ إلى الخلاص منها بسهولة. فإنك بعدما تسقط في هوة الطمع الشريرة تحطم نفسك وكل ما تملكه (أع20:8).

هكذا نصيحتي هي أنه يلزمنا أن نحذر من البداية، ونتجنب الشرور الصغيرة، فإن الشرور العظيمة تصدر عن هذه[143].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"لئلا تُعطي زهرك (كرامتك) لآخرين،

وسنينك للقاسي" [9].

بالمعنى الحرفي يحذر الحكيم الإنسان الذي تخدعه الخطية، خاصةً الزنا، لئلا يكتشف الزوج ما يفعله هذا الساقط مع زوجته الخائنة، فيفقد كرامته أمامه، بل وأمام الجماعة كلها، ويُحكم عليه بالموت، أو يسقط تحت عقوبات تمرر حياته. أما روحيًا، فإن ما هو أخطر أن ما يرتكبه الإنسان تعرفه السماء، فيفقد موضعه هناك، ولا يكون له نصيب بين السمائيين والقديسين. يفقد بهاءه الذي كان يليق به أن يقتنيه بالتقائه الدائم مع الله وشركته مع السمائيين، فيهوي مع إبليس وجنوده إلى المذلة والعار والهوان.

إذ يتهاون الإنسان مع نفسه ويقترب من الخطية أو يقف بجوار بابها، يفقد احترامه لنفسه وينسى كرامته في الرب، ويُسلم بقية عمره لعدو الخير. الخطية، خاصة الزنا، غالبًا ما تبدو رقيقة ولطيفة، لكنها تُخضعنا لسيد عنيف، مستبدٍ، ومحطمة للنفس ولكرامتها الحقيقية.

V   من هم غرباء عنا إلا الأرواح المهلكة التي انفصلت عن جماعة السمائيين؟ وما هي كرامتنا سوى أننا بالرغم من كوننا أجسادًا من الطين خُلقنا على صورة صانعنا ومثاله؟! أو من هو عنيف إلا الملاك المرتد الذي أصاب ذاته بألم الموت خلال الكبرياء ولم يتوقف عن أن يجلب الموت على الجنس البشري مع أنه هو نفسه مفقود؟! لذلك يُعطي كرامته للغرباء ذاك الذي خُلق على صورة الله ومثاله وكرّس أزمنة حياته لملذات الأرواح المُهلكة[144].

الأب غريغوريوس (الكبير)

"لئلا تُشبع الأجانب من قوتك،

وتكون أتعابك في بيت غريب.

فتنوح في أواخرك عند فناء لحمك وجسمك" [10-11].

الشر كالعاصفة العنيفة تهبّ فتُحطم كل شيء. حينما يرتكب الإنسان الخطية، خاصة الزنا، يظن أنه يتمتع بنوعٍ من الشبع عِوض الحرمان، وهو لا يدري أنه يُسلم قوته لعدو الخير، ويُسلم كل ما يملكه إلى بيتٍ غريبٍ، ليس فقط من الجانب الروحي، بل حتى في الأمور المادية، إذ غالبًا ما تنتهي حياته بالمرارة. يفقد الكثير من ممتلكاته ويخسر صحة جسده.

ربما يقصد هنا أنه إذ يُكتشف أمر الزاني يلتزم بالإنفاق على من سقط معها في الزنا، وعلى المولود منها مدى الحياة، بهذا يشبع الأجانب من قوته ويكون تعبه في بيت غريب.

"فتقول: كيف إني أبغضت الأدب،

ورذل قلبي التوبيخ،

ولم اسمع لصوت مرشدي،

ولم أمل أذني إلى مُعلمي.

لولا قليل لكنت في كل شرٍ في وسط الزمرة والجماعة" [12-14].

الأمر ليس كما يظن البعض مجالاً للتسلية، لكنه بحق خطير، فما يزرعه الإنسان إياه يحصد. ولعلنا نرى الآن كيف تئن المجتمعات من ثمار الانحلال الذي بذرته في قلوب الأجيال الجديدة فحصدت مرارة ودمارًا.

حسب الشريعة الموسوية يتعرض الزاني للرجم حتى الموت (تث22:22)، لكن ما هو أخطر يفقد الإنسان الحياة الأبدية.

مع أنه في وسط الزمرة والجماعة، أي في وسط كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد، لكنه حرَم نفسه من سلامها وفرحها، وعزل نفسه بنفسه عنها خلال عدم سماعه لصوت أبيه الروحي، مرشده ومعلمه. رفض التأديب والتوبيخ ففقد عضويته الكنسية حتى وإن حملها في الظاهر.

V   من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قديسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلم تدبيره بيد غيره. فالأول يشبه ربان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراع ولا مجدافٍ في وسط البحر، متكلاً على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتيٍ ماهرٍ أن يركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.

فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسك برأيه في الأمور الروحية مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!!

يوحنا الذهبي الفم

V      الطاعة...هي جحود النفس، موت المشيئة، قبر الهوى، قيامة الاتضاع...

الطاعة موت أعضاء الجسد وهوى النفس، وذلك يكون للمبتدئ بألم، وللمتوسط تارة بألم وأخرى بلا ألم، وأما الكامل فلا يشعر بألم إلا إذا فعل شيئًا بحسب هوى نفسه...

فالذين يريدون أن يحملوا نير المسيح على رقابهم، ويُحّملون أحمالهم على رقاب غيرهم (آبائهم أو مرشديهم الروحيين)، سبيلهم أن يرفضوا أهواءهم الذاتية ويفعلون ما يرون أنه موافق لإرادة الله.

V      بلا مدبر لا تكون السلامة. فمن الطاعة الاتضاع، ومن الاتضاع الشفاء من الآلام. فقد كُتب أنه باتضاعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا.

يوحنا الذهبي الفم

V      يا لسعادة من يميت إرادته ويترك تدابير نفسه لذاك الذي أعطاه اللّه إياه أبًا ومعلمًا، فسيكون مكانه عن يمين يسوع المسيح المصلوب.

V      الذي يطيع أباه مرة ويخالفه مرة، ويطيعه في شئ ويخالفه في آخر، فهو تارة يبنى وأخرى يهدم، فيكون تعبه باطلاً.

V      ذاك الذي يطيع أباه الروحي تارة ويعصاه أخرى، مثله مثل الذي يضع تارة ماء جيدًا لعينيه المريضتين، وأخرى يضع عليهما كلسًا حارًا.

قال الآباء أن التسبيح بالمزامير سلاح، والصلاة حفظ، والدموع النقية غسل، والطاعة الفاضلة شهادة، فبغير اعتراف وطاعة لا يخلص الخطاة.

V   إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلا طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه "الاتكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصية".

V      الطاعة احتجاج أمام اللّه. فان سُئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه "أنت يا سيد أمرت بالطاعة، ,أنا فعلت ما أمرت به" ،فتجاوبه هكذا وتتبرر.

إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكير فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبرو هذه السفينة والساهرون من أجله. لعمري أنه ليس بالأمر الهين بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه!! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.

 القديس يوحنا الدرجي

3. علاج الانحلال

"أشرب مياهًا من جُبّك،

ومياهًا جارية من بئرك" [15].

قديمًا كان أصحاب البيوت والحقول يعتزون بالآبار التي يشقونها والجُب الذي يحفرونه كأشياء خاصة وثمينة للغاية (2مل31:18؛ إر6:38).

هنا يشير إلى الأمانة في الحياة الزوجية، حيث يرتبط الزوجان معًا في الرب، فيشرب كل منهما من جبّه، حيث يرى مياه الحب في قلب الطرف الآخر، حاسبًا إياها جُبُّه وبئرُه العميق وينبوعه.

يقدم الحكيم هنا نظرة سامية ومقدسة للحب الزيجي، في وقت كان فيه الحديث عن العلاقات الجسدية بين الزوجين يُعتبر أمرًا مخجلاً ومشينًا. هنا يعلن أن الزواج يقدسه الله، فيشعر كل من الزوجين بتقديره للآخر وتقديس المشاعر العاطفية، وحتى جسده وجسد الطرف الآخر. يحدث الرسول بطرس الأزواج، قائلاً: "معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضًا معكم نعمة الحياة لكي لا تُعاق صلواتكم" (1بط7:3).

من يطلب العاطفة أو الحب الشهواني أو يُسلم جسده لآخر غير (زوجته أو زوجها) إنما يفيض بينبوعه إلى الخارج، ويُبدد مياهه في الشوارع، يفقد ما له حيث يُسلم مياه حبه لأجنبي.

يلاحظ أن كلمة "بئر" أو "جب" في العبرية بصيغة المفرد، كأن سليمان الحكيم الذي لظروف سياسية سقط في تعدد الزوجات يوضح هنا ارتباط الشخص بزوجة واحدة، التي يتطلع إليها كينبوعه الواحد، كما تتطلع هي إلى زوجها ينبوعها الواحد... الله خلق حواء وحدها لآدم، ويكون هو لها.

V      يقول إشعياء "أيها العطاش هلمّوا إلى المياه" (إش1:55). ويحثنا سليمان: "اشرب مياهًا من آنيتك"...

أفلاطون الفيلسوف الذي تعلّم من العبرانيين يأمر الأزواج ألا يشربوا أو يأخذوا ماءً من آخرين، بل يحفروا أولاً في أرضهم (الارتباط بالزوجة وحدها) التي يُقال عنها أنها أرض بكر[145].

القديس اكليمنضس السكندري

V   إن تطلعت في غير طهارة مشتهيًا زوجة قريبك، يكون نصيبك مع الزناة... دعْ ينبوعك لك واشرب ماء من بئرك. لتكن ينابيعك لك وحدك ولا تدع آخر يشرب معك. اطلب طهارة جسدك كما تطلب ذلك من الطرف الآخر. فإنك كما لا تريد زوجة صباك أن تتنجس مع رجلٍ آخر، لا تتنجس أنت مع امرأة أخرى زوجة رجل آخر[146].

مار أفرآم السرياني

V   ليكن ينبوع مياهك (زوجتك) لك وحدك وليس لأجانب معك عندئذ لا تهتم بنهرٍ غريب (سيدة أخرى) ولا أن تبهج الآخريات أكثر من زوجتك. لئلا إن حُملت إلى موضع آخر، تمارس شريعة النجاسة مع الطرف الآخر أيضًا[147].

القديس غريغوريوس النزينزي

والينبوع الداخلي هو فيض الحب الإلهي الذي يفجره الروح القدس فينا.

V      حسنة إذن هذه المياه، التي هي نعمة الروح.

من يهبني هذا الينبوع لصدري؟

لينبع في داخلي، ليفض ذاك الذي يهب حياة أبدية عليّ.

ليفض هذا  الينبوع عليّ وليس خارجًا عني. إذ يقول الحكمة: "اشرب مياهًا من جُبكّ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الشوارع".

كيف احتفظ بهذا الماء لكي لا يفيض وينحدر بعيدًا؟

كيف احتفظ بالإناء  حتى لا يصيبه شق الخطية، فتتسلل منه مياه الحياة الأبدية؟

علمنا أيها الرب! علمنا كما علمت تلاميذك، قائلاً: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون" (مت19:6)[148].

القديس أمبروسيوس

إن كان الحكيم يتحدث هنا عن نقاوة المتزوجين، فإن حديثه أيضًا ينطبق على نقاوة التعليم. فالمعلم الذي يكرز بما يقوله الآخرون دون أن يختبره في حياته العملية، لا يشرب من مياه جُبّه، ولا يتمتع بمياه بئره. يليق بنا أن نشرب من ينابيع قلوبنا الداخلية حيث يفيض الروح القدس بمياهه فيها فنرتوي ونفيض على الغير.

V      افتح رواق قلبك لكلمة الله الذي يقول لك: "افتح فاك وأنا أملأه!" [149]

القديس أمبروسيوس

V      كل الذين لا يحبون الله غرباء وأضداد للمسيح. وبالرغم من حضورهم إلى الكنائس لا يُمكن إحصائهم بين أولاد الله، ولا ينتمي ينبوع الحياة إليهم.

إن يعتمد الإنسان هذا ممكن حتى بالنسبة للشرير، أن يتنبأ الإنسان هذا ممكن للشرير! [150]

القديس أغسطينوس

"لا تفض ينابيعك إلى الخارج،

سواقي مياه في الشوارع.

لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك" [16-17].

ماذا يعني بالذي يفيض بمياهه إلى الخارج، ويلقي بمياه السواقي في الشوارع؟ إنه ذاك الغبي الذي لا يبالي بقيمة المياه في المناطق النائية، فيبددها برشها في الشوارع.

يرى البعض هنا صورة بعض الرجال في العصور القديمة الذين لم يقدسوا الحياة الأسرية، فلم يكتفي الرجل بزوجة واحدة ليهتم بها مع أبنائهما، بل كل ما كان يشغله إشباع شهواته مع أكثر من زوجة، وإرضائهن جميعهن بأن يكون لهن أطفال منه... حتى أنه أحيانًا لا يعرف أسماء أبنائه من كثرة عددهم، وبالتالي لا يقدم لهم روح الأبوة ويهتم بتربيتهم وخلاصهم[151].

ربما يقصد أن من يشرب من الينبوع الخارجي أي من غير زوجته (أو رجلها) إنما يدفع الطرف الآخر أن يسلم نفسه للزنا. بينما يشرب الرجل من ينبوع ليس له، يفقد ينبوعه (زوجته) التي تسلم عواطفها وربما جسدها لغيره. بهذا يخطئ في حق نفسه وفي حق شريكة حياته.

V       عندما ينحرف أي شخص بطاقة أفكاره إلى الشر يكون قد بدد فيض المياه علي الغرباء.

مادمنا نروي طريق حياتنا الذي تنتشر فيه الأشواك بمياه الأفكار الشريرة تجف النباتات الصالحة وتنتهي، لأن جذورها لا تنتعش برطوبة الأفكار الصالحة[152].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

"ليكن ينبوعك مباركًا،

وافرح بامرأة شبابك" [18].

"الظبية المحبوبة والوعلة الزهية،

ليُروِك ثدياها في كل وقت،

وبمحبتها اسكر دائمًا" [19].

V    كلمة الله حيّ، والنفس التي تستقبله حيَّة. هذا النوع من الماء يفيض من الله، إذ يقول الينبوع نفسه: "لأني خرجت من قِبَل الله" (يو42:8). لدي العروس فيض من الماء في داخل بئر نفسها، فتصير خزانة لهذا الماء الحيّ الذي يفيض من لبنان (نش15:4) [153].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

ليسلك الزوجان بروح البساطة مع الحب، فكما يشبع الرضيع من ثديي أمه، هكذا يشبع الزوجان من حبهما المشترك.

تشبيه الزوجة بالظبية المحبوبة والوعلة المبتهجة إنما يُشير إلى نقاوة الحب وسرعة التجاوب بينهما. فالظبية ترمز إلى طهارة الجسد، والوعلة المبتهجة إلى سرعة الحركة.

استخدم سليمان الحكيم كلمات مشابهة في سفر نشيد الأناشيد (9:2،17؛5:4؛3:7).

"فلم تُفتن يا ابني بأجنبية وتحتضن غريبة" [20].

الفعل هنا في الأصل يعني أن يجول الإنسان أو يضل حتى يصير أسيرًا. هكذا من يسقط في حبائل زانية (أجنبية) أو زوجة رجل آخر. يظن أنها تتعلق به وتحبه، ولا يدري أنها تأسره في حبال الخطية المحطمة للحرية.

"لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله.

الشرير تأخذه آثامه،

وبحبال خطيته يُمسك.

إنه يموت من عدم الأدب،

وبفرط حمقه يتهور" [21-23].

يسألنا النقاوة الداخلية والخارجية، فلا نُفتن بأجنبية خلال نظراتنا الخفية أو الفكر، ولا نحتضن غريبة بسلوكٍ عملي. فإن الله ينظر إلى الإنسان ويعرف أسراره الخفية وتصرفاته الظاهرة. وكما يقول الرسول: "ليس خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" (عب13:4).

من يسقط في الخطية إنما يربط نفسه بحبالها، ويشرب من كأسها، ويأكل ثمارها المهلكة. فالخطية تحمل في داخلها أجرتها، حيث تستعبده وتذله وتهلكه.

V      إنك لا تؤذي أحدًا، إنما كل إنسان يُربط بحبال خطيته. (راجع مز15:7-16،6:57) [154].

القديس أغسطينوس

V   "ليسقطوا في الفخ (الذي نصبوه)... مجازاة خطيرة، ليس عدل أكثر من هذا! لقد أخفوا فخًا لكي لا أعرفه، ليمسك الفخ بهم الذي لا يعرفونه... الشرير يُربط بحبال خطيته، لذلك يُخدع الأشرار بما يريدون أن يخدعوا به الغير. حينئذ يحل بهم الضرر عندما يودون ضرر الغير. لذلك قيل: "لتمسك بهم الشبكة التي أخفوها، وليسقطوا في فخهم".

إنه كمن يعد كأس سم لآخر، وينسى أنه سيشرب هو منه، أو من يحفر حفرة لكي يُسقط عدوه فيها وسط الظلام ناسيًا أنه سيسير هو أولاً في الطريق الذي حفر فيه ويسقط...[155]

القديس أغسطينوس

V      الملذات ذاتها التي نتمتع بها تصير عذابًا لنا، والمباهج والمسرات التي للجسد تتحول إلى معذبين لمن أصدرهم[156].

القديس يوحنا كاسيان

يختم حديثه هنا بنهاية "الأحمق" المتهور الذي لا يضبط نفسه. ويلاحظ أن كلمة "ضبط النفس" وردت 42 مرة في هذا السفر، وكلمة "جاهل" تكررت 40 مرة، فمن لا يضبطون أنفسهم يعيشون بروح الحماقة والجهل، ومن يسلكون بحماقة يفقدون ضبطهم لأنفسهم.

خلاصة هذا الأصحاح أن من ينحني بنفسه أمام الشهوات الجسدية يفقد ضبطه لنفسه، فيعيش في غباوة.

التعليم الإلهي الخاص بالعلاقات الجسدية

يؤكد هذا الأصحاح أن كل علاقة يسقط فيها الشاب قبل زواجه لها أثرها على بيته في المستقبل، فالطهارة تحفظ الإنسان في بيته ليشرب من ينبوعه الصالح. العلاقات الخاطئة تحطم سلام الشاب الداخلي وتفقده قدسية النظرة إلى الحياة الزوجية، خاصة في العلاقات الجسدية، فيشرب مرارة ويفقد عذوبة الحياة الأسرية.


 

من وحي الأمثال 5

لأمل أذني إلى صوتك،

فلا أستعذب الأصوات الغريبة

V      أملت أيها الآب أذنيك إليَّ،

فنزل الكلمة الإلهي ينصت إلى أنات قلبي المرة،

ينصت إليَّ بالحب،

ويُسمعني صوته الفائق بلغة الصليب.

V      هب لي أن تميل أذني إليك،

فأسمع صوتك وأستعذبه،

أشبع بالحكمة والمعرفة والفهم.

فأميّز صوت الغريب وأهرب منه.

V      صوت حبيبي هوذا آتيًا طافرًا على الجبال،

قافزًا على التلال.

عشت عند السفح زمانًا فلم أميّز صوتك،

لتحملني إلى جبال كلمتك،

ولترفعني إلى تلال محبتك،

فأعرف صوتك يا حبيب نفسي!

V      هب لي ألا أتطلع إلى امرأة غريبة!

إني ابنك، والخطية غريبة عني!

هب لي ألا أطلب ملذاتها!

توّد أن تقتلني، تبعث بسمومها في أعماقي!

طرقها متمايلة،

لكنها بالتأكيد تحدر نفسي إلى الموت!

V      شفتاها سيف ذو حدين،

من يقدر أن يخلُص منهما؟!

بقبلاتها تحطم وتدمر بلا رحمة!

تنزل بمجد الإنسان إلى التراب،

وتفقده كل تعب يديه!

وتفني لحمه وجسمه!

V      لأهرب ولا اقترب إلى باب بيتها،

لأهرب إليك أيها الباب الملوكي!

بك أدخل إلى بهجة الخلاص،

بك أتمتع بفرح السماء!

أنت ملجأي وحصن حياتي!

هب لي أن أشرب من ينبوع الروح القدس،

أمل إلى أعماقي فارتوي وألتهب حبًا!

نعم لأرفض كل ينبوع غريب!

ولا أبدد ينبوعي الداخلي!

V      هب لنا قدسية الحياة الزوجية،

فيشبع العروسان من ينابيع حبك،

ويستظل الاثنان تحت جناحي نعمتك!

<<


الأصحاح السادس

التصرفات غير المسئولة

إذ يُحذرنا الحكيم في الأصحاح الخامس من صوت المرأة الزانية التي تحمل عسلاً في فمها ممتزجًا بمرارة مع سُمٍ مميتٍ، موضحًا أن الإنسان إنما يسقط في حبائل شره، ويشرب من ذات الكأس التي يملأها، الآن يقدم أربعة أمثلة للتصرفات الخاطئة التي تجلب على الإنسان مرارةً وهلاكًا، وهي:

 التصرفات غير المسؤولة (بلا تقدير سليم).

الكسل.

الخداع.

الدنس.

1. التسرع في ضمان الغير1-5.

2. الكسل والنملة6-11.

3. اللؤم12-15.

4. سبعة أمورٍ مكرهة للرب16-19.

5. الحاجة إلى التعلم20-23.

6. تحذير من الشريرات24-33.

7. الغيرة34-35.

1. التسرع في ضمان الغير (التصرفات غير المسئولة)

"يا ابني إن ضمنت صاحبك،

إن صفَّقت كفَّك لغريب،

إن علَّقت في كلام فمك،

إن أُخذت بكلام فيك،

إذًا فافعل هذا يا ابني ونجِّ نفسك،

إذا صرت في يد صاحبك،

اذهب ترام وألح على صاحبك.

لا تُعطِ عينيك نومًا ولا لأجفانك نُعاسًا،

نجِّ نفسك كالظبي من اليد،

كالعصفور من يدّ الصيَّاد" [1-5].

في الأصحاح السابق يحذر سليمان الحكيم الشاب من الخلط بين الحب الطاهر الذي ينمي الشخصية ويسند النفس والشهوة التي تحطم كيان الإنسان كله: جسدًا ونفسًا وروحًا. هنا يحذر الشاب من المحبة المتسرعة غير الحكيمة، حيث يقوم الإنسان بضمان الغير دون الاهتمام بحساب النفقة. وقد حذر الحكيم من هذا السلوك عدة مرات (15:11؛ 18:17؛ 16:20؛ 26:22؛13:27). فبحسب القضاء اليهودي يتعرض الضامن الذي يعجز عن إيفاء دين من ضمنه لمصادرة ممتلكاته، بل وبيعه عبدًا لحساب الدائن.

كثيرًا ما يتقدم الشاب ضامنًا لغيره بدافع الكبرياء والاعتزاز بذاته وإمكانياته، بغير تروٍ، لهذا يطالبه الحكيم بالاتضاع فيرتمي كما عند قدمي المدين ويسأله أن يوفي ما عليه. إنه لم يطلب منه أن يرتمي عند قدمي الدائن ليعفو أو يؤجل الدين للمدين، بل عند قدمي المدين ليوفي ما عليه، مما يدل أنه يتحدث عن كفالةٍ لتاجرٍ قادرٍ على السداد، وليس لفقيرٍ محتاجٍ إلى القرض للضرورة.

يرى البعض أن ممارسة الضمان قد تطورت وتزايدت بين اليهود في ذلك الحين، فتخصص بعض الشبان الأثرياء في القيام بعمليات الضمان بين أفراد من بني جنسهم وغرباء، هدفهم أخذ أكبر قدر من الربا، فانجرفوا بهذا وراء الطمع، لكن انتهت حياتهم بالإفلاس، بل وبضياعهم تمامًا. فالتحذير هنا ليس ضد العمل الإنساني والكرم في الضمان وإنما ضد المعاملات التجارية الخاطئة.

يُقدم لنا سليمان الحكيم المبادئ التالية في ضمان الغير:

أولاً: ألا تتسرع في ضمان الغير، فإن هذا الضمان وإن كان بكلمة من الفم، فإن الإنسان المؤمن يرتبط بالكلمة التي ينطق بها. هذا التسرع يُحسب فخًا يسقط فيه الإنسان. يقول البعض إن شفتي الإنسان هما فخ يسقط فيه الإنسان بكلماته. لهذا يليق بالمؤمن أن يُكرس طاقاته لضبط اللسان أكثر من بقية الأعضاء، ووضع لجام له. نحتاج إلى عمل الروح القدس الذي يُقدس اللسان.

V      تسيب اللسان هو فخ خطير، يحتاج إلى لجامٍ قويٍ. لذلك قال أحدهم: "شفتا الإنسان فخ قوي يُنصب له، يصطاده بكلمات فمه".

لنضبط هذا العضو أكثر من كل بقية الأعضاء.

لنلجمه، ولنستبعد عنه كلمات العتاب العنيفة والألفاظ الفظة والحمقاء والأسلوب الجارح، وعادة القسم الرديئة[157].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      إكثار الكلام هو عرش للعُجب...

إكثار الكلام دليل عدم المعرفة.

V      صديق الصمت يتقرّب من الله، وإذ يناجيه سرّا يستنير بنوره[158].

القديس يوحنا الدرجي

ثانيًا: إن ضمنت إنسانًا لا تأخذ الأمر بتهاون، لكن يليق بك ألا تنام ولا تستريح، باذلاً كل الجهد لكي يسدد المدين دينه الذي ضمنته، بهذا تحرر نفسك من الالتزام فتكون كالظبي المسرع من يد الصياد، أو كالعصفور الطائر بعيدًا عن الفخ.

ويلاحظ أن كلمتي "يد" و"صياد" في العربية كما في العبرية "sayyad, yad"؛ وأن كلمة "يد" مشتركة في الكلمتين إذ يسقط بجهله أسيرًا في يد الصياد ولا يفلت منها.

يشجع ابن سيراخ المؤمن أن يعامل الإنسان أخاه بالحب مع الحكمة فيقول:

"الرجل الصالح يكفل قريبه، والذي فقد كل حياء يخذله...

الكفالة أهلكت كثيرين من الميسورين، وتقاذفتهم كـأمواج البحر.

ألجأت رجالاً مقتدرين إلى الهجرة ، فتاهوا بين أمم غريبة.

الخاطئ الذي يتهافت على الكفالة سعيًا وراء الكسب يتهافت على دينونته.

ساعد قريبك بقدر طاقتك،

وأحذر على نفسك أن تسقط" (ابن سيراخ 14:29-20).

مرة أخرى نؤكد أن سليمان الحكيم لا يوصي بعدم الضمان، وإنما بالحكمة في التصرف، مهما كان الدافع إليه. يوجد مثل يهودي (ربّاني): "عندما يذهب الأحمق إلى السوق يفرح التجار".

2. الكسل والنملة

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله ينحط بالخطية لينزل حتى تصير الحيوانات والحشرات أفضل منه في أمور كثيرة. فالحيوانات المفترسة كالأسود إذ تجتمع معًا تسند بعضها البعض، ولا يهاجم أحدها الآخر، أما الإنسان فإذ يجتمع بأخيه غالبًا ما تدب بينهما روح الغيرة والحسد مما يدفع أحيانًا إلى ارتكاب جرائم القتل. أيضًا يفقد الإنسان حديثه ونشاطه وحكمته فيحتاج أن يتعلم ذلك من النملة. وكما يقول سليمان الحكيم:

"اذهب إلى النملة أيها الكسلان.

تأمل طرقها وكن حكيمًا.

التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط.

وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها.

إلى متى تنام أيها الكسلان؟

متى تنهض من نومك؟!" (6-9)

يطلب الحكيم من الكسلان أن يذهب إلى النملة لكي يتعلم منها أمورًا كثيرة منها:

ا. بالرغم من عدم وجود قائدٍ أو مدبرٍ عام، لكن النمل يعرف كيف يعمل معًا لصالح الجماعة (team work). لقد سبق النمل الإنسان في العمل المنظم الجماعي، دون صراعٍ على مراكز القُوى أو السلطة.

ب. لا تحتاج النملة إلى قائد لها يُلزمها بالعمل، لكنها تعمل بغريزة داخلية دون ضغط خارجي، بينما كثيرًا ما يعمل الإنسان، لا من أجل أمانته الداخلية لكن خوفًا من الغير، خشية أن يفقد الأجرة أو الكرامة.

ج. يُعدْ النمل طعامه في الربيع والصيف والخريف، لينام ويستريح وقت الشتاء. إنه يعمل مادام وقت عمل ويبقى عاملاً إلى فترات طويلة حتى متى حل الوقت الذي فيه لا يقدر على العمل يجد بجواره ما يأكله. إنه لا يعرف النوم في فترات العمل، بل يجتهد بلا تراخٍ. هكذا يليق بنا أن نعمل مادام الوقت نهار، حتى متى حلّ الليل نستريح.

ليس بين الحشرات من هو مجتهد بحق وعامل باستمرار كالنمل، حتى النحل الذي يجمع الرحيق من الزهور ليس دائم الحركة والعمل كالنمل.

د. لم يذكر سليمان الحكيم اهتمام النمل بصغاره، فإنه يحمل الصغار قبل اكتمال نموه ويخرج به إلى خارج الثقب ويضعه عند المدخل ليتعرض لضوء الشمس وينتفع بها. وإذا ما شعر بأن المطر يحل يحمله إلى داخل الثقب, ويضع حجرًا صغيرًا جدًا حتى لا يتسلل الماء إلى صغاره. حقًا يُحسب النمل مثالاً رائعًا وحيًّا للإنسان في العمل الدائب مع الاهتمام بالصغار.

كان البعض، في العصور الأولى، يخجلون أن يتعلموا على يد امرأة ولو كانت هذه السيدة هي الأم، كما اعترف القديس أغسطينوس قائلاً لله: "كنتَ تُحدثني على فم أمي، لكنني لم أكن أنصت إليك، لأنك كنت تحدثني على فم امرأة". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم متعجبًا ممن يرفضون تعليم بعض النساء كالأمهات، بينما نزل الإنسان إلى المستوى الذي صار فيه محتاجًا أن يتعلم من حشرة صغيرة كالنملة.

V   إن كنتَ تخجل من أن يكون لك امرأة كمعلمٍ لك اهرب من الخطية، عندئذ تستطيع الصعود إلى الحكمة التي يهبها لك الله. مادمت تخطئ فإن الكتاب المقدس يرسل لك ليس فقط امرأة بل وخليقة غير عاقلة وأحيانًا رديئة! حقًا إنه ليس مخجلاً أن يرسلك تلميذًا لنملة وأنت مكرم بالعقل[159].

V   نقول: لاحظ كيف أن كائنًا أقل منك مملوء غيرة وساهر! لذا تقبل من هذه الحشرات (الحيوان) أفضل نصيحة في العمل، وتعجب من ربك ليس لأنه خلق السماء والأرض فقط، ولكنه أيضًا خلق النملة. فمع كونها صغيرة تقدم برهانًا على عظمة حكمة الله. تطلع كيف تسلك النملة بتعقلٍ، وكيف غرس الله في هذا الجسد الصغير رغبة للعمل بلا انقطاع[160]!

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      كن متعقلاً، قلِّد النملة كما يقول الكتاب: "لتُخزن في الصيف لئلا تجوع في الشتاء".

الشتاء هو اليوم الأخير، يوم الدينونة.

الشتاء هو يوم العصيان والمرارة.

اجمع ما سيكون لك في المستقبل وإلا فإنك تهلك لأنك غير متعقلٍ ولا حكيمٍ[161].

القديس أغسطينوس

كاد أن يخصص القديس يوحنا كاسيان مقالاُ كاملاُ عن ضرورة العمل وعدم الكسل حتى بالنسبة للمتوحدين:

V   (الرسول بولس) كطبيبٍ مختبرٍ ماهرٍ يحاول العلاج بإجراء جراحة بسلاح روحي قائلاً: "أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2تس6:3). هكذا يأمرهم أن يتجنبوا أولئك الذين لا يُكرسون وقتًا للعمل، وبترهم كأعضاء من البدن شوّهتها قروح البطالة والفراغ، خشية أن ينتقل مرض التراخي والكسل تدريجيًا إلى الأجزاء السليمة من الجسم، مثل بعض الأمراض المعدية المميتة.

حين يتكلم الرسول عن أولئك الذين لا يعملون بأيديهم، ويأكلون خبزهم في هدوء، يحثنا على تجنبهم. استمع إلى ما يدفعهم به من ضروب الملامة والتوبيخ عند استهلاله. فهو أولاً: يدعوهم "بلا ترتيب"، وأيضًا: "لا يسلكون حسب التعليم". وبعبارة أخرى يصفهم بالعناد لأنهم لا يسلكون وفق توجيهه، وبعدم اللياقة لأنهم لا يلتزمون بالأوقات اللائقة المضبوطة في خروجهم وزياراتهم وأحاديثهم. لأن الشخص غير المرتب يتعرض بالتأكيد لكل هذه الأخطاء.

"وليس حسب التعليم الذي أخذوه منا"، بهذا يوبخهم على أنهم على نحوٍ ما متمردون، ومستهزئون، قد استخفوا بالتعليم الذي أخذوه منه ولم يحرصوا عليه، ولم يتبعوا ما تذكروا أنه قد علمهم به لا باللفظ فحسب بل ومارسه بالفعل أيضًا... "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثَّل بنا" (2تس7:3).

يحشد الرسول كومة هائلة من التقريع واللوم حين يؤكد أنهم لم يراعوا ما لا يزال عالقًا بذاكرتهم. والذين تعلموه ليس فقط بالإرشاد الشفوي، بل تسلموه أيضًا في شخصه كقدوة في العمل لابد أن تُحتذى[162].

القديس يوحنا كاسيان

3. اللؤم

إن كان الكسلان يُدان على كسله وإن كان لا يمارس شرًا، فكم بالأكثر تكون إدانة من يمارس الشر، خاصة اللؤم؟! إذ يعمل الإنسان كل شيء بطريقة متكلفة، مخططًا بمكرٍ ضد الغير؛ مثل هذا الإنسان يفقد براءته باعتزاله طريق الرب فيُدمر نفسه.

يقدم الحكيم سبعة أعمال تتسم بالخداع ، يمارسها الإنسان الأحمق.

"الرجل اللئيم، الرجل الأثيم،

يسعى باعوجاج الفم،

يغمز بعينيه،

يقول برجله،

يُشير بأصابعه.

في قلبه أكاذيب.

يخترع الشر في كل حين.

يزرع خصومات.

لأجل ذلك بغتة تُفاجئه بليته.

في لحظةٍ ينكسر ولا شفاء" [12-15].

جاءت كلمة" اللئيم" في العبرية لتعني حرفيًا "إنسان بليعال Man of Belial " ، أي الإنسان التافه، الذي لا يصلح في عمل شيء، لأن معاملاته مع الكلمات الكاذبة.

يتسم اللئيم بالصفات التالية:

ا. رجل أثيم: جاءت الكلمة العبرية لتعني إنسانًا مرتدًّا، منفصلاً عن الله ومقاومًا له. يستخدم فمه لكي ينحرف بالحق، سالكًا باعوجاج.

ب. يتحدث ليس فقط بلسانه، لكنه يُسخر إن أمكن كل أعضاء جسمه لتُعبِر عمَّا يحمله في داخله من اعوجاج، أو انحراف عن الحق. فمه ينطق باعوجاج، وعيناه تغمزان في سخرية، ورجلاه تتحركان لتتحدثا بما يتفق مع قلبه الفاسد، وأصابعه تُشير نحو ما يود أن يُحققه.

غالبًا ما تُستخدم الأرجل والأصابع في الشرق كوسيلة للتعبير عن أفكارٍ معينة خاصة في وجود أشخاص يريد الإنسان أن يخفي عنهم ما يحدث به غيره، فعوض الحديث باللسان يتحدث بحركات قدميه وأصابعه دون أن يدرك الحاضرون ما يعنيه الشخص. عُرف عن بعض التجار أيضًا أنهم إذ كانوا يدخلون في عقد صفقات في حضور آخرين يجلسون على الأرض ويضعون قطعة من القماش على الفخذين، ويعبّرون عما يتحدثون به خلال حركات أصابعهم. وبنفس الطريقة ينقل البراهمة الأسرار الدينية إلى تلاميذهم وهم يخفون أياديهم في ثنايا ثيابهم، بهذا يعلمون بأصابعهم. كان هذا الأمر معروفًا عند الرومان القدامى، وصفه الكتّاب الكلاسكيين.

يرى البعض أن سمعان بطرس لم يستطع أن يتحدث مع السيد المسيح متسائلاً عمن يسلمه، لذلك أومأ إليه متحدثًا معه بلغة الإشارات، إذ قيل: "فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه" (يو24:13).

اعتادت الفتيات الفاسدات والراقصات أن يستخدمن أقدامهن للتعبير عما يردن أن ينطقن به. يرى البعض أن سليمان الحكيم غالبًا ما قصد هؤلاء الفاسدات عندما تحدث عن الرجل اللئيم الأثيم[163].

ج. في قلبه أكاذيب: إن كانت أعضاء جسمه الظاهرة مُكرسة للشر، فإن سرّ ذلك هو القلب الذي يحمل أكاذيب عِوض الحق.

من يحمل السيد المسيح - الحق ذاته – في قلبه تتقدس كل أعضاء جسمه، ومن يحمل إبليس – الكذاب وأبو الكذابين - تُستخدم كل أعضاء الجسد لممارسة أعماله الشريرة وخداعاته.

V      نقاوة القلب تعني نقاوة العين التي بها نعاين الله، ولا شك يزداد اهتمامنا بنقاوة القلب قدر ما يكون ما نراه بالقلب عظيمًا[164].

القديس أغسطينوس

V   من أجل نقاوة القلب ينبغي أن نفعل كل شيء، ونصبر على كل شيء، ولا نتعلق بأقربائنا وأرضنا (ممتلكاتنا) وكرامتنا (الأرضية) وجاهنا ومباهج العالم وكل أنواع الملذات...

ينبغي أن نصنع كل شيء أو نبحث عن أي شيء من أجل نقاوة القلب. فمن أجلها نطلب التوحد... ومن أجلها نصوم ونسهر ونحتمل الأتعاب والعري والدراسة ونقتني كل الفضائل الأخرى، لكي ما نهيئ قلوبنا ونحفظها من كل السموم الشريرة، وبهذا نصعد إلى كمال المحبة...

فالأمور التي تأتي في المرتبة الثانية في أهميتها كالصوم والسهر والزهد في العالم والتأمل في الكتاب المقدس، هذه يلزمنا أن نفعلها ناظرين إلى الهدف الرئيسي وهو "نقاوة القلب" التي هي "المحبة". فعلينا ألا نفقد هذه الفضيلة الرئيسية بسبب تحقيق فضيلة أخرى.

فإذا لم ننفذ إحدى هذه الفضائل الأخرى لسبب قهري لا يصيبنا أذى، طالما وجدت الفضيلة الرئيسية. فلا يسوغ لنا أن ننفذ عملاً يكون من شأنه أن نفقد هذا الهدف موضوع حديثنا، بل نجاهد من أجله مهما كلفنا الأمر[165].

الأب موسى

د. يخترع الشر بلا انقطاع: فلا ينخدع من إبليس فحسب، وإنما يحمل سمته، فيحث كل من حوله لممارسة أعمال إبليس. ينشغل نهاره وليله، حتى في أحلامه، على ممارسة أعمال أبيه، إبليس.

هـ. يزرع خصومات: يقول الأب غريغوريوس (الكبير) عمَّا يجب أن نقدمه من توجيهات لزارعي الخصومات:

[يوجد اختلاف بين ما يُقدم من نصائح لزارعي الخصومات ولصانعي السلام. فيُنصح زارعو الخصومات أن يُدركوا من هو هذا الذي يتبعونه. قيل عن الزوان الذي زُرع وسط الحنطة الصالحة بأن عدوًا فعل هذا (مت28:13)، أي أنه ملاك لئيم... كما يقول سليمان الحكيم، انه شخص لئيم، إنسان بلا نفع، يسير بفم معوج، ويغمز بعينيه، ويضرب بقدميه، ويتكلم بأصبعه، ويخترع شرورًا بلا انقطاع بقلبٍ فيه أكاذيب، ويزرع خصومات.

نعم ذاك الذي يُريد أن يتحدث عنه هو زارع خصومات. يُدعى أولاً لئيمًا، حيث أنه على منوال الملاك المتكبر، يسقط أولاً في داخله بانحراف فكره عن وجه خالقه، بعد ذلك يزرع الخصومات في الخارج. بحق وصفه أيضًا أنه يغمز بعينيه ويتكلم بأصبعه ويضرب بقدميه. فإن سهر الإنسان الداخلي يحفظ أعضاءه الخارجية مضبوطة في نظامها. فمن يفقد ثبات فكره يسقط أيضًا في الخارج في حركات غير رزينة، وبحركاته الخارجية يظهر أنه لا يحمل جذورًا مستقرة في الداخل. يسمع زارعو الخصومات ما هو مكتوب: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (مت9:5). ومن الجانب الآخر ليُدرك هؤلاء أنه إن كان صانعوا السلام يُدعون أولاد الله، فإن من يُقاومون ذلك (زارعين خصومات) يُدعون حتمًا أبناء إبليس[166].]

حقًا إن الإنسان اللئيم أو المُخادع يزرع الخصومات حتى بين الزوجين، ليُحطم روح الحب والوحدة.

أما نهاية الإنسان اللئيم فهي السقوط في بلايا مفاجئة، ينكسر وليس من شفاءٍ لكسره.

لعلَّه يُشير هنا إلى الإنسان المخادع الذي يصير مخدوعًا، خاصة من خطية الزنا، فيتعرض فجأة للرجم - حسب الشريعة الموسوية - وتنكسر عظامه، وليس من يشفي كسرها، أو من يترفق به وهو في الحفرة تنهال على جسده الحجارة من كثيرين.

4. سبعة أمورٍ مكرهة للرب

تصف العبارات التالية "إنسان بليعال"، وتطابق ما سبق فأعلنه في الآيات 15-12، مؤكدًا أن أخطر الخطايا هي زرع الخصومات بين الأخوة.

"هذه الستة يبغضها الرب، وسبعة هي مكرهة نفسه.

عيون متعالية،

لسان كاذب،

أيد سافكة دمًا بريئًا.

قلب يُنشئ أفكارًا رديئة،

أرجل سريعة الجريان إلى السوء،

شاهد زور تفوه بالأكاذيب،

وزارع خصومات بين اخوة" [16-19].

يتساءل البعض: "إن كان الله محبة، فهل يحمل بغضًا أو كراهية؟" هو حب ، وبحبه يبغض البغض والكراهية، ولا يقبل الشر. ففي سفر الجامعة يوصينا: "للحب وقت وللبغضة وقت" (جا8:3). وفي سفر التثنية قيل: "ولا تقم لك نصبّا. الشيء الذي يبغضه الرب إلهك" (تث22:16). وفي المزامير: "أحببت البرّ وأبغضت الإثم" (مز7:45)، وفي سفر الرؤيا: "ولكن عندك هذا أنك تبغض أعمال النقولاويين التي أبغضها أنا أيضًا" (رؤ6:2). يشبّه البعض أبوة الله المملوءة حبًا بأبٍ يحب طفله الصغير، لكنه إذ يرى حية سامة تود أن تقتله يبغضها ويقتلها. هكذا الله في حبه لنا يبغض الخطية التي تبث سمومها فينا.

 يٌقدم لنا الحكيم قائمة بالأمور التي يبغضها الرب. وهي خطايا تسبب بالأكثر أضرارًا للحياة البشرية، وكأن من يُؤذي أخاه إنما يُسيء إلى الله نفسه الذي يشتهي راحة البشر ويطلب سلامهم ونموهم.

لنتطلع إلى هذه القائمة لا لندين الآخرين، وإنما لنكتشف أخطاءنا نحن فنتوب عنها بروح الاتضاع مع الصلاة والطلبة وتجنب كل باب للشر.

هذه الخطايا هي:

ا. العيون المتعالية: إنها عيون المتكبرين، إذ يتشامخ الإنسان على اخوته عِوض أن يتطلع إليهم بنظرات العطف والحنو والشوق إلى العطاء. هذه هي أول الأمور التي يبغضها الله، وقد سقط الشيطان في هذه الخطية (إش13:14،14). وهو لا يكف عن أن يحث كل إنسانٍ لكي يدعي الألوهية ولا يتكل على الله، ظانًا أنه غير محتاج إليه. لهذا يقول الرب لأيوب: "أنظر إلى كل متعظم وذلّلهُ، ودُس الأشرار في مكانهم" (أي12:40). ويصرخ داود النبي: "يا رب لم يرتفع قلبي، ولم تستعل عيناي، ولم أسلك في العظائم التي هي أعلى مني" (مز1:131). ويقول الله في إشعياء: "إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش2:66).

V   لا يوجد خطأ ما يحطم كل الفضائل ويسلبها، ويعري الإنسان من كل برّ وقداسة، مثل شر الكبرياء، الذي يشبه وباءً خطيرًا يهاجم الإنسان بكليته، ولا يقتنع بإتلاف جزء منه أو عضوٍ واحدٍ، إنما يتلف الجسم كله بتأثيره المميت. يجتهد الكبرياء أن يطرح الإنسان بسقوط مهلك، ويحطم في الحال الذين وصلوا إلى قمة الفضائل.

بالنسبة لأي خطأ آخر يكتفي أن يسبب في الداخل جرحًا في حدودٍ معينة، فإن كان يقاوم بعض الفضائل، لكنه يتجه أساسًا ضد فضيلة واحدة فقط ويهاجمها بصفة خاصة.

لكي أوضح قصدي فإن الشراهة وشهوات البطن والأطباق الشهية (اللذيذة) تحطم فضيلة العفة (ضبط النفس). والجشع والطمع يشينا أو يعيبا الطهارة أو النقاوة. والغضب يقضي على الصبر. لذلك فالإنسان الذي يكون مستعبدًا لإحدى هذه الخطايا تنقصه بعض الفضائل... فالشخص ببساطة يُحرم من واحدة من الفضائل عندما يذعن أو يخضع للرذيلة (أو الإثم) التي تقاومه بإغراءاتها، لكنه يستطيع الحفاظ على فضائله الأخرى. لكن عندما تملك هذه الرذيلة مرة على نفسٍ بائسة، فإنها تشبه بعض الوحوش المفترسة (الكاسرة) التي تهدم القلعة السامية للفضيلة، وتحطم المدينة بالكلية وتهدمها، فتقوم الرذائل على هدم حصون القداسة وإرباكها معًا.

 إن نير العبودية للكبرياء قاسٍ ومؤلم، وبواسطة قساوته الممزِقة يجرد النفس ويقهر كل قوة للفضيلة[167].

القديس يوحنا كاسيان

ب. اللسان الكاذب: لا يقدر أن ينطق بالحق، ولا يحمل لطفًا ورقةُ صادقة نحو الاخوة. هذا هو الأمر الثاني الذي يبغضه الرب. والكذب من سمة عدو الخير إبليس الذي يتسم بالكذب مع الكبرياء،عمله بث هذا الروح بين كل البشر، حتى أن داود النبي صرخ قائلاً: "في حيرتي قلت أن كل الناس كاذبون" (مز11:116)، كما يصرخ قائلاً : "يا رب خلص نفسي من الشفاه الكاذبة واللسان الغاش" (مز2:120).

ج. أيد سافكة دمًا بريئًا: أيضًا يحمل الإنسان روح الغدر والخيانة كيهوذا الخائن. هذا هو الأمر الثالث الذي يبغضه الله، ألا وهو العنف والظلم، وقد دُعي عدو الخير قتالاً منذ البدء.

د. قلب يخترع تخيلات شريرة: الأمر الرابع الذي يبغضه الله هو أفكار الشر التي تصدر عن القلب المتدنس. فإنه يضع أساسات باطلة لتخيلات غير صادقة ويبني عليها الكثير، مُقيمًا بناءً من الأكاذيب يُشوه بها صورة اخوته، ويدفع بهم إلى الظلم.

هـ. أرجل مسرعة الجريان إلى السوء تُعين الإنسان على ارتكاب الإثم بُغية الطمع. إذ يفسد القلب يسحب الجسم كله نحو الشر، وتسرع القدمان نحو ممارسته. وكما يقول إشعياء النبي: "أرجلهم إلى الشر تجري، وتسرع إلى سفك الدماء المزكي، أفكارهم أفكار إثمٍ، في طرقهم اغتصاب وسحق؛ طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل. جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة، كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا" (إش7:59،8).

و. شاهد زور ينطق بالأكاذيب تسبب ظلمًا يَسقط على الأبرياء. للأسف هذه الخطية التي يبغضها الله صارت شائعة اليوم، فما أسهل أن يستأجر أحد شاهد زور ينطق بالكذب.

ز. زارع خصومات بين الاخوة سواء على مستوى الفرد أو الأُسر أو المجتمعات، وأحيانًا بين الدول. إن كان صانعو السلام يُدعون أولاد الله (مت9:5)، فزارعو الخصومات يُدعون أولاد إبليس.

هذه الخطايا السبع التي يبغضها الله أشبه بمرآة ، يتطلع إليها الإنسان فيكتشف ضعفه، عندئذ يسرع نحو الله معترفًا بخطاياه، سائلاً إياه أن يطهره.

5. الحاجة إلى التعلم

تسند الوصية الإلهية المؤمن كي لا يسقط في الخطايا السابقة، لذا يجب عليه أن يحفظ هذه الوصية التي يعلمها إياه والده، ويخزنها في أعماق قلبه ويربطها بكل كيانه. وكما جاء في سفر التثنية:

"لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام، وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، وأكتبها على قوائم بيتك وعلى أبوابك" (تث6:6-9؛ راجع تث18:11-20).

"يا ابني احفظ وصايا أبيك،

ولا تترك شريعة أمك.

اربطها على قلبك دائمًا.

قلِّد بها عُنقك.

إذا ذهبت تهديك،

إذا نمتَ تحرسك،

وإذا استيقظت فهي تُحدثك" [20-22].

لا يتوقف الحكيم عن تذكير تلميذه أن يسمع وصايا أبيه ويتمسك بشريعة أمه (8:1)، حيث يقدمان له كلمة الله أو الوصية الإلهية.

ماذا تقدم له الوصية؟

أ. الشبع الداخلي: يربطها دائمًا على قلبه، فتُشبع كل عواطفه وأحاسيسه، ولا يعاني من الفراغ الداخلي.

ب. الكرامة الحقة: إنها كرامة ومجد له، يُطوِّق بها عنقه علامة ملوكيته وبنوته لله أبيه السماوي. ويكتبها على لوحي قلبه أو يربطها به، فتضبط مركز حبه وعواطفه وأحاسيسه، وتصدر كل أفكاره وكلماته وتصرفاته متناغمة مع الوصية الإلهية.

ج. هدية إلهية: هنا يُشخْصِن الشريعة أو الوصية، حيث يُقدمها كمعلمٍ أو مدربٍ للنفس وحارسٍ لها وصديق، تلازمه الوصية في سيره في طريق الحياة، وتحرسه في نومه، وتحاوره بالحب، فلا يشعر بالعزلة أو الفراغ.

د. حراسة سمائية: لن يذهب المؤمن الحقيقي إلى موضع دون أن يطلب قيادة الوصية الإلهية. ولن يُعطي لعينيه نومًا ما لم يستظل تحت جناحيها. وعندما يستيقظ يدخل معها في حديث حبٍ، خلال الصلاة ودراسة الكتاب المقدس، فيمتلئ كيانه فرحًا وشبعًا. إنه يُعطي بكر يومه - الصباح المبكر - لله، حيث يلتقي معه متحدثاً كابن مع أبيه، ويتمسك بالوعود الإلهية ليتذرع بمراحمه السماوية.

هـ. استنارة داخلية:

"لأن الوصية مصباح،

والشريعة نور،

وتوبيخات الأدب طريق الحياة" [23].

تُنير الوصية أعماقنا فنرى حقيقة أنفسنا، وندرك عوزنا الدائم إلى المخلص. نكتشف أيضًا عمل الثالوث القدوس فينا فنمتلئ رجاءً، كما تنفتح أعيننا على معرفة الإرادة الإلهية وإدراك الأسرار الإلهية. بهذا نتقبل كل تأديب من قبل الرب، ونحسبه نافعًا لأعماقنا، حيث يسحبنا من ملذات الخطايا وإغراءاتها لنسلك طريق الحياة الأبدي، تسحبنا من خداعات الشرير لنقبل الحق الإلهي والطهارة.

6. تحذير من الشريرات

يعود إلى خطية الزنا التي كثيرًا ما تحدث عنها سليمان الحكيم، والتي يدعوها البعض" خطية العصر". والعجيب أن كثيرين يشربون هذه الخطية كالماء، ويحسبونها نوعًا من الحب!

كم من زيجات بين الأحداث أو الكبار قد حطمها طرف ثالث، رجل أو امرأة، دخل ليُفقد الزوجين وحدتهما.

"لحفظك من المرأة الشريرة،

من ملق لسان الأجنبية" [24].

بإدراكنا لحكمة الله وقبولنا تأديباته نُحفظ من لسان المرأة الزانية المعسول والمخادع لنقبل كلمات الله الحازمة والمملوءة بالحق.

تحمل كلمات المرأة الشريرة شهوات ممتزجة سُمًا، أما كلمات الرب فهي الحب المملوء حياة أبدية. لهذا نستمع إلى لسان الرب لا لسان الشريرات.

"لا تشتهين جمالها بقلبك،

ولا تأخذك بهُدبها" [25].

يُقدم لنا سليمان الحكيم خبراته المرة، حيث سقط في حبائل جمال النساء، فانحرف إلى عبادة الأوثان، وشاركهن رجاساتهن.

اهتمام النساء بتجميل عيونهم وأهداب أجفانهن حتى تبدو العيون متسعة وجذَّابة أمر قديم في الشرق.

ليس جمال المرأة ولا اهتمامها بمظهرها هو سرّ سقوط الإنسان، إنما انحراف القلب. بهذا يقول الحكيم: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم23:4). فالخطية تبدأ بالقلب، لهذا يحذرنا: "لا تشتهين جمالها بقلبك".

V   لا تدع شهوة الجمال تغلبك. فإن الكثير من الشباك والفخاخ منصوبة بواسطة الشيطان. التطلع إلى زانية هو فخ منصوب لمن يحبها. (فساد) عيوننا هي شِباك تُنصب لنا، كما هو مكتوب: "لا تُؤخذ بعينيك". لهذا نحن ننصب الشباك لأنفسنا، فنسقط فيها ونتعرقل. إننا نربط أنفسنا بقيود كما هو مكتوب: "لأن كل واحد يُربط بقيود (حبال) خطاياه"[168].

القديس أمبروسيوس

كتب الطوباوي اكليمنضس السكندري في مقاله "عن العذارى":

V   لهذا لا نسمح لأي إنسان أيًّا كان أن يجلس (لفترات طويلة) مع امرأة متزوجة، وبالأكثر ألا يعيش في بيتٍ واحدٍ مع فتاة قدمت حياتها نذرًا، ولا أن ينام حيث تنام هي، ولا يكون مرافقًا على الدوام معها. فإن هذا أمر يكرهه خائفو الرب ويبغضونه[169].

القديس اكليمنضس الروماني

"لأنه بسبب امرأة زانية يفتقر المرء إلى رغيف خبز،

وامرأة رجل آخر تقتنص النفس الكريمة" [26].

جاء في الترجمة السبعينية والفولجاتا والسريانية: "لأن أجرة المرأة الزانية هو رغيف خبز واحد". وكأن الرجل يستأجر المرأة الزانية بثمن بخسٍ وهو رغيف خبز، لكنه لا يُدرك أنها تسحب ثمنًا آخر هو نفسه الثمينة. يظن الإنسان أن الخطية رخيصة جدًا لا تُكلفه شيئًا بينما يفقد حياته الداخلية وخلاصه الأبدي.

"أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!

"أو يمشي إنسان على جمر ولا تكتوي رجلاه؟!

هكذا من يدخل على امرأة صاحبه.

كل من يمسها لا يكون بريئًا" [27-29].

التهاون مع خطية الزنا هو لعب بالنار، فإن شهوته تلتهب نارًا تحرق ثيابه فيصير عاريًا في خزي، وتكوي رجليه فيذوق المرارة ولا يقدر أن يكمل رحلة حياته كما يليق به، وتحرق أيضًا كل شوق للطهارة، فلا يصير بريئًا في أعين الله والناس.

V   لنهرب من (نار الشهوة هذه) بالرغم من أنها تتبعنا، ليس فقط تجري خلفنا، بل وفي داخلنا. لنحذر بكل اجتهاد لئلا ونحن نهرب منها نحملها في داخلنا. فإننا نود بالأكثر أن نهرب فقط، لكن إن لم نُلقٍ بها تمامًا خارج أذهاننا نكون بالأحرى قد أمسكنا بها ولم نتركها.

لنقفز ونعبر منها لئلا يُقال لنا :"اسلكوا في لهيب ناركم التي أوقدتموها" (إش11:50). لأنه كما أن من يأخذ نارًا في حضنه يَحرق ملابسه، هكذا من يسير على جمرٍ متقدٍ بالضرورة تكتوي قدماه، كما هو مكتوب: "أيمشي إنسان على الجمر ولا تكتوي رجلاه؟!" [28] [170].

القديس أمبروسيوس

V         الشهوة الشريرة تشبه لهيبًا ونارًا. هل تحرق النار ثوبًا ولا تحرق شهوة الزنا النفس؟![171]

القديس أغسطينوس

V   إن سقطت العين على شخص فعلى الأقل لا تدع العاطفة الداخلية أن تتبعها. فإن النظر ليس خطية، لكن يجب أن يكون الإنسان حذرًا ألا تكون مصدر خطية.

لتنظر العين الجسدية، ولتُغلق عين القلب، وليبقى اتضاع الذهن.

لنا رب حازم ومتسامح... يقول الرب: "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت28:5). إنه لم يقل: "كل من نظر يرتكب زنا"، بل "من نظر ليشتهيها". إنه يدين الشهوة الداخلية لا النظرة[172].

القديس أمبروسيوس

V   لكي لا تقول: أيّ ضرر في العينين حيث ليس بالضرورة تكون النظرة مفسدة؟! إنه يظهر لكي أن الشهوة هي نار وأن الجسد يشبه ثوبًا. يُمكن للأخير أن يكون فريسة سهلة فالشهوة طاغية. لا يحدث الضرر في الداخل فحسب بل يمتد وينطلق حتى يجد له منفذًا في الخارج. لأن من ينظر إلى امرأة وإن كان يهرب من التجربة، لكنه لا يكون طاهرًا من الشهوة تمامًا.

ولماذا يبقى الإنسان في تعب مادام في قدرته أن يتحاشاه ويتحرر منه؟ انظر ماذا يقول أيوب: "قطعت عهدًا مع عيني ألا أفكر في زوجة آخر". هكذا يعرف خطورة الإفساد. وأيضًا لنفس السبب أقمَع بولس جسده واستعبده. وبطريقة رمزية من  يسمح لفكر غير نقي أن يسكن في قلبه إنما يحتفظ بنار في صدره. ومن يُمارس الخطية بالعمل يسير على جمر ويهلك نفسه[173].

القديس هيبوليتس

إن كان السارق لا يستطيع أن يبرر نفسه أمام القانون حتى إن سرق ليأكل لأنه جائع، فأيّ عذر للزاني الذي يرتكب الخطية فيهلك نفسه؟!

"لا يستخفون بالسارق ولو سرق ليشبع نفسه وهو جوعان.

إن وُجد يرُد سبعة أضعاف ويُعطي كل قنية بيته.

أما الزاني بامرأة فعديم العقل.

المهلك نفسه هو يفعله.

ضربًا وخزيًا يجد، وعاره لا يُمحى" [30-33].

يشفق الناس على الفقير الذي يسرق لكي يأكل، لكن القانون لا يُبرئه، بل يُلزمه برد سبعة أضعاف ما سرقه، وإن لم يكن لديه ما يوفي يُباع كعبدِ (خر1:22-4؛ لا39:25).

V   اللص عاصٍ خطير، لكن الزاني أخطر منه. لأن الأول لسبب مؤسف يسلك هكذا، لكن في نفس الوقت العوز يلزمه بذلك، أما الأخير فلا توجد ضرورة تلزمه إنما جنونه يجعله يندفع إلى هوة الإثم[174].

القديس يوحنا الذهبي الفم

من يرتكب الزنا مع سيدة متزوجة لا يتعرض للخزي فحسب بل وإلى الموت [33]. فعند الرومان إن أُمسك إنسان يرتكب هذا الفعل فمن حق الزوج أن يتمسك بالقانون ويقتله، فيكون الزاني في عارٍ ويفقد حياته.

7. الغيرة

"لأن الغيرة هي حميَّة الرجل فلا يُشفق في يوم الانتقام.

لا ينظر إلى فدية ما،

ولا يرضى ولو أكثرت الرشوة" [24-25].

يتحدث هنا عن غيرة الزوج الذي اغتصب الزاني امرأته، فإنه ينتقم لكرامته وشرفه، ولا يطلب فدية مهما بلغ قدرها بل يطلب قتل الزاني.

 

  


 

من  وحي أمثال 6

لأعمل بروح الحكمة والحب،

فأحيا ملتزمًا بمسئولياتي!

V      لأتمتع بك يا حكمة الله،

فالتزم بروح المسئولية الجادة.

لا يحركني روح الكبرياء،

ولا يحطمني روح اليأس.

لأحب وأعمل،

لكن بروح الحكمة العاملة،

لا بروح الكلمات الجوفاء!

V      أنت العامل مع أبيك،

هب لي بركة العمل.

كان يليق بي أن أكون عاملاً على الدوام،

متشبها بك يا من تجول تصنع خيرًا.

لكن في غباوتي تراضيت وتكاسلت.

فصارت النملة الصغيرة معلمة توبخني!

لأعمل مثلها بروح الجماعة بلا أنانية.

لأعمل فأجمع ما احتاج إليه،

وأحمله معي إلى أبديتي.

لأعمل بروح الحب فهو رصيدي الدائم.

V      لأعمل بنقاوة قلب،

أسلك بالحب بلا لؤمٍ أو خداعٍ.

كل كياني الداخلي وأعضاء جسمي تتحرك بالحب.

تعمل للسلام، ولا تطيق الخصومات.

V      قدس كل حركات جسمي،

هب لي عينين حمامتين،

ولسانًا ينطق بالحق،

ويدين تسرعان في عمل الخير،

ورجلين تسلكان الطريق الملوكي،

وقلبًا يفيض بأفكارٍ إلهيةٍ!

V      هب لي أن أهرب من الشر.

لأهرب من نار الخطية،

فلا تحرق ثوب عرسي الأبدي،

ولا تكوي قدماي!

لتملأ قلبي بالروح الناري،

فيلتهب بنيران الحب،

ولا تقدر نيران الخطية أن تقترب إليّ.

<<


الأصحاح السابع

اهرب من الزانية

تحدث في الأصحاح السابق عن السبع خطايا التي يبغضها الرب، ثم عاد ليتحدث عن خطية الزنا. وفي هذا الأصحاح يكمل حديثه عن هذه الخطية التي تنصب شباكها لتصطاد الشاب، تصوب سهمًا نحو كبده، وتخفي له فخًا لكي تصطاده فتلهو به وتذله.

الآن قبل الحديث عن سقوط شاب في شباك زانية متزوجة يحثنا سليمان الحكيم على التمسك بالوصايا الحكيمة والاهتمام بها كحدقة العين، حيث بها نرى الحق ونتمتع به، فنحمل قوة للهروب من طريق الزانية.

يكشف الحكيم عن طرق الزانية وسلوكها مقدِمًا صورة حيّة لتصرفاتها، حتى يمكن للشاب أن يفلت من شباكها. فإن اختار بمحض إرادته أن يتبعها ويستجيب لخداعها، يتحمل المسئولية كاملة أمام الله وأمام نفسه.

مفتاح هذا الأصحاح هو القول: "لا يدري أنه لنفسه" [23]، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الشر وهو لا يدري أنه يدفع نفسه ثمنًا له .

1. حث على حفظ الوصية1-5.

2. تحذير من حيل الزانية6-20.

3. غباوة الساقط في شباكها 21-23.

4. قتلاها أقوياء24-27.

1. الحث على حفظ الوصية

يدعونا سليمان الحكيم كعادته أن ننصت إلى صوت الوصية وأن نركز عليها، فالوصية الإلهية المقدمة لنا من آبائنا ومرشدينا هي أثمن من كل كنوز الأرض. أما بركاتها فهي الآتي:

أولاً: مصدر حياة

"يا ابني احفظ كلامي،

وأذخر وصاياي عندك."

بقوله:" احفظأذخر وصاياي" يؤكد أنه يلزمنا أن ننشغل بالكتاب المقدس، لا ليُقرأ بسرعة، بل ليُخزن في أعماق القلب، فتصير كلمة الله غذاءً يوميًا للنفس، وتصبح جزءً لا يتجزأ من حياتنا.

"احفظ وصاياي فتحيا" [1،2].

الوصايا الإلهية روح وحياة (يو23:6)، تقيم النفس من الموت لتهبها الحياة الجديدة في المسيح يسوع. تحول الإنسان الجسداني إلى روحاني، لينعم بالجسد الروحاني عوض الحيواني (1كو14:2) ويدخل إلى ملكوت الله الذي لا يرثه لحم ودم (1كو50:15). هذا يتحقق بالوصية  التي تقدم له شخص "الكلمة الإلهي". فالوصية ليست أمرًا لسلوكٍ أخلاقيٍ ممتاز أو نهيًا عن الرذيلة فحسب، لكنها لقاء حيّ مع شخص السيد المسيح، كلمة الله، القائل: "أنا هو الحياة"، و"أنا هو القيامة". بدونه تبقى النفس في قبر الخطية تحمل رائحة الفساد، حتى تسمع الصوت الإلهي: "لعازر هلم خارجًا"، ويأمر الرب تلاميذه (كهنته) أن يحلّوا رباطاتها، فتتمتع النفس بالحياة الجديدة.

إذ نفتح باب القلب للسيد المسيح، كلمة الله واهب الحياة، يسكن فينا، فتهرب الخطية ولا تستطيع البقاء.

الوصية الإنجيلية هي محور حياة كل مسيحي، لهذا عندما تحدث القديس يوحنا كاسيان في كتابة "المؤسسات" عن الحياة الرهبانية في مصر، كحياة مسيحية مثالية، دعا الرهبنة حياة إنجيلية أو مسيحية تدور حول إنجيل السيد المسيح.

يقول الأسقف أغناطيوس بريانشانينوف: [الرهبان القديسون القدامى يدعون الحياة الرهبانية حياة حسب وصايا الإنجيل. يعرف القديس يوحنا الدرجي الراهب هكذا: "الراهب هو ذاك الذي تقوده وصايا الله وحدها، كلمة الله، في كل وقت، وفي كل موضع، وفي كل أمر[175]". الرهبان الخاضعون للقديس باخوميوس الكبير التزموا بحفظ الإنجيل عن ظهر قلب، لكي تكون دومًا أمام عيني الذهن وتُطبع على النفس لكي تتممها بسهولة ونجاح. قال الطوباوي الشيخ صيرافيم: "يلزمنا هكذا أن ندرب أنفسنا أن يسبح ذهننا في شريعة الرب التي تكون قائدًا لحياتنا وضابطًا لها"... الروح القدس يعلم ويقود خدام الله الحقيقيين الذين صاروا له[176]].

ثانيًا: مصدر النور والبصيرة الروحية

"احفظ... شريعتي كحدقة عينك" [2].

إنها البصيرة الداخلية، بها نتطلع لنرى الله في مجده، وندرك السماء بكل طغماتها، وتكون لنا نظرة سليمة نحو البشرية وكل الخليقة كما نحو الجسد والحياة الزمنية. إن تحطمت الوصية نبقى في ظلمة ونفقد الرؤية. إن كانت العين ثمينة جدًا في حياة الإنسان، فإن حدقتها هي أثمن ما يعتز به الإنسان، جاءت كلمة "حدقة" في العبرية لتعني إنسانًا مصغرًا جدًا "mini man"[177]. فيكون النص: "شريعتي كرجلٍ صغير في عينك"[178].عندما يقترب الإنسان ليتطلع في عيني شخص يرى صورته منطبعة عليها. هنا ينصح الوالد ابنه أن يقترب جدًا من الوصية لتنطبع صورة الوصية على عينيه، وتتجلى الوصية فيهما، فيرى كل شيء من خلال الوصية. وقد استخدم نفس التعبير في (تث10:32،مز8:17).

ويرى العلامة أوريجينوس في مناجاة السيد المسيح للنفس المقدسة عروسه: "عيناك حمامتان" (نش2:4) إشارة إلى اقترابها والتصاقها بالروح القدس، فتظهر صورته منطبعة على حدقتي العينين، لترى كل شيء خلال الروح القدس.

بخصوص هذا التعبير قيل: "مقلة العين، وفي وسطها الحدقة، وقد دعيت apple  (تفاحة) لأن شكلها دائري. بسبب قيمتها العظيمة ولأجل الحفاظ الشديد عليها يُغلق الجفنان المحيطان بها تلقائيًا عندما يوجد أقل احتمال للخطر، لذلك صارت رمزًا لما هو ثمين جدًا وفي حرصٍ يجب الحفاظ عليها[179]. هكذا يليق بنا أن نهتم بالوصية ونحوط بها بكل كياننا حتى لا نكسرها فنتعرض للعمى الروحي. إنها تبدو صغيرة جدًا كحدقة العين لكنها ثمينة للغاية بدونها لا نرى أبواب السماء المفتوحة، وفي نفس الوقت يمكن أن يصيبها أضرار بالغة بسهولة.

ثالثًا: سند للعبادة والعمل

"اربطها على أصابعك" [3]

 بهذا كلما رفعت ذراعيك للصلاة تتحدث مع الله خلال وصيته المملوءة بالوعود الإلهية. وإن مددت يديك للعمل تمارس كل شيء من خلالها فيكون عملك مقدسًا. تُربط الوصية حول العنق إشارة إلى سمة الملوكية والكرامة الفائقة التي ننالها خلالها، وتُربط على الأصابع لتسندنا في صلواتنا وسلوكنا العملي.

اعتاد بعض اليهود أن يضعوا بعض نصوص الكتاب المقدس في حافظة من الجلد ويربطونها على جبهتهم أو على أذرعهم أثناء الصلاة. وكانت الحافظة الجلدية تُربط حول الذراع الأيسر بسبعة أربطة، ثم يلف الرباط سبع مرات حول الإصبع الذي في الوسط[180].

ويرى البعض أن ربطها على الأصابع يتحقق بطرق كثيرة، منها نقشها على الخواتم. فكان الملوك والعظماء ينقشون أسماءهم على الخواتم، ومتى وثق الملك في شخصٍ يسلمه خاتمه ليختم به كل أمر ملكي. هكذا عوضًا عن أسمائنا ننقش وصية الله على الأصابع لنختم على أفكارنا وكلماتنا وأعمالنا وصلواتنا بختم الوصية، فتحمل قوة سمائية.

رابعًا: حفظ المشاعر والأحاسيس

"اكتبها على لوح قلبك" [4]

لا يكفي ربط الوصية بالذراع والأصبع إنما يجب ربطها بالقلب. تقيم ملكوت الله في داخلك، فتحفظ وتقدس كل عاطفةٍ وشعورٍ وإحساسٍ، وتصدر كل أعمالك عن قلبٍ نقي وأمين لله. هكذا ترتبط الوصية بكل كياننا الداخلي ولا تكون مجرد زينة خارجية نعتز بها أمام الناس.

خامسًا: دخول في علاقة قربى

"قل للحكمة أنتِ أختي،

وادع الفهم ذا قرابة" [4].

إن كان سفر الأمثال يهتم بسلوك المؤمن اللائق والحكيم في كل جوانب حياته، إلا أنه عبر سطوره يدخل بالمؤمن إلى اللقاء مع "حكمة الله المتجسد"، لكي تقبل النفس الاتحاد به فتشاركه طبيعته، وتمارس الحياة الجديدة المقامة. إنها تنشغل بالعريس الساكن في أعماقها  وتناجيه بروح الحب والفرح. بهذا يتغير سلوكها ليس في ظاهره، وإنما في جذوره الدفينة.

بالحكمة نتأهل للانتماء للعائلة السماوية، فنحسب مسيحنا الأخ البكر وهو الخالق والمخلص والرب القدير والحكيم. إذ تنادي النفس الحكمة: "يا أختي، يا قريبتي"، إنما تحمل نوعًا من الاحترام للحكمة مع القرب الشديد لها، فتدخل معها في قرابة شبه "قرابة الدم"، ويصير لها دالة خاصة لديها.

دعوة الحكمة: "يا أختي" تشير إلى اتحاد زيجي، فتستخدم كلمة الأخ أو الأخت أحيانًا للزوج أو الزوجة (تك2:20،12؛ 7:26؛ نش9:4،10،12؛ 1:5،2). فإن كان الزنا يتقدم للإنسان كامرأة تود أن تتحد معه لتشبع شهواته الجسدية، فالحكمة يتقدم بالحق كعريس للنفس يتحد بها أبديًا، ليشبع كل احتياجاتها على مستوى سماوي مفرح، فلا يعتاز المؤمن إلى شيء! إذ جاء الحكمة متجسدًا اجتمع حوله كثير من الزناة والعشارين الذين وجدوا بحق ما يشبع أعماقهم الداخلية، فتركوا الفساد ليس تغصبًا، ولا في كبتٍ، وإنما بفرح حقيقي لا يُعبر عنه!

شخصية الحكمة هنا لها أهميتها، إذ تمهد للإصحاحين 8،9 حيث يتقدم الحكمة ككائن يدعونا لوليمته الخاصة، التي هي وليمة العرس الأبدي.

سادسًا: تحفظ من خداع الشر

"لتحفظك من المرأة الأجنبية،

من الغريبة الملقة بكلامها" [5].

بعد أن قدم الوصية في عملها الإيجابي حيث تهب النفس الحياة والاستنارة والعبادة الحقَّة والعمل المقدس، وتحفظ المشاعر والأحاسيس وتقدسها، كما تدخل بنا إلى الانتساب إلى السماء، فإنه من الجانب السلبي تحفظنا من خداعات العدو الشرير خاصة خلال كلمات الزانية الملقة. إنها وحدها تقدر أن تحمينا من عار العلاقات الدنسة مع امرأة غريبة شريرة. فإنه لن يحفظها من غباء الزانية إلا السيدة (الحكمة).

2. تحذير من حيل الزانية

إذ ذاق سليمان الحكيم مرارة الزواج بالوثنيات، وزلت قدماه في عبادة آلهتهن الوثنية، لهذا انشغل في هذا السفر بالزوجة الصالحة، فقد ختمه بأروع أنشودة يمتدح فيها الزوجة الصالحة. ولكي يكشف عن أهميتها تحدث في صُلب السفر عن ثلاثة أنواع من الزوجات الشريرات لكي يهيئ لهذه الأنشودة بتقديم السلبيات أولاً. هذه الأنواع الثلاثة المضادة للزوجة الصالحة هي:

V      المرأة الزانية الخائنة (16:2-17؛ 5:7، 10-11؛ 14:22؛ 20:30).

V      المرأة المخاصمة والحردة (9:21،19؛ 24:25؛ 15:27).

V      المرأة الجميلة الشكل بلا حكمة أو تمييز (22:11).

يقدم لنا سليمان الحكيم قصة مأساوية فيها يُعلن عن دور المرأة الزانية وهي تقتنص في فخها شابًا غبيًا. في هذه القصة يظهر الحكيم نفسه كشاهد عيان لحدث شاهده من خلال نافذة بيته، إذ رأى شابًا غبيًا عديم الفهم تصطاده سيدة متزوجة وتغويه على ارتكاب الخطية. ما رآه هو مَثَلٌ من بين أعدادٍ لا حصر لها من الجهال الذين يسقطون كل يوم في خداع الشر.

يقول: "لأني من كوة بيتي، من وراء شباكي تطلعت" [6]. يتحدث الحكيم كشاهد عيان مقدمًا حديثًا عمليًا واقعيًا. فالحكيم نفسه يطلع خفية ليرى المنظر المأسوي للزوجة الخائنة التي تقوم بدور زانية تصطاد البسطاء. ولعله بهذا المنظر يذكرنا بما جاء منحوتًا على قطعٍ من العاج في مناطق كثيرة بفينيقية، ألا وهو الإلهة عشتاروت تتطلع من الشباك[181]. وقد ارتبطت عبادتها بالزنا، حيث كرست كاهنات أنفسهن لهذا العمل في المعابد الوثنية. شتان ما بين الحكيم وهو يتطلع بمرارة ليصرخ ويرشد وينقذ، وبين الإلهة التي تتطلع لتجد لذتها في فساد حياة الناس وهلاكهم الأبدي.

يصف الحكيم الشاب الساقط في حبال هذه الزانية بالآتي:

أولاً: "عديم الفهم" [7]، أي أنه ذو تفكير تافه، ليس للحكمة موضع في أعماقه، ولا يطلبها في شيء من الجدية.

ثانيًا: "عابر في الطريق" [8]، ليس له هدف جاد في حياته، إنما يعبر في الطريق متجولاً في خمول، لا ينشغل بأمرٍ ما هام في حياته. لعل هذه السمة من أخطر السمات أن يكون الإنسان فارغ الفكر والقلب، وبلا عمل كمن يتسكع في الطرق بلا هدف. وكما يقول القديس يوحنا كاسيان: "الذي يعمل يحاربه شيطان واحد، أما الذي لا يعمل فتحاربه كل الشياطين".

ثالثًا: "عابرًا... عند زاويتها، وصاعدًا في طريق بيتها" [8]. لا يحذر السقوط، ولا يهرب من الخطر، مثَله مثل من يقود سيارته في إشارة حمراء.

يمكننا القول بأنه أخطأ الطريق، إذ جذبته شهواته الداخلية نحو مكان الخطية. لا نلوم المرأة الخاطئة قدرما نلوم الشاب الذي ذهب إلى بابها ليلتقي معها فتغويه. الخطية كامنة في قلبه، لذا استجاب لنداء الشر الخارجي.

رابعًا: يسير "في العشاء، في مساء اليوم في حدقة الليل والظلام" [9]. لا يعرف النور، ولا يسلك في النهار، ولا يتمتع بأشعة شمس البرّ. يسير أيضًا خارج دائرة المسيح، حيث ظلمة القلب والفكر. الآية 9 تحوي خمس كلمات عبرية تعني جميعها " الظلمة" لتؤكد أن الزانية لا تدخل بمن تقتنصه إلى نهاية يومه فحسب، بل إلى الظلمة عينها. فإن كانت الزانية قد خضعت لسلطان "رئيس الظلمة" فإنها تجد لذتها في أسر الآخرين معها ليعيش الكل معها في مذلة الظلمة. وقد جاء في الإنجيل بحسب معلمنا يوحنا الحبيب: "أحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو 19:3)، "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو12:8).

يُقدم لنا الحكيم وصفًا دقيقًا لسيدة تُثير شابًا نحو الخطية وقد ألهبتها الشهوة:

أولاً: ترتدي "زي زانية" [10]، لكي تُثير أفكارًا من حولها تميل نحو الشر. إنها متزوجة لكن في جسارة بغير حياءٍ ولا خجلٍ تطلب الشر، فتستخدم كل أساليب العالم للإغراء.

ثانيًا: "خبيثة القلب" [10]، ما تنطق به وما تسلكه غير ما تكمن به في أعماقها. لا تظهر عليها أية علامة من علامات النعمة الإلهية.

ثالثًا: "صخَّابة هي وجامحة" [11]. لا تحمل نعمة الهدوء الداخلي ولا الاتزان في تصرفاتها، بل مملوءة صخبًا وضجيجًا. لا تعرف الراحة الداخلية، مهما قدمت من كلماتٍ معسولة أو بشاشة وجه، فإنها دائمًا في حالة قلقٍ وصخبٍ. وكما يقول إشعياء النبي: "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 22:48؛ 21:57) .أيضًا عنيدة وصلبة الرأي وعنيفة، ولا تعرف ضابطًا لمشاعرها وسلوكها. وكما قيل: "إنه قد جمح إسرائيل كبقرة جامحة" (هو16:4).

رابعًا: "في بيتها لا تستقر قدماها" [11]، إذ تجد لذتها في الشوارع والميادين العامة لا في بيتها، على خلاف ما ينصح به الرسول بولس الحدثات، قائلاً: "أن يكُنَّ محبات لرجالهن ويحببن أولادهن، متعقلات، عفيفات، ملازمات بيوتهن، صالحات، خاضعات لرجالهن، لكي لا يُجدف على كلمة الله" تي4:2،5.

إنها لا تلازم بيتها، بل تجري في الشوارع لتنصب شباكها وتصطاد البسطاء والجهال. "تارة في الخارج، وأخرى في الشوارع، وعند كل زاوية تكمن" [12]. الخطية سهلة المنال جدًا، تُلقي بنفسها على كل إنسانٍ لكي تجتذبه. يصور الحكيم الزانية بأن لها منزل house وليس بيتًا home، لها مبنى لكن ليس لها أسرة تتمتع بدفئها، كما لا تشع عليها بحبها ورعايتها عليها. قد يكون لها زوج وأولاد، لكن ليس لهم موضع في قلبها، ولا في أفكارها. تجد لذتها في الخروج من منزلها لتنصب شباكها فتصطاد البسطاء. لهذا ينصح الرسول الحدثات أن يكن "عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات" (تي5:2).

خامسًا: تحمل صورة الحب والرقة في التعامل، "فأمسكته وقبَّلته" [13]. إنها تحتضنه بذراعيها وتقَّبله بفمها، فيظن الشاب أنه سعيد ووجد ما يشبعه، ولا يدرك أنها تقدم له الشهوة لا الحب.

سادسًا: تحمل صورة التدين.

"أوقحت وجهها وقالت له:

عليَّ ذبائح السلامة،

اليوم أوفيت نذوري،

فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك" [13-15].

تدَّعي أنها متدينة تُقدم ذبائح سلامة، وهي ذبائح اختيارية (لا7)، وتدعوه ليشترك معها في وجبة طعام دينية. بهذا يظن أنه لم يُخطئ فقد وجد من هي متدينة، وتُقدم له حبًا مع الطعام. تقتنصه بالخداع، وتسحبه خلال بطنه.

V   حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام تتولد بذور الشهوة، ولا يستطيع الذهن عندما يتثاقل بالطعام أن يحافظ علي ضبط أفكاره. فالذهن لا يسكر فقط بالخمر، لكن أيضًا بكثرة أنواع الأطعمة التي تضعفه وتسلبه من كل قوته وإمكانياته في التأمل النقي الطاهر[182].

القديس يوحنا كاسيان

V   كما أن سنبلة الطهارة هي نتاج بذار العرق في الصوم، هكذا فإن الشبع الزائد يسبب انحلالاً، والمبالغة تنتج دنسًا. لكن إذا تُركت البطن جائعة ومنسحقة، لن تندفع الأفكار الشائنة إلى النفس[183].

مار اسحق السرياني

ربما أرادت أن تعبر له عن مدى اهتمامها به فقد قدمت نذرًا لله من أجله لكي يهبه صحة وأمانًا، والآن تدعوه ليشترك في هذه الوليمة الخاصة بالنذر. إنها مشغولة بصحته وسلامه أكثر من انشغالها بنفسها!

كثيرًا ما نسقط في متاعب بسبب تركيزنا على المظاهر الخارجية، فنحمل قناع التدين لنخفي قلبًا فاسدًا، أو كما يقول القديس أغسطينوس إننا نجد في الكنيسة البعض لهم ثياب حملان، لكن في داخلهم قلوب ذئاب مفترسة. عند اختيار ملك حسب قلب الله، قال الرب لصموئيل: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (1صم7:16).

إن كانت المرأة الشريرة تقتنص الشاب بالمظهر الخارجي المخادع، فإن الشاب يسلم نفسه للزنا ليس فقط خلال تهاونه مع مسببات الخطية، وإنما خلال تشامخه وحبه للمجد الباطل.

V      المجد الباطل هو خادم الزنا[184].

V   الإنسان الذي يفتخر بممارسته الفضيلة يُسمح له بالسقوط في الزنا. والذي يمتلئ بالتخيلات بسبب حكمته يُسمح له بالسقوط في شباك الجهل المظلمة[185].

مار اسحق السرياني

يفسر البعض هذه الآية بأن المرأة تغوي الشاب بانها طقسيًا طاهرة فتظن أن من يلتصق بها في علاقات جسدية لا يتدنس، وإن كان هذا الرأي غير مقبول. ويرى آخرون أنها توضح له بأنها طاهرة من "المرض الشهري". لأن من يضطجع مع امرأة في طمثها يكون نجسًا سبعة أيام (لا24:15). أو لعلها توضح له أن يرتبط بها دون خوف إذ لا تتعرض للحمل. على أي الأحوال إنها تربط بين الزنا والعبادة، الأمر الذي عُرف بين الفينيقيين في عبادتهم للإلهة عشتاروت، وقد حذرت الشريعة من ذلك. أيضًا بقولها: "اليوم أوفيت نذوري" تعني أنها قدمت ذبائح السلامة، وبحسب الشريعة لها أن تأكل من الذبيحة اليوم الذي قدمت فيه الذبيحة واليوم التالي. وكأنها تقول له:" عندي فيض من الطعام الشهي لنتلذذ به. وهكذا تسحبه من شهوة بطنه. فهي تعرف أنها تستطيع أن تصطاد قلبه من خلال معدته.

تدعي أنها خرجت تطلب وجهه، ولم تكف عن البحث حتى وجدته! إنها كلمات خداع فهي لا تطلب شخصًا بعينه إنما تطلب ما لنفسها، لإشباع عواطفها أو غرائزها، وفي غباوة يظن من سقط ضحية بين يدها أنه الشخص المهم جدًا المنشود منها. إنها تشوش مفاهيمه فلا يميز بين الحب والشهوة.

سابعًا: تدعوه للتمتع بليلةٍ زيجيةٍ.

"بالديباج فرشْتُ سريري

بموشى كتان من مصر.

عطَّرتُ فراشي بمرٍ وعودٍ وقرفةٍ.

هلم نرتوِ وِدًا إلى الصباح.

نتلذذ بالحبِّ" [16-18].

بجانب انحلال أخلاقها، والتهاب شهواتها الجسدية تتسم هذه المرأة بالخيانة لرجلها وعدم الأمانة.

تستخدم كل وسيلة حسِّية لجذب هذا الشاب الغبي، السرير الفخم الناعم، والكتان الثمين، والروائح الجذَّابة. إنها تود أن تجتذبه بكل الحواس: يرى الثياب المثيرة والسرير المفروش بالديباج، ويسمع صوت دعوتها إذ طلبته وبحثت عنه حتى وجدته، ويتلامس مع ودها حتى الصباح، ويتذوق عذوبة شفتيها، ويشتم الروائح. هكذا تدخل الخطية إلينا خلال الحواس الخمس، لذا يهتم الكتاب المقدس بتقديس هذه الحواس، لا بتحطيمها، بل بإعلائها وتوجيهها لتشبع مما هو للبناء لا الهدم.

للأسف تدعو الشاب أن يخطئ معها على سريرها الذي تشارك فيه زوجها، فتقدم له ما هو لعريسها لحساب الشر. نقدم القلب لمملكة الظلمة عوض مملكة النور، ونحول فكرنا إلى مسرحٍ للشر عوض تجلي السماء فيها، ونبدد عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا عوض تقديسها.

ثامنًا: الظروف مهيأة للذة الحب، لم ينقصهما شيء سوى موافقته وتجاوبه معها.

"لأن الرجل ليس في البيت.

ذهب في طريق بعيدة.

أخذ صُرَّة الفضة بيده.

يوم الهلال يأتي إلى بيته" [19-20].

كأنها تدعوه أن يقضي الليلة معها دون خوف، فإن رجلها لن يعود إلى بيته حتى ظهور الهلال أو الشهر الجديد. أليس هذا هو إغراء الخطية للنفس، فتدخل بها كما إلى ليلة دامسة الظلام، وتقدم لها كل الطمأنينة كأن عريس النفس غائب ولن يعود حتى يوم الدينونة!

بنفس الروح دعت امرأة فوطيفار يوسف ليخطئ معها، فإن رجلها كان غائبًا، أما هو فآمن بأن عيني الله تراقبانه، إذ قال لها: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" (تك9:39).

3. غباوة الساقط في شباكها

في غباوة سقط الشاب الذي وصفه عديمًا للفهم [7]، تافهًا في تفكيره ويسير في الحياة بلا هدف. هذا صار كثورٍ تقوده إلى الذبح، وكغبيٍ يُقاد إلى العقوبة، وكطيرٍ يسرع إلى الفخ. إنه يتصرف في غير وعي، إذ سحبته المرأة بقيود شهوته دون أن يدرك أن الثمن هو حياته كلها أو نفسه.

"أغوته بكثرة فنونها،

بملث شفتيها طوحته.

ذهب وراءها لوقته كثورٍ يذهب إلى الذبح،

أو كغبي إلى قيد القصاص.

حتى يشق سهم كبده.

كطيرٍ يُسرع إلى الفخ،

ولا يدري أنه لنفسه" [21-23].

لعله يقصد هنا أن الرجل يأتي يومًا ويكتشف ما فعله الشاب فيضرب بالسهم كبدهما ويحكم عليهما بالموت.

هذا وإن لم يكتشف الزوج الحقيقة فإنهما لن يستطيعا أن يبرِّرا نفسيهما أمام العدل الإلهي، فيكون نصيبهما الهلاك الأبدي.

الزنا هو أقصر الطرق للهلاك، سواء بيد الزوج مكتشف الجريمة أو بسبب الأمراض التناسلية التي يسقط تحت ثقلها الزاني، أو الارتباك الفكري والنفسي، وما هو أهم الدمار الأبدي والحرمان من شركة الحياة السماوية.

4. قتلاها أقوياء

"والآن أيها الأبناء اسمعوا لي وأصغوا لكلمات فمي.

لا يمل قلبك إلى طرقها،

ولا تشرد في مسالكها.

لأنها طرحت كثيرين جرحى،

وكل قتلاها أقوياء.

طرق الهاوية بيتها،

هابطة إلى خدور الموت" [24-27].

حقًا إن "كل قتلاها أقوياء"، مع أننا أُعطينا قوة للغلبة عليها، والذين معنا أعظم من الذين علينا، لكن بالتهاون مع الصغائر نسقط في الكبائر. لذلك كان صوت الرب للوط: "اهرب لحياتك". وقد اهتم الآباء بهذا المبدأ الإلهي.

 يقول القديس بيامون الكبير: "حسن أن نتجنب أسباب الخطية. الإنسان الذي يقترب من فرص الخطية يشبه شخصُا يجلس على حافة الجرف، يمكن للعدو أن يقتنصه بسهولة عندما يريد ذلك".

ويقول ماراسحق السرياني: "سقوطنا في خطايا متنوعة علته ليست الخطايا في ذاتها بل ضعفنا حيث تسقط طبيعتنا بسهولة. لذا فالحاجة ملحة للحذر منها[186]".

V      من لا ينسحب بإرادته من مسببات الأهواء تسحبه الخطية بغير إرادته.

مسببات الخطية هي الخمر، النساء (الشريرات)، الغنى، الاهتمام الشديد بصحة الجسد. ليست هذه الأمور بطبيعتها خطايا... لهذا السبب يليق بالإنسان أن يحذر منها بحرص شديد[187].

V      احذر من الأمور الصغيرة فلا تسقط في الأمور الكبيرة.

لا تتراخى في عملك لئلا تصير في عارٍ عندما تقف في وسط رفقائك ولا تكون بلا مئونة في رحلتك، وتكون وحدك على جانب الطريق[188].

مار اسحق السرياني

من هي هذه الزوجة الخائنة التي تصطاد النفوس لتنحدر بهم إلى الموت؟!

إن كان هذا الأصحاح يمكن تفسيره حرفيًا بخصوص سقوط الشباب في خطية الزنا، فإنه يمكن أن ينطبق أيضًا على كثير من الخطايا التي تتقدم كفتيات تصطدن النفس من عريسها، وتفقد اتحادها مع الله. إن كان سليمان الحكيم يكشف هنا عن شِباك المرأة الزانية لاصطياد الجهال، فإن جميع الخطايا تنصب شباكها المتنوعة بصورة أو أخرى، خاصة المعلمين المخادعين الذين يستخدمون كل وسيلة جذَّابة لإفساد إيمان البسطاء.

يرى البعض أنها تشير إلى الكنائس المرتدة التي تحمل اسم السيد المسيح لكنها تقدم تعاليم باطلة. إنها تخون عريسها، ولا تكف عن العمل بلا انقطاع لتسحب بكل وسيلة النفوس من بيت الكنيسة الحقيقية. تحمل كل جمالٍ فلسفيٍ، وتقدم الكثير من وسائل التنعم، لكي يترك المؤمنون طريق الصليب الضيق ويدخلوا في الطريق الواسع الذي يدفعهم إلى الهلاك الأبدي.

V      لقد رأيت مدى أذية الزانية!

لا تسمح للشهوة أن تثور، لأن موتها أبدي. أما بالنسبة لكلماتها وحوارها المعسول، وجراحاتها، فإنها بخطاياها تقتل الذين يخضعون لها. لشرها أشكال كثيرة تقود إلى الانحدار إلى الجحيم. أما حجرات الموت فتعني إما الموت أو مخازنه. فكيف يمكن الهروب منه؟[189]

القديس هيبوليتس


 

من وحيْ الأمثال 7

لتسحب قلبي إليك

فأستقر في بيتي الأبدي!

V      لأحفظ وصاياك كحدقة عيني.

هي ثمينة للغاية،

بدونها أفقد الرؤية، وأعيش في الظلام!

لأربطها على أصابع نفسي كخاتم فريد!

أختم بها كل أفكاري وكلماتي وأعمالي.

لا تفارق عينيَّ،

ولا تُنتزع من أمامي.

V      لأحملك في داخلي يا حكمة الله،

واتحد بك يا عريس نفسي.

أنت وحدك تشبع كل كياني!

أنت قريب إليَّ!

عميق في داخلي،

تحملني إلى أعماق أسرارك الإلهية الخفية.

وترفعني إلى عرش نعمتك.

V      بك أطير كما إلى السماء،

فلا تطبق فخاخ الزانية على قدمي،

ولا يسقط قلبي في شباكها الخفية.

V      ماذا أرى في هذه المخادعة؟

إنها غريبة الجنس.

أما أنا فقد صرت ابنك!

هي متملقة بكلامها، لكنك تضع الحق في فمي.

خائنة زانية، لا تعرف الإخلاص،

أما أنا فبك أصير أمينًا حتى النهاية.

عديمة الفهم لأنها تقاومك يا حكمة الله؛

أما أنا فبنعمتك أصير حكيمًا.

ترتدي ثياب زانية برّاقة وجذابة،

أما أنا فاختفي فيك يا ثوب عرسي الأبدي.

ارتديك فأحمل برك الفائق!

هي صخّابة تجد لذتها في الضجيج،

V      أما أنا فألتقي بك مع هدوء النفس وسكون القلب.

هي جامحة وعنيدة للغاية،

أما أنا فأشتهي أن أحمل طاعتك.

في بيتها لا تستقر قدماها،

أما أنا فأرى في السموات بابًا مفتوحًا.

أراك تحملني إلى حضن أبيك،

هناك يحملني روحك الناري،

واستقر كما في بيتي الأبدي.

V       تجول الزانية في الخارج،

في الشوارع، وفي كل زاوية.

أما أنا فأدخل إلى الأعماق،

وأتمتع ببيتي السماوي.

لن تجول نفسي بين مغريات العالم وملذاته الزائلة.

هي تمسك بالغير وتقبِّلهم بفمها،

تفتح قلبها كذئب تفترس من يلتصق بها.

هب لي قلبًا لا يعرف العداوة ولا يحمل بغضة،

بل يذوب حبًا حتى نحو مقاوميه.

هي مخادعة حتى بمظاهر التدين،

أما أنا فأصرخ إليك،

انزع عني الفرِّيسية،

وهب لي نقاوة القلب الداخلية!

V       نعم كلما رأيت الخطية متجسمة بصورة أو أخرى،

يلتهب بالأكثر قلبي،

مشتاقًا أن ينطلق إليك،

ففيك وحدك تستقر أعماقي.

احملني إليك يا شهوة قلبي!

<<

 


 

 

الأصحاح الثامن

نداء علني للحكمة الأزلي

في الأصحاح السابق تحدث عن الشر كامرأة زانية لا تكف عن أن تستخدم كل وسيلة لكي تخدع الإنسان لكي تهلكه، فإن قتلاها أقوياء. بيتها هو طريق الهاوية، تحدر الكثيرين إلى خدور الموت.

في مقابل هذا نجد في هذا الأصحاح محبة الله الفائقة التي أعدت لنا الخلاص، فقدم لنا "حكمته" الأزلي متجسدًا، كلمة الله، ربنا يسوع المسيح الذي نزل  إلى عالمنا، وسار بيننا، يقدم نفسه لنا حكمةً ومعرفةً وحقًا، نقتنيه فهو أفضل من كل اللآلئ وكل الجواهر لا تساويه، يهبنا ذاته ويدخل بنا  إلى الأحضان الإلهية.

يحتاج إليه كل أحد ليصير ملكًا أو عظيمًا في الرب، يملك ويدبر أموره حسنًا، ويسلك بالحق. هو موضع سرور الآب، به نصير موضع لذة الآب، يُسر بنا ويهبنا الحياة المُطوَّبة.

للمرة الثالثة يتحدث الحكيم عن الحكمة كشخص وليس مجرد سمة (20:1-32؛ 13:3-18؛ 1:8-18:9).

1. نداء الحكمة العلني1-11.

2. بركات النداء12-21.

3. الحكمة الأزلي 22-29.

4. الحكمة الخالق والمخلص30-31.

5. الحكمة واهب الطوبى32-34.

6. الحكمة واهب الحياة35.

7. بؤس رافضي الدعوة36.

1. نداء علني

في الأصحاحين 8،9 إذ يظهر الحكمة كشخصٍ، يمارس 19 عملاً لكي يجتذبنا إليه، بالتعامل معنا بكل وسيلة:

1. يصرخ بلا انقطاع (1:8-3).2. يقف ليلتقي بنا (2:8).

3. يدعونا، مناديًا كل بني البشر (4:8).4. يتحدث معنا (4:8).

5. يوبخ (5:8).6. يكره الكذب (7:8).

7. يؤدب (10:8).

8. يجد معرفة عملية يقدمها للمؤمن (12:8).9. يبغض الكلمات الكاذبة (13:8).

10. يقدم المشورة الحقة والرأي السديد (14:8).

11 . يهب الملوك والعظماء والرؤساء والشرفاء كرامة مع عدل (15:8،16).

12. يحب (17:8).13. يقود في طرق الحق (20:8).

14. يعطي بسخاء ويملأ مخازن مؤمنيه (21:8).  15. يتهلل فرحًا (31:8).

16. يبتهج ويتلذذ ببني البشر محبيه (31:8).

17. يبني له بيتًا بتجسده، وينحت أعمدة (1:9).

18. يُعد طعامًا ذبيحيًا ومائدة سرائرية (2:9).

19. يُرسل عبيده وجواريه لدعوة البشرية إلى وليمته (3:9-6).

إن كانت الجهالة أو الخطية تظهر كامرأة خبيثة القلب جامحة وخائنة، تهوى اصطياد النفس وإغراءها بكل وسيلة لكي تحدرها إلى الهلاك الأبدي، فإن حكمة الله الأزلي لا يقف مكتوف الأيدي، إن صح التعبير، فإنه لا يكف عن أن ينادي في كل موضع، بل وهو الخالق ينزل إلى خليقته، وهو الحكمة المحبوب لدى الآب يجد لذته في بني آدم يقدم لهم شركة الحياة السماوية، والتمتع بالحياة المطوبة.

"ألعلّ الحكمة لا تنادي (تصرخ)،

والفهم ألا يُعطي صوته؟!" [1]

قديمًا صدر الأمر الإلهي لإشعياء النبي: "نادٍ بصوتٍ عالٍ؛ لا تمسك؛ ارفع صوتك كبوقٍ وأخبر شعبي بتعدِّيهم وبيت يعقوب بخطاياهم" (إش1:58). وكان اللاويون  يقرأون البركات واللعنات بصوتٍ عالٍ (تث14:27).

تنادي الحكمة على الدوام وتصرخ لكي يسمع الكل صوتها، لتُعلن عن إرادة الله وخطته من جهة الإنسان. تعلن ذلك خلال الطبيعة التي تشهد بعناية الله؛ وتحدثت بأكثر وضوح خلال الآباء والشريعة والأنبياء. لكن الصعوبة تكمن في رفض الإنسان للاستماع للصوت الإلهي.

إن كانت الخطية لا تتوقف عن الإغراء، فإن حكمة الله  ينادي بلا توقف. وكما يقول الرسول بولس: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضا عمل العالمين" (عب1:1،2). جاء أخيرًا الحكمة الإلهي - السيد المسيح - ينادي بنفسه ويُعطي صوته مباشرة. قدم لنا حديثه، ليس فقط بالكلام، وإنما بالحب العملي الباذل على الصليب، كما أعطانا روحه القدوس لكي يحملنا فيه، فنسمع صوته خلال اتحادنا فيه، وتجديدنا المستمر لنصير أيقونة حية له.

في هذا الأصحاح يبرز أن الحكمة هي التي تسعى وراء الإنسان وتبحث عنه وتدعوه ليقبلها، لكنها لا تلزمه بذلك. على خلاف ما يتصور الكثيرون أن الله معتزل في سمواته، والإنسان يبحث عنه ويحاول إرضاءه، نرى الله خلال الحكمة ينزل إلى الإنسان، يطلبه في الشوارع وفي كل موضع، فإنه مبادر بالحب.

أين ينادينا الحكمة؟

"عند رؤوس الشواهق،

عند الطريق بين المسالك تقف.

بجانب الأبواب عند ثغر المدينة،

عند مدخل الأبواب تصرخ" [2،3].

حكمة الله أو كلمته ينادي في بيت الرب الذي كان يٌقام على رؤوس التلال العالية، والذي يقع بين مفترق الطرق كمركز للقرى المحيطة به، وقد جاء التعبير العبريbeith neithiboth nitstsbabah    ليعني "البيت المؤسس عند الطرق". فإن كنا نسمع صوت الله أينما وجدنا ، وتحت كل الظروف ، لكن الله يحدثنا بالأكثر في بيته، فالكتاب المقدس هو كتاب الكنيسة، والكنيسة هي كنيسة الكتاب. في الكنيسة نلتقي بالسيد المسيح، حكمة الله، ونفتنيه ونحيا به...نسمع صوته فينا!

يقدم لنا سليمان الحكيم ثلاثة مواقع نلتقي فيها بالحكمة الإلهية:

ا. "عند رؤوس الشواهق" ، أي على المرتفعات العالية فقد استلم موسى النبي الشريعة على قمة جبل سيناء، وقدم السيد المسيح موعظته على الجبل. هكذا نحن مدعوّون لكي ننطلق مع السيد المسيح كما مع بطرس ويعقوب ويوحنا فنراه متجليًا على جبل طابور. نصعد دومًا ولا نستكين عند سفح الجبل ، فنقول مع المرتل: "إليك رفعت نفسي ..."، ترتفع نفوسنا لتتحد مع المصلوب على جبل الجلجثة! هناك نسمع الصوت الإلهي الفريد، صوت الحب العملي الباذل، الوصية الإلهية في أروع صورها!

تقف الحكمة عند قمم المرتفعات والجبال، فالدعوة علنية. ارتفع السيد المسيح - الحكمة - على الصليب على جبل الجلجثة، حيث شاهده اليهود والأمم، ليُعلن حبه العملي الباذل، باسطًا يديه ليحتضن الكل بلا استثناء. إنه محب كل البشرية، مخلص العالم!

إن كان قد نزل حتى سفح الجبل ليلتقي بالجماهير البسيطة، فإنه ينادي من على القمم لكي يراه الكل ويسمعوه، ولا يكون لأحد عذر في رفض الدعوة.

ب. "عند الطريق بين المسالك"، فالحكمة يقف عند مفترق كل الطرق ، حتى يأتي إليه الجميع ، من المشارق والمغارب، ومن الشمال والجنوب. إنه مخلص العالم كله! هكذا تفتح الكنيسة أبواب قلبها لكل إنسان!

عند ملتقى الطرق يقف السيد المسيح حيث يجد الإنسان في حيرة لا يعرف أين يتجه، فيقوده في الطريق الملوكي. يظلل عليه كسحابةٍ تحميه في النهار، وكعمود نورٍ يبدد الظلمة من خلاله. لقد قيل عن الجهلاء: "تعب الجهلاء يعيبهم، لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة" (جا15:10)، لذا يقف حكمة الله فيلتقي بهم ليدخل بهم إلى بيته، بيت الحكمة السماوي.

جاءت العبارة بالعبرية beith nethiboth nitsabah" تعني "البيت المؤسس عند الطريق"، ويعني به "بيت الله"، سواء خيمة الاجتماع أو الهيكل في العهد القديم، والكنيسة في العهد الجديد، حيث يكون بيت الله في ملتقى الطرق، ويمكن للإنسان أن يبلغ إليه.

إن كان بيت الله هو موضع العبادة حيث يلتقي فيه المؤمنون كأبناء لله يمارسون عبادتهم خلال بنوتهم لله، فإنه أيضًا موضع كرازة، فيه يتحدث السيد المسيح للعالم خلال خدامه ليُدرك الكل محبة الله الفائقة. فالكنيسة هي موضع لقاء الحكمة الإلهي بالبشرية، حيث يُقدم المسيح ذاته للجميع.

ج."بجانب الأبواب...عند مدخل الأبواب"، هناك كان يجتمع شيوخ المدينة ليحكموا في قضايا الشعب، وكأن الحكمة الإلهية يود أن يقدم ذاته لكل من له شكوى، أو من كان في ضيقٍ، فهو وحده يقدر أن يرد للنفس سلامها.

إذ تجسد حكمة الله، وصار إنسانًا، كان يجول يصنع خيرا في كل موضع .أعلن رسالته في الهيكل كما في المجامع، وعلى قمم الجبال، وعلى شواطئ البحار، وفي القرى، كما في طرق المدن وفي البيوت. وقد استلم تلاميذه هذه الروح ، فسلكوا كما سلك معلمهم ، يبحثون عن الخطاة أينما وجدوا، ويقدمون صوت الحق في كل موضع.

تصرخ الحكمة عند أبواب المدخل ومداخلها لتلتقي بالداخلين والخارجين. إن كان السيد المسيح هو "الباب" فإن تلاميذه ورسله وكل خدامه يلزمهم أن يصرخوا بحق الإنجيل فيه، ليكشفوا عن كنوزه المقدمة للبشرية، وعن الحق لكي يتمتع الكل به.

ليتنا لا نقف مع السيد فقط على القمم العالية، ولا نتحدث عنه فقط في داخل المبنى الكنسي، لكن نحمله إلى كل إنسان، نذهب إليه لنقدم له "الباب الملوكي".

V      إذ يتمسكون بالبر في براءة لا يخجلون، هذه هي الكرازة عند الباب.

ومن هو هذا الذي يكرز عند الباب؟

ذاك الذي يكرز في المسيح، لأن المسيح هو الباب الذي به ندخل إلى تلك المدينة...

لهذا فان الذين يتكلمون ضد المسيح هم خارج الباب، إذ يطلبون كرماتهم الذاتية، لا كرامة المسيح . أما الذي يكرز عند الباب فيطلب كرامة المسيح لا كرامته الخاصة. لهذا فإن من يكرز عند الباب يقول: "لا تثق فيَّ، لأنك لا تدخل من خلالي بل من خلال الباب. أما الذين يطلبون من الناس أن يثقوا فيهم فإنهم يريدون منهم ألا يدخلوا من الباب، فلا نعجب إن أُغلق الباب أمامهم وباطلاً يقرعون ولا يُفتح لهم[190].

القديس أغسطينوس

"لكم أيها الناس أنادي،

وصوتي إلى بني آدم" [4].

جاءت كلمة "الناس" هنا ishim لتعني أصحاب الغنى والسلطة، فالحكمة الإلهي ينادي أصحاب السلطان كقادة مسئولين وأيضًا يرفع صوته إلى كل بني البشر . يدعو الأغنياء كما الفقراء أن يسلكوا بالحكمة. إنه يدعو كل بني آدم ، فقد ذاق السيد المسيح الموت من أجل كل إنسانٍ، مقدمًا إنجيل الخلاص لكل العالم. وكما يقول الرسول بولس: "برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق" (رو22:3).

يعلن القديس أغسطينوس عن عمومية الخلاص للعالم بلا تمييز أو محاباة، قائلاً:

[جاء المسيح للمرضى فوجد الكل هكذا. إذن لا يفتخر أحد بصحته لئلا يتوقف الطبيب عن معالجته لقد وجد الجميع مرضى.

لكنه يوجد نوعان من القطيع المريض؛ نوع جاء إلى الطبيب والتصق بالمسيح وصار يسمعه ويكرمه ويتبعه فتغير أما النوع الآخر فكان مفتتنًا بمرض الشر ولم يدرك مرضه، هذا النوع قال لتلاميذه: "لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!" (مت11:9). وقد أجابهم ذاك العارف لهم ولحالهم: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى"[191].]

بعد أن أكد عمومية الدعوة عاد يخصص دعوته للحمقى والجهال، فإن من يكتشف خطاياه أو يدرك حمقه وجهله يجد في المخلص شفاءه.

"أيها الحمقى تعلموا ذكاءً،

ويا جُهّال تعلموا فهمًا" [5].

يوجه حديثه إلى البسطاء (الحمقى) pethaim الذين خدعتهم الكلمات المعسولة وإغراءات الخطية، فسقطوا في هوة الشر، كما يُحدِّث الجهال kesilim ، ويقصد بهم الأغبياء الذين في جهلهم صلّبوا الرقبة وفقدوا الإحساس.

يفتح باب الرجاء أمام المخدوعين والجهال بقبولهم إياه حكمة وفهمًا!

د. بركات النداء

غاية نداء حكمة الله أنه إذ يجد لذته في بني البشر يودّ أن يقدم لهم ذاته فينالوا غنى وكرامة وحكمة ومعرفة ونجاحًا في كل جوانب الحياة، كما يقدم حبًا لا يتلقاه إلا من يتجاوب معه بالحب لذا يركز على وعده: "أحب الذين يحبونني".

إذ أوضح سليمان أن الدعوة لم تتوقف قط وأنها عامة لجميع البشر، خاصة الذين خدعتهم الخطية وحطمهم الجهل، حدثنا عن بركات هذه الدعوة، قائلاً:

"اسمعوا، فإني أتكلم بأمورٍ شريفةٍ،

وافتتاح شفتي استقامة" [6].

لماذا يليق بهم أن يسمعوا؟ لأن ما ينطق به السيد المسيح ليس بأمور بلا قيمة، بل هي أمور شريفة negidim، أي أمور فائقة، لها الأولية في حياة الإنسان، أسمى من كل الأمور الأخرى. يُعلِم أمورًا تمس كرامتهم الأبدية  ومجدهم الفائق الدائم.

إذ يفتح شفتيه تنبعث منهما الاستقامة meysharim ، أي  الأمور التي تصحح مفاهيمنا الخاطئة وتحول الطرق الملتوية إلى طرق مستقيمة.

فإن كان الحديث موجه إلى الحمقى والجهال [5] هؤلاء الذين بجهالاتهم صاروا تافهين، لكن الحكيم يتحدث في أمور خطيرة تنزعهم مما هم فيه لتصير حياتهم ذات قيمة.

"لأن حنكي يلهج بالصدق،

ومكرهة شفتيَّ الكذب" [7].

ينطق السيد المسيح بالحق الذي لا يعرف الباطل، ولا يمتزج بالكذب!

"كل كلمات فمي بالحق (في البرّ)،

ليس فيها عوج ولا التواء" [8].

الحق betsedek الذي يخرج من شفتيه هو الحق العملي، أو البر الممتزج بالعدالة في معاملاته مع أبيه ومع البشرية، يُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. كلماته تكشف بصدقٍ عن علاقة الإنسان بالله إلهه وبقريبه كما بنفسه. هذا الصدق الذي يحمل عدلاً واستقامة، وليس شيئًا من الخداع أو الانحراف، ولا يحتمل تأويلاً، أو الذي يقود إلى اعوجاج، ولكن على العكس:

"كلها واضحة لدى الفهيم،

ومستقيمة لدى الذين يجدون المعرفة" [9].

من هو مهتم بخلاص نفسه والتمتع بالمعرفة الحقة يدرك أسرار الحكمة الإلهية، وتصير خطط الله واضحة ومستقيمة أمامه ، ومن ينعم بالمعرفة، أي يعرف نفسه كما ينبغي يرى حتى في تأديبات الرب استقامة، ويتلامس مع وعود الله بكونها صادقة وأمينة.

لقد بكى القديس يوحنا الحبيب كثيرًا لأنه لم يوجد أحد مستحق أن يفتح السفر ويقرأه، ولا أن ينظر إليه. لكن قال له أحد القسوس: "لا تبكِ. هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة" (رؤ5:5). الآن وقد فُكَّت ختوم السفر صارت خطة الله واضحة لمؤمنيه، يدركون أسراره ويتذوقون عربون المجد الذي أعده لهم.

كل ما يُعلنه السيد المسيح هو ثمين للغاية:

"خذوا تأديبي لا الفضة" [10].

"والمعرفة أكثر من الذهب المختار" [10].

لماذا يكرر الله الدعوة لكي نقبل التأديبات الصادرة منه أكثر من الفضة؟ كثيرًا ما يكف الآباء حسب الجسد عن تأديب أولادهم، إما لأنهم يئسوا من الإصلاح، أو لأنهم شعروا أنهم يُغضبون أبناءهم، أما أبونا السماوي فلن يتوقف عن تأديبنا لأنه يترجى دومًا خلاصنا، مهما بلغ عنادنا، ومن جانب آخر فإن محبته أبدية، لا يطلب أن يسترضينا هنا على  حساب شركتنا معه في المجد الأبدي.

"لأن الحكمة خير من اللآلئ،

وكل الجواهر لا تساويها" [11].

المعرفة هي طعام النفس، بدونها تخور النفس وتموت! يقول الحكيم إن المعرفة أفضل من الذهب الخالص. يشبِّه البعض البشرية التي تنشغل بالذهب والغنى دون المعرفة الإلهية بجماعة انكسرت بهم السفينة في وسط المحيط، وإذ وجدوا جزيرة جرداء نزلوا إليها ونجوا لكنهم صاروا في عزلةٍ تامة عن كل العالم. كان لديهم غلال وأطعمة، فبدأوا يأكلون ويشربون، وإذ اكتشف أحدهم مناجم ذهب غنية جدًا تهللوا، وصاروا يستخرجون الذهب حتى اغتنوا جدًا ولم يبالوا بالزراعة. جاء فصل الشتاء ونفذ الطعام مع فيض كثير من الذهب، لكن ماذا ينفعهم الذهب؟ لقد خاروا من الجوع، وأخيرًا ماتوا وسط أكوام الذهب[192]. هذا هو حال من يرفض المعرفة الإلهية لأنه مشغول بالغنى.

2. بركات الحكمة

إذ يقدم حكمة الله نداء عامًا وعلنيًا لكل البشر كي يقتنوه، يكشف عن عمله في حياة الذين اقتنوه، حيث يُعلن ذاته لهم وفي داخلهم.

أولاً: يهب الذكاء والتدبير الحسن

"أنا الحكمة أسكن الذكاء،

وأجد معرفة التدابير" [12].

إذ يسكن حكمة الله فينا يسكن معه الذكاء، فيهب المؤمن فكرًا صادقًا وإدراكا واعيًا. كل ذكاء أو مهارة هو من عند الرب. فقد اخترع الإنسان طرق كثيرة للتدبير، والرب يهب كل طرقٍ للبنيان. ذكاء الإنسان الذاتي يُدمر إذ ينقصه الصلاح، وأما الذي يهبه الله فيبني.

من جانب آخر يهبه معرفة اختبارية عملية يدعوها "معرفة التدابير mezimnoth emsta". كلما حمل الإنسان الحكمة الروحية، تترجم في حياته الداخلية وسلوكه الظاهر إلى تدابير عملية بارة ومقدسة في الرب. الذكاء هو قدرة على التفكير بمهارة، أما الحكمة فتحمل مع الذكاء ممارسة، فالحكمة تقود الإنسان إلى العمل بأسلوب لائق تقوي. هذا هو الجانب الإيجابي لعمل الحكمة، أما الجانب السلبي فهو كراهية الحكيم للشر والجهالة.

ثانيًا: يهب مخافة الرب التي ترفض الشر

"مخافة الرب بغض الشر،

الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت" [13].

تفيض الحكمة على مقتنيها ليس فقط بالذكاء والتدبير الحسن وإنما تملك على مشاعر القلب وأحاسيسه، فيكره المؤمن أربعة أمور: الشر، والكبرياء، والعجرفة والخداع. بمعنى آخر. إن كانت مخافة الرب هي رأس الحكمة، فإنه بالحكمة ننعم بالمخافة التي بدونها لن نحب البر والصلاح ونبغض الخطية والشر.

الخوف من العقوبة ربما يُلزمنا ألا نخطئ، لكنه قد يولِّد اشتياقًا أكثر نحو الخطية، لأن "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم17:9). أما مخافة الرب التي تقوم على دالة الحب وإدراك بنوتنا لله فتجعلنا نكره الخطية، ليس خوفًا من العقوبة، وإنما حبًا في الله أبينا إذ نرى في الخطية جرحًا لمحبة الله الذي لا يقبل الظلمة.

الإنسان وقد فسدت طبيعته بعد السقوط صار يميل إلى الخطية وينجذب إليها بالرغم من إدراكه لخطورتها على حياته، لذا يحتاج إلى حكمة الله، المخلص، ليجدد بروحه القدوس طبيعته، ويهبه بغضة داخلية للخطية.

لقد صرخ رجال العهدين القديم والجديد بسبب ميل الإنسان إلى الشر:

"القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟!" (إر9:17).

"كما هو مكتوب إنه ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (رو10:3-12).

يستحيل على الإنسان أن يبغض الشر ما لم يحب الصلاح، ولما كان بغض الشر يقود الإنسان إلى هجر الطريق الشرير، ومحبة الصلاح تقوده إلى عمل ما هو حق في عيني الله، وذلك بفعل الروح القدس الذي يهب كراهية للشر وحب الصلاح، لذلك فإن هذا من جانبه يلهب فينا مخافة الرب.

إن كانت مخافة الرب تمثل صلاحًا عميقًا في القلب يقوده بعيدًا عن الشر، بل يهبه بغضة للشر، فإن هذا العمل الداخلي يحمل ترجمة عملية في السلوك الظاهر برفض الكبرياء والتشامخ والنطق بالكذب.

في حديث البابا أثناسيوس الرسولي عن القديس أنبا أنطونيوس الكبير يقول: [إذ كانت نفسه حرة من القلاقل، كان مظهره الخارجي هادئًا؛ هكذا من فرح نفسه حمل ملامح باشة؛ ومن حركات جسده يمكن إدراك حالة نفسه، كما هو مكتوب: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا، وبحزنه ينسحق (الوجه)" (أم13:15).

ثالثًا: يعطي القدرة على تقديم المشورة

"فيَّ المشورة والرأي.

أنا الفهم،

لي القدرة" [14].

إذ للحكمة - ربنا يسوع - المشورة وأيضًا القدرة على تقديم فكرٍ صائبٍ وتدبيرٍ حكيمٍ للأمور بفهم، فإنه يهب من يقتنيه القدرة على تقديم المشورة بدوره للآخرين. لهذا فإن المؤمن التقي يصير مشيرًا روحيًا حتى في صمته، أما الشرير فيعجز عن تقديم مشورة صالحة فعّالة، حتى إن كان يجيد الحديث وله خبرات طويلة.

السيد المسيح حكمة الآب (1كو14:1)، ينبوع الحكمة، ليس فقط يفيض علينا، بل يبعث فينا ينابيع مياه حيّة تفيض على من نلتقي بهم.

يقول "ليَ القوة"، حتى لا نحسب أن الحياة التقوية الهادئة ضعف واستكانة، بل هي تمتع بالقوة ذاته.

يعلق البابا أثناسيوس الرسولي على هذه العبارة قائلاً:

V   بكونه حكمة الآب ذاته... هو نفسه المشورة الحيّ للآب وقوته وخالق كل الأشياء التي رآها الآب صالحة. هذا ما يقوله عن نفسه في الأمثال: "لي المشورة والأمان (الرأي)، لي الفهم، لي القدرة". ("لان المسيح هو قوة الله وحكمة الله ") (1كو24:1). هنا يغير التعبير فيقول :"لي الفهم" و"لي القدرة". عندما يقول: "لي المشورة" هو نفسه المشورة الحيّ للآب، كما يعلمنا النبي أيضا انه صار "ملاك المشورة العظيم" ، ودُعي المسرة الصالحة للآب[193].

البابا أثناسيوس الرسولي

رابعًا: يهب روح الملوكية والسلطة

إذ يملك السيد المسيح "الحكمة" فينا، لا يجعلنا عبيدًا بل ملوكًا، فنحمل سمته فينا، نحمل روح الملوكية التي لا تقبل العبودية لشهوةٍ ما، ولا نرتعب أمام أحداث زمنية، ولا نخاف كائنًا، بل نحمل حرية مجد أولاد الله. لنا سلطان على أفكارنا وأحاسيسنا ومشاعرنا وحواسنا كما على تصرفاتنا الظاهرة، فنسلك كأبناء ملوك سمائيين، بحكمة علوية فائقة.

"بيَ تملك الملوك،

وتقضي العظماء عدلاً.

بيَ تترأس الرؤساء والشرفاء.

كل قضاة الأرض" [15-16].

هكذا يُقيم ملك الملوك، "حكمة الله" من شعبه ملوكًا وعظماء ورؤساء وأشراف وقضاة. إنه إذ يسألهم أن يسلكوا بروح الاتضاع، إنما ليحملوا اتضاعه فيهم، فيصيروا عظماء في عيني الله، وفي أعين السماء والبشر. إنه جاء ليرد الإنسان المحطم بالخطية إلى الملوكية المجيدة!

الله في محبته للبشر ينسب نفسه للمتألمين، فيُدعى أب الأيتام وقاضي الأرامل، يبحث عن المطرودين، ويسند البائسين، ويرفع المتواضعين، ويهتم بالذين ليس لهم من يسأل عنهم. إن كان قد أقام الملوك والرؤساء والأشراف والقضاة إنما ليعملوا لحساب هؤلاء جميعًا، أقامهم لا لفضلٍ فيهم، وإنما للعمل لحساب المجتمع كله، خاصة المظلومين والمحتاجين هكذا يليق بمن هو في موقع المسئولية أن يُدرك انه تسلمها من يد الله ليعمل لحساب المجتمع بروح الحب والاتضاع.

V   الحديث الإلهي في هذا الأمر واضح ، فإن حكمة الله هكذا يتحدث: "بي يملك الملوك، ويملك العظماء الأرض". لكن لا يُفهم بذلك أنهم ملوك أشرار وغير اتقياء، بل ملوك شجعان.

القديس أغسطينوس

خامسًا: يصيرون موضوع حب السماء!

"أنا أحب الذين يحبونني،

والذين يبكرون إليّ يجدونني" [17].

إذ يقدم "الحكمة" نفسه للبشرية، معلنًا أنه المشورة والرأي والفهم والقدرة، من يقتنيه يدرك أسرار الآب، ويتعرف على إرادته، ويحمل قوة من عنده، فيحيا في هذا العالم كوكيل الله، يحمل أيقونة السماء، ويشهد لعمل الله الفائق. الآن يؤكد مبدأين خطيرين متكاملين:

المبدأ الأول هو تقديس الحرية الإنسانية، فهو لا يدفع بنفسه في حياة إنسان بغير اختياره، مؤكدًا "أنا أحب الذين يحبونني". إنه الحب كله، يفتح ذراعيه على الصليب للعالم كله، ويتسع صدره ليتكئ كل بشر عليه، لكن ليس الكل يقبله!

لنحبه فندرك أنه أحبنا أولاً!

لنرتمي على صدره، فنجده مُعدًا لنا!

لنشتاق إليه فنلمس اشتياقاته الفائقة نحونا.

حبه لنا ليس ثمرة لحبنا له، لأنه أحبنا اولاً.

بادر بالحب قبل أن نعرف؛ ونحن أعداء صالحنا مع الله أبيه.

لكن حبنا هو مفتاح معرفتنا لحبه القائم الغامر لكل البشرية.

أما المبدأ الثاني والمكمِّل للسابق فهو التزامنا بالتبكير إليه لكي نجده. ماذا يعني: "والذين يبكرون إليّ يجدونني

التبكير هنا يحمل مفهوم الأولوية، فقد وضع لخلاصنا وتجديدنا أولوية خاصة، فقدم الآب ابنه الحبيب ذبيحة حب لأجلنا. وكأنه يقول: "الإنسان أولاً!" إن كان هذه هو العمل الإلهي العجيب، أفلا يليق أن نبكر إليه قائلين: "الله أولاً" في حياتنا اليومية وفي أفكارنا الداخلية، وفي سلوكنا الأسري الخ.

في كل تصرف، خفي وظاهر، ليكن الله محور تفكيرنا، نبكر إليه، فقد بكَّر إلينا، وجعلنا في قمة اهتمامه وهو خالق السماء والأرض!

لنبكر إليه فنعطيه أفضل أوقاتنا للقاء معه، فلا يكون في آخر القائمة، نتعبد له في فضلات أوقاتنا. يليق بنا أن نعطي للقائنا معه اهتمامًا خاصًا، فنجري إليه في الصباح المبكر، ونقدم له اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، ونفضل اللقاء معه عن أية رباطات بشرية أو مجاملات. الله فوق الكل!

لنبكر إليه فنذكر خالقنا في أيام شبابنا، مقدمين له بكور عمرنا كي يقدس العمر كله.

سادسًا: يهبنا ذاته كنزًا ومجدًا وشبعًا

"عندي الغنى والكرامة،

قنية فاخرة وحظ.

ثمري خير من الذهب ومن الإبريز،

وغلتي خير من الفضة المختارة" [18-19].

عادة يصير الحكماء أغنياء ومكرمين في أعين الناس، لكن ليس لهذا المبدأ استثناءات كثيرة.

ما يتحدث عنه سليمان الحكيم هنا ليس الغنى المادي ولا الكرامة الزمنية ولا شبع البطن، بل ما هو أعظم، التمتع بشخص السيد المسيح الذي فيه كفايتنا!

يوجد غنى ومجد وشبع يملأ كيان الحكيم، لا يستطيع العالم كله ولا قوات الظلمة ولا أحداث المستقبل أن تنتزعها منه، لأن هذا كله لن يقدر أن يفصل المؤمن الحكيم التقي عن شخص السيد المسيح الذي لنا فيه كنز ومجد وشبع. الإنسان الحكيم يردد مع القديس بولس الرسول: "من يقدر أي يفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟!" (رو25:8).

V   إن كان يجب أن نميز بين ذاك الذي يُحسب غنيًا لأن ممتلكاته كثيرة ومثقلة بالذهب مثل محفظة قذرة، وبين البار الذي وحده مملوء نعمة، لأن للنعمة تدبيرها، تلاحظ المقاييس اللائقة والجميلة في التنظيم والتوزيع[194].

القديس إكليمنضس السكندري

"في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق.

فأُورِّث محبِّيّ رزقًا، وأملأ مخازنهم" [20-21].

من هو هذا الذي يتمشى في طريق العدل ويُقيم في وسط سبل الحق إلا ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فيحملنا فيه، وننعم بما لديه؟!

V   كما لو كان ابن الإنسان يتمشى وسط المنائر السبع (رؤ1). يُقال إنه في وسط الكنائس السبع، وكما قال سليمان: "في طريق العدل أتمشى"، ذاك الأزلي، ينبوع الملوكية.

الأب فيكتوريانوس

إن كان الغني يطلب أن تشبع نفسه من المقتنيات، فإن الحكيم إذ يقتني الحكمة تشبع نفسه من السلوك في طريق العدل، والتحرك وسط سُبل الحق. يجد في العدل والحق مع الحب ما يُشبع أعماقه، فتمتلئ مخازنه الداخلية من الفرح والتهليل مع السلام الفائق والصلاح.

البركات الزمنية تُقدم للبطن شبعًا مؤقتًا سرعان ما يتبعه جوع، أما البرّ الإلهي فيُقدم للمخازن الداخلية شبعًا وامتلاء، يرفعها روح الله إلى السماء رصيدًا أبديًا لحسابنا. وقد عبر داود النبي عن ذلك بصورة رائعة، إذ يقول: "بذخائرك تملأ بطونهم، يشبعون أولادًا، ويتركون فضلاتهم لأطفالهم، أما أنا فبالبر أنظر وجهك؛ أشبع إذا استيقظت بشبهك (مز14:17،15). ما يغترفه الإنسان من عطايا زمنية هو هبة من الله، لكنها هبة مؤقتة تشبع البطن، وما يتبقى منه يتركه ميراثًا لأولاده، مقدمًا لهم فضلاته الزائلة. أما من يتمشى في طريق العدل في وسط برّ السيد المسيح إنما يتشكل إنسانه الداخلة فيصير بالروح القدس أيقونة المسيح، على شبهه. هذا هو رصيده الأبدي الذي يملأ مخازنه السماوية هذه التي لن يسلبها سارق، ولا يفسدها سوس!

3. الحكمة الأزلي

في هذا الأصحاح يتجلى شخص السيد المسيح بكل قوة، بكونه حكمة الله، الذي يدعو كل البشرية لتقتنيه وتتمتع بإمكانياته الفائقة. الآن يكشف عن ذاته أنه واحد مع الآب، خالق العالم، المهتم بخلاص خليقته التي فسدت، ويجد لذته في دعوة الخطاة إلى الخلاص.

"الرب قناني possessed Me أول طريقه من قبل (أجل) أعماله منذ القدم" [22].

ركز الأريوسيون على العبارة "الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم" [22]. ليدَّعوا أن السيد المسيح وإن كان سابقًا لكل الخليقة لكنه في نظرهم "أول الخليقة"، الذي خلقه الآب دون غيره، وقام هو بعمل الخلقة. اعتمدوا في ذلك على كلمة "قناني" ويترجمونها "خلقني". لذلك اهتم آباء الكنيسة، وعلى رأسهم البابا أثناسيوس الرسولي بتفسير هذه العبارة وربطها ببقية الفقرة كلها [22-31]. وسأحاول تقديم فكر الآباء في شيء من الإيجاز في ملحق خاص بهذا الأصحاح.

الآن اُقدم تفسيرًا مبسطًا للفقرة.

بينما أساء الأريوسيون فهم هذه العبارة وجد كثير من الآباء فيها صورة حية ورائعة لمحبة الآب الذي بالحكمة دبر خلاصنا قبل خلقتنا. فمنذ البدء دبر التجسد الإلهي، ليصير حكمة الله أو كلمته، الأقنوم الإلهي غير المنفصل عنه إنسانًا من أجل البشرية ليكون هو "أول أعماله"، أي البكر بين أخوةٍ كثيرين" (رو29:8)؛ "البداءة، بكر من الأموات" (كو18:1). وكأنه هنا يقدم الحكمة الإلهي وعده الفائق بأن أباه الأزلي معه يخطط لخلاصنا قبل خلقتنا، وكأن تدبيره يسبق وجودنا كعلامة اهتمامه بنا وقدرته الفائقة السرمدية لتحقيق خطة حبه نحونا.

يُلاحظ في هذه الآية الآتي:

أولاً: إن كان بعض الآباء مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص يؤكد أن الكلمة العبرية لا تعني "خلقني" بل "اقتناني possessed Me " إلا أن البعض مثل البابا أثناسيوس الرسولي لم يمتنع عن استخدام الكلمة اليونانية وهي تعني "خلقني"، إلا أنه يؤكد أنها ليست ذات الكلمة التي استخدمت في خلقة العالم.

ثانيًا: إن سفر الأمثال سفر رمزي، فلا نلتقط كلمة منه ونفصلها عن الكتاب المقدس لنفسرها لاهوتيًا.  

ثالثًا: إن كلمة "خلقني" لا تربكنا، فإن حكمة الله، الأقنوم الثاني قد صار كلمة، إذ أخذ جسدًا مخلوقًا وقد صار بالحقيقة إنسانًا وعبدًا دون أن يتغير إذ لايزال إلهًا مباركًا إلي الأبد.

رابعًا: لا يمكن أن يكون هذا التعبير "خلقني" خاص بجوهر أقنوم الحكمة، لأنه في نفس العبارة قيل: "من أجل أعماله"، فإن كان هذا الأقنوم قد خُلق لأجل البشرية، فتكون البشرية أفضل وأهم منه. أما بكون الخلق هنا يعني التجسد وخطة الخلاص، فالمعني يختلف تمامًا إذ يكون الخلق من أجل الحب الإلهي الفائق نحو البشر.

خامسًا: لا نتعثر من القول: "أول طرقه"، فبالتجسد الإلهي احتل الأقنوم المتجسد موضع آدم، فكما بسقوط آدم فسدت الطبيعة البشرية، هكذا بنصرة آدم الجديد وبره صارت النصرة والبرّ للبشرية. هذا ما عبرّ عنه الرسول بولس، قائلاً: "كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلي العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع لكن قد ملك الموت من آدم إلي موسى، وذلك علي الذين لم يخطئوا علي شبه تعدى آدم الذي هو مثال الآتي إن كان بخطيةِ واحدٍ مات الكثيرون، فبالأولي كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت لكثيرين" (رو12:5 الخ).

بهذا فقد أبونا الأول آدم مركزه كبكر، ليحتل حكمة الله المتجسد مركزه فيقودنا كبكر إلي سمواته، وننعم بشركة مجده. لقد صار الابن الوحيد الجنس الذي تسجد له الملائكة بكرًا لنا:"لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وأيضًا متي اُدخل البكر إلي العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله" (عب5:1-7).

لقد صار بكرًا لنا وذلك بتجسده، هذا الذي تسجد له الملائكة، والذي يُدعى دون غيره الابن الوحيد، والذي قيل عنه: "كرسيك يا الله إلي دهر الدهور" (عب8:1).

سادسًا: في نفس الفقرة تحدث سليمان الحكيم عنه: "كنت عنده صانعًا (مدبرُا)" فكيف يكون الصانع أو الخالق وفي نفس الوقت هو صنعة أو خليقة؟ هل يخلق نفسه؟ خاصة وقد قيل عنه: "به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1).

سابعُا: بقوله "من أجل أعماله"، واضح أنه لا يعني خلقة جوهره، بل تدبير التجسد الإلهي، لأن العمل يأتي بعد وجود الكائن وليس العكس. فهنا تعبير "خلقني" يشير إلي العمل لا إلي وجود جوهره. وقد استخدم الكتاب المقدس تعبير الخلقة عن العمل في مواضع كثيرة، منها:

"قلبًا نقيًا اخلقه فيّ يا الله" (مز10:51)، فالمرتل لا يطلب من الله أن يخلق فيه كائنًا جديدًا، إنما أن يعمل فيه فيجدد قلبه.

"لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة" (أف20:2). هذا لا يعني أننا قد متنا بالجسد ثم عاد فخلقنا، لكنه جدد طبيعتنا فصارت كمن ماتت وأعاد خلقتها في المسيح يسوع .

وبمقارنة رو14:13 مع أف24:4 يظهر إننا نلبس المسيح بمعني عمله الخلاصي: "البسوا الرب يسوع " (رو14:13)، "البسوا الإنسان الجديد المخلوق علي شاكلة الله" (أف24:4).  

 إذ يُعرِّف الرب جوهره أنه الحكمة الابن الوحيد المولود من الآب، الأمر الذي يختلف عن الأشياء التي لها بداية ومخلوقات طبيعية، قال في محبته للإنسان: "الرب قناني أول طرقه"، وكأنه يقول: "أعد لي أبي جسدًا، وقناني للبشر لأجل خلاصهم".

لأنه كما عندما يقول يوحنا: "الكلمة صار جسدًا" (يو14:1)، لا نفهم أن الكلمة كله صار جسدًا، لكنه لبس جسدًا وصار إنسانًا. وعندما نسمع: "صار المسيح لنا لعنة لأجلنا"، "جعله خطية لأجلنا الذي لا يعرف خطية" (غلا13:3؛ 2كو21:5)، لا نفهم ببساطة أن المسيح كله صار لعنة وخطية، بل حمل اللعنة التي كانت ضدنا (كما قال الرسول: "خلصنا من اللعنة". وكما قال إشعياء: "حمل خطايانا"، وكتب بطرس: "حملها في الجسد على الخشبة" (غلا13:3؛ إش4:53؛ 1بط24:2)، هكذا إذ قيل في الأمثال: "خلقني" لا يليق بنا أن نفهم أن الكلمة كله بطبيعته مخلوق، إنما أخذ جسدًا مخلوقًا وأن الله (الآب) خلقه من أجلنا، معدًا له الجسد المخلوق، كما هو مكتوب أنه من أجلنا يمكننا فيه أن نتجدد ونتأله.

ما الذي خدعكم يا من في جهالة تدعون الخالق مخلوقًا؟[195]

البابا أثناسيوس الرسولي

V   مرة أخرى فإن الحكمة ذاتها تتحدث عن سرّ الجسد المتَّخذ فتقول: "الرب خلقني". بالرغم من أن النبوة هنا عن أمور مقبلة، لكن لأن مجيء الرب سبق فتعين لم يقل "يخلقني" بل "خلقني"، حتى يؤمن البشر بأن جسد يسوع المولود من العذراء مريم حدث مرة واحدة وليس مرارًا[196].

القديس أمبروسيوس

إذ يتحدث حكمة الله عن تجسده لتحقيق خطة خلاص البشرية، يفتح طريق الخلاص ويكون البكر الذي يحمل البشرية ليدخل بها إلي أمجاده. بهذا دعي نفسه: "أنا هو الطريق" (يو14:6).

لأن المسيح لا يرغب فقط في تقديم ذاته للذين أكملوا الرحلة، بل أن يكون هو نفسه الطريق للذين يبدأون الرحلة، مصممًا أن يأخذ جسدًا. لذلك جاء تعبير: "الرب قناني بدء طرقه"، بمعنى أن الذين أرادوا أن يأتوا يلزمهم أن يبدأوا رحلتهم فيه[197].

القديس أغسطينوس

V   مرة أخرى كما قال سليمان الحكيم في الأمثال: "قناني". وقال "بدء الطريق" عن الأخبار السارة التي تقودنا إلى ملكوت السموات، ليس في الجوهر والكيان مخلوقًا، بل صار "الطريق" حسب التدبير. إذ صارت الكلمتان "مصنوعًا" و"مخلوقًا" تحملان نفس المعنى. إذ صُنع طريقًا، والباب والراعي والملاك والقطيع، وأيضًا رئيس الكهنة، والرسول، أسماء أخرى تُستخدم بمعانٍ أخرى[198].

القديس باسيليوس الكبير

"منذ الأزل مُسحتُ منذ البدء منذ أوائل الأرض" [23].

"إذ لم يكن غمرٌ أُبدئتُ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه" [24].

"من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت (ولدني LXX)" [25].

"إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة" [26].

"لما ثبَّتَ السموات كنت هناك أنا،

لما رسم دائرة على وجه الغمر" [27].

"لما اثبتَ السحب من فوق،

لما تشددت ينابيع الغمر" [28].

"لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه،

لما رسم أسس الأرض" [29].

يؤكد الحكمة الإلهي أنه كان موجودًا قبل الأمور الآتية:

V      كل الخليقة [22].

V      وجود الأرض [23].

V      أعماق ينابيع المياه [24].

V      تأسيس الجبال والتلال [25].

V      الأرض وأعفار المسكونة [26].

V      السماء والسحب [28].

V      قوانين الطبيعة [29].

وجد القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في هذه الفقرات غني حب الخالق له، فترنم قائلاً:

[أقمت السماء لي سقفًا،

وثبَّت لي الأرض لأمشي عليها.

من أجلي ألجمت البحر،

من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان،

أخضعت كل شئ تحت قدميَّ،

ولم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك".]

ويقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير:

[العالم تصونه العناية الإلهية إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية.

والعناية الإلهية هي تنفيذ مواعيد الكلمة الإلهي، الذي يهب شكلاً للمادة التي يتكون منها هذا العالم، وهو المهندس والفنان لهذا كله. ما كان يمكن للأشياء أن تأخذ جمالها لولا فطنة قوة الكلمة الذي هو صورة الله (الآب) وعقله وحكمته وعنايته.[199]]

خطة الخلاص ليست جديدة، لكنها سابقة للخلقة ذاتها، فقبل السقوط كان الله يعد للإنسان قيامه، وتعيَّن الحكمة الإلهي مسيِّا إسرائيل ومخلص العالم كله. لقد أكد أنه ليس فقط قبل خلقة الإنسان دبَّر الفداء، وإنما حتى قبل خلقة العالم فقد أوضح دوره في الخلقة. ذاك الذي أحب الإنسان وخلق العالم لأجله، قبل التجسد وقدم حياته فداءً عنه.

يعلق كثير من الآباء على ما ورد في الترجمة السبعينية: "قبل أن يصنع الأرض، ويثبت الجبال، قبل كل التلال ولدني" [24،25 LXX].

V   بحسب الهيئة كإله قيل: "قبل التلال ولدني"، أي قبل كل علو للأشياء المخلوقة، و"قبل الفجر ولدتك" (مز3:110 (Vulgate ، أي قبل كل الأزمنة والأشياء الوقتية. لكن إذ (ظهر) في شكل العبد قيل: "الرب خلقني في بدء طرقه" [22].

بكونه في شكل الله يقول: "أنا هو الحق"، وفي شكل العبد: "أنا هو الطريق" (يو6:14).

لأنه هو نفسه بكونه بكرًا من الأموات (رؤ5:1) عبر إلى ملكوت الله للحياة الأبدية لأجل كنيسته، بكونه الرأس ليجعل الجسد أيضًا خالدًا[200].

القديس أغسطينوس

V   يلزمنا أن نسأل ما هو معنى القول بأن الله (الكلمة) مولود قبل كل الدهور، وأيضًا خُلق لأجل بدء طرق الله ولأجل أعماله. بالتأكيد قيل هذا لأنه وُجد ميلاد قبل بدء العصور ولكن حين يتحدث عن خِلقةٍ في بدء العصور لأجل طرق الله ولأجل أعماله ينطبق هذا على السبب الخلاَّق للأعمال والطرق.

أولاً: حيث أن المسيح هو الحكمة، يلزمنا أن ننظر إنه هو نفسه كان بدء طرق أعمال الله. أظن أنه لا يوجد شك في هذا ، إذ يقول: "أنا هو الطريق، لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا بي"... لذلك خُلق لأجل بدء طرق الله وأعماله، لأنه هو الطريق ويقود البشر إلى الآب

ثانيًا: لقد خُلق من أجل أعمال الله من بدء العصور عندما أخضع نفسه لشكل الخليقة المنظورة، حاملاً شكل كائنٍ مخلوقٍ[201].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

V   لا يرتبك أحد من الكلمات: "قبل العالم" و"قبل أن يخلق الأرض"، و"قبل أن استقرت الجبال" فإنه يوجد هنا تلميح إلى التدبير حسب الجسد. فمع أن النعمة التي حلّت علينا من المخلص قد ظهرت الآن كما يقول الرسول، وجاءت عندما حلّ بيننا، لكن هذه النعمة قد أُعدت حتى قبل أن نوجد. بلى، أُعدت قبل تأسيس العالم، أما عن السبب فهو حنوه العجيب[202].

البابا أثناسيوس الرسولي

"إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة" [26].

"لما ثبت السموات كنتُ هناك أنا،

لما رسم دائرة على وجه الغمر" [27].

V   حكمة الله الذي به كل شيء قد صُنع، كان هناك، الحكمة نفسه يعمل في النفوس المقدسة ويجعلهم أصدقاء الله، وأنبياءه ويحدثنا عن أعماله في هدوء.

القديس أغسطينوس

V      لنتعلم أيضًا أن الآب كان معه، وكان هو مع الآب عندما خُلقت كل الأشياء.

يقول الحكمة: "لما أَعدَّ السماوات كنت معه، عندما صنع ينابيع المياه".

وفي العهد القديم إذ يقول الآب: "لنصنع" أظهر أن الابن يجب أن يُسجد له معه كصانع كل الأشياء، إذ قيل أن هذه الأشياء قد خلقت بالابن.

القديس أمبروسيوس

V   من كان معه عندما خلق كل الوجود إلا حكمته، الذي يقول: "عندما صنع السماء والأرض كنت معه"؟ بإشارته إلي السماء والأرض يشير إلي كل المخلوقات التي في السماء والأرض. إذ كان حاضرًا معه بكونه حكمته وكلمته، يتطلع إلي الآب خالقًا المسكونة، ومنظمًا لها ومعطيًا إياها نظامها، وهو قوة الآب، يهب كل الأشياء القوة، وكمخلص يقول: "كل ما أراه الآب فاعلاً افعله أنا أيضًا" (يو29:5؛ 16:1). وقد عَلِم تلاميذه القديسون أن كل الأشياء قد خُلقت به وله.

القديس أثناسيوس الرسولي

4. الحكمة الخالق والمخلص

"كنت عنده صانعُا (مدبرًا) " [30].

يؤكد أقنوم الحكمة الإلهي دوره في الخلقة. وكما يقول الإنجيلي يوحنا: "به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو3:1) ويقول الرسول بولس: "الذي به عمل العالمين" (عب2:1)؛ "فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما علي الأرض، ما يُري وما لا يُري سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كو16:1).

"وكنت كل يوم لذته، فَرِحة دائمًا قدامه" [30].

يؤكد علاقة الحب المتبادل بين أقنومي الآب والحكمة، فإن كان الآب خطط ليقوم الابن بالخلاص، هذا لأن لذة الآب في ابنه، ولذة الابن في أبيه. فالفداء الذي يقوم به الابن "حكمة الله" يُنسب للآب كقول السيد المسيح : "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو16:3). فقيام الحكمة بالفداء هو بذل للآب أيضًا محب الحكمة والواحد معه.

V      إنني أنا الذي يتلذذ به (الآب). علاوة على هذا كنت كل يوم لذته قدامه.

لقد كان يبتهج بالعالم الذي خلقه، وببني البشر

يوجد مع الله الحكمة المولود قبل العوالم، وليس فقط حاضرًا معه، بل ينظم معه العوالم   

لاحظ عمله في تدبير الأمور وتنظيمها. الآب بأمره هو العلة ، والابن بالتنفيذ لما صدر من أوامر يدبر وينظم. التمايز بين الأقنومين قائم في العمل الذي لكل منهما.

عندما قيل : "لنعمل" (تك26:1) عُرفت الخليقة بكلمة الأمر، وعندما كُتب "كنت عنده مدبرًا"، يعلن الله أنه لم يصنع منعزلاً (عن الابن). لأنه كان فرحه قدامه فرح بالعالم الذي صنعه وببني البشر.

يخبرنا الحكمة عن سبب فرحه. أنه يفرح لفرح الآب، الذي يفرح بإتمام خلقة العالم وبني البشر. فقد كُتب: "ورأي الله كل شيء أنه حسن" (تك 10:1 ، 12 ،31 ) حكمته شريك معه في العمل ويفرح معه إذ يكمل العمل.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

V      ألا يُحسب كفرًا القول بأنه وُجد وقت لم يكن فيه حكمة الله موجوداً؟! لقد قال: "كنت معه مدبرًا، كنت لذته كل يوم".

أو القول بأن قوة الله لم تكن موجودة أو كلمته أو ما غير ذلك مما يُعرف به الابن؛ أو يشير إليه الآب، أليس هذا خطأ؟!

من يقول إن بهاء مجد الآب لم يكن موجودًا في وقت ما، يحطم النور الأصلي الذي هو البهاء....

البابا الكسندروس السكندري

V   لذلك فإن البهاء السرمدي يشرق أمامه ويوجد معه، في ذات الوجود الذي بلا بداية، وهو مولود دائمًا، ودائمًا يشرق أمامه. إنه الحكمة القائل "كنت معه لذته، كنت لذته دائماً أمام وجهه..."

القديس ديونسيوس الكبير

V      حكمته هو الذي فيه لذته دائمًا كما بروحه. أنه واحد معه كنفسٍ لله، ويمتد كيدٍ لتشكل المسكونة.

العظات الاكلمندية

"فَرِحَةً في مسكونةِ أرضه،

ولذاتي مع بني آدم" [31].

إن كان الحكمة يعلن عن أنه موضوع لذة الآب، بكونه الواحد معه والخالق، فإنه بدوره يجر لذته فينا نحن خليقته التي عصته وتمردت عليه.

5. الحكمة واهب الطوبى

أخيرًا بعد أن أعلن الحكمة عن خطة تجسده الصادرة عن حبه وحب الآب لبني البشر، وعن رغبته أن نكون موضع سروره ولذته يدعونا للاستماع إليه وإلي قبوله، فننعم بالحياة المطَّوبة.

يقول السيد المسيح : "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يري الموت إلي الأبد" (يو51:8).

"فالآن أيها البنون اسمعوا لي،

فطوبى للذين يحفظون طرقي" [32].

"اسمعوا التعليم وكونوا حكماء ولا ترفضوه" [33].

"طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهرًا كل يوم، عند مصاريعي،

حافظا قوائم أبوابي" [34].

V      من له النور يسهر "والظلمة لا تدركه" (يو5:1)، ولا ينام، حيث لا توجد ظلمة.

من يستنير يكون يقظًا من جهة الله، هكذا يعيش.

القديس اكليمنضس السكندري

6. الحكمة واهب الحياة

"لأنه من يجدني يجد الحياة وينال رضى (إرادة) من الرب" [35].

يسألنا حكمة الله ليس فقط أن ننصت إليه بل أن نجده فنقتنيه، وكما يقول السيد المسيح: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية" (يو36:3).

يقدم الحكمة ذاته للنفس البشرية، وعليها أن تبحث عنه فتجده. هنا البحث يعني الإرادة، إذ لا يقتحم الحكمة النفس البشرية بغير إرادتها، إنما إذ تطلبه بكامل حريتها تجده حاضراً. هذه الإرادة المقدسة هي أيضاً عطية من الله كقول الرسول: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2).

V   بالنسبة للإنسان ليس حسن ألا يريد، ولكن بنعمة الله ينال عونًا لكي يريد، فإنه ليس باطلاً كُتب: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2)؛ وإن " الإرادة معدة بالله".

القديس أغسطينوس

7. بؤس رافضي الدعوة

"ومن يخطئ عني يضر نفسه،

كل مبغضي يحبون الموت" [36].

يقول السيد المسيح نفسه: "الذي لا يؤمن بالابن لن يري حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو36:3). كما يقول: "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحي كذلك الابن أيضًا يُحي من يشاء" (يو20:5). ويقول يوحنا الحبيب: "من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة" (1يو12:5).

 


 

من وحي الأمثال 8

لأقتنيك فأتمتع بالحياة!

V      صوتك يدوي في آذنيَّ الداخليتين.

لأرتفع معك على قمم الجبال العالية،

فأتمتع ببهاء مجدك على جبل طابور،

وأنعم بدمك الطاهر على جبل الجلجثة،

واختبر عشرة الملائكة على جبل التجربة.

V      إذ أجد نفسي تائهُا،

أراك واقفًا على الطريق،

تنتظرني في مفارق الطرق،

تحملني في طريقك الملوكي،

وتدخل بي إلى حضن أبيك.

V       عندما تئن نفسي من الضيق،

عند الأبواب أجدك قاضيًا عادلاً!

تسمع لكل متاعب نفسي،

وحين يظلمني العالم أجدك مدافعًا عني!

V       لأسمع صوتك فأتمتع بحكمتك.

حكمتك هي الطعام النازل من السماء.

تشبع نفسي وترويها.

تهبني حياة فائقة،

كل كنوز العالم تتصاغر جدًا أمامها.

V      لأقتنيك يا حكمة الله، يسوعي المحبوب!

فأحب الصلاح وأبغض كل الشرور.

تهبني مشورة صالحة وقوة مع كرامة.

تملأ مخازن نفسي ببركات لا تفني!

V      من أجلي تجسدت وصرت إنسانًا،

التقي بك كمخلصٍ وصديقٍ شخصي.

أنت موضع سرور الآب،

جعلتني موضوع سرورك ولذتك كل يوم!

V      لأقتنيك فأقتني النور،

لا يكون بعد فيَّ ظلام ولا ليل،

ولا تغفو عيني بل أبقي ساهرًا.

أتمتع بالحياة المطوبَّة،

أنال شركة الطبيعة الإلهية!

V      نعم من يجدك يجد الحياة الأبدية!

ومن يخطئ إليك إنما يقتني الموت!

أنت حياتي وفرحي ومجدي!


 

 

ملحق أم 22:8

"الرب قناني"

للقديس البابا أثناسيوس الرسولي

مع آباء آخرين

 

 

"الرب قناني أول طريقه

من أجل أعماله

منذ القدم"

[22:8].

 

تفسير القديس البابا أثناسيوس الرسولي لهذه العبارة له أهمية خاصة للرد على شهود يهوه المعاصرين، والذين تبنوا الأفكار اللآريوسية الخاصة بشخص السيد المسيح، لذلك منعًا من الإطالة استحسنت أن أخصص ملحقًا خاصًا بهذه العبارة.

يلاحظ في أحاديث البابا أثناسيوس منهجه الخلاصي الرائع، فمع دخوله في حوارٍ لاهوتيٍ، كان ما يشغل ذهنه هو خلاص الإنسان وتمتعه بشركة الأمجاد الأبدية. ففي تأكيده الميلاد الأزلي ووحدة جوهر الكلمة مع الآب، ركّز على عمل السيد المسيح الخلاصي خلال تجسده. قدم لنا بحق صورة رائعة وعذبة لمحبة الله الفائقة ولذته في بني البشر.

قام المرحوم صموئيل كامل عبد السيد مع الدكتور نصحي عبد الشهيد بتعريب المقالة ونشرها. وقد استحسنت أن اقتبس كثيرًا من العبارات عن هذه الترجمة لمركز دراسات الآباء بالقاهرة (أكتوبر 1987).


 

أهمية العبارة

شغلت العبارة "الرب قناني (خلقني) أول طرقه لأجل أعماله(أم22:8) قلب البابا أثناسيوس الرسولي، وقد كرّس أغلب مقاله الثاني ضد الأريوسيين لشرح هذه العبارة. كتب ثلاثة فصول كمقدمة لتفسيرها (فصول16-18)، وأربعة فصول في تفسير العبارة (19-22).

يقول البابا أثناسيوس عن الأريوسيين: [إذ ملأوا كل مكان بهذا القول المأخوذ من الأمثال، يبدو لدى كثيرين من الذين يجهلون العقيدة المسيحية أنه يعني شيئًا ما، لذلك من الضروري أن نفحص لفظ "خلق" لكي يظهر للجميع أنهم في هذا الأمر كما في غيره ليس لديهم سوى الخيال[203].]

عرض البابا أثناسيوس الرسولي تفاسير الأريوسيين للعبارة وقام بالرد عليهم، موضحًا أن تفاسيرهم جاءت لخدمة أفكارهم الخاصة، ولا تتفق مع بقية أسفار الكتاب المقدس ولا مع روحه. وقدم التفسير اللائق بالعبارة، جاء هذا التفسير يحمل روح الكتاب ليُعلن بكل قوة سرّ الخلاص، وعمل حكمة الله المتجسد في حياتنا.

سفر رمزي

يوضح البابا أثناسيوس أن سفر الأمثال سُجل بلغة الرمز، لهذا لا يليق أن تؤخذ آية واحدة وتُفسر بمعناها الظاهر، بل يلزم الدخول إلى أعماق العبارة واكتشاف المعنى السرّي الخفيّْ.

 كُتب: "الرب خلقني أول طرقه من قبل أعماله"؛ على أي الأحوال هي أمثال، عُبر عنها بطريق الأمثال، فلا يجوز لنا تفسيرها بمعناها الظاهر، بل نسأل بتقوى إدراك معناها فما يُقال في "الأمثال" لا يُقدم بوضوح بل بطريقة كامنة، وذلك كما يُعلمنا الرب نفسه في الإنجيل بحسب يوحنا: "تكلمت بهذه الأمور بأمثالٍ ولكن يأتي الوقت الذي لا أعود أتكلم فيه بأمثال بل علانية" (أنظر يو25:6). لهذا وجب أن نكشف عن المعاني ونبحث عنها كأمرٍ خفيٍّ، وليس بطريقة واضحة، فتُفسر كما لو كان المعنى واضحًا، لئلا بالتفسير الخاطئ نضل عن الحق.

لو كان الحديث المكتوب عن ملاكٍ أو أي شيء آخر مما له بداية أو عن واحدٍ منا نحن أعماله، لتُفهم: "خلقني". لكن إن كان الحديث عن "حكمة الله، الذي فيه خُلق كل ما هو له بداية، فيتحدث عن الحكمة ذاتها ألا يلزمنا أن نفهم تعبير "خلقني" دون أن تحمل أي تعارض مع تعبير "ولدني"؟ فلا ننسى أن "الحكمة" هو الخالق والصانع، ولا نجهل الفارق بين الخالق والمخلوقات، فلا يُحصى بين المخلوقات، بل تعني معنى آخر. فإذ ذُكرت في الأمثال، لا يُؤخذ المعنى الواضح بل الكامن الذي أُوحي للقديسين لاستخدمه في النبوة.

لقد جاء معنى "خلقني" بعد ذلك مباشرة في موضع آخر، فيقول: "الحكمة بنت بيتًا". الآن واضح أن جسدنا هو بيت الحكمة الذي أخذه الحكمة لنفسه ليصير إنسانًا، لهذا يقول يوحنا بوضوح: "الكلمة صار جسدًا" (يو14:1)...

في هذه العبارة [22]، لا يعني جوهر لاهوته، ولا ولادته الأزلية الأصلية من الآب عندما يتكلم الكلمة بواسطة سليمان، بل يعني الجانب الآخر، أي تدبيره من أجلنا. وكما سبق فقلت لم يقل: "أنا مخلوق” أو "صرت مخلوقًا"[204]

البابا أثناسيوس الرسولي

قناني وليس خلقني

قلنا أن بعض الآباء مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص يؤكدون أن الكلمة العبرية لا تعني "خلقني" بل "اقتناني possessed Me " .

V   إن بعضًا من الذين لهم باع في اللاهوت بدقة يقولون أن النص العبري لا يُقرأ "خلقني". ونحن أنفسنا نقرأ في كثير من النسخ القديمة "قناني possessed" بدلاً من "خلقني".

بالتأكيد "اقتناء" في اللغة الرمزية للأمثال تخص العبد، الذي لأجلنا "أخذ شكل عبد" (ف 7:2). ولكن إن كان أحد يُصر على هذه العبارة كما تُقرأ في الكنائس، فنحن لا نرفض حتى تعبير "خلق". فإن هذا أيضًا لغة رمزية تُشير إلى "العبد"، وذلك كما يُخبرنا الرسول: "كل الخليقة مستعبدة" (رو20:8). هكذا نقول أن هذا التعبير، كما الآخر يحمل تفسيرًا مستقيمًا (أرثوذكسيًا). فإن ذاك الذي صار لأجلنا مثلنا، خُلق حقيقة في أواخر الأيام؛ ذاك الذي في البدء هو الكلمة والله، قد صار جسدًا وإنسانًا.

فإن طبيعة الجسد مخلوقة، وباشتراكه فيها في كل جوانبها مثلنا بدون خطية، خُلق عندما صار إنسانًا، وخلق "حسب الله" (أف24:4) لا حسب الإنسان كقول الرسول، بطريقة جديدة وليس بزرعٍ بشريٍ.

لقد تعلمنا أن هذا "الإنسان الجديد" قد خُلق بالروح القدس وبقوة العليّ، هذا الذي يأمرنا بولس الناطق بأسرار لا يُنطق بها أن نلبسه، مُستخدمًا تعبيرين ليُعبر عن الثوب الذي نرتديه، قائلاً في موضع: "البسوا الإنسان الجديد المخلوق حسب الله"، وفي موضعٍ آخر "البسوا الرب يسوع المسيح" (رو4:13). فإن الأمر هكذا أنه صار لنا ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق" (يو6:14)، هذا الذي لبسه في أول طرق الخلاص، ليجعلنا عمل يديه، ويُشكلنا من جديد من التربة الشريرة بالخطية لنصير على صورته. إنه في نفس الوقت أساسنا قبل مجيء العالم، وذلك ككلمات بولس الرسول: "لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع" (1كو11:3). وبحق: "لم تكن ينابيع كثيرة المياه، من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال ولدني" (أم23:8-5 LXX)[205].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

حمل الحكمة الإلهي جسدًا مخلوقًا

يقول البابا أثناسيوس الرسولي في رده على الأريوسيين أن الكلمة الإلهي، الواحد مع الآب في الجوهر والخالق، قبِل جسدًا مخلوقًا. هذا هو تدبير خلاصنا الذي وضعه الحكمة قبل الخلقة. لهذا لا نعجب إن قيل عن السيد المسيح أنه "العبد، والحمل، والإنسان الخ".

V   يقول (الأريوسيون): مكتوب: "الرب خلقني أول طرقه من قِبَلْ (أجل) أعماله" [22].يا لكم من جهال وبلا إدراك! لقد دُعي في الكتاب المقدس: عبدًا (مز16:116)، وابن الأَمَة، وحملاً، ونعجةً (إش7:53)، وقيل أنه تعب، وعطش، وشَرِبَ وتألم. لكن يوجد أساس واضح وقوي لماذا قُدم هكذا في الكتاب المقدس؛ هذا لأنه صار إنسانًا وابن الإنسان، وأخذ شكل العبد، أيضًا الجسد البشري، لأن "الكلمة صار جسدًا" (يو14:1).

إذ صار إنسانًا لا يتعثر أحد من هذه التعبيرات، فإنه يليق بالإنسان أن يُخلق ويُولد ويتشكل ويتعب ويتألم ويموت ويقوم من بين الأموات.

بكونه كلمة الآب وحكمته له جميع خصائص الآب: أزليته، عدم تغيره، وأنه مثله في كل الأمور، لا يسبقه ولا بعده، شريك الآب في الوجود، واحد معه في اللاهوت، وهو الخالق غير المخلوق... وإذ صار إنسانًا، وحمل جسدًا بالضرورة يُقال عنه أنه مخلوق، الأمر اللائق بكل جسد.

على أيّ الأحوال هؤلاء يُشبهون تجار خمر يهود الذين يمزجون الخمر بالماء، إذ يهينون الكلمة، ويُخضعون لاهوته لمفاهيمهم الخاصة بالمخلوقات[206].

البابا أثناسيوس الرسولي

V   بخصوص شخصه فهو بحق شخص المخلص. لكن قيل عنه عندما أخذ جسدًا: "الرب خلقني أول طرقه من قِبَلْ أعماله". فإنه يليق بابن الله أن يكون أزليًا، في حضن الآب؛ وإذ صار إنسانًا صار يليق به الكلمات "الرب خلقني".

لقد قيل عنه أنه أيضًا جاع وعطش وسأل عن موضع لعازر وتألم وقام. وعندما نسمع عنه أنه الرب والله والنور الحقيقي نفهم أنه كائن من الآب. وعندما نسمع "الرب خلقني"، و"العبد" و"تألم"، بعدل نقول هذا لا عن اللاهوت إذ لا يُقارن بمادة، إنما نفسر ذلك بخصوص الجسد الذي أخذه لأجلنا، فإن هذه الأمور لائقة به، وهذا الجسد ليس إلا جسد الكلمة[207].

V   يليق بنا أن نقول بأن الابن هو الابن الحقيقي للآب الحقيقي، فنعبد (الله) الآب والابن، ولا نُدان كمن يعبد إلهًا غريبًا. أما الذين يقتبسون من الأمثال العبارة "الرب خلقني"، ظانين أنهم بهذا جاءوا ببرهان قوي أن الخالق، صانع كل الأشياء، قد خُلق، فنجيبهم بأن الله الابن الوحيد قد صار لأجلنا أمورًا كثيرة.

 فقد كان الكلمة وصار جسدًا، وهو الله وقد صار إنسانًا؛ وكان بدون جسم وصار جسمًا. بجانب هذا صار (من أجلنا) "خطية"، "لعنة"، "حجرًا"، "فأسًا"، "خبزًا"، "حملاً"، "الطريق"، "الباب"، "الصخرة"، وأمورًا أخرى كثيرة، ليس أنه صار بالطبيعة أحد هذه الأمور، إنما صار هكذا لأجلنا من أجل التدبير. لهذا بكونه الكلمة صار لأجلنا جسدًا، وبكونه الله صار إنسانًا. هكذا بكونه الخالق، لأجلنا صار مخلوقًا، لأن الجسد مخلوق.

لذلك قال بالنبي: "هكذا يقول الرب، أوجدني من الرحم عبدًا له". كما قال أيضًا بواسطة سليمان: "الرب قناني أول طرقه من أجل أعماله". فإن كل الخليقة كما يقول الرسول قد اُستعبدت؛ لهذا فإن ذاك الذي تشكَّل في رحم البتول حسب كلمة النبي هو العبد، لا الرب (بمعنى أن الإنسان حسب الجسد الذي فيه أُعلن الله). وأيضًا في العبارة الأخرى ذاك الذي خُلق كبدء طرقه ليس الله، بل الإنسان الذي فيه أُعلن الله لنا لتجديد طرق خلاص الإنسان.

هكذا إذ نعرف أمرين في المسيح ما هو إلهي وما هو بشري، لذلك ننسب السرمدية للاهوت، وما هو مخلوق للناسوت. فبحسب النبي، تشكَّل في الرحم كعبد، وبحسب سليمان أُعلن في الجسد بوسائل الخليقة المستعبدة[208].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

V   بالحقيقة كان مُستعبدًا في الجسد وللميلاد ولظروف حياتنا وذلك من أجل تحريرنا؛ من أجل كل هؤلاء الذين يخلصهم الذين كانوا مستعبدين تحت الخطية[209].

القديس غريغوريوس النزينزي


 

موقف الأريوسيين من العبارة

أساء الأريوسيون استخدام هذه العبارة، مقدمين الثلاثة تفاسير التالية:

1. إنه مخلوق، ولكنه ليس واحدًا من المخلوقات.

2. عندما أراد الله أن يُوجد طبيعة مخلوقة صنع وخلق أولاً واحدًا مفردًا فقط، يُسمى ابنًا وكلمة، عن طريقه كوسيط خلق به كل الأشياء، ذلك لعدم عدم قدرتها على احتمال لمسة يد الآب الشديدة.

3. يُسمى يسوع المسيح الكلمة بسبب الأشياء التي نالت الإدراك، والحكمة بسبب الأشياء التي نالت حكمة، ويُسمى القوة بسبب الأشياء التي اكتسبت قوة.

التفسير الأول للأريوسيين

ينكر الأريوسيون أن كلمة الله واحد مع الآب ومساوٍ له في الجوهر، ويدعون أنه أول الخليقة ومتميز عن كل المخلوقات، وهم في هذا يعتمدون على العبارة التي بين أيدينا. يقول البابا أثناسيوس:

[لقد كتبوا هكذا:

"إنه مخلوق، ولكنه ليس واحدًا من المخلوقات.

إنه مصنوع، لكنه ليس واحدًا من المصنوعات.

إنه مولود، لكنه ليس واحدًا من المولدين[210]."]

رد البابا أثناسيوس

أولاً: تفسير الأريوسيين يحمل تناقضًا؛ كيف يكون السيد المسيح مخلوقًا، وفي نفس الوقت "ليس واحدًا من المخلوقات"؟ فإنهم بهذا يقولون أنه مخلوق وفي نفس الوقت ليس مخلوقًا.

[ما المنفعة من القول من ناحية أنه مخلوق، ومن ناحية أخرى أنه غير مخلوق؟ فإنكم إن قلتم أنه "ليس كواحدٍ من المخلوقات"، فإني أثبت أن مغالطتكم هذه خالية من الحكمة[211].]

 ثانيًا: بقولهم أنه متميز عن كل بقية المخلوقات يخطئون، لأن كل خليقة متميزة عن غيرها. فالشمس تختلف عن القمر كما عن الأرض، حتى بين الحيوانات والطيور، كل حيوان أو طائر يتميز عن الأنواع الأخرى من الحيوانات والطيور التي من عائلات أخرى. فبالقول أن كلمة الله متميز عن بقية المخلوقات لا يعني شيئًا، لأن هذا أمر طبيعي بالنسبة لكل المخلوقات.

[إما أن يُستثنى الكلمة من بين المصنوعات، وكخالقٍ يُنسب إلى أبيه ويُعترف به أنه ابن بالطبيعة، أو أن يكون مجرد خليقة، وعندئذ يُعترف بأن له وضعه الخاص مثله مثل المخلوقات الأخرى تجاه بعضها البعض.

فإنه بالنسبة لتلك المخلوقات التي هي بطبيعتها مخلوقة، يمكن أن نجد البعض يتفوق على الآخر "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد" (1كو41:15).

فإنه يوجد اختلاف بين سائر المخلوقات عند مقارنتها بعضها ببعضٍ، ولكن ليس معنى هذا أن بعضها سادة والأخرى تتعبد للأسمى منها؛ ولا يكون البعض علة للمصنوعات والأخرى صادرة عنها[212].]

ثالثًا:أكد سليمان في نفس الأصحاح أن الحكمة هو "المدبر" للخليقة، أو "صانعها" وخالقها المهتم بها، دائم العمل من أجلها.

[الكلمة ليس مخلوقًا، فهو الوحيد الذي من ذات الآب، والذي دبر كل الأشياء، وجميعها تسبحه كخالقٍ، كما يقول هو ذاته: "كنت عنده مدبرًا (صانعًا)" (أم30:8)، و"أبي يعمل حتى الآن وأنا أيضًا أعمل" (يو17:5)، إن تعبير "حتى الآن "يدل على أنه موجود ككلمة في الآب منذ الأزل ، لأنه من خاصية الكلمة أن يعمل أعمال الآب، ولا يكون خارجًا عنه. وإن كانت هذه الأشياء التي يعملها الآب يعملها الابن أيضًا، والأشياء التي يخلقها الابن هي مخلوقات الآب، بهذا يكون إما أنه يصنع نفسه ويكون هو خالق نفسه، وهذا غير معقول ومستحيل، أو إن كان يخلق ويعمل مخلوقات الآب، فلا يمكن أن يكون عملاً ولا خليقة[213].]

[لو كان الكلمة ذاته معدودًا بين المخلوقات لما كان في استطاعته أن يخلق كل الأشياء، بل ولا الملائكة أيضًا يستطيعون أن يخلقوا لأنهم هم أيضًا من بين المخلوقات.

لكن إن كان الله قد دعا الأشياء غير الموجودة إلى الوجود بواسطة كلمته الذاتي، فلا يكون الكلمة من بين الأشياء غير الموجودة والتي دُعيت (إلى الوجود)، وإلا فلنبحث عن كلمة آخر بواسطته دعي الكلمة نفسه أيضًا إلى الوجود، لأن كل الأشياء غير الموجودة قد صارت بالكلمة[214].]

بنفس المعنى يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

V      يقول عن الملائكة "الصانع (ملائكته)"، لكن ألم يقل عن الابن "الصانع

بالرغم من تعبيره عن الخلاف بين الملائكة والابن هكذا: القائل عن الملائكة الصانع ملائكته أرواحًا، أما عن الابن "الرب خلقني"، "جعله الله ربًا ومسيحًا" (أم22:8؛ أع36:2). إنه يتحدث لا عن الله الكلمة بل عن التجسد. لأنه عندما أراد أن يعبر عن الفارق الحقيقي، لم يستبعد الملائكة فقط بل وكل القوات العلوية الخادمة.

انظر كيف يميز وبوضوحٍ عظيمٍ بين المخلوقات والخالق، الخدام والرب، الوارث والابن وبين العبيد[215].

القديس يوحنا الذهبي الفم

رابعًا: الكلمة وحده يعرف الآب ويراه. يتميز حكمة الله وكلمته عن بقية الخليقة في أنه لا يستطيع أحد أن يعرف الآب كما هو وأن يراه إلا ذاك المولود منه كأشعة صادرة عن النور، الأمر الذي يؤكد أنه ليس مخلوقًا. شتان ما بين معرفة السمائيين ورؤيتهم للآب وبين مع