إرميا

  القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

سفر كل عصر

لسفر إرميا أهمية خاصة تمس حياة المؤمنين في كل عصر.

عاش النبي في فترة عصيبة، فمنذ حوالي قرن سقطت مملكة الشمال "إسرائيل" بأسباطها العشرة تحت السبي، وزال مجدها بسبب ما اتسم بها ملوكها العتاة من عجرفة وفساد. أما مملكة الجنوب "يهوذا" فعوض أن تتعظ بما حلّ بأختها "إسرائيل"، نست أو تناست ما صنعته الخطية بأختها، حاسبة أن ذلك هو حكم إلهي عادل لانفصالها عن يهوذا وإقامتها مركزًا للعبادة في السامرة عوض هيكل أورشليم.

مع بداية خدمة إرميا كان الكل - الملك والمشيرون والكهنة وكل القيادات الدينية والشعب - متفائلاً، وقد انحرفوا إلى عبادة الأوثان وانحطت أخلاقياتهم حتى سكنت الشريرات حول بيت الرب يكرسن حياتهن لارتكاب الشر مع القادمين للعبادة، وانشغل رجال الدين مع الأنبياء الكذبة بمحبة المال والمجد الباطل. وإذ أراد يوشيا الملك الإصلاح قام بترميم الهيكل، لكن الإصلاح لم يصل إلى القلوب. فجاء إرميا يحذر وينذر معلنًا ضرورة التوبة والرجوع إلى الله بكل القلب، مهتمًا بالإصلاح الداخلي للنفس وإلا سقطت المملكة! هذا هو مفتاح السفر.

إن كان هناك ترميم لبيت الرب، فالحاجة ماسة إلى ترميم القلب كمسكن خفي للرب.

وإن كانت هناك ضرورة للذبائح، فيلزم أيضًا تقديم الطاعة لله ذبيحة حب له.

وإن كان لابد من الختان فليُختن القلب والحواس أيضًا.

إن كانوا أثناء الترميم قد وجدوا سفر الشريعة، فيليق بنا أن نجدها منقوشة بالروح القدس داخل النفس.

وسط هذا الظلام الدامس أشرقت أشعة الرجاء بالرب على النبي الباكي الشجاع، إذ رأى من بعيد المسّيا المخلص قادمًا ليقيم عهدًا جديدًا، فيه تُنقش شريعة الله لا على لوحي حجر، إنما داخل القلب الحجري لتجعل منه سماءً مقدسة!

هذا السفر في حقيقته هو سفر كل نفس قد مالت في ضعفها إلى تغطية ذاتها بالشكليات في العبادة دون التمتع بعمل الله الخفي والانشغال بالعريس السماوي!

في هذا السفر نرى رجل الله مختفيًا وراء كلمة الله النارية لكي يعلن الحق الذي كاد أن يرفضه الكل. يكشف أحكام الله وتأديباته في غير مداهنة ولا مجاملة؛ بل في اتضاع مع حزم، في قوة مع بث روح الرجاء... وقد كلفه ذلك احتمال اضطهادات كثيرة ومتاعب، بل ودفع حياته كلها ثمنًا لذلك.

لخص العلامة أوريجينوس غاية هذا السفر بقوله:

[أنظر إذًا أي شقاء عظيم أن يخطئ الإنسان فيُسلَّم إلى الشيطان، الذي يسبي (يأسر) النفوس التي تخلى عنها الله. لكن ليس بدون سبب يترك الله هؤلاء الخطاة. فإنه عندما يرسل المطر على الكرمة ثم لا تعطيه هذه الكرمة سوى شوكًا بدلاً من العنب، ماذا يفعل الله بها إلاَّ أن يأمر السحب بألا تمطر عليها؟

إذًا نحن أيضًا مهددون بسبب خطايانا، إن لم نتب يجب أن ُنسلم إلى نبوخذنصر وإلى البابليين حتى يعذبوننا بالمعنى الروحي. أمام هذا التهديد، تدعونا كلمات الأنبياء، وكلمات الشريعة، وكلمات الرسل، وكلمات إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى التوبة وإلى الرجوع. إن سمعنا لهم نؤمن بالذي قال: "ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان 3: 10)[1].

والآن أقدم لك أيها العزيز مقدمة بسيطة للسفر مع تفسير مختصر وتأملات أرجو أن تسندنا بروح الله القدوس على التمتع بأسرار هذا السفر الروحية العميقة وفاعلية كلمة الله فينا، مستندًا على بعض مفاهيم الأولين.

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

سانتا مونيكا 1994

كنيسة القديسين بطرس وبولس


 

-

الجزء الأول

 

الأصحاحات 26-29 (حوار إرميا مع الأنبياء الكذبة)

مقدمة في سفر إرميا

 

الأصحاح السادس والعشرون (عظة الهيكل ونتائجها)

الأصحاح الأول (الدعوة للخدمة)

 

الأصحاح السابع والعشرون (نير بابل)

- الباب الأول الأصحاحات [2- 32]

 

الأصحاح الثامن والعشرون (إرميا يقف ضد حننيا)

الأصحاحات 2-6 (عتاب في الأذن)

 

الأصحاح التاسع والعشرون (رسالة إلى المسبيين)

الأصحاح الثاني (سرّ الخصومة)

 

الأصحاحات 30-33 (سفر تعزية)

الأصحاح الثالث (الله يطلب عروسه)

 

الأصحاح الثلاثون (عودة مجيدة)

الأصحاح الرابع (زينة العروس)

 

الأصحاح الحادى والثلاثون (العهد الجديد)

الأصحاح الخامس (سرّ التأديب)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (شراء أرض أثناء السبي)

الأصحاح السادس (اقتراب التأديب)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (أورشليم... أنشودة فرح!)

الأصحاحات 7-10 (عتاب علني في باب بيت الرب)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (العبودية عوض الحرية)

الأصحاح السابع (تقديس البيت الداخلي)

 

الأصحاح الخامس والثلاثون (موقف الركابيين الأمناء)

الأصحاح الثامن (شكلية في حفظ الشريعة)

 

الأصحاح السادس والثلاثون (كلمة الرب لا تفنى)

الأصحاح التاسع (مرثاة على الجميع)

 

الأصحاح السابع والثلاثون (صدقيا يستشير إرميا)

الأصحاح العاشر (العودة إلى الله)

 

الأصحاح الثامن والثلاثون (إرميا في الجب)

الأصحاحات 11- 20 (صراع إرميا النبي)

 

الأصحاح التاسع والثلاثون (سقوط أورشليم في السبي)

الأصحاح الحادي عشر (العهد المكسور)

 

الأصحاحات 40-45 (خبرات إرميا ونبواته)

الأصحاح الثاني عشر (أعداء في الداخل)

 

الأصحاح الأربعون (إرميا مع جدليا في أورشليم)

الأصحاح الثالث عشر (مثلا المنطقة والزق الممتلئ خمرًا)

 

الأصحاح الحادي والأربعون (اغتيال جدليا والي أورشليم)

الأصحاح الرابع عشر (التأديب بالقحط)

 

الأصحاح الثاني والأربعون (قد خدعتم أنفسكم!)

الأصحاح الخامس عشر (الشفاعة المرفوضة)

 

الأصحاح الثالث الأربعون (حمل إرميا إلى مصر قسرًا)

الأصحاح السادس عشر (منعه من الزواج)

 

الأصحاح الرابع والأربعون (نبواته في مصر)

الأصحاح السابع عشر (خطايا يهوذا)

 

الأصحاح الخامس والأربعون (حديث معزي مع باروخ)

الأصحاح الثامن عشر (مثل الفخاري)

 

الأصحاحات 46-51 (نبوات عن الأمم)

الأصحاح التاسع عشر (مَثَلْ الإناء الخزفي)

 

الأصحاح السادس والأربعون (ارتعاب مصر الوثنية)

الأصحاح العشرون (مقاومة فشحور له)

 

الأصحاح السابع والأربعون (سيف الرب)

الجزء الثاني

 

الأصحاح الثامن والأربعون (نبوات ضد موآب)

الأصحاحات 21-33 (نبوات ما قبل السقوط)

 

الأصحاح التاسع والأربعون (نبوات ضد الأمم)

الأصحاح الحادي والعشرون (قيادة جاحدة)

 

الأصحاح الخمسون (سقطت، سقطت أساسات بابل!!)

الأصحاح الثاني والعشرون (حاجة الملك إلى التوبة)

 

الأصحاح الحادي والخمسون (اهربوا من بابل!)

الأصحاح الثالث والعشرون (الرب راعينا وبرنا)

 

الأصحاح الثاني والخمسون (ملحق تاريخي)

الاصحاح الرابع والعشرون (سلَّتا التين)

 

- المحتويات

الأصحاح الخامس والعشرون (كأس خمر السخط)

 

 

 


 

مقدمة في سفر إرميا

اسم السفر:

جاء اسم إرميا في العبرية "Yirmya" أو "Yirmyahu" (إرمياهو)، وجاء في الترجمة السبعينية Iremias (إرمياس)، وفي الطبعات اللاتينية Jeremias (جرمياس).

إرميا النبي وظروف الكتابة:

في هذا السفر امتزجت حياة إرميا النبي والأحداث التاريخية في عهده بالنبوة، لذا أجد نفسي ُملزمًا أن أكتب أولاً عن حياة هذا النبي مع عرض سريع للأحداث المعاصرة له، وإن كان قد سبق لي عرض بعضها في سفر حزقيال الذي عاصر إرميا النبي في أواخر أيامه.

1. إن كان هذا السفر يُنسب لإرميا النبي، لكن البعض يرى أن صديقه الحميم "باروخ" الكاتب هو الذي سجله (36: 23)، إذ كان محتفظًا بمنطوقات النبي ومدركًا لدقائق حياته.

2. كلمة "إرميا" تعني "يهوه يؤسس أو يثبت"، وربما تعني "يهوه يرفع أو يمجد"[2]. ففي أحلك الفترات ظلامًا، بينما كان إسرائيل مسبيًا ويهوذا في طريقه إلى السبي جاء إرميا من قبل الرب يعلن أن الله يود أن يؤسس شعبه ويثبته، بل يرفعه ويمجده، إن عاد اليه بالتوبة من كل القلب. الله لا يريد لنا المرّ ولا الضيق، حتى إن بدا كأنه يمرّر حياتنا بتهديداته، إنما يريد قيامتنا ومجدنا على مستوى أبدي فائق.

يرى البعض أن "إرميا" تعني "الرب يرمي"، بمعنى أن الله قذف بالنبي إلى عالمٍ معادٍ له، أو ألقى بالأمم تحت الحكم الإلهي بسبب خطاياهم[3].

3. وُلد إرميا في منتصف القرن السابع ق.م، في أواخر عصر الملك منسى المرتد، من عائلة كهنوتية، تقطن في قرية صغيرة تسمى عناثوث في أرض بنيامين، تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم. وهي مدينة الكاهن أبياثار الذي استبعده سليمان الملك (1 مل 2: 26)، ربما في موقع رأس الخرابة Ras-el-Kharrubeh بجوار القرية الحالية عناتا Anata[4]. وقد أفاده نسبه إلى عائلة كهنوتية في معرفة الشريعة وإدراكه أعمال الله مع شعبه. أما كونه بجوار أورشليم، فقد أتاح له وهو في سن صغير أن يحضر المواسم والأعياد المقدسة ويرى التصرفات الفاسدة في الأيام المقدسة للرب. أما القرية فقدمت له الطبيعة الشاعرية التي كان لها أثرها على نفسه من حساسية وعاطفة متدفقة. كانت القرية أيضًا على حافة البرية، فقدمت له بجوار آمان القرية رعب الصحراء، ومع خيرات القرية جفاف البرية. لهذا كثيرًا ما تحدث عن زئير الأسود وأشار إلى الحيوانات المفترسة.

4. تكرس إرميا لهذا العمل النبوي قبل ولادته، وُدعي بواسطة رؤيا وهو صغير السن (ولد na'ar). مثل موسى النبي حاول أن يهرب من الدعوة الإلهية، ليس رغبة في التخلي عن الالتزام بالمسئولية أو الخدمة، وإنما لشعوره بعجزه وقلة خبرته في التعامل مع الآخرين. لكن الله لمس فمه ووهبه كلمته وأقامه على ممالك وأمم لكي يقلع ويهدم، ويزرع ويبني. لقد أعلن له الله أنه سُيقاوم من القادة والكهنة والشعب، لكنهم لا يغلبوه (1: 4-10).

كان إرميا في عيني نفسه أمام الله كطفلٍ صغيرٍ، أما أمام الناس فصاحب قلب أسدي لا يعرف الخوف ولا المهادنة.

كان حساسًا للغاية، رقيق المشاعر، عاطفيًا إلى أبعد الحدود، لكنه قوي لا يعرف الضعف، ولا يتراخى في إعلان الحق مهما كلفه الأمر.

عاش باكيًا، تجري دموعه كنهرٍ يناسب لا يجف، فدُعي بالنبي الباكي، لكنه غير هزيلٍ ولا متراخٍ في جهاده.

دعي "أيوب الأنبياء"، رجل آلام وضيقات بسبب جراحته[5]:

- رفضه شعبه ورذلوه (11: 18-21).

- خانه إخوته (14: 13-16؛ 28: 10-17).

- ضُرب ووضع في مقطرة (20: 1-2).

-   هُدد بالقتل (26: 8؛ 36: 26).

- سُجن واُتُهم بالخيانة الوطنية (32: 2-3؛ 37: 11-15).

- وُضع في جب ليموت (38: 6).

- قيِّد في سلاسل (40: 1).

- اُحرقت بعض نبواته (36: 22-25).

- حُمل إلى مصر قسرًا وهناك رجمه شعبه.

من يوم ميلاده إلى لحظة استشهاده نادرًا جدًا ما وجد إرميا تعزية من بشر، لهذا فيُعتبر سندًا لكل مسيحي يُدعي ليعيش "ضد العالم". إنه أشبه بمنارة عالية تنير له الطريق[6].

دُعي "نبي القلب المنكسر"، فقد كسرت رسالته الثقيلة قلبه (9: 1)، وسرت كلمة الله في عظامه كنارٍ ملتهبة (20: 9).

وجه أحاديثه إلى يهوذا في أحرج اللحظات... ولا تزال كلمات الله التي نطق بها تصرخ لتحذر كل نفسٍ وكل قلبٍ حتى اليوم!

5. ربما كشابٍ أراد الزواج كعادة شعبه ليفرح بإقامة نسلٍ باسمه، وليدفنه أولاده عند موته. لكنه امتنع عن الزواج بأمر إلهي (16: 1-4)، كعملٍ رمزي أن الشعب يموت ولا يجد من يدفنه: "فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض، لا يُدفنون ولا يندبونهم..." (16: 6)، أما عن انقطاع الفرح يقول: "ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب" (16: 8).

 6. بدأ إرميا خدمته في السنة الثالثة عشرة لملك يوشيا (626 ق.م)، أي بعد حوالي خمس سنوات من حركة الإصلاح الدينية العظيمة الواردة في (2 مل 23)[7]، واستمر في عمله النبوي حتى حوالي سنة 586 ق.م، أي لمدة حوالي 40 عامًا.

اسم الملك "يوشيا" بالعبرية معناه "يهوه يشفي"، تبوأ العرش وهو ابن ثمانية سنوات.

بالرغم من مقاومة يوشيا الملك للوثنية بكل طاقاته، لكن تيار الفساد كان متغلغلاً في النفوس.

مع بداية خدمة إرميا كان موضوع استقلال يهوذا عن أشور قد بدأ يظهر كأمرٍ عملي، وتطلع الكل بنظرة تفاؤلية نحو مستقبل يهوذا، بينما وقف إرميا وحده أمام هذا التيار الشعبي والديني ليكرر أن هجومًا من الشمال يحل بيهوذا، وأن الله قد تخلى عن يهوذا!

بعد خمس سنوات من عمل إرميا، أي في السنة الثامنة عشرة من ملك يوشيا بدأ ترميم الهيكل، وفي أثنائه وجد شافان الكاتب سفر الشريعة المفقود، فأخبر حلقيا الكاهن العظيم، وقُدم السفر للملك الذي تأثر به جدًا ومع ما بذله الملك من إصلاحات لم يهتم الرؤساء المدنيون والدينيون والشعب أيضًا بإصلاح قلوبهم، مكتفين بترميم الهيكل وممارسة العبادة في شكليات بلا روح، ممتزجة بالرجاسات الوثنية.

7. واجه إرميا النبي مشكلتين إحداهما تخص قريته، والثانية تخص مملكة يهوذا ككل.

فمن جهة قريته، هاج أهلها عليه، لأنه شدد على ضرورة الالتزام بما جاء في الشريعة، وهي حصر العبادة العامة في الهيكل بأورشليم، الأمر الذي لا يقبله أهل عناثوث بكونهم سلالة الكاهن أبياثار المطرود من أورشليم، فكانوا ُيجرون طقوس العبادة مستقلين عن أورشليم. بهذا ظهر إرميا كخائنٍ لعائلته وقريته.

من جهة أخرى إذ رأى أهل قريته أن مملكة يهوذا بملكها وقياداتها وشعبها في ثورة ضد إرميا النبي كخائنٍ وطني حاولوا التبرؤ منه بجحده ومقاومته حتى لا يُنظر إليهم كخونة للوطن.

أما من جهة مملكة يهوذا ككل، فتلخصت مشكلته معهم في أمرين: أولاً حينما بدأوا في حركة الإصلاح في أيام يوشيا ركزوا على الشكليات دون الجوهر، يريدون إصلاح الهيكل دون تطهير القلب. ثانيًا، كان الحكام والشعب في مرارة وصراع بين التحالف مع فرعون مصر أم مع بابل. فالغالبية لا تطيق بابل وتتوقع هجومها بين الحين والآخر، مما دفعهم للارتماء في أحضان فرعون مصر وإن كانت خبرتهم مع الفراعنة ليست بطيبة. ويمكننا إدراك ذلك الصراع مما حدث مع الملوك الخمسة الذين عاصرهم إرميا أثناء نبوته:

أ. يوشيا الملك (626-609 ق.م): قتله المصريون عام 609 في معركة مجدو.

ب. يهوآحاز (609 ق.م): أقامه فرعون عوض أبيه وخلعه بعد ثلاثة شهور (2 أي 36: 2).

ج. يهوياقيم (609-597 ق.م): أقامه فرعون عوض أخيه، وبقى مواليًا له لمدة أربع سنوات، وإذ غلب نبوخذنصر فرعون خضع لبابل، وكان موته غامضًا.

د. يهوياكين (597 ق.م): بعد إقامته ملكًا عوض والده بثلاثة شهور أخذه نبوخذنصر أسيرًا.

هـ. صدقيا (597-587 ق.م): أقامه نبوخذنصر عوض ابن أخيه. كان في صراع بين ولائه لسيده في بابل وبين محاولته إرضاء الشعب الذي مال إلى فرعون مصر لحمايته من بابل، متطلعين إلى يهوياكين الأسير في بابل كملكٍ شرعي. تحالف صدقيا قلبيًا مع فرعون، فسباه ملك بابل بعد أن فقأ عينيه وسبى أورشليم ويهوذا (39: 1-7).

هذه صورة مختصرة تكشف كيف كان يهوذا بين حجري رحى، وعوضًا عن الالتجاء إلى الله بالتوبة للتمتع بالخلاص اتكأ على هذا أو ذاك.

8. فيما يلي الأحداث في أكثر تفصيل حتى يمكن متابعة الظروف المحيطة بإرميا النبي.

في بدء رسالته (626 ق.م) كانت أشور في الوادي الشمالي للفرات سيدة العالم لمدة حوالي 300 عامًا، وكانت عاصمتها نينوى. ولم يكن أحد يتخيل قط أنه يمكن أن تنهار يومًا ما؛ وكانت مصر منذ حوالي 1000 عام قبل قيام أشور قوة عالمية تمسك زمام السلطة في العالم لكنها بدأت تنهار. في السنة التالية لخدمة إرميا (625 ق.م) أسس نبوبلاسر الدولة البابلية الجديدة (في الوادي الجنوبي لنهر الفرات)، وكانت بابل أشبه بدويلة صغيرة لا قوة لها؛ لا يتوقع أحد أنها في الطريق لاستلام سيادة العالم من أشور حيث تغرب شمسها إلى غير رجعة بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م، ونصرتها على فرعون مصر.

بعد موت أشور بانيبال حلّ الضعف بأشور، فصارت عاجزة عن منع يوشيا من التحرك نحو الاستقلال والتحرر من النفوذ الأشوري. وقام أهل سميرنا والسكيثيون باقتطاع أجزاء من الإمبراطورية الأشورية. وصار بنو مادي في غرب إيران يمثلون خطرًا يهدد أشور... انتهى الأمر بانهيار أشور.

بسقوط نينوى عاصمة أشور عام 612 ق.م انتهت مملكة أشور، فبدى كأن إرميا قد أخطأ في تفسيره لمركز يهوذا السياسي، إذ حسب الكل أنه لم يعد بعد هناك خطر على يهوذا بعد انهيار أشور، وأن نظرة إرميا التشاؤمية غير صادقة.

في سنة 609 ق.م حشد نخو Necho فرعون مصر جيشه وتقدم لاحتلال أرض الفرات، فاحتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية وكان هدفه مساعدة الأشوريين الذين كانوا يقومون بمحاولة مستميتة للصمود في وجه البابليين في حاران. حاول يوشيا أن يوقفه عند مجدو ربما حاسبًا أن الله يسنده في ذلك، متكلاً على وعود الأنبياء الكذبة التفاؤلية، لكنه قُتل. وبقتل يوشيا أُقيم ابنه يهوآحاز (تعني يهوه يأخذ) أو شلوم (إر 22: 11) ملكًا، وكان شريرًا. خلعه فرعون نخو بعد ثلاثة شهور وأسره في ربلة، ثم أخذه إلى مصر، وأقام أخاه يهوياقيم (تعني يهوه يقيم) أو الياقيم عوضًا عنه.

9. عند تجليس يهوياقيم أو في السنوات الأولى من حكمه أعلن إرميا النبي في دار الهيكل أنه إن لم يغيّر يهوذا طريقه فسيخرب الهيكل نفسه (7: 1-15؛ 26: 1-6). أثارت هذه النبوة شغبًا، ولولا تدخل بعض الأشراف لقتل الشعب الثائر إرميا (26: 7-24)[8].

أرهق يهوياقيم الشعب بالضرائب ليدفع الجزية لسيده المصري، وكان يدفعها لمدة أربع سنوات (2 مل 32: 31-35)، وقد عبد الأوثان وصنع الشر. وفي السنة الرابعة من حكمه سجل إرميا النبوات التي نطق بها خلال السنوات السابقة، وقام باروخ بنسخها في درج، وإذ مُنع إرميا من الدخول إلى بيت الله زمانًا طويلاً أمر باروخ أن يأخذ الدرج إلى الهيكل ويقرأه أمام الشعب الحاضر بمناسبة الصوم. وصل الدرج إلى يد الملك فاستمع إلى بعض فقراته، وعندئذ مزقه وأحرقه بالنار. قام إرميا بكتابة درجين كالدرج الأول مع إضافات (36: 27-32) بتوجيه إلهي، ولكن الكاهن فشحور الناظر الأول للهيكل وأحد أعداء النبي وضعه في مقطرة ثم أطلقه في اليوم التالي (20: 1-3).

في نفس السنة (605 ق.م)، أي السنة الرابعة من حكمه، تغلب نبوخذنصر على نخو فرعون مصر في معركة كركميشCarchemish  (إر 46: 1-2)، فاضطر يهوياقين أن يحّول ولاءه وخضوعه لمصر إلى بابل، لكن ظل قسم ليس بقليل من الشعب يفضل الخضوع لمصر للجهاد معها ضد بابل، ويبدو أن يهوياقيم نفسه كان يميل إلى هذا، لكن إرميا حذر من ذلك.

مرت بيهوذا فترة هدوء نسبي، شجعت يهوذا على الثورة ضد بابل، لكن الأخيرة أرسلت فرقًا من الجيش إلى فلسطين. وفي عام 598 ق.م وصل جيشها إلى يهوذا، وفي هذا الوقت مات يهوياقيم بطريقة غامضة، وتوِّج ابنه يهوياكين (يكينا) المملوء شرًا. لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور، وجاء نبوخذنصر إلى أورشليم وأخذه هو وعائلته ورؤساء الشعب مع خزائن بيت الرب إلى بابل (2 مل 24: 8-16)، وعاش أسيرًا في السبي.

مما يجدر ملاحظته أن السلطات اليهودية تطلعت إلى نبوات إرميا وكلماته أثناء حصار أورشليم بمنظار سياسي حربي لا ديني، فرأت فيها تحطيمًا لمعنويات الجيش ونفسية الشعب، فحسبته خائنًا وطنيًا.

10. ملَّك نبوخذنصر الملك صدقيا عوضًا عن أخيه يهوياكين (2 مل 24: 17)، وكان شريرًا، لم يبالِ بكلمات إرميا بل ونجَّس الهيكل. في بداية حكمه كان بعض رجال يهوذا يتطلعون إلى يهوياكين المسبي كملك شرعي، يأملون في رجوعه واستعادته العرش (إر 17-29)؛ لذا كان صدقيًا في صراع بين رغبته في الظهور بالخضوع لسيده البابلي وبين إظهار روح الوطنية أمام الشعب ومضاداته لبابل المستعمر.

في عام 588 ق.م سار نبوخذنصر مرة أخرى إلى يهوذا وحاصر أورشليم. في الشهور الأولى من الحصار طلب صدقيا المشورة من إرميا النبي (21: 1-14) فأخبره بأن الخضوع للبابليين هو الطريق الوحيد لإنقاذ حياته ومدينته، لكن الملك لم يقدر أن يقدم هذه المشورة لرجاله بسبب ضعف شخصيته. تحرك الجيش المصري نحو فلسطين، ففك البابليون الحصار عن أورشليم مؤقتًا لمواجهة المصريين، ليعود فيحاصرها من جديد بعد تدبير أموره مع فرعون.

انتهز إرميا فرصة فك الحصار المؤقت وأراد الذهاب إلى قريته (32: 6)، فاُتهم أنه هارب إلى الكلدانيين كخائن (37: 11). أُلقى في الجب (37: 1-15)، وبعد أيام كثيرة أطلقه الملك صدقيا من حبسه وسأله سرًا عن كلمة الرب بشأنه. وهنا يظهر صدقيا أنه يحترم إرميا لكنه لضعف شخصيته كان يخشى الرؤساء. أخبر إرميا الملك أنه سيُدفع إلى ملك بابل، فأمر الملك بإيداعه في دار السجن وإحسان معاملته بعض الشيء، ولكن الرؤساء أخذوه وألقوه في الجب ليموت جوعًا (37: 16-21؛ 38: 1-6). أشفق عليه خصي أثيوبي (عبد ملك) فاستأذن الملك أن يُرفع إرميا من وحل الجب ويُوضع في دار السجن فسمح له، وبقي هناك حتى استسلمت أورشليم (38: 7-28).

11. في سنة 587 ق.م سقطت أورشليم، وقتل نبوخذنصر كثيرين، كما سبى البعض إلى بابل. فقأ عيني صدقيا واقتاده مسبيًا إلى بابل. أما من جهة إرميا فقد علم ملك بابل ما عاناه فظن أنه يفعل ذلك لأجله، فأصدر تعليماته بإحسان معاملته. أرسل نبوزردان الكلداني رئيس الشرطة إلى دار السجن ليستدعيه مع غيره من الأسرى إلى رامة، ومنحه حق الخيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في يهوذا، وقدم له رئيس الشرطة زادًا وهدية وأطلقه. أتى إرميا إلى جدليا بن أخيقام والى المنطقة، إلى المصفاة، وأقام عنده مع الشعب الباقي في يهوذا (39: 11-14؛ 40: 1-6). رفض إرميا راحته وكرامته، مفضلاً أن يعيش متألمًا وسط من أحبهم بالرغم من كراهيتهم له.

12. لما قُتل جدليا حث إرميا النبي الشعب ألا يهربوا إلى مصر، لكن عبثًا حاول أن يثنيهم عن عزمهم، فلم يذهبوا هم وحدهم إلى مصر وإنما أرغموه أيضًا هو وصديقه الحميم باروخ الكاتب على مرافقتهم في رحلتهم (41: 1؛ 43: 7)، وهناك نطق نبواته الأخيرة في تحفنحيس بمصر (43: 8؛ 44: 30). يوجد تقليد يقول إنه رُجم في مصر بسبب توبيخاته لشعبه[9].

13. يلقب البعض إرميا "رجل كل الفصول"[10]. عاش في ظروف متغيرة، بدأ نبوته في عهد يوشيا حيث كان الملك وكل يهوذا في سلام، وتوقع الكل الاستقلال التام من أشور مع حركة الإصلاح الخارجية. وانتهت حياته بالرجم في أرض غريبة (مصر)، حيث لم تعد مملكة يهوذا قائمة، بل سُبي أغلب الشعب إلى بابل، وهرب البعض إلى مصر، وخربت أورشليم لتصير مرعى غنم، وحُرق الهيكل.

امتدت خدمة إرميا لتشمل حوالي العشرين عامًا الأخيرة من الإمبراطورية الأشورية العظيمة والعشرين عامًا الأولى من إمبراطورية بابل الجديدة التي قامت عام  605 ق.م، لتصير أعظم من أشور.

عاصر إرميا ثلاثة أحداث خطيرة قلبت الموازين:

أ. معركة مجدو سنة 609 ق.م.

ب. معركة كركميش بالقرب من نفس الموقع، بعد أربع سنوات حيث انهزمت مصر لتصير بابل سيدة العالم.

ج. سبي أورشليم بواسطة نبوخذنصر وتدمير المدينة المقدسة والهيكل.

عاصر أيضًا إرميا ثلاثة معارك رئيسية ليهوذا: معركة ضد مصر (609 ق.م)، ومعركتان ضد بابل (597، 587).

عاصر أيضًا ثلاث مراحل للسبي (597، 587، 582 ق.م). ويرى البعض أن إرميا عاصر السبي في مراحله الأربع:

أ. السبي الأول: سنة 606 ق.م. في أيام الملك يهوياقيم، فيه سُبي دانيال وأصدقاؤه الثلاثة (2 أي 6: 36، 7، دا 1: 1، 2، 6).

ب. السبي الثاني: سنة 599 ق.م. في أيام الملك يهوياكين، ويسمى السبي العظيم (2 مل 24: 8-16، 2 أي 36: 9-10)، فيه ُسبي حزقيال النبي (حز 1: 1-2)؛ ومردخاي (إس 2: 6).

ج. السبي الثالث: سنة 588 ق.م. بسبب تمرد صدقيا الملك على نبوخذنصر (2 أي 36: 2)، حيث حوصرت أورشليم واشتد بها الجوع (إر 37: 5-7)، لكن عاد جيش الكلدانيين يستأنف حصاره، واضطر صدقيا إلى الهروب، فُقبض عليه.

د. السبي الرابع: سنة 584 ق.م على يد نبوزردان رئيس الشرط (إر 52: 12، 30)، حيث أُحرق بيت الرب وبيت الملك وهدمت أسوار المدينة وبعد ثلاثة أيام انتهت أعمال التدمير الشامل، فصار اليوم العاشر من الشهر الخامس يوم بكاء لسقوط أورشليم (إر 52: 12؛ زك 7: 3، 5؛ 8: 19).

14. بدأ إرميا خدمته النبوية بعد 60 عامًا من نياحة إشعياء النبي الإنجيلي. عاصر النبية خلدة، والنبيين حبقوق وصفنيا اللذين ساعداه في أورشليم، وحزقيال الكاهن ودانيال الذي يحمل دمًا ملوكيًا؛ وربما أيضًا ناحوم[11] الذي تنبأ عن سقوط نينوى، وعوبديا الذي تنبأ عن دمار آدوم[12].

 عاش إرميا بتولاً، لم يتزوج، بأمر إلهي، حتى لا يقاسي أولاده مما سيعاني منه الشعب من جوعٍ وسيفٍ وعارٍ (إر 16: 1-4).

في خدمته اجتذب قله قليلة من الأصدقاء، من بينهم اخيقان بن شافان (26: 24)، وابنه جدليا (39: 14)، وعبد ملك الكوشي (38: 7-13؛ 39: 16)، وكاتبه الوفي باروخ (36: 4-32).

قائمة تاريخية بعصر إرميا:

627 ق.م الملك يوشيا يبدأ إصلاحاته (2 أي 34).

626 ق.م دعوة إرميا للعمل النبوي.

626 ق.م غزو السكيثيين (إر 4).

621 ق.م وجود كتاب الشريعة أثناء إصلاح يوشيا (2 مل 22، 23).

612 ق.م انهيار نينوى أمام بابل (ربما عام 607 ق.م).

609 ق.م قتل يوشيا في موقعة مجدو بواسطة فرعون، وانتهاء استقلال يهوذا.

606 ق.م السبي الأول ليهوذا بواسطة بابل (خراب جزئي لأورشليم).

605 ق.م معركة كركميش (بابل تحطم مصر).

604 ق.م حرق الدرج الذي به نبوات إرميا النبي (ربما سنة 602م)[13].

8-597 ق.م أسر يهوياكين.

593 ق.م صدقيا يزور بابل.

587 ق.م السبي الثاني ليهوذا بواسطة بابل.

586 ق.م حرق الهيكل.

582 ق.م السبي الثالث.

الملوك المعاصرون لإرميا:

1. منسى (597-642 ق.م): 55 عامًا، ُولد إرميا النبي (2 أي 33: 1)، أشر ملوك يهوذا.

2. آمون (641-640 ق.م): سنتان، شرير مثل أبيه (2 أي 33: 21-22).

3. يوشيا (639-608 ق.م): 31 عامًا، ملك صالح. بدأ إرميا عمله في السنة 13 من ملكه.

4. يهوآحاز (609 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى مصر.

5. يهوياقيم (609-597 ق.م): شرير، حمل عداوة مرة ضد إرميا.

6. يهوياكين (597 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى بابل.

7. صدقيا (597-587 ق.م): صديق إرميا، لكنه ضعيف الشخصية فكان آداة في يد الأشراف والمشيرين الأشرار.

غرض السفر:

1. كان إرميا يترجى أن يدخل بمملكة يهوذا إلى التوبة لكي يتجنب كارثة السبي البابلي، وذلك كما فعل إشعياء النبي قبله بقرنٍ مشتاقًا أن يعين إسرائيل لتجنب السبي الأشوري.

2. يعلن قضاء الله وتأديباته خاصة بواسطة السبي، كما يكشف عن مراحم الله وترفقه بإرجاعهم من السبي ومعاقبة من سبوهم ومن شمتوا بهم من الأمم الغريبة. وكأن النبي أراد لهم ألا يسقطوا في اليأس مدركين أن سرّ الغلبة أو الهزيمة هو في داخلهم بالالتقاء مع الله واهب النصرة أو كسر الميثاق معه.

3. إن كانت كلمات السفر موجهة بالأكثر إلى يهوذا في أيام النبي غير أنها هي إعلانات إلهية لا يحدها زمن، موجهة إلى البشرية في كل جيل، يفهمها المعاصرون من خلال عمل المسيح الخلاصي للتحرر من سبي إبليس وتحطيم مملكة الظلمة من داخلنا.

اشترك أغلب الأنبياء في الأغراض السابقة بطريقة أو أخرى، لكن حمل كل نبي اتجاهًا معينًا في كتاباته، فاهتم عاموس النبي بالجانب السلوكي بينما ركز هوشع على إحساسات الحب الشخصي الذي يربط الله بشعبه، وتحدث إشعياء النبي الإنجيلي عن الله كضابط الشعوب بطريقة فائقة، أما إرميا فركز على الآتي:

1. الحاجة إلى التوبة والرجوع إلى الله.

2. الحاجة إلى إصلاح القلب الداخلي.

3. الله هو سيد التاريخ، يعمل لخير البشرية كلها.

4. خطب الله إسرائيل (كنيسة العهد القديم) عروسًا، لكن الحاجة إلى عهد جديد.

5. الحاجة إلى المسّيا الملك البار ليحقق الخلاص (نتحدث عنه في نهاية المقدمة).

1. الحاجة إلى التوبة:

جاء إرميا النبي يعلن كلمات الرب الحازمة، مهددًا بالسبي، لا لأجل الانتقام، ولا لأجل التهديد في ذاته، وإنما بالأحرى لكي يخشوا الرب فيرجعوا اليه. إن كانوا لا يرجعون خلال اللطف، فليرجعوا خلال التهديدات، وإن لم يرجعوا يسقطون تحت التأديب فيرجعوا خلال الألم. وللعلامة أوريجينوس عبارات جميلة عن محبة الله خلال تهديده الخطاة، إذ يقول:

[الله سريع في تقديمه الخير، بطيء في العقاب لمستحقيه.

 بالرغم من أنه قادر على توقيع العقاب على الذين هم تحت الحكم بدون أن يتكلم أو ينذر، لكنه ينذر ولا يعمل حالاً حتى يعطي الفرصة لنزع الاستحقاق للتأديب، باعتبار أن الكلام هو وسيلة لرفع العقوبة عن المحكوم عليه.

يمكننا أن نقدم أمثلة عديدة لحنان الله من الكتاب المقدس، ولكن يكفي الآن هذا العدد الصغير الحاضر في ذهني...

صار أهل نينوى خطاة، وقد تم الحكم عليهم من قبل الله: بعد ثلاثة أيام كان يجب أن تنقلب مدينة نينوى (يونان 3: 4). لم يشأ الله توقيع حكمه عليها دون أن ينطق بشيء، لكنه أعطاها فرصة للتوبة (حك 12: 10)، وفرصة للرجوع، وأرسل لها نبيًا عبرانيًا، حتى متى أبلغها النبي: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى، يصير أهلها غير محكوم عليهم فيما بعد، وإنما بتوبتهم يتمتعون بالرحمة الإلهية.

 كان سكان سدوم وعمورة محكومًا عليهم، كما يظهر من كلام الله لإبراهيم؛ ومع ذلك فقد قام الملائكة بواجبهم في البحث عن خلاص أناسٍ لم يكونوا يريدون أن يخلصوا، حينما قالوا للوط: "من لك أيضًا هنا، أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة؟ أخرج من المكان!" (تك 19: 12)، لم تكن الملائكة تجهل أن هؤلاء لن يتبعوا لوط، ولكنهم أكملوا عمل الخير والصلاح من قِبل الذي أرسلهم. (نصح لوط أصهاره بالخروج من المدينة، لكنهم رفضوا أن يسمعوه، ففي الغد أخرج الملائكة لوط وبناته، تاركين أصهاره)[14]].

كما يقول العلامة أوريجينوس: [عاتب الله أورشليم من أجل خطاياها، وكان الحكم هو تسليم سكانها للسبي، وبحبه ورحمته أرسل الله هذا النبي قبل تحقيق السبي بثلاثة ملوك حتى يعطي الفرصة للراغبين في إعادة التفكير والندم والتوبة خلال أقوال النبي... كان الله الطويل الأناة يقدم فترة استعداد حتى عشية السبي لكي يتوب السامعون فيعفون من آلام السبي... وحتى إذ بدأ السبي استمر إرميا يتنبأ وكأنه يقول: لقد صرتم تحت السبي، ومع هذا فإن رجعتم وتبتم لا تستمروا تحته طويلاً بل تشملكم نعمة الله وغفرانه. ونحن أيضًا نجد في هذا نفعًا لنا، إذ نحن ساقطون تحت ما يشبه السبي... فإننا إذ نخطئ نصير أسرى، ُنسلم أنفسنا للشيطان، الأمر الذي لا يختلف كثيرًا عن سقوط سكان أورشليم تحت يد نبوخذنصر. وكما سُلم هؤلاء لنبوخذ نصر بسبب خطاياهم، هكذا نُسلم نحن للشيطان بسبب خطايانا[15]].

كأن رسالة إرميا النبي هي التوبة والرجوع إلى الله بكونه الطريق الوحيد للخلاص من هذا السبي!

2. إصلاح القلب الداخلي:

يعتبر إرميا أكثر الأنبياء الذين تحدثوا عن القلب. يرى إرميا النبي أن القلب قد صار نجسًا بالطبيعة كثمرة للسقوط: "القلب أخدع من كل شيء وهو نجس" (17: 9)، وكما يقول إشعياء النبي: "قلب مخدوع قد أضله فلا ينجي نفسه، ولا يقول: أليس كذب في يميني؟!" (إش 44: 20).

هذا الفساد أفقد الإنسان بصيرته الداخلية، فلا يرى خطاياه ولا يكتشفها، بل يقول: "لماذا أصابتني هذه؟!" (13: 12)، وإن أدركها يحمل عنادًا رديئًا (18: 12). القلب في فساده يصير كمينًا، فلا يحمل محبة وسلامًا بل بغضة وحربًا (9: 8-9)، ويحول أرضه إلى خراب (12: 11)، لهذا فإنه لن تحل النجاة ما لم يحدث تغير وإصلاح في القلب.

علامة التوبة الحقيقية هي تغيير القلب في الداخل. ففي أيام يوشيا بدأ الترميم في الهيكل وصار للشعب مظهر التدين لا فاعليته، الأمر الذي سقطت فيه المملكتان بل ويسقط فيه الكثيرون، إذ يغيرون الشكل لا الجوهر ليتبرروا أمام الناس، بل وأحيانًا أمام أنفسهم. يقول النبي: "قد بررت العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا" (3: 10). وقد عالج النبي موضوع الإصلاح الداخلي من جوانب كثيرة، نذكر منها:

أ. القلب هو موضوع الإصلاح، فمنه تنبع الخطية (4: 4؛ 7: 9، 12: 2) فيتقسى (7: 24؛ 9: 14؛ 23: 17)، مع أن غاية القلب هو الله، فيه يصب كل اشتياقاته (11: 20؛ 17: 10؛ 20: 12). بهذا صارت الحاجة ُملحة إلى شريعة يمكن أن ُتنقش على القلب ذاته (31: 33؛ 24: 7).

ب. ترميم بيت الرب ليس غاية في ذاته: "لا تتكلوا على كلام كذب، قائلين: هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو" (7: 4). فإن لم يتب المؤمنون وتتغير حياتهم الداخلية يتحول الهيكل إلى مغارة لصوص (7: 11)، إذ لا يضم عابدين حقيقيين يفرحون قلب الله، وإنما يضم أشرارًا ينجسون البيت. وقد تنبأ عن خرابه، بكونه إعلانًا عن الخراب الذي حلّ في هيكل القلوب غير المنظورة. وكأن التأديب في حقيقته إنما هو كشف عما في النفس من دمار خفي وهلاك، يبرزه الله بالضيق الخارجي.

ج. عدم الارتكان على مجرد حيازة سفر الشريعة، أو التمتع بوجود تابوت العهد في وسطهم، إنما الحاجة أيضًا إلى نقش الشريعة في القلب وإعلان حضرة الله فيهم.

د. بخصوص الذبائح، فالله لا يطلبها لأجل ذاتها، لذا إن لم ترتبط بذبيحة الطاعة أو ذبيحة القلب (17: 24-46؛ 27: 19-22؛ 3: 10، 11، 18) تصير بلا قيمة، أشبه برشوة لا يتقبلها الله.

هـ. من جهة الختان، يهتم الله بختان القلب (4: 4) والأذن (6: 4) والحواس مع ختان الجسد، حتى يُنزع عنا ما هو لحساب شهوات الجسد ونتقبل ما هو لحساب الله نفسه. وهكذا أيضًا الاغتسال، فإنه يطلب اغتسالنا من الإثم لا مجرد اغتسال الجسد (2: 22).

و. أما عن الاتكال على الآباء السابقين ومحبة الله لهم وشفاعتهم لديه (15: 1)، وعلى الآباء المجاهدين أيضًا (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11)... فإن الله يطلب منا التوبة والرجوع إليه، فصلاة الغير عنا لا تسندنا مالم نطلب من الله العون.

3. الله هو سيد التاريخ[16]:

يوجه الله التاريخ لخير شعبه وكل الأمم أيضًا، كالخزَّاف الذي ُيخرج من الطين أوانٍ جميلة (18: 1-12). هو الذي يحث نبوخذنصر خادمه (27: 6) مع أنه وثني، لتأديب يهوذا، ليعود الله فيؤدب الأمم على خطاياها (25: 15الخ؛ 46). إنه يقيم الأمم ويزيلها بخطة إلهية فائقة (18: 7).

الله هو خالق العالم كله وضابطه (27: 5؛ 5: 22؛ 8: 7)، ليس إله غيره، أما الأوثان فليست آلهة (2: 11). هو يهب الحياة (2: 13)، أما هي فبلا عمل (13: 28). إنه قريب من كل البشر (23: 23)، يعرف فكر الإنسان ويستخدمه (11: 20؛ 17: 10).

بمعنى آخر، يعلن هذا السفر أن الله كضابط الكل وواهب الحياة ومدبرها يمسك بيمينه دفة كل الأحداث كبيرها وصغيرها ليتمجد في وسط شعبه، بل وفي حياة كل عضو؛ يشتهي خلاص الجميع وبنيان الكل؛ من يقبله إنما يقبل من في يده دفة أمور العالم كله، الأحداث الظاهرة والخفية، الجماعية والفردية!

4. الله وشعبه:

يقدم لنا إرميا النبي الله ليس فقط سيدًا للتاريخ، بل هو أيضًا "ينبوع المياه الحية" (2: 13)، بكونه مصدر الحياة. كما يقدمه "الفخاري" (18: 1-12) الذي لا يزدري بقطعة طين، بل يبذل كل الجهد ليقيم منها آنية للكرامة. هو خالق العالم الذي وضع لكل شيء قانونه ونظامه الطبيعي (5: 22؛ 8: 7؛ 10: 12-13؛ 27: 5-6؛ 31: 35-36).

إن كان إرميا النبي يتحدث عن قرب الله من كل البشرية وخطته الإلهية نحو كل الأمم، فقد أعطى اهتمامًا خاصًا باختيار شعبه مجانًا، بلا فضل من جانبه. لقد دعي إسرائيل بكر حصاد الله (2: 3)، أي يتقبله عن البشرية كلها كأنه بكور الكل؛ وميراثه المقدس (12: 7-9)؛ وكرمه (12: 10)، وقطيعه (13: 17)؛ وعروسه (13: 10 الخ)، ومحبوبته (11: 15؛ 12: 17)، لهذا يطلب منها أن تسلك كما يليق بكرامتها وحبه لها (2: 2 الخ؛ 6: 16الخ)، إذ دخل معها في عهد خاص (7: 23؛ 11: 4؛ 24: 7؛ 31: 33).

الله - كما تحدث عنه إرميا النبي - هو إله الحب الذي لا ينسى حب صبا شعبه (2: 12؛ 3: 19)، إله رحوم (3: 21الخ)، يهتم بإسعادها ويعمل لحساب مستقبلها ويهبها رجاءً. لا يتوقف عن تكرار الدعوة لها لكي تعود إليه، فهو يترقب مجيئها بترحاب بالرغم من كل شرورها وآثامها... مستعد أن يصفح بلا عتاب إن رجعت يقبلها اليه.

يقدم إرميا النبي مفهومًا حيًا لعلاقة الله بشعبه، فهي ليست علاقة بالشعب كجماعة فحسب وإنما هي أيضًا علاقة شخصية تمس حياة كل عضو في الجماعة. هي علاقة الله بكل قلب، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، لذا يهتم أن يكون القلب مقدسًا لكي يدخل في هذه العلاقة خلال العهد الإلهي (31: 33-34).

يرى البعض أنه سفر موجه للمرتدين الذين نسوا الله، يدعوهم للرجوع اليه فينسى شرهم؛ لهذا تكررت كلمة "ينسى" أو ما يماثلها 24 مرة كما تكررت كلمة "مرتد" أو ما يعادلها 13 مرة، و"ارجع" 47 مرة... إنه سفر الدعوة المستمرة للعودة والرجوع إلى حضن الله.

أخيرًا إن كان قلب إرميا قد فاض بالأحزان ورثى للشعب الذي حل به الدمار، لكنه يرى خروجًا للشعب، فيه يعود الأبناء من العبودية إلى حرية مجد الله، إذ يقول "هكذا قال الرب امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب فيرجع الأبناء إلى تخمهم" (31: 16-17). أما أساس هذا الخروج فهو العهد الجديد المؤسس على دم ربنا يسوع المسيح "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر... بل هذا هو العهد الذي اقطعه مع بيت إسرائيل: بعد تلك الأيام يقول الرب اجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها، وهم يكونون لي شعبًا" (31: 31-34).

دور النبي في كتاباته[17]:

لكي نفهم سفر إرميا وغيره من الأنبياء يليق بنا أن ندرك ما هو دور المتحدث في هذه الأسفار. ففي سفر إرميا كثيرًا ما تتكرر العبارة "كلمة الرب صارت..." ثم ينطق بصيغة المخاطب المفرد "أنا" بكون الله نفسه هو المتحدث. يتهم الله شعبه بخصوص كسر الميثاق المبرم بينه وبينهم، ويقف النبي كنائبٍ عامٍ في ساحة القضاء يعرض خطايا الشعب وجرمهم، ويظهر الله كقاضٍ في محكمة يصدر حكمًا بالإدانة، غير أنه يفتح باب الرجاء إن قدم الشعب توبة ورغبة للرجوع إلى الله وحفظ العهد.

يتحدث النبي أحيانًا بالأصالة عن نفسه كما جاء في اعترافات إرميا (12: 1، 6؛ 15: 10-21؛ 12-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-18).

في إيجاز يمكننا أن نلخص دور النبي كمتحدثٍ في الآتي:

1. إنسان في حضرة الله (أو في مجلسه الإلهي 23: 22) يتعرف على أحكام الله وأسراره.

2. إنسان مرسل من قبل الله، له حق إعلان كلمة الرب (1: 1-10؛ إش 6: 1-13؛ حز 1-3)، يتحدث باسم الله أو يتحدث الله على لسانه، على عكس الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلماتهم الخاصة، حسب فكرهم، من وحي قلوبهم.

3. شخص يدين الشعب لكسره العهد الإلهي.

4. يقوم تارة بدور النائب العام عندما يتحدث باسم الله وأخرى بالمحامي المدافع عندما يتحدث باسم الشعب.

5. اهتمامه الأول أن ُيحضر شعب الله لكي يدرك أهمية الميثاق مع الله والالتصاق به، وأن يمارس الحياة الميثاقية convental مع الله بالدخول في عهدٍ جديدٍ (الحياة الإنجيلية).

مميزات السفر:

1. مال إشعياء النبي إلى الحديث بفيض عن تعزيات الله الفياضة مع لمسات خفية من جهة التوبيخ، أما إرميا النبي فمال إلى التوبيخ بشدة مع فتح باب الرجاء. ولعل السبب في هذا شدة قساوة قلب الشعب وكثرة آثامهم خاصة في أيام إرميا، وأيضًا شعوره بخطورة الموقف لأن السبي كان على الأبواب.

2. مع ما اتسم به النبي من عنف في التوبيخ والتحذير، جاء السفر يكشف عن قلب نبي مملوء حبًا وحنوًا. يتحدث بقوة بأمثلة عملية وتشبيهات لكي يجتذب الشعب، فاتحًا أمامهم باب الرجاء. لقد انحرف الشعب إلى عبادة الأوثان (16: 10-13، 20؛ 22: 9؛ 32: 29؛ 44: 2، 3، 8، 17)، وقدموا أحيانًا أطفالهم ذبائح للآلهة الغريبة (7: 30-34)، ومع هذا بحبٍ شديدٍ كان يصلي من أجلهم (14: 7، 20)، حتى حين أمره الله أن يكف عن ذلك (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11).

كان يحبهم كشعبٍ وأيضًا كأشخاصٍ، إذ يدرك أن كل إنسانٍ يحمل مسئولية نفسه (31: 29-34).

3. العلاقة الشخصية مع الله في عيني إرميا النبي تتكامل مع علاقة الله بشعبه ككل. فقد اختبر إرميا النبي هذه العلاقة المتكاملة، فكان يطلب أن يرى الله ساكنًا في وسط شعبه (7: 23) وفي نفس الوقت يطلبه ساكنًا في كل قلب. يكشف عن خطية الشعب ككل (17: 1) ، وأيضًا عن نجاسة القلب التي اتسم بها الأشخاص (17: 9). يطلب توبة جماعية مع توبة قلبية شخصية! لهذا يربط النبي التاريخ الخاص بالخلاص بحياة الكنيسة كما بحياة الأشخاص، إذ غايته تمتع الكل بعمل الله الخلاصي خلال التوبة، وتمتع كل عضو بهذه الحياة.

4. يرى البعض أن إرميا النبي كان متشائمًا كل التشاؤم، متفائلاً كل التفاؤل. إذ ينظر إلى فساد يهوذا وخيانته للعهد الإلهي يتشاءم وإذ يتطلع إلى حب الله وطول أناته يمتلىء رجاءً. إلهه إله الرجاء والوعد والقوة، له إرادة لا تُقهر من جهة إقامة شعبٍ مقدسٍ له[18].

5. يقدم لنا سفر إرميا مفاهيم لاهوتية روحية حية:

أ. خطية الشعب هي في جوهرها كسر الميثاق مع الله، وبالتالي التوبة هي عودة إلى الحياة الميثاقية covenantal مع الله.

ب. كل جريمة يقترفها الإنسان ضد أخيه موجهة ضد الله نفسه.

ج. نجح النبي في تأكيد حب الله حتى في لحظات السقوط تحت التأديب؛ مؤكدًا أن التأديب هو علامة اهتمام الله بهم وحبه لهم.

د. الدمار الذي حلَّ بهم يحتاج إلى دخول في عهد جديد (31: 31-34).

6. في هذا السفر تتجلى حياة النبي الروحية بكل وضوح فقد اتسم بأمانته لرسالته حتى النفس الأخير بالرغم من النفور الذي واجهه به الكل.

كان وحيدًا، مُفتريًا عليه، مُضطهدًا من الحكام ورجال الدين والشعب، لكنه لم ييأس إذ وَجد في الله كل تعزيته.

7. حمل هذا السفر رسالة نبوية، تحقق بعضها بعد حياته بزمنٍ قليلٍ، لكن غايته الأسمى هي ما تحقق في العهد الجديد. وجد الرائي اللاهوتي يوحنا أن ما يحدث في الأزمنة الأخيرة مطابقًا لما ورد في سفر إرميا، من ذلك هلاك بابل (رؤ 18: 22؛ 14: 8؛ 17: 2-4؛ 18: 2-5 يقابله إر 25: 10؛ 51: 7-9، 45: 63-64).

8. سفر إرميا كرسائل معلمنا بولس الرسول يكشف عن طبيعة رجل الله الشديد الحساسية نحو شعب الله مستندًا على العمل الإلهي. وقد تأثر الرسول بولس كثيرًا بإرميا النبي في شدة حبه للشعب كما في معالجته لبعض المواضيع مثل الناموس والنعمة والحرية والختان الروحي (راجع إر 31: 31-34 مع 2 كو 3: 6 الخ و رو 11: 1؛ إر 1: 5 مع غلا 1: 15).

9. سفر إرميا هو سفر النبوات: كثيرًا ما أشار السفر إلى الكاتب بكونه "إرميا النبي"، إذ كان إرميا مدركًا لرسالته ولدعوته الإلهية كنبي (1: 5؛ 15: 19). كنبي حقيقي قاوم الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلمات هي من وحي أفكارهم الخاصة. أما بالنسبة له فكرر العبارة "كلمة الرب التي صارت..." أو ما يعادلها 151 مرة[19].

أما موضوع النبوات فهو:

أ. المسيا المخلص.

ب. يهوذا: سبيه وعودته.

ج. مدن: أورشليم، بابل، دمشق.

د. شعوب أممية: مصر، فلسطين، موآب، عمون، آدوم، عيلام، بابل.

هذه النبوات تحقق بعضها في وقت قريب من النطق بها، وبعضها بعد زمنٍ طويلٍ.

10. سفر إرميا هو سفر التساؤلات، يحوي أسئلة ربما أكثر مما ورد في سفر أيوب.

هو سفر الإصلاح، خاصة في الأصحاحات [30-33].

سفر الرثاء والاضطهادات.

سفر الرموز: استخدم إرميا الكثير من الرموز بأمر إلهي لأجل التعليم، تارة يلبس منطقة بالية، وأخرى يضع نيرًا على عنقه كالثور، وثالثة يكسر زقًا أمام الوالي، ورابعة يشتري حقلاً ويدفن الوصية.

من الرموز التي قدمها في السفر:

قضيب لوز (1: 11)؛

قدر منفوخة وجهها من جهة الشمال (1: 13)؛

منطقة بالية (13: 7)؛

زق ممتلئ خمرًا (13: 12-14)؛

قحط (14: 1-12)؛

إناء الفخاري (18: 1-6)؛

الإناء المكسور (19: 1-2)؛

سلَّتان (24: 1-10)؛

نير (27: 1-12)؛

شراء حقل (32: 1-12)؛

الحجارة الخفية (43: 9-13)؛

كتاب غارق في نهر الفرات (51: 59-64).

تأثره بهوشع النبي[20]:

يرى كثير من الدارسين أن إرميا النبي قد تأثر بهوشع النبي، فالتشابه بينهما لا يقف عند حدود اللغة والتشبيهات، بل يمتد إلى الأفكار الأساسية من جهة الله وعلاقته بشعبه. كان هوشع نبيًا لمملكة الشمال (إسرائيل)، وتقع عناثوث، قرية إرميا النبي، في شمال أورشليم وهي ليست ببعيدة عن الحدود الجنوبية لمملكة إسرائيل. هذا وإرميا النبي هو من نسل أبياثار (1 مل 2: 26) من نسل عالي (1 صم 14: 3؛ 22: 20، 1 مل 2: 27) الذي كان مهتمًا بتابوت العهد في شيلوه قبل انقسام المملكة. لهذا ربما كان إرميا ملتصقًا بقلبه بشيلوه ومتألمًا لما حلّ بها (7: 14-26) بسبب ارتباط أسرته القديم بهذا الوضع. بهذا تكون عائلتا هوشع وإرميا مرتبطتين بالشمال. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى افتراض قيام هوشع النبي- أجمل زهرة تقوية في مملكة الشمال - بدور حيوي في حياة إرميا الأولى، خاصة وأن إرميا يعترف أنه مدين للأنبياء السابقين له (28: 8).

يكشف الأصحاحان [2، 3] من سفر إرميا عن الارتباط القوي بهوشع من جهة عباراته وأفكاره. فمن أهم كلمات هوشع النبي كلمة "Hesed" أي "الولاء" أو "الأمانة" (الزوجية). فإن الشكوى الأولى ليهوه هي: "لا أمانة... في الأرض" (هو 4: 1)، "روح الزنى قد أضلهم فزنوا من تحت إلههم" (هو 4: 12)، فإن " إحسانكم (أمانتكم) hesed" كسحاب الصبح الذي يزول (هو 6: 4)... ويتحدث إرميا النبي أيضًا عن علاقة الحب بين الله وشعبه الذي كان كصبية مخطوبة مملوءة غيرة وحبًا (2: 2)، ليعود فيتحدث عن حياتها الزوجية (3: 1-5، 20) التي كانت تتمثل في قصة زواج هوشع النبي بالزانية جومر...

يرى إرميا النبي الله أبًا يهتم بشعبه كابن محبوب لديه، خلصه من عبودية فرعون ليهبه أرض الموعد ميراثًا مبهجًا ومجيدًا: "وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيكِ أرضًا شهية ميراث مجد أمجاد الأمم؛ وقلت تدعينني يا أبي" (3: 19). جاء هذا التشبيه متفقًا مع هوشع النبي: "ولما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هو 11: 1).

كانت شكوى الله في هوشع أنه "لا معرفة الله في الأرض" (هو 4: 1)، وان الشعب قد هلك بسبب عدم المعرفة (هو 4: 6). وقد جاءت نفس الشكوى في إرميا: "أهل الشريعة لم يعرفونني" (2: 8)؛ لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين" (4: 22)... وجاء الوعد الإلهي بالعهد الجديد مرتبطًا بالمعرفة: "ولا يُعلِمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحدٍ أخاه، قائلين: اعرفوا الرب. لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب" (31: 34).

يقدم لنا هوشع النبي رغبة الله في الدخول في محاكمة مع الشعب ليعطي الإنسان فرصة للحوار معه وإدراك خطة الله... وهي محاكمة تحمل عتابًا إلهيًا يدفع النفس إلى التوبة والرجوع إلى الله (هو 4: 1-3). وفي إرميا النبي يقدم الله الشعوب للمحاكمة (25: 31).

توجد أيضًا أفكار أخرى كثيرة مشتركة بينهما، مثل:

v     احلال الله بالأوثان (هو 2: 7-10؛ إر 2: 10-13).

v     التطلع إلى فترة التجول في البرية كفترة أمانة للشعب نحو الله (هو 9: 10؛ 11: 1؛ إر 2: 1-3).

v     اعتراف الشعب بخطاياه (هو 6: 1-3؛ إر 3: 22-25؛ 14: 7-10؛ 14: 19-21).

بين إرميا ونحميا:

اختلفت ظروف إرميا النبي عن تلك التي عاش فيها نحميا، فكان الأول يرى الخطر يحدق بشعبه، وليس من يهتم أو يبالي؛ بينما كان الثاني عائدًا من السبي ليحث الكل على بناء السور جنبًا إلى جنب مع بناء أسوار النفس الداخلية، ومع ذلك فقد التقيا معًا في الآتي:

1. حمل الاثنان عئواطف متأججة بالحب لشعب الله، وكان كلاهما منكسري القلب ومنسحقي النفس، باكيين (نح 1: 4؛ إر 9: 1).

2. شعر كلاهما أن خطايا الشعب هي خطاياهما. فيقول نحميا: "لتكن أذنك مصغية، وعيناك مفتوحتين، لتسمع صلاة عبدك الذي يصلي إليك الآن نهارًا وليلاً لأجل بني إسرائيل عبيدك، ويعترف بخطايا بني إسرائيل التي أخطأنا بها إليك، فإني أنا وبيت أبي قد أخطأنا. لقد أفسدنا أمامك، ولم نحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أمرت بها موسى عبدك" (نح 1: 6-7). وبنفس الروح يصرخ إرميا النبي كرجل صلاة حقيقي بعيد عن الحياة الفريسية، قائلاً: "وإن تكن آثامنا تشهد علينا يارب فأعمل لأجل اسمك، لأن معاصينا كثرت، إليك أخطأنا" (إر 14: 7).

3. مع أنكارهما لذاتهما واعترافهما بخطأهما وقفا أيضًا كشفيعين في الشعب (نح 5: 14-19؛ 13: 31). في يقين الإيمان يقول إرميا النبي: "أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير لأرد غضبك عنهم" (إر 18: 20).

4. كانا مخلصين في حبهما لوطنهما. وطنية نحميا اقتضته أن يقف أمام الملك البابلي يطلب أن يقدم خيرًا لأورشليم، وأن يسمح له ببناء السور، وبذات الوطنية نادى إرميا النبي وسط قيادات الشعب أن يخضعوا لنير بابل كتأديب إلهي مؤقت، مع توبتهم ورجوعهم إلى الله.

إرميا والأنبياء الكبار:

1. إن كان إشعياء النبي قد قدم نبواته قبل سبي الأسباط العشرة، فإنه مع ما أدركه من فساد الشعب كان مشتاقًا إلى الخدمة. علة ذلك انه رأى رؤى سماوية مجيدة، منها تلك التي وردت في الأصحاح السادس... هذا دفعه للقول: "هأنذا أرسلني" (إش 6: 8). أما إرميا الذي عاصر أمر لحظات الشر، مدركًا صعوبة تحقيق رسالته، سواء على مستوى القصر الملكي أو القيادات الدينية أو الشعب، لهذا تردد في قبول الخدمة قائلاً: "آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (1: 6)، واحتاج أن يسحبه الله إلى الخدمة ويلزمه بها.

إنه لم يتمتع بالرؤى كإشعياء، لكنه تحدث مع الله كصديقٍ حميمٍ جمعت بينهما الألفة، ففي بساطة يقول: "فكانت كلمة الرب إلى قائلاً" (1: 4).

2. يتشابه إرميا النبي مع النبي حزقيال في كونهما كاهنين، دُعيا للنبوة، ولم يمارسا العمل الكهنوتي. كانت خدمة النبي بين المسبيين في مملكة بابل، أما خدمة إرميا النبي فكانت بين مساكين الشعب الذين ُتركوا في الأرض. امتاز إرميا برقة المشاعر، فكان يبكي ثكلى بنت شعبه واهتزت جدران قلبه في أعماقه، أما حزقيال فامتاز بالنشاط والحماس والالتزام بالمسئولية.

3. شاهد إرميا النبي دانيال الشاب وهو يُساق أسيرا إلى بابل في السنة الثالثة لحكم الملك يهوياقيم (دا 1). تحدث دانيال النبي عن انهيار الامبراطوريات الأربع (بابل، مادي وفارس، اليونان، الرومان) ليملك الرب الملك بالصليب على القلب، كما تحدث عن مجىء المسيا الأخير. أما إرميا النبي فلم يتحدث عن انهيار الممالك وإنما عن مدة السبي والرجوع منه بعد سبعين سنة، وقد كانت نبوته معروفة لدانيال النبي وربما منها عرف مدة السبي (دا 9: 1-2).

هذا وقد عاصر إرميا النبي النبيين: صفنيا الذي تنبأ قبيل حدوث السبي (صف 1: 1) وحبقوق الذي تنبأ أيضًا قبل السبي البابلي.

سفر إرميا من الناحية اللغوية:

كتب إرميا النبي معظم نبواته في شكل شعر باللغة العبرية، لكن في عبارات بسيطة، على خلاف إشعياء النبي الذي امتاز بفخامة الأسلوب. هذا لا ينفي ما امتاز به أسلوب إرميا من بلاغة بلا تكلف، مع تعبيرٍ رائعٍ عن عواطفٍ رقيقةٍ ومعانٍ خشوعية.

يحوي السفر أبياتًا شعرية صغيرة تتكون من مقطعين كما يحوي أبياتًا شعرية طويلة، بل وقصائد شعرية كاملة.

أولاً: أبيات شعرية من مقطعين:

v     كخزي السارق إذا وُجد،

هكذا خزي بيت إسرائيل هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم. (2: 26).

v     كما تخون المرأة قرينها،

 هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب. (3: 20).

v     مثل قفص ملآن طيورًا،

هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا. (5: 27).

يرى  Muilenburأن النبي كثيرًا ما يكرر، لكنه في تكراره يقدم أعماقًا مع عناصر جديدة المعنى أكثر قوة وحيوية[21]، من ذلك:

v     قبلما صورتك في البطن عرفتك،

 وقبلما خرجت من الرحم قدستك. (1: 5)

v     آثامكم عكست هذه،

 وخطاياكم منعت الخير عنكم. (5: 25)

v     بالفضة والذهب يزينونها،

 وبالمسامير والمطارق يشددونها فلا تتحرك. (10: 4)

v     أنقذك من يد الأشرار،

 وأفديك من كف العتاة. (15: 21)

ثانيًا: أبيات شعرية أكثر من مقطعين:

جاءت هذه الأبيات في أشكال أدبية كثيرة، نذكر منها:

أ. نموذج شعري متوازي:

v     لم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،

 الذي سار بنا في البرية في أرض قفر وحُفر،

 في أرض يبوسة وظل الموت،

 في أرض لم يعبرها ولم يسكنها إنسان. (2: 6)

ب. نماذج لأبيات في شكل أسئلة تستخدم كقياس للتشبيه:

v     هل بدلت أمة آلهة، وهي ليست آلهة؟!

 أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع... (2: 11)

v     هل تنسى عذراء زينتها؟!

 أو عروس مناطقها؟!

 أما شعبي فقد نسيني أياما بلا عدد. (2: 32)

v     هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟!

 أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟!

 لأن شعبي قد نسيني،

 بخروا للباطل وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعبٍ في طريق غير ُمسهلٍ. (18: 14-15)

 ج. شعر شرطي:

v     إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب،

إن رجعت إليّ،

وإن نزعت مكرهاتك من أمامي،

فلا تتيه.

وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،

فتتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون. (4: 1-2)

د. أمثلة لأبيات شعر متوازي متعادل:

v     والآن مالك وطريق مصر،

 لتشرب مياه شحور،

 ومالك وطريق أشور،

 لتشرب مياه النيل. (2: 18)

v     لأنه من صغيرهم إلى كبيرهم، كل واحدٍ مولع بالربح،

 ومن النبي إلى الكاهن، كل واحد يعمل بالكذب. (6: 13)

v     لماذا تكون كغريب في الأرض،

 وكمسافر يميل ليبيت؟

 لماذا تكون كإنسان قد تحير،

 كجبار كإنسان قد تحير؟! (14: 8-9)

هـ. أبيات مقابلات عكسية تتكون من 3-6 فقرات:

v     قد وكلتك اليوم...

 لتقلع وتهدم،

 وتهلك وتنقض،

 وتبني وتغرس. (1: 10)

ثالثًا: قطع شعرية كاملة:

يحوي هذا السفر حوالي 15 قطعة شعرية بالعبرية كاملة.

بهذا يظهر سفر إرميا باللغة العبرية قطعة أدبية رائعة، لكن سموه لا يظهر في تجسيد رسالته في أشعار، وإنما يمثل أولاً وقبل كل شيء عملاً كرازيًا[22] لقد اعتذر في البداية عن رسالته، كما فعل موسى النبي قبله لشعوره بعجزه عن الكلام (1: 6؛ خر 4: 10)، فأجابه الرب أنه يضع كلماته الإلهية في فمه (1: 6؛ خر 4: 12). عاد مؤخرًا يعتذر متسائلاً عن مدى إمكانية العمل، فأكد له الرب: "مثل فمي تكون" (15: 19). حقًا لقد صار إرميا النبي وكأنه الفم الذي يستخدمه الله حاملاً قوة الكرازة الفعالة مع مهارة أدبية.

مصر وبابل في سفر إرميا:

إن كانت مصر قد حملت البركة باستقبالها العائلة المقدسة فتحقق لها الوعد الإلهي (إش 19) وصار شعبها المصري مباركًا، وفي وسطها أُقيم مذبح للرب، لكن مصر في العهد القديم كانت تشير إلى محبة العالم إذ عُرفت بنيلها الذي أكسب الوادي خصوبة، كما عُرفت بابل بكبريائها، فصارت رمزًا لكل كبرياء كما للزنا. لهذا فمن الجانب الرمزي جاء إرميا النبي يحذر المؤمنين من الالتجاء إلى فرعون مصر، أي إلى العالم في محبته المهلكة، أو إلى ملك بابل، أي إلى الكبرياء المفسد للنفس، وإنما يكون الالتجاء لله وحده الذي يحرر النفس والجسد معًا من أسر محبة العالم والكبرياء!

إرميا في العهد الجديد:

أُشير إلى إرميا شخصيًا في الإنجيل بحسب معلمنا متى البشير مرتين: عند قتل أطفال بيت لحم (مت 2: 17، إر 31: 15)، وعندما دخل السيد المسيح الهيكل ووجده كمغارة لصوص (مت 21: 13؛ إر 7: 11). كما ضم العهد الجديد 41 نصًا تحمل تلميحًا لما جاء في سفر إرميا، منها سبعة نصوص مباشرة.

تحدث إرميا النبي عن العهد الجديد كمصدر تعزية ورجاء للنفوس الساقطة (إر 31: 34؛ عب 10: 16).

وجد يعقوب الرسول في إرميا ما يسنده للحديث في مجمع الرسل المسكوني (أع 15: 16؛ إر 12: 15). ووجد فيه بولس الرسول سندًا للحديث عن حرية اختيار الله في الدعوة (رو 9: 20؛ إر 18: 6)، كما أدرك يوحنا اللاهوتي انهيار بابل العظيمة (رؤ 18: 2؛ إر 51: 8).

بين إرميا النبي والرسول بولس:

1. رأينا التشابه بينهما في اهتمامهما بأعماق النفس، والإصلاح الجذري لا التركيز على الختان الظاهري...

2. كان كلاهما رجلي آلام ودموع (أع 9: 16؛ 20: 19، إر 9: 1).

3. أدرك الاثنان دعوتهما للخدمة وهما بعد في الأحشاء (إر 1: 4-5؛ غلا 1: 15).

المسّيا في سفر إرميا:

في حديثنا عن غرض السفر رأيناه يبرز الحاجة إلى المسيا الملك البار ليحقق الخلاص. فإن كان ملوك بيت داود قد أساؤا القيادة، وكان ذلك أحد العوامل التي شتت الرعية (21: 1، 23: 3)، فإن الله يعد بالأنبياء عن مجيء ملك جديد من نسل داود، بار وحكيم، يخلص يهوذا القطيع الجديد (23: 3-6). وكأن إرميا النبي قد تطلع بنظرة نبوية إلى العصر المسياني الذي فيه يحقق السيد المسيح التجديد الروحي الحق، فيقدم الله عهدًا جديدًا لإسرائيل الجديد، حيث يملك الله روحيًا على القلب (23: 5-8؛ 30: 4-11؛ 33: 14-26؛ 33: 14-26؛ 32: 36-41). وبظهور هذا العصر الجديد ينتهي الطقس اليهودي في حرفيته، وينفتح الباب لدعوة الأمم (3: 17).

لا يقف الأمر عند النبوات عن عصر المسيا وإنما كانت شخصية إرميا ترتبط كثيرًا بشخصية السيد المسيح، حتى عندما سأل السيد تلاميذه: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ قالوا إن بعضًا يقول إنه إرميا (مت 16: 14).

أما أهم ملامح هذا الارتباط فهي:

1. عاش إرميا يحمل في داخله أثقال شعب الله بمرارة، إذ يقول "أحشائي أحشائي، توجعني! جدران قلبي! يئن في قلبي! لا أستطيع السكوت" (4: 19). وبدموع يقدم مرثاة، قائلاً: "يا ليت رأسي ماءً وعينَّي ينبوع دموع؟، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي" (9: 1)، حتى دُعي بالنبي الباكي. وقد جاء السيد المسيح يبكي البشرية على خطاياها ورجاساتها، خاصة أورشليم التي قدم لها الكثير وفي عناد قاومت عمل الله. فقد قيل عنه: "رجل أوجاع ومختبر الحزن" (إش 53: 3).

وُجد السيد المسيح باكيًا (مت 23: 37)، إن لم يكن علانية ففي أعماقه دموع لا تجف من جهة الخطاة. اكتشف إرميا بعض الخطايا فلم يعد يحتمل نفسه مشتهيًا أن يجد له مبيتًا في البرية ليترك شعبه وينطلق من عندهم لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين (9: 2). أما السيد المسيح العارف بكل خطايا البشرية في كل تفاصيلها الخفية والظاهرة، بكل ثقلها، فقد جاء ليحل وسط الخطاة ويسندهم مقدسًا إياهم بدمه. لم يكن لإرميا رجاء في شعبه إلا من خلال نظرته المستقبلية منتظرًا مجيء الملك المسيا ابن داود ليقيم مملكته على مستوى روحي جديد، أما السيد المسيح فحقق ما اشتهاه إرميا وغيره من الأنبياء فاتحًا طريق الملكوت الجديد لكل من يدعو اسم الرب من جميع الأمم.

2. أبغض الشعب مع القيادات إرميا النبي بسبب توبيخه لهم، وهكذا أبغضوا السيد المسيح، لا لسبب سوى شرهم: "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 20)، "لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة" (يو 7: 7).

لم يكن ممكنًا للرؤساء المدنيين والدينيين من كهنة وأنبياء كذبة، وأهل عناثوث وكل الشعب أن يتقبل محبة النبي الصادقة وكلماته الصريحة، فعاش مرفوضًا ومضطهدًا ممن يحبهم، حاملاً صورة السيد المسيح محب البشرية، الذي جاء يسلم ذاته من أجل الكل، أما خاصته فلم تقبله، بل وتكاتفت كل القوى تريد الخلاص منه خارج المحلة.

3. تنبأ إرميا النبي عن خراب أورشليم، قائلاً: "هأنذا داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا، وأقيم دعواي على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" (1: 15-16). وأعلن السيد المسيح ما سيحل بأورشليم، قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم ُيترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38).

4. مع ما حمله إرميا من مرارة في داخله من جهة الشعب العنيد وما عاناه منهم بالرغم من محبته لهم، وإدراكه التأديبات القاسية التي ستعانيها أورشليم وكل مدن يهوذا، مرارته امتزجت بحلاوة خلال رؤيته السيد المسيح المخلص بروح النبوة، خلال الظلال، فلم يحمل يأسًا بل رجاءً.

رأى العصر المسياني كعلاجٍ حقيقي للخراب الحاّل، فقال: "ها أيام يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنا، وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب بِرّنا" (23: 5-6).

رأى السيد المسيح الذبيح، فقال: "وأنا كخروف داجن (أليف) يُساق إلى الذبح، ولم أعلم أنهم فكروا علي أفكارًا، قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء، فلا ُيذكر بعد اسمه" (11: 19).

5. أدرك إرميا النبي أن الإصلاح الحقيقي يقوم بهدم الشر تمامًا، أي هدم الإنسان القديم، والتمتع بالخير أي قيامة الإنسان الجديد، ليكون الإصلاح جذريًا. ففي بدء دعوته سمع الصوت الإلهي يعلن له: "قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس" (1: 10). وقد أدرك أنه عاجز تمام العجز عن اقتلاع مملكة إبليس وهدمها وإبادتها لكي يبني في نفوس شعبه مملكة الله ويغرسها فيهم، لهذا أكّد الحاجة إلى "عهد جديد" يقيمه الرب نفسه، القادر وحده بروحه القدوس أن يهدم ويبني، ويقتلع ويغرس، الذي وحده يدخل إلى أعماق النفس، يحطم فيها ما هو قديم ليقيمها بطبيعة جديدة... وكما يقول النبي: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم... بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها في قلوبهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبًا، ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحد أخاه، قائلين: اعرف الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" (31: 31-34).

6. يقول إرميا عن نفسه: "وأنا كخروفٍ داجنٍ (أليف) ُيساق إلى الذبح" (إر 11: 9)، كما قيل عن السيد المسيح: "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7؛ إر 8: 32).

7. حمل إرميا النبي العار من أجل الرب: "اعرف احتمالي العار لأجلك" (إر 15: 15)، كما قيل عن السيد المسيح كلمة الله المتجسد: "لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليّ" (رو 15: 3).

8. يرى البعض أن إرميا النبي قد عرض الكثير من الأسئلة التي لا إجابة لها إلا بمجيء السيد المسيح وإقامة العهد الجديد. نذكر على سبيل المثال:

أ. "كيف أصفح لكٍ عن هذه؟" (5: 7). فلم يكن ممكنًا أن تنعم بالصفح إلا بالسيد المسيح "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته" (أف 1: 7).

ب. "أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب؟!" (8: 22)، وجاءت الإجابة في العهد الجديد أنه يوجد طبيب النفوس والأجساد، ربنا يسوع المسيح الذي يقدم دمه بلسانًا لشفاء جراحات النفس المميتة.

ج. "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟" (13: 23)... حقًا لم يكن ممكنًا للإنسان أن يغير طبيعته التي التصقت به كجلده ولطخت حياته كرقط النمر، لكن جاء السيد المسيح يهبنا بروحه القدوس تغيير جذري لطبيعتنا الداخلية، فصارت لنا الخلقة الجديدة (غلا 6: 15)، وجدة الحياة (رو6: 4).

د. "إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تباري الخيل؟ وإن كنت منبطحًا في أرض السلام فكيف تعمل في كبرياء الأردن؟!" (12: 5). وجاءت الإجابة: نستطيع بالمسيح يسوع ربنا أن نباري الخيل أي الشياطين ونهزمهم، ونعمل في كبرياء الأردن، فنحطم تشامخ الخطية... وباختصار "شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 57).

يُرى السيد المسيح في سفر إرميا إنه:

أ. بلسان في جلعاد (8: 22)، أي دواء للنفس المنكسرة، وأيضًا طبيب بنت شعبي (8: 22)، والراعي الصالح (31: 10).

ب. رجاء الكنيسة ومخلصها: "يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق لماذا تكون كغريب في الأرض وكمسافر يميل ليبيت" (14: 8؛ 50: 34).

ج. الفخاري، ُيشكل طبيعتنا (الطين) بيده الإلهية (18: 6).

د. غصن برّ: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض" (23: 5).

هـ. داود الملك: "بل يخدمون الرب إلههم وداود ملكهم الذي أقيمه لهم" (30: 9).

و. ينبوع المياه الحية (2: 13).

أما أهم النبوات المسيانية فهي:

أ. ميلاده الجسدي كابن لداود (23: 5؛ 33: 15؛ أع 13: 22؛ رو 1: 3).

ب. لاهوته: "الرب برنا" (23: 6، 1 كو 1: 30).

ج. قتل أطفال بيت لحم (31: 15؛ مت 2: 16، 18).

د. تقديم نفسه ذبيحة حب (11: 9)، وحمله العار (15: 15)، وعدم جلوسه في مجلس المازحين مبتهجًا (15: 17).

أقسام السفر:

يبدو أن نبوات إرميا النبي كانت تسجل في أدراج متفرقة، كل درج يحوي موضوعًا معينًا بغض النظر عن التسلسل التاريخي، فقد جاء السفر مرتبًا ترتيبًا موضوعيًا وليس تاريخيًا. أما تكرار بعض العبارات فجاء ضرورة حتمية، لأن السفر في غالبيته مجموعة عظات ألقاها النبي في مناسبات متكررة ومتشابهة في أيام ملوك مختلفين.

يمكن تقسيم نبواته إلى ثلاثة أقسام رئيسية، مع مقدمة وختام:

v     دعوة إرميا ورسالته                                [1].

1. نبوات ما قبل سقوط أورشليم

 (مع الوعد بالرجوع من السبي)              [2-33].

2. تاريخ سقوط أورشليم                 [34-45].

3. نبوات عن الأمم الغريبة               [46-51].

 


 

من وحي إرميا

هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!

v     هب لي يارب رقة إرميا،

فأبكي ليلاً ونهارًا من أجل كل نفس ساقطة!

أصرخ إليك طالبًا تقديس كل قلب،

وختان كل الحواس الداخلية.

v     علمني أن أذوب حبًا من أجل كنيستك،

مشتهيًا خلاص العالم كله!

متى أرى كل البشر حولك،

يتمتعون بحبك،

ويقبلون عهدك وميثاقك؟!

v     اسندني بكلمتكِ النارية،

لتلمس شفتي فأنطق بالحق،

ولا أهتز أمام إنسانٍ ما،

ولا أرتبك أمام الأحداث،

بل اطلب إرادتك واشتهي مجدك!

v     اعترف لك مع إرميا إني أصغر من أن أعمل،

صغير جدًا في عيني نفسي!

لكنك تحول طفولتي إلى نضوج روحي،

وضعفي الشديد إلى قوة!

ترى من يسندني سواك؟!

v     هب لي يارب روحك القدوس الناري،

فأصير كإرميا،

يكفيني أنك معي، ساكنًا فيّ،

حتى إن وقف العالم كله ضدي!

هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!

<<

 

 

 

 

دعوة إرميا ورسالته

 

إرميا 1


 

الأصحاح الأول

الدعوة للخدمة

افتتح السفر بمقدمة صغيرة أوضحت موطن النبي وتاريخ بدء الخدمة ونهايتها، الأمور التي سبق لنا دراستها في المقدمة. جاء الأصحاح الأول كله كمقدمة للسفر، أشبه بدستور عملي للخادم الحقيقي، بنوده الأساسية هي:

مقدمة                          [1-3].

1. ادراك الدعوة الإلهية        [4-5].

2. اتساع القلب بالحب          [5].

3. اتضاع النفس               [6-7].

4. شجاعة الخادم              [8].

5. الاختفاء في كلمة الله       [9-14].

6. الأمانة في العمل            [15-19].

مقدمة:

 مثل كثير من الأسفار النبوية قدم هذا السفر في اختصار ثلاثة أمور لفهمه: بعض الأخبار الشخصية الخاصة بالنبي، وإرساليته الإلهية، والمدة التي خلالها مارس إرميا عمله النبوي. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأمور.

1. إدراك الدعوة الإلهية:

تحدث السفر عن دعوة النبي ورسالته خلال أمرين: حوار بين الله وإرميا [4-10؛ 17-19] وخلال رؤيتين [11-16]، ركز الحوار على دعوة إرميا الشخصية والرؤيتان على رسالته.

إذ تدخل الله في حياة إرميا وتحدث معه في حوارٍ مفتوحٍ، فتح عن عينيه ليدرك إرميا من هو، وما هي رسالته في الحياة، وما هي إمكانياته في الرب.

افتتح النبي حديثه بعلاقته مع الله مرسله هكذا: "فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [4-5].

ما أعجب هذه العبارة، فإنها تكشف عن سرّ الحب العميق بين الله والإنسان.

أدرك النبي أن علاقته بالله تمتد جذورها إلى ما قبل تكوينه كجنين في أحشاء أمه، فقد كان في ذهن الله، وموضوع محبته، يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية! دعوته للعمل النبوي لم تقم من عندياته ولا بخطة إنسانية، لكنها بتخطيط إلهي!

لقد أدرك إرميا النبي أن حياته لم تأتِ جزافًا نتيجة اتحاد جسدي بين والديه، إنما هو أعظم من هذا. ميلاده الجسدي ليس هو بداية حياته الحقيقية، ولا موته الجسدي هو نهاية حياته! إنه من صنع الله نفسه!

إذ تحدث عن الأنبياء الكذبة يقول الله من خلال إرميا: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا" (23: 21).

لكي يؤكد إرميا نبوته ذكَّر قارئيه إنه مدعو من الله مباشرة ومرسل منه للشعب الداخل في ميثاق إلهي، مثله في ذلك مثل عاموس النبي وغيره من الأنبياء (عا 7: 14-15؛ إش 6: 1-13؛ حز 1: 4، 3: 15).

هذا ما أدركه الرسول بولس الذي دُعى للإيمان وللعمل الرسولى بعد أن اضطهد كنيسة الله وافترى عليها (1 تي 1: 12-13) وأتلفها (غلا 1: 13)، إذ عرف أنه كان مفرزًا وهو في بطن أمه (غلا 1: 15).

تعبير "صورتك" مأخوذ عن عمل الله كخزاف (تك 2: 7-8)، أما الكلمة العبرية فمن الجانب الفنى تعنى "خلقتك" (عا 4: 13؛ إر 51: 19؛ إش 45: 18؛ 49: 5؛ مز 59: 5)[23].

يدعو الله الخدام والرعاة بطرق كثيرة. دُعى موسى بظهوره له على شكل عليقة ملتهبة نارًا، وأمره أن يخلع نعليه حتى يقدر أن ينصت إلى الرسالة المقدسة بخوف وخشية، ساندًا إياه بالآيات والمعجزات (خر 3). وعند دعوته لإشعياء وحزقيال النبيين قدم لهما رؤى خاصة بمجد الله والخليقة السماوية (إش 6، حز 1)، فصرخ إشعياء تحت وطأة شعوره بثقل خطاياه وخطايا الشعب، وسقط حزقيال أمام بهاء مجد الرب. أما دعوة إرميا فكانت مختلفة تمامًا، إذ يقول في بساطة: "فكانت كلمة الرب قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك...". كان اللقاء بين الله وإرميا لقاءً طبيعيًا وكأنهما صديقان حميمان، وأن هذه الرسالة جاءت نتيجة علاقة قديمة تمتد جذورها إلى أيام تكوين إرميا في أحشاء أمه.

اختيار الله لإرميا وتقديسه وهو بعد في الأحشاء هزّ قلوب الكثيرين من آباء الكنيسة، فرأي القديس أمبروسيوس في ذلك صورة حية لعمل الله فينا لأجل تقديسنا، فإنه يهب التقديس كعطية من جانبه لا فضل لنا فيها، ويكمل قائلاً: [احفظ هبات الله، فإن مالم يعلمك إياه أحد يهبه لك الله ويوحى به إليك[24]]. ورأي القديس جيروم أن الله بسابق معرفته ادرك ما يكون عليه إرميا فإختاره للعمل النبوي (رو 8: 29): [عرف الله مقدمًا ما يكون في المستقبل عندما قدّس إرميا وهو لم يُولد بعد[25]]. ويرى القديس كيرلس الأورشليمي أن الله الذي شكلّ النبي في الرحم، وهيأه للعمل النبوي، لا يخجل من أن يأخذ لنفسه جسدًا في الرحم: [إن كان الله لم يخجل من أن تكون له علاقة بتشكيل إنسان، فهل يخجل من أن يشكل لنفسه جسدًا مقدسًا كحجاب للاهوته؟![26]].

ويرى العلامة أوريجينوس أن ما جاء في العبارة السابقة إنما هو هبة لم يتمتع بها أحد من قبله أو من بعده من الأنبياء، حتى إبراهيم أب الآباء والذي يُحسب كنبي أيضًا لم ينعم بهذا. يقول:

[ماذا قالت له كلمة الرب؟

قالت له شيئًا مميَّزًا جدًا ومختلفًا عما قيل للأنبياء الآخرين. فإننا لا نجد هذا الكلام موجهًا إلى أيٍّ من الأنبياء.

فقد دُعى إبراهيم نبيًا في الآية: "إنه نبي وهو يشفع لك" (تك 20: 7)، ولم يقل له الله: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [5]؛ كما تقدس إبراهيم بعد فترة من الزمن حينما خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه؛ ووُلِد إسحق بوعد، لكننا نجد أنه لم توجه إليه تلك الكلمات.

لقد حصل إرميا على عطية خاصة وهي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك"[27]].

أما سرّ الامتياز فهو أن إرميا كان يرمز للسيد المسيح، الذي تنطبق عليه هذه العبارة بمفهوم فريد رائع، فإنه قبل تجسده منذ الأزل يعرف الآب ابنه وحيد الجنس، وقد قدسه بمعنى سلّم إليه العمل الخلاصى من جهة الإنسان. لم يكن السيد المسيح في عوز إلى تقديس خارجي، إذ هو القدوس، لكنه قدم ذاته للآب في طاعة ليقوم بخلاصنا، لعله لهذا قال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم مقدسين في الحق" (يو 17: 19). يقول العلامة أوريجينوس: [يقدس الله لنفسه بعضًا من الناس، فلا ينتظر ميلادهم ليقدسهم (يخصصهم لعمله)، إنما يفعل ذلك قبل خروجهم من الرحم... ينطبق هذا على المخلص الذي ليس فقط قدَّسه قبل خروجه من الرحم، وإنما أيضًا قبل ذلك (قبل التجسد)، أما بالنسبة لإرميا فقدسه قبلما يخرج من بطن أمه[28]].

ربما يتسأل البعض: لماذا يقول "قبلما صورتك في البطن عرفتك"، ألا يعرف الله الجميع قبل أن يصورهم في البطن؛ نجيب أن المعرفة ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا، وإنما هي معرفة الصداقة والحب التي تقوم بين الله ومؤمنيه. فالكلمة العبرية yada غالبًا ما تحمل تعهدًا شخصيًا، كما يعرف الرجل إمرأته (تك 4: 1)، وكما قيل: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض" (عا 3: 2). لهذا حزن الله جدًا لأنه "لا معرفة الله في الأرض" (هو 4: 1)، حاسبًا معرفته أفضل من تقديم محرقات (هو 6: 6)[29]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يُعتبر الخاطى مجهولاً من الله...

لا يعرف الله الذين يصنعون الإثم، لأنهم لا يستحقون أن يكونوا معروفين لديه[30]].

[يعرف الله الأبرار الذين هم مستحقين أن يكونوا معروفين له، إذ "يعلم الرب الذين هم له" (2 تي 2: 19)، وعلى العكس فهو لا يعرف غير المستحقين لذلك، إذ يقول المخلص: "إني لا أعرفكم قط" (مت 7: 23).

نحن البشر حسب مقايسنا نحكم على بعض الأشياء أنها تستحق أن نعرفها، بينما بعضها لا نريد حتى أن نسمع عنها، ولا أن نعلم عنها شيئًا. هكذا رب كل الأشياء يريد أن يعرف فرعون والمصريين لكنهم كانوا غير مستحقين أن يُعرفوا منه. كان موسى مستحقًا أن يعرفه الله، وهكذا كان كل الأنبياء مثله.

إذن لتُمارس أعمال المحبة بكثرة، فيبدأ الرب في معرفتك. فإن كان الله قد عرف إرميا قبلما صوره في بطن أمه، لكنه يبدأ في معرفة البعض عندما يبلغون الثلاثين أو الأربعين من عمرهم...

يقدس الله لنفسه بعض الناس، أما في حالة إرميا فإنه لم ينتظر حتى وقت ولادته ليقدسه، لقد تقدس فعلاً قبل أن يخرج من الرحم[31]].

عرف (yada) الله إرميا، وقدسه (hiqdis)، وعينه أو أقامه (ntn) للخدمة النبوية.

بجانب المعرفة، أي اهتمام الله به شخصيًا والتصاقه به نجد التقديس، يعني فرز الشخص أو الشيء وعزله لكي لا ُيستخدم إلا لحساب الله. كما أفرز الله سبط لاوى لخدمته والهيكل والسبوت وأيام الأعياد والبكور والعشور الخ. من يستخدمها لغير خدمة الله يُحسب مجدفًا.

أقامه الله نبيًا للشعوب، وليس لشعبِ واحدِ، لأنه متحدث باسم الله الذي هو إله كل الشعوب، الذي يود أن يجمع الكل للتمتع به.

2. اتساع القلب بالحب:

يعلن الرب لإرميا النبي حدود خدمته؛ قائلاً له: "جعلتك نبيًا للشعوب" [5]. إن كان إرميا قد بدأ خدمته في حدود قريته التي رفضته لكن قلبه لم يضق بالناس إنما اتسع ليشمل كل يهوذا التي أصرت على رفضه مرارًا، بل يؤكد الله له أنه قدّسه "نبيًا للشعوب". وكأنه أراد أن يخرج به من الدائرة الضيقة لكي يئن مع أنات كل إنسانٍ، ولا يستريح قلبه ما لم يسترح الكل في الرب.

هل دُعى إرميا لخدمة يهوذا، أم نبيًا للشعوب؛ من الجانب الحرفي تنبأ عن بعض الشعوب الأخرى مثل بابل (25: 12-14، أر 50)، ومصر (49)، وفلسطين (47)، وموآب (48)، وبنى عمون (49)، وأدوم (49)، ودمشق (آرام إر 49)... وكأن الله قد جعل لإرميا دورًا يمس لا حياة يهوذا فحسب، بل وتاريخ الأمم الأخرى أيضًا[32]. حينما يدرك الإنسان رسالته التي من أجلها خلقه الله يكون له دوره الحيوي في حياة الآخرين بطريق أو آخر. أما من الجانب الروحى فكان إرميا يشير إلى السيد المسيح، الذي وهو الابن الوحيد الجنس جاء كنبي (18: 15) يسحب قلب الشعوب إلى الحياة السماوية. هكذا خدامه المرتبطون به يحملون ذات الروح، مشتاقين بروح الأبوة الجامعة الحانية أن يضموا كل إنسان إن أمكن إلى ملكوت الله. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أؤتمن (الكاهن) على العالم كله، وصار أبًا لجميع الناس[33]].

3. اتضاع النفس:

إذ دُعى إرميا للخدمة لم يرفضها بطريقة مطلقة وإنما اعتذر بضعفاته الشخصية، قائلاً: "قلت: آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" [6]. وكانت إجابة الرب: "لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به" [7].

للقديس غريغوريوس النزينزى تفسير روحى حيّ عن اعتذار البعض عن الخدمة وقبول الآخرين لها، إذ يقول: [جيد للإنسان أن يتراجع عن (دعوة) الله إلى حين كما فعل العظيم موسى (خر 4: 10) وإرميا من بعده، لكننا نقبل الدعوة بعد ذلك حين يدعونا ونحن متأهلون كما فعل هرون (خر 4: 27) وإشعياء (1: 6). يلزم أن يتم ذلك خلال الشعور بالمسئولية، فيكون التراجع بسبب الشعور بالحاجة إلى قوة، ويكون القبول بسبب قدرة ذاك الذي دعانا[34]].

في حديث للأب غريغوريوس (الكبير) عن الرعاية يقدم لنا إشعياء مثالاً لمن بالحب يقبل الخدمة، وإرميا كمثال لمن بالحب يعتذر عنها، قائلاً: [من هذين الرجلين تظهر صورتان متباينتان في الخارج لكنهما يصدران عن ينبوع حبٍ واحدٍ. توجد وصيتان للحب: حب الله وحب القريب. بينما اشتاق إشعياء إلى نفع أقربائه خلال الحياة العاملة مشتهيًا عمل الكرازة، اشتهي إرميا الالتصاق بمحبة خالقه بمثابرة خلال الحياة التأملية، معتذرًا عن إرساله للكرازة[35]].

على أي الأحوال، لم يعتذر إرميا عن الخدمة لبلادةٍ في قلبه، ولا هربًا من المسئولية، وإنما شوقًا إلى فترة خلوة مع الله ولو إلى حين مع شعوره بالضعف الشخصي أمام إدراكه لجسامة المسئولية، فجاء هذا الشعور يؤكد تأهله لقبول عمل الله فيه، إذ يعمل الله في المتواضعين. كما يقول القديس أمبروسيوس: [اختار الله موسى وإرميا ليعلنا كلمة الله للشعب خلال الاتضاع، فيقدران أن يحققا هذا العمل بالنعمة[36]]. ويقول الرسول بولس: "اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم المزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه" (1 كو 1: 27-29). إذن سرّ القوة لا في الإناء المختار، وإنما في العامل فيه، لهذا يؤكد الرب لإرميا في أكثر من موضع "أنا معك" [8-9].

ويتساءل العلامة أوريجينوس[37]: كيف يمكن أن تنطبق كلمات إرميا النبي: "لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" على المخلص، مادام الأول رمزًا له؟ ويجيب بأنه في العهد القديم قيل عن المخلص بكل وضوح: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل... قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تُخلى الأرض التي أنت خاشٍ من ملكيها" (إش 7: 14، 16). فقد قيل "قبل أن يعرف الصبي..."، إذ "أخلى نفسه" (في 2: 7)، وجاء عنه في الإنجيل أنه كان "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 2: 52). فإنه إذ أخلى ذاته بنزوله على الأرض أخذ من جديد ما قد تركه خلال إخلاء ذاته بإرادته؛ ليس غريبًا أن ينمو من جهة الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس، بهذا يتحقق القول: "قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير" وما غير هذا من النصوص التي ذكرها إشعياء. يقول العلامة أوريجينوس إن المخلص هو كلمة الله العالم بكل شيء، في اتضاعه قبل أن يتجسد ويصير طفلاً ليتعلم لا الأمور الكبيرة وإنما الأمور الصغيرة، لا لغة الله فهي لغته وإنما لغة البشر، لكي يكون مشابهًا لنا في كل شيء. لقد كان التأنس حقيقة بكل معنى الكلمة، حمل ناسوتنا وتدرج معنا في كل شيء كواحدٍ منا حتى يرفعنا إلى مجده الأبدي.

نعود إلى النص الكتابي حيث يجيب الله إرميا: "لا تقل إني ولد (تطلق الكلمة على الطفل المولود حديثًا أو الصبي حتى بلوغه الثلاثينات للزواج)[38]"، فإن كان إرميا بحسب عمره صغيرًا، لكنه في عيني الله ناضج روحيًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الداخلي حتى وإن كنا شيوخًا حسب الجسد، كما يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الخارجي ولكننا ناضجون حسب الإنسان الداخلي، وهذا ما كان عليه إرميا، إذ كانت لديه نعمة الله وهو بعد ولد صغير حسب الجسد. لذلك قال له الرب: "لا تقل إني ولد". وأما علامة أنه إنسان ناضج (كامل) وليس بولد فهو ما جاء بعد ذلك "إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به، لا تخف من وجوههم"[39]].

لقد اعتذر إرميا عن الخدمة كما فعل موسى النبي (خر 3). وقد رأي بعض الدارسين أن إرميا هو "موسى" جديد أقامه الله للشعب، من جهة:

أ. اعتذارهما في البداية عن الخدمة لشعورهما بالعجز البشري!

ب. كانا يتشفعان في شعب الله بحبٍ شديدٍ ومرارةٍ!

ج. نالا وعدًا بأن يضع الله كلماته في فمهما (1: 8؛ خر 3: 12).

د. أراد موسى أن يخلص الشعب من عبودية فرعون، وأراد إرميا أن يخلص الشعب من عبودية الخطية التي تدخل بهم إلى الأسر البابلي.

هـ. قدم موسى للشعب ميثاق الله معهم، وأعلن إرميا عن عهد جديد مع الله (31: 31-34).

4. شجاعة الخادم:

الاتضاع لا يعني الاستكانة، إنما الشعور بضعف الإنسان وعجزه بذاته، مع الإيمان بإمكانيات الله الجبارة التي تسنده، فيعمل بشجاعة دون خوف أو اضطراب. فالراعي بل وكل مؤمن حقيقي يتمسك بكلمة الله الحازمة التي تعلن الحق وتفضح الباطل، يكون موضع غضب السالكين في الظلمة بل وأحيانًا موضع مضايقات حتى العاملين في الكرم، لذا جاء في سفر ابن سيراخ: "إن أردت أن تخدم الرب فأعدد نفسك للتجربة".

يقول العلامة أوريجينوس: [يعرف الله المخاطر التي تلاحق الموكلين على الكلمة من المستمعين لهم، فعندما يوبخون يكرههم الناس، وعندما يلومون يُضطهدون، فيتحمل الأنبياء كل هذه الآلام إذ "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته" (مت 13: 57). هكذا إذ يعرف الله المخاطر التي تلاحق من يرسلهم يقول: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" [8]. فقد جاء عن إرميا أنه أُلقى في الجب (38: 6) فكان لا يأكل إلا رغيف خبز كل يوم (37: 21) ولا يشرب إلا قليل ماء محتملاً آلامًا كثيرة، وكما قيل لليهود: "أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" وقيل أيضًا: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع ُيضطهدون" (2 تي 3: 12)، وذلك خلال العمل العدواني وبكل وسيلة للمضايقة. كذلك يتحمل المضطَهدون كل الآلام بدون تذمر، راجين أن ُيضطهدوا بلا سبب وليس بسبب خطأ ارتكبوه، وإذا حدث أن أُضطهدنا من أجل الحق، فلنسمع هذا التطويب: "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين افرحوا وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم" (مت 15)[40]].

لقد أكدّ الرب لإرميا: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك" [8]. هذه كلمات صادرة عن الفم الإلهي، يلتزم بها الله بارادته المملؤة حبًا نحو كل خدامه الأمناء، ألا وهي "معية الله"، أن يكون معهم (خر 4: 12؛ يش 1: 5، 9؛ قض 6: 16؛ 1 صم 3: 19؛ 16: 13، مت 28: 20). الخدمة شاقة بل ومستحيلة بالأذرع البشرية، لأنها في جوهرها خدمة إقامة من الأموات، لا موت الجسد بل موت النفس؛ الأمر الذي يمارسه الخالق المخلص خلال خدامة المتكئين عليه.

 يؤكد له: "هأنذاك جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب: لأنقذك..." [18-19]. لم يعد الله إرميا بإزالة المتاعب عنه، لكنه وعده بمؤازرته اثناء الشدائد والضيقات، لا لكي لا يسقط فحسب، وإنما يجعل منه مدينة حصينة تحتضن الكثيرين، وعمود حديد يُبنى عليه هيكل الرب، وأسوار نحاس يختفي وراءها الكثيرون في المسيح يسوع. إنه يهب خدامه كلمته "كمطرقةٍ تحطم الصخر" (23: 29)، ويقدم لهم اسمه ليبيد الشر المحيط بهم (مز 118: 11).

الله لا يمنح قديسيه عدم التعرض للتجارب، إنما يعطيهم القوة للغلبة، وكما يقول القديس بيامون: [لا يختلف القديس عن الخاطي في أنه ليس مُجربًا مثله، بل يختلف عنه أنه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف، أما الآخر فينهزم من أقل تجربة[41]].

العجيب أن الله لا يطمئن خدامه بنزع التجارب عنهم بل يهددهم إن تركوا روح الشجاعة ليس فقط ينهزمون بل هو أيضًا يرعبهم، إذ يقول: " لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" [17]. وكأن سرّ نجاحهم هو شجاعتهم في الرب.

أخيرًا إذ اعتذر إرميا عن الخدمة بسبب ضعفه دفعه الله إلى الإيمان به ليحيا بروح الشجاعة، واهبًا إياه إمكانية الغلبة والنصرة على كل العقبات دون أن يلزمه بالخدمة قسرًا. في هذا يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن العاملين في كرم الرب، قائلاً: [أنظر، في سلطانهم أن ينطقوا أو يمتنعوا عن الكلام. فإنهم لا يلتزمون بالعمل قسرًا... فقد هرب يونان (يونان 1: 3)، وتأخر حزقيال (حز 3: 13) واعتذر إرميا (1: 6) ومع ذلك لم يدفعهم الله قسرًا ولا ألزمهم بالعمل وإنما نصحهم وأرشدهم وهددهم... وأنار أذهانهم لكي تدرك الأمور الضرورية[42]].

5. الاختفاء في كلمة الله:

"ومدّ الرب يده ولمس فمي، وقال الرب ليّ: ها قد جعلت كلامي في فمك" [9]. يختفي خادم الله في كلمة الله تمامًا، ويخفيها في أعماقه ليعيش بها. إنه يُبتلع في الكلمة، والكلمة تبتلعه...

بقدر ما يظهر الخادم بذاته ينَّمق الكلمات، تخرج الكلمة مشوهة وضعيفة بلا سلطان؛ وبقدر ذوبانه فيها تخرج في بساطتها قادرة أن تخترق أعماق القلب لتهب سلامًا وروحًا وحياة! لهذا تُصلي الكنيسة في ليتورجية الأفخارستيا أن يهب الله خدامها ألا ينطقوا إلا بكلمة الحق، أي "كلمة الله"؛ فتطلب من أجل الأب البطريرك أن يكون مفصلاً كلمة الحق باستقامة، ومن أجل العاملين معه: "والذين يفصلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم يارب على كنيستك".

جاء في الدسقولية: [اهتم بالكلام يا أسقف إن كنت تقدر أن تفسر ففسر كلام الكتب. إشبع شعبك واروه من نور الناموس، فيغتني بكثرة تعاليمك[43]]. ويقول القديس إيرنيموس: [يلزم أن تتناسب كلمات الكاهن مع قراءات الإنجيل. لا تكن بليغًا في الأسلوب فحسب، ولا مكثرًا في الكلام، تثرثر بلا هدف. إنما كن عميقًا في الأمور، مختبرًا أسرار الله[44]]. كما يقول: [اقرأ الكتب المقدسة باستمرار، فلا ترفع الكتاب المقدس قط من يدك. تعلم ما ستُعلمه للآخرين، ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لتكون قادرًا أن تعظ وتوبخ المناقضين (1 تي 3: 4)...[45]] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يميز المعلم هو قدرته على التعليم بالكلمة[46]].

سرّ القوة إذن في حياة إرميا أن الله مدّ يده، ولمس فيه، وجعل كلامه فيه. وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على مدّ الله يده ولمس فم إرميا، إذ يقول: [لاحظ الفارق بين إرميا وإشعياء. فإشعياء يقول: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود" (إش 6: 5)، وبعد هذا الاعتراف... لم يمد الله يده ويلمسه، ولكن طار إليه واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط ... ومسّ بها فمه، وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع أثمك وكفر عن خطيتك (إش 6: 6-7)، أما إرميا فتقدس وهو في بطن أمه، ولم يرسل له الله ملقطًا أو جمرة من على المذبح، إذ لم يكن به شيء يستحق النار، بل مدّ يده ذاتها ولمسته[47]].

هكذا تمتع إرميا النبي بتقديس الله له وهو في البطن، كما أُنعم عليه بلمسة يد الرب لفمه لينال الكلمة في داخله... أما عمل الكلمة الإلهية في حياة رجال الله فهي: "أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" [10].

يقول الرسول بولس: "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب 4: 12)، فهي تفصل بين الشر والخير، وتميز بين مملكة إبليس ومملكة الله، تقلع جذور الخطية وتغرس بذار الصلاح، تهدم الفساد وتبني برّ المسيح فينا. هكذا كان الله صريحًا مع نبيه إرميا منذ اللحظة الأولى، علّمه التمسك بكلمة الله التي تهدم وتبني، وتقلع وتغرس! رسالة صعبة وقاسية تثير الشعوب والممالك ضده. لم يرسله ليقدم كلمات لينة مهدئة، وإنما ليعمل بالهدم والنقض والاقتلاع، وفي نفس الوقت البناء والغرس.

يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو صوت الحق. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون، إذ يجرحون ويشفون. يحملون السلاح لكي يضربوا بالمشرط، ثم يتقدموا ليشفوا[48]]. وجاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [يعتمد الكمال العملي على نسق مزدوج: الوسيلة الأولى هي التعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها، والوسيلة الثانية هي اكتشاف تدبير الفضائل... يجدر بنا أن نعرف أننا نبذل جهدًا بغرض مزدوج: سحق الرذيلة ونوال الفضيلة[49]].

هذا هو عمل كلمة الله المزدوج في حياة الإنسان الداخلية، وفي حياة الكنيسة والعالم، لكنه عمل واحد متكامل، فلا بناء بدون هدم، ولا غرس دون اقتلاع! هذا هو أيضًا عمل الروح القدس في المعمودية حيث يقوم بهدم الإنسان القديم وأعماله الشريرة، لينعم المؤمن بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي للمعمدين حديثًا: [كنتم تموتون وفي نفس اللحظة كنتم تولدون، كانت مياه الخلاص بالنسبة لكم قبرًا وأمًا[50]]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [إن الخطية دفن في الماء... والمعمودية نوال للروح[51]]. ويقول القديس جيروم: [الذي ينال المعمودية في الآب والابن والروح القدس يصير هيكل الله، فينهدم البناء القديم ليقوم مقدس جديد للثالوث القدوس[52]].

يرى العلامة أوريجينوس أن هذا العمل من الهدم والبناء خاص بالسيد المسيح نفسه، إذ يقول:

[أين هي الشعوب التي قلعها إرميا؟

وأين هي الممالك التي هدمها؟

لأنه مكتوب بكل وضوح: "قد وكلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم".

أي سلطان كان لإرميا حتى ُيهلك، إذا افترضنا أن هذه الكلمة موجهة لإرميا: "وُتهلك"؟

هل يوجد أعداد كثيرة من الناس بناهم إرميا حتى يقال له: "وتبني"؟

يعلن إرميا: "لم أعمل صلاحًا" فكيف إذًا يُكلف بـ البناء والغرس؟

إذا طُبقت هذه الكلمات على المخلص فلا تُحير المفسرين أو تقلقهم ، لأن إرميا هنا هو رمز للمخلص[53]].

إن كان عمل الكلمة هو هدم شعوب وممالك واقامتها... فما هي هذه الممالك من الجانب الرمزي؟

يقول العلامة أوريجينوس:

[مَن مِن الناس أخذ كلامًا من عند الله وله نعمة الكلمات الإلهية يقوم بقلع وهدم شعوب وممالك؟

عندما نقول أن من أخذ كلامًا من الله لقلع وهدم شعوب وممالك، أرجوك ألا تأخذ كلمتي "شعوب" و"ممالك" بالمعنى المادي؛ إنما باعتبار أن الخطية تملك على النفوس البشرية، بحسب كلمات الرسول: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت" (رو 6: 12 وبما أن هناك أنواع جديدة من الخطايا، فسوف نفهم أن المعنى الرمزي لـشعوب وممالك هو الشرور الفظيعة الموجودة في نفوس البشر، والتي تُقلع وُتهدم عن طريق كلام الله المعطي لإرميا أو لغيره من الأنبياء[54]].

[توجد ممالك كما توجد شعوب، فتوجد مملكة النجاسة وتوجد شعوب النجاسة تبسط أعمال الشر في حياة كل شخص، كالطمع والسرقة... أنظر إلى الخطاة، كل واحدٍ فواحدٍ، فتفهم الشعوب موضوع المملكة... كلمة الرب مُرسلة إلى الشعوب والممالك بالقلع والغرس؛ فماذا تقتلع؟ لقد علمنا مخلصنا "كل غرسٍ لم يغرسه أبي السماوي يُقلع" (مت 15: 13). توجد داخل النفوس أشياء لم يغرسها الآب السماوي، هي "أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت 15: 19). هذه لم يغرسها الآب السماوي. أتريد أن تعرف من الذي غرس أفكارًا من هذا النوع؟ اسمع ما قيل: "إنسان عدو فعل هذا" (مت 13: 28)، زرع زوانًا وسط الحنطة (مت 13: 25). الله يهتم ببذوره، والشيطان أيضًا، فإن تركنا الحقل فارغًا للشيطان يزرع الغرس الذي لم يغرسه الآب السماوي، الذي يجب اقتلاعه تمامًا. إذن لا تتركوا الحقل فارغًا للشيطان بل للرب فيزرع البذور في نفوسنا بفرح. لا تظنوا أن إرميا قد حصل على خدمة مؤلمة عندما ملك على ممالك وشعوب، فإن الله الصالح كان بكلمته يقتلع كل ما هو مخزي، ينزع ملكوت العدو عن الملكوت السماوي، ويقتلع شعوب الأعداء (الخطايا) عن شعب الله! [55]].

إذن بكلمة الله يقتلع خادم الله الغرس الغريب لكي يقوم الآب بتقديم غرسه في النفس؛ ويهدم مملكة الخطية لكي يقيم الرب مملكته السماوية؛ ويطرد الشعوب الغريبة الدنسة (الرجاسات) لكي يتمجد الله في شعبه.

لكي تبني كلمة الرب مملكته في داخلنا يلزمنا أن نتركها تهدم فينا ما هو غريب عنها، وتنزعه تمامًا، تحرقه بنارٍ أو تُلقي به خارجًا حتى لا يعوق البناء الجديد والغرس الجديد. لهذا السبب كان البيت المضروب بالبرص تُقلع حجارته التي فيها الضربة، وتُطرح خارج المدينة في مكانٍ نجسٍ (لا 14: 40)... لا يكفي قلع الحجارة، وإنما يلزم ألا تُترك فتحتل حيزًا مقدسًا أو تسرب النجاسة إلى غيرها، بل تُطرح خارجًا... هكذا لا نترك فينا أثرًا للخطية بل ويُحرق الغرس الغريب تمامًا كما بنار... إذ يقول: "اجمعوا أولاً واحزموه حزمًا ليحرق" (مت 13: 30).

يقول العلامة أوريجينوس:

["لتقلع وتهدم"،

يوجد بناء من الشيطان، ويوجد بناء من الله.

البناء الذي "على الرمل" هو من الشيطان، لأنه غير مؤسس على شيء صلب موحد، أما البناء الذي "على الصخر" فهو من الله؛ أنظر ماذا ُيقال للمؤمنين: "أنتم فِلاحة الله، بِناء الله" (1 كو 3: 9).

إذًا يُوجَّه كلام الله ليكون "على الشعوب وعلى الممالك، ليقلع ويهدم، ليهلك وينقض". إذا قلعنا ولم نقم بإهلاك الشيء المقلوع، فإن هذا الشيء يبقى؛ وإذا هدمنا ولكن بدون أن نهلك (نُزيل) حجارة الأساس فإن ما تهدم يظل باقيًا. فمن مظاهر صلاح الله وحبه أنه بعد ما يقلع يهلك، وبعدما يهدم يبيد ما قد هُدِم.

أما فيما يختص بالأشياء المقتلعة والمهلكة، فاقرأ بعناية كيف يتم إهلاكها: "احرقوا القش بنار لا تُطفأ، واجمعوا الزوان حزمًا وألقوها في النار". هذه هي طريقة الإبادة والإهلاك بعد القلع.

أتريد أن ترى أيضًا الهلاك الذي يحدث للأبنية الفاسدة بعد هدمها؟ كان البيت الذي يتم هدمه بسبب البَرَص يتحول إلى تراب، ثم يؤُخذ هذا التراب وُيلقى خارج المدينة، حتى لا يبقى حجر واحد، كما في العبارة "سوف أبيدهم كما وَخل الشوارع" أو (سوف أساويهم بالأرض).

يجب ألا تبقى مطلقًا الأشياء الفاسدة؛ إنما يتم إهلاكها لتجنُّب استخدام بقاياها في بناء أبنية جديدة يعملها الشيطان، كما يتم اقتلاع الأشياء الفاسدة حتى لا يجد الشيطان فيها بذارًا أخرى يزرعها من جديد، يتم أهلاكها حتى لا توجد فرصة للشيطان لكي يزرع الزوان مع الحنطة[56]].

لا يقف الأمر عند الهدم ونزع كل أثر للشر، وإنما يجب أن يلازمه العمل الإيجابي، وهو بناء المملكة الجديدة وتقديم الغرس السماوي. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يقف كلام الله عند هذا الحد، عند القلع والهدم والإهلاك... ماذا يفيدني نزع الأشياء المخجلة وهدم ما هو شرير إن لم يحل مكانه غرس الخيرات العليا وبناء الأمور الفاضلة؟! لهذا فإن كلمة ربنا تعمل أولاً بالضرورة على القلع والهدم والإفناء، ثم بعد ذلك البناء والغرس... يقول "أنا أميت وأحييّ" (تث 32: 39). لم يقل أحييّ وبعد ذلك أميت، فإنه يستحيل أن ما يعمل الرب على إحيائه ينزعه (يميته) الآخر... ماذا يميت؟ إنه يميت شاول المشتكي والمضطهد ليجعله يحيا فيصير بولس رسول يسوع المسيح (2 كو 1: 1)!... إذن يبدأ الرب بالأمور الأكثر حزنًا لكنها لازمة، فيقول "أميت"، وبعدما يميت "يُحييّ". يسحق ويشفي (تث 32: 39)، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه!... يجب أن ُيقتلع الشر من جذوره، ويُهدم بناء الإثم تمامًا ويُطرح خارج نفوسنا، لكي تبني كلمة الرب فينا وتغرس. لأنه لا يمكنني أن أفهم تلك العبارة بطريقة أخرى: "ها قد جعلت كلامي في فمك." لماذا؟ "لتقلع وتهدم وتهلك". نعم إنها كلمات تقلع شعوب. كلمات تهدم ممالك، ولكن ليست الممالك المادية التي في هذا العالم، إنما يجب عليك أن تفهم بطريقة سامية ما هو المقصود بالكلمات التي تقلع والكلمات التي تهدم. عند ذلك تُمنَح قوة من الله كما هو مكتوب: "الرب يعطي كلمة للمبشرين بعظم قوة"، قوة تقلع ما تصادفه من عدم الإيمان، أو الرياء أو الرذيلة. قوة تهلك وتهدم إذا ما تواجدت أوثان مُقامة في داخل القلب، حتى إذا ما هُدم الوثن يُقام مكانه هيكل للرب، وفي هذا الهيكل يترأي مجد الله ويظهر، فلا يعود ينبت زوان، وإنما فردوس الله في هيكل الله، في المسيح يسوع[57]].

هذه الكلمة الإلهية التي بها يهدم ويبنى، ويقلع ويغـرس، يهتم بها الله نفسه، إذ هي كلمته. يقول النبي: "ثم صارت كلمة الرب إليّ قائلاً: ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟ فقلت: أنا راءٍ قضيب لوز. فقال الرب لي: أحسنت الرؤية، لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها" [11-12].

لقد رأي إرميا "قضيب لوز (shaqed)"، هو القضيب الذي أفرخته عصا هرون الجافة، التي وإن كانت لا تحمل حياة في ذاتها لكنها أثمرت كلمة الله الحية لإشباع المخدومين. ويرى العلامة أوريجينوس أن قضيب اللوز يشير إلى ضرورة معرفة الخادم لكلمة الله من الجانب الحرفي، والجانب السلوكي، والجانب الروحي، فاللوزة لها غلاف خارجي مُرّ يسقط تلقائيًا عند نضوجها، هذا هو التفسير الحرفي أو الظاهري، وهو مرّ وقاتل، عاق اليهود الحرفيين وأيضًا الغنوسيين عن بلوغ المعرفة الحقيقية[58]. ولها أيضًا غلاف داخلي سميك نقوم بكسره لكي نأكل الثمرة التي في داخله، يشير هذا الغلاف إلى التفسير السلوكي أو الأخلاقي، خلاله يدخل المؤمن إلى حالة إماتةٍ وكسرٍ، خلال الحياة النسكية السلوكية من أصوامٍ ومطانيات وميتات كثيرة. وأخيرًا الثمرة الداخلية وهي حلوة ومشبعة، تشير إلى التفسير الروحي الخفي، وهي غذاء مشبع للمؤمن، لا في هذه الحياة الحاضرة فحسب، وإنما في الأبدية أيضًا[59].

يلاحظ أن "قضيب اللوز" يعني في العبرية "الساهر" وعلة هذه التسمية أن شجر اللوز يزهر مبكرًا في شهر فبراير قبل سائر الأشجار. تمتلىء الشجرة بالورد الأبيض لتعلن أن فصل الشتاء قد قارب على الانتهاء، وأن فصل الربيع أوشك على الاقتراب. بمعنى آخر، أنتهي وقت الموت (للنبات) لتحل الحياة من جديد! تشهد شجرة اللوز لعمل الله الفائق الذي يخرج الحياة من الموت! وكأن هذه الشجرة تبقى "ساهرة" على بقية الأشجار، فتشير إلى الله الذي يسهر على كلمته لتعمل في حياة الناس، إذ يقول: "لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها" [11].

يؤكد الله لإرميا خطأ ما يقوله الكثيرون في عصره، كما في كل العصور حتى يومنا هذا: "الرب لا ُيحسن ولا ُيسىء" (صف 1: 12)، بمعنى أن الله لا يفعل شيئًا، لا حول له ولا قوة!

من جهة أخرى، كأن الله يُعطي لإرميا النبي طمأنينة وتحذيرًا في نفس الوقت، فإن كان العمل صعبًا ومرًا، لكن الله نفسه هو العامل، فلا يليق به أن يخاف أو يضطرب، وفي نفس الوقت الله هو الملتزم بكلمته والساهر عليها، فإن لم يعمل النبي بالكلمة الإلهية يعمل الله بآخر غيره.

إن كان الله يجرى بنفسه كلمته وهو ساهر عليها لكنه يطلب من جانبنا نحن أيضًا أن نسهر لئلا يحل بنا الشر. لهذا بعد رؤية قضيب اللوز، جاءت رؤية القِدْر المنفوخة ووجهها من جهة الشمال حيث الشر قادم.

"ثم صارت كلمة الرب إليّ ثانية قائلاً:

ماذا أنت راءٍ؟

فقلت: إني راءٍ قِدرًا منفوخة ووجهها من جهة الشمال.

 فقال الرب لي:

من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" [11-14].

يرى العلاّمة أوريجينوس أن التطلع نحو الشمال يشير إلى السهر والحذر من الشر القادم على النفس البشرية لتحطيم خلاصها، إذ يقول:

[لتُوضع المنارة في الجنوب لكيما تتطلع نحو الشمال. لأنه عندما يُضاء النور، أي عندما يكون القلب ساهرًا يلزم أن يتطلع نحو الشمال ويلاحظ ذاك القادم من الشمال، وكما يقول النبي أنه رأي "قِدرًا على نار ووجهها من جهة الشمال، لأن "من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض" [14].

 في سهرٍ ورعدةٍ وغيرةٍ يليق به أن يتأمل على الدوام في حيل الشيطان، ويلاحظ من أين تأتي التجربة، ومتى يقتحمه العدو، ومتى يزحف نحوه. إذ يقول الرسول بطرس: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: 8)[60]].

6. الأمانة في العمل:

إن كان النبي قد أُقيم كوكيل لله، إذ يقول له الرب: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب..." فهو ملتزم أن يعمل بروح موكله، يقلع ويغرس، ويهدم ويبني. هذا العمل أجرته ضيق ومرارة من العالم نحو العاملين به.

قدم الله لإرميا النبي رؤيا ثانية، إذ نظر قدرًا منفوخة من جهة الشمال تنفتح فوهتها بالشر نحو الشعب، ويفسر له الرؤيا هكذا: "لأني هأنذاك داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا؛ وأقيم دعواى على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" [15-16]. بهذه الرؤيا أوضح الله لإرميا كل شيء مقدمًا، كموكل قدم لوكيله خطته الإلهية بكل وضوح حتى لا يُفاجأ بها الوكيل فيضطرب عندما يرى الضيق قد حلّ بأورشليم وكل مدن يهوذا. هذا ما فعله السيد المسيح مع تلاميذه حين حدثهم مقدمًا بكل ما سيحل بهم من ضيقات ليستعدوا لمواجهتها. ومن جهة أخرى أوضح له أنه يعمل بكل الطرق فيستخدم حتى الأمم الشريرة لتأديب شعبه.

لما كانت أغلب متاعب إسرائيل تأتي من الشمال (من الأشوريين والأراميين والبابليين) لذا صار الشمال رمزًا لقوى الظلمة[61].

يرى القديس جيروم في هذه الرؤيا أن الله يسلم أولاده للشيطان مؤقتًا للتأديب حتى يذوقوا مرارته فيعودوا إلى أبيهم السماوي، كما فعل معلمنا بولس مع من ارتكب الشر مع إمرأة أبيه، إذ قال: "حكمت كأني حاضر... باسم ربنا يسوع المسيح... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 5). ويرى القديس جيروم أن بالقدر لحمًا (حز 24: 10-11) حتى يصير الخطاة لطفاء عوض القساوة وذلك بعمل النيران، فتصير قلوبهم لحمية عوض أن كانت حجرية[62].

يلاحظ أن الرؤيا الأولى مفرحة حيث ُتقدم كلمة الله كلوز مشبع للنفس له لذته، والثانية مرة ومؤلمة خاصة بالتأديب الحازم. وكأن الله يود أن يقدم كلمته العذبة لكل نفس لتنعم وتشبع بها، فإن رفضتها يسمح لها بالتأديب الذي يبدو قاسيًا ومرًا. وفي هذا كله يطلب الله ودّنا وحبنا ومجدنا الأبدي!

ولا تقف الأمانة عند تبليغ الرسالة فحسب وإنما تمس الحياة الداخلية، فأمانة الوكيل ُتعلن من خلال تقديسه الداخلي اللائق به كوكيل للقدوس. لهذا يقول له: "أما أنت فنطّق حقويك، وقم، وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم" [17]. طالبه أن يمنطق حقويه ويقوم، فإنه إذ يمنطق حقويه يكون كمن يشترك في وليمة الفصح (خر 12: 11)، يشترك في العبور مع الشعب من عبودية الخطية للدخول في أورشليم العليا. أما قوله "قم" فتؤكد أنه لن يقدر أن يتمم رسالته الكرازية والشهادة للكلمة مالم يقم مع المسيح يسوع ربنا فيقيم إخوته معه!

في تفسيرنا لسفر الخروج رأينا تمنطق الحقوين يشير إلى الدخول في حياة الإماتة لشهوات الجسد وضيقه كما بمنطقة، لأجل تحرير النفس وانطلاقها بالروح القدس إلى السمويات.

إذن فعلامة الأمانة في العمل الكرازي إنما هو التمنطق، أي الدخول إلى الموت مع المسيح والتمتع بقوة قيامته، عندئذ يستطيع الخادم أن يتكلم بكل ما يأمره به الرب، إذ تخرج الكلمة حية وفعّالة، عاملة فيه هو أولاً، فيقبلها الناس كحياة؛ وبهذا أيضًا لا يرتاع من وجوه الناس لأنه إذ مات وقام هل يخاف الموت بعد؟! بهذا يقيمه الله مدينة حصينة وعمودًا حديديًا وأسوار نحاس على كل الأرض [18]، يصير سرّ بركة للكثيرين، يسندهم ويعينهم ويكون بالمسيح الصخرة هو أيضًا صخرة لكثيرين. بهذا يسمع الصوت الإلهي: "يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" [19].

 


 

من وحي إرميا 1

لست واحدًا من بين البلايين!

v     كثيرًا ما تطلعت إلى نفسي،

فظننت إني واحد من بين بلايين المخلوقات،

لكنني اكتشفت أنك خلقتني وعرفتني شخصيًا!

قدستني وأقمتني لأتمم رسالتك!

v     قد يزدري بي العالم،

وقد استهين أنا بنفسي،

لكنك لن تتجاهلني... فأنا محبوبك أيها العجيب!

v     أفرزتني وأنا في أحشاء أمي؛

قلت لي:

"أنت لي، وأنا لك!

اخترتُكَ لتعمل لحسابي،

وأنا أقدس ذاتي لأجلك!"

حقًا، ما أعجبك يا شهوة قلبي!

v     صغير أنا عن أن أتمم رسالة إلهية،

أعترف لك إني ولد!

لكن بك أستطيع كل شيء يا قوتي!

v     مدّ يدك، ولتلمس شفتي،

فلا أنطق بكلمة مزاح،

ولا أتفوه بكلمة باطلة،

بل أحمل كلماتك النارية،

أفيض بنعمتك ينابيع مياه حية!

v     كلمتك كقضيب لوز!

لتحطم الغلاف الخارجي، الحرف القاتل،

ولتهبني ثمرة اللوز الروحية شبعًا لنفسي!

v     كلمتك مشبعة ومفرحة،

لكنها أيضًا حازمة وجادة!

هب لي حبك وسمِّر في خوفك!

بكلمتك أدرك من أنا يا حبيب نفسي!

علمني، دربني، أدبني، ولا تغضب عليّ!

v     هب لي أن أختفي فيك،

هب لي أن أحتمي بك،

فأنعم بثمرة كلمتك الحية في داخلي!

ليتنى أقتنيك،

ويقتنيك معي كل بشر،

فأنت الكل لي ولهم يا مخلصي!

<<


 

الباب الأول

 

 

 

 

نبوات

 ما قبل سقوط أورشليم

"مع الوعد بالرجوع من السبي"

 

إرميا 2-33


 

الأصحاحات 2-6

عتاب في الأذن

تشمل الأصحاحات الخمسة (2-6) خطابين يتضمنان ما وصل إليه يهوذا من انحطاط روحي وأخلاقي مع تهديد بعقاب أليم يحل بهم على أيدي شعبٍ بعيدٍ يجهلون لسانه، يأتيهم من الشمال[63].

يرى بعض الدارسين[64] أن إرميا يتحدث عن كارثتين:

الكارثة الأولى: قد حلت بهم فعلاً أثناء حديثه. أعمالهم الشريرة هي السبب، إذ يقول لهم: "طريقك وأعمالك صنعت هذه لك. هذا شرك. فإنه مُرُّ فإنه قد بلغ قلبك" (4: 18). بسببهم عادت الأرض إلى حالتها قبل خلقة العالم، حيث كانت خاوية وخربة والسموات بلا نور (4: 23، تك 1: 2).

الكارثة الثانية: لم تكن بعد قد حلت بهم أثناء حديثه، وكان يمكن تجنبها بالتوبة والرجوع إلى الله، إذ يقول: "هل يحقد إلى الدهر؟! أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟!" (3: 5).

<<


 

الأصحاح الثاني

سرّ الخصومة

أراد الله كمحب البشر في بدء عتابه أن يتحدث إرميا مع أورشليم في أذنيها [1] وكأنه لا يريد أن يفضحها، ولا يهوى عقابها في ذاته، إنما يود الإصلاح بحديث ودّي في السّر ما أمكن.

ربما قصد بقوله: "إذهب ونادِ في أذني أورشليم" [2]، أن يقترب منها بدالة الحب والصداقة. هذا الحب لا يعني التستر على الخطية، إنما وهو يتحدث بمحبة يكشف لها عن سّر انحطاطها الذي بلغت إليه. فالله هو العريس الغيور الذي لا يزال يطلب عروسه التي هجرته، يلاطفها ويجتذبها إليه، لكنه لا يقبلها وهي مُصرة على خطاياها.

يرى البعض أن الله في هذا الأصحاح يقيم قضية خيانة زوجية ضد عروسه المحبوبة لديه، لا للحكم ضدها، وإنما ليكشف لها ضعفها فترجع إليه.

قيل إن كلمة الله تريح التعابي وتتعب المستريحين[65]، فهي تقدم راحة للنفوس المعترفة بخطاياها، وتبعث تعبًا للنفوس المستكينة التي تبرر نفسها... هنا تقدم الكلمة تعبًا لشعبٍ استكان للخطية وبرر نفسه.

في هذا الأصحاح يتحدث عن:

1. فضائلها الأولى[1-2].

2. مركزها لديه[3].

3. عدم إهماله لها[4-8].

4. عدم امتثالها حتى بالأمم[9-11].

5. سّر ضعفها[12-28].

6. ثمار خطاياها[29-37].

1. فضائلها الأولى:

"إذهب ونادِ في أذني أورشليم قائلاً: هكذا قال الرب ذكرت لكِ غيرة صباكِ محبة خطبتكِ، ذهابكِ ورائي في البرية في أرض غير مزروعة" [2].

بدأ السيد عتابه بكلمة تشجيع إذ يعلن لأورشليم أنه لن ينسى يوم خطبها وهي بعد في صباها في مصر، كيف قبلته عريسًا لها، وخرجت معه من مصر إلى البرية، في أرض غير مزروعة. وكأنه يعلن أنه مدين لها بهذا الحب، مع أنه هو الذي سمع صرخاتها في العبودية واهتم بها ورعاها، مقدمًا نفسه سحابة تظللها من حرّ النهار وعمود نور يضىء لها ويقودها ليلاً، أرسل لها منًا سماويًا فلا تحتاج إلى طعام، وقدم لها صخرة ماء تتبعها أينما ذهبت. كان لها المربى والطبيب والمهندس... يشبع كل احتياجاتها.

يذكر الله اللحظات العذبة التي فيها استمع الشعب لصوت موسى النبي ووثق في الوعود الإلهية، فكانوا كعروسٍ في "شهر العسل" مع عريسها؛ ولم يذكر كيف كانوا قساة القلب، كثيري التذمر!

عجيب هو الله في حبه، فإنه لا ينسى كأس ماء بارد يقدمه الإنسان باسمه، أما خطاياه فيود ألا يذكرها بل يتناساها. إنه محب للإنسان، صريح معه كل الصراحة، يواجهه بكل ضعفاته، لكن في غير تحاملٍ ودون جرحٍ لمشاعره، وفي غير تجاهلٍ للجوانب الطيبة التي يتسم بها أو كان يتسم بها. إنه يبرز فضائل الإنسان ويركز عليها لكي يسنده فلا ييأس قط. هذا هو الروح الذي اقتبسه منه معلمنا بولس الرسول ففي رسائله يبدأ بالتشجيع وإبراز فضائل المرسل إليهم قبل أن يعرض مشاكلهم وضعفاتهم... حقًا إن كلمة التشجيع تسند كل نفس خائرة!

أقول، في وسط ضعفاتك وسقطاتك، في محبة يناجيك الرب: "قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبة خطبتكِ"... إنه لا ينسى عمل المحبة ولو مرت عليه سنوات طويلة!

2. مركزها لديه:

"إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته، كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم يقول الرب" [3].

إن كان الله في هذا السفر يتحدث مع إسرائيل بصراحة كاملة، ويدخل معه في عتابٍ شديدٍ، ويعلن تأديبه له بحزم، ليس انتقامًا منه ولا لفضحه، وإنما لأنه "قدس للرب، أوائل غلته". ماذا يعني هذا؟

كان رئيس الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس مرة واحدة في السنة، بعد تقديم ذبائح عن خطاياه وخطايا الشعب، ثم يضع صفيحة ذهبية على جبهته مكتوب عليها: "قُدس للرب" (خر 28: 36-38)، هي في الواقع خاصة بالسيد المسيح وحده، البكر وموضوع رضى الآب، يدخل إليه نيابة عن البشرية كلها، أو بمعني آخر حاملاً فيه البشرية كجسده المقدس، فتكون مقدَّسة فيه ومقبولة لدى أبيه. ما كان يصنعه رئيس الكهنة قديمًا إنما يمثل مسيح الرب الذي يقول "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 19).

إن كان إسرائيل هو "قدس للرب" إنما يحسبهم أشبه برئيس كهنة بالنسبة لبقية الشعوب والأمم، لهم وحدهم حق التمتع بمقدساته. لذا يطالبهم بالتقديس لا كقانون يلتزمون به، ولا كفريضة يتثقلون تحتها وإنما كامتياز يليق بهم أن يتمسكوا به.

بحسب الشريعة أيضًا يلزم تقديم البكور للرب، فأوائل الغلة تُعطى له فيتقدس الحصاد كله. هكذا كان الرب يرى هذا الشعب بكر الشعوب وأوائل غلته، هم من نصيب الرب لكي يتبارك العالم بسببهم... لهذا يعاتبهم في مرارة، إنه له!

لما كان "إسرائيل قدس للرب، أوائل غلته" فهو بهذا ملك له، بكور العالم المقدسة لله وحده، من يغتصبه يغتصب حق الله، ومن يأكله ينتهك مقدسات الله، لذا يقول: "كل آكليه يأثمون، شر يأتي عليهم". إن كان الله يسلمه للكلدانيين للتأديب، فإن الكلدانيين إذ يغتصبونه بعنف إنما يسيئون إلى حق الله نفسه ونصيبه!

حقًا يا للعجب، فيما يسمح الله لنا بالتأديب أو الضيق للتزكية يرانا قدسه وأوائل غلته، من يمد يده علينا إنما يأثم في حق الله نفسه، وينتهك مقدساته! لهذا يؤكد الرب نفسه: "فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10: 19).

ولعل الله أراد أن يعاتبهم بلطف، إذ كانوا تارة يرتمون في أحضان فرعون للتحالف ضد الكلدانيين أو العكس، فيقول لهم: أنتم لستم ملك أنفسكم، أنتم ملك لي، أنتم مقدساتي وبكوري، لماذا تسلمون أنفسكم لآخر غيري؟! إنكم تتعدون على حقي بالاتكال على آخر غيري وتسليم ذواتكم ثمرًا مجانيًا للشعوب الوثنية!

على أي الأحوال، كان الله يُذكر شعبه بمركزهم لديه من حين إلى آخر، حتى لا يشك في رعايته الأبوية، ومحبته وسهره عليه، من ذلك قوله: "أعبدٌ إسرائيل أو مولود البيت هو؟!" [14]. إنه ليس عبدًا بل الابن البكر (خر 4: 22)، يريد له الله الحرية الحقيقية والانعتاق من أسر الخطية، لكنه يظن في التزامات البنوة نيرًا فأراد التحرر من بنوته لله، إذ يعاتبه قائلاً: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد" [20].

أساء الشعب فهم مركزه كابن لله، أما الله فيبقى أمينًا نحو ابنه. يريدك ابنًا مباركًا ناضجًا تحمل سمات أبيك، لذا لا يكف عن أن يقوّمك ويصلح كل اعوجاج فيك. لو لم تكن ابنا لما أدبك، لكنه من أجل البنوة يدخل بك إلى ألم التأديب لتتأهل لنوال الميراث.

مرة أخرى يذكر الله شعبه أنه كرمته التي غرسها الرب بنفسه [21]، كما يكرر الدعوة "شعبي" [11، 13، 32، 33]، ويسميه "العذراء المزينة والعروس التي لا تنسى مناطقها" [32]... هكذا بكل الطرق يكشف لها عن مركزها لديه حتى تثق فيه وتقبل توجيهاته وتأديباته.

3. عدم إهماله لها:

لكي يكشف الله لشعبه عن ضعفاته، لم يكتفِ بإبراز فضائله لتشجيعه وإعلان مركزه لديه بكل الطرق، تارة كقدس للرب، وأخرى أول غلته، وثالثة ابنه، ورابعة شعبه، وخامسة كعروس له الخ. فإنه يُذكر شعبه أيضًا بأعماله الإلهية معه خلال التاريخ الطويل، كيف كان يهتم به ويرعاه بلا إهمال، قائلاً:

"ماذا وجد فيّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني؟!

وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً،

ولم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،

الذي سار بنا في البرية، في أرض قفرٍ وُحفرٍ، في أرض يبوسة وظل الموت، في أرض لم يعبرها رجل ولم يسكنها إنسان،

وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها" [5-7].

في عتاب قدم ملخصًا سريعًا وواضحًا عن رعايته لشعبه، إذ أخرجهم من أرض الجور والعبودية، ورافقهم كل الطريق في البرية، لم يكن بها إلا ظل الموت، لم يسبق أن عبر هذا الطريق إنسان قط... وأتى بهم إلى أرض الموعد، البساتين المملؤة ثمرًا وخيرات.

إن كان هذا بالنسبة لأعماله في العهد القديم فماذا نقول نحن الذين تمتعنا بخلاص هذا مقداره؟!

إنه لم يخرج بنا من أرض العبودية بل من ملكوت إبليس المستبد، واهبًا إيانا سلطانًا أن نجحد الشيطان وكل أعماله، وندوس كل طاقاته تحت أقدامنا.

لم يسر بنا في برية قفر، وإنما صار مرافقًا لنا كل أيام غربتنا حيث المعركة التي لا تنتهي مع الخطية والإثم، معطيًا إيانا قوة لنفلت من الفخاخ التي نصبها لنا عدو الخير طوال الطريق.

سار بنا في أرض قفر مملؤة حسكًا وشوكًا، حاملاً الشوك على جبينه حتى لا يجرح أقدامنا.

دخل إلى طريق لم يعبرها إنسان، إذ اجتاز عنا ومعنا المعصرة قائلاً: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3)، "وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (يو 16: 32).

سار بنا إلى أرض بساتين لنأكل ثمرها وخيرها، ما هذه البساتين إلا السيد المسيح نفسه الذي نزل إلى أرضنا، وفُتح جنبه لندخل إلى أحشائه ونرتوي بمحبته، قائلين: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي... حلقه حلاوة وكله مشتهيات" (نش 2: 3؛ 5: 16). هكذا انطلق بنا من أرض ظل الموت إلى جسده واهب الحياة لنحيا به ومعه إلى الأبد.

لعلّ أخطر ما في هذه العبارة قوله "وساروا وراء الباطل (hebel) وصاروا باطلاً [5]. يحمل هذا العتاب معنيين:

الأول: أن من يسير وراء الله االحق، ويتحد به، يتمتع بشركة الطبيعة الإلهية، ويحمل الحق؛ أما من يسير وراء الفساد الباطل، ويتحد به، تتحول حياة الإنسان إلى الفساد، ويصير "باطلاً". وكأن من يتحد بالله يصير كأنه إلهي، ومن يتحد بالخطية يحمل طبيعتها الفاسدة.

الثاني: أن كلمة باطل في العبرية habel تقترب جدًا من كلمة "بعل" Baal، وهو إله الكنعانيين الخاص بالخصوبة. يتعبدون له لينعموا بالثمر المتزايد فإذا بهم يجدون حياتهم عقيمة، بل وباطلة. فالخطية في حقيقتها لا تقدم شيئًا إلا السراب الذي يدفع بالمسافرين إلى الموت ظمًا!

لعله لهذا السبب قدم لنا السيد المسيح جسده ودمه المبذولين طعامًا روحيًا لكي نحمله فينا، فنحمل الحياة الجديدة المُقامة، الحياة السماوية المثمرة، عوض الفساد الذي حلّ في داخلنا! صار مسيحنا مأكلاً حق، لكي نصير نحن "حقًا"، عوض أن نأكل الباطل فنصير باطلاً!

إن كان الله في محبته لم يهمل شعبه بل اهتم برعايتهم، للأسف أهمل الكهنة والخدام كرم الرب، فلم يتذوقوا محبة الله ولا استطاعوا أن يقدموها لشعبه، بل انحرفوا إلى عبادة البعل، وسحبوا قلوب الشعب معهم. "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفوني، والرعاة عصوا عليّ، والأنبياء تنباؤا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع" [8].

تحدث هنا على عن ثلاث فئات على الأقل:

أ. الكهنة: كان اليهود يظنون أن عملهم الرئيسي هو تقديم الذبائح، ولم يدركوا أن رسالتهم الأولى هي المصالحة مع الله مخلص البشر. كانوا يمارسون طقوس الذبائح بكل دقة، لكنهم لم يرفعوا قلوبهم ولا قلوب الشعب نحو الله مخلصهم، لهذا يعاتبهم: "الكهنة لم يقولوا أين هو الرب". كان عليهم أيضًا أن يسلموا الشريعة جيلاً بعد جيل، وأن يكشفوا عن معرفة الله وإرادته وخطته! لكنهم لم يستطيعوا لأنهم هم أنفسهم لم يعرفوا الرب في حياتهم وأعمالهم!

ب. الرعاة: أو الحكام أو الملوك: يُنظر إليهم كممثلي الرب، يهتمون بكل الشعب، خاصة الفقراء والمحتاجين كما جاء في المزمور 72، فيتمموا مشورته، لكنهم عصوه لأنهم أنانيون.

ج. الأنبياء الكذبة: لم يشهدوا للرب بل تنبأوا لحساب البعل.

هكذا تجاهل الكهنة الرب الذي كان يجب أن يعلنوا عنه وأن يشفعوا لديه، وانطمست أعين أهل الشريعة عن المعرفة، وتحول الرعاة إلى العصيان عوض قيادة الشعب إلى الطاعة، وتنبأ الأنبياء ببعل عوض توبيخ الشعب على انحرافهم! لقد انحرفت كل القيادات الروحية عن عملها وأخذت الاتجاه المضاد لرسالتها. هكذا تدخل الخطية إلى حياة الإنسان فتفقده توازن كل قيادات نفسه الداخلية.

فالكهنة هنا يشيرون إلى طاقات الحب التي تسحب الإنسان إلى الله ليطلبه بكل القلب، لكن الشر يفسد الحب فيجعله شهوات شريرة، فيطلب القلب الأرضيات عوض السمويات، ومحبة الجسد عوض محبة الله.

ويشير أهل الشريعة إلى العقل الذي يلزم أن يستنير بالروح القدس ليتعرف على أسرار الله، لكن الشر يفسد العقل فيتحول من نور المعرفة إلى ظلمة الجهل ليصير أعمى يقود أعمى ويسقط كلاهما في حفرة (مت 15: 14).

ويشير الرعاة إلى الحواس التي ترعى الإنسان في مراعي الله الخلاصية، فيتلمس الحياة الجديدة ويتذوقها ويشتم رائحتها، لكنها إذ تنحرف تصير الحواس ثقلاً على النفس، تسحبها إلى الأرض والجسد!

أما الأنبياء فيشيرون إلى الرؤية الداخلية حيث يليق بالقلب في نقاوة أن يعاين الله ويلتمس الأبديات. إذ يفقد القلب نقاوته يُصاب بالعمى، ويصير الله بالنسبة له خيالاً أو مجرد فكرة. هكذا إذ يرفض الإنسان رعاية الله يسلم كل طاقاته الداخلية ومراكز القوى، فلا تطلب ما ينفع بل ما هو مفسد لها!

4. عدم تمثّلها حتى بالأمم:

الآن إذ رفضته كعريس لها انطلق بها من بيت الزوجية الذي دنسته إلى دار القضاء، قائلاً: "لذلك أخاصمكم (riv) بعد يقول الرب" [9].

الأصحاح كله اشبه بمذكرة دعوة مقامة بسبب خيانة زوجية.

"فاعبروا جزائر كتيم، وأنظروا وارسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًا وأنظروا هل صار مثل هذا؟!

هل بدلت أمة آلهة وهي ليست آلهة؟!

أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع" [10-11].

جزائر كتيم هي جزيرة كريت، وقيدار في الصحراء الغربية، وكأن الله يطلب من شعبه أن يجول غربًا حتى كريت أو شرقًا حتى قيدار ليرى بنفسه كيف تتمسك الأمم الوثنية بآلهتها التي هي بحق ليست آلهة، بينما يتجاهل شعبه علاقته بالله الحقيقي، فيبدل مجده بالأمور الباطلة التي لا تنفع، إذ يتعلق بالعبادات الوثنية. هكذا يخزي أبناء الملكوت حين ينظرون غيرهم يجاهدون فيما لهم مع أنهم لا ينعمون بما يتمتعون هم به من وعودٍ وعطايا ونعمٍ إلهية فائقة!

إنه يُعاتب شعبه ويوبخهم، لكنه كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى في توبيخه يتنازل[66]]، فمن أجل بنيان شعبه يقارن نفسه بالآلهة الوثنية ليكشف أن شعبه لا يقدم تكريمًا له كتكريم الأمم للوثن.

5. سّر ضعفها:

 بعد هذا العتاب اللطيف الذي فيه أعلن أنه لم يهمل في حقهم ولا في حق أبائهم، بل دائمًا يرعاهم، أما هم فأبدلوه بآلهة غريبة، كشف لهم سرّ ضعفهم من جوانب كثيرة:

أولاً: تركها ينبوع الحياة واتكالها على ذاتها:

يُشهد الرب السموات على شعبه الذي استبدل مجده بأمور باطلة، لرفضهم الله ينبوع المياه الحية ونقرهم الآبار التي هي من عمل أيديهم الذاتية:

"ابهتي أيتها السمويات من هذا واقشعري وتحيري جدًا، يقول الرب،

لأن شعبي عمل شرين:

تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءً" [13].

من الصعب أن نتصور إنسانًا ما يُفضل مياه الأحواض على مياه الينابيع، لكنه لأجل راحة جسده يلتزم بالشرب من مياه الأحواض التي حفرها لنفسه في فناء منزله عن أن يقطع مسافات طويلة ليشرب من الينبوع. هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يختار الطريق الواسع السهل عن طريق الصليب الضيق. من جانب آخر يوضح النبي أن الذي يطلب مياه الأحواض التي حفرها بنفسه عوض مياه الينبوع الطبيعي غالبًا ما يخرج فارغ اليدين، لأنه سرعان ما تتشقق الأحواض وتتسرب المياه من الصخور.

يُعاتب الله شعبه، قائلاً: لقد رفضتموني ورفضتم عملي في أرواحكم وأجسادكم لتعملوا هواكم وإرادتكم الذاتية، فصرتم طبيعيين وجسدانيين لا روحيين. فنحن نعلم أن الرسول بولس قسم البشرية إلى ثلاثة أصناف: روحيين وطبيعيين وجسدانيين.

الإنسان الروحي هو الذي يقبل روح الله فيه ينبوع المياه الحية، عاملاً في روحه وجسده معًا، مقدسًا إياه بالكامل.

أما الإنسان الطبيعي فهو الذي يرفض الينبوع الحيّ لينقر لنفسه آبارًا ذاتية هي من صنع إرادته، فيسلك حسب كبرياء قلبه حتى في الأمور الروحية.

والإنسان الجسداني، إذ يرفض عمل الروح فيه يستسلم لشهوات الجسد....

لعل الله كرر كلمة "آبار" مرتين، لأنهم حفروا آبارًا حسب إرادتهم الذاتية لأرواحهم، وحفروا آبارًا أيضًا حسب شهوات جسدهم، فسقطوا في الكبرياء والشهوات معًا.

ويرى آباء الكنيسة أن الإنسان يشرب من ينبوع المياه الحية الذي وهبه السيد المسيح لكنيسته المقدسة، فمن يخرج عنها ويقبل المعمودية من غيرها أو التعاليم الغريبة عنها إنما يشرب من الآبار الغريبة التي لا تضبط ماءً! يقول القديس ايريناؤس: [الذين لا ينعمون بالشركة معه لا يتمتعون بالحياة من ثديي الأم، ولا ينعمون بالينبوع النقي الذي يصدر عن جسد المسيح، وإنما ينقرون لأنفسهم آبارًا مشققة من خنادق أرضية، فيشربون ماءً ملوثًا بالوحل، هاربين من إيمان الكنيسة لئلا يدانوا، ويحتقرون الروح لئلا يتعلموا[67]]. ويقول القديس كبريانوس: [بالرغم من أنه لا توجد معمودية أخرى، إذ هي معمودية واحدة، لكنهم يظنون أنهم قادرون على التعميد. لقد هجروا ينبوع الحياة ومع ذلك يعدون بتقديم نعمة المياه الحيّة المخلّصة. فالناس عندهم لا يغتسلون (من الخطية) إنما يتجمعون معًا. مثل هذا المولد (المعمودية) لا ينجب أولادًا لله بل للشيطان، فإن ولادتهم باطلة وقبولهم للمواعيد ليس حقًا[68]]. وأيضًا: [مرة أخرى يحذر الكتاب المقدس قائلاً: تحفظ من المياه الغريبة ولا تشرب من ينبوع ماء غريب (أم 9: 19 الترجمة السبعينية)... كيف يقدر من هو خارج الكنيسة وغير قادرٍ على نزع خطاياه الخاصة أن يعمد غيره ويهبه غفران خطاياه؟![69]].

هكذا قدم الله لكنيسته ذاته ينبوع المياه الحية، خارجها لا ينعم الإنسان إلا بالآبار المشققة التي لا تضبط ماء.

ربنا يسوع المسيح هو الينبوع الحيّ يفيض على الكنيسة فيفجر في أولادها ينابيع حية، ويصيرون هم أيضًا أنفسهم أنهارًا، لذا يقول المرتل: "الأنهار لتصفق بالأيادي" (مز 98: 9)، ويعلق القديس جيروم، قائلاً: [تشرب الأنهار من الينبوع يسوع... هذه هي الأنهار التي تفيض خلال ينبوع المسيح. إنه الينبوع ونحن الأنهار، إن كنا بالحقيقة نستحق أن ندعى أنهارًا. المسيح هو الينبوع والقديسون هم أنهار، والأقل تقديسًا يدعون نهيرات، والبعض مجرد سيول هذه التي تجف مياههم عند التجرية[70]].

ويرى القديس أمبروسيوس أن اليهود رفضوا السيد المسيح الينبوع الحيّ فصاروا كالجزة التي وضعها جدعون حيث كانت وحدها جافة بينما كان على الأرض طلّ (قض 6: 39)، حيث سقط اليهود في جحد الإيمان بالسيد بينما قبلت الأمم الإيمان به[71].

ومن ناحية أخرى يرى القديس أمبروسيوس أن الله النار الآكلة (تث 4: 24) هو بعينه ينبوع المياه الحية: "ربنا يسوع المسيح كالنار يلهب قلوب السامعين له، وهو ينبوع المياه الذي يهب برودة. جاء يلقى نارًا على الأرض (لو 12: 49) ويهب مياه حية للعطاش (يو 7: 37-38)[72]".

v     جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (2: 13). وفي موضع آخر نقرأ انهم قد تركوا الابن ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14).

القديس جيروم[73]

v     الله بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه تحته، فلا يترك شيئًا فيه في ملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع.

القديس أمبروسيوس[74]

v     كثيرون عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى الله، والخطاة إلى الذهب.

قيصريوس أسقف آرل[75]

v     إلى هذا النبع جاءت رفقه بجرتها لتملأها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: "فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك 24: 16). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى نبع الحكمة لتملاْ جرتها وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن يرفعوها من الينبوع الفائض. اصغوا إليه إذ يقول الينبوع نفسه: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية" (13: 2).

تعطش نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" (مز 42: 2-3)، لكي يروى ظمأه بغنى معرفة الله ويغسل دم الحماقة بمياه المجارى الروحية.

القديس أمبروسيوس[76]

v      لا يأخذ المؤمن قطرة من علم الشيطان، الفلك والسحر وغير ذلك من العلوم المقاومة للتقوى في الله. إنما له ينابيعه، يشرب من ينابيع إسرائيل، ينابيع الخلاص، لا من بئر سيحون. إنه لا يترك ينبوع الحياة ليكنز في الآبار المشققة (2: 13). إنه يعلن أنه يسير في الطريق الملوكي، طريق ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه طريق ملوكي إذ قال عنه النبي "اللهم إعطِ أحكامك للملك" (مز 72: 1). يليق بنا أن نتبع طريق الملك دون أن نميل من أي ناحية، لا إلى حقل ولا إلى الأعمال والأفكار الشيطانية.

العلامة أوريجينوس[77]

في أيام إرميا ترك الشعب الله ينبوع المياه الحية ونقروا لأنفسهم أبارًا لا تضبط ماءً. فقد تظاهر فرعون مصر بالصداقة، وأعلن رغبته في حمايتهم من أشور، لكنه في الحقيقة كان يريد أن يقتنصهم لنفسه ويبتلعهم، وذلك كسيده إبليس الذي يقدم طرقًا تبدو كأنها للخلاص وهي مهلكة وخبيثة. لهذا يقول "زمجرت عليه الأشبال، أطلقت صوتها، وجعلت أرضه خربه، أحرقت مدنه فلا ساكن، وبنو نوف وتحفنيس قد شجوا هامتك" [14-15]. فبنو نوف (ممفيس) وتحفنيس هما مدينتان مصريتان يمثلان مملكة فرعون كلها، هذه التي اتكلت عليها لانقاذهم من أشور، فزمجرت عليهم كالأشبال وحولت أرضهم خرابًا وأفقدت مدنهم سكانها!

ولعل تكراره لكلمة "آبار" مرتين يشير أيضًا إلى تأرجح الشعب في ذلك الحين بين اعتمادهم على ملك بابل ضد فرعون مصر، أو العكس، فيرغبون في الحماية البشرية، يطلبون أن يرتووا من مياه الفرات أو نيل مصر عوض مياه الله الحية. يقول: "أما صنعت هذا بنفسك إذ تركت الرب إلهك حينما كان مسيرك في الطريق. والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور، ومالك وطريق أشور لشرب مياه النهر" [17-18].

يقصد بمياه شيحور مياه النيل، إذ جاء في إشعياء: "وغلتها زرع شيحور حصاد النيل على مياه كثيرة فصارت متجرة الأمم" (إش 23: 3).

يرى القديس جيروم[78] أن كلمة "شيحور" تعني "النهر الوحل المملوء طميًا"، وربما دعى نهر النيل هكذا بسبب ما يحمله من طمى في فترة الفيضان.

إن كانت مصر تشير إلى محبة العالم بسبب خيراتها الكثيرة، وبابل تشير إلى الكبرياء بسبب ما وصلت إليه من كرامة زمنية وسطوة، فإن المؤمن كثيرًا ما ينسحب قلبه من الاتكال على عمل الله ليشبع شهوات جسده ويحقق محبته للأرضيات، أو بسبب روح الكبرياء التي يثور فيه، وفي كليهما يحرم نفسه من الارتواء بالحق.

في الرسالة الفصحية لعيد القيامة عام 335م تطلع البابا أثناسيوس إلى فريقين يحتفلان بالعيد، فريق كالشعب القديم أراد أن ترتوى نفسه من مياه النيل في مصر أو من مياه الفرات في أشور عوض أن ترتوى من ينابيع الله الحية فصاروا في ظمأ أعظم، بينما رأى فريق آخر في المسيح المصلوب القائم من الأموات كل شبعه، فقال: [أنتم تعلمون أن للخطية خبزها الخاص أيضًا - خبز موتها - لهذا فهي تدعو محبي اللذة الذين بلا إفراز، قائلة: "المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ" (أم 9: 17). من يلمسهما لا يدرك أن الذين يرتبطون بالأمور الأرضية يهلكون مع الخطية.

لكن يا للأسف! حتى حينما يتطلع الإنسان إلى الشبع لا يجد ثمر خطاياه مبهجًا، وكما تقول حكمة الله في موضع آخر: "خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصى" (أم 20: 17). و"لأن شفتي المرأة الأجنبية (الزانية) تقطران عسلاً، وإلى حين لذيذة، لكن عاقبتها مرة أكثر من الأفسنتين، وحادة أكثر من سيف ذى حدين" (راجع أم 5: 3-4). فيأكل ويُسر إلى حين، لكن بعد ذلك إذ يُقطع من الله يهلك. لهذا السبب يحاول النبي أن يحفظ الخطاة من الابتعاد عن الله، محذرًا: "والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه النيل؟ ومالك وطريق أشور لشرب مياه الفرات؟" [18][79]].

ثانيًا: ارتباطها بالآلهة الباطلة جعلها باطلة:

ليس فقط رفضت الله ينبوع المياه الحية لتطلب ما لذاتها، الآبار التي من عمل يديها، أو لتلتجىء حسب فكرها البشري للحماية بملك بابل أو فرعون مصر، وإنما سّر ضعفها أنها استعاضت عن الله الحيّ بالآلهة الوثنية الباطلة، فعوض اتحادها بالحيّ لتكون هي حية ارتبطت بالباطل فتصير باطلة، إذ يقول: "ساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً" [5]... وفي عتاب يقول: "أين آلهتكِ التي صنعتِ لنفسكِ، فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [28]... هذا هو سر ضعفها: رفضت الله لتقبل من هم ليسوا آلهة آلهة لها...

يقول الرب لها عن تركها له: "يوبخكِ شركِ، وعصيانكِ يؤدبك، فاعلمي وأنظري أن تركك الرب إلهك شر ومرّ وأن خشيتي ليست فيك" [19].

لو دققنا في العبارة لرأينا الله يكشف لنا عن حقيقة كثيرًا ما تغيب عن ذهننا، أن الذي يوبخ الإنسان شره، والذي يؤدبه عصيانه... حقًا يقوم الله بالتوبيخ وفي محبته يؤدب بحزمٍ، ربما يبدو قاسيًا للغاية، لكننا لا نلوم الله بل أنفسنا فإن ما يحل بنا من توبيخ أو تأديب هو ثمرة طبيعية للشر والعصيان. ما يسمح به الرب لنا هو أن نجني القليل جدًا من ثمر ما أرتكبته أيدينا، وما صنعناه بكامل حريتنا، لينزع عنا الشر ولنرجع عن العصيان فيتوقف التوبيخ ولا يكون للتأديب موضع.

هكذا يجني الإنسان ثمر عمله، وكما يقول الأب ثيوناس: "الذي يوقد شرًا يهلك به[80]"، فإن "كل إنسان بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)، وكما يقول الرب: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11). أما عمل هذه النار التي يقدحها الأشرار فهو حرمانهم من الله، إذ ُتسحب قلوبهم من الله وتنزع خشية الرب عنها، فتصير حياتهم مملوءة مرارة. هكذا يقول: "فأعلمي وانظري أن تركك الرب إلهك شر ومّر وأن خشيتي ليست فيك يقول السيد رب الجنود" [19].

استخدم داود النبي تعبير "رب الجنود" عندما حاور جليات الجبار (1 صم 17: 45) ليؤكد أن الله هو قائد المعركة، المدافع عن شعبه. وجاء في المزمور: "رب الجنود معنا... إله يعقوب ملجأنا" (مز 46: 7، 11). استخدم إرميا النبي أيضًا هذا التعبير ليعلن أنه قائد المعركة لحماية شعبه، لكن إن رفضه شعبه صار الله لتحطيمهم!

كشف لها عن ضعفها بثلاث تشبيهات أخذها من الحيوانات والبشر والنباتات:

أ. وصفها كحيوانٍ جامحٍ لا يريد العودة إلى صاحبه [20].

ب. كزانية تمارس الفساد علانية بلا خجل، على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء، أي في المواضع التي تتعبد فيها للبعل. وكأن عبادتها قد امتزجت بالرجاسات.

ج. ككرمة منتقاة، لكنها قدمت عنبًا لا نفع منه (ع 20، إش 5). يُشار إلى شعب الله في الكتاب المقدس بأربعة أنواع من الشجر: الكرمة والزيتونة والتينة والعوسج. وقد سبق لنا الحديث عن الكرمة والتينة أثناء دراستنا لسفر هوشع. إن كانت الكرمة كما الخمر (عصير العنب) يشيران في الكتاب المقدس إلى الفرح الروحي، فإن عدم الاثمار أو إنتاج عنب ردىء يعني فقدان الكنيسة (أو الشعب) روح الفرح بالرب ، واتسامها بالغم والتذمر الدائم. جاء مسيحنا ككرمة ليجعل منا أغصانًا (يو 15) تشهد لفرحه السماوي، وسلامه الإلهي الفائق.

لقد رفضت عروسه الارتباط به وأحلت البعل عوضًا عنه: "لأنه منذ القديم كسرت نيرك وقطعت قيودك وقلت لا أتعبد، لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية" [20]. لقد قبلت البعل عريسًا لها عوض رجلها فصارت زانية.

لماذا قيل إن إسرائيل قد اضَّجَعت كزانية على كل مرتفعٍ (أكمة عالية) وتحت كل شجرةٍ مظلَّلة (خضراء) (2: 20؛ 3: 6)؟

يقول العلامة أوريجينوس: [لأنهم يتكلمون بتشامخٍ في علوّ، ويستخدمون البلاغة المزهرة. على كل الأحوال إنهم لا يعملون حسبما ينطقون[81]].

وإذ أراد تأكيد مسئوليتها عما تفعله، يقول لها: "وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولتٍ لي سروغ جفنة غريبة؟!" [21]. وكأنه يقول لها: لقد خلقتك كلكِ حق بلا بطلان ولا فساد، زرعتك كرمة مختارة من بذار طيبة، فلماذا تحولتِ إلى كرمة غريبة دنيئة؟! يعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بقوله إن الله صنع لنا كل ما كان ممكنًا أن يكون ممتعًا، لكننا نحن الذين أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا. لهذا يبدو النبي وكأنه يسأل من ملأت المرارة نفوسهم عوض الرقة أو الوداعة التي أودعها الله فينا، قائلاً: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟

["إذ ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الأحياء يُسرّه. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء. فمواليد العالم إنما ُكونت معافاة وليس فيهم سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض" (حك 1: 13-14). إذا خرجت قليلاً عن الموضوع أقول: مِن أين إذًا جاء الموت؟ "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24).

لقد صنع الله كل ما يمكن أن يكون جميلاً لنا، ونحن خلقنا لأنفسنا الشر والخطايا.

يثير النبي تساؤلاً أمام هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم بالمرارة المخالفة للعذوبة التي وضعها الله فيهم، فيقول: "فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة"؟

يقول: إن الله لم يصنع العَرَج، لكنه على العكس أعطى الجميع أرجلاً نشطة خفيفة الحركة، ثم حدثت علة جعلتهم يعرجون!

خلق الله من البدء جميع الأعضاء سليمة، ثم حدثت علة جعلت بعض هذه الأعضاء تتألم.

هكذا أيضًا ُصنِعَت النفس على صورة الله، ليس فقط بالنسبة للإنسان الأول وإنما بالنسبة لكل إنسان، لأن الكلمات: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26) تمتد إلى كل البشر. وما ُيقال عن آدم ُيقال أيضًا عن جميع البشر. كان آدم يحمل في البداية "صورة الله"، ثم أضاف عليها بخطاياه "صورة الترابي" (1 كو 15: 49) هكذا حدث مع كل البشر، فقد كانت صورة الله سابقة لصورة البشر.

"لقد لبسنا" ونحن خطاة "صورة الترابي". لنلبس إذًا بتوبتنا "صورة السماوي"، عالمين رغم كل شيء أن الخليقة قد صنعت على صورة السماوي.

تضع كلمات الكتاب المقدس هذا التساؤل أمام الخطاة؛ فيقول لهم الله بنغمة العتاب: "فكيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟" فأنا "قد غرستكِ زرع حق كلها".

سبق لنا القول أن الله غرس نفس الإنسان مثل "كرمة جميلة"، لكن بتغيره وانحرافه، تحول إلى عكس ما أراد الخالق.

"وأنا قد غرستكِ كرمة سورق زرع حق كلها"، وليس "زرع حق بعضها"، ليست زرع حق هنا وزرع ردئ هناك، ولكنها "زرع حق كلها" فكيف تحولتِ إلى مرارة على الرغم من إنني خلقتكِ كُلكِ بجملتك حق؟ كيف أصبحت كرمة غريبة؟[82]]

خلقها الله كرمة مقدسة له، لكنها اختارت لنفسها أن ترفضه، فصارت "سروغ جفنة غريبة"، لذا لا يدعوها "كرمتي" بل مجرد "كرمة"، هي رفضت انتسابه إليها كإله، وهو يرفض انتسابها إليه حتى تعود إليه مقدسة فيه. يقول القديس أغسطينوس: [إنه لم يقل كرمتي، فلو كانت كرمته لكانت صالحة، أما كونها رديئة فهي ليست له لذا فهي غريبة[83]].

في العهد القديم "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" (إش 5: 2)، أي غرس كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعبٍ مختارٍ نال عهدًا مع الله، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت إلى سروغ جفنة غريبة؟!" [12].

 أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه كرمة يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو 15: 5).

v     عندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: كيف تحولتِ لي سروغ جفنة؟" [21]، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟!

v     انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية.

القديس أغسطينوس[84]

v     اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به!

القديس كيرلس الأورشليمى[85]

لم يقف الأمر عند إفساد نفسها بنفسها باعتزالها إلهها وعدم انتسابه إليها وانتسابها إليه، إنما حتى عندما أرادت إصلاح نفسها اتكأت على ذراعها البشري عوض الرجوع إليه كمخلصٍ لها. كأنها حتى في ندامتها يزداد انشقاقها عن الله الحقيقي لأنها عوض الاعتراف بخطاياها حاولت تبرير نفسها. لذا يقول لها: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الأشنان فقد نُقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب" [22].

إذ تكون النفوس عنيدة للغاية يهدد الله بالعقوبة دون أن يفتح بابًا للرجاء، ليس لكي يسقطوا في اليأس، وإنما لكي لا يحوِّلوا هذا الرجاء إلى استهانة واستخفاف. فعندما أرسل يونان النبي إلى أهل نينوى بدا في الحديث كأن لا رجاء لهم في الخلاص من العقوبة، لكنهم إذ تابوا غفر لهم ودافع عنهم أمام نبيه.

v     عندما يقول للمدينة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي" [22]، لم يقل هذا لكي ليلقى بهم في اليأس، وإنما ليثيرهم للتوبة[86].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ظنت أنها قادرة بذاتها أن ُتغسل بالنطرون أو بالإشنان (صابون أو منظف)... ولم تدرك أن هذا من عمل الخالق نفسه، هو وحده الذي يغسل النفس ويقدس الجسد! وكما يقول العلامة أوريجينوس:

[فلننظر بعد ذلك إلى العبارة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسكِ الإشنان فقد ُنقش إثمك أمامي يقول السيد الرب".

هل معني هذا أن النفس الخاطئة تظن أنه باغتسالها بالنطرون المادي تضع نهاية لإثمها وخطيتها؟!

هل يظن أحد أنه باغتساله بذلك العشب (الإشنان) الذي ينبت من الأرض يطهر نفسه، حتى تقول كلمة الله للكرمة المتحولة إلى المرارة والتي أصبحت غريبة: "فإنكِ وإن اغتسلتِ بنطرون وأكثرتِ لنفسك الإشنان فقد نقش إثمكِ أمامي يقول السيد الرب"؟

لا، ولكن يجب علينا أن نعرف أن كلمة الله ُكليّ القدرة، قادر على شفاء الكل "لأن كلمة الله حيّ وفعال وأمضى من كل سيف ذى حدين" (عب 4: 12).

توجد إذًا كلمة عبارة عن نطرون، وأخرى عبارة عن عشب، كلمة بمجرد نطقها تتطهر الخطايا التي من نوع معين. ولكن كما أن كلمات النطرون والعشب لا تصلح علاجًا لكل الخطايا، إذ توجد خطايا تتطلب علاجًا آخر خلاف العشب والنطرون، قيل للنفس التي ظنت أن خطاياها يمكن أن تُغسل بالنطرون والعشب: "فإنكِ وإن اغتسلتِ... يقول السيد الرب".

أنظروا إلى الجروح: توجد جروح تُعالج بالمراهم والدهون، وأخرى تُعالج بالزيت، وأخرى بعصابة وأربطة. هذه الأنواع من العلاج تكفي لشفائها، ولكن هناك جروح أخرى قيل عنها: "ليس فيه صحة بل جرح واحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت. بِلادكم خربة. مُدنكم مُحرقة بالنار" (إش 1: 6-7). نفس الشيء بالنسبة للخطايا: بعضها يؤدي إلى اتساخ النفس هذه تحتاج إلى كلمة نطرون أو كلمة عشب لتنظيفها، وبعضها لا يمكن علاجه بهذه الطريقة لأنها تُعاني أكثر بكثير من مجرد الاتساخ.

 أنظر كيف أن الرب الذي يعرف أن يفرق بين الخطايا، يعلن في إشعياء قائلاً: "غسل السيد قذر بنات صهيون، ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق" (إش 4: 4).

قذر ودم؛ القذر "بروح القضاء" والدم "بروح الإحراق".

فإذا ارتكبت خطية، حتى ولو لم تكن "خطية للموت" (يو 5: 16)، فقد اتَّسَخْتْ: وسوف "يغسل السيد قذر بنات صهيون وينقي دم أورشليم من وسطها". وما نحتاجه نحن حينما نخطىء خطية أخطر ليس هو النطرون أو العشب وإنما نحتاج إلى "روح الإحراق".

لعلّى الآن قد عرفت ما هو سبب أن السيد المسيح يُعمِّد "بالروح القدس والنار" (لو 3: 16). ليس أنه يعمد إنسانًا واحد بالروح القدس والنار، وإنما هو يعمد الإنسان البار بالروح القدس، أما الإنسان الآخر الذي بعدما يؤمن وبعدما يكون مستحقًا للروح القدس، يخطىء من جديد، فإن الرب يغسله بالنار.

طوبى لمن اعتمد بالروح القدس ولا يحتاج أن ُيعَمَّد بالنار، ومسكين جدًا من يكون محتاجًا أن يعمد بالنار. ومع ذلك فإن يسوع المسيح يستطيع أن يعمد في الحالتين. مكتوب: "يخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). القضيب للمُعَاقَبِين والغصن للصالحين. كذلك فإن الله "نار آكلة" (عب 12: 29)؛ و"الله نور" (1 يو 1: 5) نار آكلة للخطاة، ونور للأبرار والقديسين[87]].

إذ حاولت تغطية خطاياها بتبريرها لذاتها فضحها أمام نفسها، قائلاً لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]. هنا يقصد وادى بني هنوم (2 مل 23: 10، إر 7: 31-32؛ 19: 5-6) الذي فيه كانوا يقدمون أطفالهم محرقات للأوثان. هذا يكشف كيف سيطرت عبادة الأوثان على قلوبهم وحياتهم، فلم يمارسوها لأجل منافعٍ زمنيةٍ وإنما بلغ بهم الأمر إلى حرق أطفالهم كذبائح آدمية وهم يرقصون ويتهللون أمام الأصنام.

عاد مرة أخرى يوبخها على تركها إياه وجريها وراء البعليم الغريب، مؤكدًا لها أنها باعته، وليتها باعته بثمن وإنما بلا ثمن، إذ لم تقتنِ من البعليم شيئًا سوى الانحدار من الجبال العالية المقدسة والنزول إلى الوادي [23]. يقول لها: "أنظري طريقك في الوادي" [23]؛ لقد تركتي الحياة السمائية العالية، إذ أنزلك البعليم إلى السفليات وانحدر بك إلى الأرضيات. ولعله بقوله هذا يذكرها بما تفعله في وادى هنوم حيث تقدم أطفالها الصغار ذبائح بشرية وضحايا للبعل (7: 31)، فتفقدهم بلا ثمن! في مرارة يقول لها: "اعرفي ما عملتِ يا ناقة خفيفة، ضبعة في طريقها، يا أتان الفرا قد تعودت البرية، في شهوة نفسها تستنشق الريح" [23-24]. لقد صارت كأنثى الجمل التي بلا قائد لها، تتحرك بخفة وبغير توقفٍ بلا هدف ولا نفع، تجري في كل اتجاه متخبطة؛ وكالضبعة التي تحفر القبور لتأكل الجثث، رائحتها كريهة، جبانة بطبعها! صارت كأنثى الحمار الوحشى التي تعودت الحياة في برية القفر، ولا تستريح وسط الخيرات والبركات، إنما تقضى كل وقتها تجري وراء الذكور من هنا ومن هناك، تفقدها رغبتها في الاشباع الجنسي اتزانها وراحتها. صارت تشتهي أن تستنشق الريح!

ماذا أخذت من تركها إلهها واهب الخيرات وانجذابها إلى البعليم، إلا فقدان إنسانيتها وأولادها وتعقلها وكل بركة لتعيش هكذا هائمة كمن في البرية!

صارت في خطر كمن يسلك في أرض وعرة حافيًا، وقد جف حلقه من الظمأ، ومع ذلك لا يريد أن يلبس نعلاً ولا أن يشرب ماءً! "احفظي رجلكِ من الحفا وحلقكِ من الظمأ، فقلتِ باطل: لا، لأني قد أحببت الغرباء ووراءهم أذهب!" [25].

يتوسل إليها أن ترجع ليحفظ قدميها من العثرة ويروي حلقها عوض الظمأ، لكنها في إصرارٍ ترفض قائلة: "لا"، لأنها تظن أن جريها وراء الغرباء مع التعرض للخطر والظمأ أفضل لها من التمتع بأحضان عريسها الإلهي ونوال بركاته المشبعة. لذا يبدأ بالتهديد بعد التوسل، قائلاً: "كخزي السارق إذا وُجد، هكذا خزي بيت إسرائيل، هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم" [26]. يبقى السارق متهللاً بسرقته حتى ولو لم يستخدم المسروق، ويفتخر أنه استطاع أن يسرق ولم يدرِ به أحد، لكنه متى ٌقبض عليه صار في خزي ولا ينفع الندم، هكذا فعل إسرائيل على أعلى المستويات من ملوك ورؤساء وكهنة وأنبياء لكنهم سيقضون يومًا أمام الله كالسارق في دار القضاء، وليس من يشفع فيهم، ولا من يستر على خزيهم، لأنهم اختاروا العود (الأصنام الخشبية) أبًا لهم، والحجر (الأوثان الحجرية) أمًا [27]، ورفضوا الله أباهم! تركوا القادر أن يخلصهم في يوم القضاء والتصقوا بمن يهلكهم ويهلك معهم!

في مرارة يقول "حولوا نحوي القفا لا الوجه"، لقد رفضوا أبوتي واقتنوا لأنفسهم أبًا وأمًا هما من الخشب والحجارةّ، تركوني أنا الخالق محب البشر وارتموا في أحضان الخليقة الجامدة بعدما تدنست!

يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع اليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16).

يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر (قفا)، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلاً: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" [27]. التعبير الذي استخدمة أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33).

ثالثًا: التعريج بين الفريقين:

قلنا أن سر ضعفهم هو تركهم ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبار مياه ذاتية من عندياتهم. هذا من جانب ومن جانب الآخر تركوا آباهم الحيّ ليقبلوا العشتاروت الخشبي وهي إلهة الخصوبة الأنثى أبًا لهم، أو من الإله الذكر الحجري أمًا لهم. إذ يقول: "قائلين للعدو أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" [27]. هنا نوع من السخرية، إذ يعلن لهم النبي أنهم فقدوا كل إدراك طبيعي وكل منطقٍ بشري، فجعلوا من الأنثى أبًا، ومن الذكر أمًا ولودًا لهم! إنهم لم يفقدوا فقط قدرتهم على التمييز بين الله الحقيقي والآلهة الباطلة، وإنما حتى التمييز بين الذكر والأنثى، والأب والأم!

وأخيرًا فإنهم حتى في وسط الضيق لا يرجعون إلى الرب بكل قلوبهم بل يعرجون بين الفريقين، يطلبون الله ليخلصهم أما قلبهم فملتصق بالبعل.

يقول "وفي وقت بليتهم يقولون قم وخلصنا، فأين آلهتك التي صنعتِ لنفسكِ؟! فليقوموا إن كانوا يخلصونكِ في وقت بليتكِ" [27-28].

انها ذات الكلمات التي سبق فوبخ بها آباءهم في عصر القضاة: "أنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى، لذلك لا أعود أخلصكم، امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها، لتخلصكم هي في زمان ضيقكم" (قض 10: 13-14). يقول هذا عن حب، فإنهم إذ أدركوا خطأهم ورجعوا إليه يقول الكتاب: "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" (قض 10: 16)... إنه ينتظر رجوعنا ولا يحتمل دموعنا!

6. ثمار خطاياها:

إذ كشف لها عن جوانب من سّر ضعفها حدثها عن ثمار خطاياها، ألا وهي:

أولاً: صار الله بالنسبة لها كبرية أو أرض ظلام:

يقول الرب: "هل صرتِ برية لإسرائيل أو أرض ظلامٍ دامسٍ؟! لماذا قال شعبي: قد شردنا لا نجيء إليك؟" [31]. كأن الله يعاتب شعبه قائلاً: لماذا تهربون مني، هل رأيتموني برية تهربون منها، أو أرض ظلام تخافونها؟!

يعلق العلامة أوريجينوس[88] على هذه العبارة موضحًا أن الله يهب نوعين من العطايا، عطايا عامة وأخرى خاصة؛ فيهب نور الشمس والهواء وكل الخيرات الأرضية لكل العالم. إنه ليس بالبرية القاحلة بل صانع الخيرات الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45). إنه ليس بأرض ظلام دامس، وإنما "الله نور وليس فيه ظلمة البته" (1 يو 1: 5) فبالنسبة للعطايا العامة يظهر الله بكونه واهب الخيرات للجميع والمشرق بنوره على الكل. أما بالنسبة للعطايا الخاصة مثل عطية الاستنارة والبنوة الخ. فتُعطى للمؤمنين، أما غير المؤمنين يُحرمون منها فيصير الله بالنسبة لهم برية وأرض ظلام دامس. إذ رفض إسرائيل الإيمان بالسيد المسيح، صار الله بالنسبة له هكذا، وكما قال الرسول بولس: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).

يقول العلامة أوريجينوس: ["هل صرتُ برية لإسرائيل أو أرض ظلام دامس؟" [31].

في بداية هذا النص، يقول الرب أنه لم يكن برية لإسرائيل، ولا أرض ظلام دامس... فهل أصبح اليوم برية لإسرائيل، هل أصبح الآن أرض ظلام؟ أم ماذا؟

عندما لم يكن لإسرائيل كذلك، هل كان للأمم في ذلك الوقت برية وأرض ظلام؟

إذا كان الله لم ولن يكن للجميع برية أو أرض ظلام، فلماذا إذًا يقول هذا الكلام لإسرائيل؟ لنراجع أعمال الله الصالحة العامة والخاصة.

 لا يمكن أن يكون الله "برية" لأحدٍ وهو الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين". ولا يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي "يمطر على الأبرار والظالمين". كيف يمكن أن يكون أرض ظلامٍ وهو الذي عمل النهار، وأيضًا أعطانا الليل للراحة؟

كيف يكون برية وهو الذي يعطى الخصوبة للأرض؟

كيف يكون برية وهو الذي يعول كل نفسٍ، ويعطي للإنسان القدرة والحكمة والذكاء، ويعطيه أيضًا في جسده "الحواس المدربة" (عب 5: 14)؟

إذًا، من وجهة النظر العامة لا يمكن أن يكون الله برية لأحدٍ. أما من وجهة النظر الخاصة، فسوف أعود إلى موضوع إسرائيل وأقول: لم يكن الله لهم برية ولا أرض ظلامٍ عندما كانوا في مصر، فكان يصنع لهم العجائب ويعطيهم الآيات. لكن في كل مرة كانوا يتراخون فيها كانوا يجدون الله في نظرهم برية وأرض ظلام، مع أنه لا يمكن لله أن يكون كذلك.

مع ذلك، عندما لم يكن الله برية ولا أرض ظلام لإسرائيل، كان للأمم برية وأرض ظلام، ثم عندما تحول الله عن إسرائيل وأصبح بالنسبة لهم برية وأرض ظلام في نظرهم، كثرت النعمة للأمم، وأصبح يسوع المسيح بالنسبة لنا ليس برية وإنما شبعًا وامتلاءً؛ ليس أرض ظلامٍ وإنما أرض خصبة. لأن "بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1).

يوجه الله الوعيد لهؤلاء الذين لم يكن لهم أبدًا في يوم من الأيام برية أو أرض ظلام، فيقول لهم: لم أكن لكم برية ولا أرض ظلام، ولكن أنتم الذين قلتم "قد شردنا (سوف لا يكون لنا إله) لا نجيء إليك بعد" [31]. هل كان ذلك يأسًا من شعب إسرائيل عندما قالوا: "لا نجيء إليك بعد، سوف لا يكون لنا إله[89]].

يرى العلامة أوريجينوس أنه يلزم التفرقة بين أعمال الله الصالحة العامة وأعماله الصالحة الخاصة. فهناك خيرات يعطيها الله لكل الناس وإلى الأبد مثل شروق الشمس وسقوط الأمطار والأرض الخصبة. ومن وجهة النظر هذه لا نستطيع أن نقول أن الله يمكن أن يكون "برية". أما بالنسبة للخير الخاص الذي خص به شعب إسرائيل ثم سحبه منه، في هذه الحالة أصبح من وجهة نظرهم برية. لكنه لم يكن كذلك أبدًا لأن ما أخذه من إسرائيل أعطاه للمسيحيين[90].

هذه هي أبشع صورة لثمر الخطية أن الله مصدر الحياة والنور يتحول بالنسبة للشرير إلى برية قاحلة وأرض ظلامٍ دامسٍ، يهرب من الله كما من مصدر هلاكه! يصير الله بالنسبة له ثقلاً يريد الخلاص منه، كما يتخيله بعض الوجوديين المعاصرين الآن، يحسبونه كابوسًا لابد للإنسان أن يتحرر منه! وقد جاءت العبارة "قد شردنا" في بعض الترجمات "قد صرنا أحرارًا من الله" أو "قد صرنا سادة".

يدهش الله كيف يريد شعبه أن يتحرر منه مع أنه هو سّر حياتهم واستنارتهم وشبعهم وزينتهم، لهذا يعاتبهم قائلاً: إن كانت العذراء تعتز بزينتها [التي هي عفتها فلا تحلها خلال الخداعات واللهو] (كما يقول الأب ميثوديوس[91])، والعروس لا تنسى ثياب عرسها، فكيف نسيني شعبي أيامًا بلا عدد [32]؟! يقدم لهم العذراء والعروس مثالين، لأنه يتطلع إلى شعبه كعذراء عفيفة مُقدمة له يليق بها ألا تفقد عفتها وبتوليتها بخداعات العدو ولهو العالم، وكعروسٍ مقدسة له تجد في الله عريسها سّر بهائها ومجدها المُعلن في ثياب عرسها!

يقول: "لماذا ٌتحسنين (تهندم نفسها) طريقك لتطلبين المحبة، لذلك علَّمتِ الشريرات أيضًا طرقك؟" [33]. عوض قبولكِ لي كسّر زينتك السمائية مددتى يدك للزينة الخارجية، وعوض قبولكِ حبى الإلهي تطلبين محبة الأشرار، وتُعلمين بناتكِ الشر!

"أيضًا في أذيالك وُجد دم نفوس المساكين الأذكياء، لا بالنقبِ وجدته بل على كل هذه" [34]. فيما أنتِ تزينين نفسك بالزينة الخارجية لتطلبي محبين يصنعون الشر معكِ، إذا بالجريمة ملتصقة بأذيال ثيابكِ. ولما كانت الثياب رمزًا للجسد، فكأنه يقول إن علامات الجريمة قد التصقت بكل جسدك حتى أذياله. تدنس كل عضو فيه، وتلطخ بدم الفقراء الأبرياء الذين تظلمينهم. هذا الأمر لا يحتاج إلى بحث وتنقيب فهو مُعلن على أذيال ثيابك ومرتبط بجسدك، وواضح في حياة الجميع. (يفسر البعض عبارة "بل على كل هذه" بمعنى أن تلطيخ الدم قد بلغ إلى كل هؤلاء الرؤساء).

ثانيًا: تبرير ذاتها:

لا تقف آثار الخطية عند الهروب من الله كما من البرية وأرض ظلامٍ دامس لترتبط بالشر والخطية في زينة خارجية، وإنما فيما هي ملطخة بدم الشر تبرر ذاتها، ولا تدرك خطأها. "وتقولين لأني تبرأت ارتد غضبه عني حقًا، هأنذا أحاكمكِ لأنكِ قلتِ لم أخطئ" [35]. هذا هو أبشع ما يصل إليه الإنسان، يشرب الإثم كالماء ولا يدري، يرتكب الشر ولا يراه شرًا! بهذا يغلق الإنسان على نفسه داخل الخطية فلا تجد التوبة لها موضعًا فيه.

ثالثًا: يحطم مكاسبها الشريرة:

إذ يرتمي الإنسان على الشر يظن أنه ينال شيئًا لم ينله في طريق البر. فمن محبة الله لنا أنه يسمح بتحطيم ما نلناه لندرك أن الشر غير قادر على تقديم شيء. هكذا إذ إتكأ شعبه تارة على ملك بابل وأخرى على فرعون مصر، جعله يخزي في بابل كما في مصر ليتكئ على صدر الله الأبدي القادر أن يهب راحة.

"لماذا تركضين لتبدلي طريقك؟!

من مصر أيضًا تخزين كما خزيت من أشور؛

من هنا أيضًا تخرجين ويداكِ على رأسك،

لأن الرب قد رفض ثقاتك فلا تنجحين فيها" [36-37].

لقد أبدلت ثقتها فأحلت مصر عوض أشور لكي تحميها، لكنها كمن هيفي مأتم قد مات من يعولها، فتضع يديها على رأسها لتندب من اتكلت عليه، لقد تحطمت كل خطتها البشرية. كما يشير وضع اليدين على الرأس إلى السبي، حيث غالبًا ما يُقاد المسبيون إلى أرض السبي بهذه الصورة.

ملخص الدعوى:

يمكن تلخيص الدعوى الموجهة ضد شعبه في الآتي:

1. صاروا كالأصنام التي يتعبدون لها، أي "صاروا باطلاً" [5].

2. جاحدون، ينكرون أعمال الله محررهم ومخلصهم [6-7].

3. نجسوا ميراث الرب وأرضه [8].

4. فاقوا الأمم في الشر، إذ أبدلوه بآلهة باطلة [10-11].

5. تشهد الطبيعة ضدهم [12].

6. تركوا الينبوع الحيّ وشربوا من ينابيع فرعون مصر وبابل [13-19].

7. صاروا كحيوان جامح [20].

8. صاروا كزانية وقحة [2].

9. صاروا كرمة غير مثمرة [20].

10. بررت مملكة يهوذا نفسها عوض الاعتراف بالخطأ [22].

11. صاروا كناقة بلا قيادة، خفيفة في تحركاتها [23].

12. صاروا كأنثى الحمار البرى أفقدتها شهوتها اتزانها [24].

13. صارت كالسارق الذي ضُبط [26].

14. فقدت المنطق فجعلت من الأنثى أبًا ومن الذكر أمًا [27].

15. نسيت نفسها كعروسٍ مزينة [32].

16. معلمة للشر [33].

17. سافكة دماء المساكين [34].

18. أخيرًا صارت مسبية، تضع يديها على رأسها [37].

 


 

من وحي إرميا 2

عجيب أنت حتى في دعوى الخصومة!

v     عتابك عذب وحلو،

تبدأه في أذنَى لأني أورشليمك!

تهمس في أذنَي حتى لا أنفضح!

تريدني مكرمًا أمام الجميع،

حتى أمام ملائكتك وكل السمائيين!

v     تبدأ عتابك بكلمات مشجعة عذبة،

تذكر لي أعمال محبة قديمة لكي تسندني،

تحسبني كصبية طلَبتك عريسًا لها!

تتجاهل أخطائي إلى حين لترفع نفسي!

عجيب أنت في حنوك وحكمة أبوتك!‍

v     أعترف لك إنني لم أكن مختون الأذن!

لم أسمع لهمساتك الصريحة المملوءة حبًا!

عاتبتني مرة ومرات،

وفي غباوتي لم أسمع لصوتك الحلو!

v     عجيب أنت يا مخلصي،

تكتب دعوى الخصومة ضدي،

تفضحني أمام نفسي الخائنة لأدرك أخطائي،

وفي هذا كله تترقب رجوعي،

تعفو عني، ولا تعاتبني بكلمةٍ جارحةٍ!

v     صارت نفسي كثورٍ جامحٍ ضد صاحبه،

صارت كزانية تصنع الشر علانية،

صارت كرمة تُنتج عنبًا لا نفع له!

v     أعترف لك: أني تركتك أيها الحق الأبدي،

التصقت بالشهوات الباطلة، فصرت باطلاً.

نجست جسدي الذي هو أرضك،

وأسأت إلى مواهبك لي!

v     بررت أخطائي فتضاعفت خطاياي!

صرت هائمًا بلا هدف،

تجاهلت بنوتي لك،

ونسيت زينتي كعروس مقدسة لك!

v     عجيب أنت في دعوى الخصومة،

تصير قاضيًا ومحاميًا عني!

ماذا أرد لك أيها العجيب في حبك؟!

<<


الأصحاح الثالث

الله يطلب عروسه

في الأصحاح السابق كشف لنا الله عن سر الخصومة، الأمر الذي يكرره كثيرًا، ليس فقط فيسفر إرميا بل في كثير من الأسفار المقدسة. فإن الله إن أدَّب يود أن يوضح سبب التأديب، حتى يحقق هدفه. فهو لا يؤدب ليظهر سلطانه كما يفعل الإنسان عندما يستحوز على سلطة، ولا لكي ينتقم، وإنما لكي يحاور ويحاجج حتى يرجع الإنسان إليه.

في الأصحاح الثالث يعلن بوضوح رغبته في رجوع عروسه التي تنجست مع كثيرين، وأفسدت الأرض، وقد سبق فطلقها، لكنه يضع خطة إلهية ليفتح أمامها باب التوبة، ويردها الله مكرّمة وممجدة.

1. العريس يطلب مطلقته الزانية [1-5].

2. خطة إلهية لعودتها [6-11].

3. طريق التوبة [12-14].

4. بركات الرجوع إلى الله [15-25].

1. العريس يطلب مطلقته الزانية:

كشف الله عن حبه اللانهائي نحو شعبه، ونحو كل مؤمن؛ قائلاً: "إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر، فهل يرجع إليها بعد؟! ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة؟!".

أما أنتِ فقد زنيتِ بأصحاب كثيرين،

لكن ارجعي إليّ يقول الرب" [1].

يقول العلامة أوريجينوس:

[هذا نوع جديد من الصلاح، فإن الله يقبل النفس حتى بعد الزنا إن رجعت وتابت من القلب...

هنا يظهر الله كغيورٍ، يطلب نفسك ويشتهي أن تلتصق به، إنه غير راضٍ. إنه يغضب مظهرًا نوعًا من الغيرة عليك، لتعرف أنه يترجى خلاصك![92]].

يصعب أن يتخيل إنسان أنه يرد إليه مطلقته التي تركها بسبب زناها، هذه التي لم تخطئ عن ضعف مع شخصٍ ما أغواها، بل تهوى الخطأ مع أصحاب كثيرين... تخطئ بغير حياءٍ، لها "جبهة امرأة زانية"... تخطئ بقدرة وجبروت. ومع هذا كله يشتاق رجلها أن تتوب وترجع إليه!

بدأ الله حديثه مع شعبه مشيرًا إلى أحد قوانين الطلاق (تث 24: 1-4)، التي قدمها لشعبه لأجل ضعفهم. فإنه لم يسمح للرجل أن يقبل زوجته مرة أخرى إن كانت قد طُلقت وصارت لآخر.

يكشف هنا عن قانون الحياة الزوجية، موضحًا أن الزواج هو اتحاد سري لا ينحل، أما إذا دخل طرف ثالث بينهما (إنسان زانٍ) فينحل الرباط ولا يعود مرة أخرى. لا يطيق رجل ما أن يتزوج مطلقته الزانية، إذ تتنجس الأرض، أي يصير جسده (الأرض) نجسًا! أما الله فليس كزوج بشري يطرد زوجته الخائنة، وإنما في حبه اللآنهائي يرى النفس قد أبطلت اتحادها معه باتحادها مع أعدائه: إبليس وجنوده وأعماله الشريرة، فتحسبهم أصحابها... ومع هذا يدعوها: "ارجعي إليّ!"

يقول الأب ميثوديوس: [يتحدث عن هذه التي تعرض نفسها للفحشاء مع قوات جاءت لكي تفسدها، لأن أصحابها هم إبليس وملائكته، الذين يخططون لتدنيس وإفساد جمال عقلنا المتزن والبصيرة السليمة، وذلك من خلال الحوار معهم، والرغبة في معاشرة كل نفس مخطوبة للرب[93]].

عجيب هو حب الله للإنسان، فمع معرفته بكل شر الإنسان وفساده، يفتح له باب الرجاء للعودة، قائلاً له: "هل يحقد إلى الدهر؟! أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟!" [5]. إنه يبقى يطلب رجوع النفس إليه... لا لأنه يود أن يراها حزينة متألمة نادمة على ما ارتكبته من آثام، وإنما لأنه يطلبها عروسه المقدسة التي تجد لها موضعًا في أحضانه، أو ابنة تجد أبوها يركض إليها ويرتمي على عنقها ويقَّبلها (لو 15).

ما أعجب حب الله! إنه يعرفنا تمامًا في شرنا فيصفنا هكذا:

أولاً: كمطلقة تزوجت رجلاً آخر [1]: بحسب الشريعة الموسوية لا يجوز للرجل أن يرد مطلقته التي تزوجت بعد طلاقها، حتى إن طلقها الرجل الثاني أو مات (تث 24: 1-4).

ثانيًا: لها أصحاب زناة كثيرون [1]. شتان بين فتاة تتعرض لإغراء شاب فتسقط، وبين عروس متزوجة ترتمي في أحضان هذا وذاك بلا شبع... شرهة في الخطية وطلب الملذات!

ثالثًا: لم يبحث عنها الأشرار ليطلبوها، بل تجرى في كل الطرقات تطلب الشر، ليس من طريق تعبر فيه إلا وترتكب فيه الخطية. "ارفعي عينيك إلى الهضاب وانظري، أين لم تضطجعي؟! في الطرقات جلستِ لهم كأعرابي فيالبرية ونجستِ الأرض بزناكِ وشركِ" [2].

رابعًا: تشهد الطبيعة لشرها، فبسببها "امتنع الغيث ولم يكن مطر متأخر" [3]. المطر المبكر في شهري أكتوبر ونوفمبر حيث يساعد على الفلاحة عند وضع البذار، أما المتأخر ففي شهري مارس وإبريل حيث يساعد النباتات على نضوج المحصول.

عندما يصر الإنسان على الخطأ، معاندًا وصية إلهه، تعانده الطبيعة التي خُلقت لأجله، لتشهد أنه قد فسد وانحرف عن تحقيق رسالته، فلماذا تسنده وتخدمه؟!

خامسًا: لها جبهة زانية [3]، أي وجه نحاس لا يعرف الخجل أو الحياء. قديمًا كانت النساء الفاسدات يضعن علامة على جباههن لكي يتعرف عليهن من يطلب الشر.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[94] أن ارتكاب أية خطية بدون حياء يجعل من الإنسان زانية لها جبهة زانية. وفي موضع آخر يقول: [يبدو أن استخدام هذا التعبير لا يناسب تلك المدينة فحسب، بل كل الذين يتطلعون ضد الحق بلا خجل[95]].

سادسًا: يرى البعض في العبارة: "ألستِ من الآن تدعينني يا أبي؟! أليف صباي أنت! هل يحقد إلى الدهر؟ أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟ ها قد تكلمتِ وعملتِ واستطعتِ" [4-5]. قد اتكلت إسرائيل على أنها ابنة لله تمتد علاقتها معه منذ صباها حين كانت في مصر تحت العبودية... وكأنها استغلت أبوة الله وحنانه فتكلمت كابنة لكنها عملت كعاصية وتممت العصيان بقدرةٍ وعنفٍ. ظنت أن الله كالأب الأرضي يتغاضى عن الأخطاء، حتمًا يتجاهل معاصيها. لم تدرك أنه أب حقيقي أكثر حنانًا وترفقًا من الأب الأرضي، لكنه لا يغير أحكامه حتى يغيروا سلوكهم، ويقدموا توبة ويطلبوا الرجوع إليه، إذ يعاتبهم: "وقلت تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين" [19].

يرى البعض في هذه العبارة كلمات عتاب تصدر من الله كأبٍ يبعث فيهم الرجاء بالتوبة بالرغم مما بلغوه من انحطاط وفساد.

سابعًا: لم تقف عند حد الزنا والخيانة الزوجية لكنها مخادعة، لها شفتا الغش، تنطق بغير ما تعمل (3-5)، وهي مكروهة لدى الناس فكم لدى الله؟! الله لا يقبل صلوات الشفاه الغاشة، بل يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8).

إذ قدم لنا الله هذه الصورة أكد لنا أمرين:

أ. بشاعة الخطية بكونها خيانة زوجية!

ب. لا تقوم المصالحة على كلمات اعتذار من جانبنا إنما على نعمة الله الغنية التي تتعدى الناموس، بعد خيانتنا له.

هذا ويُلاحظ أنه كثيرًا ما تكررت كلمة "رجع shuv" في هذا السفر. فإن التوبة في حقيقتها ليست اعترافًا بالخطأ فحسب ولا هي امتناع عنه فحسب، إنما هي رجوع إلى الله واتحاد معه!

2. خطة إلهية لعودتها:

يكشف الله ليهوذا عن خطته لخلاصها معلنًا أن مملكة إسرائيل (10 أسباط) سبق ففسدت وقد حذرها مرة ومرات وأخيرًا سمح لها بالسبي لكي تتوب وتكون درسًا عمليًا ليهوذا. لكن مملكة يهوذا (سبطان: يهوذا وبنيامين) عوض أن تتعظ فقد تركها قرنًا كاملاً بعد سبي إسرائيل لكي تتوب، إذا بها هي أيضًا تخونه على منوال أختها... ربما لأنها اتكلت على أن الله لن يسمح بسبي مدينته أورشليم وخراب هيكله فيها. لكن سرعان ما يفتح الله باب الرجاء لا أمام يهوذا وحدها بل أمام المملكتين معًا، بل وأمام كل الأمم بكونه مخلص العالم كله.

أحد أسباب التأديب هو أن يصير المُؤدَب مثلاً حيًا أمام الخطاة:

"وقال الرب لي في أيام يوشيا الملك:

هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟...

انطلقت إلى كل جبل عالٍ وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك،

فقلت بعدما فعلت كل هذه: ارجعي إليّ؛ فلم ترجع.

فرأت أختها الخائنة يهوذا.

فرأيت أنه لأجل كل الأسباب إذ زنت العاصية إسرائيل فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها لم تخف الخائنة يهوذا أختها بل مضت وزنت هي أيضًا.

وكان من هوان زناها أنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر.

وفي كل هذا أيضًا لم ترجع إليّ أختها الزانية يهوذا بكل قلبها، بل بالكذب يقول الرب.

فقال الرب لي: قد بررت نفسها العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا" [6-11].

ويلاحظ في النص الآتي:

أ. يقول العلامة أوريجينوس: [يريدنا النبي هنا أن نعرف أن الشعب - كما جاء في سفر الملوك - قد قُسِّم في أيام رحبعام إلى مملكة مكونة من عشر أسباط تحت حكم يربعام، ومملكة أخرى مكونة من سبطين تحت حكم رحبعام (1 مل 12). مجموعة يربعام ُدعيت إسرائيل، وسبطا رحبعام دُعيا يهوذا. واستمر هذا الانقسام إلى أيام النبي... إسرائيل التي ليربعام وخلفائه أخطأت أولاً، أخطأت كثيرًا إذا قورنت بيهوذا، حتى سمح الله لها أن ُتساق إلى السبي بواسطة الأشوريين، واستمر حتى الآن (وقت النبي) كما يقول الكتاب. بعد ذلك أخطأ أيضًا بنو يهوذا، وتم سبيهم إلى بابل. بعد كل تلك الخطايا التي ارتكبتها إسرائيل، وقد علمت يهوذا بها، ورأت كيف أرسلتها إلى السبي، لم تستفد من هذا الدرس، بل على العكس أكثرت من خطاياها، حتى متى قورنت بخطايا إسرائيل نجد برًا في إسرائيل أكثر من يهوذا.

كان على يهوذا أن تستخلص من ذلك درسًا - لأني طلقت إسرائيل وطردتها عند الأشوريين وأعطيتها كتاب طلاقها في يديها - ومع ذلك "لم تخفْ الخائنة يهوذا أختها"، ولم تكتفِ برفض هذا الدرس، بل أضافت إلى خطاياها آثامًا أكثر، حتى بدت أن خطايا شعب إسرائيل بالمقارنة بخطايا شعب يهوذا كأنها بر وصلاح[96]].

لقد تمردت إسرائيل العاصية على الرب علانية منذ نُصب عجلا يربعام الذهبيين حتى لا يشتاق الشعب إلى هيكل الرب في أورشليم، كما أقام كهنة من غير سبط لاوي (1 مل 12: 28، 31)، وصنع عيدًا في بيت إيل. لم نجد من ملوكهم من طلب الرب إلا مرة واحدة عندما اشتد الضيق بسبب الغزو الأرامى (2 مل 13: 4-5)، وبالفعل خلصهم الرب، "لكنهم لم يحيدوا عن خطايا بيت يربعام الذي جعل إسرائيل يخطىء، بل ساروا بها ووقفت السارية أيضًا في السامرة"...

أمام هذا العناد العلني والمستمر عبر الأجيال سلمهم الرب للسبي الأشوري، فتركوا أرضهم كما تترك المرأة المطلقة بيتها الزوجي.

أما خطية يهوذا الخائنة، فهي مع وجود بعض ملوك صالحين على خلاف إسرائيل، انشغلت مملكة يهوذا بالعبادة الظاهرية مع خيانة خفية، حيث كانت القلوب منصرفة إلى نجاسة الأمم.

عُرفت إسرائيل بالعصيان العلني ومقاومة عبادة الله، أما يهوذا فُعرفت بالخداع والكذب. وكما يقول العلامة أوريجينوس على لسان الرب: [لم تهَبني (يهوذا) بعد كل ما فعلته بإسرائيل، ولم ترجع إليّ رجوعًا كاملاً، بل بالعكس رجعت إليّ بالكذب[97]].

ب. يرى العلامة أوريجينوس أن ما حدث قديمًا مع مملكتي إسرائيل ويهوذا، بأن عصت الأولى وزنت الثانية، يمثل رمزًا لما حدث أيضًا مع اليهود في أيام السيد المسيح إذ عصوا المخلص ورفضوه، وما يحدث مع بعض رجال العهد الجديد حيث يتمسك بعض المسيحيين بالاسم دون الحياة الإيمانية الفعلية الروحية. وكأن ما ورد هنا هو توبيخ للمسيحيين الاسميين.

[دعونا نرى ما هو القصد من وراء ما ورد هنا.

بدأت دعوة الأمم عند سقوط إسرائيل، فبعدما كرز الرسل لجماعة اليهود، قالوا لهم: "كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46).

ويقول أيضًا الرسول العارف بهذا الموضوع: "بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم" (رو 11: 11).

إذن أخطاء هذا الشعب الكثيرة أدت إلى استبعادهم، كما أدت أيضًا إلى دخولنا إلى "رجاء الخلاص"، نحن الذين كنا "غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا" (راجع أف 2: 12).

كيف إذًا حدث هذا الأمر؟ كيف بعدما وُلدت في أي موضع في العالم، وكنت غريبًا عن أرض الموعد، أقف اليوم لأتحدث عن وعود الله، وأؤمن بإله الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب؟ بل وأكثر من هذا اقبل في داخلي يسوع المسيح الذي سبق أن تنبأ عنه الأنبياء؟

لنلاحظ هنا أن شعب إسرائيل هو هذا الذي كُتب عنه: "فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها". لقد طلق الله إسرائيل وأعطاها كتاب طلاقها. هذا يحدث بالنسبة للمتزوجين، متى صارت الزوجة مكروهة عند رجلها كما هو مكتوب في شريعة موسى، فإن الزوج يكتب لها كتاب طلاق فتُطلق، ويكون من حق الزوج الذي طلق امرأته الأولى بسبب سوء سلوكها أن يتزوج بأخرى.

هكذا بنفس الطريقة بعدما أخذ شعب إسرائيل كتاب طلاقه تم إهماله تمامًا. أين هم أنبياؤهم؟ أين معجزاتهم بعد؟ أين هو ظهور الله لهم؟ أين العبادة والهيكل والذبائح؟ لقد طُردوا من موضعهم.

إذن، أعطى الله إسرائيل كتاب طلاق، ثم نحن، (مملكة) يهوذا، لأن المخلص جاء من سبط يهوذا، قد رجعنا إلى الرب، لكن يبدو أنه في أيامنا الأخيرة سنشابه أيام يهوذا الأخيرة، إن لم نصر فيحال أسوأ منها.

يبدو أن هذا هو وقت نهاية العالم فعلاً.

هذا يظهر بوضوح من كلمات السيد المسيح في إنجيله: "ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 12-13). وأيضًا: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا" (مت 14: 24). هذا هو وقتنا الحاضر الذي يقصده المخلص بمجيئه الثاني، حيث اننا إذا بحثنا في العديد من الكنائس سوف لا نجد مؤمنًا واحدًا حقيقيًا. "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض" (لو 18: 8). بالفعل إن حكمنا على الأوضاع حسب الحق لا العدد، ولو نظرنا إلى الأعماق الداخلية بدلاً من النظر إلى أعداد الناس المجتمعة ندرك أننا لم نعد بعد مؤمنين أمناء. قبلاً وُجد مؤمنون حقيقيون، وذلك فيعصر الشهداء المزدهر. فعند عودة مواكب أجساد الشهداء إلى القبور كانت الكنيسة كلها تجتمع بغير خوف، وكان الداخلون إلى الإيمان حديثًا يتعلمون مبادىء المسيحية وهم يرون حولهم أجساد الشهداء، كما أن مؤمنين كثيرين كانوا يعترفون بإيمانهم حتى الموت بغير خوف، دون أن يتزعزعوا عن إيمانهم بالله الحيّ. إذن، نحن نعرف أناسًا رأوا أشياءً عجيبة فائقة.

وُجد مؤمنون قليلون لكنهم كانوا مؤمنين حقيقيين، اتبعوا الطريق الضيق الكرب المؤدي إلى الحياة. أما الآن فقد صرنا كثيرين من جهة العدد، لكن من غير الممكن أن يُوجد كثيرون منتخبون، لأن يسوع لا يكذب حين قال: "كثيرون يُدعون وقليلون يُنتخبون".

فمن بين الجموع التي اتخذت الدين عملاً لهم بالكاد يوجد قليلون يصلحون للانتخاب الإلهي والتطويب.

عندما يقول الله: "لقد طلقت أولاً إسرائيل بسبب خطاياها، وأبعدتها عني، ويهوذا لم ترجع إليّ بالرغم من معرفتها بما حدث لإسرائيل، فإنه يتحدث أيضًا عن خطايانا.

عند قراءتنا عن المصائب والأهوال التي حلت بشعب إسرائيل يلزمنا أن نرتعد، ونقول: "إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليكِ أيضًا" (رو 11: 21). إذا كان الذين يفتخرون بأنهم زيتونة حقيقية (رو 11: 24)، والذين هم متأصلون فيجذور إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد قطعهم الله بلا شفقة، بالرغم من صلاحه وحبه للبشر، فكم بالحرى بالنسبة لنا؟

"هوذا لطف الله وصرامته" (رو 11: 22)، فهو ليس لطيفًا بدون صرامة، ولا صارمًا بدون لطف. لو كان الله لطيفًا فقط بدون صرامة لازددنا في احتقارنا للطفه وعدم مبالاتنا تجاهه. ولو كان صارمًا بغير لطف لسقطنا في اليأس من جهة خطايانا. لكنه في الواقع بما أنه هو الله، فهو لطيف وصارم في آن واحد، أما نحن البشر فعلينا أن نختار: إما لطفه إذا رجعنا إليه، أو صرامته إن بقينا في خطايانا.

يحدثنا الله على لسان الأنبياء، قائلاً لنا: هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟ يُفهم إسرائيل هنا الشعب اليهودي. "انطلقت إلى كل جبلٍ عالٍ وإلى كل شجرة خضراء" [6]. إذا نظرت إلى الفريسى الذي صعد إلى الهيكل في غرور دون أن يقرع صدره، أو ينشغل بخطاياه، بل يقول: "اللهم إني أشكرك إني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (راجع لو 18: 11-12)، فإنك تفهم أنه صعد إلى كل جبلٍ عالٍ، بمشاعره التي تستحق اللوم، وحبه للتفاخر والتباهي؛ كذلك صعد بالغرور والكبرياء إلى كل أكمة مرتفعة، وجاء تحت كل شجرة، ليست شجرة مثمرة، إنما شجرة بها خشب فقط، إذ يوجد فارق بين الشجر للخشب والشجر المثمر. عندما نزرع أشجارًا للخشب فقط نزرع بذورًا غير مثمرة بل عقيمة، ترمز إلى مجادلات الهراطقة وحججهم ذات البريق الغاش المخادع غير الصالح لإقناع السامعين. فإذا تركنا أنفسنا وراء هذه المجادلات، إنما نذهب تحت كل شجرة للأخشاب.

"وزنت هناك.

فقلت بعدما فعلت كل هذه:

ارجعي إليّ، فلم ترجع.

فرأت أختها الخائنة يهوذا (خيانة إسرائيل)".

هذا العتاب موجه إلينا نحن أيضًا، إذ نخطىء، ولا نفي بعهودنا مع الله. نحن الذين نرى ما حدث للذين فقدوا عهودهم مع الله مع كونهم من نسل إبراهيم، مع أنهم أخذوا الوعد.

يجب علينا إذًا أن نتمسك بهذه الفكرة. بما أن هؤلاء قُطعوا من البركات ومن الوعود الإلهية، ولم ينفعهم كونهم من نسل إبراهيم، ماذا يكون حالنا إذا أخطأنا نحن؟! فإن  الله يتركنا. يقول لهم المخلص: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم". كما يقول لهم القديس يوحنا: "لا تبتدئوا تقولون فيأنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم". يقصدنا نحن "هذه الحجارة أي قلوبنا الحجرية وقساوتنا نحو الحق. بالحقيقة أقام الله بقدرته من الحجارة أولادًا لإبراهيم.

إذا جاء عبد جديد ليخدم صاحب المنزل، أُشترى حديثًا يبدأ يتساءل ويستفسر: مَنْ ِمنَ الخدم السابقين كان صالحًا في عيني سيده؟ ولماذا؟ ومن منهم كان شريرًا في عينيه؟ ولماذا؟ وبعد تفكير إذ يستمر في خدمة رب البيت يجتنب السلوك الذي أدى إلى طرد العبيد الأشرار وعقابهم، بينما إذ يعلم السلوك الطيب الذي اتبعه العبيد السابقين الذين صاروا مطوبين من سيدهم، تأخذه الغيرة ليحذو حذوهم.

نحن أيضًا كنا عبيدًا، لا لله، بل للأوثان والشياطين. كنا وثنيين، ورجعنا إلى الله بالأمس أو أول أمس. إذن فلنقرأ الكتاب المقدس، ولننظر من فيه قد تبرر، ومن فيه قد دين، لكي نقتدى بالذين تبرروا، ونتحاشى السقوط في أخطاء الذين سُلموا إلى السبي وطردوا بعيدًا عن الله.

التوبة الحقيقية هي أن نقرأ الكتب القديمة (العهد القديم) ونعرف الأبرار ونقتدي بهم، ومن هم الخطاة ونتجنب السقوط في أخطائهم. لنقرأ كتب العهد الجديد وكلمات الرسل. وبعد القراءة نكتب كل ما قرأناه في قلوبنا، ونطبقه في حياتنا حتى لا يُعطى لنا كتاب طلاق، بل نستطيع أن ننال الميراث الأبدي، وعندما تخلص الأمم فإن إسرائيل (بقبولها الإيمان) حينئذ تستطيع أن تخلص، لأن "القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26)، "ويكونوا رعية واحدة لراعٍ واحدٍ"[98]].

ج. يقول: "إنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر" [9].

حين ُخلق الإنسان على صورة الله ومثاله رأى الله كل الخليقة فإذا الكل "حسن جدًا" (تك 1: 31). الإنسان كملك مُقام على الخليقة الأرضية كما في القصر الملكي صاحب سلطان، نقي وطاهر في عيني الله. أما وقد فسد قلبه فتحطمت طبيعته كلها، تنجست حتى الأرض التي خُلقت لأجله.

من أجل الإنسان وُجدت الحجارة أيضًا وكل الأشجار... أما وقد أقام من الحجارة تماثيل يتعبد لها، ومن الأشجار هياكل لمذابح الوثن حُسب بهذا كمن يزني مع الحجارة والأشجار، ففسدت بسببه. الله لم يخلق الطبيعة لكي نتحد بها ونتعبد لها، وإنما لكي نستخدمها فتشترك معنا في التسبيح لله!

أتحب الطبيعة الجامدة؟ استخدمها ولا تجعلها تستخدمك. استعبدها ولا تُستعبد لها. إن استخدمتها تبارك الرب معك، وإن استخدمتك تفسد أنت وهي معًا، وتصير نجسة معك في عيني الله!

د. واضح أن سفر إرميا كله هو دعوة للتوبة والرجوع إلى الله، فنراه هنا يكرر هذه الكلمة "ارجعي" [7]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لا يحزن على خطايانا قدر ما يحزن على عدم رغبتنا في الرجوع عنها بالالتجاء إليه. إنه أب ينتظر أولاده، وعريس سماوي يطلب عروسه.

[الشرور التي ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا في التغيير؛ لأن من يخطىء يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في نفس الخطية فإنه يبطل إنسانيته ليصير

شيطانًا. أنظر كيف يلوم الله على فم نبيه العمل الثاني أكثر من الأول[99]].

[ليته لا ييأس أي إنسان يحيا في الشر!

ليته لا يغفو أي إنسان يحيا في الفضيلة!

ليته لا يثق الأخير في ذاته، فغالبًا ما يسبقه الزناة.

ولا ييأس الأول، فإنه يستطيع أن يسبق الأخير...

إن رجعنا إلى محبة الله الغيورة لا نعود نذكر الأمور السالفة.

الله ليس كالإنسان، فإنه عندما نتوب لا يلومنا على الماضي، ولا يقول: لماذا كنتم غائبين كل هذا الزمان الطويل؟

ليتنا نقترب إليه كما يليق.

لنلتصق به في غيرة.

لنسمر قلوبنا بخوفه! [100]]

[لقد جاء كطبيب وليس كديان[101]].

هـ. "لم ترجع... بكل قلبها بل بالكذب يقول الرب" [10].

كثيرون يظنون أنهم يرجعون إلى الرب لا بالتوبة والاعتراف بل بتبرير اخطائهم. لهذا يعلق القديس جيروم على العبارة السابقة، قائلاً: [ليتنا لا نفقد بالسلام الفارغ ما قد حفظناه بالجهاد (الحرب الروحية)[102]].

3. طريق التوبة:

كثيرًا ما يكرر الرب على لسان إرميا النبي الكلمتين: "ارجعي... اعرفي..." [12-13].

"لكن ارجعي إليّ يقول الرب" [1].

"فقلت بعدما كل هذه ارجعي إليّ؛ فلم ترجع" [7].

"اذهب ونادِ بهذه الكلمات نحو الشمال وقل: ارجعي أيتها العاصية إسرائيل يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنكِ إلى الرب إلهك أذنبتِ وفرقتِ طرقكِ للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب. ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب" [12-14].

"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]

تحدد العبارات الإلهية السابقة مفهوم التوبة في الخطوات التالية:

أ. التوبة هي قبول دعوة الله للنفس بالرجوع إلى محبوبها. فإن الله في حبه للنفس لا يتوقف عن النداء" ارجعي إليّ". في أحلك لحظات الخطية، وفي وسط قساوة قلوبنا يتطلع الله إلينا ينتظر صرخة قلب خفية، أو نظرة عين نحوه، أو تنهدًا داخليًا، ليحملنا على الاذرع الأبدية. إنه يشتاق إلى رجوعنا وخلاصنا ومجدنا أكثر من اشتياقنا نحن إلى خلاص أنفسنا. لكنه في محبته لا يريد أن يغتصب النفس بغير إرادتها، فأنه يقدس حرية إرادتها ويكرم إنسانيتنا!

ب. اكتشاف شخص الله: "لأني رؤوف يقول الرب، لا أحقد إلى الأبد". كثيرًا ما يشوه العالم صورة الله بإظهاره ديانًا قاسيًا، لا يترفق بضعفنا... يعيش في سمواته ولا يشعر بنا نحن في أرضنا. إنه رؤوف، يعين المجربين، ويسند طالبي الرجوع التائبين!

يؤكد الله اخلاصه وحبه، فقد تخونه عروسه، لكنه يبقى الإله الرءوف المخلص لها. يغضب لتأديبها، لكن ليست هذه هي كلمته الأخيرة، فإنه كما يقول: "لا أحقد إلى الأبد".

ج. اكتشاف حقيقة ضعفنا: "اعرفي فقط إثمك". لتحكم النفس على ذاتها، وتعترف بإثمها، فتجد مخلصها الرؤوف يبررها. لا طريق للخلاص دون اعتراف الإنسان بخطاياه، لأنه كيف يلتقي المريض بالطبيب ويتجاوب مع مشورته ما لم يشعر بمرضه! مسيحنا هو مخلص الخطاة، نكتشف خطايانا فنشعر بحاجتنا إليه!

إننا نحتاج إلى جلسات هادئة مع الله لكي يكشف روحه القدوس لنفوسنا ضعفاتها دون أن يفقدها رجاءها. يقول القديس يوحنا كاسيان: [بمقدار ما يتقدم عقل الإنسان ويمتد نحو الصفاء والنقاوة في التأمل يظهر له دنسه وعدم نقاوته.

عندما يرى ذاته في مواجهة مرآة الطهارة الحقة!

لأنه كلما ترتفع النفس إلى تاوريا (تأمل) أعلى، وتمتد إلى الأمام، تتوق إلى أمور أعلى من التي نفذتها، حينئذ تتأكد من حقارة الأشياء التي تؤديها وتفاهتها، لأن النظرة الحاذقة تكشف خبايا كثيرة. والحياة التي بلا لوم تنشئ حزنًا عميقًا على ما يفرط من

الخطايا[103]].

د. إدراك أن كل خطأ في الحقيقة موجه ضد الله: "إلى الرب إلهك أذنبت" [13]. وكما يقول داود النبي في مزمور التوبة: "لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت" (مز 51)، حتى وإن كانت الخطية في الفكر لم تؤذِ أحدًا. لأن كل خطية هي كسر لوصية الله الذي يريدنا أن نتشكل على صورته ونصير على مثاله: "ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب" [13].

هـ. ادراكنا لموقفنا أو مركزنا كبنين، فإنه ما أصعب أن ُيهان الشخص من ابنه؟! "ارجعوا أيها البنون العصاة" [14].

و. ثقتنا في المخلص كأبٍ قادر أن يشفي جراحاتنا، وينزع عنا طبيعة العصيان: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22].

من هم هؤلاء البنون العصاة الذين يطالبون بالرجوع إلى الله؟

يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله، لكن أحيانًا بعد تمتعهم بالبنوة - خلال المعمودية - يعصون الله أبيهم، ومع هذا يدعوهم إلى الرجوع إليه... أبواب التوبة مفتوحة أمام الجميع!

غلق أبواب التوبة أمام أي إنسان بدعة تقاومها الكنيسة، وقد كتب آباء كثيرون في هذا الموضوع، منهم القديس كبريانوس الذي كتب مقالين عن التوبة موضحًا أن الكنيسة مثل عريسها عملها أن تحل دون أن تغلق الباب في وجه أحد[104]. واستخدم القديس جيروم بعض عبارات من سفر إرميا (3: 29؛ 8: 4) في رسالته إلى مارسيلا ليوضح كيف تفتح الكنيسة أبوابها للتوبة كل يوم، بينما يغلق أتباع ماني باب الكنيسة أمام البعض لأخطاء معينة ارتكبوها[105].

يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]، قائلاً:

[في بدء قراءاتنا هذا اليوم، يقول الرب لبني إسرائيل: "تدعينني يا أبي، ومن ورائي لا ترجعين. حقًا إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب" [19-20]. بعدما قيل هذا الكلام الذي يخص إسرائيل يتوجه الروح القدس إلينا نحن أيضًا بني الأمم ويقول: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]. فإننا نحن المقصودون بالناس المملوئين عصيانًا (جراحات). يمكن لكل واحد منا أن يقول: "نحن الذين كنا قبلاً، نحن أيضًا كنا غير مؤمنين، أغبياءً، ضالين، عبيدًا للشهوات والأهواء المتنوعة، نحيا في الشر والشهوة، مُبغضين ومبغضين بعضنا بعضًا، ولكن حين أُظهر صلاح مخلصنا الله وحبه للبشر سكب رحمته علينا بنعمة الميلاد الجديد".

إذ ذكرت هذا القول للقديس بولس الرسول أحاول شرحه بأكثر وضوحٍ. فإنه لم يقل "نحن الذين كنا قبلاً أغبياء" بل قال القديس بولس ابن إسرائيل الذي كان من جهة الناموس بلا لوم: "نحن الذين كنا قبلاً نحن أيضًا"، أي "نحن أيضًا بنو إسرائيل" "كنا غير مؤمنين، أغبياء". لم يكن بنو الأمم وحدهم أغبياء، ولم يكونوا وحدهم غير مؤمنين، ولا وحدهم خطاة، وإنما نحن أيضًا الذين استلمنا الشريعة كنا كذلك قبل مجيء السيد المسيح.

بعد هذا الكلام الموجه إلى إسرائيل، قيل لنا نحن أبناء الأمم:

"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم".

لكن قد يقول قائل: "إن هذا الكلام موجه إلى إسرائيل وها أنت تطبقه على الأمم".

إنني أوضح أنه عندما يوجه الله إلى إسرائيل حديثًا يختص بالتوبة والرجوع، لا ينتظر كثيرًا ليضيف كلمة "إسرائيل"، وإنما يبدأ بها في الحال، فقد قيل بعد ذلك:

"إن رجعتِ يا إسرائيل يقول الرب،

إن رجعت إليّ،

وإن نزعت مكرهاتك من أمامي، فلا تتيه.

وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،

فتتبرك الشعوب به وبه يفتخرون" (4: 1-2).

إذًا الفقرة الأولى موجهة إلى أبناء الأمم والشعوب، ثم بعد ذلك إلى إسرائيل، لأنه القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل، حسبما قال الرسول في رسالته إلى أهل رومية (رو 11: 25-26).

أنظر كيف يدعونا الله، إن رجعنا فلنرجع بالكامل، حيث يعدنا أنه إذا رجعنا إليه بالتوبة يشفي جراحاتنا (عصياننا) بالمسيح يسوع. ونحن أيضًا بلا انتظار ولا تأخير نجيب مثل إسرائيل ونقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا" [22].

يقول الرب: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم"، ويجيب بنو الأمم: "سنكون عبيدًا لك أنت"، نحن الذين كنا قبلاً عبيدًا للشيطان ولقوات الشر...

الآن بعدما دعوتنا للتوبة نجيب: "ها قد أتينا إليك" [22]، لأننا لم نكن ننتظر إلا شيئًا واحدًا: دعوتك.

إننا على عكس الذين دعوتهم فقدموا لك أعذارًا، نحن إذ ُدعينا لم نعتذر.

هذا ما نجده فعلاً في أمثال الإنجيل، فإن الذين دُعوا أولاً كانوا يقولون واحدًا بعد الآخر: "إني اشتريت حقلاً، وأنا مضطر أن أخرج وأنظره؛ أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها، أسألك أن تعفينى. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء" (لو 14: 18-20).

ليس هذا هو أسلوبنا نحن أبناء الأمم، أن نُدعى فنعتذر.

لماذا نعتذر؟ ما هو هذا الحقل الذي يشغلنا؟ وأية زوجة تشغلنا؟ حقًا ماذا يمكن أن يشغلنا؟

إذن، إذ يقول الله لنا: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" ننظر إلى جراحاتنا، وإلى الوعد بالشفاء ونجيب حالاً، قائلين: "ها قد أتينا إليك، لأنك أنت الرب إلهنا". لنتذكر اننا بهذه الكلمات نقيم عهدًا مع الله، فلا نكون لآخر غيره،؛ لن نكون ملكًا لأفكار الغضب، ولا لأفكار الكآبة، ولا لأفكار الشهوة؛ لن نصير ملكًا للشيطان ولا لجنوده. بل بالعكس، دُعينا فأجبنا: "ها قد أتينا إليك".

لنُثبت بأفعالنا أننا ِملكٌ له وحده، ونضيف: "لأنك أنت الرب إلهنا". فإننا لا نعرف لأنفسنا إلهًا آخر. ليست البطن إلهًا لنا مثل الذين قيل عنهم: "الذين آلهتهم بطونهم"، ولا الفضة ولا الطمع.

يلزمنا ألا نقيم إلهًا، ولا نؤله شيئًا مما يؤلهه الناس، لكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو "إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" (أف 4: 6). وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، نقول: "ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا"[106]].

4. بركات الرجوع إلى الله:

إذ يدعونا الله يكشف عن بركات الرجوع إليه ممتزجة بخطورة البعد عنه.

يمكن تلخيص بركات الرجوع إليه في الآتي:

أولاً: يضمنا إلى كنيسته (صهيون الجديدة)"

"لأني سُدت عليكم فآخذكم واحدًا من المدينة، واثنين من العشيرة، وآتى بكم إلى صهيون" [14].

إن كانت الدعوة عامة موجهة إلى كل الشعب، لكنها أيضًا شخصية؛ في وسط رغبته في اقتناء كل الشعب يقبل واحدًا من وسط مدينة بأكملها أو اثنين من عشيرة. أنه لا يحتقر نفسًا واحدة راجعة إليه، ولو رفضته المدينة كلها. ففي وقت ما كان العالم كله وثنيًا ماعدا إبراهيم وسارة زوجته، ومع هذا دعاهما إليه ليقيم من نسلهما شعبًا مقدسًا وكنيسة طاهرة!

الله يطلب رجوعك إليه لكي يدخل بك إلى صهيون، كنيسته التي افتداها بدمه، يقيمك عضوًا في جسده المقدس، ويؤهلك لشركة الميراث الأبدي.

إن فسد العالم كله، فهو لا يزال ينتظرك باسمك ليدخل بك إلى مجده.

لا تقل مع إيليا النبي في يأس: "قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1 مل 19: 14)، فقد أبقى الله له سبعة آلاف كل الركب التي لم تجث للبعل وكل فم لم يقبله (1 مل 19: 18)... وإن كنت وحدك، فمن أجلك أنت مات المسيح ليخلصك.

ثانيًا: يُرسل فعلة مقدَّسين له، لهم معرفة روحية:

"وأعطيكم رعاة حسب قلبي، فيرعونكم بالمعرفة والفهم" [15].

حين يرجع الشعب إلى الله، يغير الله على كنيسته فيُرسل رعاة حسب قلبه، لهم معرفة روحية وفهمًا صادقًا، يقودون الشعب بروح الله إلى الحياة السماوية.

لا تدن الخدام، فإن توبتك تحرك السماء عينها ليرسل فعلة مقدسين لخدمة البشرية! عوض إدانة الآخرين ندين أنفسنا، ونحسب قساوة قلب الخدام هي بسببنا... علامة غضب الله علينا، يسمح لهم بالخدمة لتأديبنا!

لعله من أهم صفات الخادم النقي، الذي له روح سيده، هو تمتعه بالمعرفة والفهم! يقدم مرعى المعرفة للشعب، فلا يخدم بروح التسلط والعنف في جهالة وغباوة.

يحسب أباء مدرسة الإسكندرية "المعرفة" أعظم هبة يقدمها السيد المسيح لعروسه حين يرفعها بروحه القدوس إلى حجاله، حيث يكشف لها عن أسرار الكلمة، ويدخل بها إلى سر معرفته.

ثالثًا: الثمر المتكاثر:

"ويكون إذ تكثرون في الأرض في تلك الأيام يقول الرب..." [16].

كثيرون يظنون أن الرجوع إلى الله مضيعة للوقت وتحطيم للطاقات، ناظرين إلى الصلاة كأنها عمل باطل، والصوم حرمانًا، والتسابيح والعبادة الجماعية خسارة... ونسى هؤلاء في حياتهم عنصر "البركة". رجوعنا إلى الله يعني دخول "البركة" في وقتنا وكلماتنا وتصرفاتنا حتى الزمنية، فيصير كل ما في أيدينا مباركًا ومتزايد ثمرًا.

بسبب يوسف بارك الرب بيت فوطيفار، وبسبب إبراهيم بارك الله شعبًا عبر الأجيال حتى بعد موته! وبظل بطرس الرسول أُنقذ كثيرون من أرواح شريرة، وبمناديل وعصائب بولس الرسول شفى كثيرون!

برجوعك تتبارك، بل وتصير بركة لمن هو حولك، بل ومثمرًا حتى بعد رحيلك!

رابعًا: يرجع إلينا بنفسه:

"لا يقولون بعد تابوت عهد الرب، ولا يخطر على بالٍ ولا يذكرونه، ولا يتعهدونه، ولا يُصنع بعد" [16].

بمعنى آخر يصير القاء مع الله لا خلال الرموز كتابوت العهد، وإنما يتحقق لقاءٌ حقٌ... يسكن الله وسط شعبه، ويدرك المؤمن حضرة الرب في أعماقه.

كان تابوت العهد بما يحويه من لوحيّ الشريعة وقسط المن يشير إلى الحضرة الإلهية وسط شعبه، خاصة في فترة التِيه فيالبرية وبداية الاستقرار في أرض الموعد. الآن وقد جاء كلمة الله نفسه، الخبز النازل من السماء، لم تعد هناك حاجة إلى تأكيد الحضرة الإلهية... إنه يسكن وسط شعبه ويحل في قلوبهم[107].

خامسًا: رجوع الأمم إليه:

لم تعد هناك حاجة إلى تابوت العهد لتأكيد الحضرة الإلهية، إذ صارت أورشليم - مدينة الملك العظيم - جذابة للأمم. يأتي البشر من كل أمة ولسان ليروا أورشليم العليا أمنا، يعيشون فيها، ويحملون سماتها، قائلين مع الرسول: "أجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).

إذ يطلب الله رجوع شعبه القديم إليه يعلن لنبيه عن رجوع الأمم، وقبول الشعوب الإيمان به. "ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير" [17].

مع توبتك تجتذب كثيرين إلى الرب وتدخل بهم إلى سمواته!

ضعفنا وشرنا يقف عائقًا في طريق خلاص الكثيرين، إذ ُيجدف على اسم الله بسببنا، أما رجوعنا القلبي والعملي إلى الله فيسحب الكثيرين إليه. 

نلاحظ هنا أن الله يرفع انظارهم من الرجوع من السبي كبركة إلهية إلى ما هو أعظم، وهو رجوع الأمم من سبي الخطية وعدم الإيمان إلى كنيسة المسيح، أرض الموعد الجديدة.

سادسًا: الشفاء من طبيعة الفساد العاملة فينا:

"ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم" [22]. ويقول المرتل التائب: "قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي" (مز 51: 10).

الراجع إلى الله يشعر بعمل روح الله القدوس اليومي لتجديده المستمر، حتى يصير على مثال الله!

أخيرًا بعدما تحدث عن بركات الرجوع إلى الله أشار إلى خطورة العصيان والإصرار على العناد والتمسك بالشرور، أو خيانة الإنسان أو الجماعة لله:

أولاً: "سُمع صوت على الهضاب بكاء تضرعات بني إسرائيل، لأنهم عوَّجوا طريقهم، نسوا الرب إلههم" [21].

في الموضع الذي كانوا يصنعون فيه الرجاسات، أي في الهضاب، يُسمع صوت نحيبهم، حيث يُساقون إلى السبي في مذلة.

لا تقدر الخطية أن تهب الإنسان فرحًا حقيقيًا، بل تخدره إلى حين ليجد نفسه قد فقد سلامه الداخلي وفرحه وحياته نفسها. هذا هو ثمر الدخول في الطريق المعوج ونسيان الرب إلهنا!

ثانيًا: يدخل إلى الباطل لا إلى الحق:

"حقًا باطلة هي الآكام ثروة الجبال؛ حقًا بالرب إلهنا خلاص إسرائيل" [23].

هنا يقارن بين عبادة الأوثان على الآكام والجبال التي يحسبها الأشرار ثروة وغنى للنفس، حيث يجدون الطريق الواسع والحياة السهلة، وبين خلاص الرب إلهنا.

تُقدم العبادة الوثنية طريقًا سهلاً لكنها طريق باطلة، أما طريق الرب الضيق ففيه الخلاص الحق.

الترجمة الحرفية لكلمة "آكام" هنا تعني "الخلاعة"، فهي تقدم ما هو باطل، أما الرب فيقدم لنا الحق.

يرى العلامة أوريجينوس[108] أن الأمم كانوا يعبدون نوعين من الآلهة: يعبدون أناسًا صاروا آلهة، هؤلاء يُرمز لهم بالآكام؛ ويعبدون آلهة يرونها هكذا بالطبيعة، هذه يُرمز لها بالجبال.

[الذين يتعبدون لهذه الآلهة لا يدركون أنها آلهة كاذبة، بل يظنون أن وحيها وحيّ حقيقي، وأنها تُقدم شفاءً حقيقيًا، دون أن يدركوا الفارق بين عمل الشيطان بقوةٍ وآيات وعجائب كاذبة وكل خديعة الإثم في الهالكين (2 تس 2: 9)، وبين قوة الحق وعجائبه.

ما كان يفعله يسوع المسيح كان من عجائب الحق،

وما كان يفعله موسى أيضًا هو من قوة الحق (باسم الله)،

أما ما كان يفعله المصريون فكان آيات وعجائب كاذبة، وذلك كما كان يفعل سيمون الساحر الذي كان يُدهش شعب السامرة، حتى قالوا عنه: هذا هو قوة الله العظيمة (أع 8: 10)، مع كونها قوات وآيات وعجائب كاذبة].

هذه هي خطورة الخطية، ُتفقد الإنسان قدرته على تمييز ما هو باطل أو كذب وما هو حق! تفقده روح التمييز الداخلي.

ثالثًا: الدخول إلى الخزي والعار:

"وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا،

غنمهم وبقرهم،

بنيهم وبناتهم.

نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)،

لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا،

منذ صبانا إلى هذا اليوم،

ولم نسمع لصوت الرب إلهنا" [24-25].

لا يقف عمل الخطية عند فقدان السلام الداخلي وتحطيم روح التمييز ليعيش الإنسان يتخبط، يظن الحق باطلاً، والباطل حقًا، الحياة الزمنية خالدة، والسماء خيالاً، وإنما تدخل به الخزي (bosheth) الذي يحطم كل تعبه منذ صباه.

يقول سليمان الحكيم: "البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية" (أم 14: 34). وعندما دخل الشعب أرض كنعان وقدموا عبادة مقدسة، ُدعى الموضع "الجلجال"، ويعني "الدحرجة" إذ دحرج عنهم العار (يش 5: 9)، عار العبودية رمز الخطية.

لقد دعى شاول ابنه "ايشبوشث" (2 صم 2: 8)، أي "رجل العار"... هذا هو ثمر الخطية!

تكمن خطورة الخطية في كونها مخادعة. بينما تدفع النفس إلى الخزي والعار، يفتخر البعض بها، ويحسبونها مجدًا لهم... عوض أن يقفوا فيخزي وعارٍ أمام الله، وقدام أنفسهم يعترفون بما حلَّ بهم بسبب خطاياهم. بمعنى آخر بالتوبة والاعتراف نضرب عار الخطية وخزيها بشعورنا بالخجل والخزي والعار!

يقول العلامة أوريجينوس:

["وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا..." [24]. يجب أن يكون هناك خزي حتى يأكل التعب الباطل والأعمال الكاذبة التي لآبائنا، فإنه بدون الخزي لن ُتستهلك (تنتهي) هذه الأعمال الباطلة والكاذبة...

يوجد خطاة ليس عندهم خزي ولا حياء من خطاياهم، إذ لا يخجلون منها. هؤلاء هم الذين فقدوا كل حس وأسلموا لكل نجاسة.

إنكم ترون بالفعل كيف تستعرض الشعوب الأممية أحيانًا قائمة فسقهم وزناهم، ويفتخرون بها كما لو كانت أعمال بطولة، دون أن يخجلوا من ممارستهم هذه الأعمال، ودون أن يطلقوا عليها "خطايا". ما دام ليس عندهم "الخزي" لن تُؤكل (تُمحى) خطاياهم.

بداية الصلاح هو الشعور بالخجل مما كنا لا نخجل منه قبلاً[109]].

ما هو غنم الآباء وبقرهم الذي يأكله الخزي؟

يقول العلامة أوريجينوس: [يُطلق على التصرفات غير العاقلة التي يمارسها الآباء غنمًا وبقرًا.

الخليقة غير العاقلة (الحيوانية) ليست ممدوحة على الدوام، إذ توجد كائنات غير عاقلة ملومة، مثل "غنم الآباء الذين أخطأوا". وتوجد حيوانات ممدوحة ومطوّبة، هذه التي يُقال عنها: "خراف يتسمع صوتي".

حينما يقول المخلص: "أنا هو الراعي الصالح" يلزمنا ألا نفهم ذلك بطريقة عامة كما يفعل الجميع، حاسبين أنه راعي المؤمنين وحدهم دون الخطاة. إنما يلزمني كخاطي أن أقبل السيد المسيح في داخل نفسي. أقبل الراعي الصالح فيّ، الراعي الصالح القادر بعصا رعايته أن يسيطر على تصرفاتي غير العاقلة، فلا يسمح لها أن تخرج كما تشاء وحيثما تشاء، لكنها تحت قيادة الراعي تصير تصرفات سليمة. "فلستم إذا بعد غرباء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 19).

هكذا، إذا كان الراعي في داخلي فإنه يقود حواسي، فلا تخضع قط لفكر غريب؛ لا تخضع لفرعون ولا لنبوخذنصر، وإنما للراعي الصالح![110]].

إذن مادام يوجد في حياتي الداخلية كما في سلوكي غنمات ضالة وبقر كثير شارد، بالتوبة الصادقة والاعتراف الصريح أشعر بالخزي فتؤكل الحيوانات الفاسدة، ليقيم الراعي الصالح فيّ غنمات مقدسة تحت رعايته الشخصية.

كان لبني إسرائيل غنم وبقر، إذ كانوا يتكلون تارة على فرعون مصر وأخرى على ملك بابل... لنطلب راعي نفوسنا الحق، ولنحتمي فيه، فهو وحده قادرعلى رعايتنا وحمايتنا من كل تجارب عدو الخير القاتلة.

ماذا يُقصد بالبنين والبنات الذين يأكلهم الخزي؟

كثيرًا ما يفسر العلامة أوريجينوس[111] البنين كثمار النفس وأفكارها، والبنات كأعمال الجسد وأفكاره... إذن بخزي التوبة تؤكل أفكار النفس الفاسدة وأعمال الجسد الشريرة، ليقيم لنا الرب المخلص بروحه القدوس ثمرًا مقدسًا للنفس والجسد معًا!

ماذا يُقصد بالخجل الذي يغطينا كما ببرقع؟

يقول العلامة أوريجينوس:

["نضطجع فيخزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)" [25].

اعتدنا أن نتحدث عن البرقع الموضوع على وجه الذين لا يرجعون إلى الرب. بسبب هذا البرقع الموضوع على قلوبهم لا يفهم الخطاة حين يُقرأ موسى (2 كو 3: 15). لهذا نقول إن الخزي هو هذا البرقع.

مادام لدينا أعمال الخزي، يوجد عندنا البرقع دون شك، وذلك كما قيل في المزمور: "وخزي وجهي قد غطاني (ببرقع)" (مز 44: 15).

أما الذين لا يمارسون أعمالاً مخزية فلا يكون عندهم البرقع. هذا ما يقوله بولس الرسول: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة" (2 كو 3: 18).

إن كنا نريد أن ننزع البرقع الناجم عن الخزي فلنعمل الأعمال المجيدة، ولنضع كلمات المخلص هذه في أذهاننا: "حتى أن الجميع يمجدون الابن كما يمجدون الآب"، وكلمات بولس الرسول: "بتعدينا الناموس نهين الله".

في مقدرتنا نحن أن ننزع البرقع وليس في مقدرة أحد غيرنا. فعندما كان موسى يتوجه إلى الله كان بالفعل يرفع البرقع.

لم يأمر الله موسى قائلاً له: غطِ نفسك ببرقع"، وإنما لما رأى موسى الشعب عاجزًا عن النظر إلى مجده وضع برقعًا على وجهه. ولم ينتظر أيضًا أن يقول له الله في كل مرة كان يتحدث فيها معه: "انزع البرقع".

إذن كُتب هذا حتى ترفع أنت أيضًا بدورك برقع أعمالك المخزية الذي وضعته على وجهك، وذلك متى اتجهت بنظرك إلى الرب؛ وإذ تنزع البرقع لا تعود تقول: "يغطينا خجلنا (ببرقع)".

على سبيل المثال، عندما يستقر الغضب في نفوسنا، يكون مثل برقع موضوع على الوجه. وعندما نردد القول في صلاتنا: "قد أضاء علينا نور وجهك يا رب" (مز 4)، نرفع البرقع، وننفذ ما يقوله الرسول: "فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2: 8). فإذا نزعنا الغضب نكون قد رفعنا البرقع؛ وهكذا أيضًا بالنسبة لجميع الخطايا.

طالما وُجدت الخطايا في فكرنا يكون البرقع موجودًا على وجوهنا الداخلية بصورة تحجب عنا رؤية مجد الله المضيء.

الله لا يخفي عنا مجده، إنما نحن بوضعنا برقع الخطية على نفوسنا نحرم أنفسنا

من رؤية مجد الله[112]].

إذن بالتوبة والاعتراف نشعر بالخزي فتُنزع من داخلنا الحياة الحيوانية غير العاقلة، فيؤكل غنمنا وبقرنا، ويسكن راعينا في القلب ليرعى غنمًا روحيًا جديدًا، ويقيم ملكوته فينا.

بالتوبة الصادقة يقدّس روح الله القدوس أولادنا وبناتنا، أي أعمال النفس والجسد معًا، فيكون لنا الفكر المقدس والأحاسيس الملتهبة بنار حبه والتصرفات اللائقة كأولاد لله.

بالتوبة الصادقة يرفع روح الله عن قلوبنا برقع الخزي والعار فنرى مجد الله، وندرك أسراره الفائقة السماوية.

هذا هو طريق التوبة، الذي فيه نصرخ، قائلين:

"لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم، ولم نسمع لصوت الرب إلهنا" [25].

يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة، قائلاً:

[هل يمكننا نحن أيضًا أن نقول كما قال هؤلاء: إننا أخطأنا؟ هذا يختلف عن القول: "لقد أخطأنا ونخطئ". فمن لا يزال في خطيته لا يقول: "لقد أخطأنا".

لكن ينطق بهذا من أخطأ وقد تاب توبة حقيقية.

يوجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة لأناس لم يعودوا يخطئون، ومع هذا يقولون: "لقد أخطأنا، لقد تعدينا شريعتك"، كما جاء في دانيال. كذلك يقول داود النبي: "خطايا شبابي وجهلي لا تذكر".

فلنعترف إذن بخطايانا، ليس خطايا الأمس وأول أمس فحسب، وإنما تلك التي مرَّ عليها 15 عامًا دون أن نكون قد ارتكبنا أية خطية خلال هذه السنوات الـ 15...

إن ذهبنا لنعترف بخطايا الأمس فقط نكون غير صادقين في توبتنا، "لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم"...

تستلزم الجراحات وقتًا قبل أن تُشفى، هكذا أيضًا بالنسبة للرجوع، فإن الرجوع الكامل النقي إلى الله يتطلب أيضًا بعض الوقت[113]].

نختم حديثنا هنا عن التوبة والاعتراف بالعبارات الآبائية التالية:

v     أول طريق التوبة هو إدانتنا لخطايانا[114].

v     من يمارس التوبة بعدما يخطئ يستحق تهنئة لا الحزن عليه، إذ يعبر إلى خورس الأبرار[115].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v      لينتبه (الخاطئ) إلى خطورة الجرح،

ولا ييأس من عظمة الطبيب.

الخطية مع اليأس هي موت أكيد...[116]

القديس أغسطينوس

 


 

من وحيّ إرميا 3

ارجعي أيتها العروس إلى القدوس!

v     ارجعي... ارجعي أيتها العروس إلى القدوس.

إنه يفتح أحضانه ليردكِ إليه،

لا يعاتبكِ أيتها الخائنة، بل يرد لك فرح عُرسك!

v     أي رجل يقبل زوجته الخائنة بعد طلاقها؟!

لقد خنتيه، إذ أقمتِ في داخلكِ آلهة غريبة!

صار لكِ في أعماقكِ أصحاب زناة كثيرين.

جلستِ كما في الطرقات ولم تخجلي من زناكِ.

أحببتي يا نفسى العالم أكثر منه!

انشغلتي بأمور كثيرة وتجاهلتيه!

صار المحبوب العجيب آخر الكل في عينيك!

هوذا الطبيعة الجامدة تشهد عليك!

v     هوذا عريسك ينتظرك يا نفسى!

إن غضب، فلرجوعكِ وخلاصكِ!

دخل بكِ إلى صهيون السماوية، حجاله الأبدي!

يهبك كل ثمر روحي، ويقدم لك معرفة إلهية!

يجعلكِ بركة لكثيرين!

ويقدم نفسه لك ميراثًا!

يشفي طبيعتكِ ويجددها!

 ماذا تطلبين بعد يا من حطمكِ الكبرياء والعصيان!

v     أذكري يا نفسي ماذا فعلت بكِ الخطية:

قدمت لكِ اللهو إلى حين لتبكى بمرارة بلا انقطاع!

أعطتكِ أمورًا زمنية لكنكِ صرتِ أنت باطلة!

حولتكِ إلى الخزي كبرقعٍ على وجهك فلا ترين بهاء مجد عريسك!

<<


 

الأصحاح الرابع

زينة العروس

أكثر عبارات هذا الأصحاح والأصحاحين التاليين، منظومة في العبرية شعرًا، لذلك يرجح أن تكون مجموعة خطب أو أقوال ألقاها النبي منظومة مقفَّاة، ليدفع الشعب إلى التوبة، ويحفظهم من الخطر المصَّلت على رقابهم.

إذ يطلب الله من شعبه الرجوع إليه، كاشفًا عن غيرته عليهم، وحبه الشديد نحوهم، يطلب إليهم ألا يرجعوا إليه بفسادهم ورجاساتهم، وإنما أن يتزينوا بجمال داخلي كعروس سماوية مقدسة.

1. التوبة وسيلة التزين[1-2].

2. التمتع بختان القلب[3-9].

3. ترك الأنبياء الكذبة           [10-12].

4. إدراك خطة الله وقبول التأديب[13-18].

5. قبول الأنبياء الحقيقيين[19-22].

6. الشبع والاستنارة[23-29].

7. ترك البر الذاتي[30-31].

1. التوبة وسيلة التزين:

يقول الأب شيريمون: [إنه يقارن أورشليم (النفس البشرية) بامرأة زانية تطلب رجلاً، ويقارن الله في محبته لنا بزوج يموت في حبه لعروسه... أشبه برجل يحترق بنار محبته لامرأته، ويذوب لأجل حبه قدرما يراها تستخف به وتستهين[117]].

إنه يلح في طلب رجوعها إليه، لكنه يطلبها ترجع مقدسة له، إذ يقول: "إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب، إن رجعت إليّ، وإن نزعت مكرهاتك من (فمك) من أمامي فلا تتيه" [1].

يطلب من عروسه أن تتخلى عن العبادة الوثنية، وعن جحودها له. هذه هي المكروهات... يبغضها الله لأنها تحتل قلب الإنسان، وتغتصب ملكوت الله، وتفسد الحياة

الداخلية، فتجعل النفس في حالة تيه، لا تعرف رسالتها ولا حتى تقدير الله لها.

لنترك كل صنم نُقيمة في القلب، وكل عبادة غريبة، وكل اتكال على ذراع بشر، وكل رغبة في إرضاء الناس وطلب مديحهم، وكل خطية بالفكر أو القول أو العمل... أي كل مكروه لدى الله. بهذا يتقبلنا الله عروسًا مقدسة له، وفينا يتبارك الكثيرون، إذ يجعلنا ليس فقط مُباركين بل بركة لغيرنا، يباركون الله العامل فينا وفيهم وينالون بركته.

يقول العلامة أوريجينوس: [ما هي الأشياء التي يجب على إسرائيل القيام بها حتى تبارك الشعوب الله فيه؟

"إن نَزَع مكرهاته من فمه" [1].

ولكن ماذا يعني هذا؟

إن كل ما نقوله من شر هو مكروه في فمنا. فلننزعه إذًا بنزع الشتائم، والكلمات الفارغة، والكلمات العقيمة التي من شأنها إدانتنا، لأنه بكلامك تتبرر وبكلامك ُتدان"[118]].

يطالبها ألا تحلف بالآلهة الوثنية بل به، تحلف بالحق والعدل والبر [2]. كان القسم قديمًا علامة الثقة بالإله الذي يقسم الإنسان به، لهذا عندما كان الله يطلب من شعبه القسم باسمه كان يطلب أن يحفظهم من القسم بالآلهة الوثنية والإيمان بها.

يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: "وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر فتتبرَّك الشعوب به، وبه يفتخرون" [2]، قائلاً:

[لننظر إلى أنفسنا نحن الذين نحلف، ولنَر كيف أننا لا نحلف بالعدل، وإنما بدون عدل، حتى صارت أقسامنا كثيرة على سبيل العادة، لا على سبيل الحق.

المشكلة هنا هي أن نترك أنفسنا تُساق بواسطة الخطية، فنعتاد عليها. هذا ما ينتقده الرب بقوله: "وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر".

أننا نعلم أن الرب قال لتلاميذه في الإنجيل: "وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة" (مت 5: 34).

لندرس هذه الآية، ونضع الآيتين معًا. ربما يلزمنا أن نبدأ بالقول: "احلفوا بالحق والعدل والبر"، حتى إذا ما تقدمنا ونمونا في النعمة بعد ذلك نستعد ألا نحلف البتة، بل يكون لنا الـ "نعم" الذي لا يحتاج إلى تأكيد الأمور بالقسم، ويكون لنا الـ "لا" الذي لا يحتاج إلى شهادة إثبات أن الأمر ليس هكذا.

"وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر".

بالنسبة لمن يحلف لابد أولاً ألا يكون كاذبًا بل صادقًا، فيحلف بالحق. أما نحن البائسون فكثيرًا ما نُقسم كذبًا بالباطل.

إن افترضنا أننا نحلف بالحق، فإن هذا القسم يخالف الشريعة، إذ يجب أن يكون "بالعدل" بجانب أنه "بالحق"، لأنه إن افترضت أنني أحلف كعادة، ففي هذه الحالة لا يوجد عدل... لأننا نجعل من رب هذا الكون ومسيحه شاهدًا على أمر ما. فما أهمية هذا الأمر حتى أنحنى على ركبتي وأقسم؟...[119]].

مما يدعو البعض إلى الدهشة أن يقدم النبي التزام الشعب بالقسم باسم الرب الحيّ بالحق والعدل والبر علامة على التوبة. قد يبدو أن هذا الأمر تافه، لكن من يدرس الأمر في عمق يلاحظ أنه كاد الشعب كله والقيادات أن يعبدوا الأوثان، فكان قسمهم باسم الآلهة الغريبة. فالقسم باسم الرب الحيّ علامة على ترك العبادة الوثنية. الأمر الثاني أن ما ينطق به الفم إنما هو من فضلة القلب. فالقلب النقي المستقيم ينطق بالحق والعدل والبر، لا يعرف إلا الصدق، وليس للكذب موضع! وكأن القسم هنا يكشف عن استقامة الإيمان مع استقامة السلوك.

في اختصار نقول إن التوبة كما يقدمها لنا هذا الأصحاح ليست ندامة ورجوعًا عن الرجاسات فحسب، إنما هي رجوع وإخلاص لله واتحاد معه، فتتمتع بالحق الإلهي والعدل والبر.

أما الوعد فهو: "تتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون" [2]. ما هو هذا الوعد الإلهي إلا التمتع بغنى الحياة الجديدة وكمالها كعطية إلهية.

قُدم هذا الوعد لآبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب (تك 12: 3؛ 18: 18؛ 26: 4). وقد تحقق الوعد بمجيء السيد المسيح الذي به تتبارك شعوب العالم.

2. ختان القلب:

إذ كانت مملكة إسرائيل قد عصت الرب علانية، وأقامت العبادة الوثنية عوض عبادة الله الحيّ، لذا طالبها بنزع هذه العبادة المكروهة بكل رجاساتها (1-2)، أما مملكة يهوذا فسلكت طريقًا آخر، وهي المزج بين العبادة الحقيقية والوثنية. في المظهر يذهبون في الأعياد إلى أورشليم، يقدمون ذبائح وتقدمات للرب، ويمارسون العبادة في شكلياتها، ويتمسكون بحرفية الناموس، أما قلوبهم فمرتبكة بالوثنية. إنهم يعتزّون بكونهم أهل الختان... بينما قلوبهم غير مختتنة. لهذا جاءت الوصية إليهم تلزمهم بالدخول إلى الأعماق، ليمارسوا ختان القلب الخفي، ويهتموا بالمجد الداخلي.

"لأنه هكذا قال الرب لرجال يهوذا وأورشليم:

احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك.

اختتنوا للرب، وانزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم.

لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق، وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم" [3-4].

جاءت الدعوة هنا إلى رجال يهوذا وأورشليم، وكما يقول العلامة أوريجينوس:

[أنني أتذكر ما قيل حديثًا حول المعنى الرمزي ليهوذا وسكان أورشليم: فإننا نحن أيضًا، إذا أعطانا الرب هذه النعمة، سوف نكون سكان أورشليم. بما أنه "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا"، فإن كان كنزنا في السماء يكون قلبنا أيضًا في أورشليم السمائية، التي يقول عنها الرسول: "وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة" (غل 4: 26)[120]].

يستحيل أن يُرجى ثمر روحي إلهي ممن َيزرعون في أرض قفر مملوءة بالأشواك الخانقة، إنما يجب أن تُشق بشفرة المحراث لتبكيت تربة القلب القاسية... ففي مثل الزارع يقول السيد المسيح: "وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه" (مت 13: 7). وجاء في هوشع ضرورة حرث الأرض لنزع الشوك وزرع بذار البر: "ازرعوا لأنفسكم بالبر، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلمكم البر" (10: 12).

إن كانت تربة قلوبنا مملوءة أشواكًا فبصليب ربنا يسوع المسيح تُحرث فتصير صالحة، يُنزع عنها الشوك بكونه الغرلة. هذا هو ختان القلب الذي يرتبط بالصليب، ولا يختنق بأشواك هموم الحياة وملذاتها الباطلة.

يقول القديس أغسطينوس: [اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، ازيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها...

احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي (رعاية القديس لهم)، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.

كونوا الأرض الجيدة، وليأتِ الواحد بمئة والآخر بستين، وآخر بثلاثين[121]].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما يُستخدم المحراث في الحقل فيقلب الأرض من أسفل ليُعد مقدمًا ملجأ آمنًا للبذار، حتى لا تنتثر على السطح، بل تختفي في رحم الأرض ذاتها، فتودع جذورها في آمان، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نعمل، فنستخدم محراث الضيقات لحرث أعماق القلب.

ينصحنا نبي آخر، قائلاً: "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" (يؤ 2: 13).

لنمزق قلوبنا، حتى متى وُجد فيها زرع شرير، أو فكر مخادع نقتلعه بجذوره، فنهيئ تربة نقية لبذار الصلاح.

إن كنا الآن لا نحرث الأرض البور، إن كنا لا نبذر الآن، إن كنا لا نرويها الآن بالدموع، مادام وقت ضيق وصوم، فمتى نلوم أنفسنا؟! هل يحدث هذا عندما نصير في ُيسر وترف؟! مستحيل! فإن اليُسر والترف بوجه عام يقودانا إلى التراخي، كما تردنا الضيقة إلى الجهاد، ترد الذهن الذي ضل بعيدًا وصار هائمًا يحلم بأمور كثيرة[122]].

يرى العلامة أوريجينوس أن الحديث هنا ينطبق على المعلمين والكارزين، إذ يهتم بعضهم بتقديم العقائد الإيمانية خارج دائرة الخلاص العملي، فيكونوا كمن يقدمون بذارًا صالحة وسط الأشواك. إذ يقول:

["احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك" [3].

قيل هذا الكلام على وجه الخصوص للمعلمين والمبشرين؛ حتى لا ينطقوا بكلمات الإنجيل للسامعين قبل تهيئة حقولٍ جديدة (محروثة) في نفوسهم. لأنهم متى هيأوا حقولاً جديدة في النفوس، ومتى أصبح الناس مُعدين لاستقبال التعاليم كما في الأرض الجيدة الصالحة، عندئذ يزرعون ليس في الأشواك.

على العكس، قمنا نحن بزرع بذور مقدسة قبل أن نُعد حقولاً جديدة في عقول الناس، زرعنا عقيدة الآب والابن والروح القدس، والقيامة، والعقاب والراحة الأبدية والناموس والأنبياء وغير ذلك من تعاليم الكتاب المقدس. أننا بهذا نخالف الوصية التي تقول أولاً: "احرثوا لأنفسكم حرثًا" أعدوا لأنفسكم حقولاً جديدة، ثانيًا: "لا تزرعوا في الأشواك".

قد يقول أحد السامعين: أنني لست أعلم، فهذه الوصية ليست لي.

ليكن! كن مزارعًا (معلمًا) لنفسك، ولا تزرع في الأشواك، إنما أعدد حقلاً جديدًا من قطعة الأرض التي سلّمها لك الرب. اهتم بهذه الأرض. ابحث أين توجد الأشواك، أين توجد الهموم والاهتمامات المادية وإغراءات الغنى وحب الشهوة، وانزع في الحال تلك الأشواك التي في نفسك. ابحث عن المحراث الروحي الذي قال عنه يسوع: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). بهذا تكون قد أعددت حقلاً جديدًا. بعد إعداد هذا الحقل، اذهب وخذ بذارًا من المعلمين ومن الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيلية وكلمات الرسل، وازرعها في نفسك بتذكرها وتنفيذها. ستبدو لك أن هذه البذار تنمو من تلقاء ذاتها، لكن الحقيقة أنها لا تنمو من مجرد تذكرك إياها، بل الرب هو الذي ينميها. "أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي" (1 كو 3: 6)[123]].

يرى البابا أثناسيوس في الكلمات النبوية: "احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك" [4] دعوة للجدية في استخدام نعمة الله الغنية المجانية، لأن طريق الكسلان كسياج من شوكٍ (أم 15: 19). إنه يظن أن أرضه تنتج خبزًا بلا عمل، فإذا بها تخرج له شوكًا...

لدينا وصية رسولية ألا تكون النعمة المعطاة لنا باطلة، الأمور التي كتب عنها القديس بولس إلى تلاميذه شخصيًا، موصيًا إيانا بها من خلالهم، كقوله: "لا تهمل الموهبة التي فيك" (1 تي 4: 14).

 يوجد مثل له ذات المعنى: "من يشتغل بحقله يشبع خبزًا، أما طرق الكسلان فسياج من شوك" (أم 19: 12، 15). لذلك يحذرنا الروح القدس ألا نسقط في مثل هذه الأمور، قائلاً: "احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك"[124]].

"اختتنوا للرب وانزعوا غُرل قلوبكم" [4].

إذ يحرث الإنسان بصليب رب المجد يسوع داخل القلب لينزع الأشواك، يتمتع بختان القلب الروحي الخفي، وكما يقول الرسول بولس موبخًا المتكلين على ختان الجسد الخارجي: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، اليهودي في الخفاء هو اليهودي؛ وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2: 28-29).

يقول القديس أغسطينوس: [يتفق هذا مع قوله: "دُعى أحد وهو مختون فلا يصر أغلف" (1 كو 7: 18). لقد كان يهوديًا، ودُعى مختونًا، ليته لا يطلب أن يصير أغلف، أي لا يعيش كمن هو ليس مختونًا[125]].

يقول العلامة أوريجينوس: [كان لابد أن يقول: "اختتنوا للرب". فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر على أهل الختان حسب شريعة موسى وحدهم، وإنما مارسه أناس آخرون كثيرون. فكهنة الأوثان المصريون كانوا يختتنون لها (أي للأوثان)، فكان ختانهم للأوثان لا للرب، أما ختان اليهود فكان يمكن أن يكون للرب.

إن كنا قد فهمنا معنى "اختتنوا للرب" بالمعنى الحرفي، فلننتقل إلى المعنى الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين من هم مختونون للرب، وآخرون مختونون ليس للرب.

توجد عقائد أخرى بخلاف عقيدة الحق أي العقيدة الأرثوذكسية، هؤلاء الذين يعتمدون على الفلسفة. إنهم مختونون في أخلاقهم وقلوبهم ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه الاعتدال (الفضيلة)... هؤلاء مختونون ليس للرب، لأن ختانهم يتم بعقيدة كاذبة. ولكن حين تذهب إلى الكنيسة، وتتبع تعاليمها الحقة، فإنك لا تكون مختتنًا فحسب وإنما تكون مختتنًا للرب[126]].

كما يقول العلامة أوريجينوس: [تُوجد غرلة في القلب يجب نزعها.

الغرلة هي خلقية منذ الولادة، يأتي الختان بعد ذلك؛ فما جاء بالولادة ينزع بالختان.

إذا كانت الوصية تقول غرل قلوبكم، لابد أن يكون هناك في القلب شيء منذ الولادة يسمى غرلة، يجب علينا نزعه حتى نكون مختتنين من غرلة قلوبنا.

إذا دققنا النظر في العبارتين: "لقد كنا بالطبيعة أولادًا في الغضب"، "جسد هذا الموت" الذي وُلدنا فيه، وإذا تأملنا في القول "ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض"، نستخلص كيف أننا ولدنا بخطايا وبـغرلة في قلوبنا.

إذا كان القلب الذي فينا هو الذي يحمل العقل، حيث توجد الأفكار، ومنه تخرج الأفكار الشريرة، فإن من ينزع الأفكار الشريرة ينزع أيضًا غرلة القلب. أما من لا ينزع غرلة قلبه (متجاوبًا مع عمل الروح القدس فيه)، فلينظر ما يتوعده به الله: "لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق وليس من يطفئ"[127]].

إذن ليكن لنا ختان القلب الداخلي للرب، يقوم على عمل الروح القدس الذي ينزع غُرلة القلب ويهب ختانه، يُصلب الإنسان العتيق ويهبنا الجديد في مياه المعمودية.

العماد هو ختان القلب والروح، يعيشه المؤمن كل أيام حياته، ليعمل روح الله فيه بلا انقطاع، حتى يمارس الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح.

هذه هي زينة العروس، الزينة التي يهبها لها الروح القدس في مياه المعمودية، والذي لا يتوقف عن تجميلها كل أيام غربتها، زينة الروح الداخلية... فلا تسمع التوبيخ: "وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟ إذا لبستِ قرمزًا، تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك" [30].

إذ نقبل عمل الروح القدس الناري فينا يلتهب قلبنا المختون بالحب الإلهي، أما إذا استعاد الغرلة، أي أعمال الإنسان العتيق، فيحترق بنار غضب الله.

" لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم" [4].

يقول العلامة أوريجينوس: [يشتعل غضب الله مثل النار بالنسبة للذين لم يختتنوا له، هؤلاء الذين لم ينزعوا عنهم غُرل قلوبهم. "وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم". طعام هذه النار هي الأعمال الشريرة التي نمارسها، فإن لم توجد أعمال شريرة لا تجد النار لها مأكلاً! [128]].

من لا يقبل عمل الروح الناري فيه يسقط في نار الغضب الإلهي، أي يسقط في مرارة تجلبها أعماله الشريرة عليه، كما جلبت خطايا يهوذا السبي بكل مذلته، هذا الذي يصفه إرميا النبي بصورة قاسية حتى لم يعد يقدر أن يحتمل المنظر [10]... كان صوت التحذير مستمرًا حتى لحظات السبي، إذ يقول:

"اخبروا في يهوذا وسمعوا في أورشليم وقولوا،

اضربوا بالبوق (shophar) في الأرض،

نادوا بصوتٍ عالٍ وقولوا:

اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة.

ارفعوا الراية نحو صهيون.

احتموا. لا تقفوا. لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسرٍ عظيم.

قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم.

خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابًا،

تخرب مُدنك فلا ساكن،

من أجل ذلك تنطقوا بمُسُوح،

الطموا ولولوا،

لأنه لم يرتد حمو غضب الرب عنا.

ويكون في ذلك اليوم يقول الرب،

إن قلب الملك يُعدم وقلوب الرؤساء،

وتتحير الكهنة وتتعجب الأنبياء" [5-9].

الله القدوس الذي يطلب عروسه مزينة بالقداسة، إذ يراها تمارس الشر الذي يدفعها إلى السبي ينذرها، ويبقى ينذرها حتى اللحظات الأخيرة، فإنه يشتاق ألا تسقط في مرارة السبي... لقد أرسل من يخبرها، ويضربوا بأبواق كلمته، وينادوا بصوتٍ عالٍ، لعلهم يتركون القرى غير الحصينة ويدخلون إلى المدن الحصينة ويرفعون راية صهيون؛ أي يدخلون بالتوبة إلى حصنٍ إلهي ويحملون راية الكنيسة، راية الحب الإلهي، فيحتمون من الخطر.

يسألهم: "لا تقفوا".... إذ يليق بالعروس أن تتحرك تجاه عريسها، تعلن حبها له عمليًا، كما تحرك هو أولاً نحوها، باذلاً حياته لأجلها.

إنه يكرر لها الدعوة بالتوبة حتى لا تسقط تحت التأديب القاسي.

يقول العلامة أوريجينوس: [كلمة الله تيقظ السامع، وتُعِده للحرب ضد الشهوات، وضد القوات الشريرة، وتهيئه أيضًا للولائم السمائية. إنها هنا بمثابة بوق.

"نادوا بصوتٍ عالٍ، وقولوا:

اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة" [5].

لا يريدنا الله أن ندخل إلى مدينة غير محصنة، بل إلى مدينة محصنة. فقد تحصنت كنيسة الله بالحق الذي في المسيح يسوع؛ هو نفسه حصنها، كما يقول داود النبي في المزمور: "الرب صخرتي وحصني ومنقذي" (مز 18: 2).

أنتم جميعًا الذين كنتم خارج صهيون "ارفعوا الراية نحو صهيون (اهربوا إلى صهيون)؛ احتموا؛ لا تقفوا" [6].

أنتم الذين كنتم في تقدمٍ ونموٍ احتموا في صهيون. "لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسر عظيم". عند مجيء هذا الشر، من لا يحتمي ويدخل المدن الحصينة، أي كنائس الله، يبقى خارجًا، يمسكه الأعداء ويقتلونه.

من هو هذا العدو؟ لننظر إلى تكملة الحديث: "قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم" [7]. هذا هو العدو الذي يجب أن نهرب منه. من هو هذا الأسد الذي يتتبعنا؟ ينبهنا إليه القديس بطرس، قائلاً: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9).

يوجد أسد قد صعد من غابته؛ أين هي هذه الغابة؟ إنه سقط إلى أسفل. نزل إلى أسفل الأرض، إلى أعماقها.

أنت إنسان، أعلى من الشيطان، لأنك أفضل منه على أي الأحوال، أما هو فهبط إلى أسفل بسبب فساده...

إنه يريد أن يدخل إلى أرضك، يريد أن يفترس كل واحدٍ منا...

بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك ويخرِّب أرضك، البس المسوح وابكِ وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات، فيهلك هذا الأسد، وتتخلص أنت منه، ولا تقع بين أنيابه.

يحاول هذا الأسد أن يصطادك عن طريق آذانك، إذ يلقي إليك كلمات كاذبة محببة إلى نفسك، فيجعلك تحيد عن طريق الحق.

يريد أن يلتهم قدميك، وينزعها من فوق أرض الحق.

تمنطق بمسوح، واقرع صدرك، ابكِ، واصرخ صرخات الحرب حينما ترى العدو يهددك، فيرتد حمو غضب الرب عنك، عندئذ تستطيع بكل هدوء وطمأنينة أن تتصدى لكل هجمات الأسد، لأنك قد دخلت المدينة الحصينة[129]].

في وسط الخطر يفتح الله باب الخلاص، معلنًا أن غضبه لا يدوم إلى الأبد. إنه يغضب لأنه يرى العدو قادمًا كأسدٍ ليفترسنا ونحن في تهاوننا لا ندخل إليه كمدينة حصينة، ولا نقبله ملجأ لنا. يضرب كما ببوقٍ لكي نرجع إليه فيرجع هو إلينا.

ختان القلب يُكسب النفس جمالاً في عيني عريسها السماوي، مما يثير عدو الخير ضدها، فتدخل في حرب روحية، متسلحة بروح التوبة والاتضاع مع الاتكال على إمكانيات عريسها... ومع كل موقعة تتمتع بنصرة جديدة، فيزداد جمالها بهاءً.

3. ترك الأنبياء الكذبة:

كان قلب إرميا الرقيق يعتصر وهو يرى: "قد بلغ السيف النفس" [10].

 يرى الشعب نائمًا فقد ظنوا أن الله خدعهم وخدع مدينته المقدسة أورشليم، ظنوه يتحدث على فم الأنبياء الكذبة، القائلين: "يكون لكم سلام" [10]. إنها كلمات الأنبياء المعسولة التي تعطي طمأنينة كاذبة ومؤقتة، يستطيب لها القادة العسكريون والدينيون مع الشعب، لكنها مجرد تسكين تدفع بهم إلى الخراب، وتدخل بهم إلى محاكمة الله لهم [14].

تقوم زينة العروس الداخلية على الشركة مع الله، أساسها التوبة الصادقة وختان القلب. لا تعطي أذنها للكلمات المهَّدئة للنفس إلى حين، الكلمات الطيبة اللينة، لكنها مخادعة، إذ تسمع "سلام، سلام، ولا سلام" (6: 14). هذه التي قال عنها الرب: "بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي؛ لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم، برؤيا كاذبة وعرافة وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم... وهم يقولون: لا يكون سيف ولا جوع في هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء، والشعب الذي يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف، وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم، واسكب عليهم شرهم" (14: 14-16). هؤلاء "يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب" (23: 26).

لترفض الكنيسة هذه الكلمات، ولتتقبل كلمات الله النارية، حتى وإن بدت قاسية ومُرّة، لكنها هي نار إلهية قادرة أن تهيئها كعروس مزينة لرجلها (رؤ 21: 2).

زينة العروس لا السلام القائم على كلمات الكذب التي نستطيب لها، وإنما على كلمات الرب التي تنزل على القلب كسيفٍ تبتر كل أثر للغرلة، وتحطم شره، ليُعلَن كمقِدسٍ للرب ومسكنٍ لروحه القدوس. لنقبل كلماته الجارحة، التي بجراحاتها تشفي جراحاتنا!

إلى يومنا هذا لا تزال النفس تنخدع لا بكلمات الأنبياء الكذبة الخارجين بل بالذين هم في داخلها، الأفكار الخطيرة المخادعة، لتستكين للخطية وتضرب بالشركة الإلهية والوصية عرض الحائط. مثل هذه النفس يبكى عليها السيد المسيح كما على أورشليم، قائلاً: "إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومكِ هذا ما هو لسلامكِ، ولكن الآن قد أُخفي عن عينيكِ، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤكِ بمترسة ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة، ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ لأنكِ لا تعرفين زمن افتقادكِ" (لو 19: 42-44).

بعدما يقدم الله تأديبه يحذر من العقوبة الأبدية... فقد سمح لهم بالسبي، لكن إن لم يرجعوا يسقطون في دينونة أبدية، إذ يقول: "في ذلك الزمان يقال لهذا الشعب ولأورشليم: ريح لافحة من الهضاب في البرية نحو بنت شعبي، لا للتذرية ولا للتنقية. ريح أشد تأتي لي من هذه. الآن أنا أيضًا أحاكمهم" [11-12].

إنه يتحدث مع شعبه كابنته "بنت شعبي" أو ربما" ابنتى الشعب my daughter-people" (11؛ 8: 19، 21، 22)، مؤكدًا مدى اهتمامه بالشعب المنتسب إليه كابنة له، وإن كانت تقابل حبه واهتمامه بالعصيان. لقد سمح لها بالسبي كريحٍ للتذرية، تفصل الحنطة عن الزوان، وبالتنقية كالنار التي تنقي الذهب والفضة... لكنه إذ يحل يوم الدينونة تصير العقوبة أبدية!

4. إدراك خطة الله وقبول التأديب:

إذ ترفض النفس الكلمات الكاذبة لتقبل كلمة الله الحية تكتشف خطة الله من نحوها، خاصة من جهة تأديبها. وكما يؤكد هذا السفر في أكثر من موضع أن ما يحل بيهوذا من تأديبات خاصة السبي إنما هو بسماحٍ إلهي، لكنه هو ثمر طبيعي لشر يهوذا، وكشف عن حقيقة طبيعة الخطية التي قبلها يهوذا بإرادته.

شبَّه السبي القادم بصعود أسدٍ من غابته وزحف مهلك الأمم لتخريب الأرض [7]. مرة أخرى يشبهه بهبوب ريح عاصفة سريعة التدمير:

"هوذا كسحابٍ يصعد،

وكزوبعة مركباته،

أسرع من النسور خيله،

ويل لنا لأننا قد أُخربنا" [13].

إنها صورة مؤلمة لهجومٍ عنيفٍ يثيره العدو... يظهر كسحابٍ من يقدر أن يصعد إليه ليحاربه أو يمسك به؟! وكزوبعة عاصفة قادمة من الصحراء من يقدر أن يصدها؟! وكخيلٍ له سرعة النسور من يقف أمامها؟!

أليست هذه هي صورة حرب عدو الخير للنفس التي تُسلم ذاتها للشر، إذ يصعد الشر في القلب بروح الكبرياء ليهوى بالإنسان إلى أعماق الجحيم، فيكون كسحابٍ مخادعٍ لا يحمل مياه النعمة التي تروى الأرض فتقدم ثمرًا، بل سحاب الكبرياء وحب المجد الباطل. إنه كزوبعة عاصفة تفقد النفس بصيرتها الروحية وقدرتها على معرفة أسرار الله، وكالخيل المسرع بعنف يحطم ويخرّب، في سرعة النسور التي تخطف الفريسة وتنطلق بها.

ما يحل بنا من تأديبات إلهية هو بسماح إلهي، إذ يسمح لنا أن نذوق عربون ثمر الخطية لعلنا نرجع عنها ونلتجئ إليه. لهذا يكمل حديثه، مقدمًا علاجًا شافيًا للنفس:

"اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تخلصي،

إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!" [14].

بالتأديب الإلهي تدرك النفس حاجتها للغسل لكي تخلص، أي لتنعم بشركة المجد... فتحمل جمال عريسها وبهاءه عليها.

هذا الغسل هو من نعمة الله الغنية، لكن الله لا يغسلها بغير إرادتها، لذا يقول: "اغسلي". الأمر بين يديها، لها أن تسلم ذاتها لروح الله القدوس فيغسلها، ولها أن تبقى في خطاياها وسط عنادها وعصيانها.

يقول الأب شيريمون: [في هذا كله إعلان عن نعمة الله، وحرية الإنسان، حتى متى رغب في السلوك في طريق الفضيلة يقف سائلاً مساعدة الرب[130]].

ويرى الأب سيرينوس في هذه العبارة تأكيدًا لسلطان الإنسان على الخطية، إذ يقول:

[إذا ما جاهدنا كبشرٍ ضد الاضطرابات والخطايا تصير هذه تحت سلطاننا، وفق إرادتنا، فنحارب أهواء جسدنا (الشريرة) ونهلكها، ونأسر حشد خطايانا تحت سلطاننا، ونطرد من صدورنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المئة روحيًا (مت 8: 9)[131]].

يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن الاغتسال الداخلي، فيقول: [إن تصلي بأيدٍ غير مغسولة هو أمر تافه، أما أن تصلي بذهنٍ غير مغتسل فهو أبشع الشرور. اسمعوا ما قيل لليهود الذين انشغلوا بالدنس الخارجي: "إغسلي من الشر قلبك يا أورشليم... إلى متى تبيت في وسطكٍ أفكارك الباطلة؟!" [14]. ليتنا نحن أيضًا نغتسل لا بالوحل وإنما بماءٍ نظيف، بالصدقة لا بالطمع. لنحد عن الشر ونفعل الخير (مز 27: 27)[132]].

ليغتسل قلبنا، الذي هو أورشليمنا الداخلية، فيقدر على معاينة الرب، ويقبله ساكنًا فيه، بل ويبيت، عوض أفكارنا الباطلة التي استقرت واستراحت فيه زمانًا طويلاً!

يعود فيذكرنا بأن التأديب قد أوشك حلوله قريبًا جدًا، إذ بلغ صوت القادمين جبل دان وانتقل بسرعة البرق إلى جبل إفرايم [15] ليبلغ أورشليم ذاتها. فلا مجال للتأخير بعد!

لا يليق بها أن تلوم الرب المؤدب أو تلوم أداة التأديب، بل تلوم نفسها، إذ يقول:

"لأنها تمرَّدت عليّ يقول الرب.

طريقك وأعمالك صنعت هذه لكِ

هذا شركِ، فإنه مرّ، فإنه قد بلغ قلبك" [17-18].

بإرادتك اخترت الشر والعصيان، فاحتلت المرارة قلبك عوض ملكوت الله المفرح!

كما يقول: [لنغتسل نحن أيضًا لا بالوحل بل بماء لائق، بالصدقة لا بالطمع. لنترك الشر ونصنع الخير (مز 37: 27)[133]].

5. قبول الأنبياء الحقيقيين:

إن كان يليق بالعروس أن ترفض كلمات الأنبياء الكذبة المعسولة لتدرك خطة الله لخلاصها من خلال التأديب، فتغتسل لا بالمياه بل بدموع التوبة، فإن النبي لا يقف ناقلاً لكلمات الله فحسب وإنما كعضو في العروس يئن ويتوجع لآلامها.

لا يمكننا أن نظن في الأنبياء أو المعلمين أنهم ناقلون لكلمة الله فحسب، ومعلنون عن مشيئته الإلهية، ومصلون لأجل الشعب، وإنما هم رجال الله المملئون حبًا... أعضاء في الجسد، يئنون ويذوبون مع كل ألم! لهذا يقول إرميا النبي:

"أحشائي أحشائي!

توجعني جدران قلبي!

يئن في قلبي.

لا أستطيع السكوت! [19].

هنا يكشف النبي عن حبه الشديد لشعبه. يتحدث لا كمعلمٍ قاسٍ، ولا كمنذرٍ فحسب، وإنما يتكلم من خلال أحشائه الداخلية، إنها تتمزق، وجدران قلبه تتوجع... أنينه الداخلي لا ينقطع، وهو يرسم أمامه صورة بلوى تلحق بأخرى هذه التي ستحل بهم! كم كان يود ألا يحمل إليهم هذا النبأ المرّ. لكنه لم يمكن ممكنًا له أن يصمت، وهو يرى الخطر يحل بهم. لقد شعر بالعجز، إد لم يعد قادرًا أن يشفع فيهم، لكنه لا يقدر ألا يتألم ويتأوه لأجلهم!

حقًا أنه يقدم كلمة الله بكل صدقٍ، لكنه وهو يقدمها يعلن أيضًا - إن صح التعبير - حزن الله على شعبه، فإنه ما كان يود لهم هذا المُرّ الذي جلبوه على أنفسهم كثمرة طبيعية لعصيانهم.

هذه هي إحساسات كل راعٍ صادقٍ في رعايته، إنه يصرخ مع صرخات الشعب بكونهم أحشاءه وجدران قلبه... يئن مع أناتهم ويشاركهم فرحهم ونموهم الروحي. يقدم أحشاءه لتتمزق ثمنًا لحبه لشعب الله!

هذا هو عمل الخطية، يُذيب قلب الشعب فيذوب معهم قلب الراعي. عندما خان الشعب الله قيل: "ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء" (يش 5: 7). هذا هو عمل الخطية. لقد حطمت الشعب كله وأفقدته كل شجاعة وقوة وصيرت قلبه كالماء يسيل وليس من يقدر أن يعين أو يسند. لهذا لا تعجب إن كان إرميا النبي إذ يدرك فاعلية الخطية المرّة يقول: "أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن في قلبي، لا أستطيع السكوت، لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب" [19]. وإذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبي: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" (مز 22: 14)، يا لبشاعة الخطية!

"سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب.

بكسرٍ على كسرٍ نُودي،

لأنه قد خربت كل الأرض.

بغتة خربت خيامي وشققي في لحظة.

حتى متى أرى الراية وأسمع صوت البوق؟!" [19-20].

سمع النبي بنفسه لا بأذنيه، بروح النبوة، ووقف على أحداث الحرب القادمة كأنه حاضر، يسمع ويرى أمورًا لا تُحتمل. إنه لم يطق أن يتطلع إلى ذلك اليوم الرهيب.

إنه يصدق صوت الرب لنفسه الداخلية أكثر من تصديقه لأصوات تسمعها الأذن، وها هو يصف الخراب الحال على الشعب، لييقظ فيهم مخافة الرب المقدسة ويحفظهم من الدينونة بالتوبة.

رأى خرابًا يجلب خرابًا بلا توقف، كل يستدعى الآخر... يرى أحداثًا مفاجئة متوالية تحل بالقرى (الخيام) والمدن (الشقق).

يقول النبي: "أحشائي أحشائي"، فقد استخدم اليهود أعضاء الجسم المختلفة للتعبير عن الخبرات النفسية. كانت الأحشاء في نظرهم مركزًا للعواطف، أو عرشًا لقواها، كما جاء في (إش 16: 11) "لذلك ترن أحشائي كعودٍ من أجل موآب" وجاء في الرسالة إلى أهل كولوسي "أحشاء رحمة" (3: 12).

في مرارة نفسه صرخ نحو الله: متى ُتنزع هذه الكارثة؟ إلى متى يرى الحرب ويسمع صوت البوق؟ يجيبه الله قائلاً بإن الأمر في أيديهم هم، فإن شرهم وغباوتهم وجهلهم للحق وإصرارهم على الفساد هو السبب، ولا علاج إلا التوبة والرجوع إليّ، إذ يجيب النبي، قائلاً له:

"لأن شعبي أحمق.

إياي لم يعرفوا.

هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين.

هم حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون" [20].

اعتاد الله ألا ينسب الشعب إليه متى صار شريرًا، لكن أمام مرارة نفس النبي يقول "شعبي"... وكأنه يقول لإرميا النبي، إن كنت مُر النفس برؤيتك ما يحل بهم، فإنهم شعبي، لا أود أن أقسو عليهم... هم ألقوا بأنفسهم في الفساد لأنهم لم يعرفوني معرفة الإله الذي يملك على القلب، ومعرفة المخلص المنقذ من الفساد، معرفة الصديق المحب... معرفتهم لي شكلية، لا معرفة الخبرة الحية. إنهم جاهلون وغير فاهمين، يلقون أنفسهم بأنفسهم في المرارة.

لقد وهبتهم الحكمة لكنهم استخدموها في عمل الشر لا في الصلاح. أساءوا إليّ وإلى عطاياي لهم.

نخلص من هذا كله أن صرخات الأنبياء الحقيقيين ليست إلا صدى لصوت الله الذي لا يطيق فساد عروسه وغباوتها وجهلها، بل يطلبها عروسًا مزينة بحكمته ومعرفته الحية.

هذه هي الزينة التي يطلبها الأنبياء الحقيقيون لا الكاذبون.

يلقب القديس إكليمنضس الإسكندري المؤمن الحقيقي "غنوسيًا"، أي صاحب معرفة: [يجب على الغنوسي أن يكون كثير المعرفة[134]].

[الغنوسي الذي أتحدث عنه يدرك ما يبدو للآخرين غير مدرك، إذ يؤمن أنه ليس شيء غير مدرك لدى ابن الله، وليس شيء لا يمكن تعلمه. الذي تألم حبًا فينا لا يخفي شيئًا من المعرفة اللازمة لتهذيبنا[135]].

[يبدو لي أنه يوجد أمور ثلاثة في قدرة الغنوسي:

أولاً: معرفة الأشياء؛

ثانيًا: تنفيذ ما يقترحه اللوغوس (الكلمة)؛

ثالثًا: القدرة على تقبل الأسرار المخفية في الحق[136]].

6. الشبع والاستنارة:

يجيب إرميا النبي مؤكدًا أن الجهل هو سبب الخراب الذي يحل بالشعب، فإن ما يحل من تأديبات إنما يكشف عن الفراغ أو الخراب الداخلي للشعب كما للنفس، وأيضًا عن الظلمة الداخلية التي تفسد البصيرة.

ما رآه النبي هو انعكاس لما هو خفي في حياة الشعب.

"نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية،

وإلى السموات فلا نور لها.

نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف.

وكل الآكام تقلقلت.

نظرت وإذا لا إنسان،

وكل طيور السماء هربت.

نظرت وإذا البستان برية،

وكل مدنها نُقصت من وجه الرب من وجه حمو غضبه" [23-26].

التصوير الذي يقدمه لنا إرميا النبي هنا يذكرنا بما ورد في الأصحاح الأول من سفر التكوين حين كانت الأرض خربة وخالية، وكان الظلام سائدًا، ولم تكن هناك حياة!يكرر النبي كلمة "نظرت" أربع مرات، وكأنه تطلع إلى العالم بجهاته الأربع (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، فماذا رأى؟ رأى شبه عودة إلى ما قبل الخلقة كما وردت في سفر التكوين:

أرض خربة وخاوية،

ظلمة عوض النور،

ارتجاف للجبال الثابتة،

هروب للطيور،

عالم قفر لا يسكنه إنسان وبلا نباتات! لقد أفسدت الخطية العالم الجميل المثمر الذي خلقه الله لأجل الإنسان. لقد حطم الإنسان نفسه وحطم معه الخليقة الأرضية!

ما هي الأرض إلا جمهور الشعب الذي كرَّس طاقاته للعبادة الوثنية ورجاساتها، فصاروا كأرض خربة. وما هي السموات إلا القيادات الدينية والمدنية التي كان يجب أن تنير الطريق للعامة، لكنها صارت كسموات بلا نور، تبعث حالة من الضيق والكآبة.

وما هي الجبال إلا النفوس التي كان لها دورها القيادي الشعبي، يظن الكل أنهم راسخون كالجبال، فإذا بهم يرتجفون...

لعله قصد بالجبال والآكام المرتفعات التي بُنيت عليها المذابح الوثنية وُقدمت عليها ذبائح للأصنام؛ عوض أن تحميهم، صارت ترتجف وتتقلقل، تحتاج إلى من يسندها!

اختفاء كل إنسان إشارة إلى اختفاء كل تعقل حكيم، وهروب طيور السماء إشارة إلى فقدان الأمان، وتحول البستان إلى برية علامة الخراب الكامل...

إن كان إصرار الإنسان على الشر وعدم رغبته في التوبة والرجوع إلى الله يحرمه من عمل روح الله القدوس فيه، فإنه يعود إلى حال الأرض قبل أن يرف عليها روح الله ليخلق منها عالمًا جميلاً...

أقول ما أحوجنا إلى الرجوع إلى الخالق، ليعمل بروحه القدوس فينا:

عوض الأرض الخربة الخالية نجد عالمًا جميلاً، بمعنى عوض الجسد بشهواته الفاسدة نتسلم جسدًا مقدسًا في الرب.

عوض السموات التي بلا نور تشرق فيها الشمس، بمعنى عوض النفس التي سادتها الظلمة يشرق شمس البر فيها.

عوض الجبال التي ترتجف والآكام التي تتقلقل نرى ثباتًا وأمانًا... بمعنى تتحول إمكانياتنا وقدراتنا ومواهبنا للبناء بقوة، لا يزعزعها العالم كله!

عوض الفراغ حيث لا إنسان ولا طير، تمتلئ قلوبنا بالشركة مع القديسين والسمائيين، فنجلس مع مسيحنا في السمويات.

عوض البرية تصير قلوبنا بستانًا مثمرًا؛ ندعو مسيحنا أن يأكل من ثمر جنته التي فينا.

عوض هروب المدن من وجه الرب ومن وجه حمو غضبه، نجتذب الكثيرين للتمتع بالحضرة الإلهية!

بمعنى آخر جمال العروس يمتد إلى تقديس الجسد والنفس والطاقات والمواهب... فتتمتع بشبعٍ روحي واستنارة روحية فائقة.

الله الذي يطلب شبعنا واستنارتنا حين يؤدب يعطينا فرصة للرجوع إليه، إذ يقول: "خرابًا تكون الأرض، ولكنني لا أفنيها" [27]. إنه يترك بقية يقدسها وينميها... إنه لا يود أن يُفنى، بل أن يُقدس ويبني!لئلا بقوله: "لا أفنيها" يتهاون الشعب ويستغل مراحم الله، عاد ليؤكد التأديب القاسي: "من أجل ذلك تنوح الأرض، وتظلم السموات من فوق، من أجل أني تكلمت قصدت ولا أندم ولا أرجع عنه" [28]، إنه لا يرجع عن تأديبه لهم ماداموا لا يرجعون إليه...

7. ترك البر الذاتي:

إن كان الله يطلب شبع العروس واستنارتها، فإنه يؤكد عجزها عن تحقيق ذلك بنفسها، فهي في حاجة إليه بكونه مصدر جمالها وشبعها واستنارتها:

"وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟

إذا لبستِ قرمزًا، إذا تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ بالإثمد عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك، فقد رذلكِ العاشقون" [30].

إن ظنت نفسها غنية تلبس القرمز، وإن خزائنها مملوءة بالجواهر الذهبية، وجميلة تكحل عينيها بالإثمد... تبقى مرذولة ليس من الله فقط بل حتى من عاشقيها. لقد كحلت إيزابل الملكة الشريرة عينيها بالإثمد، وزينت رأسها، وتطلعت من الكوة... لكن ياهو قال للخصيان: اطرحوها، فسال دمها على الحائط وعلى الخيل (2 مل 9: 30-33).

كانت النساء يكحلن أعينهن بالاثمد لإبراز اتساع العينين علامة الجمال في العالم القديم. هكذا فعل هذا الشعب، صار كامرأة تتزين وتبرز جمالها لأصحابها، فإذا بهم يصيرون قاتليها!

مسكين الإنسان الذي في جهاده الروحي يتكئ على بره الذاتي، يفقد كل جمالٍ داخلي بل ويصير قاتلاً لنفسه، ويسمع التوبيخ الإلهي: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفي بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك، وكحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 17-18).


 

من وحي إرميا 4

لتعكس جمالك عليّ

v     خلقتني عل صورتك ومثالك، 

أيها الكليّ البهاء!  

بغباوتي وعصياني وخطإياي أفسدت طبيعتي! 

ها أنا أعود إليك بالتوبة، 

فيرد لي روحك القدوس جمالي!  

يعكس جمالاً على أعماقي، 

 فأسترد صورتك،  

وأنعم ببهاء مجدك داخلي!

v     ما أسهل أن تمتد يد بشرية لختان الجسد، 

 لكن من يقدر أن يختن قلبي! 

 هوذا قلبي وأعماقي بين يديك، 

 اختنها بصليب حبك أيها الحبيب المخلص!  

انزع عني غُرل قلبي هذا الذي شوّه كل جمال فيّ!

v     هب لي أن أستخدم صليبك محراثًا يهيء قلبي للزرع! 

ينتزع عنه كل أشواك هموم العالم،  

ويعده لقبول كلمتك الحية، 

 فأحمل ثمارًا: ثلاثين وستين ومائة!  

أحمل مع جمال النفس الداخلي ثمر الروح الأبدي!

v     استمع شعبك قديمًا لكلمات الأنبياء الكذبة المعسولة! 

 ظنوا أنهم في سلام، 

ولم يُدركوا أن السبي على الأبواب!  

هوذا أفكار الشر تلاحقني في داخلي! 

 أظنها مصدر لذة وسلام! 

ولم أعلم أنها تقتل أعماقي وتسبي حريتي!  

هب لي مع جمال النفس حريتها الداخلية أيها المحرر الحقيقي!  

حرّرني من أفكاري الخاطئة المعسولة،  

واهبًا لي أفكارك المقدسة!

v     هوذا يدك تمتد لتأديبي،   

عرفني خطتك، فليس من يحبني مثلك؟  

ليس من يشتهي جمال أعماقي مثلك؟  

عجيب أنت أيها القدوس في حنوّك!   

وعجيب أيضًا أيها المخلص في تأديباتك!

v     إن كانت أحشاء أولادك تحترق لأجل خلاص نفسي،  

كم يكون بالأكثر حبك،  

يا من وحدك بذلت ذاتك عني!  

افتح عن عيني فأرى أحضانك الملتهبة لأجلي!

v     هب لي يا رب أن أصرخ مع نبيك:  

أحشائي! أحشائي

جدران قلبي توجعني!  

لا أستطيع أن أصمت!  

أعطني قلبًا محبًا لخلاص كل نفسٍ!  

يلتهب مع سقوط كل أحدٍ، 

ويئن مع أنين كل نفسٍ!

v     هب لي جمالاً داخليًا:  

هب لي معرفتك يا قدوس، فلا أعيش في جهالة!  

هب لي شبعًا، فلا أعتاز إلى أحدٍ ولا إلى شيءٍ! 

هب لي استنارة، فأحمل بهاءك في داخلي.

v     أعترف لك يا خالقي ومخلصي: 

 صار جسدي أرضًا خربة وخاوية،  

حوِّله إلى بستان يقدم ثمر الروح!  

صارت نفسي سماءً لا نور لها، 

اجعلها سماواتك تنعم بنورٍ إلهي، 

تقيم فيها ملكوتك المفرح! 

هوذا الجبال في داخلي ترتجف والآكام تتقلقل،  

ثبت أعماقي فيك أيها الصخرة الحقيقية! 

هوذا كل طيور السماء هربت من داخلي،  

هب لي جناحيّ الروح فأطير وأستقر في أحضانك!

v     أخيرًا لقد بذلت كل الجهد لأُجمل نفسي، 

فتحطمت يداي بالبر الذاتي، 

صرت أضحوكة أمام معيريّ. 

مِدّ يدك أيها الُكلّي الجمال،  

نعمتك قادرة أن تسكب جمالك في! 

أنت هو قوتي وتسبحتي وجمالي!

<<


 

الأصحاح الخامس

سرّ التأديب

إن كان الله قد دعى عروسه لكي تتجمل له بالزينة الداخلية، ففي عتابٍ تسأله: "لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟" [9] لماذا يستخدم الله كلمته النارية المؤدبة بقسوة؟

الله كعريسٍ سماوي يتجاوب مع عروسه بروح الحوار المفتوح، وكأب يوضح لأولاده سرّ معاملاته معهم حتى لا يسقطوا في التذمر أو اليأس، ولا يظنوا أن الأمور تسير اعتباطًا، إنما يليق بهم أن يتفهموا خطة أبيهم حتى يثقوا فيه ويرجعوا إليه.

1. لم يجد بينهم بارًا واحدًا[1-2].

2. لم يقبلوا التأديب الأوَّلي[3-6].

3. أساءوا استخدام عطاياه[7-9].

4. قبلوا كلمات المخادعين[10-18].

5. فقدوا البصيرة الداخلية[19-24].

6. اصطادوا الآخرين[25-29].

7. تجاوبوا مع الرعاة في الشر[30-31].

1. لم يجد بينهم بارًا واحدًا:

إن كان الله هو الذي يتساءل أو نبيّه إرميا عن إمكانية وجود شخصٍ واحدٍ يعمل بالعدل، فإن الأمر حقًا محزن للغاية.

"طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها،

هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!" [1].

إذ أراد إبراهيم أن يشفع في سدوم وعمورة قال لله: "أفتهلك البار مع الأثيم؟! عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًا الذين فيه؟!" (تك 18: 23-24). وإذ دخل معه في حوار طلب في النهاية أن يصفح عن المكان من أجل عشرة، لكنه لم يجد فيها عشرة أبرار. أما هنا فالله يطلب أن يجد في أورشليم إنسانًا واحدًا عاملاً طالبًا الحق لكي يصفح عنها. لم يجد إنسانًا بارًا بين القادة المدنيين والدينيين ولا بين العامة من الشعب!

كان يوسف الشاب الصغير الغريب بارًا، من أجله بارك الرب بيت فوطيفار، ومن أجله أنقذ مصر كلها والبلاد المحيطة بها من المجاعة.

يعبر إشعياء النبي عن حال الشعب وقد فقدوا كل قدسية: "لأن الصدق سقط في الشارع، والاستقامة لا تستطيع الدخول، وصار الصدق معدومًا، والحائد عن الشر يُسلب؛ فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل" (إش 59: 14-15).

حقًا إن كان الله يدعونا للشهادة لإنجيله، فإن حياتنا الإنجيلية المقدسة وسلوكنا ببر المسيح يرفع غضب الله عنا وعن عائلاتنا وعن كنائسنا وعن بلادنا وعن العالم!

الله يطلب إنسانًا لكي يصفح عن أورشليم. ُترى من هو هذا إلا ابن الإنسان، الله الكلمة، الذي صار بالحق إنسانًا لكي بدمه يكفر عن خطايا العالم كله؟! "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 1-2).

هذا هو الشفيع الذي يسكن القلب "أورشليم الداخلية" فيصنع صلحًا للنفس والجسد بكل طاقاتهما مع الآب. هذا الذي يفرح به الآب ويطلبه قائلاً: "طوفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!" [1]. إنه ربنا يسوع المسيح المختبئ في أورشليمنا الداخلية الذي به ننال الصفح عن خطايانا!

2. لم يقبلوا التأديب الأوَّلي:

ربما يجيب أحد: كيف لا يوجد بار بينهم وهم يتعبدون لله الحيّ؟

حقًا إنهم يعبدون الله الحيّ ويحلفون به، لكن عبادتهم غير مقبولة، ولا تبررهم.

أولاً: لأنهم إذا ما حلفوا بالله الحيّ، يحلفون بالكذب [2]. لقد غضب إرميا إذ رآهم يطلبون الله شاهدًا وهم يكذبون. لقد ظنوا أن مجرد ذكر اسم الله يكون درعًا وحماية لهم، وفاتهم أن هذا يزيد غضب الله عليهم، لأنهم يحلفون باسمه باطلاً.

ثانيًا: كانوا غير مستقيمين، يحلفون بالله الحيّ كما يحلفون بالآلهة الوثنية، إذ يقول في نفس الأصحاح: "كيف أصفح لكِ عن هذه؟! بنوكِ تركوني بما ليس آلهة" [7].

مما أحزن قلب الله أن الجميع - الفقراء والعظماء - قد أبوا قبول التأديب الإلهي، وعوض الرجوع إلى الله ازدادوا قساوة، فصارت وجوههم أكثر صلابة من الصخر.

"يارب أليست عيناك على الحق (الأمانة)؟

ضربتهم فلم يتوجعوا.

أفنيتهم وأبوا قبول التأديب.

صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر.

أبوا الرجوع" [3].

يقول النبي: "يارب أليست عيناك على الأمانة؟"

قبل أن يتحدث عن التأديب يؤكد النبي أن الله في تأديباته كما في لطفه يتطلع إلى الأمانة. يريد "الإيمان" الحيّ عاملاً فينا، لنكون أمناء حقيقيين، فننعم بالحق.

إنه يتطلع إلى مؤمنيه كأحباء يستحقون التمتع بنظراته، أما الأشرار المصرون على شرهم فلا يستحقون التطلع إليهم.

يقول العلامة أوريجينوس: [كما أن "عيني الرب على الصديقين" (مز 33: 16)، ويحول عينيه عن الظالمين، كذلك عيناه على الإيمان، ويحولها عن عدم الإيمان...

يقول القديس بولس: "أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.

كما أن عينَيْ الرب على الإيمان، فهما أيضًا على الرجاء، كذلك على المحبة.

وبما أن الروح هو "روح القوة والمحبة والنصح" (2 تي 1: 7)؛ إذن فعينا الله على القوة وأيضًا على النصح والحق، وباختصار فإن عيني الرب على جميع الفضائل.

إن كنت بدورك تريد أن تضيء عينا الرب عليك، يلزمك أن تلبس الفضائل... فيُقال عنك: "يارب عيناك على كل شخص فاضل اقتنيته لك".

إذ تنير عينا الرب عليك، تقول: "قد ارتسم علينا نور وجهك يارب" (مز 4: 7)[137]].

حين يؤدب الرب يطلب أن نرجع إليه فنمارس الحياة الإنجيلية المقدسة، وننعم بنظراته الإلهية التي تشرق علينا بنور المعرفة. هذا هو هدف الله من تأديباته لنا، لكن الأشرار المصِّرين على شرهم لا ينتفعون من التأديبات، إذ قيل: "ضربتهم (جلدتهم) فلم يتوجعوا".

يقول العلامة أوريجينوس:

[لننظر ماذا قيل بعد هذا عن الخطاة؟ "جلدتهم فلم يتوجعوا".

حين تُضرب الأجساد الحية بالسياط المنظورة في هذا العالم يتألم المضروبون، إن أرادوا أو لم يريدوا. أما بالنسبة لسياط الله فالأمر غير ذلك، يتألم بعض المضروبين والبعض لا يتألمون.

هلم نرى ماذا يعني التألم بواسطة سياط الله، وعدم التألم منها.

بائسون هم الذين لا يتألمون من سياط الله، ومطوّبون هم الذين يتألمون منها. يقول سفر الحكمة في هذا الشأن: "وإنما كانوا يُجربون (يُنخسون) بهذه ليذكروا أقوالك ويخلصوا سريعًا لئلا يسقطوا في نسيانٍ عميقٍ فلا يتمكنوا بمعونتك" (حك 16: 11). وأيضًا: "من يضع سوطًا لأفكاري، وختم الحكمة على شفتي، لكي لا يشفقوا على جهالاتي، وأهلك بسبب خطاياي" (راجع ابن سيراخ 22: 27 ؛ 23: 2-3).

دقق النظر في هذه الكلمات: "من يضع سوطًا لأفكاري؟!" توجد سياط لضرب الأفكار. سياط الله تضرب الأفكار؛ حينما ينفرد الكلمة بالنفس على جنب ويضغط عليها حتى يثور ضميرها على أخطائها التي ارتكبتها، يكون قد ضربها بالسياط. إنه يضرب الإنسان المطوَّب، الذي يتألم من الضرب، لأن كلمات الله تؤثر على نفسه، ولا يلقى بالكلمات باستخفاف لأنها أخجلته. أما إذا وُجد إنسان، يمكن أن يُقال عنه أنه عديم الحس، هذا يُقال عنه: "جلدتهم فلم يتوجعوا" [3].

يُمكن أيضًا تفسير "لم يتوجعوا" بطريقة أخرى.

توجد في الجسد بعض أعضاء قد تضمر وتموت... الفارق كبير بين الأعضاء الحية والميتة. فإذا قمنا بعلاج عضو حيّ يتألم الشخص، بينما إذا اُستخدم نفس العلاج لنفس الشخص بالنسبة للعضو الميت فإنه لا يشعر بشيء، لأنه بالنسبة له العضو ميت.

ما قلناه عن الجسد ينطبق على النفس، فهى أيضًا يمكن أن تكون ميتة في أعضائها فلا تشعر بضربات السياط مهما كانت شدتها. حتى إن اُستخدمت العذابات المخيفة لن تتأثر بها، بينما يمكن لنفس أخرى أن تتأثر وتتوجع.

يكون الإنسان أكثر حزنًا عندما لا يشعر بالألم الساقط عليه مما لو كان شاعرًا به، فإنه يرجو بالأحرى أن يتوجع عندما تحل به الآلام، لأن هذا دليل على أنه لا يزال حيَّا. إنه يحزن لعدم شعوره بالضربات. فإن العبارة "يشتاقون أن يكون للحريق مأكلاً للنار" (إش 9: 4)، تشير إلى الذين لا يتوجعون حين تحل بهم الجلدات، إن أدركوا الفارق بين الذين يتوجعون والذين لا يتوجعون، يشتاقون إلى الإحساس بحروق النار عن عدم الشعور بها. وأيضًا عند الاقتراب من النار المعدة للخطاة يرجون أن يشعروا بها عن عدم الشعور بها[138]].

يعلق أيضًا على العبارة: "أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" [3]، قائلاً: [الله في عنايته ورحمته يقوم بعمله التطهيري من أجل خلاص النفس، ويذهب في هذا العمل حتى النهاية (الفناء) من جانبه. فإن كل ما يحل علينا من قبل العناية الإلهية يهدف إلى كمالنا، ومع هذا نحن لا نقبل التأديبات الإلهية التي تقودنا إلى الكمال[139]].

يُشبَّه الله بالمدرس الذي يقدم الدروس بالكامل، باذلاً كل جهده لتعليم التلاميذ، بعضهم يقبل التعليم والآخرون يرفضون.

يعلق أيضًا نفس العلامة على العبارة: "صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر" [3]، قائلاً:

[يوجد بين الخطاة من يخجلون ويختبئون عند سماعهم كلمات التوبيخ، فيخضعون لها إذ تؤثر فيهم، كما يوجد من لا يخجلون من التوبيخ على تصرفاتهم وخطاياهم التي ارتكبوها، فيمكن أن يُقال عنهم: "صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر" [3]... لنطبق ذلك على النفس، آخذين في اعتبارنا أنها هي الوجه الذي قيل عنه: "(ننظر) وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12). فالنفس أحيانًا تكون صلبة وقاسية أكثر من نفس فرعون، تقاوم الإنذارات، وترفض كل ما يُقال لها، بدلاً من أن تترك ذاتها تتشكل من جديد خلال الإنذارات[140]].

من جهة رفض التأديبات الإلهية التي تعين النفس على تجميلها روحيًا يرى النبي وجود فريقين:

1. فريق دعاه "المساكين"، هؤلاء ليسوا مساكين بالروح، أي ليسوا متواضعين فينالوا ملكوت الله (مت 5: 3)، إنما هم مساكين بسبب الجهل الروحي، لا يدركون ما وراء التأديبات الإلهية من عمل إلهي، يتذمرون على الضيق ولا يتوبون. عن هؤلاء يقول إرميا النبي: "إنما هم مساكين، قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم" [4]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لإن إرميا قد عرف أن هذه الأشياء (التأديبات) تخص الذين لا يريدون أن يتعلموا والذين لا يفهمون شيئًا عن سياط الله. فإنه يقول بشأن موقفهم هذا: "إنما هم (نفوسهم) مساكين"[141]].

2. فريق آخر دعاه "العظماء": إذ شعر بمرارة من جهة غير المتعلمين روحيًا انطلق إلى أصحاب المعرفة، أي القيادات الدينية، ليتحدث معهم، فوجد الكبرياء عائقًا عن قبولهم تأديبات الرب. وكأن المساكين يرفضون التأديب عن جهالة، والعظماء عن كبرياء... "أنطلق إلى العظماء وأكلمهم لأنهم عرفوا طريق الرب قضاء إلههم. أما هم فقد كسروا النير جميعًا وقطعوا الربُط" [5].

يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار المساكين يرفضون فهم خطة الله للتأديب، لهذا يطلب من نبيه إرميا أن يتحدث معنا نحن المسيحيين كعظماء، إذ يقول: ["انطلق إلى العظماء (الأقوياء) وأكلمهم".

الذين هم عظماء وأقوياء في نفوسهم ذكرهم الكتاب بالتطويب.

عندما ينشغل إنسان بأعمالٍ عظيمة، ويكون لديه طموحات ذات قيمة، ويضع باستمرار أمام عينيه أهدافًا واضحة ليعيش دائمًا بحسب الحق الصحيح، ولا يريد حتى أن ينظر إلى أي شيء تافه أو صغير، فإن مثل هذا الإنسان تكون عنده القوة والعظمة في النفس. أما هؤلاء الآخرون الذين كانوا "مساكين" فإنهم لم يسمعوا لكلام الرب كما يقول النبي؛ ولكي نكون أكثر تدقيقًا فإنهم لم يسمعوا لأنهم كانوا مساكين.

إذ قيل هذا الكلام لنا نحن أيضًا، فلنصلِ إلى الله حتى نأخذ من عنده قوة وعظمة تمكننا من الاستماع لتلك الكلمات المقدسة، عالمين أن الذين ينطقون بكلمات التوبيخ لا يخسرون شيئًا مثلما يخسر الذين يسمعون ولا يقبلون هذا التوبيخ، والذين يتهمهم إرميا بأنهم مساكين في عقولهم وأفكارهم[142]].

إذ رفضوا تأديبات الرب، وأبوا الرجوع إليه سقطوا فريسة لعدو الخير، الذي يشبه أسد الوعر، وذئب المساء، والنمر الكامن حول مدنهم، قائلاً:

"من أجل ذلك يضربهم الأسد من الوعر.

ذئب المساء يهلكهم.

يكمن النمر حول مدنهم.

كل من خرج منها يُفترس، لأن ذنوبهم كثرت، تعاظمت معاصيهم" [6].

إذ ازداد الجهلاء والمثقفون في عنادهم ومقاومتهم لإرادة الله لم يبقَ أمامهم إلا الهلاك الأكيد الذي لا مفر منه، وذلك بواسطة:

أ. الأسد: "يضربهم الأسد من الوعر" [6].

وُجدت الأسود في فلسطين حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد انقرضت. من أحب الأماكن لسكناها هناك هي الغابات والأحراش القائمة على ضفتيّ الأردن (49: 19؛ 50: 44)، كما وُجدت في جبل حرمون (نش 4: 8)، وفي السامرة (2 مل 17: 25)، وفي البرية الواقعة جنوب يهوذا (إش 30: 6).

كان صيد الأسود هو الرياضة المحببة لدى ملوك الأشوريين.

أُستخدمت أشكال الأسود في هيكل سليمان (1 مل 7: 29، 36)، وفي عرشه (1 مل 10: 19-20).

يُستخدم الأسد كرمز لرعاية الله وحراسته لأولاده (رؤ 5: 5)، كما يُستخدم لغضبه (25: 30). أُستخدم أيضًا كرمز لإبليس المفترس (1 بط 5: 8)، وللأنبياء الكذبة المهلكين (حز 22: 5) وللملك الغاضب (أم 25: 30).

من علامات السلام في المُلك المسياني أن يربض الأسد والحمل معًا (إش 11: 7)، كما أن المخلوقات الحية الحاملة عرش الله تحمل شكل وجه أسد (حز 1: 10؛ رؤ 4: 7).

هنا - في هذا الأصحاح - يضرب الأسد من الوعر، يُهلك بلا رحمة، قادمًا من البرية!

ب. الذئب: "ذئب المساء يهلكهم" [6].

يختلف الذئب في فلسطين عنه في أوربا، وهو لا يزال موجودًا فيها. يتصف الذئب بشدة الافتراس والشراسة (إش 11: 6؛ حب 1: 8)، يفترس الغنم (جا 13: 17؛ يو 10: 12). اعتاد أن يختفي في النهار ويخرج ليلاً يطلب فريسته، لذلك يقول: "ذئب المساء يهلكهم"، إشارة إلى حلول الهلاك ليلاً وهم في غير يقظة روحية. جاء في سفر صفنيا: "لا يبقون شيئًا إلى الصباح" (3: 3).

إن كان الأسد أقوى من الذئب وأعنف منه، لكنه غالبًا مالا يفترس الإنسان مادام في حالة شبع، أما الذئب فشره، يفترس حتى وإن كان شبعانًا. وكأن الله يريد أن يؤكد لهم أنهم يصيرون فريسة للعدو حتى وإن كان العدو في غير احتياج؛ إنه يفترس لمجرد رغبته في الافتراس.

اُستخدم الذئب أيضًا كمديح عندما بارك يعقوب سبط بنيامين (تك 49: 27)، مشيرًا إليهم كالذئب في المهارة الفائقة حتى لا يعوزهم طعام.

ج. النمر: "يكمن النمر حول مدنهم" [6].

كاد أن ينقرض النمر من تلك المنطقة. كان موجودًا بسبب وجود الغابات الكثيفة؛ حاليًا يوجد نادرًا في بعض المناطق غير الآهلة بالسكان بلبنان وشرقي الأردن.

يُشبَّه العدو بالنمر الذي ينتظر الغروب ليتربص للفريسة، سواء كانت إنسانًا أو حيوانًا. أحيانًا يربض ثلاثة أيام متوالية بلا حراك يترصد الصيد في صمت مرعبٍ قاتلٍ.

يُعرف النمر بقوته (د1 7: 6)، وسرعة حركته (حب 1: 8)، لذا قيل أن الوحش البحري "شبه النمر" (رؤ 13: 2). هذا ويشير إلى عدم إمكانية التغيير من طبيعة الافتراس والعنف، إذ قيل: "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!" (13: 23). لكن إن دخل النمر إلى العضوية في الملكوت المسياني تتغير طبيعته، عندئذ "يربض النمر مع الجدي" (إش 11: 6).

في رسالة للقديس كبريانوس يتحدث فيها عن عدم التجاوب مع تأديبات الرب يقول: [هوذا الضربات حالة من عند الله، ولا توجد مخافة الرب! هوذا اللطمات والجلدات من فوق ليست معدومة ولا يوجد رعب ولا خوف!]

كما يقول الأب غريغوريوس الكبير في كتابه عن الرعاية:

[هناك فارق بين أن تنصح الذين يخافون التأديب فيعيشون في نقاوة، والذين يتقسون في الشر فلا ينصلحون حتى بالتأديبات].

[إنه يجلب علينا نار الضيقة لكي ينقينا من صدأ الرذائل، لكننا لا نتخلص من صدأنا بالنار مالم نترك الرذائل وسط الضيقة].

3. أساءوا استخدام عطاياه:

كشف لهم عن سبب تأديباته لهم:

أولاً: لأنه لم يجد في أورشليم إنسانًا بارًا.

ثانيًا: عندما بدأ بالتأديب لم يستجب العامة الجهلاء ولا القادة المثقفون.

ثالثًا: لأنهم أساءوا استخدام عطاياه... أشبعهم بالعطايا، فأخذوها ليقدموها أجرة للزنا. انطلقوا على مستوى جماعي يتزاحمون في بيت زانية، أي بطريقة علنية بغير حياءٍ، صاروا حُصنًا معلوفة سائبة تستخدم طاقاتها للفساد.

إنه يعاتبهم:

"كيف أصفح لك عن هذه؟!...

ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا.

صاروا حُصنًا معلوفة.

صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه.

أما أعاقب على هذا يقول الرب؟!

أو أما تنتقم نفسي من أمة كهذه؟!" [7-9].

يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان إذ تسيطر عليه الشهوات يصير كالحيوانات العجموات، يفقد روح التمييز، بل وأحيانًا يصير في حالة أدنى منهم، لأنه عندما تحبل أنثى الحيوانات تعرفن ألاّ تقتربن من الذكور[143].

ما أرهب هذا الاتهام؟! هوذا الشعب الذي كان يجب أن يشهد لقداسة الله ويكون بركة لغيره من الشعوب قد صار فاسدًا، يشبع بخيرات الله فيزني علانية، محتقرًا الوصية الإلهية، ومتجاهلاً حق أخيه، إذ يشتهي امرأة أخيه! أما يستحق هذا الشعب العقاب؟!

ينطبق هذا الاتهام على المؤمنين الذين لهم اسم المسيحية ولا يمارسون الحياة الانجيلية، فإنهم يستخدمون بركات الله وحبه لهم، لا للشهادة لمسيحهم وإنما للانغماس في الخطية. مثل هؤلاء لا يستحقون أن يُحسبوا بشرًا بل "حصنًا معلوفة". وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

 [هؤلاء لا يمكن مقارنتهم بقديسي الله... إذ لم تعد أذهانهم تحمل صورة الله. إنما هم تافهون، ينزلون إلى المستوى البهيمي، وقيادتهم للملذات بلا ضابط تُقارن بسلوك الخيول الشهوانية (5: 8).

 وبسبب خبثهم وجرائمهم وخطاياهم المرعبة يدعون: "أولاد الأفاعي" (لو 3: 7)[144]].

يا للعجب! الله يريدنا بعطاياه الفائقة أن نصير أبناءه، نتشبه به، ونُحسب كملائكته، أما نحن فنسيء استخدامها لنحسب كحيوانات غير عاقلة شهوانية!

4. قبلوا كلمات المخادعين:

يعتبر الله قبولهم كلمات المخادعين وعدم تصديقهم إنذاراته على ألسنة الأنبياء الحقيقيين خيانة للرب نفسه، تستحق التأديب كنارٍ مطهرة، لكنها ليست للفناء، لذا يكرر تعبير "لا تفنوها" [10] و"لا أفنيكم" [18].

يوجه الله كلامه للعدو المقبل، معلنًا أنه وإن سمح له بالتدمير والتخريب، لكنه لن يسمح له بالفناء: "اصعدوا على أسوارها واخربوا ولكن لا تفنوها" [10].

يقول العلامة أوريجينوس: [ يتمهل الله في إدانة الذين يستحقون العقاب، حتى يعطيهم الفرصة للتوبة. فهو لا يعاقب على الخطية في الحال، ولا يوقع الفناء بالخاطئ، بل يتمهل في العقاب. نجد مثالاً لذلك في سفر اللاويين، في اللعنات التي قيلت لتحل على الذين يخالفون الناموس، فبعد الإعلان عن العقوبات الأولى قيل: "وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف" (لا 26: 18)... من هذا يتضح أن الله يوقع العقوبات ببطئ شديد، لأنه يريد أن يقود الخاطئ إلى التوبة، بدلاً من دفع الثمن حالاً... فالفناء لا يحل وقت ارتكابهم الخطية، وإنما في وقت لاحق، حيث يوجد عقاب للخطاة بعد الموت[145]].

يعلق أيضًا العلامة أوريجينوس على إفناء الشعب قائلاً:

[يمكننا أن نعترض، فبالرغم من تحقق السبي لم يتم فناؤها، وإنما تم الفناء الحقيقي للشعب عندما جاء ربنا يسوع المسيح.

في الواقع، طالما أن المخلص لم يقل لهذا الشعب: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا"، فإن أورشليم لم تكن خربة؛ وإنما عندما بكى يسوع على أورشليم قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (لو 13: 34)، عندئذ أصبحت أورشليم خربة. "ولقد أحيطت أورشليم بجيوش وكان خرابها قريب (لو 21: 20). ثم بعد سقوط هذا الشعب كان الخلاص لنا نحن الأمم.

لقد تم تأديبهم ولم يأت عليهم الفناء إلا عند مجيء السيد المسيح. لكنى أتساءل إن كان هذا يحدث معنا نحن أيضًا، وإن كانت هناك أنواع عديدة من التأديبات يمكن أن تحل بنا. يوجد من الناس من يكتفي بالضربة الأولى ولا يجرب الثانية، ويوجد آخرون يصلون إلى الضربة الثانية والثالثة بل وحتى إلى الرابعة. فإن العبارة: "أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف (ضربات)" تحمل شيئًا من الغموض: توجد ضربة أولى، ثم ثانية ثم ثالثة حتى السابعة لبعض الناس. فليس كل الناس يُضربون سبع ضربات، لكنني أعتقد أن البعض يُضربون بست ضربات والبعض بخمس والبعض بأربع والبعض بثلاث أو إثنين أو واحدة. ويعلم الله وحده ما هو المقصود بهذه الضربات[146]].

لعل قوله "يزيد العقاب سبعة أضعاف" في (لا 26: 18) يعني أن الله يعطي فرصة للتوبة بتأديب أوَّلي، فإن لم نرتدع يسمح بتأديب مضاعف، وإلا تأديب ثالث أقسى فرابع وخامس حتى سبعة أضعاف قبل أن نسقط في الدينونة الأبدية.

إنه يتطلع إلى الكنيسة بكونها كرمه الخاص، يسمح لها بالتأديب لكن ليس بالإبادة، فيسمح للعدو أن يصعد على أسوار الكرمة ويقطع أغصانها التي صارت غريبة عنه، متغربة عن طريقه الملوكي، لكنه يترك الأصل لعله ينبت أغصانًا مقدسة مثمرة.

"انزعوا أفنانها (أغصانها)، لأنها ليست للرب.

لأنه خيانة خانني بيت إسرائيل وبيت يهوذا يقول الرب.

جحدوا الرب وقالوا: ليس هو،

ولا يأتي علينا شرٌّ، ولا نرى سيفًا ولا جوعًا" [10-12].

لقد أنكروا الرب أو جحدوه بعدم تصديقهم تهديداته على لسان أنبيائه... إنهم يقولون: "ليس هو"، لا لأنهم ملحدون ينكرون وجوده، لكنهم ملحدون بعدم قبولهم كلماته، وعدم الثقة في كلمات أنبيائه.

يعبدون الرب في رياء إذ لا يسمعون لصوته في سلوكهم العملي، قائلين: "في قلوبهم: إن الرب لا يُحسن ولا يُسيء" (صف 1: 12).

ماذا يفعل الرب بهم إذ قبلوا خداع الأنبياء الكذبة ولم يصدقوه؟

أولاً: إذ ينطق الأنبياء الكذبة بالباطل يصيرون هم باطلاً، كالريح الذي لا يدوم، يهب فيختفي... يصيرون خيالاً. "والأنبياء يصيرون ريحًا، والكلمة ليست فيهم؛ هكذا يصنع بهم" [13]. يختفون سريعًا ويظهر بطلان كلماتهم لأن كلمة الرب ليست فيهم.

ثانيًا: يجعل كلامه نارًا في فم نبيه إرميا، تحرق الشعب كالحطب فتأكلهم [14]. لو أنهم كانوا ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة لصيرتهم النار أكثر بهاءً ونقاوة، لكن لأنهم حطب وعشب وقش تحرقهم!

يقول العلامة أوريجينوس [على أي الأحوال، للنار قوة مضاعفة: بالواحدة تـنير وبالثانية تحرق[147]]. السيد المسيح نفسه جاء إلى العالم نارًا يحرق إبليس وملائكته (لو 13: 27؛ مت 25: 41). كما يقول إن الذي يُعلم في كنيسة الله بالتوبيخ والانتهار فقط يكون نارًا تحرق ولا تـنير، أما إذا كشف أسرار الناموس وناقش الأسرار الخفية فقط فيكون نارُا تـنير ولا تحرق. لهذا يليق أن يمتزج نور المعرفة بلهيب خفيف من الحزم.

ثالثًا: يسمح بسبيهم بواسطة أمة بعيدة قوية لا يعرفون لسانها، ولا يفهمون ما تتكلم به، أمة تتكلم بلغةٍ غريبة، لغة العنف والقسوة والاستعباد بغير حوار أو تفاهم!

سمات هذه الأمة تكشف عن طبيعة الخطية التي تسبي النفس:

أ. أمة من بُعد [15]: حين ترفض النفس وصية إلهها القريب إليها جدًا، وكلمته الساكن فينا، نخضع للخطية الغريبة عن طبيعتنا والمعادية لنا.

ب. أمة قوية، أمة منذ القديم [15]: الخطية خاطئة جدًا وقتلاها أقوياء، تحارب البشرية منذ القدم.

ج. أمة لا تعرف لسانها [15]: لا يمكن التفاهم معها، قانونها الظلم والعنف وعدم التفاهم.

د. جعبتهم قبر مفتوح [16]: غايتها التدمير والموت.

هـ. كلهم جبابرة [16]: عملها الحرب الدائمة ضد أولاد الله.

و. يأكلون حصادك وخبزك الذي يأكله بنوكِ وبناتك، يأكلون غنمكِ وبقركِ، يأكلون جفنتكِ وتينكِ" [17] عملها إفساد كل ثمر للنفس (البنون) وللجسد (البنات)، تحطيم كل الإمكانيات ليعيش الإنسان في جوع وحرمان حتى الموت.

ز. يهلكون بالسيف مدنك الحصينة [17]: يفقد الإنسان الملجأ والحصن، ليعيش كطريدٍ وهاربٍ في خوفٍ دائمٍ وقلقٍ مستمرٍ، فتتحطم نفسه تمامًا.

هذا كله ثمرة قبول كلمات الأنبياء الكذبة المنادين بالسلام، والناطقين بالناعمات كذبًا وخداعًا!

ما حدث مع الشعب قديمًا يحدث حاليًا حيث ننصت إلى روح التهاون والاستهتار، روح الأنبياء الكذبة، فنسقط تحت سبي الخطية عوض التجاوب مع تأديبات الله التي تحثنا على التوبة والرجوع إليه.

5. فقدوا البصيرة الداخلية:

إذ قبلوا كلمات الأنبياء الكذبة الناعمة سقطوا تحت التأديب الإلهي، أي في السبي، وعوض أن يكتشفوا خطاياهم ويقدموا توبة صاروا في عمى روحي يتهمون الله بالعنف والقسوة.

"ويكون حين تقولون: لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟

تقول لهم: كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرضٍ ليست لكم" [19].

فقدوا البصيرة الروحية، فحسبوا عدل الله ظلمًا وقسوة، لهذا أوضح لهم عدالته. لقد تركوه وعبدوا آلهة غريبة. هذه هي شهوة قلوبهم، أن يعبدوا الأوثان وينعموا بالرجاسات، لهذا سلمهم إلى الأرض الغريبة ليتمموا شهوة قلوبهم، وكأن السبي هو ثمرة فساد قلوبهم.

أعطاهم أرض الموعد وحسبها "أرضهم"، لكنهم إذ تركوه يُحرموا مما وهبهم، فلم يعد لهم موضع في أرضهم. من جانب آخر كما يقول أحد آباء البرية: [من لا يصلح في موضعٍ فالموضع نفسه يطرده]. وكأن الله وهبهم أرضًا مقدسة، وإذ أساءوا إليها طردتهم هي منها، إذ لم تعد أرض الموعد تحتمل رجاساتهم.

يقول العلامة أوريجينوس:

[كان بنو إسرائيل يمتلكون الأرض المقدسة، والهيكل، وبيت الصلاة. كان يجب عليهم أن يقدموا عبادتهم لله، لكنهم خالفوا الشريعة والوصية الإلهية، وعبدوا الأوثان، كانوا يستقبلون عندهم الأوثان من دمشق كما هو مكتوب في سفر الملوك، وقبلوا أوثانًا أخرى في الأرض المقدسة. وبما أنهم كانوا يستقبلون الأوثان الأممية في أرضهم، استحقوا أن يُطرَحوا في بلاد الأوثان، وأن يهبطوا إلى حيث ُتعَبَد الأصنام. لذلك قال الرب لهم: "كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم". أي أن كل إنسان يتخذ له إلهًا من أي شيء كان، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة.

هل تُؤلِّه المأكولات والمشروبات؟ بطنك هي إلهك.

هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيرًا عظيمًا؟ المال هو إلهك. قال عنه السيد المسيح أنه سيد الذين يحبون الفضة، حينما قال: "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، ولا يقدر أحد أن يخدم سيدين".

الذي يُقدِّر المال ويُعَظِّم الغِنَى حاسبًا أنه الخير، والذي يُجلِس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء، يؤله المال.

إذا كان يوجد في أرض الله، التي هي الكنيسة، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة، فسوف يُطردون إلى أرض غريبة، هناك في تلك الأرض الغريبة يعبدون آلهتهم التي كانوا يعبدوها وهم في داخل الكنيسة! فيُطرح الإنسان الجشع خارجًا، خارج الكنيسة! ويُطرح الإنسان النهم خارجًا، خارج الكنيسة![148]].

بعد أن شرح لهم عدالته بدأ يعاتبهم، قائلاً:

"اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم،

الذين لهم أعين ولا يبصرون.

لهم آذان ولا يسمعون" [21].

وكما جاء في إشعياء النبي "تسمعون سمعًا ولا تفهمون، وتبصرون إبصارًا ولا تعرفون" (إش 6: 9). (راجع أيضًا مت 13: 14-15). لقد فقدوا البصيرة والقدرة على الاستماع، ليس من جهة تأديبات الرب فحسب وإنما من جهة الكلمة المتجسد، المسيا المخلص، عوض الارتماء في أحضانه اتهموه أن به شيطان. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم يبصرون كيف يخرج الشياطين ويقولون به شيطان، يبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكرون في قتله]. كما يقول القديس إيريناؤس: [إنهم مُصابون بالعمى بسبب عدم إيمانهم بالله، يتطلعون إليه فلا يرونه، فهو بالنسبة لهم كأنه غير موجود؛ ذلك كما أن الشمس - خليقته - تصيب ضعاف البصر فلا ينظرون نورها، أما الذين يؤمنون به ويتبعونه فيهب آذانهم (أعينهم) استنارة أكمل وأعظم[149]].

كما في عدم الإيمان فقد الشعب بصره وسمعه، هكذا بالإيمان يتمتع أولاد الله بالتطويب الإلهي: "طوبى لأعينكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع" (مت 13: 11-16).

دعاهم الله جهلاء أو أغبياء، قائلاً "أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم" [21]. هذه هي السمة الرئيسية التي اتسموا بها، فقد صاروا كنابال (1 صم 25) الذي اسمه يعني "الغبي"، وقد احتقر داود النبي وسلك ببخلٍ عظيم. ُيقال عنهم: "أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب" (أم 1: 7).

في جهلهم فقدوا الفهم [21]، تركوا الله وعبدوا آلهة غريبة [19]، فصاروا يعشقون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه.

في جهلهم فقدوا الحق الإلهي، لا يرونه ولا ينصتون إليه [21].

في جهلهم أيضًا فقدوا خشية الرب ومخافته [21]. لم يفعلوا كأيوب عندما دخل الله معه في حوار، إذ قال: "لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (أي 42: 6). لم يتجاوبوا معه!

في جهلهم لم يدركوا أن الذي يتحدث معهم هو ذاك الذي وضع للبحر حدًا (أم 8: 29).

وقف النبي في دهشة، فقد بلغ عمى بصيرتهم وصمم آذانهم لا أن يصهلوا كالخيل المعلوفة السائبة [8] فحسب، وإنما انحطوا أكثر من الطبيعة الجامدة، فلا يرون كيف يقف البحر عند الحدود التي وضعها له الرب. عرف البحر حدوده فلا يتعداها ولم يعرف الإنسان ناموسه، لهذا يعاتبهم الله قائلاً:

"أإيّاي لا تخشون يقول الرب؟‍

أوَلاً ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟‍" ]22].

لم يضع الشعب لنفسه حدودًا، وعوض الطاعة كالبحار والرمال وكل الطبيعة صار لهم "قلب عاصٍ ومتمرد؛ عصوا؛ ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" [23-24].

ليس فقط البحار والرمال لها قانونها الذي تخضع له، وإنما الأمطار المبكرة التي تسقط بعد بذر الحبوب والأمطار المتأخرة التي تساعد على نضوج المحصولات تخضع للأوقات والأزمنة الموضوعه لها، فيأتي الثمر المتكاثر ويعيد الإنسان مبتهجًا بالحصاد‍، أما الإنسان فيرفض الطاعة لله!

ربما تشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تُجمع في زق كشيء ثمينٍ وُتحسب كنوزًا ثمينة (مز 33: 7).

v     بينما كان البحر قبلاً في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف... لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا... جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى.

القديس أغسطينوس

هذا هو المطر الذي وعد السيد المسيح تلاميذه أن يرسله إليهم من عند الآب علامة حبه لهم واهتمامه بهم، وكما جاء في الأمثال: "في نور وجه الملك حياة، ورضاه كسحاب المطر المتأخر" (أم 16: 15). ويقول هوشع النبي: "خروجه يقين الفجر، يأتي علينا كالمطر، كمطرٍ متأخر يسقي الأرض" (هو 6: 3). ويسألنا زكريا النبي أن نطلب هذا المطر المتأخر ليعمل في حياتنا: "اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا، ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عشبًا في الحقل" (زك 10: 1). هذا هو عطية الله العظمى: "لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" [24].

6. اصطادوا الآخرين:

أحد أسباب التأديب أنهم نصبوا الشباك والفخاخ للآخرين لاصطيادهم حتى يغتنوا ويصيروا سمناء، لكن شرهم لم يجلب عليهم إلا الغضب الإلهي والخسارة. ويلاحظ في شرهم هذا الآتي:

أ. شرهم ليس ثمرة ضعف بشري، أو تحقق بطريقة لا إرادية، إنما جاء نتيجة خطة منظمة وإصرار مُسبق، إذ يقول: "لأنه وُجد في شعبي أشرار، يرصدون كمنحنِ من القانصين، ينصبون أشراكًا يمسكون الناس" [26].

ب. خططوا لاستعبادهم وتحطيم حرية الناس: "مثل قفص ملآن طيورًا هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا" [27]. لقد خُلقت الطيور لتطير في السماء، لا لتُحبس في قفص، هكذا أرادوا استعباد الناس الذين خلقهم الله أحرارًا.

إن كانوا قد نصبوا الشباك واصطادوا أناسًا وأغلقوا عليهم في عبودية كالطيور في قفصٍ، فليس غريبًا أن يشربوا من ذات الكأس، حيث تنصب الأمم التي حولهم لهم الشباك، ويقودوهم في عبودية إلى السبي، فيصيرون كطيور حُرمت من الحرية.

حقًا كم تكون نفس المسبي مُرّة حينما يرى في أرض السبي الطيور تغرد وهي هائمة في الجو تتنقل حيثما تريد، بينما يعيش هو في مذلة مسلوب الحرية، لا يقدر أن يرجع إلى بلده!

ج. لا يقفوا عند ارتكاب الشر وإنما يوجهون كل طاقاتهم لاصطياد الناس بمكر كي يسقطوهم في الخطية.

د. يرى البعض أن كلمة "بيوتهم" هنا تشير إلى أنهم وضعوا خطة محكمة ومنظمة وهم في بيوتهم. بدت هذه الخطة ناجحة إذ امتلأ القفص طيورًا، ولم يدروا أنهم إنما ملأوها مكرًا وخداعًا يحطم حياتهم وسلامهم وحريتهم. بمعنى آخر بالمكر والخداع ظنوا أنهم غلبوا واغتنوا ولم يدركوا أنهم إنما اقتنوا في داخلهم خطية المكر التي هي "حرمان" و "بطلان".

"من أجل ذلك عظموا واستغنوا،

سمنوا، لمعوا (أملس الشعر)،

أيضًا تجاوزوا في أمور الشر" [27-28].

ظنوا أنهم صاروا عظماء أصحاب سلطان، أغنياء لا يعوزهم شيء، سمناء مملئون صحة، لامعين أو ملسوا الشعر أي مملئون جمالاً، ولم يدركوا أنهم في واقع الأمر جمعوا لأنفسهم شرًا عظيمًا. هذا هو ما اقتنوه، لأن الأمور السابقة تتغير وتنتهي ويبقى القلب فاسدًا بالشر.

هـ. فقدوا كل رحمة وامتلاؤا ظلمًا وقساوة قلب.

"لم يقضوا في الدعوى، دعوى اليتيم.

وقد نجحوا.

وبحق المساكين لم يقضوا" [28].

7. تجاوبوا مع الرعاة في الشر:

صار الجرح داميًا لا علاج له حتى "صار في الأرض دهش وقشعريرة" [30].

اشترك الشعب مع القيادات الدينية في هذا الشر. "الأنبياء يتنبأون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب".

وُجدت خطايا مشتركة اشترك فيها الأنبياء الذين أعلنوا الكذب عوض الحق، والكهنة الذين حكموا لا حسب شريعة الرب بل حسب سلطانهم الذي سُلم إليهم فأساءوا استخدامه. أحب الشعب الكذب والفساد إذ وجد الفرصة للملذات الجسدية والرجاسات. جاءت تصرفات القيادات الشريرة متجاوبة مع قلب الشعب الفاسد.


 

من وحيّ إرميا 5

تأديباتك أعذب من تملق المخادعين!

v     أعترف لك يا إلهي ومخلصي الحبيب،

ليس في أورشليمي الداخلية حق أو برّ!

لتدخل أيها البار فيها، فأنعم بالصفح.

بدمك الثمين أغتسل، وببرك أتبرر أيها القدوس!

v     إني لست مستحقًا أن تتطلع إليّ،

لكن من أجل صلاحك اغرس فيَّ برك فاستحق نظراتك.

تطلع إليّ وأدبني بسياط رحمتك لا بغضبك.

هب لأعماقي أن تتوجع فتتوب وتصرخ إليك.

ليبكتني روحك القدوس فأدرك سرّ تأديبك ليّ.

أعترف لك يا سيدي إني كثيرًا ما لا أشعر بآلام تأديباتك،

ولا بمهابة يوم الدينونة!

فقدت نفسي كل إحساسٍ، صارت ميتة!

أقمها أيها المخلص فتشعر بالأوجاع وتخشى دينونتك!

v     انزع عني الجهالة والكبرياء أيها الحبيب!

ففي جهلي ظننتك قاسيًا!

وفي كبريائي رفضت تأديباتك المخلصة!

v     في القديم استمع الشعب لكلمات الأنبياء الكذبة الناعمة فسقطوا في السبي،

وأنا في جهالتي أنصت إلى روح التهاون والاسترخاء،

فسقطت في سبي الخطية المرّة.

أذلتني الخطية بعنف،

وابتلعتني كقبرٍ مفتوحٍ،

حطمت طاقاتي ومواهبي،

أفسدت كل ما في داخلي.

انزع عني روح الترف الكاذب، فأعود إليك يا مؤدبي الصالح!

v     سبتني الخطية إذ سلمت نفسي إلى الفساد،

طردني البر لأني بإرادتي اشتهيت الرجاسات!

أعمت الخطية بصيرتي عن رؤياك وسدت آذاني عن سماع صوتك.

لتثر أمواج الضيقات عليّ حتى أبصرك وأسمع لصوتك!

v     عرف البحر حدوده فلا يتجاوزها.

وعرف المطر المبكر والمطر المتأخر وقتهما،

أما أنا ففي عمى بصيرتي تجاهلت حدودي،

تمرَّدت وعصيت ولم أخفْ خالقي!

v     أعترف لك بطمعي وأنانيتي.

نصبت الشباك لغيري كي أغتني، فإذا بي أسقط فيها.

ملأت القفص طيورًا مسلوبة الحرية ففقدت حريتي الداخلية.

ظلمت وقسوت فإذا بي أجمع لنفسي دينونة.

أعترف لك طالبًا عونك!

ليعمل روحك القدوس فيّ!

<<


 

الأصحاح السادس

اقتراب التأديب

يختم الله حديثه على لسان نبيه وهو يحدثهم في الأذن عن اقتراب موعد التأديب الناري. إذ أشاع المخادعون نبوات كاذبة، قائلين: "سلام سلام" [14]، يحذرهم الله من الاستسلام لهذه الكلمات المخادعة، مؤكدًا كذبهم واقتراب موعد التأديب. إنه يقدم وصفًا نبويًا عن خراب أورشليم الذي تم بعد ذلك في أيام إرميا نفسه. إنه يعلن أن العدو على الأبواب، ويحذرهم مرة تلو الأخرى، مؤكدًا أنه لا طريق للهروب إلا التوبة فيتحدث عن:

1. العدو على الأبواب [1-5].

2. شر أورشليم هو السبب [6-8].

3. أذنهم غلفاء[9-15].

4. تركهم طريق الآباء[16-17].

5. تقدماتهم بلا طاعة [18-25].

6. إصرارهم على الشر [26-30].

1. العدو على الأبواب:

وقف إرميا النبي كرقيب يضرب بوق كلمة الله، وجرس الخطر معلنًا أن العدو على الأبواب، قائلاً:

"اهربوا يا بني بنيامين من وسط أورشليم،

واضربوا بالبوق في تقوع،

وعلى بيت هكاريم ارفعوا علم نار،

لأن الشر أشرف من الشمال وكسر عظيم" [1].

أ. إن كان الشعب الجاهل قد أصيب بعدم الفهم، وحُرموا من البصيرة والقدرة على الاستماع لصوت الرب (5: 21) كما نُزع عنهم خوف الرب وخشيته (5: 22)، ولم يعرفوا لأنفسهم حدودًا أو ناموسًا كالبحر والأمطار (5: 23-24)، وصاروا بلا حصاد أو ثمر (5: 21)، واقتنوا لبيوتهم الداخلية مكرًا وخداعًا (5: 27) وقد ظنوا أنهم عظماء وأغنياء وأصحاء ومملوئين جمالاً (5: 27-28)، هوذا الآن يفقدون سلامهم وحريتهم.

في الأصحاح الرابع يطلب منهم أن يهربوا من القرى إلى أورشليم ليحتموا فيها (4: 6)، لكن إذ اقترب الخطر جدًا لم تعد أسوار أورشليم قادرة على حمايتهم، لهذا يسألهم أن يهربوا من أورشليم ليختفوا في كهوف الجبال.

يرى البعض أنه بقوله "بني بنيامين" لم يقصد كل أهالي أورشليم، إذ لم يكن جميعهم من سبط بنيامين، لكن النبي نفسه عاش في أرض بنيامين (1: 1)، أو ربما وجّه الحديث إليهم لأنهم كانوا أقل فسادًا من الباقين، وقد وفدوا إلى أورشليم من القرى مؤخرًا، فلم يوغلوا في الفساد كما أوغل أهل المدينة الأصليون.

ذكر "تقوع" و "بيت هكاريم"، كلاهما في الطريق جنوب أورشليم ويمكن أن ينظرهما سكان العاصمة، وهما في طريق الهروب أمام زحف العدو القادم من الشمال. وهناك يوجد كثير من الأودية والكهوف (1 صم 22: 1).

"تقوع"، موطن عاموس النبي (عا 1: 1)، تبعد حوالي 12 ميلاً جنوب أورشليم، وحوالي 5 أميال جنوب بيت لحم.

"بيت هكاريم" مكان يناسب رفع العلم، إذ يبلغ علوه أكثر من 800 مترًا، وقد جاء ذكره في نحميا (3: 4). مرتفع في الطريق نحو بيت لحم، تسمى حاليًا رامة راحيل Ramat Rahel (نح 3: 14).

ب. إنهم يسقطون تحت تأديبٍ ناري، إذ يقول "ارفعوا علم نار"، علم كلمة الله الناري التي تحرق الأشواك بينما تنقي الذهب والفضة من الشوائب. إنها تحطم الخطية وتطهر الخاطى إن قبلها فيه وتجاوب معها بالتوبة.

ج. يتحقق هذا التأديب الناري بخطة إلهية محكمة وليس محض صدفة كما يظن البعض، إذ يقول: "قدسوا عليها حربًا [4]. وكأن هجوم البابليين على أورشليم هي "حرب مقدسة" في عيني الرب، لا لينتصر شعبه على أعدائهم، بل ليسقطوا تحت التأديب لعلهم يتقدسون، بعد أن كانوا متمسكين بالشر.

كأن الله يدعو الشعب الغريب أن يكرسوا وقتهم وطاقاتهم وكل إمكانياتهم لمحاربة شعبه، الأمر الذي - إن صح القول - ليس سهلاً بالنسبة له، إذ هو محب لشعبه.

كثيرًا ما يسمح الله للأشرار أن يثوروا على أولاده، فيظن الأشرار أنهم بقدرتهم يغلبون وينجحون، ولا يدركون أن ذلك بسماحٍ إلهي لبنيان أولاده المحبوبين لديه.

ربما يعني بالتقديس إجراء طقوس دينية من تقديم ذبائح وغيرها قبل الهجوم. ففي القديم كان الأمم يستدعون المنجمين لمرافقة الجيش وأخذ القرارات. وكأن الله الغيور على مجده يسمح للوثنيين أن يقدموا ذبائح ويمارسوا طقوسهم ويُنجح طريقهم مؤقتًا، حتى يظنوا أن آلهتهم قد غلبته... يسمح بهذا كله إلى حين ليؤدب شعبه، ثم يعود فيؤدب الوثنيين أنفسهم!

د. بقوله "إليها تأتي الرعاة وقطعانهم ينصبون عندها خيامًا حواليها يرعون كل واحدٍ في مكانه" [3] يقصد أن أورشليم العظيمة تتحول إلى مرعى غنم، حيث تأتي البلاد المحيطة بها والشامتة بغنمها، فتجدها خرابًا بلا بيوت، ينصبون فيها خيامهم كما في برية قفر، ويرعون كل واحد غنمه في طمأنينة وشماتة!

ربما يُقصد بالرعاة هنا قواد العدو الذين يسوقون جنودهم ليصنعوا بالمدينة كما يصنع الغنم بعشب الحقول، يأكلون كل ما يجدونه ولا يتركون فيها موضع عشب أخضر، كما جاء في إشعياء: "بالسهام والقوس يؤتي إلى هناك، لأن كل الأرض تكون شوكًا وحسكًا، وجميع الجبال التي تُنقب بالمعول لا يؤتي إليها خوفًا من الشوك والحسك فتكون لسرح البقر ولدوس الغنم" (إش 7: 25).

هـ. تأديب علني ومستمر، يتحقق في وسط النهار ويستمر حتى الليل.

"قوموا فنصعد في الظهيرة.

ويل لنا لأن النهار مال،

لأن ظلال المساء امتدت،

قوموا فنصعد في الليل ونهدم قصورها" [5].

كان الهجوم ليلاً أمرًا شاذًا، لا يُستخدم إلا في حالات نادرة جدًا، أما العدو فقد هجم في الظهيرة وتحقق النصر. دخلوا المدينة فلم يحتملوا أن يهدأوا بالليل بل قاموا بهدم القصور والحصون ليصيروا في مأمن من العودة إلى حرب جديدة في النهار القادم.

ماذا يعني الصعود في الظهيرة، إلا أن الله يسمح بالتأديب علانية حيث يشرق على النفس بتأديباته كما بمراحمه وترفقه. وكأن التأديب هو علامة اهتمام الله بنا وليس تجاهله لنا أو قسوته علينا. مع كل ضيقة يمكن للنفس أن تتوب فتتمتع بإشراقات شمس البر عليها. على  أي الأحوال إن لم يستطيعوا أن يهاجموا المدينة في النهار فالليل يجلب لهم النصرة الأكيدة.

في نفس الوقت يقول: "ويل لنا لأن النهار مال" [5]. ماذا يعني هذا إلا أن ما حلّ بنا من تأديبات إنما هو لرفضنا شمس البر فمال بنا النهار لنعيش تحت ظلال الخطية وظلمتها.

أعطى للعدو الشرير أن يقتحم أعماقنا التي صارت ليلاً دائمًا، ويهدم قصورنا التي كان يليق بها أن تكون مملكة لله ومسكنًا لروحه القدوس.

ليتنا نقبل خلال حب الله وتأديباته سكناه فينا وإشراقاته علينا، فنسمع صوت الرسول القائل: "وأما أنتم أيها الاخوة فلستم في ظلمة... جميعكم أبناء نور وأبناء نهار؛ ليس من ليلٍ ولا ظلمةٍ" (1 تس 5: 4-5).

2. شر أورشليم هو السبب:

وراء كل هذا شر أورشليم التي إن أصرت عليه يجفوها الله ويجعل أرضها خربة غير مسكونة [8]، كقول السيد المسيح: "ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤكٍ بمترسة ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادكِ" (لو 19: 41).

يبدو كأن الله ُيشارك الأعداء في استعدادهم للهجوم على أورشليم، إذ قيل:

"لأنه هكذا قال رب الجنود.

اقطعوا أشجارًا،

أقيموا حول أورشليم مترسة هي المدينة الُمعاقبة.

كلها ظلم في وسطها" [6].

إنه "رب الجنود" الذي يستطيع بقواته السماوية أن يحطم العدو، لكنه عوض أن يحطمه يأمره بأن يهاجم مدينته التي ملأها شعبه بالظلم. طالبهم بقطع الأشجار وإقامة مترسة حول المدينة لتعوق جيش يهوذا عن مواجهة العدو. ولعل أيضًا قطع الأشجار التي حول أورشليم يعني بها تحويل المنطقة إلى قفر ٌتحرم من أشجارها المثمرة أو التي تستخدم للظل، كما يعني أنه عند الضرورة يشعلون النيران حول المدينة كلها، فيصير الشعب كما في أتون، لا مفر منه.

يصف الله شر أورشليم، قائلاً:

"كما تنبع العين مياهها هكذا تنبع هي شرها.

ظلم وخطف يُسمع فيها.

أمامي دائمًا مرض وضرب" [7].

شرها كالعين الذي يفجر الماء بلا توقف، هكذا لا تعرف أورشليم لشرها نهاية... إنها مصدر شرٍ مستمرٍ. تقدم العين ماءً متجددًا بغير توقف، ويصدر عن أورشليم شرورًا جديدة واختراعات في الفساد.

إن ُقصد بالعين "البئر" فتكون أورشليم محتضنة شرها في داخلها كما تحتفظ البئر بمياهها.

"تأدبي يا أورشليم لئلا تجفوكِ نفسي،

لئلا أجعلك أرضًا غير مسكونة" [8].

يعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[عندما يريد أن يكون رحيمًا يقول إنه غير راضٍ وفي غضبٍ...

إن فهمت هذه الكلمات، فإنها صوت الله الرؤوف عندما يغضب، والغيور عندما يجلب الآمًا وضربات، فإنه "يجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6) [150]].

3. أُذنهم غلفاء:

هكذا قال رب الجنود:

تعليلاً يعللّون كجفنة بقية إسرائيل.

رُدّ يدك كقاطفٍ إلى السلال" [9].

يكرر دعوة الله "رب الجنود" ليؤكد أن هزيمة أورشليم ليس عن ضعف أو عجز في القدرة الإلهية، إذ هو رب الجنود، الذي تخضع له السماء والأرض بكل ما فيهما كجنودٍ له، إنما ما حلّ هو بسبب غلف آذانهم وعدم الاستماع له.

إن كان شعبه يشبه كرمة، فإن العدو إذ قطف عنبها عاد إليها مرة ومرات لكي يعللها تعليلاً،  أي يفتش فيها لعله يجد ما قد تبقى، حتى يتركها عقيمةً تمامًا! لا يترك فيها بقية ما!

جاءت الوصية الإلهية: "وكرمك لا تعلله، ونثار كرمك لا تلتقط، للمسكين والقريب تتركه" (لا 19: 10). فإذ كسروا الوصية وكانوا يعللون كرومهم ويلتقطون نثارها ولا يتركونها للمساكين والأقرباء يتركهم الله ككرم يعللهم الأعداء ولا يتركون فيها ثمارًا قط... بل يصيرونها خرابًا.

لقد اتسخت آذان الكل بالخطية فصارت غلفاء، ليس من يقدر أن يسمع صوت الرب أو يستجيب لوصيته.

"ها إن أُذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا.

ها إن كلمة الرب صارت لهم عارًا.

لا يُسرون بها" [10].

يوبخ العلامة أوريجينوس اليهودي الحرفي الذي يرفض التفسير الرمزي للكتاب المقدس قائلاً:

[خطأ عظيم موجه إليكم.

يُقدم إليكم اتهامكم: أنتم غلف في آذانكم،

ولماذا عندما تسمعون هذا لا تستخدمون الموسى لآذانكم وتقطعونها؟...

اقطعوا آذانكم، اقطعوا الأعضاء التي خلقها الله لاستخدام الحواس ولزينة الإنسانية، فإنكم بهذا تفهمون الكتاب المقدس[151]].

إذ تصير الأذن غلفاء لا يستعذب الإنسان صوت الرب بل يحسبه عارًا. يحسب وصية الله مخجلة، والتدين ضعفًا، والطاعة لله خنوعًا واستسلامًا. هكذا لا يختبر الإنسان عذوبة الكلمة الإلهية كقول النبي: "بفرائضك أتلذذ" (مز 119(118): 16)، "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز 119(118): 71).

"وتتحول بيوتهم إلى آخرين،

الحقول والنساء معًا،

لأني أمد يدي على سكان الأرض يقول الرب" [12].

هذه إحدى ثمار العصيان، كما جاء في الشريعة: "تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها؛ تبني بيتًا ولا تسكن فيه، تغرس كرمًا ولا تستغله" (لا 28: 30).

ما هو هذا البيت الذي يبنيه ولا يسكن فيه إلا الاستقرار الذي يطلبه للنفس لكنها لا تجد راحة مادامت خارج مسيحها؟!

وما هي المرأة التي يخطبها فيأخذها آخر إلا الحرمان من المُعينة أو الشعور بالوحدة والعزلة؛ ليس من يقدر أن يسنده ويشاركه آلامه ومشاعره؟!

وما هي الحقول التي يسلبها الآخرون إلا طاقات الإنسان ومواهبه وقدراته التي تحطمها الخطية، فلا تكون لبنيانه بل لهدمه؟!

أما كيف نهرب من هذه المرارة؟! يقول الرب: "لأني أمد يدي على سكان الأرض" [12]. لنصر سكان السماء فلا تمتد يد الرب علينا بل إلينا ولحسابنا. ما دام قلبنا مرتبط بالتراب نصير ترابًا ونفقد حياتنا، أما إن صرنا بروح الله القدوس سمائيين فنصير سماءً يسكننا السماوي القدوس إلى الأبد.

سبق فأعلن أنه لم يجد بارًا واحدًا في أورشليم فيصفح عنها (5: 1)، ويعلن هنا أن التأديب جماعي، يسقط تحته الأطفال والشبان والشيوخ، الرجال والنساء، الأنبياء الكذبة والكهنة.

إن كان الله يقدم الشفاء من الجراحات بأدوية التوبة، فإن الأنبياء الكذبة يتظاهرون كأطباء، يعالجون الجراحات بالكلمات الكاذبة الناعمة، قائلين: "سلام سلام" [14]. مع أن الواقع: "لا سلام" [14]. يخطئون تشخيص المرض ليخدعوا المرضى، فعوض الشفاء يصير الجرح خطيرًا، يؤدي إلى الموت والهلاك الأبدي.

يرى البعض أن كلمات الأنبياء الكذبة هنا إنما تعني تقديم راحة نفسية للقادة والشعب، الذين اهتموا بالإصلاح الظاهري وتقديم تقدمات وذبائح مع انغماس في عبادة الأوثان ورجاساتها، قائلين: "سلام سلام" ما دام الله يُعبد وُيقدم له ما جاء في الشريعة، أما القلب ونقاوة الحياة وقدسيتها فهي أمور لا قيمة لها.

4. تركهم طريق الآباء:

"هكذا قال الرب:

قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة،

أين هو الطريق الصالح،

وسيروا فيه،

فتجدوا راحة لنفوسكم" [16].

يؤكد ضرورة العودة إلى طريق الآباء، مقارنين حياتنا بحياتهم لئلا نكون قد انحرفنا عن الطريق الملوكي، وكما جاء في سفر النشيد إذ تسأل النفس مسيحها: "إخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟" (نش 1: 8)، فيجيبها: "أخرجي على آثار الغنم وارعي جداءكِ عند مساكن الرعاة".

يسألهم الرب أن يقفوا وسط ما يحل بهم من خرابٍ، لا ليندبوا حالهم، بل أن يراجعوا أنفسهم. ليتطلعوا إلى مصدر الشر الحقيقي، ألا وهو انحرافهم عن الحق، حتى يرجعوا فيرجع الرب إليهم، لذلك يقول لهم:

أ. قفوا على الطرق... أي كرِّسوا وقتًا للتأمل ومراجعة النفس لئلا تكونوا قد انحرفتم عن الطريق الملوكي.

ب. انظروا... أي تمتعوا بالبصيرة الداخلية أو استنارة الروح.

ج. اسألوا... أي لا تعتمدوا على فكركم الذاتي، بل أطلبوا مشورة الآباء لتدركوا "الطريق الصالح" الذي سارت فيه الكنيسة الأولى، طريق السيد المسيح الذي يدخل بالكنيسة إلى حضن أبيه.

د. سيروا فيه... لا تكفي مراجعة النفس ولا استنارة القلب ولا طلب المشورة الروحية، إنما يلزم أن يتحول ذلك كله إلى حركة حب، سير مستمر بلا توقف تحت قيادة الروح القدس. لهذا يكرر الرسول بولس كلمة "اسلكوا".

"اسلكوا بالروح" (غل 5: 16)؛

"اسلكوا في المحبة" (أف 5: 2)؛

"اسلكوا كأولاد النور" (أف 5: 8)؛

"اسلكوا فيه (في يسوع الرب)" (كو 2: 6)؛

"اسلكوا بحكمة" (كو 4: 5).

"قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة" [16].

يعلق القديس جيروم على هذه العبارة قائلاً:

[توجد طرق كثيرة، تقود إلى الطريق الواحد... خلال الطرق الكثيرة نجد الطريق الواحد. هذا الفكر ذاته في الإنجيل (مت 13: 46) في شكل آخر وخلال رمز في مثل التاجر الذي له لآلىء كثيرة باعها واشترى لؤلؤة وحيدة ثمينة.

قف بجوار الطريق، أي لا تكن مالكًا للآلئ كثيرة.

قف في الطريق، واسأل عن طريق الرب الأبدي. ما أجمل الأبدية!

لا تظن أنه بمجيء المسيح قد انتهي الناموس والأنبياء بل لاحظ حسنًا. قف بجوار الطرق: لتضع ثقة كاملة في طريقٍ واحدٍ عوض الطرق الكثيرة، بل بجوار الطرق، اسأل عن طريق الرب الأبدية[152]].

[قف كما يقول إرميا في أكثر من طريق حتى تأتي إلى الطريق الحقيقي الذي يقود إلى الآب[153]].

v     أصدقائي الأعزاء، من يقدر أن يقودنا، إلا ذاك الذي ترددون اسمه معي، ربنا يسوع المسيح، القائل: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6).

إنه ذاك الذي كتب عنه القديس يوحنا أنه "يحمل خطايا العالم" (يو 1: 29). إنه هو أيضًا الذي يطهر نفوسنا كما أخبرنا إرميا: "قفوا على الطرق وانظروا واسألوا... عن الطريق الصالح (البار) وسيروا فتجدوا تطهيرًا لنفوسكم".

البابا أثناسيوس[154]

مرة أخرى إن كان الله قد سمح لهم بالتأديب الناري، فهو لا يزال يطلب بنيانهم لا هلاكهم. إنه يقيم لهم رقيبًا يضرب بالبوق ليدخلوا لا في معركة ظاهرة بل معركة القلب.

5. تقدماتهم بلا طاعة:

إذ لم يصغوا إلى صوته الإلهي، ولا قبلوا خبرة آبائهم في معاملات الله معهم استدعى الله الشعوب الوثنية وكل أمم الأرض لتشهد عليهم:

"لذلك اسمعوا يا أيها الشعوب،

واعرفي أيتها الجماعة ما هو بينهم.

اسمعي أيتها الأرض:

هأنذا جالب شرًا على هذا الشعب ثمر أفكارهم،

لأنهم لم يصغوا لكلامي وشريعتي رفضوها" [18-19].

هكذا يستدعى الله الأمم الوثنية لتشهد كيف استحق شعبه المتمرد التأديب الناري كثمرٍ طبيعي لأفكارهم وعصيانهم وكسرهم العهد معه. ربما استدعاء الأمم هنا يشير إلى أن شعبه قد اندفع إلى الشر حتى تبرر الوثنيون متى قورنوا بهم!

احدى علامات الطريق الخاطئ الرئيسية أو الانحراف عن طريق الآباء الملوكي هو عدم الإصغاء لصوت الرب وشريعته والاهتمام فقط بتقديم تقدمات وذبائح للرب.

"لم يصغوا لكلامي وشريعتي رفضوها.

لماذا يأتي لي اللُّبان من شبا؟

وقصب الذريرة من أرض بعيدة؟!

محرقاتكم غير مقبولة،

وذبائحكم لا تلذ لي" [19-20].

لا يريد الله اللُّبان وقصب الذريرة ولا المحرقات والذبائح، إنما يطلب الطاعة النابعة عن الحب. يبذلون كل الجهد فيأتون باللُّبان من شبا وقصب الذريرة من أرض بعيدة بينما يتجاهلون نقاوة قلوبهم وقدسية حياتهم الداخلية.

الله يطلب اللُّبان الداخلي، أي الصلاة الداخلية التي تُرفع كرائحة بخور في السمويات، وقصب الذريرة الداخلي. إنه يطلب محرقات داخلية حيث تقدم النفس حياتها ذبيحة مقدسة ملتهبة بالحب الإلهي، وذبائح مقدسة حيث تبذل ذاتها، خلال اتحادها بالمسيح الذبيح، مترنمة مع الرسول: "من أجلك نُمات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 36).

مصدر اللُّبان للعالم القديم هو شبا (إش 60: 6؛ حز 27: 22)، وهي تقع في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية بقرب مأرب.

إذ انشغل شعبه بالمظاهر الخارجية من تقديم لبان وقصب ذريرة وذبائح دون نقاوة القلب واستقامة السلوك، أي لم تعبر الحياة التعبدية الظاهرة عن صدق ما بالداخل لهذا يقول الرب لهم: "هأنذا جاعل لهذا الشعب معثرات، فيعثر بها الآباء والأبناء معًا، الجار وصاحبه يبيدان" [21]. ما هي هذه العثرات التي يقدمها الله إلا من عمل أيديهم و"ثمر أفكارهم" [19]؟! فيشربون من كأس العصيان التي ملأوها بإرادتهم، ظانين أن الله عنيف وقاس لأنه سمح لأمة وثنية أن تسبيهم وتحطم مدنهم وهيكلهم!

6. إصرارهم على الشر:

يكشف الله عن حبه الشديد لهم مع مرارة نفسه لأجلهم، إذ يدعوهم "ابنتي - شعبي" قائلاً:

"يا ابنة شعبي تنطقي بمسح وتمرغي في الرماد،

نوح وحيد اصنعي لنفسك مناحة مُرّة،

لأن المخرب يأتي علينا بغتة" [26].

ما أصعب على الإنسان أن يجد ابنته قد فقدت وحيدها، هكذا يرى الله شعبه الابنة المحبوبة لديه قد فقدت وحيدها فجأة الذي هو حياتها، فصارت ثكلى تنوح بلا انقطاع.

حقًا يحزن مسيحنا على المؤمن الذي بسبب الخطية يفقد خلاص نفسه، وحيدته التي قال عنها السيد المسيح: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!" (مت 16: 26).

يُختتم الأصحاح بتقييم لشخص النبي إرميا وأمانته في تقديم الرسالة الإلهية، مع إصرار الشعب على العصيان، فصاروا رصاصًا يفنى بالنار وفضة مرفوضة. لقد رفضوا كلمة الله الفضة الممحصة بالنار وقبلوا خداعات الأنبياء الكذبة، الفضة المغشوشة، فصاروا هم أنفسهم فضة مرفوضة.

في قوله "احترق المنفاخ من النار، فنى الرصاص" [29]، يُشبَّه إرميا بمن يمتحن المعادن بالنار، والتأديب بالمنفاخ الذي يلهب النار، والشعب بالرصاص. فقد بذل النبي كل الجهد مستخدمًا كلمات الله للتأديب بطريقة نارية، فاشتدت النار جدًا حتى احترق المنفاخ، لكن للأسف لم يكن الشعب ذهبًا أو فضة حقيقية بل كان رصاصًا يفنى!

تستجيب المعادن للنار الممتحنة لها فتتنقى من الشوائب، أما شعب الله فلا يستجيب للنار الإلهية بل يُصر على شره، إن لم يزد عنادًا، فيدخل إلى الموت! لم يجد الله وسط أورشليم كلها قطعة فضة يستخلصها بنار تأديباته، إنما صار الكل رصاصًا. وقد سبق لنا الحديث في سفر الخروج كما في سفر زكريا عن الرصاص بكونه رمزًا للخطية التي تثقل النفس فتنزل بها إلى أعماق المياه لتغوص ولا تقوم (حز 15: 10؛ زك 5: 7).

v     ينوح الله عليهم لأنه قدم لهم التطهير بالنار، ولم ينتفعوا، متصلين في خطاياهم، فيبكيهم في شخص أورشليم التي تغلفت بالصدأ، إذ يقول: "ضعها فارغة على الجمر ليحمى نحاسها ويحرق فيذوب قذرها فيها ويفنى زنجارها. بمشقات َتِعبت ولم تخرج منها كثرة زنجارها. في النار زنجارها. في نجاستك" (حز 24: 11-13).

الأب ثيودور[155]


 

من وحي إرميا 6

حوٍّل رصاصي إلى فضة!

v     لتُقِم إرميا في أورشليمي الداخلية،

يضرب ببوقه ويرفع علم نار في قلبي،

لأرى العدو قادمًا لتحطيم نفسي الثمينة!

يقطع الأشجار ليحولني إلى أتون نار،

ويجعلني قفرًا بلا ثمر.

أدرك بالحق أن العدو على الأبواب،

من يقدر أن يخلصني سواك؟!

v     أعترف لك إني أنا علة هلاكي،

أذني صارت غلفاء، لم أستطع بعد أن أميز صوتك، وأنصت إلى وصيتك.

تركت طريق آبائي الملوكي.

انشغلت بالتجربة والمرارة، ولم أتطلع إلى أعماقي لأدرك شري.

انشغلت بشكليات العبادة ولم أبالِ بقدسية حياتي.

قدمت ذبائح وتقدمات، أما قلبي فمغلق تمامًا.

يا لشقاوتي!!!

v     صرت رصاصًا لا فضة!

أفنت النيران حياتي ولم أتنقَ.

من يحول رصاصي إلى فضة،

فأتطهر وأتقدس بنار روحك القدوس؟!

<<


 

الأصحاحات 7-10

عتاب علني

 في باب بيت الرب

جاء الحديث السابق (2-6) أشبه بهمسٍ في الأذن في هدوء، لأن الله يبدأ تحذيراته لنا سرًا حتى نرجع إليه دون أن يجرح مشاعرنا، أما إن أصررنا على عدم الاستماع إليه، فيكون جرحنا خطيرًا، ويحتاج الأمر إلى توبيخٍ علني. لهذا تبدأ هذه الأصحاحات بدعوة الله لإرميا النبي أن يقف في باب بيت الرب (7: 1)، ويتحدث مع الشعب كما مع القيادات علانية وبكل صراحة، الأمر الذي كلف إرميا النبي الكثير، إذ شعرت القيادات بالفضيحة وفكرت في التخلص منه عدة مرات.

لسنا ندري علة اجتماع الشعب في الهيكل في ذلك الحين، إن كان بسبب الاضطرابات التي نشأت عن قرب قدوم العدو، أو للاحتفال بعيد.

في الأصحاح الثاني حدثهم عن سرّ الخصومة؛

وفي الأصحاح الثالث أكد أنه إنما يعاتب ليطلب عروسه مقدسة حتى في تأديبه لها؛

وفي الأصحاح الرابع كشف لنا عن سرّ الزينة الداخلية لعروسه المقدسة؛

وفي الأصحاح الخامس تحدث عن عمل الكلمة الناري في النفس بكونه مصدر القداسة والجمال الروحي.

وفي الأصحاح السادس يعلن أن وقت التأديب قد اقترب جدًا فلا يليق بهم أن يسمعوا للكلمات المعسولة التي يقدمها الأنبياء الكذبة.

أما الأصحاحات [7-10] فهي "عتاب في الهيكل"، أي يوبخ علانية لا لأجل الفضيحة في ذاتها وإنما بسبب قساوة قلب الإنسان الذي يرفض الاستماع للكلمة السرية الهادئة. أما موضوع العتاب فهو: "التقديس الداخلي".

<<


 

الأصحاح السابع

تقديس البيت الداخلي

إذ جاء الشعب مع القيادات الدينية إلى بيت الرب بأجسادهم دون قلوبهم، يترنمون بتسابيح للرب بينما انحرفت حياتهم لحساب النجاسات الوثنية، بدأ الرب يعلن لهم عن الحاجة إلى تقديس القلب الداخلي بكونه هيكل الرب، الذي لأجله أقيم هيكل أورشليم. لذا كشف الرب عن شكلياتهم في العبادة والتي تتلخص في الآتي:

1. تسابيح بلا عمل[1-7].

2. عبادة بلا قداسة [8-11].

3. عدم الاعتبار بشيلوه[12-15].

4. طلب صلوات الغير بدون توبة[16].

5. تقدمات وذبائح لله والأوثان معًا [17-28].

6. مرثاة على رفض الله بيته  [29-32].

7. مرثاة على رفض الله شعبه[33-34].

1. تسابيح بلا عمل:

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب، قائلاً:

قف في باب بيت الرب ونادِ هناك بهذه الكلمة، وقل:

اسمعوا كلمة الرب يا جميع يهوذا الداخلين في هذه الأبواب لتسجدوا للرب.

أصلحوا طرقكم وأعمالكم فأسكنكم في هذا الموضع" [1-2].

كان القديس إرميا في موقف لا يُحسد عليه، فقد جاءته الدعوة من قبل الرب أن يقف في باب بيت الرب ليحدث الجماهير المحتشدة التي جاءت لتمارس طقوس العبادة دون روحها، والتي لا تريد أن تسمع كلمة توبيخ أو نقد. كان من بين هذه الجماهير دون شك كهنة عناثوث الذين يحمل أغلبهم ذكريات الطفولة والصبوة مع إرميا، وهم يدركون جرأته وإمكانية إثارة الشعب ضدهم لمخالفتهم الشريعة.

يمكننا تصور موقف إرميا النبي والجو المحيط به وهو يقف ليوبخ الجماهير ويطلب التوبة هكذا[156]:

 كانت الجماهير متهللة لحركة إصلاح الهيكل الذي لم تمتد إليه يد منذ أكثر من 250 عامًا. في وسط هذه البهجة الجماهيرية وقف إرميا، يكاد يكون وحده، يهاجم الإصلاح الخارجي غير المتكئ على تغيير القلب والسلوك الروحي الحيّ. كان إرميا في نظرهم الرجل الناقد اللاذع، الذي يحول البهجة إلى غم، وعوض مدح القائمين بالعمل يهاجم الكل.

بينما كان حلقيا رئيس الكهنة يتعاون مع مشير الملك وكاتبه شافان في جمع التبرعات والتقدمات للإصلاح إذا بإرميا يؤكد الحاجة إلى تقدمة القلب لا المال. وبينما كان البناؤون والنجارون وكل العاملين في الإصلاح يسمعون كلمات الإطراء من كل أحد، إذا بإرميا النبي يبكت ويؤنب.

الكل يتحدث عن التقدم في البناء والإصلاح بفرح واعتزاز وإرميا النبي يطلب التوبة الصادقة والنوح والبكاء حتى لا يطردهم الموضع الذي لا يستحقونه، إذ يقول على لسان الرب: "اصلحوا طرقكم وأعمالكم فأسكنكم في هذا الموضع" [2].

هم يظنون أنهم قد أرضوا الله بإصلاح الهيكل، وكأنهم دائنون له بهذا العمل الجبار الذي لم تمارسه أجيال سابقة بينما يهددهم إرميا النبي بالطرد منه بل ومن كل الأراضي المقدسة لأنهم غير مستحقين للسكنى فيها بسبب شرهم.

بدأ الإصلاح الداخلي بالدعوة إلى تحويل التسبيح من كلمات منطوق بها إلى حياة مُعاشه وسلوك... حياة مفرحة متهللة في الداخل مع استعذاب للوصية الإلهية.

يقول: "لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين:

هيكل الرب،

هيكل الرب،

هيكل الرب هو" [4].

لعل هذه العبارة كانت قرارًا يتغنى به كل القادمين إلى العيد، حاسبين أن دخولهم الهيكل سند لهم دون حاجة إلى التوبة والسلوك الروحي المقدس.

إن لم يهتموا بإصلاح الهيكل الداخلي تتحول التسابيح والترانيم حتى في بيت الرب إلى "كلام كذب"، لأنهم ينطقون بغير ما يعيشون.

ظن يهوذا أن مجرد وجود بيت الرب في وسطهم يكفي لحمايتهم واستدرار مراحم الله؛ ولعلهم تقبلوا هذه العقيدة مما ورد في إشعياء النبي عن سنحاريب الطائش المتعجرف إنه لن يقدر أن يهدم خيمة الرب: "عيناك تريان أورشليم مسكنًا مطمئنًا، خيمة لا تنتقل، لا تقلع أوتادها إلى الأبد، وشيء من أطنابها لا ينقطع" (إش 33: 20).

حينما صلى سليمان في بيت الرب مع الشعب بنقاوة قلب جاءه صوت الرب: "قد سُمعت صلاتك... قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام" (1 مل 9: 3). في نفس الوقت حذرهم من الانحراف عن السلوك في وصاياه أو تركه وعبادة الأوثان مهددًا: "البيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب، هذا البيت يكون عبرة. كل من يمر عليه يتعجب ويصفر ويقولون: لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت؟!" (1 صم 9: 7-8).

اعتمد الكهنة والأنبياء على قول سليمان "إنما قد بنيت لك بيت سكن مكانًا لسكناك إلى الأبد" (1 مل 8: 13) ونبوة إشعياء النبي أن صهيون لا تسقط أبدًا (إش 33: 20) كانوا مقتنعين ان إرميا النبي مخدوع تمامًا، وكانوا يحرضون الشعب ضده.

هنا يحذرهم النبي: "لا تتكلوا على كلام الكذب، قائلين،

هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب هو،

لأنكم إن أصلحتم إصلاحًا طرقكم وأعمالكم.

إن أجريتم عدلاً بين الإنسان وصاحبه.

إن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة...

فإني أسكنكم في هذا الموضع" [4-7].

يمثل الهيكل حضرة الله وسط شعبه لتقديسهم، فإن تمسكوا بوجود البيت دون الاهتمام بتقديس حياتهم يفقد البيت مفهومه، بل ويتحول من بيت تسبيح إلى "مغارة لصوص" [11]، وهو ذات التعبير الذي استخدمه السيد المسيح حين طرد باعة الحمام والصيارفة من الهيكل (مت 21: 13).

في التسبحة نقول: "السلام للكنيسة بيت الملائكة"، إذ فيه يجتمع الله معنا في حضرة ملائكته، كما يشير القول إلى المؤمنين المتشبهين بملائكته. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[يشتهي الله أن يحل وسط شعبه فيقدسهم، لكن إن أرادوا أن يعيشوا في غلاظة قلوبهم بلا توبة لا يحتملوا حلوله في وسطهم. وكما قال الرب لموسى: "قل لبني إسرائيل أنتم شعب صلب الرقبة، أن صعدت لحظة واحدة في وسطكم افنيتكم" (خر 33: 5)].

ويتحدث القديس جيروم عن هيكل الرب الداخلي الذي يمكن للمؤمن أن يقتنيه أينما وُجد، بينما كثير من سكان أورشليم والأراضي المقدسة حرموا منه.

v     يليق بالذين يقولون: "هيكل الرب، هيكل الرب" (7: 4) أن يصغوا إلى كلمات الرسول: "أنتم هيكل الرب" (2 كو 6: 16)، والروح القدس "ساكن فيكم" (رو 8: 11). الوصول إلى البلاط السماوي سهل سواء من بريطانيا أو أورشليم، لأن "ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21). أنطونيوس وطغمة الرهبان الذين في مصر ومصيصة وبنتس وكبادوكية وارمنيا لم يروا أورشليم قط، لكن انفتح لهم باب الفردوس. الطوباوي هيلاريون، مع أنه مواطن فلسطيني وقاطن هناك، لم يرَ أورشليم إلا يومًا واحدًا. إذ كان قريبًا من الأماكن المقدسة لم يشأ أن يهمل رؤيتها، وفي نفس الوقت لم يرد أن يحد الله بأماكن محدودة[157].

القديس جيروم

فتح حديث إرميا النبي الباب للأنبياء الذين جاؤا بعده ليتحدثوا عن هيكل جديد للرب له ملامح جديدة، فقد شغل هذا الموضوع ذهن حزقيال النبي في التسع أصحاحات الأخيرة (40-48)، خاصة الأصحاح (47: 1-12). رأى بيتًا للرب يقوم على مياه المعمودية ينعم سكانه بروح النبوة لله، يولدون فيها بالروح القدس، أما أبعاده فتُقاس بالألف ذراع إشارة إلى السمة السماوية، وقد غُرس على هذه المياه أشجار كثيرة جدًا من هنا وهناك، أولاد الله القديسون، ويكون السمك كثيرًا جدًا. هذه المياه هي سرّ شفاء وحياة كل من يأتي النهر إليه (حز 47: 9). "وعلى النهر ينبت على شاطئه من هنا ومن هناك كل شجر للأكل لا يذبل ورقه ولا ينقطع ثمره. كل شهر يبكر لأن مياهه خارجة من المقدس، ويكون ثمره للأكل وورقة للدواء" (حز 47: 12).

ويتحدث زكريا النبي عن بيت جديد حيث تخرج مياه حية من أورشليم إلى المشارق والمغارب "ويكون الرب ملكًا على كل الأرض" (زك 14: 9).

تحدث السيد المسيح عن جسده كهيكل مقدس أقامه في ثلاثة أيام (يو 2: 18-22)، فيه نقوم لنحيا عابدين بالروح والحق. كما تحدث مع المرأة السامرية عن هيكلٍ جديدٍ لا يرتبط بالسامرة أو أورشليم (يو 4: 21)، وكشف لنا يوحنا الحبيب عن الهيكل السماوي (رؤ 22).

2. عبادة بلا قداسة:

 أوضح النبي أنه لكي ينعم الشعب ببركات بيت الرب يلزمهم أن يصلحوا الطريق الذي يسلكونه، مجرين العدل بين الإنسان وصاحبه [5]، وأن يقدموا عمل المحبة خاصة للغريب واليتيم والأرملة [6]، وألا يسفكوا دم الأبرياء [6]، وأخيرًا ألا يعرجوا بين الفريقين، قائلاً: "أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبًا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي ُدعي اسمي عليه وتقولون قد أنقذنا؟!" [8-10].

هيكل الرب هو القصر الملوكي، مركز ملكوت الله الذي هو ملجأ للأرامل والأيتام والغرباء، سخي بالنسبة لكل نفس محتاجة ومرذولة. فإن مارس الشعب العنف والقسوة ُيحسبون خارج الهيكل حتى إن دخلوه بأجسادهم وقدموا عطايا وتقدمات وذبائح!

v     كان هذا الهيكل جميلاً وعجيبًا مقدسًا، لكن حين فسد الذين يستعملونه صار محتقرًا ومرذولاً ودنسًا، حتى دُعي قبل السبي "مغارة لصوص"... وسُلم بعد ذلك في أيدي البرابرة الفاسدين النجسين[158].

القديس يوحنا الذهبي الفم

3. عدم الاعتبار بشيلوه:

بعد أن أوضح لهم إفسادهم لبيت الرب، مقدماً الدلائل التالية:

أ. يسبحون الله بأفواههم بكلمات كاذبة ويجدفون عليه بقلوبهم وسلوكهم [4]،

ب. يظنون أنهم قادرون على خداع الله، إذ حولوا بيته إلى مغارة لصوص [11].

ج. حولوا بيته من جماعة مملوءة حبًا ورحمة وقداسة إلى جماعة قاسية ظالمة [6].

عاد ليؤكد لهم أنه وإن كان طويل الأناة لكنه لابد أن يعاقب، مقدمًا بذلك ما حدث مع "شيلوه" مثلاً.

"إذهبوا إلى موضعي الذي في شيلوه الذي أسكنت فيه اسمي أولاً وانظروا ما صنعت به من أجل شر شعبي إسرائيل" [12].

إنه ليس تهديدًا مجردًا، فما حدث مع شيلوه مركز العبادة وموضع الفرح الذي تحول إلى خراب، سيحدث أيضًا مع الهيكل.

شيلوه مدينة في شمال بيت إيل شرقي الطريق الصاعدة من بيت إيل إلى شكيم (نابلس)" (قض 21: 19)، تبعد حوالي 17 ميلاً شمال أورشليم، ربما هي التي تسمى الآن سيلون. اختارها الرب مقرًا للتابوت وخيمة الاجتماع لمدة حوالي 300 عامًا، وفيها قسم يشوع البلاد على الأسباط (يش 18: 1، 8-10)، وفي عهد القضاة كان الشعب يجتمع سنويًا في شيلوه للعيد. قرر أولاد عالي الكاهن أخذ التابوت معهم من شيلوه وخرجوا للحرب، لكنهم خسروا المعركة وضاع التابوت (1 صم 1: 4) ولم يعد بعد إلى شيلوه كما هو واضح من (1 صم 21: 1). ُنقل التابوت إلى أورشليم بعدما أخذه الفلسطينيون في الحرب ثم أعادوه إلى قرية بعاريم. وكانت شيلوه خربة في أيام إرميا وفي أيام القديس جيروم (راجع 26: 6).

4. طلب صلوات الغير بدون توبة:

كانت الشفاعة عن الشعب جزءًا حيًا من عمل الأنبياء والكهنة، فصموئيل النبي يقول: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم" (1 صم 12: 23). وفي المصفاة إذ هاج الفلسطينيون عليهم قالوا لصموئيل: "لا تكف عن الصراخ من أجلنا إلى الرب إلهنا فيخلصنا من يد الفلسطينين (1 صم 7: 8). وأيضًا موسى كان يشفع في شعبه حتى قال الرب له: "اُتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيِّرك شعبًا عظيمًا" (خر 32: 10).

صلوات القديسين تسند النفس المجاهدة الراغبة في التوبة، أما إذا أصرت على عنادها فلا نفع لها، إذ يقول الرب لإرميا النبي: "وأنت فلا تُصلِ لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح عليًّ لأني لا أسمعك" (7: 16؛ 11: 14). الله الذي قال: "أحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي" (2 مل 19: 34) في أيام حزقيا الملك البار، لم ينطق بهذا في أيام الشر المتكاثر حين أسلم المدينة لنبوخذنصر.

تظهر شكلية العبادة في الاعتماد على صلوات القديسين المنتقلين والمجاهدين دون أي رغبة في التوبة والندامة. "وأنت فلا تصلِ لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح عليّ لأني لا أسمعك" [16] (11: 14).

لقد استفاد يعقوب المجاهد من صلوات أبيه إذ يقول للابان: "لولا أن إله أبي كان معي لكنت الآن قد صرت فارغًا" (تك 31: 42). كما يقول الله عن نفسه: "أحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي" (2 مل 19: 34). قال هذا حين كان حزقيا البار ملكًا، لكنه لم يقلها في أيام الشر حين أسلم المدينة لنبوخذنصر.

في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كنا مهملين لا نستطيع أن ننال خلاصًا ولا بمساعدة الآخرين... أقول هذا لا لكي نكتفي بطلبات القديسين إنما لكي أوقف إهمالكم واكتفاءكم بالثقة في الآخرين وأنتم مطروحون على ظهوركم[159]]. كما يقول: [ما أعظم بركات صلوات القديسين إن كنا أيضًا نعمل[160]].

لا يمنع الله إرميا من تقديم الصلوات عن الشعب، فإنه يُسر أن يجد قلوبًا مفتوحة بالحب تصلي للغير في غير أنانية، لكنه يؤكد له أن هذه الصلوات ليست بذي قيمة بالنسبة للشعب ما لم يُقدم الشعب نفسه توبة.

5. تقدمات وذبائح لله والأوثان:

يبدو أن إرميا النبي قد تأثر جدًا عندما طالبه الله: "لا تُصلِ لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح عليّ لأني لا أسمعك" [16]، فتساءل: "لماذا يارب؟" وجاءت الإجابة صريحة وواضحة:

"أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟

الأبناء يلتقطون حطبًا،

والآباء يوقدون النار.

والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكًا لملكة السموات ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظونني" [17-18].

غاية العائلة هو الحب والتعاون ليعيش الكل بروح الله في الأحضان الإلهية، لكن الخطية شوهت هذه الغاية حتى صار الأعضاء في العائلة الواحدة يدفعون بعضهم بعضًا إلى الهلاك الروحي.

هذه الصورة التي أوضحها الله على فم إرميا النبي لا تزال قائمة في عائلات كثيرة حيث يدفع الآباء والأمهات أولادهم وبناتهم إلى البعد عن حياة الشركة مع الله في المسيح يسوع ربنا، بل أحيانًا يلزموهم بالسلوك غير اللائق تحت حجة الخوف على أولادهم من الرغبة في التكريس الكامل لخدمة الله وعبادته في أية صورة من الصور.

 كان الكعك على شكل نجم ذي ثمان أطراف رمزًا لآلهة السموات (49: 19).

هكذا تحولت العائلات (الكنائس الصغيرة) عن هدفها لا للخدمة لله بل لمقاومته. لكنهم في الواقع كانوا يقاومون أنفسهم، إذ يقول:

"أفإيّاي يغيظون يقول الرب؟‍

أليس أنفسهم لأجل خزي وجوههم؟‍

لذلك يقول السيد الرب:

ها غضبي وغيظي ينسكبان على هذا الموضع على الناس وعلى البهائم وعلى شجر الحقل وعلى ثمر الأرض فيتقدان ولا ينطفئان" [20].

v     يريدنا أن ننتقم لأنفسنا من معاصينا، بهذا لا تحلّ نقمته علينا.

لهذا السبب يهدد على الدوام بالعقوبة، لكيما بالخوف يحطم الاستخفاف، وعندما يكون التهديد وحده كافيًا أن يحل الخوف فينا لا يسمح الله لنا أن ندخل في الضيقة عمليًا[161].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا تسيء الخطية إلا إلى فاعلها، تسكب من طبيعتها عليه، فيحمل الخزي والعار وتحل الخسارة على الناس والبهائم والأشجار والمحاصيل. تحل على النفس البشرية (الإنسان) وعلى الجسد (البهائم) وعلى مواهب الإنسان وقدراته (النباتات)، تحطم طبيعته وإمكانياته!

في الأصحاح الرابع أعلن أنه إن رجع إسرائيل يكون سر بركة للشعوب الأخرى حيث تتبرك الشعوب بالله وبه يفتخرون (4: 2)... وعلى العكس هنا يعلن أنه إن سقط الشعب في الشر يحل غضب الله لا على الناس فحسب بل وعلى البهائم وشجر الحقل وثمر الأرض. هكذا قد يكون الإنسان سّر بركة للآخرين أو سّر لعنة حتى للخليقة الجامدة التي خلقها الله من أجله.

كانوا يقدمون الذبائح والتقدمات وفي نفس الوقت يتجاوزون كل وصايا الله ويجرون وراء آلهة غريبة [9]، وكأن الذبيحة فريضة لإرضاء الله دون طلب الله نفسه. لقد فقدت الذبيحة والمحرقة كل معني روحي في حياتهم، لهذا يوبخهم قائلاً: "ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا" [21]. لقد فقدت محرقاتكم وذبائحكم طبيعتها كتقدمة للرب وصارت في نظري لحمًا لا آكله، تأخذوه من قدامي وتأكلوه أنتم فلا حاجة لي به، أو كما سبق فقال بإشعياء النبي: "لماذا لي كثرة ذبائحكم... أتخمت من محرقات كباش مسمنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسر" (إش 1: 11).

إن كانت الذبيحة هي سرّ المصالحة مع الله لكي يجد الإنسان له موضعًا في حضنه بالمسيح الذبيح، فما قيمتها إن ُقدمت مع إصرار الإنسان على عدم المصالحة وعدم الرغبة في الدخول إلى حضن الله؟! لهذا يعاتبهم قائلاً: "لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة، بل أوصيتهم بهذا الأمر، قائلاً: اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبًا..." [22-23]. هذا العتاب بعينه قاله على لسان عاموس النبي: "هل قدمتم لي ذبائح وتقدمات في البرية أربعين سنة يا بيت إسرائيل؟!" (عا 5: 25).

رفض الذبيحة ليس بسبب شرٍ فيها، وإنما بسبب شرهم.

v     إذ لم يؤمنوا ساروا في الفهم الخاطئ للشريعة، يفسرون الأمور حسب فهمهم وليس حسب فهم الكتاب المقدس. وبطريقة ريائية تفسد النصوص الواضحة للكتاب... لهذا حذرهم بإرميا... فإنهم إذ ظهروا أنهم يحفظون الفصح كانوا عاجزين عن أن يُعبروا عن الفرح والبهجة، كما قال إرميا: "وأبطل من مدن يهوذا ومن شوارع أورشليم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس" (7: 34)... لهذا فإن هذه الذبائح والتقدمات لن تُسر الله، ولا طلبتها الكلمة الإلهية منهم[162].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     هذا تفسيري، وإنني أرجو في الرب أن يمنحني بصلواتكم ألا أكون بعيدًا عن الحق. يبدو لي أن الله لم يعطِ وصاياه وشرائعه بخصوص الذبائح عندما أخرجهم من مصر في الحال. ولا ذاك الذي قدم الشريعة عني بالمحرقات في ذاتها هكذا، إنما كان يتطلع إلى ما ترمز إليه وما تشير إليه: "لأن الناموس له ظل الخيرات العتيدة" (عب 10: 1) وأن هذه الفرائض "موضوعة إلى وقت الإصلاح" (عب 9: 10). لهذا السبب لا يعالج الناموس موضوع الذبائح مع أنه يحوي أوامر خاصة بها[163].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     لا يقبل منكم الذبائح، ولا أمركم بتقديمها عن احتياج إليها إنما بسبب خطاياكم.

القديس يوستين الشهيد

v     ماذا يقول؟ "لأني لم أكلم آباءكم بهذه الأمور يوم أخرجتهم من أرض مصر، بل أوصيتهم: لا يحمل أحد فكرًا في قلبه ضد أخيه" (7: 22-23، زك 7: 10) [164].

العلامة أوريجينوس

v     إذا كنا غير فاقدي الذكاء فعلينا إن نفهم مقاصد الله وصلاحه... إنه يقول: "الذبيحة لله قلب متواضع" (مز 50: 19)، والقلب المنسحق عطر للرب الذي خلقه[165].

رسالة برناباس

v     أخشى لئلا يُقال عنا نفس الشيء: "انظر ماذا يفعلون؟ ليس من يطلب أمور المسيح، بل الكل يطلب ما لذواتهم. أطفالهم يجرون نحو الدنس، وآباؤهم يجرون نحو الطمع والنهب، ونساؤهم إذ لا يرجعن أزواجهن عن مغريات العالم وأباطيله يلهبوا شهواتهم للعالم[166].

القديس يوحنا الذهبي الفم

عرف إرميا النبي والكاهن أن الله أمرهم بتقديم ذبيحة الفصح في مصر قبيل خروجهم، كما قدم شرائع خاصة بالذبائح في الشريعة الموسوية؛ بل وأدرك اليهود خلال التقليد الشفوي منذ آدم وما بعده: إبراهيم وإسحق ويعقوب عن ضرورة تقديم ذبائح دموية، فلماذا يقول هنا: "لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة" [22]؟ أوضح ذلك بتكملة الحديث أنهم سلكوا بروح العصيان ولم يسمعوا لأنبيائه وكانوا غير مستعدين للاستماع، فحُسبت وصية تقديم المحرقات والذبائح بلا قيمة، إذ يقول:

"لم يسمعوا ولم يميلوا أذنهم، بل ساروا في مشورات وعناد قلبهم الشرير،

وأعطوا القفا لا الوجه.

فمن اليوم الذي خرج فيه آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم أرسلت إليكم عبيدي الأنبياء مبكرًا كل يوم ومُرسلاً؛

فلم يسمعوا لي،

ولم يميلوا أذنهم،

بل صَّلبوا رقابهم.

أساءوا أكثر من آبائهم.

فتكلمهم بكل هذه الكلمات ولا يسمعون لك،

وتدعوهم ولا يجيبونك...

باد الحق وقُطع عن أفواههم" [24-28].

في عناد قلبهم وغلف أذانهم أعطوا الله القفا لا الوجه. وقد سبق لنا في دراستنا لسفر حزقيال أن نتفهم هذه العبارة. فالإنسان الروحي يتشبه بالشاروبيم المملوء أعينًا، كله وجوه، وليس فيه قفا. بمعني أنه لا يقدر أن يعطي القفا لله أو لأخيه، أي لا يحمل كراهية خفية أو ظاهرة ضد خالقه ومخلصه ولا ضد إخوته.

6. مرثاة على رفض الله بيته:

 "جزّي شعرك واطرحيه،

 وارفعي على الهضاب مرثاة،

لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزه" [29].

يطلب النبي من يهوذا أن تجز شعرها، كما تفعل النساء قديمًا في حالة الحزن الشديد؛ فإن كان شعر المرأة هو جمالها وإكليلها، فإنها إذ تجزه تعلن عن مرارة نفسها، حيث حُرمت من جمالها وتحقيق رسالتها. كان جزّ الشعر كعلامة للحزن يمارسه الرجال أيضًا كما النساء (أي 1: 20، مي 1: 16).

جاءت الكلمة العبرية للشَعَر "nezer" تشير إلى النذر كما إلى الإكليل[167]. فإن كان حلق الشعر يشير إلى كسر النذر بالنسبة للنذير الذي يكرس حياته للرب (عد 6: 2-8؛ قض 16: 15-22)، فإن مملكة يهوذا وقد تدنست بعبادتها للأوثان وعصيانها المستمر لم تعد أمة مقدسة نذيرة الرب، فلا حاجة لبقاء شعرها، بل تجزه. إنها غير أهلٍ للنذر ولا لإكليل المجد.

عوض ممارستها للتسبيح للرب كنذيرة له، ترفع مرثاة، لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزه [29]، لأنهم نجسوا بيته إذ "وضعوا مكرهاتهم في البيت" [30]. جاءت كلمة "مكرهات siqqus" حوالي 28 مرة في العهد القديم، غالبًا ما تشير إلى عبادة التماثيل، وإن كانت أحيانًا تشير إلى كل ما يمس العبادة الوثنية من رجاسات مثل ارتكاب الزنا كنوعٍ من العبادة. هكذا انحط الشعب في ذلك الوقت فأقاموا الأوثان في بيت الرب كما فعل منسى الذي "بنى مذابح في بيت الرب... ووضع تمثال السارية التي عمل في البيت" (2 مل 21: 3، 7)، وارتكبوا الفحشاء هناك تحت اسم التكريس للرب.

ومن ناحية أخرى بنوا مرتفعات توفة في وادي هنوم (جهنم) جنوب أورشليم. كانت النيران فيها لا تنقطع، حيث يلقي الناس البقايا والعوادم. في هذه المرتفعات كانت ُتقدم ذبائح بشرية (2 مل 23: 10). يقدم الناس أبناءهم وبناتهم ويحرقونهم بالنار تقدمة للإله مولوك لذا يهدد الرب أورشليم انه يجعل منها "توفة" التي تعني بالعبرية أي "موضع نار" ُتحرق فيها أجساد الكثيرين (19: 13، 30: 33).

 وادي الرباية حاليًا، وكان الحد الفاصل بين نصيبي يهوذا وبنيامين وقد أخذت جهنم اسمها عن "ابن هنوم" أو "جى هنوم" حيث يتعرض الأشرار للنار الأبدية.

7. مرثاة على رفض الله شعبه:

إن كان الإنسان يرتكب الخطية من أجل لذات الجسد والبهجة الزمنية، فإن الله في محبته يسمح له أن يُحرم من هذه الأمور ليدرك أن الخطية مرّة ومحطمة للنفس والجسد. وقد عبَّر عن ذلك بقوله:

"وتصير جثث هذا الشعب أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض ولا مزعج.

 وأبطل من مدن يهوذا ومن شوارع أورشليم صوت الطرب وصوت الفرح،

 صوت العريس وصوت العروس،

 لأن الأرض تصير خرابًا" [23-24].

ما هي هذه الأرض الخربة إلا جسد الإنسان الذي تحرمه الخطية من التمتع بسكنى العريس السماوي فيه والاتحاد معه، واقتناء ملكوته الداخلي المفرح، والشركة مع القديسين والسمائيين؟!

v     الجاحدون ينحرفون عن الصلاة والشكر، ويحرمون أنفسهم من الفرح الناجم عنهما. لأن الفرح والبهجة "ُينتزعان من أفواههم." نعم فإن أعياد الأشرار هي ويلات.

v     إذ يعتزل الجاحدون الصلاة والشكر يحرمون أنفسهم من ثمر الفرح[168].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     يخترعون أعيادًا (1 مل 12: 32-33)، لكن النتيجة هي أيام للحزن أكثر منها للبهجة. إذ "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 22: 48). وكما قيل لنا: "وأبطل صوت الطرب وصوت الفرح من أفواههم" (7: 34) نعم، باطلة هي أعياد الأشرار[169].

البابا أثناسيوس الرسولي


 

من وحي إرميا 7

حوّل مرثاتي إلى تسبحة فرح!

v     أعترف لك يا إلهي،

كثيرًا ما أسبحك بفمي وأما قلبي فثقيل.

افتح شفتي لألهج بحبك،

وحوّل حياتي إلى تسبحة فرح!

لتكن أنت قوتي وتسبحتي،

فأنعم بعربون سمواتك!

v     كثيرًا ما قدمت عطايا وتقدمات،

لكنى أحجمت عن أن أقدم ذاتي ذبيحة حب ومحرقة لك!

دنست أورشليمي الداخلية،

وأفسدت هيكلك في أعماقي.

توبني فلا أكون كشيلوه التي خربت،

ولا كالهيكل الذي تحطم واحترق!

v     إني أستشفع في صلوات أنبيائك ورسلك وكل قديسيك،

لكن ليس في رخاوة قلب،

ولا بدون توبة!

v     إني أقيم مرثاة على نفسي المحطمة،

لكنك بروحك القدوس تحول مرثاتي إلى تسبحة فرح!

<<


 

الأصحاح الثامن

شكلية في حفظ الشريعة

إذ شاهد إرميا النبي الجموع المحتشدة في أورشليم قادمة لتمارس ليتورجيات التسبيح ولمساهمة في تكاليف إصلاح الهيكل وتقديم ذبائح، قادمة في تشامخ وفرح من أجل الهيكل الذي أصلحوه حديثًا، يلتمسون صلوات الأنبياء والكهنة حزن للغاية، لأن عبادتهم حملت الشكل دون الروح. كما عاد بفكره إلى وادي هنوم ليرى الأطفال القادمين مع والديهم للعبادة هناك يُقدمون ذبائح للوثن... تحرق الأمهات أطفالهن! هذا هو موضوع الأصحاح السابق، أما هنا فيركز على موضوع "كتاب الشريعة" الذي وُجد أثناء اصلاح الهيكل وقُدم للملك. تهلل الكل بوجود السفر دون الاهتمام بالاستماع العملي لما ورد فيه. ظنوا أن مجرد حفظ كتاب الشريعة في الهيكل فيه كل الحماية، حتى وإن احتفظوا بعبادتهم الوثنية ومارسوا رجاساتها.

1. الخلط بين كلمة الله والعبادة الوثنية[1-3].

2. حفظ الشريعة بدون التوبة[4-12].

3. حفظ الشريعة بدون ثمر الروح[13-17].

4. الحاجة إلى المسيح الكلمة[18-22].

1. الخلط بين كلمة الله والعبادة الوثنية:

تلامس إرميا بروح النبوة مع كلمات السيد المسيح: "دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (مت 19: 14). بينما كان يشاهد الشعب قادمًا بأطفاله إلى الهيكل ليعودوا بهم إلى "ابن هنوم" يقدمون بعضهم للقتل أو الحرق باسم الوثن. لقد اختاروا لأنفسهم ولأولادهم المرارة عوض الفرح الحقيقي، والموت عوض الحياة.

انحرف الكل: الملوك والرؤساء والكهنة والأنبياء الكذبة والشعب وعبدوا الآلهة التي بلا حياة واهبة الموت عوض الله الحيّ واهب الحياة. وها هو يقدم لهم الله سؤل قلبهم، إذ يقول:

"في ذلك الزمان يقول الرب

يخرجون عظام ملوك يهوذا وعظام رؤسائه وعظام الكهنة وعظام الأنبياء وعظام سكان أورشليم من قبورهم،

ويبسطونها للشمس والقمر ولكل جند السموات التي أحبوها والتي عبدوها والتي ساروا وراءها والتي استشاروها والتي سجدوا لها.

لا تجمع ولا تدفن بل تكون دمنة (روثًا) على وجه الأرض.

ويُختار الموت على الحياة

عند كل البقية الباقية من هذه العشيرة الشريرة الباقية في كل الأماكن التي طردتهم إليها يقول رب الجنود" [1-3].

تهلل الكل بوجود سفر الشريعة التي يعتزون بها حرفيًا بغير روح، يهتمون بنسخها بكل دقة، ويغسلون القلم لتطهيره قبل كتابة اسم "يهوه"، ويحسبون عدد الحروف حتى لا يخطئوا في كلمة، ويضعون الشريعة في الهيكل، ولا يلمسها من كان دنسًا. ومع هذا كله كانوا يعبدون الأوثان ليس تحت ضغط العدو، ولا عن جهالة، لكنهم أحبوها وعبدوها وساروا وراءها واستشاروها وسجدوا لها. شعروا أنها مشبعة ومفرحة ومرشدة لهم تستحق كل عبادة وسجود! والعجيب في الأمر أنه لم يكن ذلك عن احتياج مادي أو لطلب الكرامة، فقد عبدها الملوك والعظماء والكهنة الخ. الذين لا ينقصهم شيء ما.

ما هو ثمر ذلك؟

أ. الذين عبدوها وهم أحياء تُخرج عظامهم بعد الموت لُتبسط للشمس والقمر وجند السماء التي تعبّدوا لها، فيصيرون في عارٍ وخزي حتى بعد موتهم.

العدو الذي عبدوا آلهته ينكل بهم، حيث ُيخرج عظام الكل من القبور ويلقي بها في الطريق للتشهير والإهانة، إذ كان الوثنيون يعتقدون أن إهانة عظام الموتى تجرح نفوس الراقدين، وتدمير بقايا الأموات وعظامهم يلُقي بهم في بحر النسيان[170].

بمعني آخر الكل أخطأوا: الذين كانوا في عصر إرميا ومن سبقوهم، لذلك تحل الإهانة حتى بالأموات[171].

هم اختاروا الآلهة الميتة عوض الإله الحيّ، لذا يحل بهم الموت، ويحل بهم العار حتى بعد موتهم.

ب. صارت عظام الكل - الملوك والعظماء والكهنة والأنبياء والشعب - ملقاة "كدمنة على وجه الأرض"، أي كالروث أو بقايا الحيوانات، وهذا لا يحمل فقط معني الإهانة، وإنما تدنيس الأرض. فمن يفسد حياته باعتزال الله مُقدِسه تصير حتى عظامه دنسة ونجسة لا يطيق الناس رؤيتها أو لمسها، أما من يتقدس بروح الله فتتقدس عظامه لتقيم أمواتًا كما حدث مع اليشع (2 مل 13: 21)، ويتقدس ظله ليشفي المرضى كما حدث مع بطرس الرسول (أع 5: 15) وتتقدس حتى المناديل والخرق التي على جراحاته لتخرج الشياطين كما حدث مع بولس الرسول.

ج. إخراج العظام من القبور وبسطها أمام الكواكب إنما يعني توبيخًا من الله الذي تركوه وهم أحياء، كأنه يسأل عظامهم إن كانت تقدر أن تتعبد لها؟! أما مؤمنوه فستقوم عظامهم وتشارك أجسادهم نفوسهم العبادة السماوية الملائكية.

د. كان اهتمام الغازين بنبش القبور عادة قديمة، غايتها سلب كل ما وُضع مع الراقدين من معادن ثمينة وحجارة كريمة وأوانٍ قيمة الخ[172].

هـ. يقول "هذه العشيرة الشريرة" [3]، وكأنه بهذا التأديب المرّ يؤكد الله لهم أنهم أشرار ليس فقط في تسابيحهم بلا عمل، واهتمامهم بالتقدمات والذبائح بلا روح، والانشغال بالهيكل الخارجي دون الداخلي وإنما أشرار حتى كأسرة واحدة!

و. وسط هذا العار والمرارة يشتهي الكل الموت فلا يجدونه، إذ قيل: "وُيختار الموت على الحياة" [3]. وكما جاء في سفر المراثي: "كانت قتلى السيف خيرًا من قتلى الجوع" (مرا 4: 9)، وقال يونان النبي: "موتي خير من  حياتي" (يونان 4: 8).

في اختصار يمكننا أن نقارن بين الارتباط بكلمة الله الحية وليس بالكلمة في حرفيتها مع اعتزال الكلمة الإلهي نفسه هكذا:

« ينال المؤمن سؤل قلبه، ويتمتع بالمكافأة حسب أعماله، الأول يرتبط بالكلمة الحية فيحيا بها ومعها، والثاني يرتبط بالباطل فيصير باطلاً.

« تهب كلمة الله الحية شركة مجد أبدى، والتخلي عن الله يهين حتى عظامنا بعد الموت، فيجعلها أشبه بالروث الملقى في التراب.

« تقدس كلمة الله النفس والجسد حتى الخليقة الجامدة.

« كلمة الله غنى، والتخلي عنها يحث اللصوص على سلب حتى قبورنا.

« كلمة الله يجعلنا أهل بيت الله، وتركها يجعلنا عشيرة شريرة.

« كلمة الله تعطي رجاءً، وتركها يبث روح اليأس، فيشتهي الإنسان الموت ولا يجده.

2. حفظ الشريعة بدون التوبة:

بعد أن تحدث عن خطورة الاهتمام بالكتاب المقدس (الشريعة) لحفظه في الهيكل دون الالتصاق بالله وحده يؤكد أيضًا خطورة قبوله في غير توبة أو الرجوع إلى الله، إذ يقول:

"وتقول لهم هكذا:

هل يسقطون ولا يقومون؟

أو يرتد أحد ولا يرجع؟

فلماذا يرتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟!

تمسكوا بالمكر.

أبوا أن يرجعوا" [4-5].

يبدأ الحديث بالجمع "يسقطون"، ويكمل بالفرد "يرتد"، لعله أراد تأكيد أن الله ينتظر رجوع الشعب كله كابنة واحدة له، كما يترقب توبة كل عضوٍ في الجماعة، أي يطلب التوبة الجماعية كما التوبة الشخصية. فكما انغمس الشعب كله في الشر، وأحب كل عضو منهم الخطية هكذا تكون أيضًا التوبة.

يرى بعض المفسرين اليهود أن صيغة الجمع هنا تشير إلى الشعب وصيغة المفرد إلى الله، وكأن تفسيرهم هو هذا: "هل يعود الشعب إلى الله بعد سقوطهم، ولا يرجع الله إليهم؟!

يرى البعض أن ما جاء بصيغة الجمع يشير إلى الجانب السلبي وما جاء بصيغة المفرد يشير إلى الجانب الإيجابي، وكأن التفسير هو: هل يسقط الشعب في الشر ويبقى في سقوطه دون قيام؟! هذا هو الجانب السلبي، أما الإيجابي فهو: هل يرتد أحد إلى الله ولا يجد الله راجعًا إليه؟!

هكذا يؤكد إرميا النبي الالتزام بالتوبة كعمل رئيسي في تمتعنا بالشريعة، فإننا وإن سقطنا يترقب الله قيامنا، وإن عاد قلبنا إليه نجده ينتظرنا ليحملنا فيه.

يطلب الله عودتنا إليه باستمرار، بل ونمونا في الشركة معه، وذلك بفضل نعمته العاملة فينا، ولكن ليس بغير إرادتنا، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية.

وكما يقول الأب شيريمون: [أن الله يبدأ معنا ما هو صالح، ويستمر معنا فيه، ويكمله معنا. وذلك كقول الرسول "والذي يٌقِّدم بذارًا للزارع وخبزًا للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم" (2 كو 9: 10). هذا كله من أجلنا نحن، لكي باتضاع نتبع يومًا فيومًا نعمة الله التي تجذبنا. أما إذا قاومنا نعمته برقبةٍ غليظة وآذانٍ غير مختونة (أع 7: 51)، فإننا نستحق كلمات النبي إرميا القائل "هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتد أحد ولا يرجع؟! فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟! تمسكوا بالمكر، أبَوا أن يرجعوا؟!" [4-5][173]].

في رقة عجيبة يؤكد لنا النبي أن الله ينتظرنا دون أن يعاتب على الماضي، إذ يقول: "فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟!" [5]. في دهشة يعاتب: كيف احتمل هذا الشعب كسر الشريعة والتغرب عن الله مصدر حياته على الدوام؟ ألا يليق به أن يرجع إليه؟!

ظن البعض أنه إن سقط إنسان مؤمن لا يمكن أن يقوم، وكتب القديس أمبروسيوس كتابًا عن قيام الساقطين من المؤمنين قمت بترجمته تحت عنوان "التوبة"، كما فند القديس يوحنا ذهبي الفم ذلك في مقاله الأول لثيؤدور الساقط.

v     السقوط في ذاته ليس بالأمر الخطير، بل يكمن الخطر في البقاء منطرحًا بعد السقوط، وعدم القيام مرة أخرى. فالجبن والكسل يخفيان نية الضعف الخلقي تحت حجة اليأس[174]...

v     ليتنا نحن الساقطون لا نيأس بل نقول: "هل يسقطون ولا يقومون؟!" [4]... فإنه يوجد من ارتفع من هاوية الشر إلى السماء، ومن المسارح والأوركسترا إلى طقس الملائكة، ومارسوا فضيلة عظيمة كهذه حتى أنهم صاروا يخرجون شياطين ويصنعون عجائب أخرى[175].

v     نصيحتنا ليست هي عن عدم السقوط بل قدرة الساقطين على القيام.

لنقم ثانية حتى إن كان الوقت متأخرًا،

أيها الأطباء، لنقم ونقف!

إلى متى نبقى مطروحين أرضًا؟!

إلى متى نبقى سكارى بالرغبة المتزايدة للأمور الزمنية؟

إنها فرصة مناسبة الآن لنقول "إلى متى اتكلم واشهد؟" هكذا صار كل الناس صّم حتى بالنسبة للتعاليم الخاصة بالفضيلة، بهذا امتلأوا شرورًا[176].

 القديس يوحنا ذهبي الفم

v     الكل سقطوا، وهم لا يبالون بالقيام.

لهذا فإن نصيحتنا لا تخص عدم السقوط، بل قدرة الساقطين على القيام.

لنقف مرة أخرى أيها الأحباء، مهما طال بنا السقوط.

لنقف مرة أخرى، لنقف بكرامة! [177]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     أن تسقط هذا ليس بالأمر الخطير، وإنما الخطورة أن تبقى منبطحًا بعد السقوط دون أن تقوم ثانية، وأن تقوم بدور الإنسان الجبان والبليد وتستمر في حالة عجز بسبب اليأس[178]...

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لا تيأس من الخلاص. اذكر كيف جاء في الكتاب المقدس إن الساقط يقوم، والضال يرجع، والمجروح يُشفي، والذي هو فريسة للحيوانات الضارية يفلت، والذي له خطاياه يُغفر له...

إنه وقت للاحتمال وطول الأناة والشفاء والتصحيح.

هل تعثرت؟ قم.

هل أخطأت؟ كف عن الخطية. لا تقف في طريق الخطاة (مز 1: 1)، بل اهرب منها. عندما تتغير تنهد فتخلص. فإن الجهاد يجلب الصحة والعرق الخلاص[179].

 القديس باسيليوس

v     في حديث الأب شيريمون عن حماية الله يقول: [إنه لا يريد أن يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر أن يخلصوا بل بعضهم؟! فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته[180]].

v     لأنه بحق يريد رحمة لا ذبائح (هو 6: 6، مت 9: 13).

السماء، والملائكة هناك، تفرح بتوبة إنسان (لو 15: 7، 10).

لتفرح أيها الخاطئ، ها أنت ترى إني افرح بعودتك[181].

العلامة ترتليان

أما العائق عن رجوعهم فهو "المكر" الذي تمسكوا به، أو خداع الأنبياء الكذبة الذي عوض أن يحثوهم على التوبة سلموهم إلى التهاون، إذ قيل: "برؤيا كاذبة وعرافة وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم" (14: 14).

لقد فقد الشعب اتزانه ليمارس كل منهم هواه كفرسٍ ثائرٍ في وسط المعركة دون ضابط له [6]؛ بل صاروا يناقضون الطبيعة ذاتها. فالطيور تعرف بالطبيعة موعد رجوعها إلى وطنها، أما هم فيهجرون الله ولا يعرفون للتوبة والرجوع موعدًا. أفقدتهم الخطية "المعرفة" و"الحكمة" و"الحق"، فسلكوا في الكذب.

هذا ما عبر عنه النبي مؤكدًا أنهم أكثر جهالة من الطيور:

"بل اللقلق في السموات يعرف ميعاده،

واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما.

أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب.

كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟!

حقًا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب" [7-8].

تعرف الطيور والحيوانات مواعيدها بالغريزة وتحترمها، وأما شعب الله الذي هو تاج الخليقة الأرضية كلها فلا يعي نداء خالقه، ولا يدرك "قضاء" الرب، أي خطته الإلهية نحو شعبه. بهذا فقدوا روح الحكمة والمعرفة.

 يكشف لنا القديس يوحنا الذهبي الفم كيف انحطت حياتنا وطبيعتنا، فصرنا أقل من الحيوانات والطيور. لكن مسيحنا رفعنا من هذه المذلة بصعوده ووهبنا التمتع بسمواته، إذ يقول:

[انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول إلى أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح... ويوضح بولس ذلك إذ يقول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا". أين نزل؟ إلى أقسام الأرض السفلي؛ وصعد إلى "فوق جميع السموات" (أف 4: 9-10)...

إننا لم نكن سوى ترابًا ورمادًا... لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، فقد صار الإنسان يُقارن بها وصار مثلها (مز 48: 21؛ إش 1: 3)...

أنظروا كيف صرنا أكثر غباءً من الحمار والثور (إش 1: 3)،

ومن طيور السماء واليمامة والسنونة [7]...

صرنا تلاميذًا للنمل (أم 6: 6)...

أكثر جمودًا من الحجارة (إش 6: 2)،

 نُشبِّه بالأفاعي (مز 58: 5)...

نُدعى أبناء إبليس (يو 8: 44)...

هكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا!!!...

لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل خليقة.

 اليوم استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن بعيد!

 اليوم رأوا طبيعتنا في العرش الإلهي تتلألأ في جمال أبدى ومجد سرمدي![182]].

v     لنتعلم من هذه الحيوانات وأمثالها أن نسلك في الفضيلة، ونتجنب الشر بالأمور المضادة[183].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا أول إشارة للكتبة كفئة خاصة مسئولة عن تفسير الشريعة[184]. يظهر من (1 أي 2: 55) أن الكتبة كانوا منظمين على أساس عشائر أو أسر معينة، وفي (2 أي 34: 13) كان لهم دورهم الحيوي في أيام يوشيا. على أي الأحوال كان لهم نشاطهم في وقتٍ مبكرٍ عن هذا، يقومون بكتابة السجلات الرسمية لملوك إسرائيل ويهوذا، ويمسكون حساباتهم، كما كان بعضهم ينسخون التوراة، وكان لهم عملهم التعليمي. خلال تعاليمهم الخاطئة يحولون الحق الكتابي إلى الكذب، يهتمون بالتوراة ككتاب دون الاهتمام بالله نفسه.

استلموا الشريعة، ووجدت بين أيديهم، لكن طمعهم أعمى عيون قلوبهم، فصاروا في ظلمة الجهل التي حلَّت على كل الطبقات وكل الأعمار: الصغير والكبير، الكاهن والنبي والشعب.

 بجانب عبادتهم للأصنام وكسرهم للوصية يلجأون إلى خداع أنفسهم بنبوات كاذبة. فعوض التوبة يطلبون من الأنبياء والكهنة سلامًا كاذبًا وخداعًا، لهذا ظهر أنبياء يتنبأون ليس حسب أمر الله إنما حسبما يُرضى أهواء الناس، وبادت الشريعة عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ. هؤلاء يقولون "سلام سلام ولا سلام" [11].

بينما كان الأنبياء الكذبة يتكلمون بالناعمات (إش 30: 10)، لكي يهدئوا مخاوف الشعب، ويكسبوا القيادات لصفهم على حساب الحق، كان الأنبياء ينطقون بالحق ولو كان جارحًا.

كلمات الأنبياء الكذبة أعطتهم طمأنينة خادعة إلى حين، فحسبها الكل دواءً لجراحاتهم. "ويشفون كسر بنت شعبي على عثم، قائلين: سلام سلام ولا سلام" [11]. ومن جانب آخر نزعت عنهم روح الحياء والخجل حتى إن ارتكبوا رجاسة.

هل خزوا لأنهم عملوا رجسًا؟

بل لم يخزوا خزيًا ولم يعرفوا الخجل.

لذلك يسقطون بين الساقطين في وقت معاقبتهم يعثرون قال الرب" [12].

في اختصار قبلوا كلمة الله في حرفها بدون التوبة فصاروا في جهالة:

أ. يسقطون ويستسلمون بغير توبة ورجوع [4-5].

ب. صاروا كالخيل الثائرة بلا ضابط في وسط المعركة [6].

ج. نقضوا الطبيعة وخالفوها، فصاروا أحط من الطيور [7].

د. قبلوا كلمات الكتبة الكاذبة [8].

هـ. انشغلوا بالربح القبيح فضلوا عن الحق [10].

و. قبلوا خداع الأنبياء الكذبة [11].

ز. فقدوا الحياء في خزيهم [12].

3. حفظ الشريعة بدون ثمر الروح:

إذ قبلوا الشريعة الإلهية بدون التمتع بالتوبة صارت كلمة الله بالنسبة لهم عقيمة وبلا ثمر. صاروا أشبه بكرم بلا عنب وشجرة تين بلا ثمر، فاستحقوا اللعنة واقتلاعهم من حقل الرب:

"نزعًا أنزعهم يقول الرب.

لا عنب في الجفنة،

ولا تين في التينة،

والورق ذبل،

وأعطيهم ما يزول عنهم" [13].

ينتزعها من انتسابها له بكونها كرمته وتينته. فالنفس التي لا تلتصق بإخوتها حول خشبة الصليب كما تجتمع حبات العنب معًا، والتي ترفض أن تلتقي معهم حول غلاف الوحدة العذب كما يحدث لبذار التين الرفيع، تفقد انتسابها للكرمة أو التينة، ولا تُحسب عضوًا في كنيسة المسيح، ولا تتمتع بخلاصه.

إن كان الورق يشير إلى مظاهر الخدمة والعبادة، فحتى هذه المظاهر تذبل وتزول عنهم، كقول السيد المسيح للشجرة غير المثمرة: "لا يأكل أحد منكِ ثمرًا بعد إلى الأبد" (مر 11: 14)، "وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول" (مر 11: 20).

يصف النبي كيف انتزع الله كرمه، أو كيف سلّم شعبه للسبي هكذا:

أ. باطلاً حاول شعب يهوذا أن يحمى نفسه من العدو، إذ يقولون:

"لماذا نحن جلوس؟

اجتمعوا فلندخل إلى المدن الحصينة ونصمت هناك.

لأن الرب إلهنا قد أصمتنا" [14].

أدركوا أن الخطر قد حلّ بهم فقرروا الدخول إلى المدن الحصينة، لا ليستعدوا للمقاومة، بل في خيبة يصمتون أمام هذا الحدث الرهيب الذي سمح به الرب لهم لتأديبهم، ينتظرون لحظات الموت وهم في رعبٍ. تتحول مدنهم الحصينة إلى مقابرٍ جماعية!

ب. قدم الله لهم الكأس التي ملأوها لأنفسهم، كأس سم الخطية المرّ والمميت: "وأسقانا ماء العلقم لأننا قد أخطأنا إلى الرب" [14]. ولعله قصد بذلك الماء الذي ُيقدم للزوجة الخائنة لامتحان أمانتها لرجلها (عد 5: 11-31)، فإن ثبتت خيانتها تُقتل.

ج. فقدوا السلام الذي وعدهم به الأنبياء الكذبة: "انتظرنا السلام ولم يكن خير" [15]. تأكدوا أن الرجاء الذي قُدم لهم كان كالسراب المخادع.

د. فقدوا تسكين الجراحات الذي قدمه الكذبة لهم كشفاء، وحلّ عوض راحة الضمير رُعب وخوف: "وزمان الشفاء وإذا رعب" [15].

هـ. جاء العدو بعنف شديد حتى سُمعت حمحمة خيله في أورشليم عندما دخل العدو في دان، وهي الحدود الشمالية للبلاد التي دخل منها العدو (حاليًا منطقة الجولان)؛ وعند صوت صهيله ارتجفت كل الأرض [15]، لأن العدو ضخم للغاية.

و. جاء عدوهم ليأكل ويلتهم مفترسًا كل من يلتقي به: "فأتوا وأكلوا الأرض ومِلأها، المدينة والساكنين فيها" [16].

ز. ضربة لا علاج لها، كسم الحيات التي لا تُرقى. "لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا تُرقى فتلدغكم يقول الرب" [17]. في القديم "أرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون" (عد 21: 6)، وقد "صنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حيَّة النحاس يحيا (عد 21: 9). أما وقد أصر الشعب على المقاومة ففي هذا التأديب أرسل حيات أفاعي لا تُرقى.

4. الحاجة إلى المسيح الكلمة:

أدرك النبي إرميا ما وصل إليه الشعب في علاقتهم بالشريعة، إنهم يحفظونها دون توقف عن العبادة الوثنية، فيخلطون الحق بالباطل [1-3]، يقرأونها دون تقديم توبة واشتياق نحو الرجوع إلى الله [4-12]، يعتزون بها دون أن يحملوا ثمر الروح [13-17] فامتلأ قلبه مرارة، وبدأ يتساءل: ما هو الحل؟ أما من دواء لهذا الشعب؟ أما من طبيب يهتم بهم؟

عبَّر عن مرارة نفسه، قائلاً:

"من مفرِّج عني الحزن؟

قلبي فيّ سقيم" [18].

هكذا لم يقف إرميا شامتًا في ذلك الشعب الذي لم يسمع له، بل وقاومه بشدة، إنما كان يئن مع أنَّاتهم، إذ أدرك بروح النبوة ما سيحل بهم في السبي. هذا هو روح الحق المملوء حبًا الذي به يشعر إرميا أن جراحات شعبه إنما هي جراحاته هو، تمزق جسده، وتحطم حياته. لقد اهتزت نفسه فيه جدًا، فقال "أخذتني دهشة"، أي حلّ به رعدة في أعماقه. كأنه يتشبه بمخلصه الذي دخل إلى البستان يحمل آلامنا في جسده، صارخًا: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت".

لم يقف إرميا النبي متفرجًا، لكنه دخل مع شعبه إلى أتون الألم، تمزق قلبه تمامًا، قائلاً: "قلبي في سقيم" [18].

يليق بنا كغرباء على الأرض أن نهتم بالغرباء، وكأناس معرضين للسقوط تحت الضيق أن نسند المتضايقين، إذ يقول الرسول: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3). لا نشاركهم بالرثاء المجرد بل بالحب العامل، نشعر بالشركة الحقيقية مع كل عضو. "فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه" (1 كو 12: 26)؛ "فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين" (رو 12: 15). هذه الشركة عاشها أولاد الله في العهدين القديم والجديد، فيقول إرميا النبي وهو يرى شعبه منسحقًا بسبب السبي رغم مقاومة الشعب له: "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة" [21]، ويقول الرسول: "من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2 كو 11: 29). وتظهر شركة الحب العملي في كلمات آباء الكنيسة المحبين، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم، لا، ولا حتى النور! إني أود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر - ما أمكن من أجل توبة نفوسكم!... إني أحبكم، حتى أذوب فيكم، وتكونون لي كل شيء، أبي وأمي وإخوتي وأولادي].

سمع النبي بروح الحب صوت شعبه في أرض السبي يستغيثون وليس من مجيب:

"ألعل الرب ليس في صهيون؟‍

أو ملكها ليس فيه؟‍‍!...

أليس بلسان (دواء) في جلعاد[185]؟

فلماذا لم تُعصب بنت شعبي؟!" [19-22].

لم يستطع رجال العهد القديم أن يتمتعوا بالإجابة على هذه الأسئلة إلا قلة قليلة خلال الرموز والظلال، لذا كانوا يصرخون: "مضى الحصاد، انتهي الصيف، ونحن لم نخلص" [20]. إذ كان الفلاحون يتوقعون في ذلك الحين أن يحصدوا الحنطة في الفترة ما بين شهري إبريل ومايو، وإن لم تأتِ الحنطة بحصاد يترجون حصاد العنب والتين والزيتون الخ. في الصيف. لكن عبر وقت الحصاد وانتهي الصيف وليس من ثمر! أي رجاء لهم بعد؟

رجاؤنا في السيد المسيح القائل: أنا هو البلسان، أنا هو الطبيب! "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة" [21]. وجدنا الإجابة في مسيحنا الذي بصليبه انسحق ليردنا من سبي الخطية، ويدخل بنا إلى أورشليمه السماوية، ويقيمنا ملوكًا وكهنة لله أبيه.

يقدم لنا مسيحنا طرق علاج كثيرة:

v     إنكم تجدون بالحق طرق علاجٍ كثيرة من الشر في الكتاب المقدس، أدوية كثيرة تخلصكم من الدوار وترد لكم الصحة،

أسرار الموت والقيامة،

عبارات الدينونة المرعبة والعقاب الأبدي،

تعاليم التوبة وغفران الخطايا،

وتوضيحات بلا حصر عن الندامة مثل الدرهم (المفقود)، والخروف (الضال)، والابن الذي أنفق ماله مع الزواني، الذي كان ضالاً وُوجد، وميتًا فعاش (لو 15).

ليتنا لا نستخدم طرق العلاج هذه بطريقة شريرة، وإنما لنستخدمها لشفاء نفوسنا. فكر في يومِك الأخير[186]...

 القديس باسيليوس


 

من وحيّ إرميا 8

بشريعتك أتلذذ

v     عرفت شريعتك وحفظتها منذ حداثتي،

عرفتها بفكري وعقلي،

هب لي أن أختبرها بقلبي و حياتي!

أخطأت إذ لم أتذوقها في سلوكي،

هب لي أن تكون لذتي و حياتي ومرشدي!

v     خارج شريعتك كل ما فيّ يتدنس،

حتى عظامي بعد رقادي تصير في عارٍ وخزي!

بشريعتك تتقدس كل  حياتي،

حتى أكلي وشربي وملبسي وكل عظامي!

v     عجيبة هي شريعتك... هبني أن ألتصق بها!

أتحد بها فأحيا، ولا يقدر الموت أن يحطمني!

أتقدس بها، فتتبارك نفسي مع جسدي وعظامي!

أغتني بها، ولا يقدر لص ما أن يسلبني كنزي!

تضمني إليك، فأصير عضوًا في العائلة السماوية!

تفتح لي أبواب السماء، فلن يقدر الموت أن يحطم رجائي!

v     لتحملني كلمتك إلى التوبة، فأرجع إليك،

ولا أصير في غباوتي كخيلٍ جامح في وسط المعركة!

لا أقبل كلمات الخطية الناعمة،

بل في حياء وخجل أعترف لك بإثمي!

v     شريعتك كشفت لي عقمي ومرارة خطيتي.

لم أجد لي حصنًا من خطاياي سواك،

ولا من ينزع عني ماء العلقم سوى صليبك،

ولا من يرد لي السلام إلا قيامتك.

ولا من يهبني الشفاء من خطاياي إلا نعمتك،

ولا من يخلصني من العدو الشرير المفترس إلا قوتك.

تعال يا مخلصي الصالح،

فقد لدغتني الحية المحرقة،

انقذني، خلصني، وارفع غضبك عني!

v     أنت يا مخلصي هو الكلمة الإلهي!

أنت هو بلسم جلعاد الذي يشفي جراحاتي!

أنت طبيب النفس والجسد!

لتعصب أعماقي، ولتهبني الشفاء،

فأوجد معك إلى الأبد!

<<


 

الأصحاح التاسع

مرثاة على الجميع

رأينا في الأصحاح السابق كيف كاد قلب إرميا النبي أن يتمزق بسبب ما سيحل على شعبه من تأديبات قاسية مع إصرار الشعب على عدم التوبة. وها هو هنا يدعو إلى إقامة مرثاة على شعبه بسبب ما بلغ إليه من شكلية في عبادته وحرفية في حفظه للشريعة بلا ثمر روحي:   

1. بكاء النبي الدائم [1-2].

2. عدم مبالاتهم بحالهم:

   أ. انشغلوا بالمكر [3-9].

   ب. صاروا في فراغ  [10-11].

   ج. رفضهم الشريعة  [12-16].

3. الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون [17-22].

4. الله واهب الحكمة والمعرفة [23-24].

5. الدينونة بلا محاباة[25-26].

1. بكاء النبي الدائم:

"يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي" [1].

لم يكن أمام إرميا النبي الذي توجعت أحشاؤه في داخله، وكادت جدران قلبه أن تنهار إلا أن يبكي بمرارة، ويود أن يبقى باكيًا بغير توقف حتى يعمل روح الله لتبكيت الشعب واعترافهم بخطاياهم فيعودون إلى الرب.

هذه هي مشاعر كل مؤمنٍ حقيقي، يدرك ما للدموع الصادقة من قدسية في عيني الله، من أجل خلاص نفسه ومن أجل خلاص إخوته.

إذ رأي القديس باسيليوس كيف تسللت الهرطقات إلى قلوب البسطاء تفجرت ينابيع عينيه، قائلاً:

v     إنى أبكي أيامًا كثيرة على الشعب الذي انسحب للهلاك خلال التعاليم الشريرة، فإن آذان البسطاء قد ضلت واعتادت أن تسمع الشرور الهرطوقية.

القديس باسيليوس[187]

وفي حديث القديس يوحنا الذهبي الفم لصديقه الساقط ثيؤدور يقول:

v     إنه وقت مناسب لي أن أنطق بهذه الكلمات الآن.

نعم، بل وأكثر مما كان في أيام النبي. فإن كنت لا أحزن على مدنٍ كثيرة، أو كل الأمم، لكنني أحزن على نفسٍ توازى أممٍ كثيرة كهذه، بل وأثمن منها.

إننى لا أحزن لأجل دمار مدينة أو أسر الأشرار لها، بل لأجل تدمير روحك المقدسة... وهلاك الهيكل الحامل للسيد المسيح وإبادته... هذا الهيكل أقدس من ذاك (هيكل العهد القديم)، فأنه لا يتألق بذهبٍ أو فضةٍ بل بنعمة الروح القدس، وبدلاً من تابوت العهد وتمثالي الشاروبيم يوجد في القلب السيد المسيح وأبوه والباراقليط.

القديس يوحنا الذهبي الفم[188]

ويعلق القديس جيروم على هذه الآية بقوله: [إنه في هذا المعني، يتحدث النبي مع خدام الكنيسة، داعيًا إياهم حوائطها وابراجها، قائلاً لكلٍ منهم: "أيها الحائط، لتذرف الدموع" (مرا 2: 18)[189]].

أعطى النبي سببًا لبكائه في (2: 10): "لا تبكوا ميتًا، ولا تندبوه. ابكوا ابكوا من يمضي، لأنه لا يرجع بعد فيرى أرض ميلاده".

ويصرخ القديس بولينوس أسقف نولا إلى الله كي يفجِّر في قلبه الحجري ينبوع دموع لا يتوقف، فيبكي على ماضيه وينتحب أعماله السابقة، حاسبًا هذه الدموع ينبوع تقوي.

v     من يقدر أن يمدني بينبوع مجاري الدموع، لأنتحب أعمالي وأيامي؟ فإنني محتاج إلى نهر لأبكي الضربات القاسية التي استحقها من أجل حياة قضيتها في الخطية!

القديس بولينوس أسقف نولا[190]

هنا يقدم لنا إرميا النبي مفهومًا جديدًا للراحة، إذ يجد تعزيته وسلامه في جديته في العمل، وإن كلفه ذلك تحويل عينيه إلى ينبوع دموع. لقد كان رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزى" (عب 12: 2). راحتنا وسرورنا في آلامنا من أجل إخوتنا! وكما جاء في إشعياء النبي: "لأجعل لنائحى صهيون، لأعطيهم... دهن فرح عوضًا عن النوح" (61: 3).

يربط بعض الغربيين بين الروحانية والفردية indvidualism، ويرون في إرميا رائدًا "للفردية الدينية" وذلك لهجومه على الشكلية في العبادة الجماعية، وتركيزه على الإصلاح الداخلي وختان القلب والأذن، إلا أن عباراته هنا (8: 18، 9: 1) تكشف عن خطأهم[191]، فإنه يبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبه، طالبًا الإصلاح الروحي الجماعي، والتوبة الجماعية دون عزلها عن توبة كل عضوٍ في الجماعة.

كان بكاء الرجال علانية أمام الآخرين معيب، ففي أفضل وضع يُحسب علامة عن الضعف[192]. لكن إرميا قبل أن يُنسب إليه الضعف من أجل خلاص شعبه.

"ياليت لي في البرية مبيت مسافرين،

فأترك شعبي وأنطلق من عندهم،

لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين" [2].

في رقة شديدة حمل إرميا النبي أخطاء شعبه في قلبه وفكره وكل أحاسيسه، فتفجرت فيه ينابيع دموع لا تتوقف وتنهدات داخلية مُرّة. كان في هذا رمزًا للسيد المسيح، العبد المتألم، الذي حمل أحزاننا، لكن شتان ما بين إرميا النبي والسيد المسيح. فالأول بحبٍ صادقٍ احتمل إلى حين لكنه كاد أن ييأس، فطلب الهروب إلى البرية، بعيدًا عن كل أحد، يبكي ويئن! أما مسيحنا فحمل أحزاننا وأوجاعنا، ولم يشتهِ الهروب، بل نزل إلى برية حياتنا ليبقى وسطنا حتى يحمل على كتفيه كل نفس يمكن أن تتوب وترجع إليه، قائلاً: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

لقد نزل إلى عالمنا، وحلّ بيننا كواحدٍ منّا، وحين ارتفع إلى السماء لم يهرب منا، بل حملنا معه لكي نشاركه أمجاده!

لنحمل روح السيد المسيح، ولنشتهِ أن نوجد وسط الشعب - مهما كان شرهم - لكي نحمل آلامهم، ونبكي على ضعفاتهم، طالبين بيقين الإيمان وقوة الرجاء عمل الروح القدس فيهم.

ليتنا لا نهرب من طريق الصليب، ولا نخف من الأوجاع.

ولعل إرميا النبي مع محبته الشديدة لشعبه وانسكابه في بذل حقيقي لذاته من أجلهم خشى أن يبقى معهم، يتلوث بسلوكهم الشرير، فيحل غضب الله عليه معهم، لأنهم "جميعًا زناة جماعة خائنين" [2].

هذه هي الخطية الخطيرة التي يركز عليها الأنبياء "الخيانة الزوجية"، بمعنى رفض النفس الاتحاد مع خالقها لتتحد مع عدو الخير، فتفرح بالشر وتفتخر به، وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي:

v     يوبخهم على شرهم وكذبهم، وبسبب أعمالهم الشريرة، إذ يجرون من شرٍ إلى شرٍ، أما السبب الذي لأجله قدم اتهامًا أنهم غير أبرار فهو أنهم لم يعرفوا الرب وغير أمناء.

البابا أثناسيوس الرسولي[193]

ولعل سبب رغبته في الهروب هو فقدان الثقة فيهم، إذ اختاروا لأنفسهم عالم الخداع، خلقوه بأكاذيبهم التي اخترعوها.

يرى البعض أن شوق النبي إلى الهروب إلى البرية، إنما يكشف عن حاجة النفس إلى الاختلاء مع الله في البرية، بعيدًا عن ضوضاء المدينة والانشغال بتصرفات الناس التي تبتلع الفكر وتشغله عن التأمل في السمويات والاهتمام بخلاص نفسه. هذا ما دفع كثير من الآباء إلى الهروب إلى البرية، ليس ضيقًا بالناس، ولا احتقارًا للحياة الزمنية، ولكن للتأمل في السمويات مع انفتاح القلب بالحب نحو الخليقة كلها!

كثيرًا ما ردد القديس ماراسحق السريانى عبارته المشهورة إن مجرد التطلع إلى البرية يميت في النفس الشهوات الجسدية. وله في "السكون" أحاديث طويلة.

يليق بالمؤمن وسط مشاغله أن يهرب كل يوم إلى البرية الداخلية، في أعماق نفسه، ليلتقي مع مخلصه قائلاً مع القديس أغسطينوس إنه يحسب كأنه لا يوجد في العالم سوى الله وهو وحدهما، يناجيان بعضهما البعض في حب مشترك لا يُنطق به!

جاء مسيحنا إلى أرضنا، وشاركنا حياتنا الزمنية، لكنه بين الحين والآخر كان يصعد إلى جبل وحده منفردًا ليعلمنا الاختلاء بالنفس في حضرة الرب، ومراجعتها تحت قيادة روحه القدوس.

2. عدم مبالاتهم بحالهم:

إن كان النبي قد كرّس حياته للدموع من أجلهم لأنهم كانوا يجرون من شرٍ إلى شرٍ في خيانة لعريس نفوسهم، فإنهم من جانبهم لم يبالوا بدموعه، بل حسبوه إنسانًا متشائمًا يحطم نفسيتهم، يستحق الطرد، بل والموت، وذلك لأنهم لم يدركوا ما هم عليه. ويقدم لنا النبي علَّتين لعدم مبالاتهم، هما:

أولاً: انشغلوا بالمكر:

"يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب لا للحق،

قووا في الأرض.

لأنهم خرجوا من شرٍ إلى شرٍ وإيأي لم يعرفوا يقول الرب" [3].

إذ تحولت ألسنتهم إلى أداة للحرب، لا لحساب الحق بل للكذب، ظنوا أنهم أقوياء، فانطلقوا في الخبث من شرٍ إلى شرٍ، ودخلوا في دوامة الخطية، ولم يجدوا فرصة للوقوف إلى حين ومراجعة النفس. بهذا فقدوا معرفة أنفسهم كما فقدوا بصيرتهم الداخلية ومعرفتهم للرب.

يكمل النبي حديثه عن خطورة المكر:

"احترزوا كل واحدٍ من صاحبه،

وعلى كل أخٍ يعقب عقبًا، وكل صاحب يسعى في الوشاية.

ويختل الإنسان صاحبه، ولا يتكلمون بالحق.

علَّموا ألسنتهم التكلم بالكذب، وتعبوا في الافتراء" [4-5].

يدهش إرميا النبي من الإنسان الذي في شره يرفض الصداقة مع الحق، هذه التي تقدم له الراحة بلا تعبٍ داخلي، بينما يبذل كل الجهد ليتعلم الافتراء. وكما يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [إنهم يتعبون لكي يخطئوا. وبينما يرفضون أن يعيشوا بالبساطة، إذا بهم يطلبون بالأتعاب أن يموتوا[194]].

v     يؤكد إرميا النبي أنهم يرتكبون أثامهم الخبيثة لا بإرادتهم إو بانشراح قلب فحسب، بل ويبذلون جهودًا شاقة محتملين أتعابًا في تنفيذها[195].

الأب ثيوناس

إن كانت بساطة الحب تحتاج إلى جهاد، لكنه جهاد العذوبة الذي يعطى راحة للنفس والجسد معًا، أما المكر فإن بدى سهلاً لكنه يقدم تعبًا ومرارة للنفس والجسد معًا، والعجيب أن الإنسان يرفض الراحة الداخلية ويطلب لنفسه أن يتعلم الشر والخبث بجهد وتعب مرّ.

بقوله: "لأن كل أخ يعقب عقبًا aqob yaqob" [4] ربما يشير إلى قول عيسو عن أخيه يعقوب: "إلا إن اسمه دعي يعقوب، فقد تعقبنى الآن مرتين: أخذ بكوريَّتي وهوذا الآن قد أخذ بركتي" (تك 27: 36). يعطى هنا مثلاً لاساءة تفسير الكتاب المقدس، فيعقوب تعقب أخيه فأخذ بكوريته بأكلة عدس وبركته بتقديم طعام لأبيه اسحق، وقد دفع ثمن خداعه، إذ خدعه أولاده زمانًا هذا مدته حتى فقد بصره. أما هذا الشعب فتعقب كل واحد أخاه، لا لينال بركة أو بكورية، وإنما ليمارس الظلم والعنف والخداع لأجل حبهم في الشر ومباهاتهم به.

تعبوا لكي يستقروا وسط مرارة المكر، ويجعلوا منه مسكنًا دائمًا لهم، وكأنهم يرفضون بساطة الحق، ليعيشوا في مكر الباطل، أو يرفضوا السكنى في الله والوجود في أحضانه، ليستقروا في قلب إبليس الكذاب والمخادع. بهذا فقدوا معرفة الرب، إذ قيل:

"مسكنك في وسط المكر.

بالمكر أبوا أن يعرفوني يقول الرب" [6].

ماذا يعني فقدانهم معرفة الرب؟

عدم إدراكهم أن الله محب حتى في تأديباته، أما الأشرار فمبغضون حتى في قبلاتهم.

"لذلك هكذا قال رب الجنود:

هأنذا أنقيهم وأمتحنهم.

لأني ماذا أعمل من أجل بنت شعبي؟

لسانهم سهم قتّال يتكلم بالغش.

بفمه يكلم صاحبه بسلام،

وفي قلبه يضع له كمينًا" [7-8].

v     تُحتمل جراحات الأعداء بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملؤة مكرًا... قيل "كلام النمام مثل ُلقمٍ حلوة فينزل إلى مخادع البطن" (أم 26: 22).... "الرجل الذي يطرب صاحبه يبسط شبكة لرجليه" (أم 29: 5).

الأب يوسف[196]

v     الفم هو مصدر كل شر، بالأحرى ليس الفم بل الذين يسيئون استخدامه. فمنه تصدر الشتائم والإهانات والتجاديف وما يثير الشهوات والقتل والزنا والسرقات، هذه جميعها مصدرها إساءة استخدام الفم.

القديس يوحنا الذهبي الفم[197]

v     إن صُنت لسانك يا أخى يهبك ندامة في القلب، فترى نفسك. وهكذا تدخل إلى الفرح الروحي. أما إذا غلبك لسانك - فصدقنى فيما أقوله لك - فإنك لن تقدر أن تهرب من الظلمة.

القديس مار إسحق السريانى[198]

فقدوا معرفتهم للرب بلسانهم الغاش، الذي يكلم صاحبه بالسلام وهو يخطط له في قلبه لهلاكه، الأمر الذي تجسم بصورة بشعه في يهوذا الذي كان تلميذًا للرب، وملتصقًا به حسب الجسد، لكنه لم يعرفه كربٍ ومخلصٍ، فأسلمه بقبلة غاشة.

v     لم يكن أحد مجرمًا في حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذي تقدم باحترام مملوء خداعًا وتكريمًا فاسدًا مقدمًا قبلة حبٍ غاشة، هذا الذي قال له الرب: "يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!" (لو 22: 48)...

الأب يوسف[199]

ثانيًا: صاروا في فراغ:

"على الجبال أرفع بكاءً ومرثاة،

وعلى مراعى البرية ندبًا،

لأنها احترقت،

فلا إنسان عابر،

ولا يُسمع صوت الماشية.

من طير السموات إلى البهائم هربت، مضت.

وأجعل أورشليم رُجمًا ومآوي بنات آوي،

ومدن يهوذا أجعلها خرابًا بلا ساكن" [10-11].

السبب الثاني لعدم مبالاتهم بحالهم هو الدخول إلى حالة فراغٍ داخلي. فالنفس لا تشبع من الله خالقها، وتحمله كسماء وعرش له. تفقد تقديرها لخلاصها، ولا تدرك حقيقة مركزها، فتعيش كمرعى احترق، يصير خرابًا لا يعبره إنسان ولا يُسمع فيه صوت ماشية، ولا يهيم فيه طير. إنما يسكنه بنات آوي.

لقد صعد إرميا على الجبال، أي على شريعة الله ومن هناك تطلع إلى البرية، فوجد مراعيها قد احترقت بنيران الشهوات وحلّ بها الخراب، فرفع صوته وبكي، مقدمًا مرثاته على شعبه الذين دخلوا إلى حالة فراغ.

الشرير تتحول أورشليمه إلى رُجم [11]، عوض أن يكون قلبه مدينة الله المقدسة، يصير أشبه بمكان مهجور دنس، يُشتم فيه رائحة الموت.

عوض أن تكون مرعى للغنم، أي حظيرة الخراف المقدسة التي تضم شعب الله، تصير مآوي لبنات آوي [11]، وهي حيوانات أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب، دائمًا تعوي؛ تتسم بالوحشية مع المكر والخداع، وترمز لعدو الخير إبليس وملائكته.

وتصير مدن يهوذا خرابًا، تحطم مواهب الإنسان وقدراته.

في اختصار يفقد الإنسان عقله ونفسه وجسده وقدراته ومواهبه ويدخل في حالة فراغ:

أ. يحترق مرعى قلبه بنار الشهوات، عوض إقامة راعى النفوس في داخله.

ب. ليس فيه إنسان، أي يفقد عقله الروحي ووعيه واتزانه.

ج. لا يُسمع صوت ماشية فيه، حيث يخسر حتى بركات الجسد.

د. تهرب منه طيور السماء، إذ لا تقدر نفسه أن ترتفع بروح الرب كما بجناحي حمامة إلى السماء.

هـ. تتحول أورشليمه الداخلية، أي قلبه، إلى رُجم مملؤة دنسًا.

و. يسكنه عدو الخير بمكره وخداعه (بنات آوي).

ز. تتحطم مواهبه وقدراته (مدن يهوذا).

يقدم هنا مرثاة عن خراب أورشليم بسبب شرها. وقد كانت هذه العادة قائمة في أيام القديس جيروم[200].

يقول القديس أغسطينوس: [أورشليم الأرضية هذه هي ظل أورشليم السماوية[201]].  لقد اختار الله أورشليم بكونها الموضع الذي يسكن فيه اسمه (1 مل 11: 13، 2 مل 21: 4)، المدينة المقدسة التي يقطن فيها عرش الله (3: 16إلخ)، وعلامة لحلوله وسط شعبه، لذلك حينما يؤدب شعبه يهدد بتدميرها وخرابها (9: 11 ، 13: 9، 27؛ حز 4، 5، مي 3: 12). تحدث عنها الأنبياء كمركز للعمل المسياني، إليها يعود كل الأمم (إش 2: 2 الخ، 66: 18-20، مي 4: 1-3، حج 2: 7 إلخ). وفي العهد الجديد أعلن السيد المسيح عن اشتياقه لخلاص المدينة، وقد صارت في الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس مركزًا للمسيحية، فيها يلتقي الرسل والتلاميذ. لكن أنظار المؤمنين كانت بالأكثر تلتقى نحو أورشليم العليا (غلا 4: 26، عب 12: 22، رؤ 14: 1، رؤ 21) كغاية عبادتهم.

ثالثًا: رفضهم الشريعة:

"من هو الإنسان الحكيم الذي يفهم هذه؟

والذي كلمهُ فم الرب فُيخبر بها؟

لماذا بادت الأرض واحترقت كبرية بلا عابر؟

فقال الرب: على تركهم شريعتي التي جعلتها أمامهم،

ولم يسمعوا لصوتي

ولم يسلكوا بها" [12-13].

من يرفض كلمة الله النارية التي تحرق أشواك الخطية، وتلهب القلب بنيران الحب الإلهي، وتجعل منه خادمًا لله بنارٍ سماوية، تشتعل فيه نيران الشهوات، فتحوله إلى برية خربة!

3. الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون:

لا يقف إرميا النبي وحده يُرثى هذا الشعب، وإنما يطلب الله منهم أن يدعو النادبات والحكيمات ليرفعن مرثاة ويذرفن الدموع عليهم:

"هكذا قال رب الجنود:

تأملوا وادعوا النادبات فيأتين،

وأرسلوا إلى الحكيمات فيُقبلن،

وُيسرعن ويرفعن علينا مرثاة،

فتذرف أعيننا دموعًا وتفيض أجفاننا ماءً" [17-18].

يقول رب الجنود: "تأملوا" [17]. لا طريق للتوبة بدون "التأمل"، أي وقفة النفس قليلاً لتراجع نفسها عن كل تصرفاتها الماضية. أما دعوة النادبات والحكيمات فتشير إلى دراسة كلمة الله مصدر التوبة والحكمة العلوية.

يريد الله كل إنسانٍ أن يأتي ويرثى صهيون ويبكي عليها. لعله يقول إن كانت عيوننا قد جفت وقلوبنا قد غلظت فلنلجأ إلى إخوتنا الروحيين ليسندوننا، نتعلم منهم حياة التوبة ونطلب صلواتهم عنّا. إن أمكننا أن ندعو كل الخليقة لكي تسندنا بالصلاة إلى الله الذي يعيننا بفيض نعمته.

v     أيتها التلال نوحي، أيتها الجبال اندبي!

لندعو كل الخليقة لتشاركنا بالوجدان بسبب خطايانا... لنلجأ إلى الملك الذي هو من فوق. لندعوه فيعيننا.

فإن كنا لا نطلب عونًا من السماء لا تكون لنا تعزية نهائيًا فيما نحن قد سقطنا فيه.

القديس يوحنا الذهبي الفم[202]

حينما نعيش مع التائبين نتعلم التوبة، وحينما نطلب رثاء الغير علينا نرثي نحن لحالنا، ونتعلم ونعلم إخوتنا وأولادنا أيضًا البكاء على الخطية، إذ يقول:

"بل اسمعن أيتها النساء كلمة الرب، ولتقبل آذانكن كلمة فمه،

وعلمن بناتكن الرثاية، والمرأة صاحبتها الندب" [20].

أما علة الرثاء فهو إدراكنا أن الموت قد دخل إلى أعماقنا من خلال كوى الحواس، ليحطم قصورنا الداخلية المقامة لملكوت السموات.

"لأن الموت طلع إلى كوانا،

دخل قصورنا،

ليقطع الأطفال من خارج،

والشبان من الساحات" [21].

يجعل من الموت شخصًا يدخل إلينا، كما فعل إشعياء إذ جعل منه طرفًا يقيم معه الإنسان عهدًا "لأنكم قلتم قد عقدنا عهدًا مع الموت... ويمحي عهدكم مع الموت" (إش 28: 15، 18). يدخل الموت إلينا خلال الحواس (الكوى)، ويسيطر على القلب، أي في قصورنا التي هي مسكن ملك الملوك. يقتل الأطفال الذين يلعبون في الخارج، أي يبيد الأشواق المقدسة للشركة مع إلهنا، أو البدايات الطيبة للحياة الفاضلة في الرب التي لم تتأصل بعد فينا، كما يقتل الشبان من الساحات، أي يهلك حتى الأقوياء الذين كان يلزمهم أن يحاربوا روحيًا في الساحات.

في هذا يوبخهم على عبادتهم للإله بعل Baal الذي كان يكره النوافذ، لأنه حسب الأساطير الكنعانية دخل بعل عليان Aliyan Baal في معركة ضد Yamm، وإذ انتصر عليه أراد بناء قصر ضخم جدًا، فاقترح عليه المهندس أن يوجد به نافذة، فقاوم الفكرة أولاً ، لكنه عاد فقبلها. خلال هذه النافذة قفز إليه الإله موت Mott، إله الموت والعالم السفلي وسيد كل قوى التخريب، أخطر عدو للبعل عليان.

يصوّر الموت هنا أنه يصعد إلى النوافذ ويدخل القصور ويقتل الأطفال والشباب في الشوارع وميادين المدينة، وهو تصوير مقابل الخلاص الذي به تمتلئ الشوارع بالشيوخ، والأطفال يلعبون هناك (زك 8: 4-5).

يعود فيصور الموت في الحقول حيث الجثث تكون كبواقي الحيوانات التي لا تجد من يجمعها ليدفنها. وكأن الموتى قد ملأوا القصور المهدمة والشوارع والميادين والحقول.

يدخل الموت إلينا خلال الحواس (الكوى):

v     لنا خمسة شبابيك: النظر، السمع، التذوق، الشم، اللمس...

إن نظرت إلى امرأة لأشتهيها، ارتكب الزنا في قلبي، فيدخل الموت من خلال شباك النظر الذي بي...

إن كان صوت قيثارة أو أرغن أو مزمار، يدخل الموت إلى النفس خلال حاسة السمع.

أيضًا أن لمست شيئًا ناعمًا، يكسر مقاومة جسدي يدخل الموت خلال اللمس، وهكذا على نفس الخط[203].

v     فتح دانيال نوافذه على أورشليم (7: 10)، فهل تحفظ نوافذك مفتوحة فقط تجاه النور لكي يدخل منها وترى الرب؟! لا تفتح تلك النوافذ التي يقول عنها النبي: "الموت يدخل في نوافذنا" (9: 21)[204].

القديس جيروم

v     لأنه ما هي الحاجة أن يُغلق باب قلبك أمام العريس؟

ليُفتح للمسيح، ويُغلق أمام الشيطان، كالقول: "إذا صعد عليك روح ذاك الذي له قوة لا تترك مكانك" (رؤ 3: 20).

احتفظ دانيال في عليته بنوافذه مفتوحة نحو أورشليم، إذ لم يستطع أن يبقى أسفل (دا 6: 10).

اترك نوافذك مفتوحة، لكي ترى مدينة الله.

لا تفتح تلك النوافذ التي قيل عنها: "الموت يأتي خلال نوافذك" (9: 21).

القديس جيروم[205]

v     يحاربنا الشرير بمصادر في داخلنا، فيجلب علينا الموت من الكوى، كما يقول الكتاب المقدس، أي خلال الحواس.

القديس غريغوريوس النزينزى[206]

4. الله واهب الحكمة والمعرفة:

لئلا يظن الإنسان أن التوبة هي عمله الذاتي أو أنه بحكمته ومعرفته ينمو روحيًا أكد الرب:

"لا يفتخر الحكيم بحكمته،

ولا يفتخر الجبار بجبروته،

ولا يفتخر الغني بغناه،

بل بهذا يفتخرن المفتخر:

بأنه يفهم ويعرفني إني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض" [23-24].

جاء هذا الحديث إجابة على التساؤل الذي وُجه ضد كلمات إرميا النبي: ماذا ينقصنا ونحن نقتني الحكمة والقوة والغنى؟

في لغة مشابهة يتكلم النبي حزقيال عن أن الفضة والذهب التي يفتخر بها الإنسان لا تفيد شيئًا فيقول "يلقون فضتهم في الشوارع وذهبهم يكون لنجاسة لا تستطيع فضتهم وذهبهم إنقاذهم في يوم غضب الرب. لا يشبعون منهما أنفسهم ولا يملأون جوفهم لأنهما صارا معثرة إثمهم" (حز 7: 19).

يقتبس الرسول بولس هذه الآية ويطبقها في الرسالتين إلى  أهل كورنثوس (1 كو 1: 31، 2 كو 10: 17). ففي الأولى  يقارن بين صليب السيد المسيح والفلسفة أوالحكمة الإنسانية؛ فصليب المسيح هو قوة الله وحكمة الله للخلاص وقد صار ربنا يسوع المسيح لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداء، بهذا يهدم الرسول أساس افتخارهم بالناس، فإنهم في غباوتهم يقولون أنا لبولس وأنا لأبُلّوس وأنا لصفا؛ وكأن مصدر خلاصهم وحياتهم الناس. وفي الرسالة الثانية يتألم الرسول مما سمعه عن أعمال المعلمين الكذبة المتعجرفين، فإن من يظن أنه أفصح من غيره يكون بهذا قد افتخر بنفسه ونسى الرب. لقد افتخر الأنبياء الكذبة بحكمتهم المخادعة، والقادة العسكريون بجبروتهم وقوتهم، وتصادموا مع إرميا النبي الناطق بالحق الإلهي، وحسبوا حكمة الله التي نطق بها جهالة.

هذه التسبحة تمجد حكمة الله وفهمه ومعرفته، الأمور التي يحسبها غير الروحيين غباوة وجهالة، متكلين على حكمتهم البشرية وخبرتهم الشخصية ومعرفتهم العقلية البحتة خارج دائرة الإيمان والإعلان الإلهي. لهذا ففي إرسالية السبعين رسولاً قيل: "تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك" (لو 10: 21). ويقول الرسول بولس: "لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة... لأن جهالة الله أحكم من الناس... اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء" (1 كو 1: 21-27). هكذا إذ أساء الإنسان إلى الحكمة التي وهبه الله إياها ظن حكمة الله جهالة...

5. الدينونة بلا محاباة:

الله خالق الكل يدين الجميع بغير محاباة، إذ قيل:

"ها أيام يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف،

مصر ويهوذا وأدوم وبني عمون وموآب وكل مقصوصي الشعر مستديرًا الساكنين في البرية،

لأن كل الأمم وكل بيت إسرائيل غلف القلوب" [25-26].

الخلفية وراء هذا النص هي العقيدة التي في ذهن اليهود أن ختان الجسد يفصل بين من يُنسب للحق ومن يُنسب للباطل. حقًا إن الختان هو علامة الدخول في عهد مع الله (تك 17: 9-14) وغيابه علامة العداوة لله (1 صم 17: 26، 36)، لكن هنا يُبرز أن ختان الجسد في ذاته لا يحمي الإنسان من غضب الله.

إن كان الكل قد سقط تحت الدينونة، الغلف حسب الجسد (الأمم)، والغلف حسب الروح أو القلب (اليهود)، لهذا يحتاج الكل إلى المخلص.

يقول العلامة أوريجينوس: [يقول حزقيال النبي: "... الغريب أغلف القلب وأغلف اللحم لا يدخل مقدسي" (حز 44: 9)... هنا اشارة إلى أنه مالم ُيختتن الإنسان في القلب والجسد لن يدخل هيكل الله[207]].

ذكر مصر في مقدمة القائمة لأن كثيرين من الشعب والقادة ظنوا أنها المنقذ من أشور أو بابل فيما بعد، هذا ومن جانب آخر فإن المصريين كانوا يمارسون الختان حسب الجسد، لكنه ليس ختان للرب بل للأوثان، فهل يستطيع الختان أن يخلصهم؟!

الدعوة هنا لقبول المخلص وممارسة التوبة عامة للجميع، لليهودي لأنه وإن كان مختون الجسد لكنه أغلف القلب [26]، وللأممي لأنه أغلف جسديًا وقلبيًا.

أراد الله من شعبه ألا يتمثل بشيء مع الشعوب الوثنية، فمن عادات بعض الشعوب يقص الرجال شعرهم ويبقون جزءُا في شكل سطح مستدير وسط الرأس إرضاء لآلهتهم، لذلك دعاهم الوحي "مقصوصي الشعر مستديرًا". كانت هذه العادة تشير إلى تكريس الإنسان لعبادة آلهة معينة وثنية، أما مكرسوا الرب أو النذيرون فلا يعلو موسى رأسهم. بدون الرأس يفقد الشعر جماله وقيمته. كأن كل نفس تعتزل مسيحها تكون كشعرة رأس سقطت عن مصدر حياتها لا تستحق إلا إلقاءها في سلة المهملات. أما بقاء شعر اللحية فيشير إلى كرامة الكهنوت، فالمسيحي إذ يدخل مياه المعمودية يصير كاهنًا روحيًا بالمفهوم العام، يليق أن يحافظ على شعر لحيته الروحية أي سلوكه بما يليق كابن لله وكاهنًا له.


 

من وحي إرميا 9

هب لي يارب دموعًا مقدسة!

v     هب لي يا رب ينبوع دموع مقدسة،

فأرتفع على جبل شريعتك، في وسط البرية،

أكتشف خطايأي وخطايا إخوتي،

فأبكي نهارًا وليلاً!

v     أبكي لساني الذي يحمل سُمًا معسولاً،

يتكلم بالسلام مخادعًا، وقلبي غير مقدس!

ضع يارب حارسًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتي!

قدِّس كلماتي المنطوق بها والخفية!

فلا أدين أخًا، ولا أشي بأحدٍ!

v     انطلق الموت إلى أورشليمي،

تسلق خلال الكوى،

قتل أطفالي وشباني!

حولها إلى برية قاحلة ومقبرة دنسة!

لم يعد يعبر بها إنسان،

ولا يرعى فيها حيوان،

ولا يطير في سمائها طير!

من ينقذني منه إلا أنت، يا واهب القيامة؟!

v     قدس كوى نفسي، وحواس جسدي،

فلا يدخلها موت بعد،

ولا تصير أورشليمي رجمًا،

بل مقدسًا لك أيها القدوس!

v     هب لي دموعًا مقدسة،

فأبكي بروح الرجاء!

أنتحب في يقين عمل نعمتك يا مخلص العالم!

<<


 

الأصحاح العاشر

العودة إلى الله

بهذا الأصحاح ينتهي القسم الخاص بالعتاب العلني في داخل الهيكل.

إن كان في الأصحاح السابع يتحدث عن تقديس البيت الداخلي، وفي الثامن عن عدم الاتكال على حفظ الشريعة حرفيًا، وفي التاسع يقيم مرثاة على ما وصلوا إليه، ففي العاشر يتحدث عن العودة إلى الله.

1. ترك الوثنية الباطلة وقبول الإله الحق[1-16].

2. الخروج عن الأرضيات[17-22].

3. قبول تأديبات الرب[23-25].

1. ترك الوثنية الباطلة:

أول وسيلة للعودة إلى الله هو ترك الوثنية الباطلة [1-2]، رفض ما هو باطل وقبول الإله الحق [10].

 أبرز أن الله فريد، وعظيم، ومهوب، سيد الطبيعة، ورب التاريخ، بينما عبادة الأوثان مجرد وهم، حيث يرتعب عابدوها من ظواهر الكواكب السماوية كما من قطعة خشب من عمل أيديهم، يقيمونها تمثالاً يتعبدون له، في حقيقتها أشبه باللعين (خيال المقاتة) التي يحركها الفلاح أينما أراد ليخيف الطيور، وهي في حقيقتها ليست إلا عصا جامدة، يضع عليها الفلاح ملابس بشرية.

"هكذا قال الرب: لا تتعلموا طريق الأمم.

ومن آيات السموات لا ترتعبوا،

لأن الأمم ترتعب منها...

أما الرب الإله فحق؛

هو إله حيّ وملك أبدي.

من ُسخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه" [1-10].

جاءت كلمة "تتعلموا" في العبرية itlmadu وتعنى "تصيرون تلاميذًا". وكأن العبادة في الحقيقة هي تلمذة، حيث يحمل التلميذ روح معلمه، فمن يتتلمذ للباطل يحمل روح

البطلان، ومن يتتلمذ للسيد المسيح الحق، يحمل روحه وحقه فيه.

إن كانت العبادة الوثنية قد اُنتزعت من الأرض إلى حدٍ ما، لكنها لا تزال ُتمارس في حياة الكثيرين. عندما يتعبد إنسان ما للمال أو محبة المجد الباطل أو العلم أو حب السلطة، متجاهلاً احتياجات نفسه إلى التعرف على الله والالتصاق به، يبحث بطريق أو آخر أن تشبع نفسه، فيقيم في هيكل الرب الداخلي آلهة غريبة عاجزة عن أن ُتشبع حياته وتنطلق بها إلى السموات. إنها تشبه الشجرة التي يقطعونها من الوعر، يقيم منها النجار بآلاته تمثالاً، ويزينونها بالذهب الذي يجلبونه من أوفاز والفضة من ترشيش[208]، يتعبدون لها وهي عاجزة حتى عن الحركة، بل تحتاج إلى مسامير لتثبيتها وعدم سرقتها، وإلى أناس يحملونها، لا تقدر أن تتكلم. يسافر الإنسان إلى ترشيش لكي يجلب فضة يطرقونها، وإلى أوفاز يشتري ذهبًا ليزنونها. ُيلبسونها الإسمانجوني والأرجوان ليقدمونها في شكل ملوكي. لكنها مع كل ما تحمله من شكل جميل ومعادن نفيسة ومظهر ملوكي إلا أنها شجرة جافة، وقطعة خشب لا قيمة لها: "أدب أباطيل هو الخشب!" [8]، وكما يترجمها البعض "تمثال خشب، تعليم لا قيمة له!".

إنها تماثيل لا حياة فيها ولا جدوى منها، تحتاج إلى من يعينها، لا أن تعين عابديها.

لا وجه للمقارنة بين الله وبين الآلهة الأخرى، إذ يقول: "ليس مثلك!" [6].

أ. "أما الرب الإله فحق" [10]؛ من يلتصق به يصير حقًا ولا يدخل إليه البطلان، لهذا يقدم لنا السيد المسيح نفسه قائلاً: "أنا هو الحق" (يو 14: 6)، نقتنيه فنحمل الحق فينا، ولا يقدر الباطل أن يتسلل إلينا. أما من يلتصق بالآلهة الباطلة أو يتعبد لمحبة الأرضيات فيصير باطلاً، ولا يطيق محبة الحق (2 تس 2: 10).

ب. "إله حيّ" [10]؛ كائن نتعامل معه في علاقة شخصية، نجد في الله الآب أبينا الذي يحملنا في أحضانه، ويتعامل معنا كبنين له، ونلتقي بالكلمة عريس نفوسنا الذي يُناجينا ونناجيه، وبروحه القدوس ساكنًا فينا، يقدسنا ويقودنا ويخبرنا بكل ما للابن الخ. هذه هي علاقتنا بالله الحيّ.

ج. "ملك أبدى" [10]؛ علاقتنا بالله ليست على مستوى زمني مؤقت بل علاقة دائمة إلى الأبد. يملك فينا لا ليسيطر علينا وإنما ليقيمنا ملوكًا، يهبنا شركة سماته فنصير خالدين ونعيش معه في مجده الملوكي إلى الأبد. أما من يعتزل الله، فتصير نفسه ُمستعبدة، تذلها الخطية وتحطم إرادتها.

د. "إذا أعطى قولاً تكون كثرة مياه في السموات والأرض" [13]. قوته ليست استعراضًا لسلطانه، وإنما لخير خليقته، يهب النفس (السماء) والجسد (الأرض) كثرة مياه، أي فيض روحه القدوس (يو 7: 37-39)، ليحولنا في مياه المعمودية من القفر إلى فردوس مثمر!

وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [المياه هي بدء العالم، والأردن هو بدء الإنجيل[209]]. ويقول العلامة ترتليان: [لقد أنجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة[210]].

قديمًا "قال فكان"، إذ خلق العالم كله بكلمته، والآن يعطي قولاً، أي بكلمته يهبنا روحه القدوس الذي يجدد خلقتنا بنعمته. إنه خالقنا الذي يجدد خلقتنا! وكما يقول المرتل "هو صنعنا وله نحن شعبه" (مز 100: 3).

هـ. "صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه" [13]، أي قدم للإنسان كل احتياجاته المنظورة (البروق والمطر) وغير المنظورة (الريح وخزائنه)!

يبرق فينا فيهبنا روح الاستنارة، ونكتشف أسرار حب الله وإمكانياته. ويهبنا عطية روحه القدوس كريحٍ تهبّ حيث تشاء ولا نعرف من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهي (يو 3: 18).

يحدثنا ماريعقوب السروجي عن بروق الاستنارة قائلاً:

[المعمودية هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها!

المعمودية هي الطريق العظيم إلى بيت الملكوت، يدخل الذي يسير فيه إلى بلد النور![211]]

و. "من لا يخافك يا ملك الشعوب؟! لأنه بك يليق" [7]. إن كانت الشعوب قد قاومته وقبلت الأوثان آلهة عوضًا عنه، لكنه يبقى في حقيقة الأمر "ملك الشعوب". هو "ملك العالم كله"، أرادوا أو لم يريدوا، نصرخ إليه كملكٍ مفرحٍ، قائلين: "ليأتِ ملكوتك!"، أما المقاومون فيخشون ملكوته ويرتعبون من سلطانه!

ز. "من سخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه" [10]. إن كان الله بالنسبة لمؤمنيه كله عذوبة، يدخل معهم في عهدٍ أبوي، ويقدم إمكانياته لخلاصهم وبنيانهم، ففي عدله أيضًا لا تستطيع الأرض أن تقف أمامه، ولا تطيق الأمم غضبه! لا يحتمل الأشرار الالتقاء معه، لأنه كيف يمكن للظلمة أن تطيق النور؟! أو للباطل أن يشترك مع الحق؟!

ح. الله هو المدافع عن شعبه بكونه "رب الجنود اسمه" [17]. لذا يليق بشعبه كجنودٍ تحت قيادته ألا يخافوا الآلهة الأخرى، هذه التي "في وقت عقابها تبيد" [15].

ط. الله واهب القوة والحكمة والفهم لأولاده المقدسين فيه. للعلامة أوريجينوس تعليق جميل على العبارة: "صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السموات" [12]. يرى أن من بين سمات الله ثلاث: القوة والحكمة والفهم.

يهب القوة لجسدنا الترابي (الأرض

والحكمة لنفوسنا (المسكونة التي يقطنها الثالوث القدوس)،

والفهم لإنساننا الداخلي الذي على صورة آدم الثاني (السموات)، إنه يقول:

[لنأخذ هنا ما يمكننا أن نطلق عليه ثلاث صفات من سمات الله، وهى: قوته وحكمته وفهمه. ينسب النبي إلى كل منها عملاً خاصًا: للقوة الأرض؛ للحكمة المسكونة؛ للفهم السموات.

يقول: "صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات".

بما أننا أرض، أي تراب، لأنه قيل لآدم: "أنت تراب"، فإننا نحتاج إلى قوة الله. وبدون قدرة الله لا نستطيع أن نقوم بأي عمل يفوق قدرات الجسد، لكننا ما أن نميت الأعضاء الأرضية، نقوم بالأعمال التي توافق إرادة الروح، يقول الرسول: "الروح يميت أعمال الجسد".

إذا طبقت هذا الكلام "صانع الأرض بقوته" على الأرض الحقيقية، تجد في سفر أيوب: "أين كنت حين أسست الأرض... من وضع قياسها؟!...أو من مد عليها مطمارًا. على أي شيء قرت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها؟!" (أي 38: 4-6). أي أن قوة الله هي التي حافظت على الأرض في توازنٍ كاملٍ وعجيبٍ.

انتقل أيضًا إلى المسكونة. إنني أعرف ما هي النفس المسكونة وما هي النفس الخالية. إذا كانت النفس لا تحمل الله، إذا كانت لا تحمل السيد المسيح الذي قال: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23)، وإذا كانت لا تحمل الروح القدس، فإنها تكون خالية. لكنها تكون مسكونة حينما تكون ممتلئة من الآب والابن والروح القدس. توجد أمثلة عديدة في الكتاب المقدس، لوجود الآب والابن والروح القدس في نفس الإنسان.

يطلب داود النبي في مزمور التوبة من الآب أن يمنحه هذه الأرواح:

"وبروح مدبر عضدني"،

"روحًا مستقيمًا جدده في أحشائي"،

"روحك القدوس لا تنزعه مني".

من هم هؤلاء الأرواح الثلاثة؟ الروح المدبر هو الآب، الروح المستقيم هو السيد المسيح الابن، والثالث هو الروح القدس.

قلنا هذا لكي نوضح أن المسكونة لم تخلق إلا بحكمة الله. وذلك بما أن: "الحكمة تجعل الحكيم أقوى من عشرة حكام في المدينة"، وأيضًا: "لأن مزدرى الحكمة والتأديب شقي. إنما رجاؤهم باطل وأتعابهم بلا ثمرة وأعمالهم لا فائدة فيها" (حك 3: 11)، كما يقول سفر الحكمة لسليمان.

وأيضًا، بما أن المسكونة قد أسست بحكمة الله، فليكن لنا نحن أيضًا الاشتياق أن يقيم الرب ويؤسس مسكونتنا التي ربما تكون قد سقطت. لأن هذه المسكونة التي لنا قد سقطت حينما جئنا في موضع الفساد[212]، وسقطت حينما أخطأنا وابتعدنا عن الرحمة والحق، وكانت محتاجة أن ُتؤسس.

الله هو الذي "أسس (أعاد تأسيس) المسكونة". فإذا أخذت كلمة المسكونة بمعناها الحرفي المادي، ابحث كيف يمكن أن نقول أن الله قد أعاد تأسيس المسكونة. هل سقطت المسكونة قبل ذلك حتى يعيد الله تأسيسها؟ أما إذا أخذت كلمة المسكونة بالمعنى الذي أشرت إليه قبلاً، وهو النفس البشرية، فإن كل من يوجد في هذه المسكونة يحتاج حتمًا إلى إعادة تأسيس. وإلا لما احتاج أحد إلى إعادة تأسيس لو لم يكن قد سقط قبل ذلك.

من المؤكد أن كل الذين في هذه المسكونة سقطوا بسبب الخطية ثم أقامهم الرب وأعاد تأسيسهم. "إن الجميع ماتوا في آدم" هكذا سقطت المسكونة، واحتاجت أن تُؤسس ثانية حتى أنه "في المسيح الجميع يحيون" بذلك نكون قد قدمنا تفسيرًا مزدوجًا للمسكونة. لقد أوضحنا من جهة كيف أنه في كل إنسان تكون نفسه إما مسكونة أو خالية، ومن جهة أخرى أوضحنا معنى إعادة تأسيس المسكونة نفسها.

"وبفهمه بسط السموات". لم يختبر إرميا كلمة "فهم" مع السموات اعتباطًا. تجد في سفر الأمثال العبارة: "الله في حكمته أسس الأرض وهيأ السموات بفهمه". إذًا يوجد عند الله فهم لن تستطيع أن تجده في أي موضع سوى في المسيح يسوع. فإن كل الصفات الإلهية تتمثل في السيد المسيح: هو حكمة الله؛ وهو قدرة الله؛ وعدل الله؛ والقداسة؛ والخلاص؛ وهو كذلك فهم الله. فمع كونه واحدًا مع الآب في الجوهر، إلا أنه يحمل أسماء متعددة تشير إلى أشياء مختلفة.

إنك لا تستوعب نفس المعنى بخصوص السيد المسيح حينا تنظر إليه بكونه الحكمة وحينما تنظر إليه بكونه العدل.

عندما تنظر إليه بكونه الحكمة تفهم من ذلك عِلْمِهِ بالأشياء الإلهية والإنسانية.

وعندما تنظر إليه بكونه العدل تفهم من ذلك قدرته على إعطاء كل ذي حقٍ حقه.

وإذا نظرت إليه بكونه القداسة فإنك تفهم من ذلك قدرته على تقديس كل المؤمنين بالرب والمكرسين له.

وبنفس الطريقة أيضًا سوف تدركه بكونه الفهم، فهو العالم بالخير والشر وبما هو ليس خيرًا ولا شرًا.

يوجد فصل بين الذين يسكنون السماء أو الذين يلبسون الإنسان السماوي وبين الشر، لأن الله في بسطه للسموات فصل بين الأشياء الفاسدة والأشياء الصالحة، حتى لا يتدنس الإنسان البار الذي يُعتَبَر سماءً. لذلك قيل: "وبفهمه بسط السموات".

كيف إذًا تم بسط السموات؟ الحكمة هي التي تبسطها. تشير هذه الآية إلى كيفية بسط السموات بواسطة الحكمة: "لقد بسطت كلامي وأنتم لم تنتبهوا إليه".

الأمر هنا يتعلق ببسط الكلام[213]. بهذه الطريقة تم بسط السموات. وقد قيل أيضًا في المزمور: "الباسط السموات كشقة (كخيمة)" (مز 103: 2). كذلك نحن أيضًا، فإن نفوسنا التي كانت قبلاً منكمشة، سوف تُبسَط حتى تستطيع أن تستقبل حكمة الله.

نرجع الآن إلى موضوعنا. فقد قلنا أن السموات خلقت بالفهم. وأن الذين لبسوا الإنسان السماوي هم أيضًا سموات.

في الواقع إذ قيل للخاطئ: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يمكننا بالأولى أن نقول للبار: "أنت سماء وإلى السماء تعود"؟

كما يُقال أيضًا للإنسان الترابي الذي يحمل صورة الإنسان الترابي: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يقال لك إذا كنت تحمل صورة الإنسان السماوي: "أنت سماء وإلى السماء تعود؟" وكل إنسان منا له أعمال سماوية وأخرى أرضية. الأعمال الأرضية هي التي تؤدي إلى الأرض لأنها تحمل الطبيعة الأرضية، مثل ذاك الذي يكنز في الأرض بدلاً من أن يكنز في السماء. وعلى العكس، فإن أعمال الفضيلة تؤدي إلى المواضع التي تحمل نفس طبيعتها إلى السموات، فالإنسان الذي يكنز في السماء هو الذي يحمل صورة السماوي[214]].

ى. يهب الله نفوسنا أيضًا من مياه الروح القدس، إذ قيل "إذا أعطى قولاً تكون كثرة مياهٍ في السموات" [13]، كأنه إذ يقيم ملكوته في داخلنا يجعلنا سمواته التي تفيض بثمر الروح حتى على الآخرين.

ك. يصعدنا الله كسحاب من أقاصي المسكونة، أي يجتذبنا من أواخر الصفوف كما من أقاصي المسكونة، لا ليضعنا في مقدمة الصفوف، بل ُيصعدنا كسحابٍ مرتفعٍ، ننضم إلى سحابة الشهود القديسين (عب 12: 1). يقول العلامة أوريجينوس:

[إننا نتساءل: كيف ُيصعد الله السحاب من أقاصي الأرض؟ [13] قلنا قبل ذلك أن القديسين كانوا سحبًا. لأن العبارة: "لقد بلغت حقوقك إلى السحاب" لا يمكنها أن تنطبق على السحب التي بلا نفس، ولكن حقوق الله تبلغ إلى السحب التي تنصت إلى أوامر الرب وتعرف أين تُسقط مطرها وأين تمنع المطر.

توجد سحب يأمرها الله أن تمطر أو لا تمطر، وهي التي ُكتب عنها في إشعياء "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا". أما بالنسبة للسحب المادية في هذا العالم، فإذا لم يكن هناك مطر فإن هذا لا يعني أن الله يأمر السحاب ألا يمطر على تلك البلاد، إنما سبب عدم نزول المطر هو عدم ظهور أية سحابة، كما هو مكتوب في سفر الملوك: ففي وقت الجفاف لم تظهر أية سحابة، ولكن حينما كان يجب أن ينزل المطر بحسب كلام إيليا ظهر السحاب في السماء وأعطى مطر.

يوجد سحاب آخر يصدر إليه الأمر بألا يمطر حينما تكون النفس غير مستحقة للمطر، وهو ما تقول عنه الآية: "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا". إذًا كل قديس يمثل سحابة. كان موسى النبي سحابة، وكسحابة كان يقول: "أنصتي أيتها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي" (تث 32: 1-2). لو لم يكن موسى سحابة لما استطاع أن يقول ذلك. كسحابة يقول أيضًا: "كالطِّل على الكلأ، وكالوابل (الثلج) على العشب. إني باسم الرب أنادى". وبنفس الطريقة يقول إشعياء كسحابةٍ: "إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم" (إش 1: 2). ولأن إشعياء كان سحابة وكان يدعو جميع الذين يتنبأون معه "سحابًا"، قال في نبوته: "سوف آمر السحاب ألا يُسقط عليها مطرًا".

إن كنا قد فهمنا من هم السحاب، فلننتقل لنرى كيف أن الله "يصعد السحاب من أقاصي الأرض؟"

كيف "من أقاصي الأرض؟"

يقول المخلص: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادمًا للكل" (مر 9: 35). فهم بولس الرسول هذه الوصية وأصبح الأخير في هذا العالم، فيقول: "إني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس" (1 كو 4: 9). فإن قام أحد بتنفيذ وصية المخلص السابقة ووضع نفسه الأخير في هذا العالم يصبح سحابة. لا يُصعد الله السحاب من وسط عظماء هذه الأرض، ولا من وسط الحكام والرؤساء، ولا من وسط الأغنياء، لأنه: "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات". أرأيت الآن كيف أن الله يُصعد السحاب من أقاصي الأرض؟ وبالتالي إن أردنا أن نصير سحابًا تبلغ إليه حقوق الرب، فلنصر آخر الكل، ولنقل بأفعالنا واستعدادنا: "فإني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين". وحتى إن لم أكن رسولاً، فإنه يمكنني أن أجلس في الصف الأخير حتى أن الله الذي يُصعد السحاب من أقاصي الأرض يُصعدني أنا أيضًا[215]].

ل. يهبنا برق الروح القدس الناري، ويغنينا من خزينة خزائنه، وكما يقول العلامة أوريجينوس:

["صنع بروقًا للمطر". يقول خبراء الطبيعة أن البروق تحدث نتيجة لاحتكاك السحب بعضها ببعض. نفس ما يحدث على الأرض بالنسبة للأحجار؛ فإذا ضربنا حجرين ببعضهما البعض تتولد نارًا، أيضًا حينما تصطدم السحب ببعضها أثناء العاصفة يحدث البرق. لذلك أيضًا غالبًا ما تكون البروق مصحوبة بالرعود التي تمثل صوت التصادم بين السحب: فالرعد يحمل صوتًا، والبرق يحمل ضوءً ونورًا.

إن كنت قد فهمت هذا، تأمل الآن السحاب الروحي.

كان موسى سحابًا، وكان يشوع بن نون سحابًا، فماذا حدث؟ تحدثت هذه السحب فيما بينها، ومن كلماتهم توّلد البرق.

كان إرميا سحابًا، وكان باروخ سحابًا، ثم تحدثا مع بعضهما فجاءت البروق من كلماتهم معًا. ويمكنك إذا استطعت أن تستخرج من الكتاب المقدس أمثلة مشابهة عن كيفية حدوث البروق. ففي العهد الجديد أيضًا: بولس وسلوانس كانا سحابتين، وعندما تقابلا ظهرت بروق الرسالة[216].

إذًا فإن الله "صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه".

هل الرياح الأرضية موجودة في خزائن؟ كيف يمكننا أن نقول ذلك إن كنا في واقع

الأمر لا نعرف ما هي مكونات أو طبيعة هذه الرياح التي تهب على الأرض؟ ومع ذلك فتوجد خزائن للريح، أي خزائن للأرواح: "روح الحكمة والفهم، روح الإرشاد والقوة، روح العلم والرحمة، روح مخافة الرب" "روح القوة والمحبة والنصح"، ويمكنك أنت أيضًا من خلال الكتاب المقدس أن تُكَوّن وتُعِد قائمة لهذه الرياح (الأرواح). هذه الأرواح موجودة في خزائن (كنوز)، فما هي هذه الكنوز؟ "فيه توجد الكنوز الخفية للحكمة والمعرفة".

إذًا هذه الخزائن موجودة في السيد المسيح: ومنه أيضًا تخرج هذه الرياح، هذه الأرواح، لتصنع من الواحد حكيمًا، ومن الآخر مؤمنًا، ولتعطي لثالث معرفة، ولرابع محبة الله: "فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد" (1 كو 12: 8).

نحن أيضًا بنعمة الله، لنا رجاء أن نبلغ إلى هذه الخزائن. حيث توجد خزائن عديدة، فربما يكون هناك أماكن راحة مختلفة في خزائن الله، تبعًا للصف الذي سوف نوجد فيه في القيامة من الأموات[217]. هذا ما أريد أن أقوله: ستكون القيامة من الأموات بحسب الصفوف، لأن الرسول يقول: "كل واحد إلى صفه (مكانه) الخاص".

بما أن هذه الصفوف لا تكون مختلطة بلا نظام، فإن هذا الصف سيكون في خزينة من خزائن الله، والصف الآخر في خزينة أخرى لله، وهكذا الثالث والرابع. جميع هذه الخزائن توجد في خزينة واحدة، لذلك يقول بولس الرسول: "فيه توجد الخزائن الخفية للحكمة والمعرفة". كما أنه بامتلاكي اللآلئ الكثيرة استطعت من خلالها (ببيعها) أن أحصل على اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن، هكذا أيضًا يمكنني أن أبلغ إلى خزينة الخزائن، إلى رب الأرباب وملك الملوك، حينما أصير مستحقًا لنوال الأرواح الخارجة من خزائن الله، لأنه "أخرج الريح من خزائنه[218]"].

هذا هو الإله الذي معرفته تقدم للنفس حكمة سماوية، أما عدم التعرف عليه فيجعلها في بلادة أو غباوة، لذا يقول: "بلَدَ كل إنسان معرفته" [14]. يكاد كل الأنبياء يشيرون إلى هذه الخطية وهي عدم معرفة الشعب لله (إش 1: 3؛ هو 4: 1، 6، ميخا 4: 12، عا 3: 12). يقصد بالمعرفة هنا العلاقة الشخصية القوية والعميقة مع الله عقلانيًا، وعاطفيًا، وسلوكيًا.

يقول العلامة أوريجينوس:

["بَلُدَ كل إنسانٍ من معرفته" أو (صار كل إنسانٍ جاهلاً من المعرفة) [14].

إن كان كل إنسانٍ قد صار جاهلاً من المعرفة، وبما أن بولس إنسان، فقد صار جاهلاً من المعرفة لأنه لم يكن يعلم إلا بعض العلم ويتنبأ بعض التنبؤ، صار جاهلاً من المعرفة، لأنه لم يرَ إلا في مرآة، في لغز (1 كو 13: 9، 12). لم يدرك ولم يرَ من الأشياء إلا جزءًا صغيرًا جدًا[219]].

[المعرفة التي كانت عند بولس لو قورنت بالمعرفة الأخرى التي في السموات، أي المعرفة الكاملة، تصبح جهلاً. لهذا السبب بَلُدَ كل إنسان من معرفته[220]].

لنلتصق بالله ونسلك كأولاد له، منصتين لقول الرسول بولس: "فأقول هذا واشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا ببطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم" (أف 4: 17-18). هذا ما عناه إرميا النبي هنا!

في ختام مقارنته بين عبادة الله الحيّ وعبادة الأوثان يؤكد أن الله لا يغير على مجده كمن هو في حاجة إلى من يتعبد له أو يمجده، وإنما لأجلهم هم. فإن كانوا قد خانوه إنما خانوا أنفسهم، لأنهم يحرمون أنفسهم من الله نصيبهم وأن يكونوا نصيبه! إنهم فقدوا معرفة الله العملية في حياتهم ففقدوا معرفتهم لأنفسهم كميراث الرب وجنوده. لهذا يوبخهم: "ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصوِّر الجميع، وإسرائيل قضيب ميراثه؛ رب الجنود اسمه" [16].

كثيرًا ما يتحدث الكتاب المقدس عن الله كنصيب شعبه (عد 18: 20؛ تث 32: 9، مرا 3: 24) وتغنى بذلك المُسبحون (مز 16: 5؛ 37: 26؛ 119: 57؛ 142: 6).

2. الخروج عن الأرضيات:

يصور هذا القسم الهزيمة بواسطة العدو القادم بجيشه من الشمال كما لو حدث زلزال (اضطراب [22]) اهتزت له الأرض، ويوضح تأثيره على الشعب، والمفهوم اللاهوتي

لهذه الهزيمة.

للرجوع إلى الله لا يكفي ترك الوثنية، وإنما يتطلب انتزاع محبة الأرضيات من قلوبهم. الارتباط بالأرض يحوّل الإنسان بكليته إلى أرضٍ وترابٍ.

"اجمعي من الأرض حزمك أيتها الساكنة في الحصار" [17].

هنا تصوير للأمر الذي يصدر للأسرى أن يحمل كل منهم الضروريات جدًا في حزمة ليضعها على رأسه، ويسير الكل مقيدين إلى السبي. هكذا يخرج الكل كعبيدٍ يحملون من أمتعتهم القليل في مذلة، بينما يستولى الجيش الغالب على أفخر ممتلكاتهم وأثمنها!

هكذا الإنسان الذي قبل بإرادته أن يكون أسيرًا لمحبة العالم، يخرج كما من العالم في مذلةٍ، لا يحمل من كل ما اقتناه وتعبَّد له إلا القلة القليلة أو العدم ليخرج من العالم كأسير في مذلةٍ وعارٍ!

كأنه يقول: إن كنتِ تشعرين أنكِ في حصار مرّ، وتحت التأديب، فالحل بين يديك. فُكِ أوتادك من الأرض، اقطعي ربطكِ منها، لكي يرتفع القلب مع الله في سمواته.

"لأنه هكذا قال الرب:

هأنذا رامٍ من مقلاع سكان الأرض هذه المرة (في هذا الوقت عينه)،

وأضيق عليهم لكي يشعروا" [18].

لقد انتهي وقت الإنذارات المتكررة، وجاء وقت التأديب، لهذا يلقي الله بشعبه في السبي كمن ُيلقى بحجر من مقلاع، كأنه بلا قيمة، ويذهب بلا رجعة!

هذا هو حال كل نفسٍ ترتبط بالأرض لا بخالقها، يحملها الخالق كما بمقلاع ليلقى بها خارج الأرض التي أوجدها لأجلها! من يتعبد للأرضيات عوض تقديم الشكر لواهبها يفقد حتى هذه الأرضيات!

تعاتب مملكة يهوذا المنهارة بنيها الذين حطموها وهربوا، ورعاتها الذين صاروا في بلادة، قائلة:

"خيمتي خربت وكل أطنابي ُقطعت،

بنيَّ خرجوا عني وليسوا.

ليس من يبسط بعد خيمتي ويقيم ُشققي" [20].

أخشى أن ينطبق علينا قول إرميا النبي [20]، بعدما نصير في الرب خيمة مقدسة نعود فنخربها، ونقطع ُربطها، فيتحول البنون العاملون لحساب الخيمة إلى طاقات للهدم.

خراب الخيمة يشير إلى هلاك الجسد الذي خلقه الله صالحًا ليكون مع النفس مسكنًا لروحه القدوس. هو انحراف الإنسان ككل عن الحياة السماوية اللائقة به إلى حياة أرضية. لذا يقول الرسول بولس: "ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رو 12: 2).

3. قبول تأديبات الرب:

"عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقه،

ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته.

أدبني يارب، ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" [23-24].

كان إرميا النبي مقتنعًا بأن الشعب كان يمكنه - إن أراد - أن يصحح خطأه، لكنه لم يرد ذلك، فصار خطأه بلا علاج.

لكي نرجع إلى الرب يلزمنا أن نفهم تأديبات الرب، فنصرخ: "أدبني يا رب لكن بالحق لا بغضبك..."

يليق بنا أن نؤمن أن ذاك الذي خلق العالم لأجلنا من حقه أن يوجهنا، ويملك علينا، لا ليتسلط علينا، وإنما لكي يشكِّلنا، فنحمل صورته، ونصير على مثاله، ونتأهل أن نكون أولادًا له، نرث ملكوته ونشترك في أمجاده الأبدية.

إنه يحزن على الإنسان الذي يرفض أن يقبل الله ميراثًا له، ويقدم حياته نصيبًا للرب، إنما يطلب غير الله نصيبًا. إنه يعاتبه، قائلاً: "ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصوِّر الجميع، وإسرائيل قضيب ميراثه، رب الجنود اسمه" [16].

كأن الله يؤكد أنه حتى في تأديباته لا يطلب ما لنفسه بل ما لبنيان شعبه ومجده.

في ذهن إرميا النبي يحتاج الضعف البشري إلى العون الإلهي لمساندته، حيث يعجز الإنسان بذاته أن يستمر في مقاومته للشر وأن يسلك بالبر كل أيام حياته لذلك يقول: "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس، من يعرفه؟!" (17: 9).

 ولعله يقصد أن الإنسان أشبه بالطين في يد الخزاف الذي يشكل الطين حسب الصورة التي في ذهنه (إر 18، إش 45: 9-13).

تستخدم كلمة "أدبني" yissar في مواضع كثيرة في العهد القديم عن العقوبة التي ُتقدم للإصلاح أو التعليم، وليس كمجازاة حسب ُجرم الخطأ لتحقيق العدالة. إذ يوجد نوعان من العقوبة: واحدة خلال الرحمة للتعليم "الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسر به" (أم 3: 12)؛ والثانية خلال العدل للقصاص وهي مدمرة: "القصاص مُعد للمستهزئين" (أم 19: 29).

هذا وتستحق كل الأمم غير المؤمنة العقوبة كما تستحق مملكة يهوذا أيضًا ذات العقوبة لأنها:

أ. لا تعرف الرب... عرفت مملكة يهوذا الرب بفكرها لا بحياتها.

ب. لم ُتدع باسمه... صارت مملكة يهوذا أيضًا تدعو الحجارة والخشب آلهة لها.

ج. تأكل أولاده ويفنوهم ويخربوهم، إذ ثارت مملكة يهوذا على رجال الله واضطهدتهم.


 

من وحي إرميا 10

من يروى ظمأ نفسي؟!

v     من يروى ظمأ نفسي؟!

 من ينير ظلمتي؟!

 إلا أنت يا شمس البر، يا نور حياتي!

v     اعتزلتك يا حبيب، فعانيت من الشعور بالعزلة والحرمان!

 تركتك يا حياتي، فاقتحم الموت أعماقي!

 تجاهلتك يا قوتي، فامتلأت رعبًا!

 صرت كالقدامى في جهالة أخشى حركات الكواكب وظواهر السماء!

 في غباوة أخشى الطبيعة التي خلقتها لأجلي!

 صرت كطير يخشى اللعين (خيال المقاتة)!

v     لتبرق في داخلي، فأستنير وأتعرف على أسرارك!

 لتمطر في قلبي، فتجعل منه فردوسًا مثمرًا!

 ليهِب ريحك، فامتلئ بفيض نعمتك!

v     لقد تحطمت خيمتي، وانحلت رباطاتها!

 قل كلمة، فتصير خيمتي بيتًا مقدسًا لك!

 وتتحول أرضي الداخلية إلى سمواتك!

 قل لي: أنت سماء وإلى سماء تعود!

v     أعترف لك إنني تراب، وإلى تراب أعود،

 الآن حولني بتأديبات محبتك إلى سمواتك!

 اجعلني مسكنًا لك، ولتسكن أنت فيّ!

 كن نصيبي، وأكون أنا نصيبك يا شهوة قلبي.

v     أنت صانع الأرض بقوتك،

 جسدي هو أرضك محتاج إلى قوتك!

 يتقدس بروحك القدوس فيعيش في قوة ومجد!

 أنت مؤسس المسكونة بحكمتك،

 نفسي الخاوية تود أن تصير مسكونة،

 تسكنها أيها الثالوث القدوس،

 فتحمل حكمة إلهية فائقة!

 أنت باسط السموات بفهمك،

 من يحول ترابي إلى سماء غيرك؟!

 لا تقل لي: "أنت تراب وإلى تراب تعود".

 لكن بنعمتك وفهمك أيها القدوس قل:

 أنت سماء وإلى سماء تعود!

 فهمك حوَّل ترابي إلى السماء!

v     تعطى قولاً فتكون كثرة مياه في السموات،

 تأمر نفسي التي أقمتها لك سماءً،

 فتفيض من ثمر الروح،

 تسكب حبًا ووداعة ونقاوة كمطر على أرض الغير،

 تحول البراري إلى بساتين بفضل نعمتك فيّ!

v     تجتذبني يا إلهي كما من أقاصي الأرض،

 تضمني كما من أواخر الصفوف،

 لا لتقيمني في أوائل الصفوف فحسب،

 بل تجعل مني سحابة نيرة ترتفع فوق الأرضيات!

 حقًا: أنت الذي تصعد السحاب من أقاصي الأرض!

v     فيك نلتقي معًا كسحاب روحي،

 تخرج منا رعود وبروق،

 رعود صوتك الإلهي الساكن فينا،

 وبروق نورك الفائق أيها الساكن في نورٍ لا يُدنى منه!

 نعم تدخل بنا كما إلى خزينة خزائنك،

 وتفتح أمامك أبوابها فنعترف من فيض غناك،

 وننعم برياح عملك القدوس!

 بك نغتني أيها الغني السماوي!

<<


 

الأصحاحات 11-20

صراع إرميا النبي

إرميا 11-20

في الأصحاحات [7 إلى 10] يعلن الله عن ضرورة الإصلاح الداخلي، فإنه لا يقبل عبادتهم من أصوامٍ وتسابيح وتقدمات وذبائح دون نقاوة القلب والحياة المقدسة في الرب. أما هذا القسم (11-20) فيحتوي على منطوقات نبوية تكشف عن الرسالة الخاصة بهزيمة الجيش وما يلحق البلاد من دمار. غالبًا ما نُطق بها في أيام الملك يهوياقين (605-598 ق.م)[221].

شملت هذه النبوات مراثٍ، إذ كانت نفس النبي مرّة، يصارع بين حبه الشديد لشعبه وتطلعاته النبوية الخاصة بهلاكهم بسبب الشر. لقد رأى شعبه الذي نشأ وترعرع خلال العهد الإلهي الذي ُقدم لهم بواسطة موسى على جبل حوريب بسيناء ينهار بسبب كسرهم للعهد. يقوم هذا العهد على اختيار الله لشعبه ورغبته في السكنى في وسطهم والالتصاق بهم لتقديسهم، فيصيرون خاصته، ويقدم نفسه نصيبًا لهم ومخّلصًا وسندًا وشبعًا لكل احتياجاتهم، مقابل هذا يلتزم الشعب بالأمانة والإخلاص فيعبادتهم وسلوكهم ليتمموا إرادة الله فيهم بالطاعة لوصيته المملوءة حبًا!

في الأصحاحين (11، 12) يوضح الله سر غضبه على خطاياهم ألا وهو نقضهم للعهد معه. فهو يريد أن تكون معاملاته مع شعبه على مستوى الأب مع بنيه، والعريس مع عروسه المحبوبة لديه، الساكنة معه في بيته [15]، وليس كسيدٍ آمرٍ ناهٍ.

انصب دور الأنبياء، خاصة في العصور المظلمة على القيام بدور الوسطاء، يشفعون في الشعب بطلب مراحم الله ورفع غضبه عنهم، بكونهم ممثلين لهم. أما النبي الذي لا يكشف بوضوح خطة الله وإرادته، بل يداهن القيادات أو الشعب ليكسب ودهم أو مالهم، ولا يشفع فيهم، فهو نبي كذاب!

أصالة النبوة جعلت إرميا في صراع مرّ بين صراحته ووضوحه في الكشف عن غضب الله على شعبه وما يلحق هذا من تأديبات قاسية تكاد تدمرهم وبين قيامه بدور الممثل للشعب أمام الله يشفع بقلبه الذي يذوب كالشمع ودموعه التي لا تجف! هكذا كان قلب إرميا النبي يتمزق[222]!

<<


 

الأصحاح الحادي عشر

العهد المكسور

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة لهذا القسم، فيه يعلن أن الله وشعبه قد التزما بعهدٍ، فيه يقدم الله نفسه إلهًا لهم، يحميهم ويغنيهم، لكن ليس بدون التزام من جانبهم.

1. كسر العهد الإلهي  [1-17].

2. ما لحبيبتي في بيتي؟!  [15-17].

3. اعترافات إرميا  [18-20].

1. كسر العهد الإلهي:

 إذ قارن في الأصحاح السابق بين عبادة الله الحيّ والعبادة الوثنية عاد بذاكرتهم إلى العهد الإلهي الذي قطعه الرب مع شعبه، حين دخل موسى في شركة مع الله لمدة أربعين يومًا، وقد التحف بسحابة القداسة السماوية وهو على قمة جبل سيناء. في ذلك الوقت لم يقف الرب عند عتقهم من عبودية مصر، وإنما أكّد لهم أنه يحقق لهم مواعيده لآبائهم، حيث يعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً [5]. الآن بعد أن تمت المواعيد الإلهية، وعاش الشعب في أرض الموعد زمانًا هذه مدته، صدر عليهم الحكم الإلهي بتأديبهم، وطردهم من الأرض ليعيشوا تحت السبي في مذلةٍ وعارٍ، لأنهم فضلوا عنه عبادة البعل. لقد أُعطاهم فرصًا كثيرة لعلهم يتوبون فلا يستوجبون السقوط تحت التأديب. أما وقد أصروا على عدم التوبة فحتمًا يُؤدبون، وإن صرخوا لا ُيسمع لهم، لأن صراخهم غير صادرٍ عن شعور بالخطأ، ولا لطلب التوبة، وإنما لمجرد إنقاذهم من التأديب. لقد ارضوا ضمائرهم وبطونهم بتقديم ذبائح لله، لا للمصالحة معه وتجديد العهد معه، ولا لإعلان حبهم له.

بعد قرون طويلة تكرر الأمر في كنيسة كورنثوس حينما أساء الشعب استخدام الإفخارستيا وما يليها من وجبات الأغابي، إذ قيل: "فحين تجتمعون معًا ليس هو لأكل عشاء الرب، لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل، فالواحد يجوع والآخر يسكر. أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟ أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم؟!" (1 كو 11: 20-22).

"الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:

اسمعوا كلام هذا العهد،

وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم" [1-2].

 يرى البعض أن النبي يشير هنا إلى الملك يوشيا والشيوخ الذين أكدوا ولاءهم للعهد المُقام بين الله وشعبه على جبل حوريب بسيناء، العهد الذي سُجل في درج (كتاب)، وُوجد في الهيكل أثناء الإصلاح، وقد ارتبطوا به وتعهدوا أن يتمموا كلماته المكتوبة (2 مل 23: 3). فالحديث هنا موجه إلى مندوبين من قبل الملك.

يرى العلامة أريجانوس أن الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو الكلمة الإلهي، إذ يقول:

[إذا تأملنا في قصة مجيء ربنا يسوع المسيح كما وصفتها الكتب التاريخية، كان مجيئه في الجسد مرة واحدة فقط خلالها أنار العالم كله: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا". كان بالفعل "النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، كان في العالم، وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله".

مع ذلك يجب أن نعرف أنه جاء أيضًا قبل ذلك، وإن لم يكن بالجسد. جاء في كل واحدٍ من القديسين! كما أنه بعد مجيئه المنظور بالجسد يأتي إلينا أيضًا الآن.

إن كنت تريد دليلاً على هذا، انصت إلى هذه الكلمات: "الكلام (الكلمة) الذي صار إلى إرميا من قِبل الرب قائلاً: اسمعوا".

ما هي إذًا تلك الكلمة التي صارت إلى إرميا أو إلى إشعياء أو حزقيال أو إلى غيرهم من الأنبياء، من قبل الرب، إلا الكلمة الذي كان عند الله منذ البدء؟ بالنسبة لي ، لا أعرف كلمة أخرى للرب إلا التي قال عنها يوحنا الإنجيلي: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله".

يجب علينا أيضًا أن نعرف هذا: كان مجيء الكلمة أيضًا على مستوى شخصي. لأنه ماذا يفيدني إن كان الكلمة قد جاء إلى العالم، بينما أنا لا أحمله؟ لكن على العكس، حتى لو لم يكن قد جاء بعد إلى العالم كله، وكنت أنا مثل الأنبياء، يجيء إليّ الكلمة. أقول مؤكِدًا أن السيد المسيح جاء إلى موسى وإلى إرميا وإلى إشعياء وإلى كل واحدٍ من الأبرار، وأن الكلمة التي قالها لتلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" تحققت بالفعل قبل مجيئه. كيف كان لهؤلاء الأنبياء أن ينطقوا بكلام الله إن لم يكن كلمة الله قد جاء إليهم؟...

ماذا نسمع نحن أيضًا من هذا (الكلمة) الكلام؟

"اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم".

رجال يهوذا هم نحن، لأننا مسيحيون، وجاء المسيح من سبط يهوذا. إذا كنت قد أوضحت من خلال الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يُقصَد بها السيد المسيح، فإن رجال يهوذا في هذه الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح، وإنما نحن كلنا الذين نؤمن به.

 يخاطب الكلمة "رجال يهوذا" و "سكان أورشليم".

يتعلق الأمر هنا بالكنيسة، لأن الكنيسة هي مدينة الله، ومدينة السلام، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المُعطي لنا، إذا كنا نحن أيضًا أبناء سلام.

"اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم.

فتقول لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل.

ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم".

مَن الذي يسمع أفضل لكلام العهد الذي أمر الله به الآباء؟ هل الذين يؤمنون به، أم الذين - بحسب الأدلة الموجودة عندنا - لا يؤمنون حتى بموسى حيث أنهم لم يؤمنوا بالرب؟ يقول لهم المخلص: "لو كنتم آمنتم بموسى لآمنتم بي أنا أيضًا، لأنه تكلم عني في كتبه، ولكن إن كنتم لا تؤمنون بكتاباته، فكيف تؤمنون بكلامي؟" إذًا لم يؤمن هؤلاء الناس بموسى، أما نحن، فبإيماننا بالسيد المسيح، نؤمن أيضًا بالعهد الذي ُأقيم بواسطة موسى، أي "العهد الذي أمرت به آباءكم"[223]].

"ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد" [3].

هزيمة الشعب (أو انهيار أورشليم) لا تعني أن الله قد نقض العهد، وإنما هي إعلان إلهي عن عدم وفاء الشعب بشروط العهد، فسقطوا تحت اللعنة، كما جاء في سفر التثنية: "ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها" (تث 27: 26)، "إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم تأتى عليك جميع هذه اللعنات وتدركك... يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك. في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم، وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض" (تث 28: 15، 25). إنها دعوة موجهة إليهم لمراجعة أنفسهم وتجديد الميثاق معه بالتزامهم بالحياة الأمينة والعبادة الحيّة، أو بمعنى آخر الطاعة للوصية.

 يؤكد إرميا النبي مرارًا أن الشعب هو كاسر العهد بفشله في الطاعة لله، مقدمًا الشهادة الواضحة لذلك في كل مدينة، بل وفي حياة كل فرد حيث انتشرت عبادة الأوثان بينهم، إذ يقول: "لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا، وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزي للتبخير للبعل" [13].

 صار الأمر خطيرًا للغاية، ولا مجال لإصلاحه إلا بقيام عهدٍ جديدٍ، وقد جاء هذا كمركز لنبوة إرميا الذي يفتح باب الرجاء (31: 31-34).

يتحدث هنا عن اللعنة التي يسقط فيها من لا يسمع كلام العهد الإلهي... هذه اللعنة حلت بالبشرية، لأنه لا يوجد من لم يكسر وصية إلهية؛ فجاء السيد المسيح يحمل عنها هذه اللعنة، وكما يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب "ملعون كل من عُلق على خشبة" (غلا 3: 13، تث 21: 23).

يشرح لنا العلامة أوريجينوس كيف حمل مسيحنا اللعنة عنا قائلاً إن لدائرة اللعنة مدخلين، أحدهما كسر الوصية أو نقض الناموس، وقد، دخلت منه البشرية كلها، لأن الكل زاغوا معًا وفسدوا وأعوزهم مجد الله (مز 14: 3؛ 53: 3، رو 3: 12). والباب الثاني هو التعليق على خشبة (تث 21: 23)، وقد دخل منه السيد المسيح ليلتقي بنا هناك، لا عن طريق كسر الناموس، وإنما عن طريق التعليق على خشبة. لكن اللعنة لم تحتمله، ففجرها وكسر متاريسها، وحملنا معه من دائرة اللعنة إلى مجد أولاد الله المباركين.

v  ها أنتم ترون كيف يبرهن (الرسول بولس) أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل عليهم أن يتمموه (غلا 3: 10-11)، ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير...

مادام الناموس عاجزًا عن أن يقود الإنسان للبر، فالإيمان هو العلاج الفعّال الذي يجعل ما كان مستحيلاً بالناموس ممكنًا (رو 8: 3)...

استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنة أخرى "ملعون كل من عُلق على خشبة" (تث 21: 23). إن كان من يُعلق على خشبة ومن يتعدى الناموس كلاهما تحت اللعنة، وكان من الضروري لذاك الذي يحرر من اللعنة أن يكون حرًا منها، إنما يتقبل لعنة أخرى، لذلك قَبِل المسيح في نفسه هذه اللعنة الأخرى لكي يحررنا من اللعنة... لم يأخذ المسيح لعنة التعدي، بل اللعنة الأخرى، لكي ينتزع اللعنة عن الآخرين. "على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9). إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم[224]

v  كما أن المسيح بذاته لم يصر لعنة، إنما قيل هذا لأنه أخذ على عاتقه اللعنة لحسابنا، هكذا صار جسدًا لا بتحوله إلى جسدٍ، إنما إتخذ جسدًا من أجلنا وصار إنسانًا.

البابا أثناسيوس الرسولي[225]

v     صار خطية ولعنة لا لحسابه بل لحسابنا... صار لعنة لأنه حمل لعناتنا.

القديس أمبروسيوس[226]

"ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد" [3].

كأنه يقول يسقط تحت اللعنة من يكسر الناموس حتى إن كان مختونًا بالجسد، لأنه غير مختون الأذن. من ليس له الأذن المختونة يسمع بأذنيه الخارجيتين، فيكون لذلك صدى على النفس في الداخل، ولا يستجيب لكلمات العهد. أما من له الأذن المختونة فإنه يسمع ما يقوله الروح للكنائس (رؤ 3: 6). مثل هذا ليس فقط يُعتق من اللعنة، لعنة عدم الطاعة، وإنما يتمتع بالحياة المطوَّبة، حياة الطاعة في المسيح يسوع الذي تمم العهد الجديد بدمه، واهبًا إيانا روح الطاعة.

إن كانوا قد سقطوا في اللعنة بسبب عدم الطاعة للعهد، فإن العيب ليس في الناموس بل في عدم ختان آذانهم، أما العهد فليس ثقيلاً، والوصية ليست مستحيلة. العهد ممكن وعذب، يحمل الملامح التالية:

أولاً: عهد حرية

يقول: "يوم أخرجتهم من أرض مصر" [4]، أخرجتهم من العبودية ليعيِّدوا بفرح وبهجة قلب (خر 5: 1). هو عهد خروج إلى حياة الحرية والفرح، فلماذا يكسرونه؟! هل يريد الإنسان العبودية؟! هذا هو العجب في الإنسان، فإنه كثيرًا ما يرفض وصية الله موضوع فرحه وبهجة قلبه، ليبذل كل جهده وطاقاته وأمواله في الفساد، ويعيش في مرارة العبودية الداخلية!

يقول العلامة أوريجينوس:

[إذًا لا تقع هذه اللعنة علينا نحن، وإنما تقع على أولئك الذين لم يسمعوا كلام العهد الذي أمر الله به الآباء، "يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد".

نحن أيضًا، أخرجنا الله من أرض مصر[227]، ومن كور الحديد، خاصة إذا فهمنا ما هو مكتوب في سفر الرؤيا، أن الموضع الذي صُلب فيه الرب يُدعى روحيًا سدوم ومصر (رؤ 11: 8). إذًا إن كان يدعى روحيًا مصر، فمن الواضح أنه لو فهمت ما هو مقصود بالبلد التي ُتدعى روحيًا مصر والتي كنت تعيش فيها قبلاً، تكون قد خرجت من أرض مصر، وُيقال لك أيضًا بعد ذلك: "اسمعوا صوتي واعلموا به حسب كل ما آمركم به"[228]].

ثانيًا: عهد راحة

غاية هذا العهد أن ُيخرجهم كما من كور مصر، من وسط النيران ليدخل بهم إلى ندى راحته. عتقهم من المسخرين العنفاء، لا ليعيشوا في رخاوة بلا عملٍ، إنما لينالوا بركة العمل. بمعنى آخر خرجوا من كور المسخرين ليقبلوا العمل لحساب الله حسب إرادته، لا كثقلٍ يلتزمون به كرهًا، بل بركة من قبل الله. إذ يقول: "واعملوا به حسب كل ما آمركم به" [4]... يستبدل عمل السخرة المرّ بالعمل لحساب الله الممتع!

"يقول كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد، قائلاً: اسمعوا صوتي" [4-5].

كور الحديد هي فرن ترتفع فيها الحرارة جدًا لصهر الحديد، الأمر الذي لا تحتاج إليه كثير من المعادن. بينما يُمكن صهر النحاس في درجة حرارة 800 ف، لا يُصهر الحديد إلا عند درجة 1535 ف.

استخدم حزقيال النبي ذات التشبيه، قائلاً: "من حيث إنكم كلكم صرتم زغلاً، فلذلك هأنذا أجمعكم في وسط أورشليم؛ جمع فضة ونحاس وحديد ورصاص وقصدير إلى وسط كور لنفخ النار عليها لسكبها كذلك أجمعكم بغضبي وسخطي وأطرحكم وأسبككم، فأجمعكم وانفخ عليكم في نار غضبى فُتسبكون في وسطها" (حز 22: 19-21).

يشبه خروجهم من مصر كمن يخرج من النار، من كور الحديد، لا ليعيِّرهم بأنه خلصهم من النار، وإنما بعد إخراجهم يطلب الدخول معهم في العهد. كأن الله لا يستغل ضيقتهم ليأمر وينهي، وإنما ليدخل معهم خلال الحوار الودي في عهد أبوي مملوء حبًا. في هذا العهد يقدم نفسه إلهًا منسوبًا لأولاده: "فتكونوا لي  شعبًا، وأنا أكون لهم إلهًا" [4]

هنا نلاحظ أنه عندما يتفاهم مع شعبه يدعوهم: "شعبي" ويدعو أعيادهم "أعيادي"، وسبوتهم: "سبوتي"، لكن إذ يصرون على العصيان يقول لموسى: "شعبك".

v     ما دامت مصر هي كور حديد (11: 4، تث 4: 20) فهي تشير رمزيًا إلى كل مجالٍ أرضي.

يليق بكل من يهرب من شر الحياة البشرية دون أن يحترق بالخطية أو يمتلئ قلبه بالنار ككورٍ أن يقدم تشكرات ليس بأقل من الذين يُختبرون بالنار كندى[229].

العلامة أوريجينوس[230]

v  يوجد وعد من الرب للذين يسمعون كلامه أنهم إذا فعلوا كل ما أمرهم به: "تكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا". ليس كل شعب يُدّعى شعب الله يكون بالفعل شعبًا لله. ألم يقل الله لذلك الشعب الذي كان يتظاهر بأنه شعب الله،: "إنكم لستم شعبي" لأنهم: "أغاظوني بإله آخر، أغاظوني بأصنامهم، فأنا أيضًا أغيظهم بأمة أخرى... غبية".

أصبحنا نحن الآخرون شعبًا لله، وقد أعلن بر الله للشعب الذي سيأتي (سيولد)، أي للشعب القادم من الأمم. في الواقع وُلِد هذا الشعب فجأة، وقد قيل في النبي: "هل يُولد شعب مرة واحدة؟!"، نعم وُلد شعب مرة واحدة حينما جاء المخلص، وحينما آمن خمسة آلاف رجل في يومٍ واحدٍ بالإضافة إلى ثلاثة آلاف نفس في يومٍ آخر. يمكننا أن نرى شعبًا بأكمله مولودًا من كلمة الله يسوع المسيح. فقد وَلَدَت العاقر التي لم تكن قبلاً تُنجب، والتي قيل عنها: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المتوحشة (المتوحدة أو الوحيدة) أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1)، إنها وحيدة، لأنها كانت محرومة من الشريعة ومن الله، أما الأخرى ذات البعل، أي الأمة اليهودية، فكانت كما هو معروف تتخذ من الشريعة الإلهية زوجًا لها.

بماذا إذًا يعدني الرب؟ "فتكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا". إنه ليس إلهًا للجميع، وإنما فقط للذين يهبهم نفسه مجانًا كإلهٍ لهم. كما قال لأحد الآباء: "أنا هو إلهك"، وقال لآخر: "سأكون إلهك"، وقال أيضًا عن آخرين: "سأكون لهم إلهًا". متى نصل نحن أيضًا إلى أن يكون الله إلهًا لنا؟

إن كنت تريد أن تعرف من هم الذين يكون الرب إلهًا لهم، يعطيهم شرف إضافة أسمائهم إلى اسمه، انظر قوله: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب". وقد علق السيد المسيح على هذا بقوله: "ليس هو إله أموات بل إله أحياء". من هو الإنسان المائت؟ الخاطئ، أو من لا يحمل في داخله الله القائل: "أنا هو الحياة"، وكل من يعمل الأعمال المائتة ولم يتب عنها حتى الآن.

إذًا، بما أن الله ليس إله أموات بل إله أحياء، وبما أننا نعرف أن الإنسان الحيّ هو الذي يحيا بحسب كلام السيد المسيح ووصاياه ويكون دائمًا ثابتًا فيه، فلو أردنا أن يصير الرب إلهًا لنا، نترك أعمال الموت، حتى يتمم لنا وعده: "فتكونوا لي  شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم أن أعطيهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً". تأمل هذه الكلمات، فإن الرب يتحدث هنا كما لو لم يكن قد أعطاهم بعد هذه الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. في الواقع الأرض التي أخذوها ليست هي التي كان يقصدها الله حينما قال "أرض تفيض لبنًا وعسلاً"، وإنما الأمر يتعلق بأرض أخرى قال عنها الرب في تعاليمه: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض".

العلامة أوريجينوس[231]

ثالثًا: عهد يلتزم به الله بقسم

لم يأتِ هذا العهد مصادفة، ولا يمثل أمرًا ثانويًا، لكنه موضوع يهم الله نفسه، فيقيم نفسه شاهدًا على العهد بقسمٍ. لم يقم خليقة سماوية أو أرضية للشهادة، ولا ائتمنهم على ذلك، بل أقسم بذاته أن يحقق وعوده، قائلاً: "لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم..." [5]، ليبث فيهم روح الثقة أنه يحقق لهم وعوده الصادقة والأمينة.

رابعًا: عهد مبادرة بالحب

يقول: "مبكرًا" [7]، وكأن الله هو المبادر بالحب، وهو الذي يبكر لتوقيع الميثاق، إنه لا يتأخر في تحقيق مواعيده. إن كان يتأخر فلأجل إعطائنا فرصة لرجوعنا إلى نفوسنا، ومراجعتنا لحساباتنا، وعودتنا إليه حتى لا نهلك، وكما يقول القديس بطرس: "لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة" (2 بط 3: 9).

أمام هذا العهد الإلهي العجيب المملوء حبًا وحنوًا انحنى إرميا برأسه، بل وبكل كيانه ليردد مع آبائه "آمين يارب" [5]. هذا ما سبق أن نطق به الشعب حين سمع بركات الطاعة للوصية وقبول العهد، ولعنات العصيان وكسر العهد (تث 27). في خضوع انحنى إرميا ليقبل من يد الله تأديباته لشعبه حتى إن بدت قاسية.

"فأجبت وقلت: آمين يارب" [5].

ما أعجب شخصية إرميا الرقيقة كل الرقة خاصة نحو شعبه، إذ جدران قلبه توجعه، ورأسه ينبوع ماء لا يجف من أجل ما حلّ بهم، وقد جاءت كلمة الرب إليه تعلن تأديباته الحازمة، فكانت كنارٍ محرقة محصورة في عظامه لا يطيقها (20: 9)، كان لابد أن ينطق بها، وفي تسليمه الكامل وادراكه لمراحم الله الكلي الحب قال: "آمين يارب" [5]، وهو يتوقع خراب شعبه المحبوب لديه جدًا.

لا نعجب إن رأينا الكنيسة المنتصرة قد اقتنت نفس الروح، هذه التي تدربت على دروس الحب، بل اقتنت في داخلها مسيحها كلي الحب، فإنه إذ دان الله الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها وانتقم لدم عبيده من يدها ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين، صرخت قائلة: "آمين هلليلويا" (رؤ 9: 1-3).

نحن أيضًا إذ نصلي في كل يوم، قائلين من كل قلوبنا: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" تتحول صلواتنا إلى تسبحة مستمرة، خلالها يلهج قلبنا وفكرنا بالتسبيح: "آمين يارب!"

يقول العلامة أوريجينوس:

[إجابة على قول الرب: "ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد"، يقول النبي: "فأجبت وقلت آمين يارب"، ما معنى كلمة آمين يارب؟ أي: "آمين يارب أن الذي لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونًا".

"فقال الرب لي: نادِ بكل هذا الكلام في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم (وخارج أورشليم)" إننا ننادى بكلام الرب حتى للذين هم في الخارج لندعوهم إلى الخلاص "قائلاً: اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به... فلم يسمعوا... ولم يصنعوه. وقال الرب لي: توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم".

ألا يجب علينا نحن بالأولى أن نتوب عن خطايانا، بكوننا رجال يهوذا، أي رجال السيد المسيح، كما سبق لنا القول.

حيث يوجد بيننا أناس خاطئون وأناس يسلكون حسب الباطل، قال النبي: "توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" "قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين"...

لم يقل مجرد "آثام آبائهم" فقط، وإنما أضاف كلمة الأولين. قلنا أن هذا الكلام موجه لنا وللخطاة الموجودين بيننا. كيف رجع هؤلاء الخطاة لا إلى آثام آبائهم فقط، بل إلى آثام آبائهم الأولين؟ أليس لأن لنا نوعان من الآباء، منهما نوع فاسد. قبل أن نقبل الإيمان كنا أولادًا للشيطان، كما يوضحه الإنجيل "أنتم من أب هو إبليس"، وعندما آمنَّا صرنا أولاد الله. ففي كل مرة نخطئ، نرجع إلى آثام آبائنا الأولين.

لكي نوضح أن آباءنا نوعان استعين بالمزمور 45، حينما يقول: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنيكِ وانسي شعبكِ وبيت أبيكِ"، إذ يقول لها: "اسمعي يا ابنتي" فهو أبوها، كيف إذًا يقول أب لابنته "انسي بيت أبيكِ"؟ لأن الآباء نوعان.

انسي بيت أبيك، أي أبيك الأول؛ إذا عدت للخطايا بعد أن تكوني قد نسيتي بيت أبيك الأول، تكونين أنتِ المقصودة بهذه الآية: "قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين".

قلت كان الشيطان أبانا، قبل أن يصير الله أبانا - إن لم يكن الشيطان أبانا حتى الآن - هذا نوضحه أيضًا من رسالة القديس يوحنا: "من يفعل الخطية فهو من إبليس (مولود من إبليس)" (1 يو 3: 8). وبما أن كل من يفعل الخطية مولود من إبليس، فإننا كنا مولودين من الشيطان عدة مرات حسب كل مرة نخطئ فيها.

مسكين الإنسان الذي يولد من الشيطان بلا توقف، وطوبى لمن يُولد من الله باستمرار.

لا أقول إن البار يولد من الله مرة واحدة فقط طوال حياته، إنما يولد من الله باستمرار في كل عمل صالح يقوم به...

وعندما أوضح لك بخصوص المخلص، كيف أن الآب لم يلد الابن بطريقة تجعله (أي الابن) يحتاج أن يولد منه مرة أخرى بعد ذلك، إنما يلده باستمرار، هكذا أيضًا بالنسبة للإنسان البار.

لنرى ما يخص مخلصنا: إنه يشع مجدًا، إشعاع المجد لم يحدث (لم يولد) مرة واحدة للأبد، وإنما طالما يتولد منه النور، فإن مجد الرب يشع باستمرار. مخلصنا هو حكمة الله؛ والحكمة هي "إشعاع النور الأبدي". فإذا كان المخلص مولودًا باستمرار من الآب، هكذا أنت أيضًا إذا كان عندك روح التبني، فإن الله يلدك باستمرار في المسيح يسوع عند كل عمل من أعمالك وعند كل فكر من أفكارك. هكذا بميلادك تصير ابنًا لله بلا توقف، مولودًا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين[232]].

"لأني أشهدت على آبائكم إشهادًا يوم أصعدتهم من أرض مصر إلى هذا اليوم مبكرًا، ومشهدًا، قائلاً:

اسمعوا صوتي.

فلم يسمعوا ولم يميلوا أذنهم،

بل سلكوا كل واحدٍ في عناد قلبه الشرير.

فجلبت عليهم كل هذا العهد الذي أمرتهم أن يصنعوه ولم يصنعوه" [7-8].

يعود بذاكرتهم إلى بدء إقامة العهد، حيث خانه الشعب منذ اللحظات الأولى، حين نزل موسى من الجبل يحمل معه لوحي العهد اللذين كتبهما الله بإصبعه. عوض السحابة المقدسة السماوية التي عاش فيها موسى أربعين يومًا نزل إلى جوٍ فاسدٍ حيث وجد الشعب يتعبد للعجل الذهبي، يسجدون له ويذبحون (خر 23: 7-8). عوض الموسيقى السماوية المبهجة للنفس سمع صوت غناء ورقص (خر 32: 18-19)، فلم يحتمل ذلك... ارتجفت يداه "وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل" (خر 32: 19). هكذا أعلن موسى النبي عن خيانتهم للعهد منذ اللحظات الأولى، وها هو إرميا يشهد على أبنائهم أنهم سلكوا طريق آبائهم: خيانة العهد.

 لعله أيضًا قصد بآبائهم أولئك الذين سلكوا في الشر قبل إصلاح يوشيا.

"توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" [9].

كسرهم للعهد ليس عن ضعفٍ مؤقت، ولا ثمرة إغراء خارجي، لكنه عن فتنة أو خطة مُحكمة وإصرار، وها هم يتشبهون بآبائهم الأولين في عصيانهم وكسرهم للعهد.

أدى عدم الطاعة إلى "كسر العهد" مرارًا، لهذا حلت بهم الشرور كثمرٍ طبيعي لاعتزالهم الله الذي لم يتدخل إلى حين حتى يكتشف الشعب عجز الأوثان عن إنقاذهم، ويدركوا أنها آلهة باطلة لا حول لها ولا قوة. حتى إرميا نفسه كنبي صار عاجزًا عن الشفاعة عنهم.

"هأنذا جالب عليهم شرًا لا يستطيعون أن يخرجوا منه، ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم..." [11].

مع عجزهم عن الهروب من الضيقة (الشر) التي سقطوا فيها صرخوا لله لا للرجوع إليه بالتوبة، وإنما لمجرد مساندتهم، لهذا قيل "ويصرخون إليّ فلا أسمع لهم" [11]. تركهم يلجأون إلى الآلهة الغريبة ليدركوا عجزها، لهذا لم يسمع لهم، ولا سمح لإرميا النبي أن يشفع فيهم. "وأنت فلا تُصلِّ لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة، لأني لا أسمع في وقت صراخهم إليّ من قبل بليتهم" [14]. سبق فطلب منه ألا يصلي لأجلهم ولا يلح عليه (7: 16). وقد رأينا أن الله ُيسر بأن يرى قلب إرميا متسعًا بالحب، وألا يكف عن الصلاة بلجاجة من أجل شعب الله. لكنه يريد تأكيد أن الأمر قد صدر بتأديبهم، وهو لخيرهم وخلاصهم، فلا يطلب النبي رفع التأديب عنهم.

v  قال لإرميا: "لا تُصلِّ لأجل هذا الشعب... لأني لا أسمع"، لا ليوقف صلاته (لأن الله يتوق مشتاقًا إلى خلاصهم)، إنما لكي يرعبهم. وإذ رأى النبي ذلك لم يتوقف عن الصلاة[233].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يظهر ذلك بوضوح بقوله: "من قبل بليتهم" [14]؛ كأن الله لا يرفض صلواتهم أو طلباتهم، ولا صلوات النبي عنهم، لكن يلزم تركيزها على توبتهم ورجوعهم إليه، ونموهم روحيًا، لا عن رفع البلية عنهم!

أظهر النبي شدة آلامه، إذ حلت به حالة احباط شديدة، لأنه عجز عن أن يدفع عن شعبه ما يحل بهم من انهيار، ولأنه غير قادر على الوساطة بالصلاة عنهم في هذا الأمر كما فعل موسى النبي قبلاً (تث 18: 15-22)، ليس عن ضعف في إرميا، وإنما لإصرار الشعب على العصيان. لقد تمررت نفس النبي حتى لعن يوم ميلاده (20: 14).

2. ما لحبيبتي في بيتي؟!

رفض الاستماع للشعب كما للنبي في أمرٍ ما لا يعني رفضه لشعبه، فهم بالنسبة له "المحبوبة" التي يريدها أن تقيم في بيته، لا أن تدنسه وتخربه. في وسط هذا المرّ يعاتبها مذكرًا إياها بمركزها الذي نالته خلال العهد الذي تحطمه بإرادتها، قائلاً لها:

"ما لحبيبتي في بيتي؟!

قد عملت فظائع كثيرة،

واللحم المقدس قد عبر عنكِ.

إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين" [15].

إن كنتِ تعتزين بالهيكل المقدس أنه في أورشليم، فإنكِ وأنتِ المحبوبة لي قد عملت فظائع كثيرة، من إقامة مذابح للأوثان وأصنام، وممارسة الرجاسات، وتقديم الأطفال محرقات للأوثان. هذا من جانب، ومن جانب آخر عوض تقديم الذبائح قدمتي لحمًا. إذ يقصد باللحم المقدس الذبائح التي ُتقدم في الهيكل، فإنها ليست في عينيه ذبائح للمصالحة أو محرقات حب، بل هي لحم للأكل، كما سبق فقال: "ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا" (7: 21). وعوض التوبة عن هذه الشرور تبتهجين وتفتخرين بالشر!

يكمل عتابه لمحبوبته، قائلاً:

"زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك.

بصوت ضجة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها؛

ورب الجنود غارسك قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل" [16-17].

الضجة العظيمة هنا هي ضجة الجيوش المعادية المجتازة البلاد. إنه في مرارة يؤدبها كما بنارٍ.

 كان تشبيه الشعب بزيتونة خضراء جميلة غرسها الله بنفسه مألوفًا، حيث كان شجر الزيتون مغروسًا في دائرة الهيكل. مصدر هذا التشبيه هو (مز 52: 10)، وقد اقتبسه الرسول بولس في (رو 9).

 هذه التي غرسها الرب تحترق بنارٍ لأنها اعتزلته ورفضت عمله فيها.

إن كان الله لا يسمع لها ولا للنبي إرميا من أجل رفع التأديب، فإنه يقدم هنا الحجة تلو الحجة:

أ. إن الشر صادر لا عن شعبٍ غريبٍ ليس له خبرة معه، بل عن حبيبته التي اقتناها لنفسه. فالإنسان لا يبالي كثيرًا بالشر الصادر عن غريبٍ أو عدوٍ، لكنه يُجرح حين يصدر ممن اقتناه لنفسه حبيبًا! وكما جاء في سفر زكريا عن السيد المسيح الذي جرحته أمته، أو جرحه تلميذه: "جُرحت بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6).

ب. الشر موجه إلى مقدساته، إلى بيته الذي فيه كان يجب أن يتقدسوا، إذ يقول: "ما لحبيبتي في بيتي؟!" [15]. من يقدر أن يعبر عن شرنا حينما ندنس هيكله الذي في داخلنا، فنحول إنساننا الداخلي من ملكوته إلى مركزٍ للخطية والشر، وعوض النور تحتله الظلمة؟!

ج. إنه ليس بالشر العابر نتيجة ضعف، إنما "قد عملتِ فظائع كثيرة" [15]. خطايا عن عمد، برغبة شديدة ، وبكثرة! إنها ليست مجرد ضعفات نصرخ منها، لكنها فظائع كثيرة نصمم عليها!

د. أفسدت العبادة التي كان يجب أن تكون سرّ مصالحة مع الله، لتصير أكلاً وشربًا؛ عوض الذبائح قدمت لحمًا للأكل [15].

هـ. عوض التوبة عما ترتكبه تبتهج وتفتخر بشرها: "إذا صنعتِ الشر حينئذ تبتهجين" [15].

و. أفسدت عمله فيها، وحولت الجمال والإثمار إلى قبحٍ وعقمٍ. إذ يقول "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك... رب الجنود غارسك" [16-17]. أعطاها اسمًا جميلاً، وقدم لها إمكانية الإثمار بوفرة، غرسها بيمينه، لكنها في شرها أصرت أن تدنس اسمها، وتعيش بلا ثمرٍ روحي.

ز. تخضع الطبيعة له، فتأتي الزيتونة بثمارٍ كثيرة على كل فروعها، ورقها دائم الاخضرار العام كله، ُتقدم طعامًا ودواءً بزيت الزيتون، أما هي فعقيمة وجافة، جائعة ومريضة.

ح. أخيرًا فإنها تفعل ذلك لا لبهجتها فحسب وإنما لإغاظة الرب. قدم لها الحب والخير، فردت عليه بالبغضة والشر، بهذا قدمت الشر لنفسها لا لله. "قد تكلم عليكِ شرًا من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد أنفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل" [17]. فما تكلم به الرب عليهم إنما هو ثمر طبيعي للشر الذي صنعوه ضد أنفسهم.

تكررت العبارة "تكلم الله عليهم بالشر" ست مرات في إرميا (16: 10؛ 26: 19؛ 35: 17؛ 36: 31؛ 40: 2)، كما جاءت مرة في (1 مل 22: 23).

3. اعترافات إرميا (11: 18، 12: 6)[234]:

يدعو البعض هذه المراثي الشخصية لإرميا (11: 18، 12: 6) "اعترافات إرميا" وإن كان البعض يراها "شكاوى إرميا".

يرى البعض أن اعترافاته شملت الآتي: (11-18، 12: 6؛ 15: 10-12، 15-21؛ 17: 9-10، 14-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-12، 14-18). ويضيف عليها البعض العبارات: (4: 19-21؛ 8: 18-23؛ 10: 19-23؛ 13: 17؛ 14: 17-18).

ينفرد إرميا النبي بين الأنبياء في حفظه مجموعة من الصلوات تقدم نظرة غير عادية عن حياة النبي الداخلية، كما لم يقدم أي سفر نبوي مجموعة من الشكاوي مثل هذا السفر. حقًا لقد عانى الأنبياء من الشعب، لكنهم لم يقدموا تفاصيل مثل إرميا:

صرخ موسى النبي إلى الرب قائلاً: "ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني" (خر 17: 4).

وقيل عن صموئيل الذي تألم من الشعب الرافض له: "وصرخ إلى الرب الليل كله" (1 صم 15: 11)، لكننا لا نعرف بماذا كان يصرخ.

واشتكى إيليا النبي الشعب لله فقال: "قد غرت غيرة للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1 مل 19: 10).

وعبر إشعياء النبي عن مرارة نفسه من جهة الشعب بعبارة فريدة: "إلى متى أيها السيد؟" (إش 6: 11).

يرى بعض الدارسين أن اعترافات إرميا بصيغة الفرد نطق بها باسم الشعب كله، تعبر عن مرارة نفوسهم وسط الآلام، إذ كانوا يستخدمونها في العبادة الجماعية.

إن كان إرميا النبي قد عبَّر في اعترافاته عن مرارة نفسه لكن لا يمكننا قبول ما يراه بعض الدارسين أن إرميا قد ظن أن الله لم يفِ بوعده بخصوص حمايته، إنما جاءت عباراته كبعض عبارات داود النبي التي يبدو كمن يطلب النقمة لنفسه، وقد سبق لنا الحديث عنها في شرحنا لسفر المزامير. إنها تعبر عن مشاعره البشرية كإنسان له ضعفاته يئن من شدة الألم دون أن يفقد ثقته في الله مخلصه. كما أنه لا يطلب نقمة شخصية، إنما يطلب تأديبًا لمقاومي كلمة الله التي يعلنها النبي. وأن ما نطق به هو نبوات تتحقق كثمرة لشرهم.

يبدأ إرميا النبي اعترافاته، قائلاً:

"والرب عَّرفني فعرفت.

حينئذ أريتني أفعالهم" [18].

كشف له الرب عن المؤامرة التي دبروها لهلاكه، كشفها له ذاك الذي سبق فأكد له وهو بعد ولد: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" (1: 8).

كشف له الرب عن خطتهم وأفكارهم وكلماتهم وأعمالهم من نحوه كما عن قلوبهم وما في أعماقهم، لأنه هو فاحص الكلى والقلب [20]. كأنه يقول إن كانوا في خداع قد خططوا سرَّا لقتلي، لكن في واقع الأمر خدعوا أنفسهم لأنهم لم يدركوا أن الله فضح خطتهم لي، وما فعلوه ليس لهلاكي بل لهلاكهم. ذلك كما انخدع فرعون عندما خطط لإبادة إسرائيل بقتله الأطفال الذكور، وانخدع هيرودس حينما ظن أنه قادر على منع ظهور المسيا المخلص بقتله أطفال بيت لحم الذكور.

بمعنى آخر حسابات الأشرار خاطئة وخطيرة، لا على حياة الغير، بل على حياتهم، لأنهم لا يدركون إمكانيات الله الفاحص الكلى والقلب، والعارف بكل الأسرار الخفية، والقادر على تحويل شرورهم لبنيان ملكوت الله.

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة السابقة مؤكدًا أن الله وحده هو المعلم.

[إذا كان الكلام الموجود في الناموس والأنبياء والأناجيل والرسل، هو كلام الله، فإن من يتعلم من هذا الكلام، يجب أن يخص الله بلقب "معلم". لأن الذي ُيعَلِّم الإنسان المعرفة هو الرب، كما جاء في (مز 93: 10).

يؤكد المخلص أنه يجب ألا نعطى لقب "معلم" لإنسان على الأرض: "فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد هو المسيح" (مت 23: 8-9). في الواقع، الآب الذي في السموات هو الذي يُعَلّم: إما بنفسه، أو بالابن السيد المسيح أو بالروح القدس، وأيضًا بواسطة بولس أو بطرس أو أي من القديسين الآخرين، بشرط أن يأتي روح الرب وكلمته ليُعَلِّما. لماذا قلت ذلك؟ لأن النبي يقول بالتحديد: "والرب عرَّفني فعرفتُ" أو "عرّفني يارب فأعرِف".

لأنني لن أعرف شيئًا إذا لم تُعرِفني أنتَ.

عرفت لأنك عرَفتني "فحينئذ" سأرى "أفعالهم"، وأفهم سلوكهم ونياتهم[235]].

لم يعرف إرميا النبي أعمالهم فقط، وإنما ما هو أعظم عرف مركزه الجديد، أنه صار رمزًا لحمل الله الذي يُساق للذبح من أجل خلاص الغير، فيترنم قائلاً:

"وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح،

ولم أعلم،

انهم فكروا عليّ أفكارًا، قائلين:

لنهلك الشجرة بثمرها،

ونقطعه من أرض الأحياء،

فلا يُذكر بعد اسمه" [19].

كلمة "خروف" في العبرية هنا استخدمت 116 مرة في العهد القديم، كلها فيما عدا خمس حالات اُستخدمت كذبيحة، لذلك ترجم البعض كلمة "يساق إلى الذبح" أو "يُساق كذبيحة" مع أن الكلمة العبرية تعنى الذبح العادي[236].

حسبوه حملاً وديعًا، يقتلوه فلا يُذكر بعد اسمه، ولم يدركوا أنه رمز للسيد المسيح الذي بقتله يملك على القلوب، ويمزق بصليبه الصك الذي كان علينا ويجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في صليبه (كو 2: 15). صار رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: "والرب وضع عليه إثم جميعنا؛ ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أُخذ؛ وفي جيله من كان يظن أنه ُقطع من أرض الأحياء، أنه ُضرب من أجل ذنب شعبي" (إش 53: 6-8).

يقول العلامة أوريجينوس:

[يتكلم السيد المسيح عن نفسه: "وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح ولم أعلم". لم يذكر ما هو الشيء الذي لا يعلمه. فهو لم يقل: "ولم أعلم الخير" أو "ولم أعلم الشر" أو "ولم أعلم الخطية"، وإنما قال فقط: "ولم أعلم". بذلك ترك لك مهمة البحث عن الشيء الذي لم يعلمه. لكي تعرف ذلك الشيء، تأمل هذه العبارة: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21). معرفة الخطية معناها السقوط فيها، تمامًا مثل معرفة الحق أي ممارسته. من يتحدث عن الحق ولا يمارسه لا يعرف الحق[237]].

صار رمزًا للسيد المسيح، ليس فقط كحملٍ سيق إلى الذبح، ولكن كشجرة أيضًا يطلب الأشرار إهلاكها. بحسب الترجمة السبعينية "لنهلك الشجرة بجسدها" [19]. إذ قيل عن السيد المسيح: "اصلبه. اصلبه". طلبوا أن يهلكوه بالجسد على شجرة أو على الصليب. أرادوا قطعه، قائلين: خير أن يموت واحد عن الشعب.

يقول العلامة أوريجينوس:

["إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه".

إن كان اليهود قد صلبوه، هذا أمر مفروغ منه، ونحن نعلمه بكل تأكيد؛ ولكن كيف نربط بين هذا الأمر وبين العبارة: "إنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: هلم نلقى خشبًا في خبزه". إنه موضوع يصعب فهمه!

خبز السيد المسيح هو الكلمة والتعاليم التي نتغذى بها، وحينما رآه اليهود يُعَلِّم بين الشعب أرادوا أن يفسدوا تعاليمه بصلبهم إياه، فقالوا: "لنلقي خشبًا في خبزه". إضافة صلب السيد المسيح إلى تعاليمه هي بمثابة إلقاء خشبٍ في خبزه. حينما اجتمع هؤلاء الناس فيما بينهم ليتآمروا عليه قالوا: "هلم نلقي خشبًا في خبزه".

أما أنا فلي أيضًا - إلى جانب ذلك - رأى مختلف وهو: أن الخشب الُملقى في خبزه جعل هذا الخبز أكثر قوة وفاعلية. أذكر مثالاً لذلك من شريعة موسى: العصا "الخشب" المطروحة في المياه المرّة جعلتها عذبة (خر 15: 25). هكذا حينما أضيفت "خشبة" حب السيد المسيح إلى تعاليمه جعلت خبزه أكثر عذوبة ورقة. بالفعل قبل أن ضيف "الخشب" إلى "خبزه"؛ أي في فترة تعاليمه التي سبقت الصليب، لم تبلغ أقواله إلى أقصى المسكونة (مز 19: 5). لكن بعدما أخذ الخبز قوة من خلال "الخشب" المطروح فيه، بلغت أقوال تعاليمه إلى كل المسكونة.

كان الخشب قديمًا رمزًا لمحبة السيد المسيح التي بها صار الماء المرّ عذبًا، لأنني أعتقد أن الناموس إذا لم يُفهم بالمعنى الروحي يكون "ماءً مرًا"، لكن بمجيء خشب صلب السيد المسيح ومجيء تعاليمه، أصبح ناموس موسى عذبًا وحلوًا[238]].

ونقطعه من أرض الأحياء،فلا يُذكر بعد اسمه" [19].

ظنوا أن بقتله يقطعونه (السيد المسيح) من أرض الأحياء، فينساه العالم، ولا يُذكر اسمه بعد، ولم يدركوا أنه القيامة واهب الحياة، وأن بفعلهم هذا حوّل السيد أرضنا - وادي الموت - إلى أرض الأحياء، حيث اختبرنا قيامة النفس، القيامة الأولى، أو الحياة الجديدة في المسيح يسوع. يلاحظ أن تعبير "أرض الأحياء" لم ُيذكر في سفر إرميا سوى هنا، وقد ورد في مواضع أخرى في العهد القديم 13 مرة.

استحقوا - كشجرة زيتون - أن تُحرق أغصانها الجافة التي بلا ثمر، لكنهم حكموا عليه أنه شجرة يجب إهلاكها، ولم يدركوا أنه بالشجرة التي يصدر عنها العفو، وينالون بر المسيح فيهم، يصيرون أغصانًا روحية ثابتة فيه.

العجيب أن حمل الله سبق فاخبرنا: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب" (مت 19: 16)، تأكلنا الذئاب لتقطع ذكرانا أو ذكرى مسيحنا من أرض الأحياء، فإذا بالذئاب تتحول إلى خراف وديعة. كم حوّل الشهداء بدمائهم أو بشهادتهم للإنجيل العمل نفوس مضطهديهم إلى ملكوت سماوي؟! عوض أن يقطعهم الأشرار من أرض الأحياء تحولوا هم إلى حملان وديعة وانتقلوا من أرض الأموات إلى أرض الأحياء، يسكنها بر المسيح واهب الحياة!

يقول العلامة أوريجينوس:

[يضيفون بعد هذا القول: "ونقطعه من أرض الأحياء فلا يذكر بعد اسمه". قال عن ذلك: "إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير" (يو 12: 4). لو لم يكن قد صُلب المسيح ومات لبقيت حبة الحنطة وحدها ولم تكن الجموع قد أثمرت منه وتبعته. أما موته فأعطى ثمارًا تتمثل في جميع المسيحيين. إذا كان الموت قد جاء بكل تلك الثمار، فكم تكون بالأكثر القيامة؟![239]].

رفع إرميا قلبه نحو الله، قائلاً:

"فيارب الجنود القاضي العدل، فاحص الكلى والقلب،

دعني أرى انتقامك منهم،

لأني لك كشفت دعواي" [20].

سبق لنا الحديث عن طلبه الانتقام.

يدعو الله "فاحص الكلى والقلب" [20]، أي يعرف شخصية الإنسان في أعماقها (الكلي) ومشاعره (القلب). تشير الكلى إلى الشخصية بأسرارها الخفية، لأنها العضو الأعمق في الجسم، والمحمية بالعظام، كثيرًا ما ترتبط بالقلب (17: 10؛ مز 7: 10؛ 26: 2).

v  نضع ثقتنا فيه، إذ يعرف العواطف التي في خبايا نفوسنا عندما تتناغم معًا لكي ترضيه بكونه حاضرًا في كل عقل يراقبه ويتعهده، إذ هو فاحص القلوب والكلى (مز7: 9، إر 11: 20، 17: 10، رو 8: 27، رؤ 2: 23).

العلامة أوريجينوس[240]

"لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين:

لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بأيدينا.

لذلك هكذا قال رب الجنود:

هأنذا أعاقبهم.

يموت الشبان بالسيف،

ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع،

ولا تكن لهم بقية،

لأني أجلب شرًا على أهل عناثوث سنة عقابهم" [21-23].

يحاول الأشرار منع أولاد الله من الشهادة للحق، "قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدِنا" [21]. وكما حدث مع القديسين بطرس ويوحنا إذ "دعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلما باسم يسوع. فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا: إن كان حقًا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فأحكموا، لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" (أع 4: 18-20). هكذا حاول أقرباؤه - أهل عناثوث - منعه من الشهادة للحق، وقد أصروا على قتله، فإذا بهم يفقدون بنوهم وبناتهم بالسيف كما بالجوع!

يقول العلامة أوريجينوس:

[يؤخذ اسم "عناثوث" بالمعنى الرمزي، وهو يشير إلى اليهود. "عناثوث" بحسب ترجمة الأسماء العبرية ُتترجم "مختار". كان الشعب اليهودي هو شعب الله المختار، وكان ملكوت الله أيضًا عندهم. بخصوص هذا الملكوت تحققت الكلمات: "إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره" (مت 21: 43). في هذا أيضًا تحققت الكلمات أن "أهل عناثوث" الشعب المختار، "يطلبون نفسه"، ليس نفس إرميا، إنما قيل عن السيد المسيح.

"الذين يطلبون نفسك، قائلين: لا تتنبأ باسم الرب". لقد منع اليهود السيد المسيح من أن يعلم، "فلا تموت بأيدينا. لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع". إنهم لم يهلكوا بالسيف في عهد إرميا وإنما الآن، بعد الخراب، حلّ الجوع عليهم، ليس جوعًا إلى الخبز ولا عطشًا إلى الماء، بل لسماع كلمة الرب (عا 8: 11). لم تعد تُقال بعد لهم العبارة التي كثيرًا ما تكررت: "هكذا قال رب الجنود". فالجوع يتمثل في أنه لم تعد توجد عندهم نبوات ولا حتى تعاليم. فقد نُزعت كلمة الرب من عندهم، وتحققت الكلمات: "فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ويهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب. القاضي والنبي والعرِّاف والشيخ. رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية" (إش 3: 1-3).

 لم يعد أحد من بينهم يستطيع أن يقول: "كبَناء حكيم قد وَضَعْتُ أساسًا" (1 كو 3: 10). لقد مضى البناءون وعبروا إلى الكنيسة، ووضعوا السيد المسيح "أساسًا" لها، وأولادهم أيضًا بنوا عليه[241]].


 

من وحي إرميا 11

عوض لعنة الناموس

دخلت بي إلى حضن أبيك!

v     طوباك يا موسى،

ارتفعت على جبل سيناء لتقضي أربعين يومًا وسط سحابة القداسة،

تسمع تسابيح السمائيين،

وتقبل لوحي العهد من يدّ خالقك!

نزلت متهللاً، فقد وقَّع الله عهدًا مع شعبه،

أعلنه بحب شديد وقسم!

أقسم بذاته لا بخليقته السماوية أو الأرضية.

أي عجب أعظم من هذا؟!

v     نزلت إلى أسفل الجبل:

عوض سحابة القداسة، رأيت رجاسة ورقصًا!

عوض تسابيح السمائيين، سمعت أغانٍ فاسدة!

وعوض الالتقاء مع الله، شاهدت العجل الذهبي!

لم تحتمل المنظر، فألقيت بلوحي العهد فانكسرا،

معلنًا عن خيانة الشعب للعهد منذ اللحظات الأولى،

وسقوطه تحت لعنة الناموس!

v     هذا هو حالي وحال اخوتي!

لقد كسرتُ العهد، وعصيت الوصية الإلهية!

فقدت ختان القلب والأذن،

فلم أعد قادرًا على سماع الكلمة الإلهية!

وأُغلق عليّ في لعنة كسر الناموس!

v     قبل تجسدك أيها الكلمة الإلهي قدمت ذاتك لأنبيائك!

صِرتَ أيها الكلمة مع إرميا، تعمل فيه!

لتأتٍ إليّ ولتسكن في أعماقي!

لِتُقم عهدك الجديد معي!

فأصير بحق من رجال يهوذا وسكان أورشليم!

أنتَسِب للأسد الخارج من سبط يهوذا،

وتصير أورشليم العليا موطني إلى الأبد!

v     نزلت إليّ يا قدوس،

دخلت معي إلى اللعنة لا بكسر الوصية، إذ أنت هو كلمة الله،

لكنك قبلت اللعنة، إذ ُعلقت على الصليب!

دخلت معي، إذ صرت لعنة لأجلي، حاملاً لعناتي في جسدك،

حطمت دائرة اللعنة وفجَّرت أبوابها،

حملتني فيك، وانطلقت بي إلى سمواتك،

عوض اللعنة دخلت بي إلى البركة!

v     في عتاب الحب تناجيني.

ما لحبيبتي في بيتي؟!

قبلتني مسكنًا مقدسًا لك،

وجعلتني محبوبتك، تتحد معك، وتنعم بشركة مجدك!

لكنني عملت فظائع كثيرة،

أسأت إلى مقدساتك في داخلي،

وعوض ذبيحة الصليب عشت في لهوٍ وملذات.

أي عذر أقدمه لك يا مخلصي؟!

v     أقمتني زيتونة جميلة مغروسة في بيتك،

عوض ثمر الروح حملتُ ثمار شهوات الجسد،

واستحقت أغصاني التي التهبت بنار الشهوة نار التأديب!

من ينقذني من نيران الشر إلا نيران روحك القدوس؟!

من يرد لي  جمالي وثمري فيك إلا نعمتك يا قدوس؟!

اعترف لك إني خنت عهدك،

هب لي  أن تجدده في داخلي يا من حملت اللعنة عني!

احملني إلى حضن أبيك واحفظني فيك!

v     ما أعذب عهدك يا شهوة قلبي،

أخرجتني لا من عبودية فرعون، بل من عبودية إبليس،

وقدمت لي  لا أرضًا تفيض عسلاً ولبنًا،

بل حضن أبيك، فردوسًا أبديًا.

دخلت بي إلى الراحة عوض السخرة،

راحة صليبك واهب القيامة،

راحة شرف العمل معك بروح الجدية العذبة.

تبكر إليّ وتشتاق أن أبقى معك في العهد الجديد الذي قدمته بدمك الثمين.

هب لي  أن أتمسك بعهدك،

أعطني أن أستعذب وصيتك،

امنحني الأذن المختونة فلا أعود أخون العهد بعد!

v     أعترف لك أيها الآب القدوس!

رجعت إلى آثام آبائي الأولين العصاة!

رجعت إلى عمل إبليس وملائكته الذين تبَنُّوني في الإثم!

لأترك بيت أبي وأجري وراءكّ

اقبلني ابنًا لك عوض عدو الخير!

حرِّرني أيها الأب لأختبر بنوتي لك كل يوم!

لتبقى بنوَّتي لك عاملة في لا يحطمها الشرير!

<<


 

الأصحاح الثاني عشر

أعداء في الداخل

كانت جدران قلب إرميا توجعه من أجل شعبه الذي خان العهد الإلهي، وطلب قتل إرميا نفسه حتى لا يسمعوا لصوت الله. كان يشتاق أن يرجعوا إلى الله بالتوبة فيخلصوا مما سيحل بهم، لكنهم عوض الاستماع إليه قاومه حتى أهل بيته.

1. لماذا تُنجح طريق الأشرار؟[1-4].

2. كبرياء الأردن[5-6].

3. تدمير ميراث الله[7-13].

4. تدمير جيران يهوذا[14-17].

1. لماذا تُنجح طريق الأشرار؟

"أبر أنت يارب من أن أخاصمك.

لكن أكلمك من جهة أحكامك.

لماذا تُنجح طريق الأشرار؟

اطمأن كل الغادرين غدرًا.

غرستهم فأصلوا،

نموا وأثمروا ثمرًا" [1-2].

تشبه هذه الكلمات ما ورد في المزمور 37، حيث تعجب داود النبي كيف ينجح الإنسان الشرير في طريقه، لكنه عاد فاكتشف أنه كعشبٍ يظهر قليلاً ثم يجف. أما البار كالشجرة يبدو جافًا في الشتاء لكن يحل الربيع ويظهر الثمر المتكاثر، إذ يقول: "لا تغرْ من فاعلي الشر... فإنهم مثل العشب سريعًا يجفون، ومثل بقول الخضرة عاجلاً يسقطون" (مز 37: 1-2). ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنهم بلا قيمة، يعيشون على سطح التربة ولا يضربون بجذورهم في الأعماق. من ثم فهم (كالعشب) الأخضر في الشتاء، حين تبدأ شمس الصيف تحمى يذبلون. الآن فصل الشتاء، لم يظهر مجدكم بعد، لكن إن كان لمحبتكم الجذور العميقة كأشجار كثيرة في الشتاء، يمضي الصقيع ويحل الصيف، يوم القضاء، حيث تذبل خضرة العشب ويظهر مجد الأشجار].

يرى البعض أن السبب في إثارة هذا التساؤل في هذا الأصحاح أنه في عام 809 ق.م عندما سمع يوشيا الملك الاحتجاجات الشديدة التي وُجهت إليه نزل بجيشه لمهاجمة نخو فرعون مصر الذي كان يسير في الطريق المحاذى للشاطىء لاحتلال أرض الفرات، وكان قد احتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية. التحم الجيشان في مجدون عند سفح جبل الكرمل، فانهار جيش يوشيا سريعًا، وأصيب الملك بجرح مميت (2 أى 35: 23). ُنقل إلى مركبة ثانية، وسرعان ما مات في هددرمون. حزن عليه الشعب كله، حتى صار ذلك مثلاً ومقياسًا لشدة الحزن (زك 12: 11-12). استغل الحزب المناصر للعبادة الوثنية موت يوشيا، قائلين: ماذا تجدي الديانة التي لا تستطيع أن تنجي أعظم مناصرٍ لها من كارثة كهذه؟! هنا نطق النبي بكلمات المرتل آساف (مز 73): لماذا تُنجح يارب طريق الأشرار؟

يرى البعض أن هذه الكلمات نطق بها إرميا النبي حين دخل في ارتباكٍ شديدٍ، فقد وعده الله منذ بداية الطريق أن يجعل منه مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض (1: 18)، لكنه ها هو يرى الأشرار ينجحون ويزدهرون، بينما يدخل هو في سلسلة من المتاعب والضيقات، لهذا وقف أمام الله يصلي إليه بل يعاتبه بقلبٍ منفتحٍ، في صراحة كاملة... دخل معه كما في ساحة القضاء يقدم احتجاجات المحبة.

يلاحظ في هذه الاحتجاجات الآتي:

أولاً: بقوله "أبر أنت يارب من أن أخاصمك" [1]، يبدأ احتجاجه بروح الاتضاع، معلنًا منذ البداية أنه يتكلم من موقع اليقين أن الله بار، لا يخطىء، لكن أحكامه تبدو غير واضحة. فالأمر مجرد تساؤل وعتاب حب، يطلب فيه النبي أن ينير الله ذهنه ليدرك حكمته فيما يحدث.

اقتبس النبي العبارة عن (مز 119: 137): "بار أنت يارب وأحكامك مستقيمة".

إن عدنا إلى النص نلاحظ أن الكلمة العبرية لـ "أبر" [1] تعني "بارًا" و"بريئًا"، وهى التي استخدمت في (أم 24: 24) للتعبير عما يحدث في ساحة القضاء. وكأن الله في محبته قد أصدر أمره بتأديب شعبه مقدمًا حيثيات حكمه، لا لكي نقبل الحكم كأمرٍ حتمي، وإنما لندخل معه في حوارٍ ونحاججه. هذه هي لغة تعامل الله معنا، لغة الحوار. أما نحن فباتضاع نصرخ: "أبر أنت يارب من أن أخاصمك" [1]، أو كما يقول الرسول بولس: "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب؟! أو من صار له مشيرًا؟!" (رو 11: 33-34).

لعل النبي يقول: "لقد رفعت شكواي للقضاء، لكنني اكتشفت أنك برىء!" هنا لا يظهر الله كقاضٍ بل كمتهمٍ، تتهمه النفس البشرية حينما تسقط في مرارة الضيق فتعود وتكتشف خطأها. هكذا يتقدم الديان إلينا كمتهمٍ، تاركًا لنا فرصة اتهامه لندخل معه في حوارٍ مفتوح، ونجد الفرصة لنتبرر به من أخطائنا. وكأن الديان البار يصير متهمًا، لكي يتمتع المتهم الحقيقي بالبراءة.

خلال هذه المحاكمة اكتشف النبي خطأه، إذ ظهر أن الشعب مستحق للتأديب، بل وللموت، وأدرك ما قيل عن هذا الشعب: "لأن هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني" (إش 29: 13). هؤلاء هم المراؤون الذين يقدمون بكلماتهم ما ليس في قلوبهم، أو الذين ينطقون بكلمات الرب ولا يقبلون إرادته في حياتهم. عن هؤلاء يقول السيد المسيح: "ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات" (مت 7: 21). بهذا عرف النبي لماذا يؤدبهم الله.

ثانيًا: واضح ان إرميا النبي قدم تساؤلاته في لقاءٍ خاصٍ مع الله وليس علانية، إذ يقول: "لكن أكلمك من جهة أحكامك" [1]. هنا روح الانفتاح والصراحة مع الحكمة؛ فإنه يليق بنا إن عبر بنا فكر عتاب مع الله ليكن ذلك في صلواتنا الخاصة وصرخاتنا الخفية، في حجرة قلبنا الداخلية، حتى لا نُعثر البسطاء، ولا يُسىء الآخرون كلماتنا!

كن صريحًا مع الرب إلهك في لقائك الشخصي معه، وتحدث معه لكي يُعلن لك أحكامه، فتشهد له علانية في الوقت المناسب!

ثالثًا: واضح من حوار إرميا السري مع الله بشأن أحكامه أمران، يدرك إرميا أن الله لديه الإجابة على تساؤلاته، وأنه مصمم أن يتعرف عليها ليكتشف حكمة الله ويعرف إرادته الإلهية وخطته من نحوه، لهذا يقول: "أبر أنت يارب من أن أحاكمك" [1]. بمعنى آخر يليق بالمؤمن ألا يخجل من أن يسأل الله بكل صراحةٍ ووضوحٍ وُيلح في السؤال، لكن في ثقة ويقين أن الله لديه الإجابة، ولن يبخل بها عليه، يقدمها له في الوقت المناسب.

رابعًا: إن كان إرميا يتعجب كيف ينجح الأشرار، لكن لا يخفي عليه أنهم غادرون غدرًا، وأن هذا الغدر يُعطي نجاحًا مؤقتًا ومزيفًا يليه هلاك وتدمير، كأنهم يغدرون بأنفسهم لا بالله ولا بالناس: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! اطمأن كل الغادرين غدرًا" [1].

خامسًا: بينما يطمئن الغادرون ويظنون أنهم ناجحون ومثمرون ونامون بقدرتهم وحكمتهم وتخطيطهم البشري، إذا بالنبي يؤكد سلطان الله حتى على هؤلاء الغادرين، فإنه ما كان يمكنهم أن ينالوا هذا النجاح المؤقت إلا بسماح إلهي، إذ يقول:

"غرستهم فأصلوا،

نموا وأثمروا ثمرًا" [2].

ظاهرة خطيرة‍‍‍‍‍‍! لقد تأصلوا، أي صارت لهم جذور، ونموا وأثمروا، لكن ليس من ذاتهم، لأن الله هو الذي "غرسهم" ليأتوا بثمرٍ روحي صالح، واهبًا إياهم إمكانيات جبارة للعمل لحساب ملكوته، فإذا بهم يسيئون استخدام هذا الغرس وهذه الإمكانيات. ما لديهم من طاقات استخدموها للشر والتحطيم هي عطايا مقدسة أفسدوها بإرادتهم البشرية.

إنها ظاهرة خطيرة، يضرم الأشرار مواهبهم بقوة، ويعملون بكل نشاط، فينمون في الشر بلا توقف، مجاهدين بروح الغدر والخداع، بينما يهمل أبناء الملكوت المواهب والإمكانيات الممنوحة لهم. وكما قال السيد المسيح "ابناء هذا الدهر أحكم من ابناء النور في جيلهم" (لو 16: 8).

سادسًا: إن كانوا غادرين، وإن كانوا قد أساؤا استخدام طاقاتهم ومواهبهم وإمكانياتهم، فعلة ذلك كله الرياء. يقتربون إلى الله بفمهم خلال العبادة، خاصة الصلوات والتسابيح، أما كلامهم الخفي وقلوبهم أو إنسانهم الداخلي مع مشاعرهم فبعيدة عن الله: "أنت قريب في فمهم وبعيد من كلاهم" [2]. كأن الرياء هو وراء كل فساد في حياتهم، إذ لهم صورة التقوى وينكرون قوتها (2 تي 3: 5).

يرى العلامة أوريجينوس أن هذه العبارة تنطبق على الهراطقة، إذ يقول: ["أنت قريب من فمهم وبعيد من كلامهم"، يعرفون جيدًا أن ينطقوا اسم يسوع، لكنه ليس في داخلهم لأنهم لا يعترفون به بإيمان صحيح[242]].

سابعًا: مقابل هؤلاء المرائين الذين ينطقون بغير ما يبطنون يقدم النبي نفسه كإنسانٍ ينطق بما يبطن، ويحمل في مظهره ما في أعماقه، وأن الله نفسه الفاحص الكلي والقلوب يشهد بذلك، إذ يقول: "وأنت يارب عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك" [3].

إذ عاش إرميا مع الله بروح الإخلاص بعيدًا عن الرياء استحق أن يكون موضوع معرفة الله ورؤيته. بمعنى آخر يتمتع إرميا بأن يعرفه الله معرفة المحبوب لديه والصديق الملاصق له، وأن ينعم بنظرات حبه واهبة السلام.

إن كان الله قد عرَّف إرميا ما يحمله الناس من خداع وما يقدمونه من أفعالٍ شريرة ضده (11: 18)، ففي المقابل يعرف الله أعماق إرميا ويراها ويختبرها بنفسه. ترجع هذه المعرفة إلى ما قبل خلقته، إذ جاءته كلمة الرب: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (1: 5).

ثامنًا: إذ كان إرميا النبي نقيًا في أعماقه، مخلصًا في تصرفاته، ما يتكلم به بلسانه يكشف عما في أعماقه، لذا كان نقيًا حتى في غضبه. إن غضب يشهد للحق الإلهي ويطلب توبة الساقطين ونموهم روحيًا. كيف يكون ذلك وهو يقول:

"افرزهم كغنمٍ للذبح،

وخصصهم ليوم القتل" [3].

في شرهم طلبوا قتله، فصار "كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح" (11: 8). صار ذبيحة حب لأجل الله ولأجل اخوته، فتحول شرهم إلى خيرٍ، وها هو يطلب لهم أن ُيفرزوا للذبح. ربما يتساءل البعض: لماذا يطلب النبي إرميا ذلك لشعبه؟

لا يمكن تجاهل مشاعر النبي الباكي الرقيقة نحو شعبه، وذوبان كيانه الداخلي واعتصاره لأجلهم، فإنه لم ينسَ قط أنه راعٍ، لا يشتهي البلية (17: 16) بل يطلب ما لصالح قطيع الله. فلماذا كان يطلب النقمة لنفسه؟

أ. تكشف كلمة الله عن الضعف البشري، فمع ما حمله النبي من حبٍ إلا أنه في لحظات ضعفه لم يحتمل الضغط المستمر ومقاومة الشعب له على مستوى القيادات الدينية، كما على مستوى رجل الشارع، بل حتى أسرته وأهل قريته خططوا للخلاص منه. إنه إنسان له ضعفاته، أما ربنا يسوع الذي غفر لصالبيه في أمرّ لحظات الألم (لو 23: 34)، فوهب مؤمنيه إمكانية الحب للأعداء والصلاة للمسيئين إليهم كما فعل اسطفانوس (أع 7: 60).

ب. طلب النقمة لتأديب أسرته، لأنهم مستوجبون الموت. مارسوا العبادة بما يخالف الناموس، وحسبوا شركة إرميا في اصلاحات يوشيا للهيكل في أورشليم خيانة لهم. من جانب آخر، فإن عائلته وأهل قريته شعروا أن نبواته هيجت الشعب كله ضدهم، وأنهم صاروا في نظر الشعب في كل البلاد خونة للوطن بسببه، إذ أكد حدوث السبي، لذلك ثاروا ضده. فالانتقام الذي يطلبه إنما هو تأكيد أن الله - بالنسبة له - أولاً قبل أسرته وفوق كل علاقات بشرية.

ج. ربما لم يكن بعد قد أدرك إرميا مفهوم الألم وتأثيره في خلاص الآخرين، لأنه لم تكن بعد قد ظهرت آلام مخلصنا، فكان يكره الألم.

د. ربما خشى النبي إرميا من بطء قصاص الأشرار، فهو يتعجل التأديب، ليس للانتقام، وإنما لكي يعطى طمأنينة للأبرار.

هـ. ما يطلبه من انتقام ليس رغبة داخلية في طلب الشر من نحوهم، إنما نبوة عما سيحل بهم لأنهم قالوا له: "لا تتنبأ باسم الرب" (11: 21).

تاسعًا: أصيب النبي بحالة إحباط بسبب طول أناة الله على الأشرار:

"حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل،

من شر الساكنين فيها فنيت البهائم والطيور،

لأنهم قالوا لا يرى آخرتنا" [4].

لم يكن يتعجل التأديب لينتقم لنفسه، إنما لأنه رأى الأرض نائحة، وعشب كل الحقل قد يبس، والبهائم والطيور فنت. بمعنى آخر إذ يتحول الجسد (الأرض) من اللذة بالخطية إلى فقدان الراحة والدخول إلى حالة غمٍ شديدة، ويفقد الإنسان كل ثمرٍ روحي حتى وإن كان كعشبٍ صغير، وتهلك طاقاته الجسدية (البهائم) والروحية (الطيور)... يصير في حاجة إلى تأديب إلهي يرده إلى صوابه ويحثه على التوبة‍.

يقول العلامة أوريجينوس:

["حتى متى تنوح الأرض وييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها؟" يتحدث النبي هنا كما لو كانت الأرض كائنًا حيًا، يقول إنها تنوح من شر الذين يمشون فوقها.

الأرض بالنسبة لكل واحدٍ منا إما نائحة بسبب شرنا، أو متهللة بسبب فضائلنا. وما يُقال بالنسبة للأرض يُقال بلا شك بالنسبة لكل الأشياء.

بالمثل يمكنني أن أقول: إن الماء والملاك المسئول عنه يتهللان أو ينوحان؛ فيجب علينا أن نعرف أنه حتى يتم تنظيم وإدارة الكون كله يوجد ملاك مسئول عن الأرض، وآخر مسئول عن الماء، وآخر عن الهواء وآخر عن النار.

ارتفع بعقلك لتتأمل النظام السائد عند الحيوانات والنباتات والكواكب السمائية؛ إذ يوجد ملاك مسئول حتى عن الشمس وآخر مسئول عن القمر وآخرين عن النجوم. هكذا كل هؤلاء الملائكة الذين يرافقوننا طوال حياتنا على الأرض، إما أنهم يفرحون لنا أو ينوحون عندما نخطىء.

يقول إرميا إن الأرض تنوح بسبب الساكنين فيها: ويقصد بكلمة "أرض" الملاك الساكن فيها، إذ قيل: "أما الخشب المصنوع صنمًا فملعون هو وصانعه" (حك 14: 8)، ليس أن اللعنة تقع على الشيء الجامد نفسه، وإنما يُقصد بكلمة "صنم" الشيطان الساكن فيه، والذي يتخذ من "الصنم" اسمًا له. بنفس الطريقة أستطيع أن أقول إن "الأرض" يقصد بها الملاك المسئول عن الأرض، و"الماء" الملاك المسئول عن الماء، الذي كُتب عنه: "أبصَرَتَك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج. سكبت الغيوم مياهها أعطت السحب صوتًا. أيضًا سهامك طارت" (مز 77: 17-18)[243]].

عاشرًا: إن كان النبي يئن من أجل مقاومة الناس له، فإن الله يكشف له عن نهاية شرهم، أو ثمر شرهم. لقد استهانوا بتحذيرات إرميا النبي لهم وصمموا على الشر قائلين في أنفسهم: "لا يرى آخرتنا‍" ]4]. حتى هذا الفكر الصادر عن قلبهم المتعجرف وعدم إيمانهم كشفه الرب لإرميا. كأن إرميا في أمانته قد عرف فكر الرب وإرادته واستلم كلماته، كما عرف خطط الأشرار الخفية وتصرفاتهم ونياتهم الخفية كعطية قُدمت له من الله مُرسله!

2. كبرياء الأردن:

"إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تبارى الخيل؟!

وإن كنت منبطحًا في أرض السلام، فكيف تعمل في كبرياء الأردن؟!"

لأن إخوتك أنفسهم وبيت أبيك قد غادروك هم أيضًا.

هم أيضًا نادوا وراءك بصوتٍ عالٍ.

لا تأتمنهم إذا كلموك بالخير" [5-6].

يرى البعض أن العبارات السابقة هي إجابة الله لإرميا النبي على تساؤله: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" [1]. فقد حملت الآتي:

أولاً: كأّن الله يعاتب إرميا النبي قائلاً له: لماذا ضعفت أمام مقاومة الأشرار؟

لماذا لم تحتمل أول عاصفة من الإضطهاد؟

ألا تذكر كيف دعوتك ووعدتك إني أكون معك؟!

فلماذا يتسرب اليأس إلى قلبك؟

لقد دخلت المعركة المقدسة بقلبٍ نقي، لكنها فوق إدراكك، لا تعرف أبعادها. انتظر لترى دوري، ولا تتعجل النتائج في حياتك، وفي حياة الشعب الذي تراه الآن شريرًا ومقاومًا لك ولي. إنك حتى الآن قد "جريت مع المشاة فأتعبوك"، لكنني أجعلك تبارى الخيل. أنت الآن في أرض السلام نسبيًا، إنني أسندك حينما تدخل في الأحزان الشديدة التي تجتاح الأرض ككبرياء الأردن.

هذه معاملات الله معنا، لا يدفعنا دفعة واحدة لنباري الخيل، بل يختبرنا أولاً بالحرى مع المشاة. لا يسمح لنا أن نلتقي بنهر الأردن في حالة فيضانه لمواجهة تياراته ولججه، بل أن ُنجرب أولاً في أرض السلام وسط أحبائنا.

تكرر تعبير "كبرياء الأردن" أربع مرات في العهد القديم (49: 19؛ 50: 44؛ زك 11: 3).

من الناحية الروحية ينبغي ألا نرتئي فوق ما ينبغي (رو 12: 3)، أي ليعرف كل إنسانٍ قامته الروحية. كمثال لا نمارس ونحن بعد في بداية الطريق التداريب الروحية التي اختبرها النساك في نهاية طريقهم، بل نسلك بحكمة الروح. يلزمنا أن نبدأ الطريق مع المشاة، وعندما ننجح ندخل في مباراة مع راكبي الخيل. إن كنت منبطحًا على الأرض في ضعفٍ وأنت بعد لم تدخل المعركة، ماذا تفعل في كبرياء الأردن؟

التطرف حتى في الطريق الروحي خطير، إذ يلزمنا أن نعتمد على نعمة الله التي تبنينا في هدوء وبحكمة، وليس بانفعلات عاطفية عنيفة.

يتحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن هذا المبدأ وهو أن لا يرتئي الإنسان فوق ما ينبغي، حاسبًا إياه رأس كل الفضائل، داعيًا إياه "اتضاع الفكر"، قائلاً:

[هنا يقدم لنا الرسول بولس (رو 12: 3) أم كل الأعمال الصالحة، أي اتضاع الفكر، مقتديًا بسيده. فعندما صعد على الجبل وأخذ يقدم نسيجًا من الوصايا السلوكية قدم في المقدمة هذا الينبوع، قائلاً: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3). هكذا أيضًا بولس إذ يعبر من الجوانب التعليمية إلى الجوانب العملية يحدثنا عن الفضيلة بطريقة عامة، سائلاً إيانا أن نقدم (ذواتنا) ذبيحة عجيبة (رو 12: 1). وإذ يقدم صورة خاصة بها بدأ بالاتضاع كما من الرأس، مخبرًا إيانا: "لا يرتئي فوق ما ينبغي، بل يرتئي إلى التعقل" (رو 12: 3).

يعني القول: لقد تسلمنا حكمة، لا لنستخدمها لكبريائنا، وإنما لنكون متعقلي الفكر. يقول هذا لا لنكون منحطين في الفكر، بل متعقلين، قاصدًا بالتعقل هنا الفضيلة العاقلة والصحية في الذهن].

بمعنى آخر، يقول الله لإرميا إن كنت تتساءل: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ فلتعلم أنك لاتزال في بداية الطرق الضيق. لكني أكون معك وأرتقي بك وسط الآلام، فتكتشف أسرار محبتي ومعاملاتي معك ومع شعبي.

ثانيًا: قدم الله التساؤلات السابقة عوض إجابته على السؤال مباشرة، ليؤكد له أنه يعلم تمامًا ما بلغه إرميا من تعبٍ ومرارة، لكنه ليس منسيًا أمام الله. سيعطيه غلبة على المشاة، ويدخل به إلى المبارة بين راكبي الخيل، وسيرتفع به من نصرة إلى نصرة. بمعنى آخر يؤكد له الله اهتمامه به حتى وإن ثارت في نفسه تساؤلات تبدو كأنها عن ضعف إيمان.

كأن الله يقول له: أنا أعرف انك ولد كما سبق فاعترفت (1: 6)، هادىء الطبع، ذو قلبٍ رقيق، لا تحتمل الضربات العنيفة، اعلم إنني لن أتركك. إني لست مثل إخوتك وأهل بيتك الذين يغدرون بك حتى إن نادوا وراءك بصوتٍ عالٍ وتكلموا معك بالخير [6]. إني أشاركك مشاعرك، وأدرك ضعفاتك، حتى وإن كنت عاجزًا عن مباراة المشاة، أو في معركة على أرض السلام.

بهذا لا يُعاني  إرميا من الشعور بالوحدة والعزلة أو الشعور بالنقص أو الفشل، لأن الله يرافقه حتى وإن فارقه العالم كله!

ثالثًا: نشتم من هذه الكلمات تأكيد الله لإرميا ألا يحكم قبل الوقت. فإن انتظر يرى حكمة الله وأيضًا عدله الممتزج بالحب والرحمة!

رابعًا: كأن الله يسأل نبيه إرميا ألا يضطرب بمثل هذه الأسئلة وهو يتطلع إلى بني قومه يقاومونه ويغدرون به، فإنه مُرسل لخدمة الشعوب كما سبق فأخبره: "جعلتك نبيًا للشعوب" (1: 5). بمعنى آخر كأن الله يقول له: إني أتعجب أنك تتساءل في هذه الأمور الصغيرة، وأنا أرسلتك لخدمة الشعوب. عوض الانشغال بهده التساؤلات احرص على تتميم رسالتك العظيمة التي ائتمنتك عليها. ارتفع بنعمتي فوق الأمور التي تشغل بني البشر وذلك بإدراكك لمركزك الجديد الذي قدمته لك.

خامسًا: بقوله "إخوتك أنفسهم وبيت أبيك" [5] يقصد كل أهل عناثوث (إخوته)، خاصة الأقرباء جدًا إليه (بيت أبيه). كأنه يقول له: لماذا تحتج عليّ قائلاً: لماذا تُنجح الأشرار؟ إن كنت أطيل أناتي عليهم فلا تنسى أنهم إخوتك وبيت أبيك حتى إن غدروا بك! أنا أحذرك منهم لكنني أؤدبهم لأخلصهم، فهم أقرباؤك!

يترجم البعض كلمة "عالٍ" [6] بـ "سكران" أو "ممتلئ سكرًا"، فالكلمة العبرية ترجمتها الحرفية هي "وزن ثقيل" أو "ممتلىء" (خاصة بالسُكر)... لهذا يرى البعض أن المعنى هنا هو أن أقرباء إرميا كانوا يسخرون به كإنسان ممتلىء سُكرًا، كما حدث مع التلاميذ حين قبلوا عطية الروح القدس، إذ قيل عنهم إنهم سكارى (أع 2: 13)، كما قيل هكذا عن حنة عندما كانت تُصلي بقلبٍ منسحقٍ (1 صم 12-15). هكذا كان أقرباؤه تارة يسخرون به، وكان في هذا رمزًا للسيد المسيح الذي اتهمه أقرباؤه حسب الجسد أنه مختل العقل (مر 3: 21)، وتارة يحاولون خداعه بكلمات معسولة، كما قبّل يهوذا سيده مسلمًا إياه للموت!

3. تدمير ميراث الله:

في هذا الأصحاح والأصحاح التالي توجد سبع مجموعات من النبوات، ست منها عن انهيار أورشليم، وواحدة (11: 14-17) عن جيران يهوذا، قيلت غالبًا في أيام يهوياقيم (609-598 ق.م).

أ. نبوة أولى (12: 7-13): ضد أورشليم ميراث الله.

ب. نبوة ثانية (12: 14-17): نبوة عن الأمم المجاورة.

ج. نبوة ثالثة (13: 1-11).

د. نبوة رابعة (13: 12-14).

هـ. نبوة خامسة (13: 15-17).

و. نبوة سادسة (13: 18-19).

ز. نبوة سابعة (13: 20-27).

جاءت النبوة الأولى تركز على إسرائيل بكونه الميراث الخاص لله، فمنذ البداية قيل: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9). قدم الله لهم أرضه - أرض الموعد - نصيبًا، وقبلهم هم نصيبًا له. لكنهم افسدوا أرضه فصاروا مستحقين الطرد منها، وفقدوا سمتهم كميراثٍ للرب. هكذا ربط بين الشعب والأرض إذ يقول: "قد تركتُ بيتي، رفضت ميراثي، دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها... رعاة كثيرون أفسدوا كرمي... خربت كل الأرض" [7، 11].

يرى العلامة أوريجينوس أن المتحدث هنا هو الكلمة المتجسد الذي نزل إلى أرضنا ليدفع حياته في يد الأعداء ذبيحة لخلاصنا، إذ يقول:

["قد تركت بيتي. رفضت ميراثي. دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها" [7]. لاحظ إذًا أن ذاك الذي هو في "صورة الله" (في 2: 6) جالس في السموات، وأنظر إلى بيته الذي يفوق السموات. لو أردت أن ترى أيضًا ما هو أعظم وأعلى من ذلك، فإن بيته هو الله "لإني في الآب" (يو 14: 11). "لقد ترك أباه وأمه" (مت 19: 5)، وترك أورشليم السمائية وجاء إلى الأرض، قائلاً: "قد تركت بيتي. رفضت ميراثي".

كان ميراثه في الواقع في الأماكن التي توجد فيها الملائكة والصفوف التي توجد فيها القوات المقدسة.

"دفعت حبيبة نفسي (نفسي الحبيبة) ليد أعدائها". لقد دفع نفسه لأيدي أعداء النفس، لأيدى اليهود الذين قتلوه، لأيدي الملوك والرؤساء المجتمعين ضده، فإنه "قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه" (مز 2: 2)[244]].

نقض الشعب العهد لكن الله حتى في تأديبه لهم، وقد قرر ترك بيته ورفض ميراثه ودفع الشعب للأعداء، يدعو شعبه "حبيبة نفسي" [7].  كأنه يقول إني مضطر أن أترك بيتي وأرفض ميراثي الثمين وأسلم حبيبة نفسي للعدو. قلبي منكسر من أجل هذا كله. متى يرجع لي بيتي مقدسًا؟! متى يعود إليّ ميراثي؟! متى ترجع إليّ حبيبة نفسي؟!

في أمر لحظات الخطية، بينما يقوم الله بتأديبك، ينتظر عودتك لتكون بيته الروحي المقدس، ميراثه المحبوب لديه، عروسه حبيبة نفسه! مادام يوجد نَفَس واحد فيك فهو يترجى عودتك، ويترقب رجوعك إليه كبيتٍ مقدسٍ وميراثٍ له وحبيبة نفسه ولو بالتأديب الحازم.

في قوله هذا يقدم الله أيضًا إجابة لتساؤل النبي: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" [1].

أولاً: هؤلاء الذين تدعوهم أشرارًا هم في الحقيقة بيتي وحبيبتي والكرم التي غرستها بيديّ. حقًا صاروا أشرارًا وأفسدوا عملي فيهم وأساءوا استخدام عطاياي لهم. إني أطيل آناتي عليهم إلى حين، أؤدبهم في الوقت المناسب لعلهم يرجعون إليّ ويصيرون نصيبي بالإيمان الحيّ العملي!

ثانيًا: إن كنتَ حزينًا عليهم لشرهم وقد صرخت بأن جدران قلبك توجعك من أجلهم، إنما تشاركني حزني على بيتي وحبيبتي وكرمي، ها أنا أقدم مرثاة على ما وصلوا إليه.

ثالثًا: إن كنت تئن لأن أهل بيتك وأصدقاءك قد خانوك، فهم خانونى أنا خالقهم الذي جعلتهم بيتي وحبيبتي وكرمتي. جرحك ليس أكبر من جرحي!

رابعًا: في المرثاة التي يقدمها الله على شعبه أوضح أنه ليس إرميا هو المعنى عندما يضايقه الشعب، إنما الله نفسه. فإرميا ليس محتاجًا إلى إجابة على أسئلته، بل محتاج إلى الله نفسه موضوع الاضطهاد.

لقد قدم توضيحات كثيرة يكشف بها الله لإرميا أنه هو موضوع الاضطهاد وليس إرميا:

أ. الأسد الذي يزأر في البرية لا ليجد فريسة وإنما ليخون إلهه:

"صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعر،

نطق علىً بصوته،

من أجل ذلك أبغضته" [8].

كثيرًا ما يُشبه الله بالأسد الذي يدافع عن شعبه، إذ قيل: "إن الرب يزمجر من صهيون، ويعطي صوته من أورشليم" (عا 1: 2)، ودُعي السيد المسيح: "الأسد الذي من سبط يهوذا (رؤ 5: 5)، وقيل عنه وهو على الصليب: "ربض كأسدٍ" (تك 49: 9). يتقدم المعركة كأسدٍ قادر على تحطيم عدو الخير الذي يجول كأسدٍ زائرٍ ليبتلعهم فريسة سهلة (1 بط 5: 8). ويود الله أن يقيم من كل مؤمنٍ أسدًا لا يخشى عدو الخير، بل يحمل روح إلهه، روح القوة. أما أن يسىء استخدام طاقاته ومواهبه فيوجهها ضد الله، عندئذ يُحسب كأسدٍ يزأر ضد من وهبه القوة، ضد الله خالقه ومخلصه، فيلقي بنفسه في دائرة غضب الله. هذا ما عبّر عنه بقوله: "من أجل ذلك أبغضته" [8].

بدقة عجيبة يعاتب الله شعبه قائلاً: "صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعر"، لقد أتيت به إلى أرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا، ليكون ميراثًا لي، فإذا بشره يحول أرض الموعد إلى وعرٍ وخرابٍ، ويستخدم عطاياي ضدي. ميراثي الذي اخترته لي صار ضدي!

"نطق عليّ بصوته"، هذا الذي كان تحت عبودية فرعون لا يقدر أن ينطق بكلمة تحت جلدات المسخرين اللاذعة، أعطيته الحرية فرفع صوته ضدي!

ب. ضبعة نهمة على فريستها، إذ يقول: "جارحة ضبع ميراثي لي" [9]. قدمت لها أرضي ميراثًا لتنعم وتستريح، فإذا بها كالطير الجارح أو كالضبع الذي يهاجم الفريسة بنهمٍ! هجموا على ميراثي وافترسوه! حسبوه جثة ميتة!

ج. طيور جارحة تجتمع حول الفريسة معًا كما في عيدٍ مفرح!

"الجوارح حواليه عليه.

هلم اجمعوا كل حيوان الحقل،

إيتوا بها للأكل" [9].

في التشبيهات الثلاثة يبرز الله كيف تحول شعبه الذي يدعوه "حبيبة نفسه" إلى طبيعة مفترسة نهمة تتهلل بالشراسة والافتراس، تحتقر ميراثه وتحسبه جثة ميتة لا تستحق إلا الأكل! ما أبشع جحود الإنسان لله خالقه ومخلصه، ولعطاياه الفائقة!

يقول العلامة أوريجينوس: ["صار لي ميراثي كأسدٍ في الوعرٍ". انقلب هذا "الميراث" الذي أخذه على الأرض ضده مثل وحشٍ مفترسٍ، وتحول "ميراثه" إلى مجموعة من اليهود الشرسين الهائجين ضده مثل "أسدٍ في الوعر"... الآن أيضًا توجد أسود في الوعر يريدون أن يجدفوا على المسيح، كما يتآمرون على الذين يؤمنون به... "جارحة ضبع ميراثي لي"، مازال يتنبأ على هذا الميراث: "جارحة ضبع ميراثي لي".

جارحة الضبع من أشرس الحيوانات، تحوم حول المقابر لتفترس الجثث.

"الجوارح حواليه عليه. هلم اجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل": بما أنهم قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فإنني آمركم أيها الملائكة أن تذهبوا وتجمعوا كل الحيوانات المفترسة وأن تطرحوا أمامهم هؤلاء الناس.

إذا كان الله لم يشفق على شعبه المختار، فكم بالأكثر لا يشفق علينا نحن أيضًا. إننا إذا لم ننفذ وصية الله وكلام الإنجيل سيقول من جديد: "هلم إجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل"، لكننا نتجرأ لنقول في صلواتنا: "لا تُسَلِم للوحش نفس يمامتك" (مز 74: 19)، أو "لا تسلم للوحوش المفترسة النفس التي تعترف لك بخطاياها". لنعترف إذًا بخطايانا تائبين عنها، فلا نُسلَّم للوحش، وإنما للملائكة القديسين الذين سيكونون بمثابة مرضعين لنا، يحملوننا على صدورهم، ويساعدوننا على العبور من هذا العالم إلى العالم الآتي في يسوع المسيح الذي له القوة والمجد إلى أبد الآبدين[245]].

خامسًا: أوضح الله في مرثاته على شعبه هنا ما قد آل إليه هذا الشعب الخائن من "خراب"، فقد كرر هذا الكلمة خمس مرات في الآيات [10-13]، ليخلق جوًا من الحزن، معلنًا بذلك حزنه على شعبه، وعدم سروره بما حلّ بهم من تأديبات بسبب خطاياهم.

هكذا قدم الله لإرميا سلسلة من الإجابات غير المباشرة على تساؤله: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" بطريقة تبعث في النبي روح الرجاء وتدفعه للجهاد والعمل لحساب إخوته في الرب، حتى إن سمح بتأديبهم!

"رعاة كثيرون أفسدوا كرمي،

داسوا نصيبي،

جعلوا نصيبي المشتهى برية خربة!" [10].

يستخدم هنا تشبيه شعب الله بالكرمة، ويرجع ذلك إلى إشعياء (5: 1-7)، وورد في إرميا (6: 9؛ 5: 10).

يقصد بالرعاة هنا الملوك ورجالهم ومشيريهم، والقيادات المدنية والدينية (23: 1-4). إنه حزين عليهم لأنه عوض القيام بدور الرعاية للكرم قاموا بتخريبه، وتحويل حقله المشتهى إلى برية خربة.

أعطى الله إسرائيل الأرض ميراثًا، ليصيروا هم ميراثه، وإذ أفسدوا الأرض بالعصيان تحولت من أرضٍ مقدسة إلى مقبرة جماعية لقتلى بلا عدد، تحمل دنسًا ونجاسة!

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "جعلوه خرابًا ينوح عليّ وهو خرب. خربت كل الأرض بسببي" [11]، قائلاً:

[من هو ذاك الذي يقول: "خربت كل الأرض بسببي"؟ إنه السيد المسيح.

من المؤكد قبل مجيء السيد المسيح كان هناك العديد من الخطايا بين الشعب، لكنها لم تكن كثيرة إلى درجة أن ُيسَّلَم الشعب للهلاك الأبدي، لكنهم حينما ملأوا كيل (كأس) آبائهم، لم يكتفوا بقتل الأنبياء واضطهاد الأبرار، قتلوا أيضًا مسيح الرب، فتمت بشأنهم الكلمات: "هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 37)، وهكذا فإنه "بسبب" السيد المسيح تحملوا هذا المصير وخربت كل أرضهم.

إذا أردت أن تفهم الكلمات: "خربت كل الأرض بسببي"، بطريقة أكثر سموًا، انظر كيف خربت الأرض التي في داخلك حينما جاء السيد المسيح. ففي الواقع قد خربت حينما قمنا بإماتة الأعضاء الأرضية، فلم تعد الأرض التي في داخلنا تنتج الأعمال الأرضية، ولم تعد توجد عند البار أعمال الجسد التي هي فسق، نجاسة، شهوة، زنا، سحر الخ. يقول المخلص أيضًا من جهته: "أتظنون إني جئت لأعطي سلامًا على الأرض؟! كلا، أقول لكم بل انقسامًا" (لو 12: 51). قبل مجيء المسيح لم يكن هناك انقسام على الأرض، لأن لم تكن للجسد شهوات ضد الروح ولم يكن للروح أن تشتهي ضد الجسد. لكن عندما جاء إلينا المخلص وعرفنا ما هي أعمال الجسد وما هي أعمال الروح، بهذه المعرفة حدث الانقسام الذي فصل بين الجسد "الأرض" والروح. ستتحقق الكلمات "خربت كل الأرض" حينما نحمل في جسدنا إماتة الرب يسوع، وحينما لا نحيا بحسب الجسد بل بحسب الروح، وحينما لا نزرع شيئًا في الجسد إنما نزرع كل شيء في الروح حتى لا نحصد فسادًا من الجسد، إنما نحصد بالروح حياة أبدية[246]].

"زرعوا حنطة، وحصدوا شوكًا،

أعيوا ولم ينتفعوا،

بل خزوا من غلاتكم من حمو غضب الرب" [13].

زرعوا حنطة، لأن معهم شريعة الرب، كلمة الله الحية، لكنهم حصدوا شوكًا لأنهم لم يقدموها بالمفهوم الروحي، ولا عاشوا فيها، بل تمسكوا بالحرف، فعوض الحنطة حصدوا شوكًا.

يقول العلامة أوريجينوس:

[قيل للخطاة: "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا" [13].

لأنهم حتى إن كانوا يعرفون كلمات الله ويرددونها، إلا أنهم لا يعرفونها المعرفة الصحيحة ولا يعيشون بها ولا يؤمنون بها، بل ينطبق عليهم القول "تزرعون حنطة وتحصدون شوكًا". وينطبق هذا الكلام بصفة خاصة على الهراطقة الذين يقرأون الكتاب المقدس ويحصدون شوكًا، ليس شوكًا من الكتاب المقدس نفسه، إنما من طريقتهم في الفهم والتفسير[247]].

4. نبوة عن الأمم المجاورة:

في وسط الظلام الدامس يشرق الله على البشرية بنور الرجاء، ليس فقط على شعبه، بل وعلى الأمم المجاورة إن عادوا إليه بالتوبة.

إن كان الله يؤدب فهو لا يطلب عذاب البشرية بل نموهم، إذ هو "محبة"، لذا يقول: "عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم أفكار سلام لا شر" (29: 21).

هكذا يبعث الله روح الرجاء في إرميا، طالبًا منه عوض التساؤل: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ [1]، أن يتطلع إلى المستقبل ليرى شعبًا جديدًا من كل الأمم والشعوب يتمتع بالحياة الجديدة، حيث يتحول الأمم إلى الإيمان، كما حولت الأمم شعب الله إلى عبادة البعل. يكشف الله لإرميا الذي جعله نبيًا للشعوب (1: 5) عن كنيسة العهد الجديد حيث يملك الله ومسيحه على الأمم (رؤ 11: 5). بهذا أعطى الله لإرميا قوة ودافعًا للعمل بنظرة مستقبلية مفرحة.


 

من وحي إرميا 12

لماذا تُنجح طريق الأشرار؟

v     اسمح لي يا خالقي أن احاججك مع النبيين داود وإرميا:

لماذا تُنجح طريق الأشرار؟!

لماذا نرى الأشرار متأصلين ونامين ومثمرين،

وأولادك يئنون وسط الآلام؟!

v     أعترف لك بحبك يا جابلي،

سمحت أن تدخل في المحاكمة وأنت ديان البشرية كلها.

أنت أبر من أن أخاصمك.

لكنني أدخل معك في مضطجعي لأتساءل سرًا.

نفسي مرّة؛ من يهبها الراحة غيرك؟!

نفسي تتساءل؛ من لديه الإجابة إلا أنت؟

v     الآن عرفت لماذا تُنجح طريقهم،

تطيل آناتك عليهم لعلهم يتوبون،

عرفت أنهم مراؤون... لكنك ستؤدب وتنتظر رجوعهم إليك.

v     علمت أن شكواي تكشف عن ضعفي.

إنني عاجز عن مباراة المشاة،

إنني في بدء طريق الألم لا أحتمل غدر الأشرار.

علمني أن أنتظر، ولتدربني فأباري الخيل.

انبطحت في ضعف وأنا بعد في أرض السلام،

علمني أن أنتصر في معركة الآلام كما في كبرياء الأردن،

عندئذ لا أتساءل بل أدرك سر طول أناتك.

v     لماذا اشتكي الأشرار؟!

وهم اخوتي وبيت أبي؟!

لتطل يارب بالأكثر أناتك عليهم!

هم أكثر حاجة إلى حبك ومراحمك لتقتنيهم لك!

اجتذبهم باللطف كما بالتأديب أيها العجيب في حكمتك!

v     لماذا اشتكي الأشرار؟!

إنهم بيتك المرفوض لأنهم دنسوه!

هم ميراثك الذي رذلته لأنهم نجسوه!

هم حبيبة نفسك التي سلمت نفسها بشرها لعدوها!

إنهم يحتاجون إلى رثاء حتى إن تأصلوا ونموا!

v     لماذا اشتكي الأشرار؟!

إنهم لم يقصدوني بل قصدوك أنت فيّ!

صاروا كأسدٍ في البرية يزأرون ضدك.

صاروا كضبعة نهمة لا تكف عن الافتراس،

صاروا كطيرٍ جارحٍ يجتمع معًا حول الطير الصغير يأكلونه كما في وليمة!

صاروا كمن في خراب!

كان يليق أن أبكيهم حتى على ما بدا عليهم من نجاح.

v     لماذا اشتكي الأشرار؟

إنهم غرسك، لكنهم أساءوا عطاياك.

لقد نموا وأثمروا، لكن لحساب ملكوت الظلمة.

لقد أفسدوا كل مواهبك.

جدد طبيعتهم وردهم إليك،

فإنك لا تزال تنتظر خلاصهم!

استحق معهم التأديب،

وأترقب عودتي وعودتهم إليك يا حامل خطية العالم كله!

<<


 

الأصحاح الثالث عشر

مثلا المنطقة والزق الممتلئ خمرًا

طلب الله من إرميا النبي أن يمارس عملاً ما كوسيلة ايضاح يقدم بها درسًا للشعب كما لإرميا نفسه، كما قدم له مثلاً كان شائعًا وسط اليهود، من خلالهما يرد الله على تساؤل إرميا السابق: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ (12: 1)، وفي نفس الوقت يوضح أن ما سيحل بالشعب من تأديب علَّتَه شرورهم، خاصة الكبرياء، مؤكدًا المبدأ الكتأبي: "قبل الكسر الكبرياء".

استخدام العمل الرمزي لم يكن بالأمر الغريب بالنسبة لإرميا، وقد اعتاد الشعب في العهد القديم أن يسمع صوت الله خلال أعمالٍ رمزية.

وجد إرميا متاعب وهو يُجاري المشاة، الآن ها هو يُباري الخيل (5: 12)، يقف أمام الملك والملكة ويعلن مرثاة الرب عليهما، متحدثًا عن فقدان مملكة يهوذا مجدها.

1. منطقة من كتان [1-11].

2. مثل الزقاق الممتلئ خمرًا [12-14].

3. دعوة للتوبة [15-21].

4. ثمار الشر [22-27].

1. منطقة من كتان:

"هكذا قال الرب لي:

اذهب واشترِ لنفسك منطقة من كتان وضعها على حقويك،

ولا تدخلها في الماء...

فصار كلام الرب إليّ ثانيةً قائلاً:

خذ المنطقة التي اشتريتها التي هي على حقويك،

وقم انطلق إلى الفرات واطمرها هناك في شق صخر...

وكان بعد أيام كثيرة أن الرب قال لي:

قم انطلق إلى الفرات Perath وخذ من هناك المنطقة التي أمرتك أن تطمرها هناك.

فانطلقت وحفرت وأخذت المنطقة من الموضع الذي طمرتها فيه،

وإذا بالمنطقة قد فسدت لا تصلح لشيء.

فصار كلام الرب إليّ قائلاً...

هكذا أفسد كبرياء يهوذا وكبرياء أورشليم العظيمة" [1-9].

كيف أمكن للنبي أن يسافر من أورشليم أو عناثوث إلى نهر الفرات بالعراق ذهابًا وإيابًا مرتين حيث تبلغ المسافة بينهما حوالي 350 ميلاً في الشمال الشرقي من عناثوث،  أي تقطع الرحلتين معًا حوالي 1400 ميلاً؟ خاصة وأنه لا توجد هناك صخور يخفي فيها المنطقة، إنما يلزمه أن ينطلق إلى شمال كركميش ليجد صخورًا[248]. يرى البعض أن الكلمة هنا Perath ربما يُقصد بها ينبوعًا في وادى فرح يُدعى "عين فرح" يبعد حوالي أربع كيلو مترات شمال شرقي عناثوث (يش 8: 23)[249]، فإن نطق كلمة "فرح" Parah والفراتPerat متشابه[250]. وحسب آخرون أن الحديث هنا رمزي لم يُمارس عمليًا، أو أنه مجرد رؤيا.

يلاحظ في هذا المثل الآتي:

أولاً: يشّبه الله شعبه بمنطقةٍ جديدة مُشتراه يلصقها النبي على حقويه دون أن يمسها ماء. وكما يقول الله نفسه: "لأنه كما تلتصق المنطقة بحقويّ الإنسان، هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا ليشعبًا واسمًا وفخرًا ومجدًا لكنهم لم يسمعوا" [11]. هكذا يقتني الله لنفسه الكنيسة - إسرائيل الجديد - لتكون منطقة ملتصقة به أو ثوبه الذي يرتديه. هذا الثوب الذي صار أبيضًا كالنور في لحظات تجلى رب المجد (مت 17: 2)، لأن بداخله شمس البر!

مسيحنا يود أن يسكن فينا كثوبٍ له، فيُنيرنا ويقدسنا، نشهد لبهائه ومجده وقداسته!

v     ثيابه هي الكنيسة، لأنه إن لم يمسكها من يرتديها تسقط. في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هُدبًا، إذ قال عن نفسه: "لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 9). في موضع آخر يقول: "لأني آخر الرسل". الهدب في الثوب هو آخر وأقل شيء فيه، لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هدب ثوب المسيح برئت، هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول.

أي عجب في الإشارة إلى الكنيسة بالثوب الأبيض إن سمعت إشعياء النبي يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (إش 1: 18)؟![251]

القديس أغسطينوس

v     إن رأيت إنسانًا ليس فقط له فهم عميق للاهوت يسوع، إنما يفسر كل تعبيرٍ إنجيلي، فلا تتردد في القول بأن ثياب يسوع قد صارت بيضاء كالثلج[252].

العلامة أوريجينوس

v     إن كنا نحن ثوب المسيح، فإننا نلبس عريه بإيماننا. انظره معلقًا عريانًا على الصليب بسبب حسد اليهود وغباوة الأمم (1 كو 1: 23)، ومع ذلك فإنه يلتحف بإيماننا وبمعرفتنا ومديحنا...

نحن ثوب المسيح، حينما نلتحف باعترافنا بالإيمان، فإننا بدورنا نلتحف بالمسيح[253].

القديس جيروم

ويرى القديس جيروم في هذا الحدث نبوة ليس فقط عن السبي البابلي وإنما عن رفض اليهود للإيمان بالسيد المسيح، الذي يفقدهم بكونهم منطقته الكتانية التي فسدت بجحودها، فيقتني لنفسه منطقةً أخرى من الأمم يرتديها ولا يبقى عريانًا.

v     شعب الله ملتصقون به كما تلتصق ملابس الإنسان بجسده. لكن لأن هذه المنطقة السامية التي التحف بها الرب قد نُزعت وأُلقيت على الجانب الآخر من نهر الفرات ووُضعت في نقرة صخرة، وقد فسدت، فإن هذا الشعب قد سباه الأشوريون، فماذا يفعل الرب؟ إنه لا يبقى عريانًا، لا يمكن أن يبقى بلا منطقة، لا يبقى بلا غطاء. إذ ضاع الشعب الأول صنع لنفسه ثوبًا من الأمم[254].

القديس جيروم

سرّ بياض الثوب كالنور ونقاوته كالثلج هو السيد المسيح الذي يرتديه، أما إذا خُلع الثوب عنه، وُطمر في التراب، فلا يحمل إلا الطبيعة الترابية الفاسدة، وتظهر فينا الظلمة والفساد.

ثانيًا: يقول العلامة أوريجينوس:

[حينما يضع النبي المنطقة على حقويه يمثل الله الذي يحمل شعبه: "ألصقت بنفسي هذا الشعب يقول الرب". صار الشعب مثل المنطقة بالنسبة لله. لماذا صار مثل منطقة لله على حقويه؟ لنقرأ في سفر حزقيال ونعرف كيف أن الله يتنازل بطريقة أو بأخرى إلى المستوى المادي ليناسب فكر الإنسان، وكيف أنه من حقويه إلى تحت منظر نار، ومن حقويه إلى فوق منظر عقيق؛ ونحاول بعقلنا أن نفهم ما هو السبب في أن الجزء الذي من حقوي الرب إلى تحت منظر نار (حز 1: 27)[255]].

ثالثًا: طلب الله من إرميا أن يشتري لنفسه منطقة جديدة من الكتان، وأن ينطلق بها إلى الفرات ويطمرها.

ماذا كانت مشاعر إرميا حين وجدها قد فسدت؟! بلا شك كانت نفسه مرّة، اشتراها بفضته، وألصقها بحقويه إلى لحظات، وتكلف مشقة السفر إلى الفرات أكثر من مرة. وأخيرًا وجدها فاسدة لا تصلح لشيء! إنها ثمينة في عينيه! فكم بالأكثر تكون النفس ثمينة في عينى الله الذي اقتناها لنفسه بعد أن خلقها وأوجد كل العالم لأجلها، ولأجل خلاصها أرسل الناموس والأنبياء وأخيرًا تجسد الكلمة الإلهي وقدم دمه الثمين ثمنًا لتجديدها وخلاصها؟! أدرك إرميا أنه ما كان ينبغي عليه أن يتساءل حتى في داخل نفسه: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! إنها نفوس ثمينة هلكت، يترقب الله خلاصها بكل وسيلة.

رابعًا: إن كان الله قد جعل شعبه كمنطقة تلتصق به، فإن المنطقة تضم بقية الملابس معًا حول حقويّ الشخص. وكأن الله يريد من أولاده الذين يلتصقون به أن يضموا الآخرين معًا في الرب. غاية الله من اختيار شعبه أن يجتذبوا كل الأمم ليصيروا ثيابًا ملتصقة بالرب.

خامسًا: طمر المنطقة الجديدة في التراب يكشف عن افساد إمكانياتنا ومواهبنا بطمرها،  أي عدم استخدامها لحساب ملكوت الله.

إخفاء المنطقة في صخرة يشير إلى حالة الرعب التي حلت بيهوذا، فعوض الاشتياق نحو الالتقاء به كمخلص وعريس للنفس يهربون منه في خوف، طالبين الاختفاء في شقوق الصخور. عندما سقط آدم وحواء في العصيان هربًا من وجه الرب ليختفيا (تك 3: 8). كما قيل في سفر إشعياء: "ادخل إلى الصخرة واختبىء في التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته. ويدخلون في مغاير الصخور وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض... ليدخل في نقر الصخور وفي شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب..." (إش 2: 10، 19، 21).

والعجيب أن السيد المسيح يقدم نفسه "الصخرة" التي فيها نختفي ونحتمي، حيث فيه نتبرر ولا نُدان! نسمعه يقول: "هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة" (خر 33: 20-21). هناك نتمتع مع موسى النبي برؤية بهاء المجد الإلهي.

سادسًا: ربما قصد نهر الفرات على وجه الخصوص ليشير إلى خطر الكلدانيين روحيًا وماديًا على شعب الله، إنه يوضح كيف يُفسد السبي البابلي هذا الشعب ويحطمه.

سابعًا: أمره الله ألا يضع المنطقة في الماء، ليوضح رفض الشعب التطهير، أو عدم قبولهم المعمودية التي فيها يتمتعون بالموت والدفن مع المسيح ونوال الحياة الجديدة المُقامة. إن كانت المنطقة من الكتان تشير إلى النقاوة، لكن هذه النقاوة تفسد بدون الشركة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات والتمتع بعمل الروح القدس الناري غافر الخطايا. وكما يقول الرسول: "ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في برّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا" (تي 3: 5-6).

v     كان ضروريًا أن يصعدوا بواسطة المياه لكي يصيروا أحياء، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا ملكوت الله ما لم يخلعوا حالة الموت التي كانت لهم قبلاً... قبل أن يحمل الإنسان اسم "ابن الله" يكون ميتًا، لكنه إذ يتقبل الختم يُلقى عنه حالة الموت ويتمتع بالحياة.

الختم إذن هو الماء الذي ينزلون فيه أمواتًا ويصعدون أحياء[256]!

الأب هرماس

v     مغبوط هو سرّ الماء الذي لنا، فبغسل خطايا العمى الذي أصابنا مبكرًا نتحرر وندخل إلى الحياة الأبدية[257].

العلامة ترتليان

v     يُعطى الروح القدس للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل التجديد[258].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     بواسطة غسل الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس نصير أبناء الله[259].

القديس باسيليوس الكبير

المعنى الحرفي لعدم وضع المنطقة في الماء هو تأكيد أن المنطقة نظيفة جديدة لا تحتاج إلى غسلٍ بماء.

ثامنًا: بالنسبة للمنطقة (بالعبرية ezor) يرى البعض أنها منطقة كتانية حول الوسط كان يرتديها الكهنة والأشراف الأغنياء، وقد رفض بعض الدارسين هذا المعنى وقالوا إنها تعني waistcloth عبارة عن لُباس skirt داخلي حول الحقوين يبلغ إلى منتصف الفخذين[260].

يعلل البعض استخدام المنطقة كرمز ليهوذا بأن إرميا لم يتزوج (16: 2)، فلو أنه تزوج لاستخدم رمز العروس المتحدة بعريسها كما فعل هوشع، لذلك أراد تأكيد التصاق الشعب بالله كالتصاق الإزار بالجسد.

أما خامتها فمن الكتان، كثياب الكهنة (خر 28: 39). كانت ثياب هرون الكهنوتية للمجد (خر 28: 2). كأن الله أقام شعبه أمة كهنوتية أو ملكوتًا كهنوتيًا ممجدًا، لكنها بعصيانها فقدت السمة الكهنوتية ودخلت إلى العار[261]، خاصة بجحدها رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا ربنا يسوع المسيح.

ستائر الهيكل أيضًا ولباس الملوك من الكتان[262]. فإن كانت مملكة يهوذا قد اتكلت على وجود الهيكل في أورشليم، وعلى أن سبط يهوذا ملوكي، فهوذا يرفض الله هيكله الذي تدنس، وينزع عن يهوذا السمة الملوكية حتى يأتي ابن داود ملك الملوك ويقيم هيكل العهد الجديد ويجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6).

تاسعًا: طلب منه طمرها بجوار الفرات (أو عين فرح)، أي بجوار المياه المجانية التي تشير إلى عطية الروح القدس الواهبة التجديد والتقديس. وكأنه لا عذر لنا على فسادنا، لأن فيض النعمة الغنية مُقدم لنا مجانًا، وليس ببعيدٍ عنا!

ربما قصد بالمياه أيضًا ما يفعله البابليون بهم، إذ قيل: "هوذا السيد يُصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملك أشور وكل مجده، فيصعد فوق جميع مجاريه، ويجري فوق جميع شطوطه، ويندفق إلى يهوذا. يفيض ويعبر. يبلغ العنق، ويكون بشط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" (إش 8: 7-8).

فإن كان أشور (أو بابل) قد انطلق بكل قوته ليغرق يهوذا، إنما إلى حدود معينة، إذ لا يسمح له بهلاكها لأنها أرض عمانوئيل. بمعنى آخر يسمح الله بالتأديب، فتحل التجارب كالسيل الجارف لكي تبلغ أعناقنا، لكنه يحفظ الرأس (إيماننا بالسيد المسيح رأس الكنيسة) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك (لو 22: 32).

تحدث إرميا النبي عن ضرب فرعون لغزة مشبهًا جيشه بالسيل الجارف الذي يملأ المدينة، ويغرق الساكنين فيها (47: 2).

عاشرًا: لا نجد أية عبارة تفتح بابًا للرجاء في العودة من السبي، لأن غاية المثل هو الكشف عن خطورة كبرياء يهوذا وأورشليم، وأنه لا مجال لتحطيم هذا الكبرياء سوى مذلة السبي البابلي. فُتح باب الرجاء في مواضع أخرى كما في (29: 10-14)، إذ لا ينطق النبي بكل الحقائق في وقت واحد، إنما حسبما يناسب بنيان الجماعة أو النفس البشرية في ذلك الوقت[263].

2. مثل الزقاق الممتلئ خمرًا:

"هكذا قال الرب إله إسرائيل:

كل زقٍ يمتلئ خمرًا..." [12].

رأينا في تفسير إرميا (12: 6) أن الكل كانوا يسخرون بإرميا، ينادون وراءه بصوت عالٍ (أو يسخرون به قائلين: يا ممتلئ سكرًا). هذا هو منطق العالم أن كلمة الرب أو الوصية هي أفيون الشعوب، كما ادعى الشيوعيون... أو أن السلوك بالروح هو سُكر أو هروب من الواقع العملي، ولم يدركوا أن الخطية هي المسكر الذي يحطم عقل الإنسان ويفقده وعيه، فيثور ضد إخوته، بل أحيانًا ضد الوالدين أو الأبناء. الخطية خاطئة جدًا، تحطم وتهلك... لهذا حينما يقول الرب: "لا أشفق ولا أترآف ولا أرحم من إهلاكهم" [14]؛ إنما يعني أنه يسلمهم إلى شهوة قلوبهم، ويتركهم لإرادتهم الشريرة فيتحطمون، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية ولا يُلزم أحدًا بالشركة معه. وكما يقول الرسول بولس: "لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي... لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم" (رو 1: 21-24).

يشبّه حال الشعب بالزق الذي امتلأ خمرًا، وقد سبق لنا الحديث عن الخمر في الكتاب المقدس بكونه رمزًا لفرح الروح القدس الذي يملأ حياة الكنيسة ويبهج قلب كل عضو مقدس في جسد السيد المسيح، غير أن الخمر هنا لا يشير إلى فرح الروح القدس، وإنما إلى فاعلية الخطية في حياة الجماعة كما في قلب الإنسان. فكما يُشار إلى السيد المسيح بالأسد الخارج من سبط يهوذا بكونه الملك الذي يخلص شعبه هكذا يُشبه إبليس بالأسد من أجل شراسته وطبيعته المفترسة، هكذا الخمر يشير إلى ثمر الروح القدس المفرح كما إلى ثمر الخطايا المحطم. "فتقول لهم هذه الكلمات، هكذا قال الرب إله إسرائيل: "كل زقٍ يمتلئ خمرًا، فيقولون لك أما تعرف معرفة أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟!" [12].

يفضل البعض الترجمة السبعينية: "وإن قالوا لك: أما تعرف..." عوض: "فيقولون لك".

وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على هذه العبارات، إذ يقول:

["فيقولون لك: هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟"

إذا كان هؤلاء الناس قد أجابوا هكذا متمسكين بالحرف، ومتظاهرين أنهم يعرفون أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا، فهم في ذلك مخطئون، لأنه ليس صحيحًا أن "كل زقٍ يمتلئ خمرًا". توجد زقاق تكون مملوءة زيتًا أو أي سائلٍ آخر، ويوجد منها أيضًا ما تزال فارغة. إذًا هم مخطئون، ومع ذلك يجيبون: "هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا".

سنشرح هذه الإجابة كالآتي: إن كان يوجد بين الزقاق واحد يمكن أن ُيقال عنه إنه زق جيد سُيملأ بخمر تناسب جودته، وهكذا الزق الفاسد ُيملأ بخمر تناسب فساده.

نجد في الكتاب المقدس أمثلة عن أنواع الخمر المختلفة، فعن الخمور الرديئة الفاسدة يقول: "لأن من جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة عنبهم، عنب سم، ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" (تث 32: 32-33). وعن الخمور الجيدة يقول: "يا لكأسك رّيًا" (مز 23: 5). كما تدعونا الحكمة للشرب من كأسها، قائلة: "هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها" (أم 9: 5).

يوجد إذًا خمر سدوم ويوجد أيضًا خمر الحكمة. ُيقال كذلك: "كان لحبيبي كرم على أكَمة خصبة" (إش 5: 1). الكرم الذي يزرعه الله يسمى كرمة سورق (2: 21) لأنها كرمة مختارة وجميلة المنظر. ويوجد أيضًا كرمة عند المصريين ضربها الله، إذ قيل: "أهلك بالبرد كرومهم، وجميزهم بالصقيع" (مز 77: 47).

تأمل إذن، أن كل الناس في استطاعتهم الآن أن يمتلئوا بالخمر، من أجل ذلك أسميهم زقًا، وأقول أن الشرير منهم يمتلئ بخمر كرمة سدوم، وخمر المصريين، وخمر أعداء إسرائيل، بينما البار منهم بخمرٍ من كرمة سورق، وبالخمر التي ُكتب عنها "يا لكأسك رّيًا".

يمكننا أيضًا أن نطبق هذه الكلمات على الرذيلة والفضيلة حتى نفهم أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا، لكن ينبغي أيضًا أن نعرف ما هي عواقب الرذيلة وعواقب الفضيلة: عقوبات للرذيلة، وبركات ووعود للفضيلة!

لنوضح الآن من خلال كلمات الكتاب المقدس كيف أن العقوبات وأيضًا الوعود يشار إليها بالخمر: يقول الرب لإرميا: "خذ كأس خمر هذا السخط من يدى واسقِ جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها، فيشربوا ويترنحوا ويسقطوا" (25: 15-16). أشار هنا إلى العقاب بـخمر السخط. وإذا أردت أن ترى أيضًا كأس البركة التي يشربها الأبرار، يمكننا أن نكتفي بكلام سفر الحكمة: "اشربوا الخمر الى أعددتها لكم". تأمل أيضًا السيد المسيح حينما صعد في عيد الفصح إلى العلية الكبيرة المعدة ليحتفل بالعيد مع تلاميذه، وأعطاهم كأس الخمر قائلاً لهم: "اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا، اصنعوا هذا لذكري"، ثم قال أيضًا: "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" (مت 26: 37).

لاحظ إذًا أن الوعد هو "كأس العهد الجديد"، والعقاب هو "كأس خمر السخط"، حيث يشرب كل واحدٍ بما يتناسب مع أعماله سواء الصالحة أو الشريرة.

"كل زقٍ" سواء كان جيدًا أو فاسدًا سوف يمتلئ بالخمر التي تناسب طبيعته[264]].

يرى البعض أن المثل الشعبي: "كل زقٍ يمتلئ خمرًا" [12]  يعني أن مملكة يهوذا كالزق لا عمل له إلا أن يمتلئ بخمر غضب الله! هنا الخطورة، حيث يفقد الإنسان كل رسالة إيجابية خيّرة ليصير كأنه جاء إلى العالم ليحمل الغضب الإلهي، وليحطم الواحد الآخر! بمعنى آخر ليست الخطية أمرًا عارضًا في حياته، إنما هي أمر حيوي وأساسي، تشغل كل فكره وأحاسيسه وتملك على قلبه وكل أعضاء جسده، وتسيطر على تصرفاته الخفية والظاهرة.

ماذا في داخل الكأس؟

"هأنذا أملأ كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم سكرًا.

وأحطمهم الواحد على أخيه،

الآباء والأبناء معًا يقول الرب" [13-14].

صار الرؤساء والشعب كزقاقٍ مملوء خمرًا، عوض أن يُستخدم للفرح صار للسكر. اقتناهم الله ليكونوا شعبًا خاصًا به، يُنسبون إليه وهو إليهم، مصدر فخرٍ ومجدٍ [11]، لكنهم صاروا سكرى بالغضب الإلهي، لا يصلحون إلا للدمار.

لعله يقصد بالخمر الجيد الناموس، والجماعة كزقاق امتلأ بمعرفة الناموس، لكن رياءهم أفسد مفاهيمهم للناموس. فالناموس جيد، هم أساءوا استخدامه فصار لهم خمر غضب الله عوض خمر الناموس المفرح، إذ سقطوا في الكبرياء وهلكوا.

يرى البعض أن كلمة "زقاق" في العبرية "nebel" تقارب من كلمة "جاهل" أو "ضيق الأفق" nabal. وكأن المثل اليهودي "إن كل زقاق يمتلئ" يشير إلى أن الملوك والكهنة والأنبياء الكذبة مع الشعب قد صاروا أغبياء يمتلئون من خمر غضب الله[265].

لعل أخطر ما في الأمر أنه ليس فقط صارت القيادات الدينية والمدنية مثلاً سيئًا أمام الشعب إنما صار الآباء يسقون أبناءهم مسكرًا، فيقدمون لهم السُكر عوض التعقل، ويفقد الآباء كرامتهم وتعقلهم حتى في نظر أبنائهم. هذا بالنسبة للسُكر بواسطة خمور هذا العالم، فماذا إن أسكروهم بخمر غضب الله؟!

في داخل الكأس ثمر الخطية أو العقاب الإلهي عن الخطية بكونه ثمرًا طبيعيًا، هذه يشربها الخطاة بلا محاباة، إن كان الإنسان ملكًا أو كاهنًا أو نبيًا أو واحدًا من الشعب. مركز الإنسان أو عمله الزمني أو الكنسي لن يعفيه من المسئولية، بل يُخضعه بالأكثر إلى ضرباتٍ أشد. وكما قال الرب: "من يعرف كثيرًا يُضرب أكثر".

ويعلق العلامة أوريجينوس على النص الذي بين أيدينا قائلاً:

 [بسبب الخطاة الموجودين في أورشليم في ذلك الوقت وفي اليهودية، يوضح إرميا ما هو نوع الخمر الذي يملأ الله به الزقاق  أي الخطاة...

الله الذي يعاقب لا يشفق على أحدٍ، حتى إذا أخطأ النبي يُملأ بجميع تلك التهديدات التي ذُكرت، لن ينقذه من العقاب اسم "نبي". أيضًا ليس من يُدعى كاهنًا ويبدو أن له درجة أعظم وأعلى من الشعب يمكنه أن ينال اشفاقًا من الله حتى لا يعاقبه فيها على خطاياه.

إذا أخطأ أحد من بين الكهنة - أقصد الكهنة المسيحيين - أو من بين اللاويين الذين يقودون الشعب - أقصد بهم الشمامسة - فإنه يُعَاقَب. لكن توجد أيضًا بركات خاصة بالكهنة يمكننا أن نراها بنعمة الرب عندما نقرأ سفر العدد، حيث تُذكَر هذه البركات فيه.

"كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم" يقول الرب أنه يملأهم سكرًا، وسوف "أحطمهم الواحد على أخيه الآباء والأبناء معًا يقول الرب". لنفهم هذا أيضًا هكذا: أن الله يُجَمِّع الأبرار ويُفَرِّق (يحطم) الخطاة. لم يفرق الله الناس حينما كانوا يعيشون في المشرق (تك 10: 30)، أما عندما ارتحلوا عن المشرق وتحولوا عنه، وقال بعضهم لبعض: "هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء" (تك 11: 4) قال الله عنهم: "هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم"، فتبلبلت ألسنتهم وتبددوا على وجه كل الأرض (تك 11: 9). هكذا أيضًا بالنسبة لشعب إسرائيل، طالما كانوا لا يخطئون كانوا متجمعين في اليهودية، لكن إذ بدءوا يخطئون تفرقوا وتبددوا كل واحدٍ منهم في مكان من الأرض.

يلزمنا أن نعلم أنه يحدث شيء مماثل بالنسبة لنا جميعًا. توجد كنيسة في السماء حيث جبل صهيون ومدينة الله الحيّ، أورشليم السمائية، هناك يجتمع كل المختارين والمطوبين في شركة بعضهم مع بعض، بينما يحصل الخطاة على عقابٍ إضافي يتمثل في عدم وجودهم مع بعضهم البعض. إني أعرف ملوكًا في هذا العالم يحبون استخدام "النفي إلى الجزر" كعقابٍ، وحينما يخطئ إنسان في مملكتهم، يقومون أيضًا بنفي عائلته إمعانًا في عذابه وعذابها، وفي النفي يقومون بتفريق وتشتيت أفراد العائلة: الزوجة في مكان، والابن في مكان، والابن الآخر في مكان، حتى أنه في وسط الكارثة، لا تستطيع الأم أن تطمئن على ابنها، ولا يستطيع الأخ أن ينعم بصحبة أخيه. لك أن تتخيل شيئًا كهذا بالنسبة للأشرار. يجب عليك أيها الخاطى أن تذوق هذه المرارة الشديدة الآن التي يوقعها الله بك، حتى ترتد عن طريقك فتخلص. ونفس الشيء بالنسبة لك أيضًا، فإنك لا تعاقب خادمك أو ابنك لمجرد رغبتك في ايذائه، وإنما لتصلحه من خلال الآلام، هكذا يقوم الله بإصلاح الخطاة الذين لا يرجعون من أنفسهم، بتوقيع الآلام عليهم، وإلا لما تابوا ولا رجعوا، وبالتالي أيضأ لما شُفوا.

هذه الضربات التي تحل بنا هي نافعة لتعليمنا، كما يقول الكتاب: "بلا توقف بالألم والسوط سوف تتعلمين يا أورشليم"، كذلك فإن التفريق (التبديد) يزيد من القيمة التعليمية للألم، عندما نفرق الذين نعاقبهم كل واحدٍ بعيدًا عن الآخر لا يوجدون مجتمعين، لأنهم إذا اجتمعوا مع بعضهم تضعف قوة الألم من خلال كلمات التعزية التي يتبادلونها ليخففوا آلام بعضهم البعض.

 إذا كان يجب إضافة مبررٍ آخر لـلتفريق، إلى جانب ما سبق شرحه، فإليك أيضًا السبب: حينما يجتمع الأشرار معًا، لا يفكرون إلا في الشر ويعملون دائمًا على زيادته، وكذلك أيضًا الأبرار حينما يجتمعون لا يفكرون إلا في الخير. إذًا فإن نيّات الأشرار وأهدافهم التي تتشدد وتتقوى بوجودهم معًا تذوب وتتحطم حينما يتفرقون ويتشتتون. لذلك فإن الله في عطفه ورفقه بالخطاة يعمل على تفريقهم عن بعض حتى يقل شرهم ويتلاشى بدلاً من أن ينمو ويكثر[266]].

كأس التأديب:

"لا اشفق ولا أترآف ولا أرحم من اهلاكهم" [14].

تعثر بعض الهراطقة مثل الغنوسيين من هذه العبارة وأمثالها قائلين: "كيف يقول الرب هكذا: "لا أشفق، ولا أترآف، ولا أرحم" ونقول عنه أنه رحوم؟

يجيب العلامة أوريجينوس معلنًا عن أهمية التأديب حتى وإن بدى قاسيًا:

[يعتمد الهراطقة على تلك الكلمات ويستندون عليها ليقولوا: انظروا ما يقوله خالق العالم ورب الأنبياء عن نفسه، فكيف يمكن إذًا أن يكون إلهًا صالحًا؟

إنني آخذ هنا مثلاً للقاضي الذي لا يشغل فكره إلا الصالح العام، وبالتالي يطبق القانون دون اشفاق على المخطىء، يعاقبه حتى يحمي باقى المجتمع. يمكنني بهذا المثال أن أوضح بطريقة مقنعة، أن الله في اشفاقه على البشرية كلها يرفض أن يشفق على عضوٍ واحدٍ من أعضاء الجسد في سبيل اشفاقه على الجسد كله.

نفترض أن قاضيًا حدد لنفسه مهمة إقرار السلام للشعب الخاضع لقضائه وأن يحافظ على مصالحهم؛ حضر أمامه في المحكمة قاتل حسن المظهر وملامحه جذابة، وجاءت والدة هذا القاتل إلى القاضي تستعطفه وتسأله أن يشفق على ابنها ويرحم شيخوختها، وطلبت زوجة القاتل أيضًا الرحمة، كذلك أبناؤه التفوا كلهم حول القاضي يترجوه من أجل أبيهم... ما هو النافع للصالح العام؟ هل يرحمه القاضي أم لا؟ أجيب أنه إذا رحمه القاضي سيعود إلى خطئه؛ أما إذا لم يرحمه فإن القاتل يموت ويصبح المجتمع في حالة أفضل. نفس الشيء يقال بالنسبة لله: فإنه لو أشفق على الخاطئ ورحمه وذهب في إشفاقه هذا إلى درجة عدم معاقبته على خطئه، فمن من الناس لا يندفع في طريق الشر؟! مَن مِن الخطاة لن يزيد في شره ويتحول إلى الأسوأ؟

يمكننا أن نرى أشياءً مماثلة تحدث في الكنائس، فمثلاً إنسان يخطئ ثم يطلب أن يتناول من الأسرار المقدسة بعد ارتكابه الخطأ، إذا أشفقنا عليه سريعًا، بهذا نحث الشعب كله على فعل الشر وتزيد أخطاء الآخرين؛ لكن إذا عرف القاضي (الكاهن) مقدار الخسارة التي تلحق بالشعب في حالة السماح لهذا الشخص بالتناول والتساهل معه في خطئه، يجب عليه طرد هذا الخاطئ، ليس على سبيل الوحشية أو عدم الإحساس، وإنما لأنه يهتم به، ويهتم أيضًا بكل الشعب قبل أن يهتم به كفردٍ واحدٍ. إذًا فهو يطرد الفرد ليخلص الجماعة.

أنظر أيضًا إلى الطبيب ولاحظ كيف إنه لو أشفق على المريض ولم يستخدم معه المشرط في الوقت المناسب، لو أشفق عليه ولم يعالجه بأنواع الأدوية الكاوية حتى يُجَنّبِه الآلام المصاحبة لهذه الأنواع من العلاج، كيف يتفاقم المرض وتزيد خطورته عن ذى قبل. أما إذا تقدم الطبيب في جرأة ولجأ إلى الاستئصال أو إلى الكي، ففي هذه الحالة يمنح المريض الشفاء، رغم أن المظهر الخارجي يوحي بأنه يرفض أن يشفق وأن يرحم المريض بتعرضه لكل هذه الآلام.

كذلك الله، فإنه لا يمارس سلطة لمصلحة إنسانٍ واحدٍ، وإنما لصالح العالم أجمع. يدير ما في السموات وما على الأرض وما في كل مكان. يعمل لمصلحة كل العالم وجميع الكائنات؛ ويعتني أيضًا بمصلحة الفرد بشرط ألا تتعارض وألا تكون على حساب مصلحة الجماعة. من أجل ذلك أُعدت النار الأبدية وأعدت أيضًا جهنم والظلمات الخارجية، ليس لأجل الإنسان المعَاقَب وحده، بل ولمصلحة الجميع.

إذا أردت أن أذكر لك مثالاً من الكتاب المقدس يشهد أن معاقبة الخطاة من أجل نفع الآخرين وتعليمهم، حتى ولو كنا يائسين من شفاء هؤلاء الخطاة أنفسهم، فإليك ما يقوله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "اضرب المستهزئ فيتذكى الأحمق" (أم 19: 25). لم يقل أن الذي يُضرَب هو الذي يتذكى ويعود إلى عقله بسبب الضربات، إنما الأحمق بسبب الضربات الواقعة على المستهزئ يكف عن التمادي في حماقته ويصير عاقلاً. يتغير حينما يرى عقاب الآخرين. وكما أن سقوط إسرائيل كان فيه خلاص الأمم، كذلك أيضًا فإن عقاب البعض يكون فيه خلاص الآخرين. من أجل ذلك يقول الله في صلاحه: "لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم"[267]].

ما هو الارتباط بين المثلين: المنطقة التي طُمرت والزق المملوء خمرًا؟

كلاهما فسدا، ولا يُمكن بعد استخدامهما، الأول يشير إلى الكبرياء محطم الإنسان، والثاني إلى السُكر بالخطية وعدم التعقل الروحي أو مراجعة النفس والتوبة... هذا ما يسببه كبرياء الإنسان وتشامخه، إذ يظن في نفسه حكيمًا وهو مخمور!

لعله استخدم المثلين ليشير بالأول إلى جحد النفس لعمل السيد المسيح وبالثاني جحدها روحه القدوس. إن كان السيد المسيح يُشار إليه بالصخرة (1 كو 10: 4) والروح القدس بالسُكر الروحي (أع 2: 13-21)، عوض المسيح الصخرة يختبىء الإنسان في صخور هذا العالم فيصير كالمنطقة الفاسدة، وعوض السُكر بروح الرب يمتلئ بخمر غضب الله!

3. دعوة للتوبة:

"اسمعوا واصغوا،

لا تتعظموا لأن الرب تكلم" [15].

إذ يتكلم الرب يليق بيهوذا أن يحمل الأذن المختونة، فيسمع ويصغي لله بروح الطاعة، لا أن يتجاهل صوت الرب في كبرياءٍ وعصيانٍ. هكذا يكشف النبي عن خطورة الكبرياء، فإنه لا يعود يصير مصدرًا للفرح أو الشبع، بل للبكاء والحزن [17] بسبب ما يجره من دمار.

يعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[يريدهم أن يسمعوا وأن يصغوا (يميلوا بآذانهم)، لا يكفيه أن يسمعوا فقط أو أن يصغوا فقط. كما يأمرهم ألا يتعظموا، يعلمهم ما يجب أن يفعلوه.

ما هو إذًا السماع؟ وما هو الإصغاء؟...

"اصغوا":  أي تَقبَّلوا الكلام في آذانكم؛ و"اسمعوا":  أي تقبلوا الكلام في أذهانكم. بما أنه توجد في الكتاب المقدس بعض الكلمات الغامضة والأسرار الخفية كما توجد أيضًا بعضها ظاهر وبسيط في فهمه، أظن أنه بالنسبة للكلمات الغامضة قيل: "اسمعوا"، وللبسيطة قيل "اصغوا".

بعد أن نكون قد سمعنا وأصغينا، يوصينا قائلاً: "لا تتعظموا" لأن "كل من يرفع نفسه يتضع" (لو 14: 11، 18: 14). حينما يقول المخلص لنا: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29)، يعلمنا ألا نتعظم. لأنه إلى جانب شرور الناس الكثيرة، فإن هذه الخطية (التعاظم) منتشرة بيننا: تارة نتعظم ونتفاخر بدون  أي سبب، وتارة من أجل شيء لا يستحق  أي تعظم بالمرة، وتارة من أجل أن ما فعلناه يستحق بعض التعظيم، حتى في ذلك تعظمنا يصير مؤذيًا لنا...

يوجد أناس يفتخرون بكونهم أبناء حكام وفي قدرتهم إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويفتخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها، وبالتالي لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا.

ويوجد من يفتخرون بأن لهم سلطان على إعدام الناس، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه "ترقية" تمكنهم من الإحاطة برؤوس الناس. مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم (في 3: 19).

 آخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الأرضي. وغيرهم يفتخرون لأن لهم منزل جميل مثلاً، أو أراضٍ شاسعة. كل تلك الأشياء لا تستحق حتى أن تكون موضع اعتبار، ولا يليق بنا أن نفتخر بأي شيء منها.

لكن يبدو لي بالنسبة لنا اننا نتعظم ونفتخر بأننا حكماء، أو أننا منذ عشرة سنوات مثلاً لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أيضًا بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه الأشياء تدعو للتفاخر بحق. لكن حتى هذه الأشياء أيضًا، إذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها.

كان لبولس موضوع به يتعظم،  أي رؤيته مناظر الرب وإعلاناته (2 كو 12: 1) ورؤى (أع 16: 10)، وعمل قوات وعجائب (رو 15: 19) واحتمال الآلام من أجل المسيح، ومن أجل الكنائس التي أسسها في غيرته لبناء كنيسة في كل موضع حيث لم يكن اسم المسيح معروفًا (رو 15: 20). كل هذه تمثل موضوعًا للتعظم. بحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، يبدو افتخار بولس الرسول أمرًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ مع ذلك بما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر حتى بتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع. من أجل هذا تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 7-9). إذًا يجب علينا ألا نتعظم ولا نتفاخر بشيء، لأن الكبرياء يصاحبه السقوط، كما يقول الكتاب: "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18)[268]].

يطالبنا ألا نتعظم بل نعطى لله مجدًا حتى لا نتعثر على جبال الظلمة... لنمجد الله لا بالكلمات بل بالحياة العملية، بالسلوك المتواضع في غير كبرياء، وبالحياة المقدسة المنيرة بالرب، فلا يكون للظلمة موضع فينا، ولا نتعثر! بالاتضاع الذي هو اتكال حقيقي على الله نكون جبالاً منيرة لا مظلمة. يقول العلامة أوريجينوس:

[لنرى ماذا يوصينا الله أن نفعل: "اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نورًا". يريد أن من يعطى الرب مجدًا، يعطيه في وجود النور، لأن مجد الرب لا يمكن أن يُعلن حينما يأتي الظلام...

"اعملوا ما دام النور فيكم". النور موجود فيك، طالما تحمل في داخلك السيد المسيح الذي قال عن نفسه "أنا هو نور العالم". طالما هذا النور موجود فيك اعطِ إذًا مجدًا للرب؛ لكن اعلم ان الظلام يمكن أن يأتي،  يجب ألا تنتظر حتى يحل هذا الظلام، بل اعطِ مجدًا للرب قبل مجيئه.

ربما يمكننا أن نفهم بوضوح هذا الموضوع إذا استعنا بكلام السيد المسيح: "اعملوا ما دام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل"؛ يقصد بالنهار وقتنا الحاضر، وبالظلام والليل انتهاء العالم وفناءه بسبب عقاب الأشرار.

يقول عاموس النبي: "ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب هو ظلام لا نور؟!" (عا 5: 18). إذا عرفت كيف يكون الحزن والشقاء عند هلاك العالم، سيصيب الحزن تقريبًا معظم الجنس البشري الذين ُيعَاقَبون على خطاياهم، عندئذ تعرف أن الجو يصير معتمًا ومظلمًا فلا يستطيع أحد أن يمجد الله. لأن الله أوصى الأبرار قائلاً: "اذهب يا شعبي. ادخل إلى بيتك، واغلق عليك بابك، اختبئ قليلاً أو كثيرًا حتى ينتهي حمو غضبي".

لنلاحظ أيضًا في تلك الكلمات أن الرب يقول: "قليلاً أو كثيرًا"، قليل بالنسبة لله، لكنه ليس كذلك بالنسبة للإنسان. كما يجب أن نعلم أيضًا أن الأشياء تكون قليلة وكثيرة بالنسبة للمخلوقات. آخذ مثالاً على هذا: بالنسبة للحيوانات قد تكون كمية الطعام قليلة إذا ما قيست بحجم أجسامهم أو كبيرة بالنسبة لقدرتهم على الأكل. كذلك ما يبدو قليلاً بالنسبة للإنسان البالغ يكون كثيرًا بالنسبة للطفل. هكذا كل زمان الحياة الإنسانية، حتى بالنسبة لشيخٍ مُسنٍ، ما هي إلا فترة قصيرة بالنسبة للعصر الحالي. نفس الشيء في علاقتنا بالله، فإن ما هو قليل بالنسبة لله يكون في نظرنا وبالنسبة لنا كثيرًا، والقليل عنده يماثل عصرًا بأكمله عندنا.

"اعطوا الرب إلهكم مجدًا". كيف يمكننا أن نعطي الرب إلهنا مجدًا؟ لا نعطي الرب إلهنا مجدًا بمجرد ترديدنا بعض الكلمات والأصوات، إنما إذا أردنا تمجيده، فلنمجده بأعمالنا.

مجده بضبط النفس،

مجده بعمل الخير، بالحق، بالشجاعة والصبر والاحتمال،

مجد الله بالقداسة وكافة الفضائل الأخرى...

الإنسان البار يمجد الله، والشرير يهين الله؛ وذلك كما في حالة نبوخذ نصر، فلقد هدم هيكل الرب ودنسه، وبتعديه للناموس أهان الله، كما يقول الرسول[269]].

ما هي جبال العتمة التي تعثرت فيها أرجلهم؟

لقد شبه الله الأشرار بمنطقة الكتان التي فسدت، وبالزق الممتلئ خمرًا، وهنا يتحدث عنهم كجبال مظلمة. سبق فرأينا في سفر حزقيال أن الله يدعو شعبه "جبال إسرائيل"، الجبال التي بلقائها مع الله استنارت به نور العالم، والآن إذ تعظمت في عينيّ نفسها صارت جبالاً مظلمة، لأنها اعتزلت عن سرّ استنارتها.

يميز العلامة أوريجينوس بين جبال العتمة والجبال المقدسة في حديثه عن بلعام، إذ يقول إن بالاق قد جاء به إلى جبال الفتور، إلى خداعات الشياطين، لكن الرب نقله إلى جبال الله، إلى قمة الجبال (رأس الصخور عد 23: 9)، وإلى التلال المقدسة؛ هناك يرى شعب الله، ويدرك أسراره، [لأن إسرائيل (الروحي) يقع على الجبال المرتفعة وعلى التلال العالية،  أي يعيش حياة فاضلة وصعبة، حيث لا نستطيع بسهولة أن نكون جديرين بالتطلع إليها أو إدراكها، ما لم نتسلق المرتفعات وقمم المعرفة، لهذا لم يلعنه الله. إن حياته عالية ومرتفعة، وليست دنيئة أو منحطة. لكن يبدو لي أن الله لا يقول هذا عن إسرائيل حسب الجسد، بل عن ذاك الذي يسير في الأرض وسيرته في السموات (في 3: 20)[270]].

["اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة". توجد جبال معتمة وجبال مضيئة، لكن بما أن النوعين هم جبال، فالإثنان أيضًا مرتفعان. تتمثل الجبال المضيئة في ملائكة الله والقديسين، والأنبياء، وموسى "الخادم" ورسل السيد المسيح، كل هؤلاء الجبال مضيئة، وأعتقد أن هذه هي التي كُتب عنها في المزامير: "أساساته في الجبال المقدسة".

ما هي الجبال المعتمة؟ الذين يقيمون مرتفعات ضد معرفة الرب (2 كو 10: 5). الشيطان جبل معتم، ورؤساء هذا العالم المُجَنَّدون للتدمير والاهلاك أيضًا جبال معتمة؛ وحينما قال الرب لتلاميذه: "لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل" يقصد به جبلاً معتمًا وهو الشيطان. لأنه حينما أثيرت المناقشة بين السيد المسيح وبين تلاميذه بخصوص الشيطان الذي كان في الصبي، وحينما سأل التلاميذ المخلص قائلين: "لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه"؟ أجابهم: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل -  أي لهذا الشيطان الذي تتناقشون بخصوصه - انتقل من هنا إلى هناك فينتقل". انتقل من "هنا"،  أي من هذا الصبي، "إلى هناك"  أي إلى مكانه الطبيعي في الهاوية. إذًا الذين يتعثرون لا يتعثرون على الجبال المضيئة إنما على جبال العتمة حينما يذهبون مع الشيطان وملائكته.

"فتنتظرون نورًا"؛ إذا ما أعطيتم الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة. مما لا شك فيه، حتى إن حَلَّ الظلام، تنتظرون نورًا، هذا النور يصحبكم.

قد يقول أحد الحاضرين: حتى هؤلاء الذين تعثر أرجلهم على جبال العتمة ينتظرون نور رحمة الرب بجانب تلك الجبال المعتمة. هذا أيضًا هو تفسير الكلمات: "فتنتظرون نورًا"[271]].

بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقًا له، إذ يقول:

"اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا،

وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة،

فتنتظرون نورًا،

فيجعله ظل موتٍ،

ويجعله ظلامًا دامسًا؛

وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكى في أماكن مستترة من أجل الكبرياء،

وتبكى عينىَّ بكاءً، وتذرف الدموع،

لأنه قد سُبى قطيع الرب" [16-17].

يقصد بظل الموت Sal-mawet في العهد القديم الظلام الشديد، وتترجم أحيانًا "الظل العميق" كما في (مز 23: 4).

يدخل إرميا إلى أماكن مستترة متضعة ليقدم الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبى إبليس... إن كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة، إذا بقلب إرميا يتمزق حزنًا عليهم.

أدرك إرميا النبي أنه لم يبقَ أمام القلب المُصاب بعمى الكبرياء إلا بصيص من النور، يتبدد حتمًا إن أصر القلب على عجرفته، فيصير في الظلمة يتخبط وليس من منقذٍ بعد! لقد جاءت اللحظات الحاسمة والخطيرة بعدها لا ينفع الندم!

كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نصبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود على قلبه، فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله، فإذا به ُيلقى بنفسه في الهاوية، ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس.

المعنى الحرفي للأماكن المستترة هو أن إرميا اضطر إلى الاختفاء من وجه الملك الذي رفض حكمة الرب.

ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم! لقد دخل الرسول بولس هذه الأماكن المستترة إذ يقول: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولاسيما من نحوكم" (2 كو 2: 4).

يرى العلامة أوريجينوس[272] أن إرميا يبكي في أماكن مستترة، فقد خبأ الرؤساء والقيادات النبوات التي تشهد للسيد المسيح، فصار الناس في ظلمة عوض النور. كما يقول:

["وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة، ستبكي أنفسكم أمام الشدة". من بين الذين يسمعون، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة. ما هو إذًا السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية: "بل نتكلم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1 كو 2: 7). عندما اسمع الناموس، إما اسمعه بطريقة مستترة أو لا اسمعه بطريقة مستترة. فاليهودي مثلاً لا يسمعه بطريقة مستترة؛ لهذا يُختتن بطريقة ظاهرية، غير عالمٍ أن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا" (رو 2: 28)، أما الذي يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فيكون مختتنًا في الخفاء". وإذا كان اليهود قد قتلوا السيد المسيح قديمًا، وهم مسئولون حتى يومنا هذا عن موته، فإن هذا حدث لأنهم لم يسمعوا الناموس ولا الأنبياء بطريقة مستترة.

كذلك أيضًا بالنسبة لموضوع حفظ السبت، توجد بعض النساء حتى يومنا هذا لا تسمعن كلام الله بطريقة مستترة فهن لا يفعلن  أي شيء في يوم السبت، كما لو كان السيد المسيح لم يأتِ إلينا ليحملنا من حرفية الناموس إلى كمال الإنجيل.

لذلك حينما نقرأ الناموس والأنبياء نحذر لئلا نقع تحت عاقبة النبوة التي تقول: "وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة". إذا قرأنا أمثال السيد المسيح الموجودة في الإنجيل أمام إنسان من خارج الكنيسة لا يسمع بطريقة مستترة، لكن إن كان السامع هو أحد الرسل أو أحد أبناء الكنيسة، فإنه يقترب من السيد المسيح ويسأله ويتناقش معه حول غموض المثل، فيقوم السيد المسيح بتفسير المثل له: فيصبح هذا المستمع من السامعين بطريقة مستترة وبالتالي لن تبكى نفسه.

لماذا لم يقل الرب: "ستبكون إن لم تسمعوا بطريقة مستترة" وإنما قال: نفسكم سوف تبكي يوجد بكاء خاص بالنفوس وحدها. لعل السيد المسيح أوضح لنا هذا النوع من البكاء حينما قال: "هناك يكون البكاء" وأيضًا: "ويل لكم أيها الضاحكون الان لأنكم ستحزنون وتبكون" (لو 6: 25). يتحدث عن البكاء الذي يهددنا به النبي هنا حينما يقول: "إن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة"، لأنه حينما تأتي عليكم الشدة ستبكون و"ستذرف عيونكم الدموع لأنه قد سُبي قطيع الرب"...[273]].

يرى العلامة أوريجينوس[274] في العبارة "إن لم تسمعوا في الخفاء" [17] أن مجد الإنسان خفي، معطيًا مثالاً لذلك موسى النبي الذي كان يغطي وجهه ببرقع إذ تمجد. ويقول داود النبي: "أظهرت ليغوامض حكمتك" (مز 50).

أما وقد بكى إرميا بمرارة على قطيع الرب الذي يسقط تحت السبي، فإنه يقدم مرثاة على الملك الشاب والملكة أمه، فإنهما لن يخلصان من هذا المرّ، ولا يهربان منه.

"قل للملك وللملكة:

اتضعا واجلسا، لأنه قد هبط على رأسيكما تاج مجدكما،

أُغلقت مدن الجنوب، وليس من يفتح.

سُبيت يهوذا كلها، ُسبيت بالتمام" [18-19].

يشير العددان [18-19] إلى سبي الملك الشاب يهوياقين إلى بابل عام 598-597 ق.م. جاء في (2 مل 24: 8-17) ومعه أمه الملكة نحوشتا (2 مل 24: 8، 15)، حيث عانت يهوذا المتكبرة من صفعة قوية، وضاع رجاؤها.

جاءت هذه المرثاة قصيرة تناسب الملك الذي لم يدم مُلكه سوى ثلاثة شهور[275]. كان في الثامنة عشرة من عمره عند موت والده يهوياقيم، ولكن بعد ثلاثة شهور سُبي إلى بابل. بعد سنوات (سنة 562 ق.م) حُرر لكن لم يُسمح له بالعودة إلى بلاده (52: 31-34؛ 2 مل 25: 27-30). سقط التاج عن رأسيهما وضاع من بين أيديهما المُلك. واضح هنا أنه كان للملكة الأم دور رئيسي في إدارة المملكة في يهوذا، وكان لها سلطانها في أيام الملك آسا حتى تخلَّص منها (1 مل 15: 13).

حين حلَّت الكارثة لم يجد الملك وأيضًا الملكة لهما ملجأ في منطقة الجنوب أو مدن نجب Negeb (القسم الجنوبي من يهوذا) المعروفة بخصوبتها ومدنها الكثيرة، لأن جيوش الغازين عزلت أورشليم عن مدن الجنوب حتى لا يجد سكان أورشليم مجالاً للهروب؛ أو لأن هذه المدن إذ أدركت الخطر الذي حلّ بأورشليم أغلقت أبوابها وخشت أن تفتحها حتى لقيادات يهوذا عند هروبهم. من الجانب التاريخي هددت آدوم مدن نجب ألا تقبل اللاجئين من أورشليم حتى يملك الغازون تمامًا. فعلت هذا إما لمصلحتها الشخصية حيث أرادت خراب يهوذا، أو لحساب البابليين، وقد وُجدت نقوش تؤكد ذلك[276]. يرى البعض أن هذه المدن كانت مخازنًا للملك، لذلك حاصرها الأعداء لمنع وصول مئونة إلى أورشليم أثناء حصارها.

يصور النبي ما حلَّ بأورشليم بواسطة بابل:

"ارفعوا أعينكم وانظروا المقبلين من الشمال.

أين القطيع الذي أُعطى لك، غنم مجدك؟

ماذا تقولين حين يعاقبك وقد علّمتهم على نفسك قوادًا للرياسة؟

أما تأخذك الأوجاع كامرأة ماخض؟" [20-21].

بعد تقديمه مرثاة على ما حلَّ بالملك وأمه الملكة بدأ يتحدث عن أورشليم كراعية وحارسة لقطيعها الممجد، فقد صارت بلا قوة لتحمي شعبها، قطيع الرب! يطالبها أن ترفع عينيها لترى أين قطيعها، فقد أُقتيد إلى السبي، وُتركت أورشليم خرابًا.

عوض الاهتمام بقطيع الرب أقامت بشرها من البابليين قوادًا للرئاسة، يفترسون حملانها! صارت كامرأة ماخض، لا تلد ابنًا أو ابنة تفرح به أو بها، إنما تلد قيادات من الأعداء تحطم شعبها! عوض أن تلد حملاً تحتضنه تلد ذئبًا يفترس بنيها!! أو كما قيل في هوشع: "أفرايم تطير كرامتهم كطائر من الولادة ومن البطن ومن الحبل" (هو 9: 11)،  أي صارت أورشليم عقيمة لا تحبل، رحمها بلا ثمر، بلا أبناء!

هذه هي مسئوليتها! إنها لم تعد بالراعية ولا الحارسة لخراف الرب بل بشرها تقدم لهم ذئابًا تفترسهم!

4. ثمار الشر:

"وإن قلتِ في قلبكِ:

لماذا أصابتني هذه؟

لأجل عظمة إثمكِ هُتك ذيلاكِ وانكشف عنفًا عقباكِ" [22].

يشير النبي هنا إلى تساؤلات الشعب المتكررة: لماذا أصابتنا هذه الويلات؟ والجواب المتكرر: هو ارتكابكم الشر، ورجوعكم عن الرب، وإصراركم على عدم التوبة. فالشر ليس من الله إنما مصدره إرادتكم الشريرة.

أخطر ما وصل إليه هذا الشعب ليس السقوط في الخطية، فإن الله يعلم ضعف الإنسان، ويشتاق أن يخلصه من كل خطية ولا يدينه عليها، إنما الإصرار على ارتكاب الشر، فيشربون الإثم كالماء، ولا يشعرون بما هم عليه. يصيرون كالمريض الذي لا يبالى بالمرض ولا يشعر بخطورته، بالتالي لا يجد حاجة للذهاب إلى طبيب. مع كثرة الإثم وارتكابه بلا انقطاع صاروا يعترضون على تأديبات الله كأنها ظلم، حاسبين أنفسهم أبرارًا!

سبق فأوضح خطورة الكبرياء، هنا يبرز خطورة الكذب (ربما يقصد به الاتكال على الآلهة الكاذبة) والرجاسات (التي تلازم العبادة الوثنية).

بقوله "هتك ذيلاكِ" يعني أنها صارت عارية، وفي ذلك رمز للشهوات الجسدية في إباحية وبعنف، حيث تكشف عورتها للشر (لا 8: 6-19؛ 20: 17؛ تث 23: 1؛ 27: 20؛ إش 47: 3؛ نا 3: 5). كذلك كشف العقب بعنفٍ يرمز إلى الرغبة الشهوانية الجامحة.

يرى البعض أن هذا التصوير يعني به أن أورشليم صارت كامرأة فاسدة، عرّت الخطية عورتها وكشفت جسدها في غير حياء!

يبرز هنا خطورة الشر، فإنه يفسد طبيعة الإنسان، فيلتصق به الشر ليصير كجلد الكوشي أو رقط النمر، لا تتغير. الله لن يغلق باب مراحمه، لكن إسرائيل في كبريائه تحولت حياته إلى عصيان مستمر وخيانة له.

بقوله: "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟!" [23] لا ينفي الحرية الإنسانية في اختيار طريق دون الآخر، فقد جاءت كل الكتابات النبوية تؤكد حرية الاختيار، بل وإرميا النبي نفسه إذ يدعوهم إلى التوبة يؤكد ذلك، إنما هذا النص يعني أمرين:

أولاً: ممارسة الخطية خاصة إلى فترات طويلة وبصورة جماعية تمثل ضغطًا شديدًا على الإرادة فتسلبها حريتها، وتفقدها قدرتها على الاختيار.

ثانيًا: الحاجة إلى عون إلهي أو إلى النعمة الإلهية لتقديس الإرادة وردّها إلى الحرية الداخلية المسلوبة.

كمثالٍ يتحدث القديس جيروم عن إصرار شاول على تعقب داود للخلاص منه وإصرار داود على الاحتمال بطول أناة؛ قائلاً: ["هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!" [23]... هذا ما يقوله داود (أيضًا في المزمور السابع) فكما أن الكوشي لا يقدر أن يغير جلده، هكذا لم يستطع شاول أن يغير شخصيته. لقد سقط بين يديّ مرتين، وكان في استطاعتي أن أقتله. كان يمكنني أن أسفك دمه. لقد أردت أن أغلبه باللطف، لكن إرادته الشريرة بقيت غير منهزمة. كما لا يقدر الكوشي أن يغير جلده، هكذا لا يستطيع شاول أن يغير خبثه[277]].

الله وحده يقدر أن يغير طبيعتنا ويجددها لذلك يقول القديس جيروم: [الخصي الأثيوبي غيّر جلده بالرغم من قول النبي، وهو يقرأ العهد القديم وجد ينبوع الإنجيل (أع 8: 27-39)].

يرى John Guest ما لهذا المثل من أثر على الثقافة الغربية قائلاً بأن إرميا صار مشهورًا بسببه[278].

إذ بلغوا هذا الحد، فامتزجت طبيعتهم بطبيعة الشر، وصارتا كأنهما طبيعة واحدة، جاء الثمر الطبيعي لذلك وهو: التحطيم!

"فأبددهم كقشٍ يعبر مع ريح البرية.

هذه قُرعتك، النصيب المكيل لك من عندي يقول الرب،

لأنكِ نسيتنى، واتكلتِ على الكذب.

فأنا أرفع ذيليكِ على وجهكِ،

فيُرى خزيكِ،

فسقكِ، وصهيلكِ، ورذالة زناكِ على الآكام، في الحقل،

قد رأيت مكرهاتكِ.

ويل لكِ يا أورشليم، لا تطهرين.

حتى متى بعد؟!" [24-27].

يشبَّه الغزو البابلي بالريح الشديدة التي تهب فتحملهم كالقش في وسط البرية، ليس من يهتم بهم!

من جهة يوضح أنه هو الذي يبددهم، لأن هذا هو نصيبهم الذي اختاروه. كالوا لأنفسهم الباطل، فصاروا باطلاً.

يعود فيكرر الله لشعبه أن ما حلّ بهم ليس محض مصادفة، ولا لقوة بابل العظيمة، إنما لشر إرادتهم التي اختارت هذا النصيب. ومن جهة أخرى إنهم قش، ليس بينهم حنطة، تهب الريح لتعصف بالقش وتفرزه عن الحنطة... فلا لوم على الريح بل على يهوذا التي لم يُوجد فيها حنطة في ذلك الحين.

لئلا تقول هذا نصيبي قد حتمه عليّ الرب، يؤكد بها: "لأنكِ نسيتني، واتكلتِ على الكذب" [25]. يرى البعض أن كلمة "كذب  seqer تعني هنا بعض الآلهة الوثنية، ربما يكون البعل[279].

إذ يُحسب الكذب زنًا روحيًا، له خطورته، حتى دُعي إبليس بالكذاب وأب الكذابين (يو 8: 44)، لهذا فإن ثمرة زناها الروحي أن تدخل في الفضيحة وُيرفع ذيلها، فتظهر عارية، لعلها تخجل فتتوب.

عبّر عن الرجاسات الوثنية بالفسق والصهيل ورذالة الزنا، تمارس هذه الأمور علانية على التلال وفي الحقول المفتوحة، هناك حيث العبادة الوثنية.

أخيرًا إذ رأي الغزو قد صار على الأبواب صرخ مترجيًا توبتهم، قائلاً: "حتى متى بعد؟!" [27].


 

من وحي إرميا 13

لاختفي فيك يا صخرة حياتي!

لأسكر بخمر روحك القدوس!

v     قبلتني كثوبٍ يلتصق بك،

 فأصير أبيضًا كالنور،

 لأنك أنت شمس البر، صخرة حياتي!

 لأختفي فيك، فأتقدس وأتمجد يا اكليل حياتي!

v     صرت كالزق المملوء خمرًا،

 امتلأت أعماقي بسخطك من أجل كبرياء قلبي!

 لتنزع عنى خمر غضبك،

 وليسكن روحك القدوس فيّ،

 فأسكر بحبك ولا أطلب آخر غيرك يا شهوة قلبي!

v     حملني عصيإني إلى جبال العتمة!

 اظلمت عينا قلبي، فلم أعد أعاين بهاءك!

 أحاط ظل الموت بيّ...

 من ينقذني غيرك يا مخلصي؟

v     احملني إلى جبالك المقدسة،

 إلى كلمتك واهبة الإستنارة،

 اراك تظلل بجناحيك عليّ،

 تقيمني من ظل الموت إلى ظلال صليبك واهب الحياة!

 ترفعني إلى القمم العالية فأعاين سمواتك،

 واشتهي شركة أمجادك!

v     لتُقم مرثاة على أعماقي،

 فقد تحطم مُلكي واُنتزع عزي.

 من يقيمني ملكًا إلا أنت يا ملك الملوك؟!

 من يجعلني كاهنًا روحيًا سواك يا أسقف نفوسنا؟!

 من يردني من السبي،

 ويدخل بي إلى العرش،

 إلا أنت يارب الجنود؟!

v     أخيرًا أعترف لك:

 لقد فسدت طبيعتي،

 وصرت كالنمر يمتلئ جلدي رقطًا.

 لتغير طبيعتي، ولتجددها بروحك القدوس!

 أنت وحدك خالقي،

 تقدر أن تعيد خلقتي،

 وتمجدها فيك وبك يا إكليل نفسي!

<<


 

الأصحاح الرابع عشر

التأديب بالقحط

والحاجة إلى مياه الروح

يتحدث النبي في الأصحاحين 14، 15 عن قحط طويل الأمد سمح به الرب للتأديب، مع سقوطٍ تحت السيف والأوبئة والسبي كثمرٍ طبيعي لعصيان الشعب الذي دخل مع الله في ميثاق ولم يفِ بتعهده. 

صرخ الشعب لكن الله لم يستجب، لأنهم طلبوا الخلاص منه دون رجوع إلى الله وبغير توبة صادقة، فصارت طلبتهم رديئة (يع 4: 3)، خاصة أنهم استمعوا لخداع الأنبياء الكذبة.

رفض الله صلواتهم حتى يكتشفوا القحط الداخلي الذي حلّ بنفوسهم، فقد كانت صلواتهم منصبة على رفع القحط، إذ حزنوا على فقدانهم الخيرات الزمنية، لا على فقدانهم الله مصدر الخيرات.

واضح من هذا الأصحاح أن إرميا النبي أدرك أن رسالته الأولى هي أن يشفع في شعبه أمام الله، لكن هناك حاجة إلى عمل الروح القدس (مياه المعمودية) وإلى تبكيت الروح القدس حتى بالتوبة تُشفي جراحاتهم، ويُنزع عنهم القحط الروحي.

يُسمي البعض هذا الأصحاح "ليتورجية القحط"، وضعها إرميا النبي لكي يصليها الشعب كما كل مؤمنٍ في المناسبات بروح التوبة الجماعية والرجوع إلى الله. إن كانت لم تُمارس في عصره كما ينبغي، لكنها بقيت ليتورجيا للتوبة يعيشها المؤمن في عصور لاحقة[280].

أخيرًا فإن الله سمح بالقحط كتأديب مبدئي أو تدريجي، حتى إذا لم يسمعوا للصوت الإلهي يسمح بالسبي كخطوة تالية.

v     القحط والتطلع إلى العصر المسياني

1. القحط ودعاء الشعب [1-12].

2. مسئولية الأنبياء الكذبة [13-16].

3. حوار بين الله والنبي[17-22].

v     القحط والتطلع إلى العصر المسياني[281]:

لكي نتفهم هذا الأصحاح يليق بنا أن ندرك أن العصر المسياني في ذهن الأنبياء الذي طال انتظار العالم له هو عصر غني بالمياه الفياضة. رآه إشعياء النبي كعصر أمطار يحول البرية إلى حقول مثمرة (إش 44: 3 الخ.)، وزكريا النبي أنه عصر المياه المطهِّرة (زك 13: 1)، ويوئيل أن المياه هي وراء القداسة (3: 18)، وحزقيال أنه سر غسل النفس الداخلية (16: 9)، كما يختم حديثه عن هيكل العهد الجديد بوصفه للمياه المقدسة النازلة من تحت عتبة البيت نحو المشرق من الجانب الأيمن للبيت عن جنوب المذبح (47: 1-12). إذ يتحدث هنا عن القحط كتأديب إلهي لشعب يصر على العصيان، يوضح بطريقة غير مباشرة الحاجة إلى الأمطار الإلهية، إلى عطية الروح القدس الذي يلدنا في مياه المعمودية أولادًا لله، ويقود حياتنا، حتى يخرج بنا من برية هذا العالم إلى خبرة الحياة الفردوسية، حيث نحمل ثمر الروح.

كان الجفاف خاصة في منطقة الشرق الأوسط يمثل حالة موت بالنسبة للمجتمعات البشرية، له أثره على كل الطبقات: الشعب ككل والأشراف والخدم أو العبيد كما على الفلاحين؛ على الحيوانات حتى حيوانات البرية؛ على الجو نفسه حيث الحر القاتل في فترة الظهيرة في الصيف، وعلى العشب والنباتات... هذا ما يوضحه هذا الأصحاح. ولما كان المطر هو عطية إلهية لذا لاق بالإنسان عندما يدخل في حالة قحط أن يراجع حساباته ليدرك علاقته بالله خالقه، لا ليطلب المطر بل واهب المطر، فيصير كل شيء بين يديه.

1. القحط ودعاء الشعب:

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا من جهة القحط" [1].

يتحدث النبي عن قحط يحل بيهوذا كتأديبٍ إلهي، ويتكرر الأمر في الأصحاح 17، لذا يرى البعض أن النبي نطق بالنبوات الواردة في هذه الأصحاحات الأربع (14-17) أثناء فترة القحط الذي حلّ في أواخر أيام يهوياقيم وفي أيام خليفته. يظهر من صيغة الجمع في اللغة العبرية لكلمة "القحط" أن مدة القحط كانت طويلة الأمد كما حدث في أيام إيليا النبي (1 مل 17، يع 5: 17).

بعد فترة وجيزة من حكم يهوياقيم، عاد فرعون نخو إلى مصر، وكانت نينوى في طريقها إلى السقوط، بينما كانت بابل تتزايد عظمة لتقضي على نينوى وتنافس مصر، وتسبى يهوذا؛ كان السوس ينخر في عظام شعب يهوذا، إذ تدنس بشرورٍ لا حصر لها. اكتسحت البلاد حالة قحط شديدة للغاية كآخر إنذار إلهي بالخراب العاجل القادم قبل السبي.

حلَّت الكآبة بالبلاد، إذ فقد الشعب الأمطار الغزيرة التي تتدفق من الجبال خلال الأنهار وتملأ الينابيع، فاحترقت المراعى الخضراء وذبلت النباتات. أرسل الأغنياء عبيدهم يطلبون ماءً بلا جدوى، وكان يليق بالكل أن يلجأوا إلى الله بالتوبة ليفتح أمامهم أبواب مراحمه، حتى لا يفارق مجد الرب بيته كما تنبأ حزقيال.

جاء وصف القحط هنا يكشف عن حال النفس التي ترفض مياه الروح القدس التي أعلن عنها السيد المسيح: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؛ من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). قيل هنا:

"ناحت (جفت) يهوذا،

وأبوابها ذبلت،

حزنت إلى الأرض (اسودت إلى الأرض)،

وصعد عويل أورشليم" [2].

جاء هذا النص في العبرية في تسع كلمات قدمت لنا القحط في أبشع صورة.

أ. الكلمة العبرية الأولى تحمل معنيين: "ناحت" و"جفت"، فتظهر مملكة يهوذا كسيدةٍ تنوح بسبب ما حلّ بها، وكحقلٍ جافٍ تشققت أرضه بسبب الحرمان من المياه. ناحت للأسف لا على خطاياها، بل على امتناع المطر وحلول القحط. إنها صورة للنفس التي تذلها الخطية، فتفقد فرحها الداخلي لحرمانها من مياه الروح، وتعيش في حالة كآبة داخلية وفقدان للسلام. تتحول جنتها إلى برية قاحلة، بلا ثمر روحي! يليق بمثل هذه النفس أن تنوح على خطاياها فتستدر حب الله وتتقبل عطية الروح المبكت واهب السلام، والذي يحولها إلى فردوسٍ مثمر.

ب. أبوابها ذبلت، أو صارت هزيلة تئن من الضعف الشديد، لأن شعبها خرج إلى بلاد أخرى يبحثون عن ماءٍ يشربونه أو عن خبزٍ يأكلونه. ُيقصد بالأبواب هنا مدن يهوذا، فقد انهارت أبواب أسوارها الحصينة، لأن شعبها صار في جوعٍ شديدٍ لا يقدر حتى على الحياة... فما الحاجة لأبواب حصينة تحميه وهو يموت جوعًا وظمًأ في الداخل.

هذا هو حال النفس وقد حُرمت من الشبع بكلمة الله، فهزلت جدًا، وفقدت تقديس حواسها "أبواب النفس والجسد"، فصارت مفتوحة لكل فكرٍ شرير، ونظرةٍ بطالة، وإحساسٍ فاسد.

كان الشيوخ عادة يجتمعون عند أبواب أسوار المدن للفصل في قضايا الشعب والتشاور الجاد معًا فيما لحق بالشعب ككل، أما وقد تحولت إلى أماكن اجتماع الرجال للتسلية والترف، ذبلت هذه الأبواب. إنها تمثل حالة النفس المدللة التي ُيقال عنها: "وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6).

ج. "حزنت إلى الأرض"، أو بحسب الترجمة الحرفية "اسودت الأرض"، أي ارتدت ثياب الحداد السوداء الطويلة (مرا 2: 10)، فصارت أبواب المدينة أشبه بأشباح خارجة من الجحيم! صارت أبواب صهيون، ليست أبواب ملكوت الله المفرح، بل أبواب الجحيم، حيث العويل غير المنقطع، أو أبواب الموت التي يقول عنها المرتل: "يا رافعي من أبواب الموت، لكي أحدث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون مبتهجًا بخلاصك" (مز 9: 13-14). ما أخطر أن تتحول أبواب ابنة صهيون من مصدر بهجة بخلاص الرب إلى أبواب عويلٍ مستمرٍ وهلاكٍ وموتٍ!

هذا العويل هو مزيج من الصرخات المرّة بسبب الحرمان من الشراب والطعام، والصراخ إلى الله ليخلصهم من هذه الكارثة، لكنها صرخات صلاةٍ غير مقبولة، لأنهم لا يهتمون بخلاص أنفسهم إنما يطلبون المطر.

"وأشرافهم أرسلوا أصاغرهم للماء.

أتوا إلى الأجباب فلم يجدوا ماءً.

رجعوا بآنيتهم فارغة.

خزوا وخجلوا وغطوا رؤوسهم" [3].

إذ حلّ القحط لم يفكر حتى الأشراف - أصحاب السلطة - في الأكل، وإنما في ماءٍ للشرب. يُمكن للإنسان أن يحتمل الجوع أكثر من العطش. لقد أرسلوا أصاغرهم، هنا الكلمة العبرية تعبر عن الخدم الذين هم غالبًا ما يكونوا صغارًا في السن وأقل في المركز الاجتماعي[282]، فإنهم أسرع وأقدر على البحث عن الماء وحمله.

حملوا أواني سادتهم وانطلقوا إلى حيث مصادر المياه من أحواض أو برك، لكنهم رجعوا بها فارغة. لم يثر الأشراف عليهم، بل أُصيبوا بحالة إحباط إذ ملأهم العار والخزي، ربما لشعورهم بالضعف الشديد. لم يعد في سلطانهم أن يجدوا كأس ماء يشربونه بعد أن كانوا يعيشون في ترفٍ ولهوٍ، لا تفرغ مخازنهم من الخيرات وآنيتهم من الخمر... الآن لا يجدون كوب ماء!

يحل بهم العار، إذ يشعرون أن بركة الرب إلههم قد فارقتهم، وأنه قد بدأت سلسلة من الكوارث لا يُعرف نهايتها. ولعلهم صاروا في خزي لأنهم شعروا بضرورة الانسحاب من العالم الذي لم يعد يقدم لهم الحياة بل الموت جوعًا وعطشًا! أما تغطية الرأس [3-4] فعلامة على الرعب والحزن، كما فعل داود حين هرب من وجه ابنه أبشالوم (2 صم 15: 30).

"من أجل أن الأرض قد تشققت،

لأنه لم يكن مطر على الأرض.

خزي الفلاحون، غطوا رؤوسهم" [4].

صارت أرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا جافة ومشققة، تكشف عن رؤوس سكانها التي صارت جامدة كالنحاس والحديد، إذ قيل "وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدًا" (تث 28: 23). هكذا يتحول الإنسان بكليته كما إلى أرض حديدية لا تقدم ثمرًا، وبلا حياة!

إذ نشعر بالحاجة إلى المياه نتطلع إلى عمل الروح القدس خاصة في مياه المعمودية، لندرك كيف نخرج بها من حالة القفر إلى التمتع بالحياة الفردوسية، وكما خاطب القديس غريغوريوس أسقف نيصص طالبي العماد، قائلاً:

[إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون.

إنكم تشاركون آدم آباكم الأول في نفيه!

الآن يُفتح الباب وتعودون من حيث خرجتم[283]].

يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الفردوس الذي عاش فيه الإنسان الأول والسماء التي يعيشها فيها المؤمن بالعماد بعد أن صار قفرًا فيجد أنه صار في حالة أعظم مما كان عليها آدم. جاء في مقارنته:

[لا ينطق الله هنا (ليخلق) في الفردوس، بل في السماء. فإن ما يحدث لا يتم على الأرض، بل ينقلك إلى السماء في حضرة الملائكة.

يرفع الله نفسك إلى فوق ويصلحها، ويقدمها بجوار عرشه الملوكي...

يقيمك الله لا لتحفظ الجنة، بل لتصير مواطنًا سماويًا.

لا تعود تبصر أودية أو أشجارًا أو ينبوعًا، بل تنال الرب نفسه، وتختلط بجسده العلوى الذي لا يقدر الشيطان أن يقترب إليه... فإنك مادمت لا تنزل إليه لا يقدر هو على الصعود اليك، لأنك في السماء! إنه لا يقترب إلى السماء! [284]].

يُلاحظ أن كلمة "تشققت" في العبرية تعني "ارتعبت"، وكأن الإنسان سيد الخليقة الأرضية صار في خزيٍ، وفقدت الأرض التي يقف عليها اتزانها، إذ صارت مرتعبة.

أما كلمة "الفلاحون" هنا فمقتبسة عن اللغة الأكادية وهي لا تعني الفلاحين العاملين في أرضهم، إنما طبقة الفلاحين العاملين كأجراء في مستوى اجتماعي منحطٍ في ذلك الحين. هؤلاء اشتركوا مع العظماء في الخزي، وغطى الكل رؤوسهم في عارٍ. سرّ عارهم أنهم صاروا بلا عملٍ، إذ حُرموا من عطية الله التي قيل عنها: "سواقي الله ملآنة ماءً، تهيئ طعامهم، لأنك هكذا تعدها" (مز 65: 9).

 يوضح النبي كيف صارت الخليقة كلها تئن وتتوجع بسبب فساد قلب الإنسان وكبرياء قلبه (رو 8: 22)، إذ يقول:

"حتى أن الإيلة أيضًا في الحقل ولدت وتركت،

لأنه لم يكن كلأ.

الفراء وقفت على الهضاب تستنشق الريح مثل بنات آوى.

كلت عيونها، لأنه ليس عشب" [5-6].

خرجت الحيوانات عن طبيعتها بسبب القحط، وما حلّ بها من آلام:

أ. تعيش الإيلة في الغابات بعيدًا عن الإنسان، أما وقد حلّ بها الجوع والظمأ تجاسرت وذهبت في حقل مفتوح، هناك تلد، لكنها لا تستطيع أن تقدم لبنًا لصغيرها، لأنها لا تجد ما تأكله أو تشربه، هناك تترك صغيرها في غير مبالاة لتبحث عن طعامٍ أو شرابٍ... لقد خرجت عن حنان الأمومة الغريزي.

ب. الفراء أو الحمار الوحشي أيضًا لا يعيش إلا في البراري، لكنه تحت ضغط الجفاف الشديد والحر القاتل انطلق إلى الهضاب العالية لعله يجد هواءً رطبًا على المرتفعات. صار يلهث (يستنشق الريح) كما تفعل بنت آوى أثناء حر النهار الشديد. هنا الكلمة العبرية لاستنشاق الريح تعني أن يلهث الكائن وهو يلد أثناء تعب المخاض، أو يلهث وهو يموت. هكذا صارت الحيوانات تلهث كأنها تموت!

أصاب عيونها الضعف الشديد، إذ "كلت عيونها" [6]، وقد اُستخدم هذا التعبير في (مز 69: 82؛ 119: 82، 128؛ أي 11: 20؛ 17: 5، مرا 2: 11؛ 4: 17) ليشير إلى ضعف العين الشديد وهي تترقب معونة تبدو مستحيلة. هنا في هذا العبارة تعني أن علامة الموت قد ظهرت حتى على العينين اللتين كلتا جدًا لتفقدا البصيرة بغير رجعة!

إذ اشتد التأديب بالشعب جدًا ولم يسمعوا لصوت الله، تحدث معهم خلال الطبيعة المحيطة بهم:

الأرض المرتعبة المشققة،

والحيوانات الفاقدة لنواميس الطبيعة حتى الأمومة،

واللهث في انتظار لحظات الموت،

وفقدان البصيرة تدريجيًا!

ما أبشع الخطية في حياة الإنسان المعتزل إلهه مصدر صلاحه وحياته واستنارته!

هذه هي حالة النفس التي أصابها القحط، المحرومة من مياه الروح القدس، فإنها تصير أرضًا مرتعبة ومشققة، لا تحمل سلامًا داخليًا ولا ثمر الروح! تصير كالإيلة التي تحت ضغط الظمأ الشديد والجوع القاتل تفقد حتى غرائزها الطبيعية، فتقدم صغيرها للهلاك بغير مبالاة. تصير كالحمار الوحشي الذي تحت قسوة الجفاف الشديد ينطلق نحو الهضاب العالية لعله يستنشق هواء رطبًا، تذبل عيناه جدًا إذ يستسلم للموت وهو يفقد بصيرته!

هكذا يفعل القحط الروحي بالنفس، أما في مياه المعمودية فتنعم النفس بعمل الروح القدس القادر أن يهب النفس حياة جديدة مُقامة، وسلامًا فائقًا وثمرًا متكاثرًا وعذوبة لتتميم ناموس المسيح الفائق واستنارة داخلية. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[يُدعى (العماد) "استنارة". هكذا دعاه القديس بولس قائلاً: "لكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة" (عب 10: 32)[285]].

[بالمعمودية لم يجعلنا ملائكة ولا رؤساء ملائكة، بل أبناء الله المحبوبين لديه...!

إذ تذكر هذا اظهر حياتك مستحقة لحب ذاك الذي دعاك.

اظهر مواطنتك لذاك العالم (السماوي)، والكرامة التي أُعطيت لك.

أعلن بوضوح أنك مواطن في المدينة السماوية.

لا تهتم بالأرضيات، فإن كان جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء إلا أن رأسك ماكث هناك في الأعالي[286]].

بعد أن وصف النبي القحط القادم كتأديب أولي لكي يكتشف الشعب ما بلغ إليه قدم النبي باسم الشعب كله صلاة قصيرة أشبه بمرثاة، من أجل كارثة خاصة بالأمة كلها، قدمها كشفيعٍ ونائبٍ عن الشعب، فيها يعترف بخطايا الشعب، طالبًا مراحم الله، نصها الآتي:

ان تكن آثامنا تشهد علينا يارب،

فأعمل لأجل اسمك.

لأن معاصينا كثرت.

إليك أخطأنا.

يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق.

لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟!

وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!

لماذا تكون كإنسانٍ قد تحيّر؟!

كجبارٍ لا يستطيع أن يخلص؟!

وأنت في وسطنا يارب،

وقد دُعينا باسمك.

لا تتركنا" [7-9].

يعترف إرميا النبي عن خطايا الشعب كأنها خطاياه الشخصية. بهذا حمل نبوة عن السيد المسيح الذي حمل خطايا العالم على الصليب، حيث يقول: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!" (مت 27: 46).

هذه مشاعر الحب الحقيقي التي يليق بكل مؤمن أن يتمتع بها، حيث يتألم مع آلام كل عضو، مصليًا لأجل الآخرين كما لأجل نفسه، حاسبًا سقوط الغير كأنه سقوط له. وكما يقول القديس بولس: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم" (عب 13: 3).

مرثاة رائعة، لو أنها قدمت من الشعب لتغير التاريخ كله. قدمها إرميا عن الشعب، لكن لم تخرج من أعماق قلب الشعب. ربما حفظها البعض وكرروها بلسانهم دون قلبهم... لهذا لم يستجب الرب!

ما نفعها إذن؟ انتفع بها إرميا نفسه، وتزكي هو ومن حوله، كما قدمها مثالاً حيًا للتوبة عبر الأجيال ينتفع بها الكثيرون.

يبدأ المرثاة بالاعتراف بالخطية، فإنه إذا ما تمت محاكمة لا حاجة إلى شهودٍ، فإن آثامنا تشهد ضدنا: أفكارنا وكلماتنا وتصرفاتنا تقف كخصمٍ ضدنا.

مقابل هذا الشاهد نجد "اسم الله" مدافعًا عنا، فهو رجاء الشعب. يقصد بقوله "من أجل اسمك" أي لأجل كرامتك ومجدك (يش 7: 9؛ إش 48: 9-11). بالنسبة للعبرانيين "الاسم" غالبًا ما يُعنى به سمة الشخص الأساسية[287]].

هنا الكلمة العبرية المترجمة "رجاءً" تعني "رجاءً" في (عز 10: 2)؛ و"آمانًا" في (1 أي 29: 15)، وأيضًا بمعنى "بركة ماء" كما في (حز 7: 19). كأن الله يصير بالنسبة لهم ينبوع مياه ينزع عنهم حالة الجفاف. ُيقدم ذاته لنا شبعًا حسب احتياجاتنا.

أما دعوة الله كمخلص لشعبه [8] فهو أمر تقليدي وشائع (هو 13: 4):

"لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل مخلصك" (إش 43: 3)،

"أنا أنا الرب وليس غيري مخلص" (إش 43: 11).

ويرى البعض أن الكلمة هنا تحمل معنى "الشفيع" عن شعبه، و"المدافع" أو "المحرر".

أما قوله "في زمن الضيق" فتُفهم أيضًا بمعنى "في زمن القحط"! حينما تشتد التجربة ويدخل الإنسان كما في مجاعة، لا يجد من يشفع فيه إلا الله مخلصه، الذي لا يقدم له حلولاً خارجية بل يقدم نفسه ينبوع مياه حية وغنى وشبعًا وراحة للنفس، فتتغنى قائلة: " الرب راعي فلا يعوزني شيء" (مز 23: 1).

يقول: "لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟

وكمسافرٍ يميل ليبيت؟" [8].

يُشبه الله بمسافر يطلب ملجأ ليقضي ليلة أثناء تجواله. وكأن إرميا وهو يقدم المرثاة يعاتب الله مخلص شعبه قائلاً: أليس شعبك هذا هو نصيبك، وأرضك، وبيتك المقدس؟ فلماذا تسير كمن هو غريبٍ عنهم، تطلب ملجأ لك خارج بيتك؟ هل تحّول بيتك إلى جحيم لا تطيقه، فتهرب منه كمن هو في وسط برية يطلب مكان راحة لمدة ليلة؟!

إننا لسنا غرباء عنك، ولا أنت بغريبٍ عنا، لا تنقصك الحكمة فتكون كإنسانٍ في حيرة، ولا القوة فتكون كمن لا يقدر أن يخلص. حضرتك وسط شعبك أكيدة، وقد دُعي اسمك علينا فلا تتركنا. إننا نتمسك بك يا مخلصنا!

لعل إرميا النبي يشارك موسى النبي الذي وقف يشفع في الشعب حين طلبوا رجمه مع هرون، فأراد الله أن يبيدهم ويقيم من موسى شعبًا أكبر وأعظم (عد 14: 12)، إذ قال للرب: "فإن قتلت هذا الشعب كرجلٍ واحدٍ يتكلم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين: لأن الرب لم يقدر أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم قتلهم في القفر" (عد 14: 15). كأن إرميا النبي يقول للرب: إن كنت اعترف باستحقاق الشعب للتأديب القاسي، لكن إذلالهم بواسطة أمة غريبة كالبابليين حيث يصيرون كمسافرٍ بلا مبيت يُنسب إليك، فتحسب أنت هكذا، لأن ما يحدث لشعبك ينسبه الأمم إليك شخصيًا، فيظنون أنك عاجز عن إنقاذهم وحمايتهم وإشباع احتياجاتهم.

جاءت إجابة الرب على المرثاة التي قُدمت باسم الشعب:

"هكذا أحبوا أن يجولوا.

لم يمنعوا أرجلهم، فالرب لم يقبلهم.

الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطاياهم.

وقال الرب لي: لا ُتصلِ لأجل هذا الشعب للخير" [10-11].

 نجد حوارًا مشابهًا بين الله والشعب في الرؤيتين اللتين سجلهما عاموس النبي (عا 7: 1-6)، غير أننا نجد في عاموس الله يستجيب للصلاة ويُنزع التأديب، أما هنا فالتأديب يحل بالشعب والحيوانات، مع تأكيد حتمية التأديب على المعاصي المرتكبة [10].

يتحدث الله مع شعبه في صيغة الغائب، قائلاً: "هذا الشعب"، وليس "شعبي"، إذ ينسحب الله من الانتساب إليهم، لأنهم خانوا العهد، بهذا فقدوا سمتهم كشعبٍ دخل مع الله في ميثاق، أي فقدوا حقهم في الحوار المباشر معهم كطرفٍ في العهد الإلهي.

أحبوا أن يجولوا... هنا كلمة "يجولوا" تشير إلى الأشجار التي تحركها الرياح يمينًا ويسارًا، أو إلى ترنح الإنسان المخمور الذي فقد اتزانه (إش 29: 9). هكذا صاروا يتحركون من هنا وهناك بلا هدف ولا اتزان، يجولون بعيدًا عن الله الطريق الحق. ليس لهم ضابط ولا التزام، فيسلكون طريق الإثم، لهذا استحقوا التأديب.

لقد أحبوا التجوال لا الاستقرار في حضن الله، ظانين أن حريتهم وسعادتهم خارج الحب الإلهي. هؤلاء يتطلعون إلى الاتحاد مع الله حرمانًا من الحرية وكبتًا وفقدانًا للملذات! يسلكون طريق الابن الضال الذي ترك بيت أبيه، لكن بقى قلب الأب ينتظر عودته ليرد له كرامته ويشبعه!

هنا يعود فيكرر الله طلبته لإرميا للمرة الثالثة ألاّ يُصلي لأجل الشعب كي يرفع الله عنهم التأديب. تكرار الطلب يؤكد أن إرميا لم يكف عن الصلاة من أجل الشعب، وكأن ما سأله الله إياه لم يكن أمرًا عصاه النبي، إنما هو إعلان عن عدم استجابة الصلاة في هذا الأمر (رفع التأديب) بالذات.

2. مسئولية الأنبياء الكذبة:

"حين يصومون لا أسمع صراخهم،

وحين يصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم،

بل بالسيف والجوع والوبأ أنا أفنيهم" [12].

ليس فقط يسأل إرميا ألا يُصلي لأجلهم، وإنما يرفض أصوامهم وذبائحهم وتقدماتهم (غالبًا ما يقصد بها الحنطة والدقيق والكعك كما جاء في لاويين 2)، لأنهم يقدموها طلبًا للعتق من التأديب، وليس للالتصاق به؛ يخافون الحرمان من الزمنيات ولا يهتمون بحرمانهم من الله، فإنه لا يطلب صلوات الفم والأصوام والتقدمات ما لم تقترن بالتوبة الصادقة والشوق الحقيقي للالتصاق به، والطاعة لوصيته، والتسليم الكامل لإرادته الإلهية.

v     ها أنتم ترون كيف لا يعتبر الله الصوم صالحًا في ذاته، إنما يصير صالحًا وسارًا متى اقترن بأعمال أخرى... وفي ظروف معينة لا يحسب الصوم باطلاً بل ومكروها[288].

الأب ثيوناس

التأديب بالسيف والجوع والوبأ ثالوث مرتبط معًا، تكرر 13 مرة في إرميا، كما تكرر في حزقيال (14: 21) وإشعياء (51: 19) الخ. وهم علامة اللعنة التي تحل بالشعب في فساده (تث 7: 12-16؛ 32: 23-25)، وأُعطى لداود النبي أن يختار التأدب بإحدى هذه الثلاثة عندما أخطأ (2 صم 24: 13) ويرى W. Holladay أن هذا الثالوث وُجد في التقليد اليهودي الشفوي قبل إرميا[289].

إذ يتحدث إرميا على لسان الشعب يكمل حواره مع الله كمن يُعطي عذرًا للشعب أنهم خُدعوا بواسطة الأنبياء الكذبة.

"فقلت: آه يا سيد الرب (اطلع)

هوذا الأنبياء يقولون لهم:

لا ترون سيفًا ولا يكون لكم جوع،

بل سلامًا ثابتًا أعطيكم في هذا الموضع.

فقال الرب لي: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي.

لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم.

برؤيا كاذبةٍ وعرافةٍ وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم" [13-14].

اتسم هؤلاء الأنبياء بالخداع والكذب، يخدعون حتى أنفسهم، فيظنون أفكارهم الخاصة بهم هي إرادة الله. بينما ينطق إرميا النبي بالحق الإلهي، ولو كان مؤلمًا غير مقبولٍ من الشعب. يتكلم الأنبياء الكذبة بالباطل، إذ ينطقون بالناعمات لإراحة ضمائر الخطاة. الأول يتحدث بلسان الرب ويعلن بأمانة عن إرادته وخطته وتأديباته، أما الآخرون فيتكلمون من عندياتهم.

"لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمي وأنا لم أرسلهم،

وهم يقولون: لا يكون سيف ولا جوع في هذه الأرض،

بالسيف والجوع يفني أولئك الأنبياء.

والشعب الذين يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف.

وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم.

وأسكب عليهم شرهم" [15-16].

أولاً: أخطأ الأنبياء الكذبة لأنهم يخدعون الآخرون ولو بكلمات معسولة لإراحة ضمائرهم.

ثانيًا: يتنبأون باسم الله الذي لم يرسلهم، فمن جانب يدعون كذبًا أنهم مرسلون منه، ومن جانب آخر ينسبون لله ما يقولونه كذبًا.

ثالثًا: كلماتهم المعسولة ليس فقط تعجز عن تقديم راحة صادقة للشعب، وإنما هم أنفسهم أيضًا يهلكون.

رابعًا: إن كان المنتمون لهم مخدوعين لكنهم ليسوا أبرياء، لأن الله أرسل لهم أنبياء يشهدون للحق الإلهي، فهم بلا عذر. لقد قبلوا وهم عميان أن يقتادهم عميان، فسقط الكل في حفرة التأديب الإلهي. عندما حذر السيد تلاميذه والشعب من الفريسيين قال لهم: "هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 15: 14). يليق بالمؤمن أن يكون له روح التمييز ليدرك النبي الحقيقي من المخادع.

خامسًا: لا يقف التأديب عند الأنبياء الكذبة والشعب، لكن حتى المدينة المقدسة تتنجس بجثث الموتى المُلقاه في شوارعها بلا دفن.

سادسًا: الهلاك على مستوى أسرى، فالتأديب يلحق بالرجل كما بالمرأة، وبالوالدين كما بالأبناء.

3. حوار بين الله والنبي:

في الحوار بين الله والنبي إرميا بخصوص ما يحل بالشعب من تأديبات بسبب شرورهم نلاحظ الآتي:

أولاً: ليس فقط الخليقة تئن بسبب القحط، وإنما يشاركها إرميا النبي نفسه، ليس حزنًا على الخسائر المادية، وإنما على ما بلغه الشعب من قحطٍ روحي من جهة كلمة الله وقبول إرادته.

"وتقول لهم هذه الكلمة:

لتذرف عيناي دموعًا ليلاً ونهارًا ولا تُكفا،

لأن العذراء بنت شعبي سُحقت سحقًا عظيمًا بضربة موجعة جدًا" [17].

أمر الله إرميا أن يكف عن الصلاة من أجل الشعب بخصوص رفع التأديب عنهم، لكننا لم نسمعه يأمره بالكف عن البكاء من أجلهم، بل بالعكس نراه هنا يطلب من إرميا أن يكون بكاؤه علانية، وأن يعلن للشعب أنه لن يتوقف عن البكاء ليلاً ونهارًا، بكاء من يئن لأجل عذرائه الوحيدة المنسحقة جدًا بضربة مرّة للغاية. كأن الله يعتز بهذه الدموع، لأنها تعبر عن المشاعر الإلهية خلال نبيه. فهو وإن أدّب لا يطلب لشعبه السحق العظيم بل الفرح المجيد بالتوبة والرجوع إليه.

هذا ومن جانب آخر فإن دموع النبي تشهد عن وداعة النبي، ينطق بالحق الإلهي لا في تشامخٍ وعجرفة كالأنبياء الكذبة بل بروح الاتضاع والانسحاق، مع مشاركة الشعب آلامهم.

اشتهي إرميا أن تتحول رأسه إلى ماءٍ وعيناه إلى ينبوع دموع ليبكي نهارًا وليلاً (9: 1). يبدأ بالنهار ويكمل بالليل، يرى أعمالهم نهارًا فيبكيهم، ويعود بالليل إلى مخدعه ليُصلي بدموع من أجلهم. أما بالنسبة لله، إذ يتحدث عن دموع إرميا فيقول "ليلاً ونهارًا"، ففي عينيه دموع الصلاة من أجلهم لها الأولوية عن دموعه في النهار وهو يراهم يخطئون.

لا يكفي أن نبكي أحباءنا، بل أن نُصلي حتى في الخفاء بدموعٍ عنهم؛ هذا أعظم وأثمن في عيني الله!

ثانيًا: هلاك عام في الحقول كما في المدن، بين الشعب كما بين الأنبياء الكذبة.

"إذا خرجَت إلى الحقل فإذا القتلى بالسيف،

وإذا دخلت المدينة فإذا المرضى بالجوع،

لأن النبي والكاهن كليهما يطوفان في الأرض ولا يعرفان شيئًا" [18].

وكما جاء في (تث 28: 6): "ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل".

يرى البعض في العبارة الأخيرة "يطوفان في الأرض (حيث) لا يعرفان شيئًا" إن النبي والكاهن إذ رفضا إرادة الرب هنا صار مصيرهما الجحيم، يطوفان هناك حيث لا توجد "المعرفة" بل يكونا في "جهالة"، ويرى البعض أن هذه النبوة تحققت بسبي يهوذا حيث أُقتيد الأنبياء والكهنة إلى أرض لا يعرفون عنها شيئًا.

ثالثًا: اكتشاف الرجاء الباطل الذي قدمه الأنبياء الكذبة بروح الخداع.

"هل رفضت يهوذا رفضًا؟!

أو كرهت نفسك صهيون؟!

لماذا ضربتنا ولا شفاء لنا؟!

انتظرنا السلام، فلم يكن خير،

وزمان الشفاء فإذا رعب" [19].

كنائبٍ عن الشعب الذي أعماه الأنبياء الكذبة بخداعاتهم يحاور الله متعجبًا كيف يرفض الله يهوذا، وتكره نفسه صهيون، ويضرب بلا شفاء، ينزع السلام ويسمح لهم بالرعب. كانت حجج الأنبياء الكذبة أن الله سلَّم إسرائيل لأشور لأنها انشقت عن مملكة يهوذا وعن السبط الملوكي، وحرموا أنفسهم من أورشليم التي تمثل صهيون. أما بالنسبة ليهوذا فليس من ضرباتٍ بلا شفاء، ولا من رعبٍ، بل صحة وسلام، لأنها تضم السبط الملوكي وتحتضن أورشليم مدينة الله حيث الهيكل والعبادة القانونية.

رابعًا: يستدر إرميا النبي مراحم الله، معترفًا بخطاياهم وخطايا آبائهم كأنها خطاياه الشخصية، إذ يقول:

"قد عرفنا يا رب شرنا، إثم آبائنا،

لأننا قد أخطأنا إليك" [20].

عندما يشير إلى آثام الآباء لا يعني أن الإنسان يجني ثمرة آثامهم، إنما هنا تأكيد أن الخطية متأصلة فيهم عبر الأجيال، وأنه توجد خطايا جماعية عاش الكل فيها جيلاً بعد جيل.

يتوسل إرميا إلى الله، ليس متكلاً على برٍ ذاتي، ولا على عبادةٍ ما، وإنما على الآتي:

أ. لأجل اسم الله القدوس:

"لا ترفض لأجل اسمك" [21].

حينما يُذكر اسم الله يُعني به الله نفسه، هذا واضح في صلاة السيد المسيح الوداعية: "وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26). اكتشف المرتل قوة اسم الله كمصدر قوة وفرح:

"لأننا على اسمه القدوس اتكلنا" (مز 33: 21).

"ارفعوا بنا اسمه جيعًا" (مز 34: 3).

"باسمك نرذل كل الذين يقولون علينا..." (مز 44: 5).

"باسمك نعترف إلى الدهر" (مز 44: 8).

"يبتهج بك محبوا اسمك" (مز 5: 11).

"أرنم لإسمك أيها العليّ" (مز 9: 2)

"ما أمجد اسمك في كل الأرض" (مز 8: 1).

ب. لأجل كرسي مجده:

"لا تهن كرسي مجدك" [21].

كرسي مجد الله هو السماء كما جاء (إش 66: 1)، غير أن النبي يدرك أن الله يُريد أن يقيم ملكوته في صهيون الروحية، في وسط شعبه حين يتقدس، فيُقال: "الله جلس على كرسي قدسه" (مز 47: 8). ويجلس الله في النفس المقدسة كما في عرشه، وكما يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [كرسي الله هم الصديقون، الذين لأجل طهارتهم يستريح الله فيهم[290]].

ج. من أجل الميثاق الذي أقامه الله مع شعبه:

"اذكر. لا تنقض عهدك معنا" [21].

د. لأنه الخالق وحده:

"هل يوجد في أباطيل الأمم من يمطر؟!

أو هل تعطي السموات وابلاً؟!

أما أنت هو الرب إلهنا؟!

فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه" [22].

إن كان الله قد سمح بالجفاف، فهو الخالق المهتم بخليقته، هو واهب المطر. ليس من يقدر أن يخلصهم من القحط إلا الخالق نفسه. الله الذي أجاب بنارٍ من السماء في أيام إيليا التهمت الذبيحة وكل المياه التي حولها، يستطيع أن يجيب بمطرٍ من عنده. وكما يقول زكريا النبي، "اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا ويعطيهم مطر الوبل" (زك 10: 1).

خامسًا: حوار إرميا النبي مع الله يشبه ما ورد في إنجيل (لو 13: 6-9) بين الكرام وصاحب الكرم، إذ توسل الأول لأجل التينة التي لم يجد فيها ثمرًا، قائلاً له: "يا سيد اتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً، فإن صنعت ثمرًا وإلا ففيما بعد تقطعها".

 

 


 

من وحي إرميا 14

إنك لا تُسر بجفاف بريتي

v     إني أعلم يا سيدي أنه بسبب خطاياي حلّ بي القحط!

لقد صرتُ فاترًا، وجفت ينابيع دموعي.

فقدتُ سلامي الداخلي وفرحي فيك.

وتحوّل فردوسي إلى برية جافة!

v     ارتعبت نفسي وامتلأت عويلاً عوض الفرح ببهجة الخلاص!

ليس عويل التوبة المملوء رجاءً فيك!

إنما هو عويل الصرخات المرّة اليائسة!

v     أصابني العار والخزي،

من يرد لي كرامتي ويهبني مجدًا؟!

كلت عيناي من الحزن... فقد ترقبتا الموت الأبدي!

من يهبني الاستنارة ويبعث في الحياة المُقامة؟!

v     إني أعلم يا سيدي أنك لا ُتسر بجفاف بريتي!

ليعمل روحك في داخلي كينابيع مياه حية!

يفضح جفاف بريتي ويبكتني على خطيتي!

يحول بريتي إلى فردوسٍ مبهجٍ مملوء من ثمر الروح!

ليصلب أعمال إنساني القديم ويهبني أعمال الإنسان الجديد!

ليحملني كما بجناحيّ الحمامة إلى حضن الآب السماوي!

ليفتح بصيرتي ولتشرق بنور وجهك عليّ!

ردّ لي كرامتي ولتمتعني بعربون المجد الأبدي!

v     أعترف لك إنني مستحق أن يحل بي القحط،

لكن نعمتك عجيبة وغنية،

وروحك القدوس واهب التوبة والتقديس!

متى أنطلق من البرية الجافة إلى فردوسك المقدس يا مخلصي؟!

v     أخيرًا أعلن بحق إني أخطأت أنا وكل بيت آبائي!

ليس لي ما يسندني إلا اسمك القدوس الذي دُعي عليّ.

لا ترفضني، فإني أختفي فيه، لأنني على اسمك اتكلت.

 أذكر أنك قبلتني كرسيًا لمجدك،

فلتقدسني ولتسترح في داخلي!

لقد كتبت ميثاق حبك العملي بدمك الثمين،

فلتعمل إذن فيّ يا مخلصي الحبيب!

<<


 

الأصحاح الخامس عشر

الشفاعة المرفوضة

يكمل هذا الأصحاح الحديث عن التأديب بالقحط، حيث يؤكد الرب حتمية هذا التأديب بسبب إصرار الشعب مع القادة على الشر، رافضًا كل شفاعة عنهم، حتى إن قدمها موسى وصموئيل النبيين.

v     القحط والتطلع إلى العصر المسياني.

1. الشفاعة المرفوضة [1].

2. التأديب [2-9].

3. انهيار نفسية إرميا إلى حين [10].

4. الله يسند نبيه [11].

5. سبي الشعب [12-14].

6. تعزيات وسط الآلام [15-18].

7. الله يشدد إرميا النبي [19-21].

1. الشفاعة المرفوضة:

"ثم قال الرب لي:

وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب.

اطرحهم أمامي فيخرجوا" [1].

نحن نعلم أن شفاعة النبي لدى الله من أجل الشعب كانت عملاً أساسيًا في حياته، لذا أراد الله تأكيد صدق نبوة إرميا بالرغم من عدم قبول شفاعته في أمر رفع التأديب، لأنه وإن تشفع موسى وصموئيل النبيين لن تُقبل شفاعتهما في ذلك الحين، ولن يُسمح للشعب أن يقف أمامه. كأن عدم قبول شفاعة إرميا ليس علتها ضعف في شخصه أو في عمله، وإنما في إصرار الشعب على عدم التوبة.

ذكر المزمور (99: 6) موسى وهرون وصموئيل كشفعاء عظماء يستجيب الله صلواتهم.

قدم لنا العهد القديم موسى شفيعًا في (خر 32: 11-14؛ 20: 34؛ 32: 30؛

عد 10: 13-19؛ 14: 13-19؛ تث 9: 26-29). كما قدم لنا صموئيل النبي شفيعًا في (1 صم 7: 5-11؛ 12: 19-25). قيل: "فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودًا ومطرًا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدًا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صلِ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت... فقال صموئيل للشعب: لا تخافوا... وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أُعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12). هكذا امتزجت صلواته وشفاعاته بتعليمه لهم ليعيشوا حسب العهد الإلهي.

لم يكن هذان النبيان شفيعين فحسب، بل كانا أيضًا وسيطين في أقامة عهد بين الله والشعب[291].

ذِكر هذين النبيين له معنى خاص بالنسبة لإرميا النبي، إذ كان يُنظر إليهما كنموذجين حيين لخدمته، حاسبًا نفسه خلفًا في سلسلة الأنبياء[292].

ُوصف إرميا في سفر المكابيين الثاني كشفيعٍ دائم: "فأخبرهم أيضًا برؤيا قد رآها وهي موثوق بها، فتشجعوا جميعًا. وهذه هي الرؤيا أن أحد رؤساء الكهنة، وهو شريف كريم صالح وفصيح، ومنذ حداثته منكب على كل فضيلة، وقد ظهر يمدّ يديه مستشفعًا لأجل الشعب. ثم ظهر شخص آخر بثياب فاخرة وبهيئة جميلة. فقال رئيس الكهنة إن هذا هو إرميا نبي الله، وهو محب لإخوته يشفع دائمًا لأجل الشعب والمدينة المقدسة" (2 مك 15).

من محبة الله لهم أنه لا يشفق عليهم إلى حين، ولا يقبل شفاعة الأنبياء عنهم حتى يرد غضبه، لأنه يريد خلاصهم الأبدي بالرجوع إليه أولاً. إنه لا يطلب أن يرفع التأديب المؤقت مهما بدا قاسيًا، إنما يُريد مجدهم الأبدي.

 الله الذي يُسر بوحدتنا وصلاتنا لبعضنا البعض يرفض أحيانًا حتى شفاعة قديسيه متى رأى فينا تهاونًا بخلاصنا، فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يفدينا. وكما يقول المرتل: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟" (مز 49: 7). حقًا إننا نُصلي لأجل بعضنا البعض، ونطلب صلوات القديسين عنا، لكن بروح الالتقاء مع المخلص نفسه كفادٍ وحيدٍ وفريدٍ.

v     يوجد بعض الناس يتكلون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّتهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدى، فهل يخلص إنسان؟" هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟![293]

القديس أغسطينوس

v     لا تتطلع إلى أخٍ لخلاصك... بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، هو وحده قادر أن يقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًا، الذي سفكه لأجلنا جميعًا...

ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج إلى تقديم فدية لله عن نفسه، ... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21) [294].

القديس باسيليوس الكبير

v     وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟ كلا، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثالٍ ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تصلِ لأجل هذا الشعب، فإنني لا اسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" [1] لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن توسل حزقيال يُقال له: "وإن وقف نوح ودانيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون..." وإن توسل البطريرك إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصى شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33) حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن فعل صموئيل ذلك ُيقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب يسمع ذات الإجابة التي قيلت لموسى: "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14)[295] .

v     أوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيراننا، لأن "الأخ لا يفتدى، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجْدَت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدى أعذارًا لكنه يُدان[296].

القديس يوحنا الذهبي الفم

سبق أن تحدثنا عن طلب صلوات أو شفاعات الغير بدون التوبة في تعليقنا على (7: 16؛ 11: 14).

إذ يتحدث العلامة أوريجينوس[297] عن قوة الصلاة، يرى في ارتباط شخص صموئيل النبي بموسى النبي هنا يحمل معه ذات الرتبة، هذا الذي أدركت والدته أنها عاقر والتجأت إلى الله بالصلاة فوهبها إيّاه.

يعلن هذا الحديث الإلهي عن عجز البشرية في التشفع في الخطاة حتى يأتي السيد المسيح. جاء في سفر حزقيال: "وطلبت من بينهم رجلاً يبني جدارًا ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجد" (حز 22: 30). لقد جاء ربنا يسوع المسيح، الإنسان الكامل، الذي وقف في الثغرة يشفع في البشرية، وكما جاء في إشعياء: "فرأى أنه ليس شفيع، فخلصت ذراعه لنفسه وبره هو عضده" (إش 54: 16). يقول الرسول بولس: "وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو 15: 8).

الآن إذ يرفض الله شفاعة أنبيائه عن الشعب يقول: "أطرحهم أمامي فيخرجوا" [1]. إنها تقابل قول إيليا النبي وتلميذه إليشع: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)، حيث يعني وجودهما أمام الله الذي يهبهما حضرته كسّر قوتهما؛ يثبتهما ويهبهما حالة القيام بغير انطراح أو سقوط. أما هذا الشعب وقد ارتبط بآلهة غريبة، ووضع ثقته فيها، ومسرته في الشهوات الجسدية والرجاسات، فلا يستحق الوقوف بل يبقى مطروحًا بلا عون، ويُطرد من الحضرة الإلهية... "لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأيّة شركة للنور مع الظلمة؟! وأى اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14-15).

في القديم وهب الله شعبه الخروج exodus، لكي يخرجوا من عبودية فرعون منطلقين إلى الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، حيث الشبع والحرية. الآن يطردهم من أمامه فيخرجوا exodus، لكنه خروج من حالة الحرية والشبع إلى العبودية لإبليس وشروره وإلى الفراغ.

2. التأديب:

"ويكون إذا قالوا لك: إلى أين نخرج؟

أنك تقول لهم:

هكذا قال الرب:

الذين للموت فإلى الموت،

والذين للسيف فإلى السيف،

والذين للجوع فإلى الجوع،

والذين للسبي فإلى السبي" [2].

يتساءل الشعب: "إلى أين نخرج؟"، لا في انتظارٍ إلى إجابة، ولا رغبة في تصحيح الموقف، إنما في نوع من التذمر.

يتم التأديب في إحدى الصور الأربع التالية: الموت أو السيف أو القحط أو السبي [2]. هذه الصور تكشف عن عمل الخطية:

أ. أجرة الخطية موت (رو 6: 23؛ تك 2: 17؛ يع 1: 15)، "كما أن البر يؤول إلى الحياة، كذلك من يتبع الشر فإلى موته" (أم 11: 19). بارتكابنا الخطية نعزل أنفسنا عن القدوس مصدر حياتنا، فندخل إلى الموت، الذي أبطله السيد المسيح بصليبه واهب القيامة (1 كو 15: 26).

ب. نسقط تحت سيف كلمة الله (عب 4: 12) الذي يضرب قلب المؤمن ليحطم الخطية ويجرح القلب بجراحات الحب. أما غير المؤمن فتصير كلمة الله التي للحياة هي بعينها للموت، يحطمه السيف، فيفقد سلامه الداخلي.

ج. بالخطية تدخل النفس في مجاعةٍ وقحطٍ لا إلى الخبز المادي، بل إلى كلمة الله، فلا تجد شبعًا في الكلمة ولا عذوبة، وكما قيل: "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب؛ فيجولون من بحرٍ إلى بحرٍ، ومن الشمال إلى المشرق يتطَوَّحون ليطلبوا كلمة الرب فلا يجدونها؛ في ذلك اليوم تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان" (عا 8: 11-13). هكذا تفقد النفس جمالها ونضرة شبابها لتدخل في قبحٍ وعجزٍ دائمٍ!

د. أخيرًا بالخطية نسقط تحت سبي إبليس، نفقد حرية مجد أولاد الله. لهذا جاء السيد المسيح ليُنادي للمسبيين بالعتق، ويقتنيهم لنفسه مسبيين لا للعبودية، بل لحبه الفائق، وكما يقول الرسول: "سبي سبيًا وأعطى الناس كرامات" (أف 4: 8)، واهبًا إياهم شركة الأمجاد الأبدية، حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21).

اختيار رقم 4 للتأديب يحمل معنى رمزيًا، إذ يشير إلى التراب أو إلى الأرض بكونها ذات أربع اتجاهات (شرق وغرب وشمال وجنوب)، وكأن ثمر الخطية هو أن يصير الإنسان أرضًا، لا يقدر أن يختبر السمويات.

"وأوكل عليهم أربعة أنواعٍ يقول الرب:

السيف للقتل،

والكلاب للسحب،

وطيور السماء ووحوش البرية للأكل والإهلاك.

وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض" [3-4].

كأن الإنسان الذي يقبل الخطية في حياته يصير فريسة لأربعة أمور:

فريسة للموت مع بشاعة الألم حيث تضربه الخطية كما بالسيف.

فريسة للمهانة والخزي، حيث تسحبه الكلاب على التراب، إذ يلتصق القلب بالتراب ويصير ترابًا عوض تمتعه بالملكوت السماوي. وكما قيل: "عار الشعوب الخطية" (أم 14: 34).

فريسة لطيور السماء، أي تفترسه الشياطين، خاصة شيطان الكبرياء.

أخيرًا يصير فريسة لحيوانات البرية التي تشير إلى شهوات الجسد، فتحطمه الشهوات ولا يقدر أن يقاومها.

إذ يسقط فريسة للموت الروحي، ويفقد الكرامة الحقيقية، وتنهشه الشياطين، وتحطمه شهوات الجسد لا يجد راحة أو استقرارًا، بل يصير في قلقٍ في كل ممالك الأرض! يصير مثل قايين الذي بسبب خطيته صار تائهًا على وجه الأرض.

هذه الأنواع من التأديب تشير إلى معاناة جسدية واجتماعية ونفسية. فالسيف يشير إلى المعاناة الجسدية، حيث يُقتل الجسد، أما سحب أجسادهم الميتة بواسطة الكلاب ونهشها بواسطة طيور السماء وحيوانات البرية فيشير إلى المهانة الاجتماعية، حيث تشترك الطيور والوحوش في تحطيم كل ذكرى لهم! كان الدفن في مقابر الأسرة فيه تكريم للميت، أما أن يُترك الميت للكلاب والطيور والوحوش ففيه مهانة بالغة. وأخيرًا المتاعب النفسية إذ يُدفعون للقلق في كل ممالك الأرض.

شعر القديس أغسطينوس بالجوع والعطش، فلجأ إلى الله واهب الشبع والسلام، مناجيًا إيّاه:

[إلهي... لقد جعلت نفسي قادرة على أن تسع جلالك غير المحدود، لئلا يكون لها شيء يقدر أن يملأها سواك!...

إلهي... إنك صنعتنا لأجلك... لذلك يبقى قلبنا مضطربًا، قلقًا، عديم الراحة على الدوام حتى يستريح بك[298]].

ربما يتساءل البعض: لماذا يسلمهم الله للهلاك؟ فيجيب:

"من أجل منسى بن حزقيا ملك يهوذا،

من أجل ما صنع في أورشليم" [4].

كان حزقيا رجلاً صالحًا، طهّر الهيكل من الرجاسات الوثنية، لكن تبوأ ابنه عرش يهوذا سنة 693 ق.م وهو ابن اثنتى عشرة سنة، واشتهر في أول ملكه بنشر العبادة الوثنية والرجاسات مع العنف وسفك الدماء، فصار الشعب أشر من الأمم (2 مل 21: 2-9). ذُكر على وجه الخصوص لأنه كان أشر ملوكهم، أو لأنه مَلَكَ أكثر من غيره، فلم يُنسَ بعد في أيام إرميا (2 مل 21: 10-15).

هنا تظهر خطورة القائد، متى تنجس قلبه أفسد المجتمع، فتصير الصلوات (بغير التوبة) مرفوضة، حتى إن قدمها موسى أو صموئيل أو إرميا. لقد حلَّ غضب الله على الجماعة التي أفسدتها القيادة الشريرة.

إن كان النبي قد ألقى بالضوء على خطايا الملوك وعائلاتهم لكنه أكد مشاركة الشعب لهم في خطاياهم، ومسئوليتهم المشتركة معهم، لم يُوجد إنسان واحد بار في يهوذا (5: 1)، فلا يستطيع أحد أن يحتج بأنه هو شخصيًا لا يستحق التأديب. اشترك الكل في الرجاسات والارتداد عن الإيمان بقبولهم العبادة الوثنية جنبًا إلى جنب مع عبادة الله الحيّ. اشترك الكل في عار الأمة، إذ هم وارثون لأمة قاومت الله منذ بدايتها (2: 5 الخ)[299].

"فمن يشفق عليكِ يا أورشليم؟

ومن يعزيكِ؟

ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟" [5].

هذا هو عمل الخطية الذي نراه واضحًا في حياة البشرية، الشعور بالعزلة والوحدة. ليس من يقدر أن يشارك الإنسان مشاعره الحقيقية ولا من يعزيه، حتى وإن اجتمع حوله المئات أو الألوف وربما الملايين؛ حتى وإن نال شهوة عالمية أو كرامة فائقة... ففي أعماقه لا يجد من يعزيه ويسأل عن سلامته أو يحييه. هذا ما دفع بعض الممثلين المشهورين الذين نالوا شعبية تقدر بالملايين إلى الانتحار. لأنهم إذ يفقدون الله مصدر تعزيتهم وسلامهم يدركون أن كل من هم حولهم لا يستطيعون أن يهبوهم شبعًا داخليًا، أو سلامًا حقيقيًا أو يحبونهم بإخلاص.

هذا هو علة تزايد نسبة المرضى نفسيًا حتى في البلاد المتقدمة، بالرغم من تكاتف كثير من القوى لإشباع كل احتياجات الإنسان اقتصاديًا وعلميًا واجتماعيًا ونفسيًا... لكن يبقى أمر واحد وهو الاتحاد مع القدوس واهب السلام.

يتساءل إرميا النبي: "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ [5]. إن كنتِ لا تشفقين على نفسكِ، بل سلمتي أعماقك للسيف والجوع والسبي... قبلتي الموت والعار والمذلة، فمن يشفق عليكِ؟ من يقدر أن يعزيكِ؟ من يهتم بكِ ويسأل عن سلامتكِ؟ تأتى الإجابة كما في أغلب الأسئلة الواردة في هذا السفر: "المسيا المخلص!"، هو وحده يشفق على الخاطى، ويهتم به ويعزيه، ويرد له سلامه بعمل صليبه. لم يعد أحد يشفق على أورشليم، أعداؤها يشمتون فيها، وأبناؤها يهلكون، وأصدقاؤها يهربون أمام فادحة الخطر الذي لحق بها.

لا تنتظر يا عزيزي أحدًا يشفق على أورشليمك الداخلية، إلا الله الآب الذي أحبك وأسلم ابنه الوحيد للصليب لأجل خلاص نفسك، فتترنم مع الرسول قائلاً: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو 8: 32).

من يشفق عليك إلا السيد المسيح مخلصك، وكما يقول الرسول: "من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا" (رو 8: 34). إن التقيت معه الآن بالتوبة تشفق على نفسك. لا تتنظر أبًا أو أمًا أو أخًا أو صديقًا يهتم بخلاصك، بل التقِ به، لأن نفسك ثمينة في عينيه، أعظم من كل العالم! من يعزيك ويهبك السلام الداخلي إلا الروح القدس المعزى، يبكتك على خطية ويقدم لك الغفران، يصالحك مع الآب في استحقاقات دم المسيح!

يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة قائلاً:

[نريد أن نفهم جميع تلك الكلمات المملوءة وعيدًا لأورشليم:

"فمن يشفق عليك يا أورشليم؟!

ومن يعزِّيك؟!

ومن يميل ليسأل عن سلامتك؟!

 أنتِ تركتِني يقول الرب.

إلى الوراء سرتِ، فأمد يدي عليكِ، وأهلككِ.

مللتُ من الندامةِ.

وأذريهم بمذراة في أبواب الأرض.

أثكل وأبيد شعبي".

لقد وَضَعَتْني هذه الكلمات في مأزق، وهو محاولة التوفيق بين صلاح الله ورفضه الرحمة لشعبه.

أقدم مثالاً: لو أن ملكًا حكم على إنسانٍ في مملكته بأنه عدو له، فإنه لا يليق بأي شخص أن يُظهر تعاطفًا مع ذلك العدو أو يبدى أية شفقة عليه، وإذا فعل ذلك حُسب هذا إساءة إلى الملك وإلى أحكامه.

إذا فهمت هذا المثل، أنظر إذن إلى الإنسان المحكوم عليه من قِبل الله من أجل خطاياه الكثيرة، ولاحظ أنه لا يحصل على أية شفقة من الملائكة، رغم أن وظيفة هؤلاء الملائكة هي خدمة الطبيعة البشرية ونجدتها وإنقاذها. لأنه ليس أحد من الملائكة حين يرى أن الله هو القاضي، وأن الذي حمى غضبه هو الخالق، وأن الخطايا وصلت إلى درجة ألزمت الله - إن صح هذا التعبير - الصالح على توقيع الحكم ضد الخاطئ... أن يشفق ولا أن يحزن ولا أن يطلب الرحمة أو السلام من أجل إنسانٍ مثل هذا.

نفترض فعلاً أن أورشليم هذه - لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي - هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح، وعظمت خطاياها أمامه، حتى قال لها: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت 23: 37). وأن أورشليم هذه، هي التي أُهمِلَت وتُرِكَت من الله. وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم، والذين من خلالهم سُلِّمت الشريعة لموسى، تركوا أورشليم وقالوا: إن خطاياها أصبحت عظيمة؛ لأن شعبها قتلوا السيد المسيح ووضعوا عليه الأيادي. وحينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع وأن نطلب من أجلهم، وكان في استطاعتنا أن نشفق على أورشليم، لكن الآن وبعد هذه الجريمة "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ "قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة" (مرا 1: 8).

 نعم لنفترض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها: "فمن يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ؟" يجب علينا نحن أيضًا ألا نشفق على أورشليم ومصائبها، ولا نحزن على ما أصاب شعبها، لأنه: "بزلتهم صار الخلاص للأمم (لنا) لإغارتهم" (رو 11: 11).

انتقل من التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي، مُطَبّقًا ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم، التي كانت قبلاً تُدعى "يبوس"... ثم تغير اسمها فيما بعد إلى أورشليم. يقال أن "يبوس" ترجمتها "مَدُوسة بالأَقدام". إذن، يبوس "النفس المدوسة بالأقدام" من قوات العدو، تغيرت وأصبحت أورشليم "رؤية السلام". بعدما صارت يبوس أورشليم[300] أخطأت. إن "دست بأقدامك" دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد، وإن سقطت في خطايا عظيمة، يقال عنك: "من يشفق عليكِ يا أورشليم ومن يعزيكِ"، طالما وَصَلْتَ إلى حد خيانة مسيحك. كل واحدٍ فينا حينما يخطئ، خاصة الخطايا الجسيمة، يخطئ ضد السيد المسيح نفسه. "فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِّسَ به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟ (عب 10: 29). فإن دست ابن الله واستهنت بروح النعمة، من يشفق عليكِ ومن يعزيكِ؟ "ومن يميل ليسأل عن سلامتك"؟ إنه ابن الله، الذي خانه الخطاة، هو نفسه الذي سأل عن سلامنا؛ فمَن مِن بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا؟ لندرك جيدًا أن "الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). متى أدركنا تلك الكلمات وفهمنا معناها، يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يُقال عنا نحن أيضًا: "من يشفق عليكِ يا أورشليم؟ ومن يعزيكِ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتكِ؟"[301]].

"أنتِ تركتيني يقول الرب.

إلى الوراء سرتِ،

فأمد يدي عليكِ وأهلككِ.

مللت من الندامةِ" [6].

إن كان الله قد أخرجها من حضرته لتتقبل ثمر فعلها: الموت أو السيف أو الجوع أو السبي، فإنه لم يفعل هذا من عنده، إنما هي تركته وسارت متراجعة عنه، وقد طال انتظاره لرجوعها وأخيرًا سلمها لرغبتها، فسقطت تحت المرّ.

لئلا يظن أحد أن الله يعاقب الشعب كله من أجل خطايا منسى الشخصية يوجه حديثه إليهم كعروسٍ له، قائلاً: "أنتِ تركتيني" [6]. لقد تحالفتي مع منسى وشاركتيه شره... وانتظرت عودتكِ لكنكِ تشبثتي بترككِ إيّاي.

يترجم البعض "أنتِ تركتيني" هكذا "أعطيتني القفا" [10]، حيث تحمل معنى رفض سلطان الله عليها.

بتركها الرب سارت كالعروس الخائنة التي تسير وراء رجلها متراجعة عنه، لا تريد الالتقاء أو الاتحاد معه. يُستخدم تعبير "الرجوع إلى الوراء" عن العدو المنهزم (مز 9: 4؛ 56: 10)، وكأنها دخلت في عداوة ضد الله فتركته، وأصابتها الهزيمة، وتقهقرت إلى الوراء.

يمد الرب يده أو يبسطها لكي يحتضن النفوس الساقطة الراجعة إليه، يبسطها على الصليب ليضم العالم كله إليه، ويحمله إلى حضن أبيه كشعبٍ مقدسٍ وأمةٍ ملوكية تنعم بشركة المجد الأبدي. أما إن أصرت النفس على عنادها فيصير مدّ يد الرب لهلاكها عوض خلاصها، لأنها ترد الحب بالبغضة وطول أناة الله بالاستهانة.

يقول العلامة أوريجينوس:

["أنتِ تركتِني يقول الرب، إلى الوراء سِرتِ".

لأن مدينة أورشليم - التي تجعلنا نتذكر كل اليهود - تركت الرب، فقد قيل لها: "إلى الوراء سرتِ".

كان هناك وقت فيه سارت أورشليم إلى الأمام وليس إلى الخلف، أما حاليًا فهي تسير إلى الوراء: "ورجعوا بقلوبهم إلى مصر". أما بالنسبة لمعنى السير إلى الوراء أو الامتداد إلى ما هو قدام، فنشرحه كالآتي:

الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام؛ أما الذي يُوجد في وضع مضاد للإنسان البار فإنه يتذكر ما هو وراء ولن يمتد إلى ما هو قدام. وبتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل لنا: "فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه". يرفض سماع السيد المسيح حين يقول: "تذكروا امرأة لوط". يرفض سماع السيد المسيح القائل: "الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله". وفي العهد القديم مكتوب أيضًا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: "لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 17). "لا تنظر إلى ورائك" امتد دائمًا إلى ما هو قدام؛ لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذن إليها؛ لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما؛ "ولا تقف في كل الدائرة". حتى إذا أطعت الأمر الأول "لا تنظر إلى ورائك"، هذا غير كافٍ لإنقاذك إن لم تطع الأمر الثاني أيضًا: "لا تقف في كل الدائرة".

إن بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألاّ نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إن أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبدًا إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكانٍ آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين[302]].

يرى العلامة أوريجينوس في مدّ يد الرب إشارة إلى تجسد الكلمة، حيث مد الآب يده، أي أعلن عن ذاته بتجسد ابنه، مدّها بالحب ليحتضن العالم كله بذبيحته الفريدة.

هكذا بالتجسد يمد الله يده لنا، فنقول مع القديس يوحنا: "فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1 يو 1: 2). بيده المبسوطة ينال المؤمنون الخلاص بينما يهلك الآشرار المصممون على عدم الإيمان، إذ قيل: "لهؤلاء رائحة موتٍ لموتٍ، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16). وكما قال السيد المسيح لغير المؤمنين: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22).

أخيرًا إذ رفضوا يده الممدودة قال: "مللت من الندامة" [6]. وقد جاءت كلمة "مللت" بمعنى "تعبت"، كأن الله قد انتظر طويلاً لعلهم يرجعون، مشبهًا نفسه بالعريس الذي يمد يده لعروسه الخائنة مترقبًا عودتها، وقد طال انتظاره جدًا.

لعل تعبه يشير إلى أنه في انتظاره لم يكن في موقفٍ سلبي، بل بذل كل الجهد لردها إليه كمن تعب، لأنه يرى هلاكها القادم حيث تلقي نفسها بنفسها فيه. فهو وإن سمح بتأديبها لكنه يتعب إذ يريد راحتها وفرحها وسلامها ومجدها وخلاصها الأبدي.

يرى البعض أن بقوله "مللت من الندامة" [6]، يعني أن الله قد ملَّ من ندامة الشعب الباطلة، إذ يترددون متذبذبين بين الانغماس في الشر والدعاء لله.

تأكيده "أمدّ يدي عليكِ" [6] يوضح أن ما سيحل عليها من أسر البابليين لها لا يرجع إلى قوة بابل وإنما إلى سماح الله لهم بذلك لتأديبها. فالسبي ليس ثمرة معركة بين بابل ويهوذا، إنما هو ثمرة سقوط وانحلال مملكة يهوذا واعتزالها إلهها رب الجنود، مصدر قوتها.

وصفها كعروس خائنة متراجعة أو كمن جعل من نفسه عدوًا لله فتقهقر، ومع ذلك يعمل الله لرجوعها، قائلاً:

"وأذريهم بمذراةٍ في أبواب الأرض.

أثكل وأُبيد شعبي.

لم يرجعوا عن ُطرقهم.

كثرت لي أراملهم أكثر من رمل البحار.

جلبت عليهم على أم الشبان ناهبًا في الظهيرة.

أوقعت عليها بغتة رعدة ورُعبات.

ذبلت والدة السبعة،

أسلمت نفسها.

غربت شمسها إذ بعد نهار.

خزيت وخجلت.

أما بقيتهم فللسيف أوقعها أمام أعدائهم يقول الرب" [7-9].

لا يستبعد أن تكون عبارة "أبواب الأرض" إشارة إلى مجدون بكونها الزاوية الشمالية الغربية من البلاد، دخل فيها وخرج منها جيوش كثيرة عبر التاريخ.

أ. يشبههم بالمحصول الذي ليس فيه حنطة بل كالقش، متى قام المزارع بتذريتهم يحملهم الريح ويبددهم العاصف، هكذا تبددوا إلى بابل في السبي. لا يذريهم في الحقول بل "في أبواب الأرض"، ماذا يعني هذا؟ من كان حنطة يستحق الدخول إلى أبواب صهيون الحقيقية، ليكون في بيت الرب، أما من كان قشًا فيدخل في أبواب الهاوية (إش 38: 10).

ب. يشبّه مملكة يهوذا بسيدة رفضت أن تكون ابنة لله، ففقدها وصار كمن هو محروم من ابنته. تفقد هي أيضًا رجلها وبنيها وُتحرم منهم، فتصير أرملة وثكلى.

في الميثاق المبرم مع إبراهيم ويعقوب كان الوعد أن نسلهما يكون كرمل البحر (تك 22: 17؛ 32: 13)، الآن وقد حقق لهما الوعد كسَر الشعب الميثاق وتعرض الشباب للموت فصارت أراملهم أكثر من رمل البحر.

ج. لا يحدث ذلك تدريجيًا إنما دفعة واحدة في وقت الظهيرة، حتى تصير الأم التي لها سبعة شباب أرملة، تفقدهم معًا فتشتهي الموت، تصير لها الظهيرة ظلامًا، وكأن النور يفارق عينيها.

إذ يشير رقم 7 إلى الكمال، هذا يعني أنها أنجبت كل ما يمكن من الأولاد ولم تعد لديها قدرة بعد على الإنجاب، ومات الكل معًا، خاصة وأنها فقدت رجلها وترملت. هذا ما حوّل ظهيرتها إلى ظلمة!

جاء في تسبحة حنة أم صموئيل: "حتى أن العاقر ولدت سبعة، وكثيرة البنين ذبلت" (1 صم 2: 5). وكأن إنجاب سبعة بنين يحمل علامات البركة (4: 15)، وبالتالي فقدانهم في وقت الظهيرة يحمل معنى اللعنة.

لعله يقصد أيضًا بالظهيرة أن الأرملة تفقد أولادها وهم في ظهيرة عمرهم، أي وهم شباب ناضرون، أو لأن نبوخذنصر سبي يهوذا وهو شاب في ظهيرة عمره. هذا وقد سباها بقوة كما في الظهيرة ولم يأتِ كلصٍ خائفٍ في الليل.

بقوله: "غربت شمسها إذ بعد نهار" [9] تشير إلى حالة الحداد التي صارت فيها مملكة يهوذا، فقد لبست النساء الملابس السوداء بعد قتل الرجال والأولاد، حيث صار الكل أرامل، فصارت المدن في وسط النهار كأنها ليل دامس، لا يُرى فيها غير السواد.

3. انهيار نفسية إرميا إلى حين:

شعر إرميا النبي بالضعف الشديد، فمن جهة كانت كلمة الله كنارٍ في قلبه، لم يحتمل برقة مشاعره ما سيحل بشعبه من قحطٍ ودمارٍ، وحين التزم أن ينطق بها ظنه الشعب أنه قاسى القلب، عنيف، غير وطني. هنا اشتهى إرميا لو لم يُولد.

"ويل لي يا أمي،

لأنكِ ولدتني إنسان خصام،

وإنسان نزاع لكل الأرض.

لم أقرض ولا أقرضوني،

وكل واحدٍ يلعنني" [10].

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلاً:

[أما بالنسبة للكلمات: "ويل لي يا أمي..."، فإنني أعتقد أن تلك الكلمات لا تناسب أي نبي آخر ولا توافقه مثلما تناسب إرميا. لم تبدأ نبوة معظم الأنبياء إلا بعد زمنٍ معينٍ، فبعدما تابوا ورجعوا عن خطيتهم أقامهم الله ليتنبأوا، أما إرميا فكان يتنبأ منذ طفولته. ويمكننا أن نستعين بمثال من الكتاب المقدس؛ إن إشعياء لم يسمع من الله تلك الكلمات: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب" (1: 5)، كما لم يقل إشعياء للرب: "إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (1: 6). بل حينما رأى الرؤية التي يقول عنها في نبوته، نظر وقال: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (إش 6: 5)، ثم يقول بعد ذلك: "فطار إليّ واحد من السرافيم وبيده جمرة... ومس بها فمي وقال إن هذه قد مست شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك". إذن بعدما ارتكب إشعياء الخطايا ثم تاب عنها أصبح مستحقًا أن يأخذ الروح القدس ويتنبأ. تجد أشياء مشابهة بالنسبة لأنبياء آخرين. أما إرميا فلم يكن مثلهم: كان لا يزال في المهد حينما أخذ روح النبوة وتنبأ منذ الطفولة. لذلك عنه قيل: "ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض".

لكن يقول أحد المفسرين الذين سبقوني في تفسير هذا النص كان إرميا يوجه هذه الكلمات ليس لأمه حسب الجسد، وإنما للأم التي ولدت الأنبياء. من هي التي ولدت الأنبياء إلا حكمة الرب؟ ذكر الإنجيل كذلك أبناء للحكمة: "والحكمة تبررت من جميع بنيها" (لو 7: 35).

إذًا مكتوب: "ويل لي يا أمي (الحكمة) لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه)". فمن أنا حتى لا أولد إلا ليكون محكومًا عليّ وأكون مُخاصمًا من الناس بسبب عتابي ولومي لهم، وبسبب تعاليمي التي أعلمها لكل سكان الأرض؟[303]].

ويل لي يا أمي

حديثه هنا لا يستلزم أن والدته كانت على قيد الحياة، وأنه يخاطبها، إنما يعلن بطريقة مجازية كيف أنه إن كان قد دُعي للخدمة وهو بعد في الأحشاء (1: 5) رُفض أيضًا منذ البداية. إنها صرخة ليست موجهة إلى أمه بل إلى الله الذي دعاه للخدمة.

يصور لنا إرميا النبي كيف عاش في جوٍ رهيبٍ، فقد تحالف الأنبياء الكذبة مع الكهنة ضده، وأثاروا الملك وكل القيادات حتى الشعب ضده، فضاقت نفسه فيه، وحسب يوم ميلاده كأنه يوم ويلٍ.

إنسان نزاع لكل الأرض

 صار إرميا موضع نزاع العالم الذي حوله، ليس من يسنده ولا من يقبل كلمات الرب التي ينطق بها إلا تلميذه وكاتبه باروخ وربما قلة قليلة جدًا تكاد تضيع وسط التيارات المضادة. شعر أن الكل يلعنوه بدلاً من أن يباركوه، ليس من ينطق بكلمة بركة لأجل اخلاصه! دخلوا معه في خصومة، وقدموا ضده اتهامات لمحاكمته. كان إرميا رجل سلام لكنه إذ نطق بالحق تحول إلى رجل خصام، لأنه لم يكن ممكنًا أن يداهنهم على حساب خلاص نفوسهم وشركتهم مع الله.

هذا هو إحساس الكثيرين عندما يخدمون الرب، فيجدوا عدو الخير قد هيّج العالم الذي حولهم ضدهم! ما حدث لإرميا رجل السلام يحدث لمن يكرز بإنجيل السلام، وكما يقول السيد المسيح: "لا تظنوا إني جئت لألقى سلامًا على الأرض؛ ما جئت لألقى سلامًا بل سيفًا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة شد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 34، 36؛ لو 12: 49، 51).

إن كان إرميا قد هدد بالتأديبات الإلهية، لم يتكلم من واقع إنسان يعيش في حياة مترفة مدللة، وإنما كرجل آلامٍ وأتعاب، إنه مُجرب يعرف مرارة الألم.

غير أننا نجد في هذه العبارة ظلاً لموقف السيد المسيح الذي وُلد كإنسانٍ وهو ابن العلي، فهاجت الممالك ضده، وتآمر الملوك والرؤساء معًا، وتحالفت قوى القيادات على قتله وأثاروا الشعب طالبين صلبه... حيث "اللعنة" (تث 21: 23؛ غل 3: 13). رأي المرتل بعين النبوة ثورة العالم ضد السيد المسيح، فقال: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه" (مز 2: 1-2). في هذا يحمل إرميا ظل السيد المسيح الذي قيل عنه: "لأنه في ما هو قد تألم مُجربًا يقدر أن يعين المجربين" (عب 2: 18).

يقول العلامة أوريجينوس:

[يذهب أطباء الأجساد إلى المرضى حتى إلى فراشهم ولا يَكُفون عن بذل كل جهدهم، كما تتطلب منهم مهنة الطب، ليشفوا المرضى. وهم في ذلك يرون مناظر فظيعة ويلمسون أشياءً تثير الاشمئزاز؛ وأمام أوجاع الآخرين لا يحصدون لأنفسهم سوى الأحزان؛ حياتهم غير مستقرة أبدًا. لا يوجَدون أبدًا مع أناسٍ أصحاءٍ، وإنما دائمًا مع المجروحين والمفلوجين والمصابين بالقروح والصديد والحميات وكل أنواع الأمراض. إن أردنا أن نمارس الطب، علينا أن نقوم بكل ما تتطلبه منا هذه المهنة التي اخترناها، نقوم بها بدون اشمئزاز ولا إهمال عندما نلتقي بأي نوع من أنواع المرضى الذين ذكرناهم...

الأنبياء مثل أطباء الأرواح، يقضون كل وقتهم حيث يوجد المحتاجون إلى الشفاء، لأنه "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (لو 5: 31). ما يقاسيه الأطباء من المرضى المعاندين، يقاسيه أيضًا الأنبياء والمعلمون من الذين لا يريدون أن يُشفوا. يرجع سبب كراهية الناس لهم إلى فرضهم علاجًا يخالف ما يتمناه المرضى، يمنعون عنهم اللذات والشهوات التي يريدونها، لذلك يُصّر هؤلاء المرضى في عنادهم على عدم أخذ الأدوية المناسبة لمرضهم. يهرب المعاندون من الأطباء، بل وكثيرًا ما يسيئون إليهم ويهينوهم ويشتمونهم ويفعلون بهم كل ما يمكن أن يفعله الأعداء. يغيب عن ذهنهم أن الطبيب يأتي كصديقٍ وليس كعدوٍ. لا يرون سوى الجانب المؤلم من نظام العلاج واستخدام المشرط، دون أن يروا النتيجة التي تعقب الألم. يكرهون الأطباء كما لو كانوا لا يحملون إليهم سوى الآلام، ولا ينظرون إلى هذه الآلام كمرحلة من مراحل الشفاء.

كان ذلك الشعب الذي يسمى نفسه شعب الله مريضًا، مصابًا بكل أنواع الأمراض. أرسل الله إليهم الأنبياء مثل الأطباء، أحدهم إرميا. وجه إرميا عتابه للخطاة راغبًا في رجوعهم عن طرقهم. كان ينبغي أن ينصتوا إلى هذه الكلمات، لكنهم اتهموا النبي أمام القضاة والحكام، فكان متورطًا في قضايا مستمرة، اتهمه هؤلاء الذين كان يقوم برعايتهم، أي الذين كان يوجه لهم كلمات نبوته، لكنهم لم يُشفوا بسبب عنادهم. أمام كل هذا كان إرميا يقول: "فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورة في عظامي" (20: 9).

مرة أخرى يقول حينما يرى نفسه دائم التعرض للقضايا وللاهانات والشكاوى وشهادات الزور: "ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام". يريد أن يقول عن نفسه، أنه بدلاً من أن يدين الناس على خطاياهم، إذا به يُدان ويُحكم عليه، وبدلاً من أن يقاوم وينازع صار هو نفسه "إنسان نزاع لكل الأرض"[304]].

[لا أستطيع أن أجد تفسيرًا لكلمتي: "لكل الأرض". لم يصر إرميا إنسان نزاع بالنسبة لكل الأرض، إلا إذا قلنا أن "كل الأرض" يقصد بها كل أرض اليهودية، لأن نبوة إرميا لم تصل إلى كل الأرض حينما كان يتنبأ. لكن أليس من الأفضل أن نفعل كما فعلنا في أجزاء سابقة، فنطبق هذا الكلام على السيد المسيح بدلاً من إرميا؟ توقفت في البداية عند الكلمات التي تقول: "أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس"، لم يفعل إرميا شيئًا من هذا كله، وإنما السيد المسيح هو الذي قلع ممالك الخطية وهدم أعمال الشر، وأقام بدلاً منها مملكة الحق والعدل في نفوسنا. هكذا أيضًا تصلح هذه العبارة لتطبيقها على السيد المسيح أكثر منها على إرميا، ففي نظري يوجد العديد من العبارات التي يمكن تطبيقها على المخلص، لاسيما تلك العبارة التي نحن بصددها "إنسان نزاع لكل الأرض"[305]].

لم أقرض ولا أقرضوني

أراد السيد المسيح أن يقرض البشرية حياته ويقترض حياتهم، يدخل معهم في ميثاق حب، يقبلونه ميراثًا لهم، ويقبلهم نصيبًا له، لكنهم رفضوا هذا الميثاق، وعوض الحب صار "كل واحدٍ يلعنني" [10].

ربما يقصد بقوله "لم أقرض ولا أقرضوني" [10]، أنه لم يدخل معهم في معاملات مادية، التي غالبًا ما تسبب نزاعات حتى بين الأقرباء والأصدقاء، لكنهم خاصموه بلا سبب. ليس لديه زوجة ولا أولاد لكي يترك لهم ميراثًا، إنما يزهد كل شيء، مع هذا كانوا يلعنوه!

 يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "لم أقرض ولا أقرضوني" أو "لم اصنع صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا"، قائلاً:

[بما أن المرضى لم ينصتوا إليه حينما نصحهم كطبيبٍ، قال: "لم أفعل صلاحًا"، وبما أنه كان يقرض أمواله الروحية، ولم يريد الذين كان يتوجه إليهم ليعمل معهم الخير وليجعلهم مدينين له بما يسمعونه منه الإصغاء إليه، قال: "لم أُقرض ولا أقرضوني"[306]].

 [يوجد في الواقع نصَّان مختلفان لتلك الآية: ففي النسخ التي تتطابق مع النص العبري: "لم أُقرض ولا أقرضوني"...

كان إرميا يكرز بالكلمة، لكن لم ينصت أحد إلى كلامه. كان مثل طبيب يبدد أدويته بسبب عناد مرضاه الذين لا يريدون اتباع علاجه ولا أخذ أدويته.

كطبيبٍ يقول: "لم أفعل صلاحًا ولم يفعل لي أحد صلاحًا". ربما يرجع سبب التناقض في هذه الآية (لأن إرميا فعل صلاحًا) إلى شعور الحب والوِدّ الذي يحمله الإنسان الذي عُمِلَ معه الصلاح تجاه الإنسان الذي عَمَل له هذا الصلاح. ينتج عن هذا أن الذي يَكرز بالكلمة يأخذ هو أيضًا صلاحًا من كلمته (أي يحصل على حب السامعين له). وكما هو مكتوب: "طوبى لمن يتكلم مع أذنٍ تسمع". أعظم صلاح يمكن أن يجنيه المعلم من السامعين له هو أنهم ينمون ويتقدمون حتى يكون له ثمر فيهم (رو 1: 13). إذ لم يحصل إرميا على ذلك الثمر (الصلاح) من اليهود، قال: "لم يفعل لي أحد صلاحًا".

يوجد أيضًا صلاح آخر يمكن أن يحصل عليه كل معلمٍ متى كان تلاميذه أذكياء. إذ يمكن للمعلمين أن يصبحوا أكثر قوة وتتناقل تعاليمهم بواسطة الناس إذا كان السامعون أذكياء ولا يكتفون بمجرد سماع التعاليم إنما يتفاعلون معها ويسألون أسئلة ويستفسرون عن كل جوانب التعاليم التي يسمعونها.

لنفسر نفس الآية من النسخ الأكثر صحة "لم أصر مدينًا لأحد ولا صار أحد مدينًا لي". الإنسان الذي يعطي الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام (رو 13: 7)، والذي يؤدى جميع واجباته بصورة لا تجعله مدينًا لأحدٍ، والذي يكرم والديه كما يليق، ويكرم إخوته كما يليق بهم، ويكرم أولاده والأساقفة والكهنة والشامسة والأصدقاء ويعطي لكل إنسانٍ كرامته، مثل هذا الإنسان يمكنه أن يقول "لم أصر مدينًا لأحدٍ". أما عبارة "ولا صار أحد لي مدينًا" أفسرها كالآتي:

يقول إرميا: كنت أبحث عن مصلحتهم، كنت أحاول أن أعطيهم الغنى الروحي، أما هم فلم يقبلوا كلامي، بل رفضوه حتى لا يصيروا مدينين لي، بذلك "ولا صار أحد لي مدينًا".

بذلك يكون من الأفضل للسامع أن يقبل المال الروحي المُقَدَّم من المعلم وأن يكون مدينًا، عن ألا يكون مدينًا ولا يستفيد من التعاليم[307]].

4. الله يسند نبيه:

شدد الرب إرميا، مؤكدًا له أنه تكفيه نعمته، ففي الضعف يتبين قوة الله. إنه فتيلة مدخنة يحولها الله إلى نار ملتهبة، وقناة صغيرة يجعل منها ينابيع مياه حية. بهذا يجعل منه الحديد الذي من الشمال، والنحاس الذي لا يقوى إنسان على كسره [11-14].

"إن قال الرب: إني أحِلَّك للخير.

إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق" [11].

يترجمها البعض: "قال الرب: "إني أقسم، إني أسلِّحك حسنًا"، أي أقدم لك سلاحًا تغلب به في المعركة التي أقامها الشعب ضدك، وصاروا كأعداء يطلبون نفسك. لا يعني هنا سلاحًا ماديًا، إنما هو سلاح رمزي، حيث يشعر الشعب بحاجته إلى إرميا الذي طالما أرادوا التخلص منه. ويترجمها آخرون: "إني خدمتك حسنًا".

ربما تساءل إرميا: إن كان شعبي الذي لأجله أسكب كل حياتي ذبيحة حب، ومن أجله أبكى نهارًا وليلاً ويتوجع قلبي وتئن أحشائي قد دخل معي في خصام وصار يلعنني، فماذا يفعل بي العدو (بابل)؟ جاءت الإجابة من قبل الرب أن العدو سيتضرع إليه وقت السبي ويعامله بكل لطف أثناء الضيق. هذا ما حدث إذ طلب نبوخذنصر من القائد أن يعامل النبي بكل لطفٍ، ويترك له حرية الاختيار إن كان يبقى في بلده أو يذهب مع المسبيين.

إذ تتحقق النبوة ويدرك الشعب الذي دخل في عداوة مع إرميا خطأهم، يلجأون إليه، طالبين صلواته عنهم.

هل يقول السيد المسيح: "ويل لي..."؟

يقول العلامة أوريجينوس:

["ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". لا يستطيع أي نبي أن يقول "لكل الأرض". مع ذلك أعرف أناسًا يحبون ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ويشفقون عليه من الكلمات السابقة ولا يقبلون أن تكون هذه كلمات الرب ينطق بهذا. من أجل ذلك رأيت  من اللازم توضيح أنه ليس بالأمر الغريب أن يقول ابن الله "ويل لي"[308]].

[يجب أن نتحدث أولاً بشأن القول "ويل لي"، لأنها تبدو في نظر البعض غير ملائمة للسيد المسيح: أيمكن للمخلص الذي يشفق على الآخرين أن يقول "ويل لي"؟ نوضح ذلك بشواهد من الإنجيل لا يمكن أن تنطبق على أحدٍ سوى السيد المسيح.

كلمات الرثاء "ويل لي" ما هي إلا لإنسان يبكى، وقد بكى المخلص على أورشليم... قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم... الخ."

من الواضح أن نفس الشيء قاله المخلص في هذه الفقرة: "ويل لي لأني صرت كجنىَ الصيف، كخصاصة القطاف، لا عنقود للأكل، ولا باكورة تينة اشتهتها نفسي. قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس، جميعهم يكمنون للدماء" (ميخا 7: 1-2)، جاء في وقت الحصاد ليحصد قمحًا، فلم يجد سوى مجموعة من الخطاة الذين نموا وكثروا.

نطق السيد المسيح بكلمات مشابهة حينما تحدث مع الآب قائلاً: "ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة (إلى الجحيم)" (مز 30: 9)، لماذا فعلت كل هذا الصلاح مع بني الشر؟

ما الذي فعلوه ليستحقوا دمي الذي سُفك من أجلهم؟

ما الفائدة من دمي ومن نزولي؟!

لقد نزلت من السماء وجئت إلى الأرض وسلمت نفسي للفساد فلبست جسدًا بشريًا، فما هي الأعمال الصالحة التي عملها الإنسان حتى يستحق كل ذلك؟

"ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة؟! هل يحمدك التراب؟! هل يخبر بحقك؟!"

في جميع هذه الأقوال نجد تشابهًا بينها وبين ما قاله المخلص: "ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتني"، لا يقول ذلك بوصفه الإله أو المخلص، بل يقوله كإنسان.

نفس الشيء حينما يقول: "ويل لي يا نفسي، قد باد التقي من الأرض". كانت نفسه نفسًا بشرية، لهذا اضطربت (يو 12: 27)، وحزنت (مت 26: 38)، لكن الكلمة الذي كان في البدء عند الله لم يضطرب، ولا يمكن أن يقول عن نفسه: "ويل لي". لأن كلمة الله لا يموت أبدًا، الذي يموت هو الجسد الذي أخذه[309]].

لماذا قال النبي: ويل لي يا أمي؟

يرى العلامة أوريجينوس إنها دعوة لكي نتألم مع الأنبياء فنطوَّب معهم!

[الذين يطوبون الأنبياء ويتمنون أن يكون لهم نصيب معهم يلزمهم أن يتأملوا في الاعلانات النبوية ليكتشفوا سمو النبوات والأنبياء. عندما يتأملون في ذلك يقتنعون أنهم لو عاشوا حياتهم بنفس المقاييس التي اتبعها الأنبياء - رغم قسوتها بالنسبة لهم في هذه الحياة - ينعمون بالراحة والتطويب مع هؤلاء الأنبياء.

توجد في الكتاب المقدس مواضع كثيرة يمكننا أن نجد فيها ما يدل ويشهد على سمو مكانة الأنبياء وقوتهم وحريتهم ويقظتهم وروحهم النشطة، ونرى أنهم لا يضطربون حينما يقعون في تجارب أو متاعب وذلك بسبب حريتهم واستقلالهم الداخلي، فبوصفهم أنبياء يقولون كلمة الله، ويوبخون الناس ويلومون الخطاة بكل صراحةٍ وبكل حزمٍ، حتى إن بدى هؤلاء الخطاة أقوياء وعنفاء جدًا. يمكننا أن نجد هذه الدلائل والشهادات في مواضعٍ عديدة، فإننا نجد في آيات هذا اليوم أيضًا بعضًا من تلك الدلائل.

عاش إرميا النبي في وسط خطاة كثيرين جدًا، والدليل على ذلك حدوث السبي في عهده. لقد أنذر كثيرين ووبخ كثيرين ووجه كلامه إلى كثيرين وبسبب هذا كل حُكِمَ عليه من كثيرين، مما جعل كلماته تأخذ هذه النغمة.

لنبدأ إذن بكلمات النبي نفسه لنرَى هل يوجد عنده القوة والنشاط والحرية واليقظة والجرأة وغيرها من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في النبي.

"ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض": يقول النبي: آه يا أمي، لماذا جئتِ بي إلى العالم كرجلٍ محكومٍ عليه ورجل نزاع أمام كل الناس الذين على الأرض؟

هذا النبي مثله مثل إشعياء والأنبياء الآخرين، كان عليه أن يتمم وظيفته كنبي: يعلم وينذر ويوبخ. ويترتب على قيامه بهذه الوظيفة وإدانته للخطاة وحكمه عليهم أنه هو نفسه يُحكم عليه ويُحاكم مع الخطاة.

إن كان يجب علينا أن نذكر كل ما الشعب بالأنبياء، فإليكم هذه الأمثلة: لقد رجموا واحدًا، وقتلوا آخر بين الهيكل والمذبح، ونشروا ثالثًا، أما إرميا فألقوه في جبٍ لأنه كان ينذرهم. أيضًا مخلصنا الذي سلك بالأخص مثل الأنبياء، بل وأفضل منهم، إذ هو رب الأنبياء فعلوا به هكذا. إن كان السيد المسيح قد جُلِد وصُلِب وأُسلِم من اليهود ومن رؤسائهم ومن رئيس هذا العالم، فلأنه قال لهم: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المرائين" وظل يردد هذه الكلمة "ويل لكم" في كل مرة يوبخهم على شيء. نحن أيضا، إن أردنا أن نصل إلى التطويبات التي وُعد بها الأنبياء نسلك مثلهم، بحيث أننا من كثرة كلامنا وإنذارنا للخطاة ووقوعنا تحت الحكم بسببهم نقول: "ويل لي يا أمي، لأنك ولدتني إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض".

مع ذلك فإن هذه الكلمات يمكن أن تكون أكثر ملائمة إذا اعتبرنا أن المخلص هو الذي نطق بها. إن افترضنا أن النبي هو الذي نطق بها لن تكون صحيحة تمامًا بل تحمل شيئًا من المبالغة؛ فهو لم يصر إنسان نزاع "لكل الأرض". أما بالنسبة لمخلصنا نرى أن ربنا ومخلصنا يقف أمام الآب ليُحَاكَم معنا كلنا نحن البشر؛ خصوصًا بسبب تلك الكلمات: "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت". نعم لقد حُوكم مع كل الناس. وأقول أيضًا: حُوكم وفُحِصَ هو أيضًا ووقف أمام الحكم لكي يدافع عن الحق، لا ليدين أو يتهم أحدًا[310]].

مسيحنا يُحكم عليه فينا

يقول العلامة أوريجينوس:

["لأنكِ ولدتني إنسان خصام (محكوم عليه) وإنسان نزاع لكل الأرض". أنظر إذًا إلى الشهداء في كل مكان كيف حُكِم عليهم ووقفوا أمام القضاة، ترى كيف أن السيد المسيح هو الذي كان يُحكَم عليه في كل واحدٍ من هؤلاء الشهداء. لأنه هو الذي يُحكم عليه في هؤلاء الذين يشهدون للحق (يو 18: 37). من أجل ذلك ترضى أن تكون مُتَّهَمًا ومحكومًا عليك حينما تراه يقول إنك لست أنت المسجون بل أنا، لست أنت الجائع، بل أنا. "لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ" (مت 25: 36).

يكفي أن يُوضع إنسان مسيحي تحت الحكم، ليس بسبب أخطاء شخصية، وإنما لأنه مسيحي، عندئذ يُحكم على السيد المسيح لا عليه، بذلك أصبح السيد المسيح بالفعل إنسانًا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض".

في كل مرة يُحكم على إنسانٍ مسيحي يُحكم على السيد المسيح نفسه وليس فقط في قضايا من هذا النوع (أي الشهادة للحق). نفترض أن مسيحيًا أُتهم ظلمًا بأي شيء وحُكِم عليه باطلاً، ففي ذلك يكون السيد المسيح هو الذي حُكِم عليه باطلاً[311]].

عدم الإيمان هو حُكم على المسيح

يقول العلامة أوريجينوس:

["لأنكِ ولدتني إنسانٍا محكومًا عليه وإنسان نزاع لكل الأرض". إليك أيضًا طريقة أخرى لفهم هذه الآية.

منْ ِمنَ الناس لا يحكم على عقيدة المسيحيين؟

منْ ِمنَ الشعوب لا يتفحصها بأساليب معقدة؟

منْ ِمنَ اليهود واليونانيين لا يتحدث عن المسيحيين؟

منْ ِمنَ الفلاسفة ومنْ ِمنَ الناس لا يتناقش في أمر المسيحية؟

السيد المسيح محكوم عليه ومقضي عليه في كل مكان، البعض يدينوه في حكمهم والبعض لا يدينوه. بالنسبة للذين لا يدينوه من السهل عليهم قبوله؛ يفتحون له الباب فيدخل (رؤ 3: 20)، وبالتالي يؤمنون به. إن لم يقبله الناس عند سماعهم عن التعاليم المسيحية، فإن عدم قبولهم له ما هو إلا إدانة للسيد المسيح واتهام ضده بأنه يُضل الناس ولا يقول الحق، طالما لا يؤمنون بتعاليمه.

جميع الذين يرفضون أن يؤمنوا به يحكمون عليه ويدينوه، وجميع الذين تساورهم الشكوك من جهته - دون أن يرفضوا الإيمان - يتنازعون بشأنه.

 إذا حملت صورة السماوي وخلعت عنك صورة الترابي، لن تكون بعد ترابًا تدينه، ولا أرضًا يُدان فوقها، لن تكون أرضًا ينازعونه عليها[312]].

قوة الله تزداد وتضعف فينا

يقول العلامة أوريجينوس:

["وكل واحدٍ يلعنني" أو "ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني".

يقول بولس الرسول عن المخلص إنه قد صُلب عن ضعف (2 كو 13: 4). كما يقول أيضًا إشعياء النبي عنه: "يارب من صدق خبرنا؟! ولمن استعلنت ذراع الرب؟! نبت قدامه كفرخٍ وكعرقٍ من أرضٍ يابسة. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكَمُستِّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا" (إش 53: 1-5). حمل ضعف خطايانا وحملنا نحن أيضًا، جاء إلى الذين يلعنوه، وحينما نزل من السموات ضعفت قوته أمام الذين يلعنوه، لأنه كما يقول الرسول: "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 7).

"ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني".

أحاول بنعمة الرب أن أقدم تفسيرًا أوضح لتلك الآية وأفضل مما سبق. "كان النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيًا إلى العالم" (يو 1: 9). ابن الله هو النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسانٍ آتيًا إلى العالم، وكل إنسانٍ عاقلٍ ينتمي إلى هذا النور الحقيقي، غير أن كل البشر عاقلون. كل البشر ينتمون إلى الله الكلمة، لكن بعضهم يرى أن قوة المخلص زادت والبعض الآخر يراها ضعفت.

لو نظرت إلى نفسٍ وقعت فريسة للشهوات والخطايا ترى قوة المخلص تضعف، بينما لو نظرت نفسًا بارة وتقية، ترى قوة المخلص تثمر فيها من يومٍ إلى يومٍ؛ حينئذ يمكن تطبيق ما قيل عن السيد المسيح، على النفوس البارة: "وكان يسوع ينمو في الحكمة والعمر والنعمة أمام الله وأمام الناس".

يقول الكلمة ابن الله: "ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني". إذا لعن أحد الابن الكلمة ينال عقابه على هذه اللعنة وعلى انتقاده تعاليم السيد المسيح، ويتمثل هذا العقاب في أن قوة السيد المسيح تضعف عند هذا الإنسان، بل وتُنتزع منه تمامًا. والعكس صحيح، إذا بَاركْتَ السيد المسيح وقبِلْته تنمو قوته وتزيد فيك[313]].

مسيحنا الشفيع في مضايقيه

يقول العلامة أوريجينوس:

["فلتأتِ يارب، إذا سلكوا بالاستقامة، ألم أقف أمامك في وقت شدتتهم؟" (15: 11 LXX).

"فلتأتِ يارب": ما هي هذه التي تأتي؟ نضيف بقدر استطاعتنا بعض كلمات بعد "فلتأتِ" لنوضح معنى الآية. نقول: "يارب، إذا سلكوا بالاستقامة فلتأتِ فيهم القوة التي ضعفت عندهم حينما لعنوني"، حتى بعدما نطقوا بالشر عليّ ثم تابوا، يسلكون في الطريق المستقيم ويتبعونه.

يبرر موقفه حينما يتحدث عن الذين ينطقون عليه شرًا: "ألم أقف أمامك في وقت شدتهم؟" وقف السيد المسيح أمام الآب وقدم نفسه كفارة لخطايانا (1 يو 2: 2)، وتشفع من أجلهم في وقت شدتهم. إنه لا يقف أمام الآب بعد انتهاء شدتنا، بل أن "المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 5: 6). "ألم أقف أمامك في وقت شدتهم وفي وقت ضيقتهم لأنقذهم من أمام وجه العدو": حتى في وقت ضيقتهم، وقت تعرضهم لمواجهة العدو، وقفت أمامك لكي أدافع عنهم.

ومن هو هذا العدو إلا "إبليس خصمنا" (1 بط 5: 8)، الذي يضايقنا؟

من الواضح أنه في وقت عداوة الشيطان للإنسان وقف مخلصنا أمام الآب وصلى وطلب من أجلنا نحن المأسورين حتى يفتدينا من عبودية العدو[314]].

نزع النبوات (الكنوز) عنهم

يقول العلامة أوريجينوس:

[سواء كانت هذه الكلمات خاصة بالمخلص أو بإرميا، لأن إرميا يمكن أن ينطق أيضًا بهذا الكلام ويصلي من أجل الشعب في وقت شدتهم، فإن الرب يجيب بعدها على الشعب المُتهم من قِبَل النبي أو من قِبَل السيد المسيح، قائلاً: "هل يكسر الحديدُ الحديدَ الذي من الشمال والنحاس" أو "إن قوتك هي مثل الحديد والنحاس"، صلبة وعنيدة وجامدة؛ مثل هذه القوة تقطع وتقسم، لأنها ليست قوة لفعل الخير.

"ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب لا بثمن بل بكل خطاياك" [13]. ما هي ثروات الخطاة التي يدفعها الله للنهب في مقابل كل خطاياهم؟ هل الثروات التي يجمعونها على الأرض؟ كل إنسان في الواقع يكنز لنفسه، إما على الأرض إن كان إنسانًا شريرًا، أو في السماء إذا كان إنسانًا صالحًا، كما يخبرنا الإنجيل (مت 6: 19-20). هل يقول لهذا الشعب: إنه بسبب خطاياكِ أدفع خزائنك وثرواتك للنهب، قاصدًا بتلك الثروات الأنبياء مثل إرميا وإشعياء وموسى؟! لقد نزع الله هذه الكنوز عن هذا الشعب، وقال من خلال السيد المسيح: "إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره" (مت 21: 43). هذه الأمة هي نحن، فقد دفع الله ثروات هذا الشعب (الأنبياء) إلينا.

هم أُستؤمنوا على أقوال الله أولاً (رو 3: 2)، ثم أُستؤمنا نحن من بعدهم على هذه الأقوال؛ فقد نُزعت منهم وأُعطيت لنا. كذلك يمكننا أن نقول أن عبارة: "ملكوت الله يُنزع منكم وُيعطى لأمة تعمل أثماره" التي قالها المخلص تحققت فيه. ليس أن الكتاب المقدس نُزِع منهم، بل أنهم حاليًا لا يملكون الناموس ولا الأنبياء لأنهم لا يفهمون ولا يُدركون المكتوب فيه. توجد عندهم الكتب، لذلك فإن ملكوت الله الذي يُنزع عنهم هو "معنى الكتب المقدسة". إنهم لا يهتمون بمعرفة أي شرح للناموس والأنبياء، لكنهم يقرءونه دون فهم. وبمجيء السيد الرب تحققت بالفعل النبوة التالية: "فقال إذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب" (إش 6: 9-10؛ مت 13: 14-15). كما تحققت أيضًا نبوة إشعياء: "فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب، القاضي والنبي، والعراف والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية" (إش 3: 1-3). كل هذا قد نزعه الله منهم ودفعه لنا نحن الذين جئنا من الأمم...

 يقول: "لا بثمنٍ بل بكل خطاياكِ وفي كل تخومكِ"، كأنه يقول لهذا الشعب: أن خزائنك وثروتك أدفعها للنهب بسبب خطاياكِ التي ملأت كل تخومك، لأنه لا يوجد مكان عند هذا الشعب لم يمتلئ بالخطية. كيف لا تمتلئ كل تخومهم بالخطايا وهم الذين قتلوا الحق، بما أن السيد المسيح هو الحق، وقتلوا الحكمة، بما أن السيد المسيح هو الحكمة، وقتلوا العدل، بما أن السيد المسيح هو العدل؟ بحكمهم على ابن الله بالموت فقدوا كل ذلك الحق والحكمة والعدل. وحينما قام رب المجد يسوع من بين الأموات لم يظهر أبدًا للذين قتلوه... إنما ظهر فقط للذين آمنوا به، ظهر لهم وحدهم حين قام من الأموات.

"وأُعبِّرُك مع أعدائك (وأخضعك للعبودية في وسط أعدائك) في أرض لم تعرفها، لأن نارًا قد اشتعلت بغضبي تُوقد عليكم" [14]. لقد أُخضع هذا الشعب بالفعل للعبودية في وسط أعدائه وفي أرض لم يعرفها. وبعد كلام التهديد هذا الموجه للشعب، يواصل إرميا أو السيد المسيح صلاته ويضيف إلى أقواله السابقة هذه الكلمات: "أنت يارب عرفت. أذكرني وتعهدني وانتقم لي من مضطهديَّ. بطول أناتك لا تأخذني" أو "لا تكن طويل الأناة عليهم" (LXX).

 يمكن أن يكون إرميا هو الناطق بهذا الكلام، بما أنه اُضطُهِد من الذين كان يعاتبهم، وكان مكروهًا من الذين لم يقبلوا الحق. ويمكن أيضًا أن يكون مخلصنا هو المتكلم حيث أُضطهد أيضًا من هذا الشعب.

 ثم يضيف "ولا تكن طويل الأناة عليهم"، ماذا تعني هذه الكلمات؟ لقد كُنتَ دائمًا طويل الأناة أمام خطايا هذا الشعب، ولكن أمام كل هذه الجرائم التي تجرءوا وارتكبوها ضدي، فلا تكن طويل الأناة عليهم.

بالفعل لم يكن الله طويل الأناة. لو نظرت إلى تاريخ عذاب هذا الشعب، أي تاريخ سقوط أورشليم وخرابها، وإلى الطريقة التي ترك بها الله هذا الشعب لأنهم قتلوا السيد المسيح، تدرك أن الله لم يستخدم طول أناته مع هذا الشعب! أو إذا شيئت فاستمع إلى هذا: أنه منذ السنة الخامسة عشرة لملك طيباريوس قيصر (أي منذ بداية عمل السيد المسيح وكرازته) (لو 3: 1)، وحتى وقت خراب الهيكل، لم يمضِ سوى 42 سنة فقط!

وكانت تلك الفترة بمثابة "وقت" منحه الله للتوبة، خاصة توبة بعض الناس من ذلك الشعب، وهم اليهود الذين دخلوا إلى الإيمان بعد رؤيتهم للآيات والعجائب التي صنعها الرسل[315]].

5. سبي الشعب:

"هل يكسر الحديدُ الحديدَ الذي من الشمال والنحاس؟

ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب،

لا بثمن، بل بكل خطاياك وفي كل تخومك،

وأعبرك مع أعدائك في أرض لم تعرفها،

لأن نارًا قد أُشعلت بغضبي توقد عليكم" [12-14].

يرى البعض أن الحديد الذي من الشمال هو المستورد من منطقة البحر الأسود، وهو من نوع جيد، يُستخدم في صنع الأسلحة. كأنه يقول لمملكة يهوذا بكل قياداتها وشعبها: إن كنتِ تظنين إنك كالحديد، لكنك لا تقدرين أن تقفي أمام بابل التي جعلتها كحديدٍ قوى ونحاس. لا تستطيعين الوقوف أمام تأديبات الرب. لا تنفعك قوتك ولو كانت كالحديد، ولا ثروتك أو خزائنك، فإنها تُنهب بيد العدو... خطاياكِ تدفعك إلى يد العدو لتُساقي إلى أرض السبي، إلى أرض غريبة لم تعرفيها من قبل... هذا كله لأنكِ إقتنيتِ نار غضبي عوض نار محبتي!

حينما يسلم الإنسان نفسه للخطية يفقد حتى ثروته وخزائنه، أي الفضائل الطبيعية، "لأنه كل من له يُعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه" (مت 25: 29). من يترك الله يتركه الله للنهب فيفقد كل ما لديه.

عمل الخطية هو أنه يسحبنا من أرضنا إلى أرض السبي، ينتزعنا عن أرض الحق لندخل إلى مذلة العبودية التي لا تعرف إلا العنف والكذب والخداع.

بقوله: "هل يكسر الحديد الحديد الذي من الشمال والنحاس؟" [12] يعني أن نير بابل الذي وضعه على عنق يهوذا من الحديد لا يُمكن كسره... غير أنه في الوقت المناسب يعطيهم الرب رجاءً في كسر النير، إذ قال حنانيا النبي لإرميا النبي: "هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً: قد كسرت نير ملك بابل" (28: 2). كما أخذ حنانيا النبي النير عن عنق إرميا وكسره، وتكلم أمام كل الشعب قائلاً: "هكذا قال الرب: هكذا أكسر نير نبوخذنصر ملك بابل" (28: 10-11). في البداية لم يسمح بكسر النير لتأديب شعبه إلى حين، لكنه لا يترك شعبه هكذا، إنما يعطيهم الفرصة ليتمتّعوا برجاء الخلاص وتحريرهم من السبي البابلي.

يرى البعض أن "الحديد" هنا يشير إلى إرميا في يأسه[316]، فقد جعله الله أسوار نحاس ضد كل الأرض (1: 18) لكنه إذ سقط في اليأس المُرّ صار كالحديد، فهل يظن أنه يستطيع أن يجابه بحديد يأسه الحديد الذي من الشمال والنحاس. وكأن الله يؤكد له أن اليأس لن يُقدم له حلاً للمشكلة، بل الالتقاء مع الله.

فقدت مملكة يهوذا ثروتها وخزائنها هذه التي تدنست برجاسات وثنية، أما إرميا فكان الرب نفسه هو ثروته وكنوزه لا يقدر عدو ما أن ينهبها منه.

سنعود إلى الحديث عن الثروة والخزائن فيما بعد إن شاء الرب (راجع تفسير إر 17: 3).

6. تعزيات وسط الآلام:

"أنت يارب عَرَفْتَ.

اذكرني وتعهدني وأنتقم لي من مضطهديَّ.

بطول أناتك لا تأخذني.

اِعْرِف احتمالي العار لأجلك.

وُجد كلامك فأكلته،

فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي.

لأني دُعيتُ باسمك يارب إله الجنود" [15-16].

كان إرميا النبي في حاجة إلى تعزيات سماوية وسط المُرّ الذي يعيش فيه، إذ كان محصورًا بين تطلعه إلى شعبه وهو يسقط تحت تأديبات قاسية وربما إلى هلاك أبدى إن أصر على شره، وبين مقاومة الكثيرين له.

أما تعزيات الله فمصدرها الآتي:

أ. أنه موضوع معرفة الرب

يقول: "أنت يارب عرفت" [15].

في وسط الضعف نشعر كأن الأمور تسير اعتباطًا بلا خطة، لكن إرميا أدرك بإيمانه أن الله يعرف كل شيء، وليس شيء خفيًا عنه. حياته وحياة البشرية كلها في يد ضابط الكل، الذي يعرف كيف يحول حتى المُرّ إلى عذوبة.

"أنت يارب عرفت" [15].

أنت يارب تعرف مالا يخطر ببال أقرب الناس إليّ،

وما لا أجسر على النطق به،

وما أتحاشى أن أردده حتى في أعماق نفسي.

أنت تعرف حبي لك ولشعبك.

أنت تعرف مرارة نفسي وذوبانها لأجل خطايا بنت شعبي.

أنت تعرف إني أحترق بنار كلمة التأديب.

أنت تعرف ضعفي وعجزي التام عن تحقيق رسالتي!

ماذا أفعل إن تركتني أعمل بطاقاتي ومشاعري البشرية؟!

ب. موضوع تذكر الله ورعايته

"اذكرني وتعهدني وأنتقم لي من مضطهديّ" [15].

كثيرًا ما يشعر الإنسان بالعزلة، وإهمال الكل له، وعدم مشاركة أحد له، لكن يكفيه أن يجد الله نفسه يذكره ويتعهده ويدافع عنه ضد مضطهديه.

يقصد بالمضطهدين هنا الأنبياء الكذبة الذين يدفعون الشعب إلى الهلاك. أما بالنسبة لنا فنرى في المضطهدين، ليس أبناء البشر، بل عدو الخير وأعماله الشريرة وحيله الخبيثة.

في وسط آلامه ربما عانى إرميا إلى حين من الشعور بالعزلة، مع إحساسه أنه منسى من أحبائه، وموضع سخرية الأشرار. لكنه في يقين الإيمان يُشبع الله كل احتياجاته: يذكره ويتعهده وينتقم له.

الله الذي عرفه وهو في البطن وذكره وتعهده وقدسه للعمل كنبي بين الشعوب يبقى يذكره ويتعهده وينتقم له حتى في أحلك اللحظات، ليس انتقامًا من أعداء شخصيين بل من مقاومي الحق الإلهي.

في الأصحاح العشرين نرى فشحور الكاهن يضرب إرميا ويضعه في المقطرة، ولكن مسكين فشحور الذي صار اسمه "مجور مسا بيب" (20: 3) أي المخيف لنفسه ولمحبيه! ما فعله لم يُرعب إرميا بل ارتد على نفسه وعلى محبيه المساعدين له في مقاومته لكلمة الرب.

ما نريد تأكيده أن الله يتذكرنا ويتعهدنا ويعمل بنا إن كنا به لا نرتعب ولا نخاف، لأنه هو عامل بمؤمنيه المتكئين عليه وسط تيارات العالم.

التذكار هنا لا يعني مجرد تذكار لأحداث ماضية، إنما هو استرداد للأحداث الماضية بطريقة عملية معاصرة. وكأن إرميا يطلب من الله أن يذكر من الماضي ما يعرفه عن إرميا ليعمل في حياته الحاضرة ويُنجح رسالته.

والتعهد هنا يعني "الافتقاد"، وهو افتقاد إلهي لا ليدين بل ليخلص خدامه العاملين حسب مسرته.

ج. طول أناة الله

لا يحمل إرميا النبي كراهية ضد إنسان، وإن طلب النقمة إنما يشتهى تأديب مقاومى الحق لأجل توبتهم ورجوعهم إلى الله... يشعر إرميا بضعفاته، لذلك لا يتحدث من موقع المعلم المتكبر أو الذي يشعر ببرٍ ذاتي، إنما من مركز الإنسان المحتاج إلى طول أناة الله، فيقول: "بطول أناتك لا تأخذني" [15].

في لحظات الضعف واليأس صرخ إرميا: "ويل لي يا أمي، لأنك ولدتيني إنسان خصام" [10]، لكنه إذ يكتفي بالله ويطلب منه أن يذكره ويتعهده... أي يعطيه قوة للعمل لحساب ملكوته يسأله ألا يتعجل أخذه من العالم حتى يحقق رسالته التي ائتمنه الله عليها، قائلاً: "بطول أناتك لا تأخذني" [15].

لنطلب شركة العار والآلام!

يقول العلامة أوريجينوس:

["اعرف احتمالي العار لأجلك" [16] أو "اعرف إنني شُتمتُ من أجلك من الذين يرفضون كلامك" (LXX). لنفترض أن النبي هو الذي يتكلم، بالفعل كان محتقرًا من الناس بسبب ما كان يتكلم به، إذ كان الخطاة يرفضون سماعه؛ لذلك قال: "صرت للضحك كل النهار" (20: 7). كان يُشتَم من أجل الكلام الذي كان يقوله الرب على لسانه، وكان يُصلي بسبب هذه الشتائم الواقعة عليه لكي ينقذه الله ويساعده، قائلاً: "اعرف إنني شُتمت من أجلك من الذين يرفضون كلامك". يضيف أيضًا طالبًا من الله: "أفنهم" [15] (LXX). نفترض أن إرميا هو الذي يقول "أفنهم"، وإن كنت أعتقد أن هذه الكلمة توافق بالأكثر السيد المسيح، حيث تحققت طلبته، فكان فناء عظيم لمنطقة أورشليم وللشعب، بعدما تآمروا على المخلص وقتلوه.

إذ تألم الأنبياء كثيرًا بسبب توبيخاتهم للشعب، وبكونهم سفراء الكلمة حينما ينطقون بما يأمرهم به الله، من الضروري أن نذكّر السامعين ما هي حياة الأنبياء، وما هي الوعود التي أخذوها، وأيضًا نُذكّرَكُم أن الاختيار متروك لنا، فإن أردنا أن تكون لنا راحة في أحضان هؤلاء الأنبياء، يجب علينا - على قدر استطاعتنا - أن نعمل الأعمال التي عملوها.

ما أريد أن أقوله لكم يتلخص في الآتي: كثيرًا ما نقول في صلواتنا: يا الله القوي، اعطنا أن تكون لنا شركة (نصيب) مع الأنبياء، اعطنا أن تكون لنا شركة مع رسلك، لكي نوجد مع ابنك الحبيب يسوع المسيح. لكننا لسنا ندرك ماذا نطلب، لأن هذا الكلام معناه: يارب اعطنا أن نتألم كما تألم الأنبياء، اعطنا أن نكون مكروهين مثلهم، اعطنا أن نبشر بكلمات يضطهدنا الناس بسببها، اعطنا أن نسقط في مؤامرات كثيرة كما حدث للرسل. فإنه لا يليق بنا أن نقول: "اعطنا يارب شركة مع الأنبياء"، ونحن لا نتألم مثلهم ولا نريد أن نتألم. لا يليق بنا أن نقول: "أعطنا يارب شركة مع رسلك"، ونحن غير مستعدين أن نقول بكل صراحة مع بولس الرسول: "في الأتعاب أكثر، في الضربات أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مرارًا كثيرة" (2 كو 11: 23).

 إذ نريد أن يكون لنا نصيب مع الأنبياء، لننظر إلى حياتهم، وإلى ما قاسوه من أتعاب وآلام بسبب توبيخاتهم للشعب؛ "رُجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين، مكروبين، مذلّين، تائهين في برارى ومغاير وشقوق الأرض" (عب 11: 37-38).

إذن لا عجب إن تعرضنا إلى الافتراء والبغضة والاتهامات الباطلة، إن أردنا أن نحيا حياة الأنبياء. لابد أن نحتمل كل ذلك بفرح، فلا نتذمر ولا نتكلم بالشر على الذين طردونا أو على الذين أصدروا الأوامر باضطهادنا. فإن الرسل، هؤلاء الأبطال المدهشين الذين قاسوا آلاف الأتعاب من أجل الحق، كانوا يقولون: "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح" (2 كو 12: 10).

يمكننا أن نذوق هذا السرور، لو أدركنا فقط أن كل هذه الاضطهادات التي نتحملها هي من أجل المسيح وحده، ولو عرفنا أن سبب هذه الضيقات التي نتعرض لها هو السيد المسيح، وأننا نقدم أبطالاً للحق، يحكمون علينا لأننا سفراء كلمة الله (أف 6: 20). لنحاول نحن جميعًا، على قدر استطاعتنا، أن نحيا حياة الأنبياء والرسل، دون أن نهرب من الأتعاب، لأنه لو هرب المصارع من أتعاب المنافسة لن يتمتع بإكليل النصرة[317]].

د. كلمة الله المفرحة

وسط الآلام المُرّة، ومع إدراكه لكلمة الله التي تؤدب كان إرميا في يقين أنها مصدر فرحه وبهجة قلبه، إذ يقول: "وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يارب إله الجنود" [16]. كلمة الله تهب رجاءً يفرح القلب.

أكل إرميا النبي كلام الرب، إذ سبق فأعلن أن الله وضع كلامه في فمه (1: 9). يشير الأكل هنا إلى قبول الكلام أو قبول الدعوة للخدمة قبولاً تامًا، لذا لم يقل "تذوقته" بل "أكلته". اتحد بكلام الله فصار واحدًا معها، أو صارت الكلمات الإلهية جزءًا لا يتجزأ منه. جاء في سفر التثنية: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (8: 3). ويقدم لنا إشعياء النبي كلمة الله طعامًا وشرابًا للنفس (إش 11)، وصدر الأمر لحزقيال النبي أن يأكل الدرج الذي أعطاه الله إياه فكان في فمه كالعسل حلاوة (حز 2: 1-3).

"فكان كلامك لي للفرح والبهجة" [16]، ارتبطت الكلمتان معًا في (7: 34؛ 16: 9) بالعريس والعروس كما جاء عن العريس الكلمة: "في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11). إن كان إرميا قد دُعي ليبقى غير متزوجٍ (16: 2) إلا أنه بقبوله كلمة الله وغذائه بها صار له بهجة العرس على مستوى فائق، تتحد نفسه كعروس بالعريس السماوي.

كلمة الله التي دخلت به إلى الخصام، فصار في خزيٍ وعارٍ في أعين القيادات والشعب، جعلته في بهجة عرسٍ أبدى وفرحٍ فائق لا يُعبر عنه! أما ان إرميا قد دعى عليه اسم الرب [16] فيعني أنه صار في ملكيته، كما يُدعى اسمه على بيته المقدس (7: 10). وكأن إرميا صار عروسًا روحية وبيتًا روحيًّا للرب.

يقول العلامة أوريجينوس:

["وسيكون كلامك لي مصدرًا للفرح" [16] (LXX). إنه ليس مصدرًا لفرحي الآن، لكنه "سيكون". لأنه إذا كانت كلمتك الآن في الوقت الحاضر مصدرًا لسجني وآلامي واضطهادي ففي نهاية كل ذلك تكون مصدرًا لفرحي.

"وسيكون كلامك لي مصدرًا للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيت باسمك يارب إله الجنود". حتى إذا كان السيد المسيح هو المتكلم هنا، فإن اسم الآب قد دُعي عليه.

 "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا" [17]؛ إذا حدث أن رأي النبي أن المحفل لا يضم أناسًا جادين بل مازحين، كان يتجنب الاشتراك فيه. يجب علينا أن نفهم الفرق بين محفل المازحين ومحفل الجادّين. فإن جماعة الجادين تفعل كل شيء بجدية وتحتكم إلى المنطق في كل تصرفاتها، لها عقيدة جادة، وحياة جادة. لكن حينما تقوم الجماعة (المحفل) بترك الجدية اللازمة في الأمور الهامة، وتنصرف إلى حياة اللهو وإلى الأعمال الصبيانية التي لهذا العالم، وإلى الأعمال المتولدة من الرذيلة، تتحول إلى محفلٍ للمازحين. يقول النبي: "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا (خوفًا)".

أمام الاختيارين: إما أن نجلس في محفل المازحين فنُغضب الله، أو نترك محفل المازحين برضانا فنُفرح الله. يقول إرميا: لقد اخترت أن أترك محفل المازحين وأن أكون صديقًا لك، بدلاً من أن أفعل العكس فأصير عدوًا لسعادتك (أي أكون سبب غضبك).

مخلصنا أيضًا لم يجلس في محفلهم "محفل المازحين" لكنه قام وتركه، والدليل على هذا أنه قال: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا"، لقد ترك السيد المسيح محفل اليهود وأقام لنفسه محفلاً آخر هو كنيسة الأم[318]].

هـ. الالتقاء مع الله

سر تعزيته أنه اعتزل مجالس الأشرار المازحين، الذين يطلبون الفرح الزمني المملوء مزاحًا ليجلس مع الله وحده، يبكي على خطايا الشعب ويحزن ويغضب بسبب هلاكهم، دون أن يفقد سلامه وبهجته. إذ يقول: "لم أجلس في محفل المازحين مبتهجًا، من أجل يدك جلست وحدي، لأنك قد ملآتني غضبا" [17].

إن كانت ثروة الملك ورجاله مع كل الشعب وخزائنهم قد دُفعت للنهب فافتقروا ودخلوا في ذلٍ وعارٍ مع مرارة، فإن ثروة إرميا النبي وخزائنه هي كلمة الله التي لا يقدر عدو أن ينهبها أو يسلبها منه، فيبقى وسط الآلام والمتاعب مملوء شبعًا وفرحًا! هذا هو كل ما تُرك لإرميا، كلمة الله، التي يراها القيادات والشعب حتى عائلته إنها كلا شيء، وكانوا يسخرون منه، ولم يدركوا أنها هي كل شيء!

المزاح هو عدم الجدية في اهتمام الإنسان بخلاص نفسه وخلاص الآخرين، سواء في عبادته الخاصة أو العامة أو خدمته للغير. أخبروا هيرودس عن موقع ميلاد المسيح، لكنهم لم يفكروا في الالتقاء معه بجدية، بينما جاء المجوس من المشرق يعبرون مسافات طويلة في جدية ليلتقوا بمخلصهم!

كان إرميا النبي جادًا لذلك كانت نفسه مُرّة من أجل خلاص إخوته... وهذا يهبه فرحًا داخليًا لا يُعبر عنه.

قيل عن الإنسان المازح: "مثل المجنون الذي يرمي نارًا وسهامًا وموتًا، هكذا الرجل الخادع قريبه ويقول: ألم ألعب أنا؟!" (أم 26: 18). هكذا من يخدع أخاه تحت ستار المزاح يلقي بنارٍ في قلبه ليحرق ويبدد، ويصوب سهامًا لنفسه فيقتلها ويفقد كل حياة!

استخدمت كلمة المزاح بالعبرية عن النساء اللواتى لعبن وقلن "ضرب شاول ألوفه وداود ربواتهِ" (1 صم 18: 7)، فكن يسخرن بالملك شاول مما أثار فيه حمية الحسد وفكر جديًا في قتل داود. هذا هو عمل المزاح القاتل والمثير للمتاعب!

ورد في زكريا (8: 5): "وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها"، فالمزاح من سمة الصبيان لا الناضجين.

مجلس المازحين يعني مجلس المستهزئين بخلاصهم، في القيادات اليهودية في أيام السيد المسيح كانوا مجالس مازحين.

مجلس المازحين هم جماعة الأنبياء الكذبة الذين نطقوا بغير الحق، وظنوا في ذلك بهجة وسلامًا، أما إرميا الناطق بالحق فبقى وحده، إذ تركه الجميع وحسبوه متشائمًا... أدرك غضب الله على شعبه فامتلأ حزنًا!

من أجل يد الله جلس إرميا وحده وامتلأ بغضب الله، ويقصد بيد الله هنا الإعلان النبوي أو الكشف عن خطة الله... وكأن يد الله قد امتدت لتكشف لإرميا عن الحق الإلهي الذي رفضه الشعب، وما سيحل بهم من تأديبات كأنها حلت به هو شخصيًا. إنه يردد مع المرتل: "لأن سهامك قد انتشبت في، ونزلت عليّ يدك. ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي" (مز 38: 2-3).

"جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" [17]

سبق أن رأينا في (12: 6) أن عائلته قد دعته: "مملوء سكرًا"، وها هو يقول لهم: "إنني لست مملوء سكرًا، بل مملوءً بالغضب الإلهي، أحمله عنكم. إن ما يسكرني ليس الخمر بل رؤيتي للغضب الذي تسقطون تحته".

 "جلست وحدي" [17].

يرى العلامة أوريجينوس في هذه العبارة دعوة كتابية لكي تكون لنا الحياة المميزة الفريدة!

["جلست وحدي" [17]. ينبغي أن نتعلم من هذه العبارة عندما تكون هناك جماعة من الخطاة لا تحتمل أن ترى إنسانًا تقيًا يعيش في حياة التقوى، لهذا يليق بالإنسان أن يهرب من محفل الرذيلة، يفعل مثل إرميا الذي قال: "جلست وحدي"، ومثل إيليا الذي قال: "يارب قتلوا أنبيائك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي" (رو 11: 3).

لكن إذا نظرت بطريقة أعمق إلى كلمات "جلست وحدي"، ربما تجد لها تفسيرًا أكثر عمقًا يليق بها.

عندما نحيا مثلما يحيا جميع الناس، ولا تكون لنا حياة مستقلة خاصة ومميزة بالنسبة لباقي الناس، لن نستطيع أن نقول: "جلست وحدي"، إنما نقول: "جلست مع أناسٍ كثيرين". لكن - على العكس - إذا أصبحت حياتي مميزة بحيث يصعب على الناس تقليدها، لا يستطيع أن يشابهني أحد لا في أعمالي ولا في عقيدتي ولا في حكمتي، عندئذ يمكنني أن أقول "جلست وحدي". إذن يمكنك أن تقول هذه الكلمات، حتى ولو لم تكن كاهنًا أو أسقفًا وليس لك أية رتبة كنسية، ذلك حينما تحيا الحياة التي تمكّنك من أن تقول: "جلست وحدي"[319]].

قوله: "جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" [17]، ينطبق على السيد المسيح الذي دخل البستان وحده ليحمل غضب الله عنَّا، إذ يقول لتلاميذه "وتتركوني وحدي..." كما يقول: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت". جلس وحده في البستان لأنه حمل خطايانا على كتفيه. لنتشبه به فندخل معه في البستان وحدنا لكي نئن من أجل سقطات كل أحدٍ، ونحسبها سقطاتنا فنقول:

"جلست وحدي لأنك قد ملأتني مرارة" [17](LXX)   .

يقول العلامة أوريجينوس:

["لأنني قد امتلأت مرارة" [17]. إن كان الطريق المؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 7: 14) لا يمكنك أن تتمتع بأية عذوبة الآن، بل عليك أن تمتلئ بمرارةٍ في هذه الحياة. ألا تعلَم أن عيدك يُحتفل به على أعشاب مُرّة؟ يقول الكتاب المقدس أنه حينما تحتفل بالعيد لا بالعهد الإلهي أن تأكل فطيرًا على أعشابٍ مُرّة (خر 12: 8). ماذا يعني الكتاب حينما يؤكد انه للاحتفال بأي عيدٍ خاص بالرب لا بالعهد الإلهي من أكل الفطير على أعشابٍ مُرّة؟ هلموا نبحث هذا الموضوع. موضوع "الفطير" سبق أن شرحه لنا بولس الرسول عندما قال: "إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق" (1 كو 5: 8). ينبغي أن يكون التفسير الذي أضيفه موافقًا ومناسبًا لتفسير الرسول ومكملاً له. يجب عليك أن تفهم ما هي الأعشاب المُرّة، حينما تربط بينها وبين كون الفطير "فطير الإخلاص والحق"؛ فبمجرد أن يكون عندك إخلاص وحق تجد أمامك أعشابًا مُرّة، وتأكل مع الأعشاب المُرّة فطير الإخلاص والحق.

 ينطبق هذا على بولس الرسول: فلأنه كان يأكل فعلاً فطير الإخلاص والحق، بسبب ذلك كان يأكل أيضًا "الأعشاب المُرّة".

كيف كان ذلك؟

قال: "أفقد صرت إذًا عدوًا لكم لأني أَصْدُقُ لكم؟!" (غلا 4: 16). كيف كان يأكل أيضًا الأعشاب المُرّة؟ كان يأكلها كالآتي: "في كدٍ وتعبٍ، في أسهارٍ مرارًا كثيرة، في جوعٍ وعطشٍ الخ." (2 كو 11: 27-28). ألا يعتبر ذلك كله "حقًا" مع أعشابٍ مُرّة؟ أو فطيرًا على أعشاب مُرّة؟

تقول الشريعة: "كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة" ولم تقل: "كلوا فطيرًا مع أعشاب مُرّة حتى تمتلؤا وتشبعوا"؛ لذا فإن النبي قد فعل أكثر مما تتطلبه الشريعة، فهو يقول: "لقد امتلأت مرارة" ولم يقل: "قد أكلت مرارة"، أي: قد أخذت نصيبي من المرارة بما فيه الكفاية[320]].

لماذا كان وجعي دائمًا؟!

["لماذا يكرهوني ويغضبون على دائمًا؟" (LXX) لقد عانَى إرميا  من مضايقات كثيرة، وتألم بسبب الذين لم يريدوا أن ينصتوا للحق والذين كانوا أقوى منه هنا على الأرض فقط، لأن ملكوت الله ليس من هذا العالم بل من فوق. كما يقول المخلص: "لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود" (يو 18: 36). إذًا الذين كانوا يضايقون النبي كانوا يضايقونه في هذا العالم فقط. انظروا أيضًا الشهداء: يجلس القاضي على مقعده على منصة الحكم ليقضي ويحكم وهو في غاية الراحة، بينما يقف الإنسان المسيحي الذي "يحاكم السيد المسيح فيه"، وقد "امتلأ مرارة" وهو موضوع تحت رحمة إنسانٍ غير عادل ليُحكم عليه[321]].

"لماذا كان وجعي دائمًا؟!

وجرحى عديم الشفاء؟! يأبى أن ُيشفي!

أتكون لي مثل (جدول مياه) كاذب، مثل مياه غير دائمة" [18].

كثيرًا ما استخدم إرميا النبي اصطلاحات طبية، فقد شعر بخطورة المرض الذي أصاب شعبه (6: 7؛ 8: 21-22؛ 20: 12، 15)، مظهرًا تعاطفًا شديدًا معهم.

والآن يشعر بالجراحات قد أصابته هو، ربما بسبب شدة اضطهادهم له، فصار مريضًا وجريحًا، جرحه عديم الشفاء...

إنه لا يعاتب الشعب الذي اضطهده، وإنما في مرارة نفسه ودالة الحب يعاتب الله الذي أرسله للخدمة، قائلاً له: "لماذا؟" ربما في جسارة يعاتبه: "أتكون لي مثل كاذب، مثل مياه غير دائمة"... فقد سخر به الكل، وبدى كأنه قد هُزم مع أن الله وعده بالنصرة والحماية الدائمة... بقوله "مثل" يؤكد إرميا أن الله لم يخدعه ولن يكون كمجرى ماء كاذب، لكن هكذا ظهر الله في عيني أعداء إرميا الذين عيروه.

هذا ويمكن القول بأن ما نطق به إرميا هنا إنما نطقه باسم الشعب وهو يعاني من السبي، مؤكدًا لشعبه أنه لا يشمت فيهم بل يحسب جراحاتهم جراحاته وأمراضهم أمراضه.

كأنه يقول: لن ينتهي وجعي إلا بانتهاء آلامكم، ولن يُشفي جرحي ما لم تُشفً جراحاتكم. هذا ما عبر عنه الرسول بولس قائلاً: "من يعثر وأنا لا التهب؟! من يضعف وأنا لا أضعف؟!" وقد عبر القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الحب العجيب نحو الغير، قائلاً:

[لا نعجب من الرسول بولس في إقامته الميت، ولا تطهيره الأبرص، إنما نعجب من قوله: "من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2 كو 11: 21).

لو كان في قدرتك صنع آلاف المعجزات، فإنها لن تعادل هذا القول... كلماته هذه أثمن من اللآلئ[322]].

جرح عديم الشفاء

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارات السابقة، قائلاً:

["جرحي عديم الشفاء.

من أين يأتيني الشفاء؟" [18].

الذين يضايقونني يضربوني، وجرحي عديم الشفاء.

يمكن أن تكون هذه العبارة نبوة عن صلب السيد المسيح، كما يمكن أن يكون المقصود بها كل الأبرار الذين يتحمل السيد المسيح فيهم جرحًا عديم الشفاء. أو يمكن أن يكون المقصود هو إرميا النبي نفسه لأنه قاسى أتعابًا وآلامًا كثيرة. يمكن أن يطبق النص على جميع هذه الحالات.

من أين يأتيني الشفاء؟" إن كان السيد المسيح هو الذي يقول ذلك، فهو يتنبأ بذلك عن قيامته من الأموات بعد الجرح العديم الشفاء.

"لقد صارت لي مثل مياه مضللة وغير مخلصة"[323]].

7. الله يشدد إرميا النبي:

يجيب الله علي إرميا بخصوص الأسئلة السابقة، قائلاً:

"إن رجعت أُرجعك فتقف أمامي،

وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون.

هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم" [19].

إن كان إرميا النبي قد شعر أن جرحه دائم وبلا شفاء، فإن الله يقدم له الحل أو الدواء، وهو: "إن رجعت أرجعك فتقف أمامي" [19].

كأنه يقول له: أنت لي، ولك حق الوقوف أمامي لتمتع بحضرتي وتحمل قوتي، لكنك بأفكار اليأس تراجعت عني قليلاً... إرجع إليّ، فإن مكانك ينتظرك، أشتاق أن أراك واقفًا أمامي، تتمم رسالتك التي دُعيت إليها وتتمتع بإكليلك الذي أعددته لك.

تمس هذه الإجابة حياة كل مؤمن تراجع عن الله في ضعفٍ أو بسبب خطيته، لكن يبقى الله يدعوه للعودة إليه، فإن له موضعه في حضن الآب.

بلا شك لم يتراجع إرميا عن رسالته تمامًا، فقد عاش مخلصًا لها، لكن ربما مرت به لحظات ضعف كإنسان.

إن كان جرح إرميا في الواقع هو جراحات الشعب، حاسبًا كل ما يسقط تحته شعبه كأنه هو ساقط تحته، لذا يمكن تفسير قول الرب هنا هكذا. إن كنت تشعر بأن جراحات الشعب هي جراحاتك التي بلا شفاء، فإن توبتهم ورجوعهم كأنها توبتك ورجوعك أنت، لتقول مع المرتل: "يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه" (مز 23: 3).

هذا هو سر تعزية إرميا: رجوع الناس إلى الله وحملهم روح الإفراز بين ما هو ثمين وما هو مرذول، أي التمييز بين كلمة الله (الحق) وكلام الأنبياء الكذبة، بهذا يقفون أمام الله وتصير أفواههم كفم الله نفسه، فيحسب كأن إرميا نفسه قد رجع إلى الله وصار كفم الله، يحمل كلمته كسفيرٍ له، يتحدث باسمه ويعلن إرادته.

يقول الله لإرميا: "إن رجعت أرجعك فتقف أمامي" [19]، يصير إرميا كرئيس بيت إبراهيم الذي رجع إليه ومعه رفقة زوجة لإسحق ابنه. هكذا يريد الله منَّا أن نعود إليه دائمًا حاملين معنا عروسًا مقدسة لإسحق الحقيقي، ربنا يسوع المسيح.

يقول العلامة أوريجينوس:

[لأن الجراحات لا تبقى علي الدوام إنما تعبر وتنتهي، "لذلك هكذا قال الرب: إن رجعتَ أُرجعك فتقف أمامي". هذه العبارة موجهة إلى الذين يدعوهم الرب إلى التوبة والرجوع إليه. لكن يبدو لي أن هناك شيئًا من الغموض في كلمة "أرجعك". فإنه ما من أحد "يرجع" إلى موضع لم يكن موجودًا فيه من قبل، لكن ارجاع الشخص أو الشيء يكون إلى مكانه الطبيعي. فعلى سبيل المثال، حينما يُبتر أحد أعضاء جسمي يحاول الطبيب أن يعمل له عملية إرجاع وإعادة إلى مكانه الأصلي. كذلك حينما يوجد مثلاً إنسان خارج وطنه، لأسباب عادلة أو ظالمه ثم يصدر الأمر برجوعه، فإنه يرجع إلى بلده.

كأن الله يقول لنا هنا، نحن الذين بعدنا عنه: أنه إذا رجعنا إليه فسوف يرجعنا إلى مكاننا الطبيعي معه. هذه إذًا هي كلمات الوعد الإلهي لنا. وكما هو مكتوب في سفر أعمال الرسل: "إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" (أع 21: 3)، ولإلهنا المجد الدائم إلى أبد الآبدين. آمين[324]].

"وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19].

إخراج الثمين من المرذول يعني إخراج نفوس مقدسة مبررة كانت قبلاً مرذولة بسبب خطاياها، فإنه ليس أعظم من أن يهتم إنسان بخلاص إخوته ويحولهم من الانحطاط بالخطية إلى التمتع ببر المسيح.

v     لكي تعرفوا كم هو أمر عظيم أن تربح خلاص الآخرين جنبًا إلى جنب مع خلاصك اسمع ما يقوله النبي في شخص الله: "وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. لكن ما هو هذا؟ من يقود قريبه من الخطأ إلى الحق أو من الشر إلى الفضيلة، مثل هذا الإنسان يتشبه بي قدر ما تسمح القوة البشرية... إنه يخلصهم من أنياب الشيطان[325].

v     إن تحدثت لأجل تصحيح قريبك يكون لك لسان كلسانه (المسيح) والله نفسه يقول: "وإذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. عندما يكون لسانك مثل لسان المسيح، عندما يكون فمك مثل فم الآب، عندما تصير هيكلاً للروح القدس. أي كرامة تعادل هذه الكرامة؟! حتى إن كان فمك مصنوعًا من الذهب أو الحجارة الكريمة فهل يتلألأ مثل الآن، عندما يشع بزينة الوداعة.

ماذا نشتهي أكثر من فم لا يعرف أن يشتم بل يتدرب علي أن يبارك[326]؟

v     تأملوا أية كرامة يسمو إليها من يحسب خلاص أخيه ذات أهمية قصوى، فإن مثل هذا الإنسان يتشبه بالله قدر إمكانية قوة الإنسان. اسمع ما يقوله الله خلال نبيه: "إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19]. ما يقوله هو أن من له غيرة علي خلاص أخٍ ساقطٍ في طرق الإهمال، من يسرع ويخلص أخاه من أنياب الشيطان، مثل هذا الإنسان يمتثل بي قدر ما تستطيع القوى البشرية. ماذا يعادل هذا؟ هذا أعظم من كل الأعمال الصالحة. هذا هو قمة كل فضيلة[327].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لا يقف شيء ما مقابل النفس ولا حتى العالم كله.

فإن قدمت كنزًا بلا حدود للفقراء، فلا يساوى هذا العمل تغيير نفسٍ واحدة. هكذا يقول الله: "إذا أخرجت الثمين من المرذول فمثل فمي تكون" [19].

يا له من عمل صالح عظيم أن تترفق بالفقراء، ولكن ليس شيء يعادل انتزاعهم من الخطأ. من يفعل هذا يمثل بولس وبطرس[328].

v     أيَّة بركة لا يجتنيها ذاك الشخص الذي ينفع نفوسًا كثيرة يشفيها من الآن حتى مجيء المسيح؟!

أقم حصنًا ضد الشيطان، فإن هذه هي الكنيسة[329].

v     إن تحدثت بما فيه إصلاح قريبك تنال لسانًا كذاك اللسان (لسان الله)[330].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"وأجعلك لهذا الشعب سور نحاسٍ حصينًا،

فيحاربونك ولا يقدرون عليك،

لأني معك لأخلصك وأنقذك يقول الرب.

فأنقذك من يد الأشرار،

وأفديك من كف العتاة" [20-21].

هنا يقدم الله لإرميا وعودًا بتجديد قوته. في إرميا (1: 18) أقامه الله مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس، وهنا يجعل منه سور نحاس حصينًا لا تستطيع زوابع الأشرار أن تصدمه، ولا مقاومتهم أن تهزه. إنه ليس فقط ينقذه وإنما يفديه، أي يدفع عنه الدِّية ليحرره. هكذا يعطي الله لإرميا ضمانًا لسلامه ولحريته، بل ولمساندة الآخرين.

إن كان الله قد أقام إرميا النبي ليبكت الخطاة فليذكر إرميا أنه هو نفسه محتاج إلى الخلاص والفداء!

هذا ومن جانب آخر حين أعلن إرميا لله إيمانه أنه يذكره ويتعهده وينتقم له من مضطهديه [15]، جاءت الإجابة الإلهية: "أنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة!"

كأن الله يجيبه: لا تتطلع إلى إمكانياتك البشرية المجردة، ولا تنظر علي أعدائك، بل إلى عملي معك وبك وفيك... إني أنقذك من يد الأشرار وأفديك من كف العتاة.

يحدثنا سفر إرميا النبي عن الرب بكونه الفادي من كف العتاه (15: 21) والولي الذي له حق الفكاك (31: 11)، الولي القوى (50: 34). يذكرنا بالدور الذي قام به بوعز الذي قام بواجبه نحو راعوث، حيث قام وهو الولي بالفكاك، فتزوجها وأنجب منها وقدم من ممتلكاته لها ولنسلها. ويلاحظ في الولي الذي يقوم بالفكاك الآتي:

أ. الولي الذي له حق الفكاك ذو قرابة. هكذا وهبنا ربنا يسوع المسيح حق القرابة له، إذ اشترك معنا في اللحم والدم نظيرنا (عب 2: 14).

ب. أن يكون قادرًا أن يفدى ويخلص، وقد دفع ولينا دمه الثمين فداء عنا (مز 49: 8، كو 8: 9، مز 13: 46).

ج. لم يشترِ بوعزِ الميراث فحسب بل اشترى راعوث، لا لتصير له جارية بل عروسًا تشاركه حياته، مكانها في أعماق قلبه. بهذا لم تعد الأرملة غريبة الجنس (الموابية) التي تلتقط من الحقل، وإنما العروس المتحدة معه التي تسكن في قلبه. صار لها لا سنابل الحق التي كان الحصادون ينسلونها لها، بل الحصاد كله، وصاحب الحصاد نفسه. صار بوعز غناها وثروتها. هكذا صار لنا مسيحنا غنانا.

د. يلتزم الولي بالحماية، فهو يفدي ميراثه بالقوة (إش 63: 1-6؛ رؤ 14: 14-20)، هكذا يربط مسيحنا العدو ويخلصنا من العدو من قبضته (مت 12: 29) .


 

من وحي إرميا 15

اذكرني، تعهدني، خلصني من العدو!

v     ما أعجب صلوات قديسيك وأنبيائك،

لكنها لن تشفع لي مادمت أعطيك القفا لا الوجه.

إن شفع في موسى أو صموئيل أو إرميا،

لا أنتفع شيئا ما لم أرتمِ عند صليبك!

v     أعترف لك إني أستحق كل تأديب،

فالخطية قتلتني، ودخلت بي كما إلى القبر.

ضرب السيف في قلبي فجُرحت جرحًا مميتًا،

أصابني الجوع، لأن بدونك لا تشبع نفسي.

صرت كجثة ملقاة في الطريق،

افترستها الشياطين كطيورٍ محلقة في السماء،

ونهشتها حيوانات البرية بغير رحمة.

سخرت بي الكلاب إذ سحبتني كما في التراب.

v     من يشفق عليّ يا إلهي؟!

من يقدس أورشليمي الداخلية إلا روحك القدوس؟!

من يعزيني ويسأل عن سلامتي إلا أنت يا مخلصي؟

تركتك... لكن مد يدك وردني إليك.

إجذبني وراءك فنجرى!

v     صرت كأرملة فقدت رجلها وكل أبنائها السبعة في يومٍ واحد،

تحولت ظهيرتها إلى ظلامٍ دامس.

غطى الخزي وجهها، وفقدت كل رجاءٍ لها!

v     تعالَ يا عريس نفسي،

تمم وعودك في،

اذكرني... ليس من يسأل عنى غيرك!

تعهدني... ليس من يفتقدني سواك!

قدم لي كلمتك... فهي وحدها بهجة قلبي!

احفظني من مجلس المازحين،

هب ليكل جدية واهتمام بالخلاص!

v     الهب قلبي بنار حبك،

فأخرج من المرذول ثمينًا،

ومن الخطاة أولادًا لك،

وذلك بفعل كلمتك يا قدوس.

ضع كلمتك في فمي،

استذوقها، بل وأأكلها فأشبع بها،

ويصير فمي مثلك!

عجيبة هي أعمالك يا مخلصي!

v     لتُقم من ضعفي سور نحاسٍ لا يُقاوم،

كن أنت حصني فلا يقدر العدو عليّ.

أفدني بدمك الثمين من كف إبليس العاتي!

<<


 

الأصحاح السادس عشر

منعه من الزواج

إذ كانت الكارثة التي ستحل بالشعب مُرّة للغاية طلب منه ألا يتخذ لنفسه إمرأة ولا يكون له بنون ولا بنات، لكي لا يقيم في بيت خاص به [1-4]، ولا يذهب إلى بيت حزن [5-7]، أو بيت وليمة [8-9]، بسبب السبي الذي يحل بالشعب. بهذا صارت حياة إرميا مرآة يرى من خلالها الشعب صورة عملية لما سيحل بهم من تأديبات إلهية وحرمان! وكأن الله قدم إرميا نفسه وسيلة أيضًاح، يشهد بكلماته كما بسلوكه عن حكم الله عليهم. سيحل بالموضع ميتات ولا يوجد من يندب أو يدفن ولا من يعزى، وتنقطع أيام الفرح تمامًا، فلا يُسمع صوت عريسٍ ولا صوت عروسٍ. وقد قدم للشعب تعليلاً لحرمانهم من الفرح والتعزية، ليعود فيفتح أمامهم باب الرجاء، لا بالفرح بعودتهم من السبي، وإنما بتمتعهم بالخلاص في العصر المسياني.

1. حياة إرميا مرآة لحياة الشعب     [1-9].

2. اعتزال الحياة اليومية             [10-13].

3. خروج جديد                       [14-15].

4. الفرح بالخلاص المسياني         [16-21].

1. حياة إرميا مرآة لحياة الشعب:

"ثم صار إليّ كلام الرب، قائلاً:

لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكون لك بنون ولا بنات في هذا الموضع،

لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين في هذا الموضع،

وعن أمهاتهم اللواتي ولدنهم،

وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الأرض:

ميتات أمراض يموتون،

لا يُندبون ولا يُدفنون،

بل يكونون دمنة على الأرض،

وبالسيف والجوع يفنون،

وتكون جثثهم أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض" [1-4].

يرى Holladay أن الآيات [1-9] تمثل قطعة شعرية، فيها يتحدث الله مع إرميا بخصوص حياته وحياة الشعب[331].

آية 1   مقدمة.

آية 2   أمر الله لإرميا       : لا تتزوج.

آية 3   تقرير الله عن الشعب: بخصوص الوالدين والأبناء.

آية 4   تقرير الله عن الشعب:  بخصوص الموت والدفن.

آية 5   منع لإرميا من قبل الله:  عدم المشاركة في الجنازات.

آية 6   تقرير الله عن الشعب:  ليس من يحزن على الموتى.

آية 7   تقرير الله عن الشعب:  لا يحزن أحد على ميته ولو كان أحد والديه.

آية 8   منع لإرميا من الله   :  عدم المشاركة في الولائم.

آية 9   خطاب موجه من الله للشعب: لا صوت للفرح، ليس من عُرس!

وقد حمل الشعر تنسيقًا (Symmetrical patern) فإن وضعنا حرف "أ" عن الحديث بخصوص إرميا، "ش" بخصوص الشعب يكون تنسيق الآيات من 2 إلى 9 هكذا: ا ش ش؛ ا ش ش؛ ا ش.

كما يلاحظ أنه في الآية 3 عندما تحدث عن الموت أخذ تنسيقًا شعريًا خاصًا، وذكر البنين، البنات، البنات، البنين[332]، كما ذكر "في هذا الموضع" (مذكر) ثم "في هذه الأرض" (مؤنث).

امتنع كلا من إرميا النبي والرسول بولس عن الزواج، لكن أهدافهما كانت مختلفة. امتنع إرميا النبي عن الزواج بأمر إلهي لكي لا تكون له زوجة وأبناء، أما بولس الرسول فامتنع اختيارًا لكي يكرس كل وقته وطاقاته للعبادة وخدمة الكلمة (1 كو 7: 7، 26، 32-34). امتنع إرميا عن الزواج حتى لا تعيش زوجته في مرارة حين يُقتل الأبناء بالسيف أو يُسبون إلى بابل، أما بولس الرسول فامتنع عنه لأن الوقت مقصر فلا يود أن يهتم كيف يرضي امرأته، بل كيف يرضي الرب.

بأمر إلهي تزوج هوشع امرأة زانية، سواء كانت قد ارتكبت الزنا أو عبدت الأوثان (بكون عبادة الأوثان زنًا)، سواء كان زواجًا حقيقيًا أو مجرد رؤيا أو رمزًا. أما إرميا النبي فبأمر إلهي مُنع من الزواج حتى لا يكون له أبناء. الأول أعلن عن مدى فساد الشعب في علاقته بالله إلهه، والثاني أعلن عن ثمرة هذا الفساد. الأول كشف عن خيانة الشعب لله، والثاني عما سيحل بهم من هلاك، حيث تترمل النساء وتصير كل منهن ثكلي. الأول بحياته يعلن عن شوق الله إلى شعبه ليرجع إليه ولكن بدون خيانة زوجية، أما الثاني فيعلن بحياته عن حالة الموت التي تحل بالشعب بإصراره على الخطية.

يظن البعض أن إرميا سبق أن تزوج وماتت زوجته بعدما أنجبت، وقد منعه الله من الزواج الثاني، بينما يرى آخرون أنه منعه من الزواج في عناثوث فقط، إذ قال له: "في هذا الموضع" [1]، وسمح له بالزواج في موضع آخر[333].

على أي الأحوال إذ سلم الأنبياء الحقيقيون حياتهم بين يديّ الله تكلم بها على ألسنتهم وخلال حياتهم، فكانوا يتنبأون بالعبارات النبوية والرؤى والأمثال كما بحياتهم، نذكر على سبيل المثال:

زواج هوشع بزانية (هو 1-3) يكشف عن خيانة الشعب لله وارتكابه الزنا الروحي بعبادة للأوثان وما يتبعها من رجاسات.

عدم مشاركة حزقيال في جنازة زوجته (حز 24: 15-27) حيث لم يذرف عليها دمعة ولا نطق بكلمة حزنٍ يعلن عن تدمير الشعب، العروس المحبوبة لدى الله، دون أن تجد من يبكيها[334].

عائلة إشعياء (إش 7، 8) تشهد للأحداث الخاصة بالشعب. فدُعى ابنه الأول شآرياشوب (تعني البقية سترجع)، ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون. وُدعى الابن الثاني مهيرشلال حاز (يعني أسرع إلى السلب أو بادر إلى النهب) ليؤكد أن أشور قادم سريعًا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذًا أورشليم، وفي نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لاتكاله على أشور، لا على الرب[335].

v     كان إيليا بتولاً،

وكان كثير من أبناء الأنبياء بتوليين.

قيل لإرميا: "لا تأخذ زوجة"، فإنه إذ تقدس في الرحم أُمر ألاّ يأخذ زوجة، لأن وقت السبي كان قد اقترب.

يقول الرسول نفس الشيء بكلمات أخرى: "أظن أنه لأجل الضرورة الحاضرة حسن للإنسان أن يكون هكذا" (1 كو 7: 26). أية ضرورة هذه التي تنزع أفراح الزواج؟ إنه قصر الوقت، فيكون الذين يتزوجون كأنهم لا يتزوجون (1 كو 7: 29) [336].

القديس جيروم

كانت الأسرة الكبيرة في الشرق بوجه عام تُحسب مباركة من قبل الله (تك 22: 17؛ مز 127: 3-4)، كما يُحسب عدم الإنجاب عارًا وعلامة على غضب الله (تك 30: 1؛ 1 صم 1: 6-8)، والعزوبية أو البتولية أمرًا يسبب حزنًا (قض 11: 37). امتناع شاب مثل إرميا عن الزواج أمر مثير، لم يحدث بناء على رغبته وإنما طاعة لله واقتناعًا بأن نهاية يهوذا كانت قد اقتربت جدًا[337].

بقوله: "ميتات أمراض يموتون" [4]، يعني معاناتهم من أمراض كثيرة بسبب الحروب بوجه عام، خاصة أثناء الحصار، كما بسبب الجوع، وأيضًا معاناتهم من الآلام والمتاعب، مع حالة من الرعب تؤدي بهم إلى الموت.

يُعتبر عدم دفن الموتى وترك الجثث لكي تأكلها طيور السماء ووحوش البرية من أبشع أنواع اللعنات التي يسقط تحتها الإنسان (تث 28: 26)[338]، يزيدها لعنة أنهم لا يجدون من يندبونهم أو يبكون عليهم.

يمكن تصور المنظر هكذا أن الشوارع تمتلئ بالجثث بغير مبالاة، فتُترك طعامًا للطيور الجارحة والحيوانات المفترسة ولا يوجد من يبكي الموتى، لأنه لا يوجد من هو حيّ.

"لأنه هكذا قال الرب:

لا تدخل بيت النوح، ولا تمضِ للندب، ولا تُعزهم،

لإني نزعت سلامي من هذا الشعب يقول الرب الاحسان والمراحم" [5].

طُلب منه ألا يدخل بيت النوح marzeah، هذه الكلمة ظهرت مرة أخرى في (عا 6: 7) فقط، وهي من أصل Ugaritic تشير إلى اجتماع ديني لغرض جنائزي، فيه تُقدم مائدة في صالة حيث الشرب بشراهة مع تصرفات منحلة[339]. تُستخدم في الأرامية عن ولائم الجنازات[340]. لكن هنا كما في عاموس لا تستخدم بنفس الصورة التي كانت لدى الأمم.

انسحاب إرميا النبي حتى عن المشاركة في ولائم الجنازات يشير إلى انسحاب الله نفسه ورجاله عن حياة الشعب الذي أعطاه القفا لا الوجه. يسحب الله عنهم أربعة أمور [5]:

أ. يسحب سلامه، هنا كلمة "سلام" في معناها الواسع تعني أن تكون كل الأمور على ما يرام. تفقد الجماعة اتزانها وتدخل في حالة ارتباك روحي واجتماعي ومادي ونفسي، كما يدخل كل عضو فيها في ارتباك على كل المستويات.

ب. يسحب انتسابه إليهم، فلا يصيروا شعبه بل يدعوهم: "هذا الشعب"، فيفقدون مصدر حياتهم وفرحهم وغناهم ومجدهم وحريتهم.

ج. يسحب عنهم إحسانه، أي حبه وبركاته لهم، لأنهم لا يقبلوا هذا الحب ولا يتجاوبون مع بركاته ونعمه.

د. ينزع عنهم مراحمه، فلا يشفق ماداموا مُصرين على العنف ولا يعرفون الرحمة.

بانسحاب إرميا عن الحياة العامة يعلن انسحاب الله نفسه بسلامه وإحساناته ومراحمه فيسقطوا تحت اللعنة والحرمان والأمراض والخزي والموت!

"فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض.

لا يُدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم" [6].

هذه عادات خاصة بالحزن تمنعها الشريعة لأنها مرتبطة بعبادة الإله الكنعاني موت Mot (تث 26: 14؛ حز 8: 14؛ لا 19: 27-28؛ 21: 5؛ تث 14: 1). فكان الناس يخمشون أنفسهم أو يجرحون أنفسهم ويحلقون شعر رأسهم تمامًا وأيضًا اللحية، الأمر الذي يبدو أنه قد انتشر في إسرائيل على نطاق واسع (41: 5؛ 47: 5؛ 48: 37؛ إش 15: 2؛ 22: 2، حز 7: 16؛ ميخا 1: 16 الخ). هنا لا يصدر المنع كوصية، لأنه سبق فأوصاهم بذلك حين قدم لهم الشريعة، إنما يعلن عدم مشاركتهم في الجنازات حيث اعتادوا على ممارسة هذه العادات الوثنية. جاءت الكلمتان "يدفنون ويندبونهم" في صيغة الجمع بينما "يخمشون ويجعلون قرعة" في العبرية في صيغة المفرد، ربما لأن الدفن والندب تقوم به الجماعة، أما الخمش وجعل القرعة فيقوم بها أكثر الأموات قربى كنائب عن الكل.

"ولا يكسرون خبزًا في المناحة ليعزوهم عن ميت،

ولا يسقونهم كأس التعزية عن أبٍ أو أمٍ" [7].

لا تزال هذه العادة قائمة في مصر، خاصة في المدن الصغيرة والقرى، وهي أن يقدم المعزون طعامًا، خاصة الخبز، وبعض أنواع الشرب كالقهوة، علامة المشاركة والمحبة، حيث يلتزم أهل الميت بالأكل والشرب بدلاً من الامتناع عنهما كعلامة على الحزن الشديد، كما حدث مع داود الذي أصر على عدم الأكل حتى الغروب عند موت ابنه أبشالوم (2 صم 3: 35). وأيضًا كنوعٍ من المشاركة في اطعام القادمين من مناطق بعيدة من الأقرباء، فيقوم الجيران بإعداد الطعام لأقرباء الميت.

في الطقس اليهودي المتأخر كان يُقدم كأس تعزية، وهو كأس خمر خاص يشربه رئيس الحزانى.

يذكر سفر طوبيا (4: 17) تقديم طعام للموتى، يوضع في القبر، وقد وُجد في مقابر للعبرانيين أطعمة توضع مع الموتى.

يرى البعض أن عادة إحضار الطعام تقوم على النظرة إلى بيت الميت أنه دنس لذا يُعد الطعام خارجًا ثم يُحضر الأكل[341]. جاء في سفر هوشع: "إنها لهم كخبز الحزن، كل من أكله يتنجس، إن خبزهم لنفسهم، لا يدخل بيت الرب" (هو 9: 4).

"ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب" [8].

جاء "بيت الوليمة" هنا مقابل "بيت الحزن"، كما جاء في (جا 7: 22)، غالبًا ما يُقصد به الاحتفال بالعرس.

هنا يمنعه من مشاركة أهل الوليمة في أفراحهم، فلا يدخل ليجلس معهم يأكل ويشرب، لكنه قد يدخل لكي يعلن كلمة الله ويحثهم على التوبة قبل أن يحل بهم التأديب. بمعنى آخر يطالبنا الله ألا نجامل إنسانًا على حساب الحق الإلهي وخلاص نفوسنا أو نفوس الآخرين. لنشارك الحزانى والفرحين، لكن من خلال الحق الإلهي ليتمموا إرادة الله، فلا نشاركهم بالأكل والشرب والكلمات المعسولة، إنما لكي نضع خلاص الله وتتميم إرادته أمام أعيننا.

"لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل

هأنذا مُبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفي أيامكم

صوت الطرب وصوت الفرح،

صوت العريس وصوت العروس" [9].

هنا نبلغ إلى جوهر هذه القطعة الشعرية حيث يتحدث الله مع شعبه مباشرة.

تحولت البلاد التي رفضت الله الحيّ إلى أشبه بمقبرة لا يُقام فيها ولائم مفرحة، ولا يُسمع فيها صوت طربٍ روحي ولا مراسيم زواج. إنها حالة النفس التي يريد الرب أن يقيم فيها ملكوته، ملكوت الفرح الحقيقي، مملكة النور، فإذا بها تصر أن تكون مملكة الظلمة والمرارة الفاقدة لكل بهجة قلب!

هنا يلزمنا إلا نتجاهل موقف إرميا النبي الذي يتقبل حكمة الرب بتسليم كامل دون تساؤل: إلى متى يكون هذا؟

2. اعتزال الحياة اليومية:

"ويكون حين ُتخبر هذا الشعب بكل هذه الأمور أنهم يقولون لك:

لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم؟

فما هو ذنبنا؟ وما هي خطيتنا التي أخطأنا بها إلى الرب إلهنا؟

فتقول لهم:

من أجل أن آباءكم قد تركوني يقول الرب،

وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها،

وإياي تركوا وشريعتي لم يحفظوها،

 وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم...

فأطردكم من هذه الأرض إلى أرض لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم،

فتعبدون هناك آلهة أخرى نهارًا وليلاً حيث لا أعطيكم نعمة" [10-13].

هذه العبارات [10-13] في الواقع هي مرثاة صغيرة في شكل أسئلة [10] يتبعها نطق بحكم على شعب يهوذا [11-13].

من الجانب الأدبي تستخدم هذه الطريقة في مواضع أخرى[342] مثل (تث 29: 21-27، 1 مل 9: 8-9)، حيث تستخدم ثلاثة عناصر:

أ. سؤال بخصوص حكم يصدر.

ب. إجابة وتوضيح أن الحكم التأديبي بسبب جحود الشعب.

ج. تقرير عن الكارثة التي بسببها أثير التساؤل.

أُصيب ضمير هذا الشعب بالعمى فلم يعد يرى الحق؛ كما حلّ به الموت. ولم يعد يدرك حكمة الله، فدخلوا في تساؤلات تكشف عن عجزهم عن أن يسمعوا ويفهموا ويطيعوا [12]. كما يكشف عن محاولة تبريرهم لأنفسهم وإلقاء اللوم على الله عوض الاتضاع أمامه والاعتراف بخطاياهم. ومع هذا فإن الله في طول أناته لم يغضب بل أجاب على تساؤلهم، إذ يريد دائمًا الدخول في حوار مع الإنسان، والكشف عن الحق أمامه لأجل توبته، لكي يدركوا أن الله ليس بالآمر الناهي.

يجيب الله على سؤال الشعب هكذا:

أ. العقاب قادم لأن آباءهم تركوه (2: 5، 13).

ب. إن ما يفعلوه ليس بأفضل مما فعله آباؤهم، بل أشر.

ج. لم ينتفعوا بخبرة آبائهم ومعاملات الله معهم.

 هذا لا يعني أن الله يدينهم من أجل آبائهم، وأنهم بلا عذر، إنما لأنهم سلكوا في ذات الطريق فصارت الخطية تمثل خطية جماعية تجتاز عبر العصور.

غاية هذا القسم تأكيد أن العقوبة تتناسب مع نوع الخطأ، فقد عبدوا الآلهة الغريبة، لذا استحقوا أن يطردوا إلى بلادٍ غريبةٍ ليعبدوها هناك. لقد سحب الله الحقيقي بركته عنهم وفقد الشعب الأمان.

حينما نصر على خطايانا، تطردنا خطايانا من الموضع الذي نحن فيه كأبناء لله. نُطرد من النور ومن الحضن الإلهي والمعرفة الإلهية لنخرج إلى أرض لا نعرفها، أي إلى الظلام وعدم المعرفة. تفقد النفس سعادتها التي تجدها في المعرفة الإلهية والخدمة الإلهية واختبار الحب الإلهي.

بقوله "نهارًا وليلاً" يعلن أنهم يمارسون عبادتهم للآلهة الأخرى بإرادتهم، حتى في الليل، حيث لا يلزمهم أحد بذلك.

3. خروج جديد:

"لذلك ها أيام تأتي يقول الرب:

ولا يقال بعد حيُ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر،

بل حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردهم إليها،

فأرجعهم إلى أرضهم التي أَعطيت آباءهم إياها" [14-15].

تكرر هذا القول في (23: 7-8) مع اختلاف بسيط.

يعلن الله هنا عن أمرين:

أ. أن التأديب أو العبودية في أرض السبي أكثر مرارة مما كان في أرض مصر، حتى يكاد يفقد الناس رجاءهم في العودة إلى أرضهم. لذا عند عودتهم لا يعودوا يذكروا عمل الله معهم حين حررهم من مصر، بل عمله معهم حين حررهم من السبي.

في مصر جاءت العبودية تدريجيًا، أما في بابل فجاءت دفعة واحدة، وبطريقة غير متوقعة.

في مصر كان لهم أرض جاسان خاصة بهم، أما في بابل فلم يكن لهم أرض خاصة بهم، بل كانوا في وسط البابليين الذين كانوا يقومون باحتفالات للآلهة الوثنية ومواكب نصرة كغالبين على إله إسرائيل، وذلك لإغاظة المسبيين.

في مصر كانوا خدمًا نافعين للمسخرين لهم، أما في بابل فكانوا موضع كراهية كمسبيين.

ب. يقدم لهم أيضًا رجاءً أنهم سيعودون من السبي في خروجٍ جديدٍ، حتى متى سقطوا تحت قسوة التأديب لا ييأسوا، ولا يظنوا أن السبي هو النهاية، وإنما هناك عودة إلى أرض الموعد.

تعبير "حيّ هو الرب" هو قسم كان يمارسه اليهود يشيرون به إلى الله إله الخروج من مصر (خر 3: 8، 17؛ 17: 3؛ 32: 1، 4، 6، 7، 8، 23 الخ.) لكن إذ يختبروا خروجًا جديدًا يغيرون صيغة القسم.

4. الفرح بالخلاص المسياني:

بعد أن تحدث عن الفرح بالعودة من السبي، دخل بنا إلى الفرح الحقيقي في العهد الجديد حيث قدم لنا السيد المسيح كلمة الخلاص خلال تلاميذه ويكمل هذا الفرح بالأكثر عندما تحملنا الملائكة إلى اللقاء مع الرب في اليوم الأخير، إذ يقول:

"هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادوهم،

ثم بعد ذلك أُرسل إلى كثيرين من القانصين (صيادي حيوانات) فيقتنصوهم عن كل جبل وعلى كل أكمة،

ومن شقوق الصخور.

لأن عينيّ على كل طرقهم.

لم تستتر عن وجهي،

ولم يختفِ إثمهم من أمام عينيّ

وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين،

لأنهم دنسوا أرضي،

وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [16-18].

التشبيه الخاص بدعوة صيادي سمك للصيد بين شعب يهوذا شائع كما في (حز 12: 13؛ 29: 4-5؛ عا 4: 2، حب 1: 14-17). وأيضًا صيادي الحيوانات الذين يصطادون حتى من شقوق الصخور كان معروفًا، كما جاء في (عا 9: 1-4).

يقصد بالتشبيهين أن عيني الله تنظران إلى كل شيء حتى ما يبدو مخفيًا في وسط البحار أو في شقوق الصخور، وأنه لابد من المجازاة عن الشر أينما اُرتكب.

يرى كثير من الدارسين أن تقسيم العدو الذي يسبي البلاد إلى صيادي سمك وصيادي وحوش، وذكره أنه يعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، إشارة إلى السبي على دفعتين عاميّ 598، 587 ق.م، بهذا السبي الذي تم على مرحلتين انتهت حياة الأمة تمامًا.

الجزافون (صيادو السمك) والقانصون (صيادو الوحوش)

الجازفون في رأي العلامة أوريجينوس هم تلاميذ السيد المسيح، صيادوا السمك، الذين اصطادوا النفوس ودخلوا بها إلى شبكة الكنيسة الملقاه في بحر هذا العالم لتعيش كالسمك الصغير مع السمكة الكبيرة "المسيح نفسه". أما القانصون فهم الملائكة الذين يجتذبون المؤمنين الذين صاروا كالجبال والأكمة وتمتعوا بشقوق الصخور فصار لهم حق اللقاء مع عريسهم السماوي في اليوم الأخير. يقول العلامة أوريجينوس:

 [في شبكة الرسل نموت لنحيا من جديد! مكتوب في إنجيل متى أن مخلصنا جاء إلى شاطئ بحر الجليل ورأي "سمعان وأندراوس أخوه يلقيان شباكهم في البحر، لأنهما كانا صيادين" ثم يضيف الكتاب أن المخلص حينما رآهما دعاهما قائلاً: "هلم ورائي فأجعلكما صيادين للناس". هذان تركا شباكهما وتبعاه. ثم وُجد أيضًا أخوان: يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما. فدعاهما أيضًا ليكونا صيادين للناس. إذا نظرنا إلى الذين أعطاهم الرب موهبة الكلمة المجدولة مثل الشبكة، والمصنوعة من مجموعة كلمات متشابكة مع بعضهما البعض ومأخوذة من الكتاب المقدس، بحيث تأسر في شباكها نفوس السامعين، وإذا علمنا أن ذلك الأمر يستلزم تواضعًا كما يعلمنا السيد المسيح، لأدركنا أنه ليس في الماضي فقط أرسل الله صيادين للناس، إنما الآن أيضًا لا يزال يرسل الرب صيادين للناس بعدما يقوم بتعليمهم، حتى يخرجونا من البحر وينقذونا من مرارة أمواجه.

لكن الأسماك التي تقع في الشباك تموت موتًا بلا قيامة وليس لها  حياة بعد هذا الموت، أما الذين يسقطون في شباك صيادي السيد المسيح والذين خرجوا من البحر، يموتون هم أيضًا، لكنهم يموتون عن العالم وعن الخطية، بعد هذا الموت يحيون من جديد بواسطة كلمة الله ويأخذون حياة جديدة. أي أنك تخرج من البحر وتقع في شباك تلاميذ السيد المسيح، وعند خروجك تتغير نفسك، فلا تعد السمكة التي تعيش وسط الأمواج والخارجة من البحر لتموت، وإنما تتغير نفسك وتتبدل وتتحول إلى نفسٍ أفضل، بل وإلى نفسٍ إلهية. ويقول بولس الرسول: "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).

بما أن هذه النفس التي أُخذت من شباك الصيادين الذين أرسلهم السيد المسيح قد تغيرت ولم تعد بعد تعيش في البحر، لذا تعيش في الجبال، بحيث لا تعود تحتاج إلى صياد يصطادها من البحر، إنما تحتاج إلى نوع آخر من الصيادين البريين الذين يصطادون على كل جبلٍ وعلى كل أكمةٍ.

عندما تكون قد خرجت من البحر وأُخذت في شباك رسل السيد المسيح، تَغَيرْ في نفسك واتركْ البحر وامحه تمامًا من ذاكرتك، ثم تعالَ إلى الجبال التي هي الأنبياء، وعلى الأكمة التي هي الأبرار، واقضِ هناك حياتك، حتى متى جاء موعد رحيلك من هذه الحياة، يرسل إليك صياديين من نوع جديد وهم الملائكة الذين يستلمون أرواح الأبرار، فهم مكلفون باستلام الأرواح الموجودة على الآكام وليس الأرواح المائتة المطروحة إلى أسفل.

اعتقد أن هذا المعنى هو الذي كان يقصده النبي حينما قال في نبوته: "هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادونهم ثم بعد ذلك أرسل إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة".

إذ تتغير السمكة التي امسكها تلاميذ الرب، لتكف عن الحياة في البحر وتحيا في الجبال، فلا تحتاج بعد إلى صيادين يسحبونها من البحر، وإنما إلى نوع آخر من الصيادين اسمهم قناصين "يقتنصونها عن كل جبل وعن كل أكمة" [16] [343]].

الصعود على الجبال المقدسة

 [إن أردت أن يأخذك القانصون احذر من أن تقضي حياتك مختبئا في هذه الأرض وعائشًا في التراب، بل ابحث عن الجبال.

اصعد إلى الجبل الذي تجلي عليه السيد المسيح.

اصعد إلى الجبل الذي قيل عنه: ولما رأي الجموع صعد إلى الجبل، ولما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلاً طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، وبقية التطويبات التي علمها لهم السيد المسيح على هذا الجبل[344]].

["ثم أرسل بعد ذلك إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة ومن شقوق الصخور". غير مسموح لهؤلاء القانصين أن يصطادوا إلا على "الجبال" وعلى "الآكام" وفي "شقوق الصخور". كيف أفسر "شقوق الصخور"؟

ارجع إلى سفر الخروج وابحث فيه عن تفسيرٍ لذلك؛ أجد أن موسى النبي حينما أراد أن يرى الله، قال له الرب هذه الكلمات ليجيب على طلبه: "هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز. ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 33: 21).

إذا فهمت ما هي هذه الصخرة وما هي هذه الفتحة أو النقرة الموجودة فيها عالمًا كيف أن الذي يقف على الصخرة وينظر من خلال النقرة التي فيها يمكنه أن يرى الله لأمكنك أن تفهم ما هي الصخور العديدة وما هي شقوقها.

ما هي إذن تلك الصخرة الفريدة من نوعها؟ "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (1 كو 10: 4)"، وأيضًا: "وأقام على صخرة رجلي" كما يقول المزمور (40: 2).

ما هي إذًا النقرة الموجودة في الصخرة والتي تمكنا من رؤية ما وراء الله (فتنظر ورائي)؟

الصخرة هي السيد المسيح، والنقرة الموجودة فيها هي التجسد الإلهي، لأنه بمجيء السيد المسيح في الجسد أمكننا أن ننظر ما وراء الرب، أي الابن الكلمة.

إلى الآن لم نتكلم إلاّ على صخرة واحدة ونقرة واحدة فقط، لذا انتقل من نقرة الصخرة إلى شقوق الصخور. فإنه بالنظر إلى جماعة الأنبياء أو الرسل أو الملائكة القديسين، يمكنني أن أقول أن كل المتشبهين بالسيد المسيح، يصيرون صخورًا كما أنه هو أيضًا صخرة. وكما أن المخلص له نقرة يمكننا من خلالها أن نرى ما وراء الرب، كذلك أيضًا كل واحدٍ منهم، يصنع في نفسه نقرة أو شقًا يمكننا من رؤية الله، ذلك من خلال "كلماتهم" التي ترشدنا إلى الرب. فموسى قدم لنا الناموس، وإشعياء قدم لنا نبوته، وإرميا قدم لنا كلمات أخرى للرب. لكن إذا حدث وكان المتكلم هو ملاك كما تقول الآية: "الملاك الذي يتكلم في"، ففي هذه الحالة أيضًا يكون عندي "صخرة" و"نقرة"، وأرى الله من خلال كلمات (نقرة) الملاك (الصخرة).

أحتاج إلى مثال لأوضح كيف يمكننا أن نرى الله عن  طريق ملاك. مكتوب في سفر الخروج: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نارٍ من وسط عُلِّيقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترقثم بعد ذلك، لم تقل له الكلمة: "أنا ملاك من عند الرب"، وإنما: "أنا إله إبراهيم إله إسحق وإله يعقوب" (خر 3: 6).

إذن في هذه الحالة يظهر الله في صورة ملاك، وبالتالي يمكن رؤيته عن طريق  الصخرة التي هي الملاك، كذلك عن طريق النقرة التي هي كلمات الملاك له.

إذ تجهل متى يرسل الله إليك القانصين، يجب عليك ألا تنزل أبدا من على الجبال، ولا تترك الآكام، ولا تخرج من شقوق الصخور، لأنك إن وُجدت خارجًا، يُقال لك مثل أهل العالم الموجودين خارجًا باستمرار: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" يُقال لك نفس هذا الكلام إذا قلت في نفسك: "أهدم مخازني وابني أعظم منها، وأقول لنفسي: يا نفسي كلي وشربي لك خيرات كثيرة تكفيكِ لسنين كثيرة". أرأيت إذن كيف أن الإنسان الذي يعيش أسفل "الجبال" وأسفل "الآكام" وخارج "شقوق الأرض" يخطئ حتى في تقديره للخيرات، حاسبًا أن تلك الأشياء التي على الأرض  خيرات. يظن أن القمح وكثرة الأشياء الأرضية تسمى خيرات، ولا  يدرك أن الخيرات الحقيقية لا توجد في الأرض التي نزرعها وإنما في السماء، ولأنه حسب أن الخيرات موجودة في الأشياء الأرضية ظل يكنز كنوزًا على الأرض. لكن إذا اتبع أحد قول السيد المسيح وكنز كنزه في السماء، فلن يُقال له: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منكبل يأخذه القانصون من على الجبال أو من على الآكام أو من بين الصخور ليقوده إلى حيث الراحة الأبدية في أحضان القديسين والأنبياء وكل المطوبين في المسيح يسوع. "لأن عيني على كل طرقهم"، أي طرق الأبرار الذين نتحدث عنهم. فإن عيني الرب مركزة على كل طرق الناس الذين يعيشون على الجبال وعلى الآكام وبين شقوق الصخور. "لم تستر عن وجهي" أو "لم يختبئوا من أمام وجهي"، أي أن الأبرار لا يختبئون من أمام وجه الرب، أما الأشرار فيختبئون.

سمع آدم بعدما كسر الوصية صوت الرب يتمشى في الجنة فاختبأ، أما الأبرار فلا يختبئون، بل تعطيهم الحياة المقدسة في الرب ثقة يستطيعون من خلالها أن يقفوا أمامه، لأنه "إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه" (1 يو 3: 21-22).

بالرغم من أن آدم قد أخطأ إلا أن خطيته لم تكن خطية فظيعة، لهذا اختبأ من أمام وجه الرب، أما قايين فكانت خطيته أكبر بكثير، إذ قتل أخاه، فماذا فعل؟ "خرج قايين من لدن الرب" (تك 4: 16). بالنظر إلى الحالتين نجد أن الاختباء من وجه الرب" يكون من أجل شرٍ أقل. في الواقع "الاختباء" دليل على خزي الإنسان من خطيته.

إذًا فإن الأبرار "لم يختبئوا من أمام وجهي". حدث بعد ذلك أن هؤلاء الأبرار سقطوا في بعض الخطايا، ثم قام الصيادون المُرسلون من قبل الله بانتشالهم خارج خطاياهم أي من البحر. حتى لا يظن هؤلاء الأبرار أن انتشالهم مرة أخرى من الخطية وصعودهم ثانية إلى "الجبال"، يرجع إلى برهم أو قداستهم أو استحقاقهم يذكرهم الكتاب ويذكرنا نحن أيضًا بخطايانا السابقة، فيضيف قائلاً: "ولم يختفِ إثمهم من أمام عيني" [17] [345]].

يقول القديس جيروم أن اليهود المعاصرين له يفسرون صيادي السمك أنهم الكلدانيون، وصيادي الوحوش هم الرومانيون. غير أنه يمكن القول عن صيادي السمك أنهم المصريون الذين ارتبطوا بالنيل، وأن صيادي الوحوش هو البابليون، فإن كانت مملكة يهوذا تارة تلجأ إلى فرعون ضد بابل أو العكس، فإنه لن ينقذها هذا أو ذاك بل الرجوع إلى الله. وكأن إرميا النبي يحذرهم من الاعتماد على ذراع بشر.

"وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين،

لأنهم دنسوا أرضي،

وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [18].

يرى البعض أن الكلمة العبرية misneh التي تترجم عادة ضعفين double يمكن أن تفهم بمعنى معادل[346] equialent. هذا التعادل يحدث بأنهم دنسوا أرض الله بالآلهة التي بلا حياة، وكأنها جثث ميتة، لذا سقط عابدوها في الموت وأُلقيت جثثهم على الأرض لتدنس الأرض عينها التي دنسوها أثناء حياتهم بعبادتهم للأوثان (راجع إش 47: 6).

يقول العلامة أوريجينوس: [إن كلمة "أولاً" موجودة هنا فعلاً في موضعها الصحيح، لأن جزاء الإثم يكون "أولاً" ثم يأتي من بعده جزاء الخير. فإن الله لا يوزع الجزاءات بالترتيب العكسي. لأنه لو كان قد أعطى جزاء الخير أولاً لكان يجب أن تتوقف أعمال الخير حتى يمكننا أن نعاقب على الإثم. لكنه يُجازي الآن عن الخطية، حتى إذا انتهت الخطايا، تنتهي أيضًا عقوباتها، وبعد ذلك يجازي الله عن أعمال الخير. كذلك تجد في الكتاب المقدس أن الله يتحدث "أولاً" عن الأشياء التي تبدو أكثر حزنًا ثم يذكر بعد ذلك الأشياء الأفضل منها: "أنا أميت وأحيي، سحقت وإني أشفي" (تث 32: 39). "لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان" (أي 5: 18). لذلك فالإنسان الذي يفهم هذه الكلمات ويدرك معنى "عقاب الخطية أولاً" يمكنه أن يقول مع المرتل: "يارب من يسكن في مسكنك، من يحل في جبل قدسك؟ السالك بلا عيب، والفاعل البر، والتكلم بالحق في قلبه، الذي لا يغش بلسانه ولا يصنع بقريبه سوءًا، ولا يحمل تعيير على جيرانه. فاعل الشر مرذول أمامه. ويمجد الذين يتقون الرب" (مز 14)[347]] .

يقدم الله تعليلاً لتأديبهم، قائلاً: "لأنهم دنسوا أرضي" [18].

ينسب الله القدوس لنفسه هذه الأرض التي وهبها لشعبه، لذا لاق بهم أن يسلكوا فيها كما يليق بصاحبها القدوس، فتكون أرضًا مقدسة، وتصير لهم آمانًا، وتقدم لهم احتياجاتهم، حسب وعده الإلهي: "فتعلمون فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملونها لتسكنوا على الأرض آمنين، وتعطي الأرض ثمرها، فتأكلون للشبع وتسكنون عليها آمنين" (لا 25: 18-19).

يليق بكل ما ينسب للقدوس أن يكون مقدسًا: ملائكته وكل الطغمات السمائية، المؤمنون به، هيكله، الأواني المستخدمة فيها، المذبح الخ. حتى الأرض التي يقدمها لشعبه! ويحسب الله كل تدنيس أو إفساد لقدسية هذه الأمور إهانة موجهة إليه شخصيًا! بمعنى آخر كل استهتار في بيت الرب الذي دُشن باسمه القدوس؛ كل تهاون بالهيكل المقدس، كل تدنيس لجسدك الذي هو هبته لك كهيكل لروحه القدوس... إنما هي خطية موجهة ضد الله.

كثيرًا ما يتساءل بعض الشباب: لماذا يحسب الله الفكر الشهواني خطية؟ أو لماذا يُعتبر الزنا خطية مادامت برضى الطرفين وليس من يصيبه ضررًا في المجتمع؟ الإجابة أن فكرك كما جسدك وجسد الغير هو مركز ملكوت الله القدوس، حتى الفكر الخفي الشرير إن قبلته بتهاونٍ وتراخٍ فيه إساءة إلى مقدسات الله. عندما يمر بك فكر شرير قل لنفسك: "لا تدنس أرض الرب المقدسة!"

ربما بقول الله عن شعبه: "لأنهم دنسوا أرضي" [18]، يمكننا أن نفهم لماذا طلب الله من إرميا التوقف عن مشاركة الشعب في كل شيء. الأرض التي تدنست لا تستحق أن يقيم فيها رجل الله عائلة تستقى فيها، ولا أن يشارك الشعب في ولائمهم سواء في الأحزان أو الأفراح، بل يعتزل كل شيء! هكذا إذ ندنس أرض قلوبنا نُحرم من الحضرة الإلهية ومن شركة القديسين والسمائيين حتى نعود بالتوبة فنتقدس بعمل روح الله القدوس، نتحد مع الآب في ابنه، وتكون لنا شركة مع القديسين وننعم حتى بالعبادة مع السمائيين.

"يارب عزِّي وحصني وملجأي في يوم الضيق،

إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون:

إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه.

هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟!

لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة،

أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [19-21].

يختتم هذا الأصحاح بقطعة شعرية رائعة تتحدث عن خلاص الشعب من السبي، وفي نفس الوقت عن خلاص الأمم وقبولهم الإيمان فتكون لهم معرفة حية بالله مخلصهم.

يكشف إرميا النبي عن عظمة خلاص الله، الأمر الذي يشد انتباه كل الأمم فيدركوا ان ما حدث لم يكن عن قوة بابل عندما سبت يهوذا ولا عن ضعفها عندما تحرر الشعب كله (إسرائيل ويهوذا)، وإنما هي خطة الله ضابط التاريخ، في يده كل أمور البشرية.

يقوم الله بدور المدرس ليعلم الأمم بطلان العبادة الوثنية ويكشف لهم عن نفسه وعن قدرته واسمه لكي يختبروا الحياة معه.

ُيلقب الله: "عزَّي (قوتي)، "حصني"، "ملجأي"، وهي عبارات وردت في المزامير (18: 3-4؛ 28: 1-7؛ 59: 11، 18-19) وفي مواضع أخرى تعبر عن الثقة في الله العامل في حياة أولاده.

لم يكن حلمًا لدى إرميا النبي أن تأتي الأمم من كل أطراف الأرض لتعترف ببطلان آلهتهم الوثنية، وتتعرف على الرب وعلى يده القوية وعلى اسمه، إنما كان ذلك نبوة عن الخلاص التي تتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم كله.

هنا نلاحظ تكرار كلمة "أعرف" ثلاث مرات، ربما إشارة إلى التمتع بالإيمان الثالوثي.

أعلن إشعياء النبي عن هذا الحدث العجيب قائلاً: "عزوا عزوا شعبي... صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا. كل وطاءٍ يرتفع وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً، فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعًا، لأن فم الرب تكلم" (إش 40: 1-5). وقد اقتبس القديس مارمرقس هذا القول النبوي في بدء إنجيله (مر 1: 15).

ويعلق القديس أغسطينوس على كلمات إرميا النبي: [هوذا الآن يحدث هذا؛ هوذا الأمم تأتي من أقاصي الأرض إلى المسيح تنطق بأمور كهذه نازعة عنها عبادة الأوثان! [348]].

يقول العلامة أوريجينوس: [هلموا لنرى ماذا تقول النبوة عنا: "يارب عزي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة" [19]. جاءت الأمم  من أطراف الأرض. كيف "من أطراف الأرض"؟ يوجد على الأرض أناس أولون ويوجد أيضًا أناس آخرون. فمن هم هؤلاء الأولون؟ أولون على الأرض وليسوا أولين على كل شيء؟ هم حكماء هذا العالم وأغنياؤه. ومن هم الآخرون؟ "واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 1: 28). إذًا "تأتي الأمم من أطراف الأرض". كأنه يقول: إن تلك الأمم مكونة من الأدنياء والمزدرى بهم والجهال والناس الآخرين على الأرض.

"ويقولون: إنما كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة": ليس أن يوجد أصنام صادقة عكس الأصنام الكاذبة المذكورة في الآية، إنما يقصد بها الأصنام عمومًا، التي بطبيعتها كاذبة ولا يوجد فيها منفعة[349]].

"هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟!

لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة،

أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [20-21].

يقول العلامة أوريجينوس: ["هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة؟!" [20]. لا يصنع الناس لأنفسهم آلهة من خلال التماثيل والأصنام فقط، لكنك تجد أيضًا أناسًا يصنعون لأنفسهم آلهة من خلال أوهامهم وتصوراتهم (الفلاسفة والهراطقة). عمومًا جميع الذين يصنعون لأنفسهم آلهة أخرى غير الرب، وخليقة أخرى مخالفة لترتيب العالم الذي أخبرنا به الروح (روح الله) ومخالفة للعالم الحقيقي، كل هؤلاء يصنعون لأنفسهم آلهة، ويعبدون عمل أيديهم. إذن كل الذين يصنعون لأنفسهم آلهة من الأصنام والذين يصنعونها من تصوراتهم الشخصية، يرفضهم الرب إذ قيل:

"إذا صنع الإنسان لنفسه آلهة إذًا فهي ليست آلهة.

لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة أعرفهم يدي وجبروتي".

"هذه المرة"، ماذا يقصد بـ "هذه المرة"؟ يقصد بها المجيء التالي للرب، خاصة لأنه يضيف بعد ذلك: "فيعرفون أن اسمي يهوه"[350]].

 


 

من وحي إرميا 16

دنسوا أرضي

v     هذه هي شكواك في كل العصور:

"لأنهم دنسوا أرضي!"

منعت إرميا من أن يقيم أسرة،

تكون له زوجة وأولاد،

وأن يشترك في ولائم الجنازات والأفراح،

لأنه يعيش في أرضٍ لا تستحقه!

هوذا إرميا يبكي، وجدران قلبه توجعه،

يريد أن تتقدس أرض الله التي تدنست!

v     أخجل من أن أحدثك يا إله إرميا،

نزلت إلى أرضي لتقيم ملكوتك المقدس في داخلي،

قدمت لي دمك الثمين خلاصًا،

وترثي دومًا لضعفاتي!

تريد أن تضمني إليك،

فأصير أهل بيت الله،

أنعم بشركة القديسين،

وبالتسبيح مع كل طغمات السمائيين!

قدس أرضي، ففي غباوتي دنستها بإرادتي!

v     حسب مواعيدك الصادقة

هب لي خروجًا جديدًا،

ليس خروجًا من عبودية فرعون،

ولا خروجًا من سبي بابل،

بل تحررًا من سلطان الخطية الجبارة!

حررني... قدسني... يا عزي وحصني وملجأي!

v     هب لي معرفتك الحقة يا قدوس،

فانجذب إليك ويجري معي كثيرون نحوك!

ضُمنا إلى ملكوتك أيها القدوس،

ورد لأرضك قدسيتها!

حول أرض قلبي إلى سمواتك!

عوض الظلمة التي حلت في أشرق بنوركِ عليّ.

تعالْ أيها الرب يسوع،

أرضك في داخلي تترقب حلولك!

v     نعم، تعالْ يا مخلصي القدوس!

هوذا نفسي وفكري،

جسدي وأحاسيسي،

قلبي وكل أفكاري،

قد صارت أرضك المقدسة!

تعال، واستلم أرضك فيّ، فلا تتدنس!

روحك القدوس هو مقدسها وحارسها والعامل فيها!

<<


 

الأصحاح السابع عشر

خطايا يهوذا

بين الحين والآخر يكشف الله لنا لا عن خطورة الخطية وفاعليتها فحسب، وإنما يعلن عنها في تفاصيلها كما عن أثرها في أعماق الإنسان وطبيعته، حتى نحذر منها فنهرب إليه، بكونه الطبيب والدواء، يستطيع وحده أن يجدد طبيعتنا ويهبها الشفاء!

1. الخطية المحتلة للقلب[1-4].

2. الاتكال على ذراع بشر [5-8].

3. القلب نجيس! [9-10].

4. الارتباط بالأرضيات [11-13].

5. الله مخلصنا منها [14-18].

6. كسر السبت [19-27].

1. الخطية المحتلة للقلب:

قبل أن يحدثنا عن أهم الخطايا التي سقط فيها هذا الشعب، والتي نسقط نحن فيها بصورة أو أخرى صوّر لنا خطورة هذه الخطايا بكونها تحتل القلب نفسه الذي كان يلزم أن يكون هيكلاً لله، وتنحت على قرون المذبح الداخلي، فتفوح رائحة الدنس فينا عوض رائحة المسيح الذكية.

"خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديد،

برأسٍ من الماس،

منقوشة على لوح قلبهم،

وعلى قرون مذابحكم" [1].

يقول العلامة أوريجينوس:

[توجد نبوة أخرى، لا أدرى كيف أنها غير موجودة في الترجمة السبعينية لكننا نجدها في النسخ الأخرى، خاصة وأنها موجودة في العبرية. هذه النبوة مليئة بالتعاليم الهامة والضرورية، التي إن طبقناها في حياتنا يمكنها أن تقودنا إلى التوبة. إليكم كلماتها: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم" [1]. يمكننا أن نلجأ إلى التفسير السهل فنقول إن "الخطايا المكتوبة" هي خطايا شعب اليهود.

لكننا إن دققنا النظر كما وضحنا قبل ذلك فإن كلمة "يهوذا" يُقصد بها السيد المسيح، لذلك تصبح "خطية يهوذا" هي خطيتنا نحن الذين نؤمن أن السيد المسيح جاء من سبط يهوذا.

إن أردت أيضا تفسيرًا آخر لتلك الآية، يمكننا القول بأن النبي يقصد هنا يهوذا الاسخريوطى الخائن، بذلك تقول النبوة عنه: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ، برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم"، ولكن  جاءت كلمة "قلبهم" بصيغة الجمع لا تلائم حالة يهوذا الخائن.

ألا تنطبق هذه النبوة علينا نحن بالأكثر؟ لقد أخطأنا وخطيتنا لم تُكتب خارجًا عنا، إنما في قلوبنا، كُتبت بقلمٍ من حديد وبرأسٍ من الماس. ستثبت التجربة أن الخطايا التي نرتكبها تُكتب في داخلنا بمجرد أن نرتكبها. كما لو كانت "علامة" الخطية تُنقش في داخل نفسي لمجرد إني ارتكبتها. لو كانت خطيتي قد كُتبت بالحبر، لاستطعت أن أمحوها، ولكن ها هي قد كُتبت بقلم من حديد وبرأس من الماس، وكتبت كذلك في قلبي، لكن إذا ما وقفت لأحاكم في اليوم الأخير، تتحقق النبوة القائلة: "لأنه ليس مكتومًا إلا سيظهر ولا خفيًا إلا سيعلن". سيتم الكشف عن قلبي لأقف عاريًا أمام الجميع، حيث يقرأ الكل علامات الخطايا المكتوبة بالقلم الحديدي وبرأس الماس التي ستكون ظاهرة لجميع الناس. ُكتب عن ذلك: "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب" (1 كو 4: 5)، لِمَن سُيظهرها؟ ليس لنفسه، لأنه هو العارف كل الأشياء قبل أن تكون، إنما سُيظهر آراء القلوب للناس الأتقياء الأنقياء الذي بنقائهم يستطيعون أن يروا خطايا الناس الذين أخطأوا، حتى "يستيقظون إلى العار للإزدراء الأبدي" (دا 12: 2).

ليحفظنا رب جميع الأشياء لكي نستيقظ ونقوم في اليوم الأخير بالمجد الذي للمسيح يسوع، الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى دهر الدهور آمين[351]].

تحتل الخطية القلب نفسه، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [تُوجد الخطية في موضع النعمة، لكن الخطية تُكتب بقلم أما النعمة فبالروح].

تُسجل الخطايا التي نرتكبها في داخلنا لأننا نرتكبها بإرادتنا، وعلامة تسجيلها ليس فقط أنها تُعلن في يوم الرب، وإنما تظهر أيضًا فينا حاليًا إذ يسيطر فينا الشر، ويجد إبليس عدو الخير له فينا موضعًا، يصير له الحق أن يعمل فينا عوض السلطان الذي صار لنا وبه ندوس عليه تحت أقدامنا. بارتكابنا الخطية نفقد سلطاننا الداخلي، خاصة على الأفكار والأحاسيس. في هذا يقول الرسول بولس: "أفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة" (رو 2: 15).

ماذا يعني بقلبهم [1] هنا؟

الكلمة العبرية التي تترجم هنا "القلب" يمكن أيضًا ترجمتها "العقل" أو "الإرادة"، ويقصد بها القوة المركزية داخل الإنسان التي توجهه ليأخذ قراراته. وأيضًا بالنسبة للجماعة تعني أصحاب السلطة الذين يعطون قراراتهم[352]. القلب هنا يعني إرادة مملكة يهوذا، إذ سبق فقال: "انزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم" (4: 4)، كما قال: "اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم" (4: 14). ملك الشر عميقًا في قلوبهم، وسيطر على إرادة الجماعة كلها، لهذا صارت الحاجة إلى عهد جديد يمس أعماق القلب، ويقدس الإرادة الداخلية، ويجدد الطبيعة البشرية. عن هذا العهد يقول: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا... اجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا" (31: 31-33). ما دامت تخرج الخطية من أعماق القلب ومن خلال الإرادة، فالحاجة إذن إلى عهدٍ جديدٍ لا تُكتب فيه الشريعة على ألواح حجرية بل تخترق الأعماق الداخلية.

بلغت الخطية قلب مملكة يهوذا، إذ احتلت أورشليم مدينة الله المقدسة، وبلغت قلبها، وتعلقت بقرون المذبح بكونها قلب المذبح، أو أقدس موضع فيه (لا 16: 18، عا 3: 14)، هذا الذي من خلاله تتم المصالحة بين الله والشعب، ويتمتع الشعب بقوة الله وإمكانياته (القرون)، فصارت منقوشة بآلة حديدية خاصة بالنحت، هذه التى لا يليق أن تمس مذبح الله (تث 27: 5؛ خر 20: 25). بإصرارهم على الشر استخدموا آلة رأسها من الماس ليسهّل عملية الحفر أو النقش.

الاتهام بحق خطير لأنه يمس حياة الشعب كله في علاقته بالله، كما يمس المقدسات الإلهية، وأيضًا العمل الكهنوتي! قدم الله لشعبه لوحيّ الشريعة منقوشين على حجارة بأصبعه الناري (خر 32: 6)، وجاء تجاوب الشعب مناقضًا لذلك، إذ قدموا خطيتهم منقوشة على مذبح الرب. هو يقدس قلوبنا الحجرية ليعمل منها مَقْدِسًا له، ونحن في شرنا ندنس حتى مقدساته.

يفسر كثير من الدارسين ما ورد في هذا القسم (17: 1-4) على أنه يخص خطايا جنسية واباحية ورجاسات. لما كانت الخطية الرئيسية التي ارتكبتها مملكة يهوذا  - حسب سفر إرميا - هي الخيانة الزوجية أو الزنا الروحيّ، لهذا يفسر البعض عبارة: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ، برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم وعلى قرون مذابحكم" [1]، هو انهم كانوا ينحتون على المذابح خاصة قرونها الأربعة الأعضاء الجنسية للذكر ويتعبدون لها... صورة بشعة للانحطاط الأخلاقي والرجاسات التي بلغها الشعب علانية، حيث كانوا يمارسون ما يُدعى بعبادة الذكر[353] Phallic worship.

"كذكر بنيهم مذابحهم وسواريهم عند أشجارٍ خضرٍ على آكام مرتفعة" [2].

السارية هي عمود خشب مستقيم يُثبت على الأرض بجوار المذبح، وهو يمثل إلهة الخصوبة، هذه التي من أجلها وبخ الله شعبه قائلاً: "قائلين للعود أنت أبي" (2: 27)، كنوع من السخرية، لأنها مؤنث ويخاطبونها كأبٍ لا كأم، أي فقدوا روح التمييز الطبيعي.

يرى[354] R.E. Clements أن إقامة السواري مرتبط بطقوس خاصة بالخصوبة، إذ كانوا يتطلعون إلى الخصوبة والممارسات الجسدية كأمرين يمسان قوة الحياة السرية، لهما آثارهما حتى على محاصيل النباتات واخصاب الحيوانات. هذه القوة تصدر عن ممارسات بين الآلهة والإلهات، وإن ممارسة الرجال والنساء ومشاركتهم في هذه الطقوس تعطيهم قوة الحياة.

لعله لهذا السبب كانت الرجاسات ُتمارس بجوار مذابح ُمقامة تحت كل شجرة خضراء على أكمة مرتفعة، لكي تقدم الآلهة الخصوبة للنباتات والحيوانات كما للإنسان.

لا يقف الأمر عند خصوبة النباتات والحيوانات، وإنما هذه الممارسات - في ذهنهم - تهبهم قوة للصراع ضد قوى الموت السرية غير المنظورة. وكأن الخصوبة والجنس يمثلان حياةً أو موتًا، بقاءً أو دمارًا! لهذا لا نعجب إن ارتبطت المذابح والسواري بالممارسات الدنسة والرجاسات كطقس ديني، كما يظهر من (2 مل 23: 5-7). أما ثمر ذلك فهو:

"يا جبلي في الحقل،

أجعل ثروتك كل خزائنك للنهب

ومرتفعاتك للخطية في كل تخومك،

وتتبرأ بنفسك عن ميراثك الذي أعطيتكَ إياه،

وأجعلك تخدم أعداءك في أرضٍ لم تعرفها،

لأنكم قد أضرمتم نارًا بغضبي تتقد إلى الأبد" [3-4].

على ضوء ما سبق الإشارة إليه بخصوص ارتباط الوثنية بالرجاسات يرى بعض الدارسين مثل Holladay أن الثروة والخزائن هنا إشارة إلى أعضاء الذكر بشيء من السخرية، حيث كان معتقدهم هكذا. إذ عبدوها صار الجزاء من ذات النوع، حيث خصى الأعداء رجالهم العظماء حتى لا ينجبوا أولادًا يمكن أن يفكروا في العودة إلى أرض الموعد كميراثٍ لهم، بل يبقى المخصيون عبيدًا لسادتهم، الأمر الذي يمس وجودهم ذاته. هكذا لم تهبهم عبادتهم قوة الإنجاب ومقاومة الموت بل انهيارًا وتحطيمًا وموتًا!

2. الاتكال على ذراع بشري:

أول خطية تهاجم الإنسان هي اعتزاله الله مصدر حياته متكئًا على ذراعه البشري أو الأذرع الأخرى.

يتحدث النبي ضد الذين لا يرون في الله أنه ينبوع حيّ، بل يشقون لأنفسهم آبارًا آبارًا لا تضبط ماءً (2: 13). إنهم يجرون وراء سراب يحمل مياهًا خادعة (15: 18). الآن يطالبهم الله بالتوبة، موضحًا لهم أن من يتكل على ذراعٍ بشري لا على الله يصير صحراء قفراء بلا ثمر. أما من يُصر على الاتكال على الله حتى في لحظات الضيق فسيأتي بثمرٍ حتى في وقت الجفاف أو القحط.

سنة الجفاف لا تقدم ماءً لغير المتكلين على الله كما للمتكلين عليه، لكن الفارق أن الأولين يجفون كالعرعر ويصيرون كقشٍ بلا ثمرٍ أو كأرضٍ مملحة أو حجرية، أما الآخرون فبالإيمان تمتد جذورهم لتتمتع بالمياه الخفية وتقدم للساق والأوراق احتياجاتها فلا يتوقف الثمر.

"هكذا قال الرب:

ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان،

ويجعل البشر (الجسد) ذراعه وعن الرب يحيد قلبه...

مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله" [5، 7].

لعله لهذا الهدف يسمح الله لنا بالضيقة حتى تتبدد أمامنا كل الأذرع البشرية ونجد الله هو الملجأ الوحيد لنا. وكما يقول القديس جيروم: [أتريد أن يسمع لك الرب متحننًا؟ أدعوه وأنت في الضيق فيجيبك مترفقًا. فإنه لا يقدر الإنسان أن يدعو الرب لمعونته إلا وهو في الضيق، حيث يكون ذراع الإنسان بلا قيمة].

يقدم الله لنا ذاته لكي نقتنيه سر قوة وشبع فلا نعتاز إلى شيء، أما إذ وضعنا ثقتنا في أنفسنا أو طاقاتنا أو خبراتنا الماضية أو سلطاننا أو اقربائنا أو أصدقائنا، أي نتكل على الجسد، ينسحب الله منا ونسقط!

v     يليق بنا أن نعتمد على الله وحده وليس على أحدٍ غيره، حتى إن قيل إنه جاء من فردوس الله، كما يقول بولس: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 8)[355].

العلامة أوريجينوس

v     لينسحب الإنسان من ذاته، لا لينحط إلى أسفل!

لينسحب الإنسان من ذاته ليلتصق بالله[356].

القديس أغسطينوس

v     لنتحدث الآن عن الآية الموجودة في الأصحاح السابع عشر، والتي تقول: "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل الشر ذراعه" (17: 5). هذه الكلمات تساعدنا وتمكننا من الرد على الذين يعتقدون أن المخلص كان إنسانًا ولم يكن أبدًا ابن الله، لأنه إلى جانب جرائم الناس، فإن بعضًا منهم تجرءوا أن يقولوا إن "الوحيد الجنس والكائن قبل كل الخليقة" ليس هو الله.

"ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان"، يمكنني أن أقول إنني لا أتكل على إنسان؛ فحينما أتكل على السيد المسيح، لا أعرفه كإنسانٍ (موجود معي بالجسد)، لكنني أعرفه بكونه الحكمة والعدل، بكونه الكلمة الذي به كل الأشياء خلق ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى.

 بالرغم من أن المخلص يشهد ويؤكد أن ما أخذه كان جسدًا بشريًا إنسانيًا، وبالرغم من أنه كان إنسانًا بالحقيقة، إلا أنه لم يعد إنسانًا في وقتنا الحاضر. لأنه "وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد" (2 كو 5: 16). أنا نفسي، بالسيد المسيح، لم أعد بعد إنسانًا، فهو يؤكد لنا: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي تُدعَوْن".

"ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه": أي ملعون الذي يعطي قيمة للأشياء الجسدية والمادية والذي يستخدم قوته الجسدية ويتكل على جسده. أما الإنسان البار فلا يجعل البشر ذراعه إنما يحمل في جسده كل حين إماتة الرب يسوع ويميت أعضاءه الجسدية، الزنا والنجاسة؛ وبإماتة أعضائه لا يتكل على ذراعه.

 هذه الآية أيضًا موجهة إلى الذين يتكلون على المراكز العليا والوسائط لمساعدتهم: إن صديقي فلان رجل سياسي كبير؛ أو محافظ؛ أو حاكم؛ أو ان صديقي هذا رجل غنى يعطيني بسخاء. يجب علينا ألا نتكل على أي إنسانٍ حتى ولو بدى صديقًا لنا. اتكالنا هو على ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد والقدرة إلى دهر الدهور. آمين[357].

العلامة أوريجينوس

v     لا يمكننا القول بحق إن الإنسان لا يضع رجاءه في إنسان متى وضعه في نفسه[358].

v     إن وضعت رجاءك في إلهك لن تخزى، فإن الذي تضع فيه ثقتك لا يمكن أن يخدع[359].

v     ليس أحد يليق به أن يثق في ذاته ليصير مواطنًا في المدينة الأخرى الغير مدشنة باسم ابن قايين في هذا الزمان الحاضر، أي في الفترة الزائلة لهذا العالم الميت، وإنما في الخلود للبركة الدائمة[360].

v     ينبغي للشخص ألا يكون له فرحه في ذاته، إن تطلع إلى الأمر بوضوح، إذ لا يليق بأحدٍ أن يحب حتى ذاته لأجل ذاته، بل لأجل (الله)، ذاك الذي هو موضوع المتعة الحقيقية[361].

v     يلزمنا ألا نطلب شيئًا إلا من الله الرب، سواء ما نرجو عمله حسنًا، أو نرجو نواله كمكافأة عن الأعمال الصالحة[362].

هذه هي الخطية الأولى: "الاتكال على ذراع بشر"، خاصة اتكال الإنسان على بره الذاتي أو قدراته أو مواهبه أو خبراته القديمة لا على ذراع الرب. مثل هذا يحرم نفسه من مجارى مياه الروح القدس، القادر وحده أن يقود نفسه بكل إمكانياتها، وجسده بكل أحاسيسه وقدراته ليحيا كشجرةٍ مثمرةٍ تحمل ثلاثين وستين ومائة!

أشر خطية يمارسها الإنسان هي اتكاله على ذاته أو على الآخرين، وأجمل فضيلة يمارسها الإنسان هي أن يرتمي عل صدر الله ليتقبل عمل الروح القدس فيه، فيشكله على صورة المسيح ويجعله على مثاله، ويهبه شركة الطبيعة الإلهية، مهما بدت الظروف قاسية ومقاومة للعمل الإلهي!

v     ليته لا يغش إنسان نفسه، ليته لا يخدع أحد ذاته، فإن الرب وحده يقدر أن يرحم. هو وحده القادر أن يهب غفرانًا عن الخطايا التي اُرتكبت ضده، هذا الذي حمل خطايانا وتألم لأجلنا[363].

القديس كبريانوس

إذ كان إرميا النبي يتحدث عن التأديب بالقحط، لذا أوضح أن من يتكل على ذراعٍ بشري يصير كنبات العرعر الذي يظهر في منطقة العربة، هذا الذي سرعان ما يصير كالقش الجاف. أيضًا يشبه النبات المزروع في أرض مملوءة ملوحة، هذا وكان وجود الملح في التربة يُحسب لعنة. أما الذين يتكلون على الله فينالون ثمرًا حتى في فترة الجفاف أو القحط:

"ويكون (المتكل على جسدٍ) مثل العرعرِ في البادية (الصحراء)،

ولا يرى إذا جاء الخير،

بل يسكن الحر في البرية أرضًا سبخة (حقولاً حجرية) مملحة وغير مسكونة.

مبارك الرجل الذي يتكل على الرب.

وكان الرب متكله.

"فإنه يكون كشجرةٍ مغروسةٍ على مياه وعلى نهر،

تمد أصولها ولا ترى إذا جاء الحر،

ويكون ورقها أخضر،

وفي سنة القحط لا تخاف،

ولا تكف عن الإثمار" [6-8].

في المزمور الأول يتحدث المرتل عن الرجل الذي يتمتع بكلمة الله كينبوع مياه يجعله كشجرة دائمة الخضرة كثيرة الثمر، أما هنا فيكشف عن الأعماق الخفية، حيث يحمل الإنسان جذورًا خفية تستطيع أن تبلغ إلى المياه الجوفية العميقة لتروى الأوراق وتقدم الشجرة ثمارًا حتى في لحظات القحط، في الوقت الذي فيه يُحرم غيرها من مياه الأمطار أو الأنهار.

3. القلب نجيس!

"القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس من يعرفه؟!

أنا الرب فاحص القلب، مختبر الكلى،

لأعطي كل واحدٍ حسب طرقه، حسب ثمر أعماله" [9-10].

نطق الرب بهذه الكلمات أولاً لكي يعطي راحة لإرميا النبي الذي كان يئن بسبب سقوط الشعب تحت السبي. كأن الله يقول له: تعالَ وأنظر إلى أعماق القلب الذي أنا وحدي أعرفه، إنه نجيس! إنه مستحق للموت! فالتأديب هو لصالحهم، كى يطلبونني فأنزع عنهم فساد قلوبهم!

إذ شرح القديس جيروم هذه العبارة اقتبس القول: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تك 6: 5).

يرى Holladay أن كلمة "نجيس" هنا كما في ستة مواضع أخرى في العهد القديم من ثمانية (15: 18؛ 17: 16؛ 30: 12، 15، إش 17: 11؛ ميخا 1: 9، أي 34: 6) جاءت بأسلوب طبي، حيث يظهر الإنسان معانيًا من الألم أو الكسر أو الجرح الداخلي، طبيًا لا يمكن علاجه![364] إنها مشكلة طبية لكنها لا تمس الأعضاء الظاهرة فحسب، بل أعماق الإنسان كما أعماق الجماعة، لأنها تمتد إلى الطبيعة البشرية.

جاء السؤال هنا كما في كثير من المواضع في سفر إرميا لا إجابة عليه إلا بتدخل المسيا، إذ يتساءل: "من يعرفه؟" الإجابة: المسيا الذي خلقه وقادر أن يجدده! هو وحده يمكنه أن يدرك ما بلغ إليه حاله، وقادر أن يتدخل للعمل والعلاج. لهذا صرخ إرميا: "اشفني يارب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت تسبيحتي" [14]. كأن إرميا النبي في محبته لشعبه واتضاعه وصراحته يقول لشعبه: إنني وإن لم أشترك معكم في خطاياكم، لكنني أحسب خطاياكم هي خطاياي، وجرحكم هو جرحي. هذا وإنني لا أتكلم من موقع المعلم المرتفع على تلاميذه والمُبرر في عيني نفسه، بل من موقع الخاطى المجروح المحتاج معكم إلى طبيب ودواء! إلهنا ومخلصنا هو الطبيب وهو البلسان (8: 22) لكم ولي!

لقد سبق فتساءل: "هل يغير الكوشي جلده؟ أو النمر رقطه؟" (13: 23). الآن لا يتحدث عن الكوشي أو النمر بل عن الطبيعة البشرية في كل العصور، كما اختبرها النبي في حياته اليومية، وكما رآها في حياة الشعب المحيط به... إنها تحتاج إلى علاج مسياني.

يرى R.E. Clements أن كلمات النبي هنا عن القلب أنه نجيس يطابقها نظرة فرويد وتحذيره من قدرة العقل الإنساني على تحقيق خداع النفس[365]، وكما يقول كثير من علماء النفس الحديثين إن الإنسان أقدر على خداع نفسه من خداعه للآخرين.

v     الله وحده الذي يعرف أسرار الإنسان. اسمع ما يقوله النبي: "أنت وحدك تعرف القلوب" (2 أي 6: 30)، وأيضًا: "الله يفحص القلوب ويملك" (مر 7: 9)، ويقول إرميا: "القلب عميق فوق كل الأشياء، وهو إنسان، من يعرفه؟!" [9]. ينظر الإنسان الوجه، وأما الله فينظر القلب" (1 صم 16: 7) [366].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     معرفة أسرار الناس تخص الله وحده...

يقول إرميا: "القلب عميق أعمق من كل الأشياء، إنه إنسان، من يقدر أن يعرفه؟!" [9] (LXX) [367].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [يرى أيوب العالم مكانًا يتجرب فيه البشر على الأرض (أي 7: 1) فيتزكون في هذا العالم بالأحزان والأتعاب والغم، وينال كل واحد منهم المجازاة التي تتلائم معه، إذ يقول الله على لسان النبي: "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى لأعطي كل واحدٍ حسب طرقه" [10] [368]].

4. الارتباط بالأرضيات:

إذ يتحدث فاحص القلوب عن قلب الإنسان معلنًا أنه نجيس يكشف عن سّر نجاسته وفساده، ألا وهو ارتباطه بالأرضيات عوض انطلاقه نحو الأبديات. يطلب الغنى لا فيما يليق بالقلب كهيكل الله المقدس، إنما بأمور العالم الزائلة وشهوات الجسد المؤقتة، فيكون أشبه بالحجلة التي تحتضن بيضًا ليس لها، فتتعب في الاحتضان وتضم ما ليس لها، وفي النهاية تظهر أنها سلكت عمرها كله بحماقة.

"حجلة تنطق بصوتها (الترجمة السبعينية)،

تحتضن ما لم تبض،

محصل الغني بغير حق،

في نصف أيامه يتركه،

وفي آخرته يكون أحمق" [11].

غالبًا ما كان هذا مثلاً شائعًا في ذلك الحين، يُقصد به أنه إذ يظن الإنسان أنه يملك لكنه وهو يتعب ويشقى يخسر الكثير ويتركه الغني وهو بعد في العالم في منتصف أيامه، أما في آخرته فيدرك أنه سلك بحماقة.

هذا هو التفسير الحرفي للعبارة؛ وقبل أن نلقي ضوءًا عليها خلال المفهوم الروحيّ العميق نود توضيح أن الحجلة هي طائر برّي، يسمى في العبرية "قوري"، وتعني "الصارخ أو المنادي" ولعله لهذا السبب جاء في النسخة السبعينية: "حجلة تنطق بصوتها" أو "تعطي صوتها"، إنها صاحبة أصوات لكن بلا عمل حق! هكذا الغني في جهاده المرّ من أجل التمتع بالغنى ماديًا أو الشبع جسديًا يكون كمن يعطي صوتًا بلا عمل، لأنه يترك كل شيء ويخرج عريانًا من هذا العالم.

توجد الحجلة في فلسطين ويستخدمها الصيادون كطُعم لاصطياد بعض حيوانات البرية (ابن سيراخ 11: 30)؛ ويوجد منها نوعان في فلسطين: حجل الصحراء أو حجل هأي الرملي Amoperdix heyi الذي قارن داود النبي نفسه به حاسبًا نفسه كحجلٍ مطارد (1 صم 26: 20)، والثاني حجل الشوكار Caccabis Chukar ويمتاز بلحمه الشهي للغاية، يطارده الناس حتى يلتقطونه بأيديهم، له ريش بهي الألوان عند طرفي الجناحين وساقان ومنقار أحمر داكن وعنق أسود قاتم، وهو طائر كبير[369]. يُقال إنه يصنع عشه في الأرض لا على الأشجار، لذا يسهل الوصول إلى صغاره.

جاءت كلمة "حجلة" هنا بالمذكر، لأنه من عادة هذا الطير ان تقوم الأنثى باحتضان بعض البيض والذكر البعض الآخر[370].

أما التعبير "في نصف أيامه يتركه" فجاء في العبرية يحمل معنيين: إما أن الشخص الغَني يترك غناه (بموته)، أو العكس الِغنى ذاته يترك الإنسان حيث يفتقر الأخير. ولعل إرميا النبي يقصد المعنى الثاني حيث يُساق الملك إلى السبي ويفقد خزائنه فكان غبيًا لأنه لم يسمع لصوت الرب، فقد غناه الزمني ومجده وأبديته. هكذا كل خاطي متمسك بشره، إنما يحتضن ما ليس له ليتركه، وقد تحدث إشعياء النبي عن الأحمق قائلاً: "لأن اللئيم (الأحمق) يتكلم باللؤم وقلبه يعمل إثمًا ليصنع نفاقًا، ويتكلم على الرب بافتراء، ويفرغ نفس الجائع، ويقطع شرب العطشان" (إش 32: 6).

يرى القديس هيبوليتس أن هذا الطائر متعجرف، فإنه إذ ترى الحجلة عش حجلة أخرى به صغار دون أمه يصنع صوتًا تقلد به صوت الأم وتدعو الصغار إليها وتأخذهم وتجرى بهم. فتبتهج متكبرة أنها استولت عليهم، لكن إذ تأتي الأم الحقيقية وتنادى بصوتها يكتشف الصغار خداع الأولى ويتركون المخادعة ويذهبون إلى الأم الحقيقية. هذا يحدث عندما يأتي ضد المسيح، فإنه يجتذب البشرية إليه بخداع ليملك على من هم ليسوا له ويعدهم بالخلاص مع أنه غير قادر على خلاص نفسه[371].

تشير الحجلة إلى إبليس وجنوده خاصة الهراطقة، تعطي صوتها الذاتي، ولا تنطق بما لله، أما أولاد الله فينطقون بما لله لا بما لذواتهم، وكما يقول الرسول بولس: "إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ" (2 كو13: 3). يتحدث القديس غريغوريوس النيصي عن الإنسان الذي يرتبط بحيل إبليس ويسقط تحت خداعات العدو: [لا يعود الله الصالح الحقيقي والآب إلهًا وأبًا لذاك الذي بفساده يصير خارجًا عن القانون... وعوض الآب يأتي من يبدو أبًا والذي باطلاً يدعى الحجلة التي تحتضن ما لم تبض كقول إرميا[372]].

يرى العلامة أوريجينوس أن الشيطان هو الحجلة مثل فرعون الذي لا يريد من الشعب إن يترك أرضه ليعيد الرب.

v     إنه (إبليس) لا يريدنا أن نترك أرضه (خر 1: 11)، بل يريدنا دائمًا أن نحمل صورة الترابي" (1 كو 15: 49). لكننا إن التجأنا إلى خصمه، ذلك الذي أعد لنا ملكوت السموات، يلزمنا أن نترك صورة الترابي ونقبل صورة السماوي[373].

العلامة أوريجينوس

يعلل العلامة أوريجينوس[374] رمزية الحجلة لإبليس وتابعيه، قائلاً إن الحجلة ماكرة ومخادعة كما أنها دنسة. ماكرة تحوم حول أقدام الصيادين لتسحبهم بعيدًا عن العش وإذ تطمئن أن الصغار قد هربوا تفرد جناحيها وتطير، هكذا لا ينال الصياد شيئًا. إنها كإبليس الذي استخدم الحية القديمة أحيل حيوانات البرية التي حامت حول الإنسان ولم ينل منها شيئًا. ويتحدث العلامة أوريجينوس أيضًا عن الحجلة كحيوان يمثلٍ الدنس لأن الذكور تتشاحن معًا للتزاوج فيما بينها.

الحجلة التي تحتضن ما لم تبض هي إبليس الذي يبسط شباكه خلال الهراطقة فيقتنص في أحضانه البسطاء، هؤلاء الذين هم ليسوا من خليقته ولا مولودون منه، إنه يقتنيهم بالخداع والدنس. لا يقدر إبليس أن يقول: "خرافي تسمع صوتي" (يو 10: 7)، لأنها ليست خرافه بل هي خراف الله الناطقة التي يسحبها من مصدر حياتهم ويحسبها أولادًا له. وللأسف فإن الحجلة قد اغتنت جدًا، لكنها تركتهم في نصف أيامها حين جاء السيد المسيح إلى العالم وسحب المؤمنين من حضن إبليس، وأما في نهاية أيامها فتظهر بالأكثر حماقتها.

في هذا القول يقول العلامة أوريجينوس:

[يقودنا الكتاب المقدس إلى تساؤلٍ هام، وهو يدور حول معرفة من هي هذه "الحجلة" المذكورة في الآية: "حجلة تحضن ما لم تبض محّصِل الغنى بغير حق. في نصف أيامه يتركه وفي آخرته يكون أحمق". نعتمد على ما يقوله "علم طبائع الطيور[375]" بخصوص موضوع الحجلة، حتى إذا ما عرفنا خصائص هذا الطير وطباعه، نستطيع حينئذ أن نصنفه إما ضمن أنواع الطيور الصالحة أو ضمن الطيور الشريرة. يُقال إن لها عادات كريهة، وهي ماكرة وخبيثة، فحينما تريد أن تخدع الصياد، تقوم بالالتفاف حول قدمي الصياد حتى تجعله يغير اتجاهه عن مكان العش، وعندما تطمئن إلى أن الصياد لا يرى العش وإلى أن جميع صغارها قد تمكنوا من الهرب، تهرب هي أيضًا على جناح السرعة. كما أنها غير طاهرة بالمرة، لدرجة أن الذكور يتصارعون مع بعضهم في معارك فريدة من نوعها لكي يتزاوجوا ذكورًا بذكور.

فبما أن لهذا الطائر عادات كريهة، وبما أنه غير طاهر، وخبيث، وكاذب، فإن إدراجه ضمن الأنواع الصالحة واعتبار أنه يمكن أن يشير إلى المخلص، هو لاشك نوع من الكفر والإلحاد.

يجب علينا أن نرى هل سنحصل على سمات مشتركة تمامًا بين الشيطان والحجلة، أم لا؟[376]].

[لنبدأ إذا بالكلمات الأتية: "حجلة جعلت صوتها مسموعًا وجَمَعت صغارًا لم تًلِدْهم".

لا يجمع الشيطان خليقته الخاصة، ولا يجمع أطفالاً (صغارًا) مولودين منه، لكنه عندما يجعل صوته مسموعًا، يجمع خلائق آخر ويجعلها خلائقه.

جعلت الحجلة صوتها مسموعًا عن طريق أفواه باسيليدس ومرقيون وفالنتينوس وكل الهراطقة، فلا يستطيع أحد منهم أن يردد قول السيد المسيح: "خرافي تسمع صوتي". "صوت" السيد المسيح موجود في فميّ بطرس وبولس، لهذا قال بولس: "إذًا أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ..." (2 كو 13: 3). لكن صوت الحجلة الذي يجمع صغارًا لم تلدهم، نجده في الذين يُضلون ويخدعون الناس البسطاء من بين المؤمنين ويستغلون سذاجتهم ونقص معرفتهم.

"حجلة جعلت صوتها مسموعًا وجمعت صغارًا لم تلدهم، وهي تغتني لكن دون حُكم". لقد اغتنت الحجلة، أي الشيطان. أنظر كم من الآلاف الذين يتبعون الشيطان! كل هذه الأعداد الغفيرة أصبحت ملكًا له، بهذا فقد اغتنى دون أن يدفع شيئًا، اغتنى دون أن يبالي بحكم ودون أن يقع تحت الحكم. أما بالنسبة لمخلصي الصالح فقد اغتنى بحكم، ولقد كَلَّفه هذا الغِنَى أن ُيحَاكَم ويموت حتى يختارنا ميراثًا له[377]].

[لقد اغتنت الحجلة! أنظر كيف صار لها ربوات تمتلكهم بالقوة العدوانية!... اغتنت دون أن تسلك بالحق ولا بممارسته[378]].

 ["في وسط أيامها يتركونها" [11].

نحن جميعًا، الذين كنا قَبلاً تحت سيطرة "الحجلة" وكنا نعمل على الاستماع لصوتها، لأنها لم تجعل صوتها مسموعًا فقط خلال الهراطقة الذين ذكرتهم، بل وخلال كل الذين يخدعون الناس ويدعون إلى تعاليمٍ وعقائدٍ ضد الحق، متظاهرين بأنهم يدعون الناس من الضلال إلى التقوى. نعم! نحن جميعًا قد "تركناها في وسط أيامها". مجموع أيامها هو في الواقع مجموع أيام هذه الحياة، وبما أن السيد المسيح قد اختارنا من وسط هذا العالم الشرير (غلا 1: 4) فقد تركناها في وسط أيامها.

"وفي آخرتها تكون حمقاء" [11]، هل كانت عاقلة في يوم من الأيام؟ هل كانت حكيمة قبل ذلك حتى يُقال إنها في آخرتها ستكون حمقاء؟ نعم! كانت عاقلة، لأنها "كانت أحيل جميع الحيوانات البرية التي عملها الرب الإله" (تك 3: 1). كانت حكيمة بحسب ما قيل في إشعياء "إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه لأنه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب" (إش 10: 12-13).

بعد أن كانت حكيمة في الشر تصبح حمقاء فيه. ستفهم ماذا تعني الكلمات "وفي آخرتها تكون حمقاء" إذا عرفت ما هو الغرض الذي من أجله أوصاك الله، عن طريق بولس الرسول، أن تقبل الجهل، فهو يقول: "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا".

 إذ توجد حكمة مَلومة، خلالها يُحسب "أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم" (لو 16: 8)، فإن الله في صلاحه يهلك الأضداد بالأضداد، يهلك حكمة الشيطان (الحجلة) لدرجة أنها في آخرتها تكون حمقاء. لكن متى تكون هذه الأيام الأخيرة التي تصير فيها حمقاء؟ يجب أن يملك المسيح حتى يضع الرب كل أعدائه تحت موطىء قدميه، عندما يخضع الكل له، فإن آخر عدو يبطل هو الموت (1 كو 15: 25-26).

إذًا نهاية الحجلة تأتي حينما يبطل الموت[379]].

هكذا سّر نجاسة القلب ارتباطه بالحجلة المخادعة التي تنزل به إلى التمرغ في الأرضيات وطلب الشهوات الجسدية، فلا ينال الأرضيات ولا السمويات. لهذا يليق بنا أن نتركها متحدين بمن هو سماوي، القادر على رفعنا إلى فوق فنحيا معه مقدسين. هذا هو سّر رجاء المؤمن: الاتحاد بالقدوس السماوي واهب الحياة.

يقول النبي:

"كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مقدسنا.

أيها الرب رجاء إسرائيل،

كل الذين يتركونك يخزون؛

الحائدون عنى في التراب (الأرض) يُكتبون،

لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [12-13].

يقول الرب: أي عذر لكم؟ لماذا تكونون كالحجلة، تضعون بيضكم على الأرض لا في عشّ على قمم الأشجار العالية؟ ها أنا أقيمكم كرسي مجد مرتفع في السمويات. إرفعوا قلوبكم إليّ في الأعالي ولا تنبطحوا على الأرض في استسلامٍ وخنوعٍ للشر!

كرسي الله أو عرشه مرتفع ومجيد وفي نفس الوقت حال فينا، ليس بعيدًا عنا، بل في داخلنا. إن كانت الكلمة العبرية المقابلة لمرتفع تشير إلى السماء، وكلمة "مقدسنا" تشير إلى هيكل أورشليم وملحقاته كما إلى المقادس السماوية (مز 68: 36)، فإن الله المرتفع مجده في السماء هو فينا، ونحن به نصير مقدسًا سماويًا. إنه ليس ببعيد عنًا، بل نزل إلينا، ونحن لسنا بعيدين عنه إذ يرفعنا إلى سمواته.

كأن النبي يقول: أتريدون الخلاص من الحجلة؟ اهربوا إلى المخلص القدوس السماوي رجائكم، هذا الذي يجلس على كرسي مجده في الأعالي يسحب القلب إليه، فلا يتركه يتمرغ في التراب والوحل.

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة السابقة قائلاً:

["كرسي مجدٍ مرتفعٌ من الابتداء هو موضع مقدسنا.

أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون.

الحائدون عنى في التراب يُكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [12-13].

 عندما رأي إشعياء النبي مُلْك الرب قال: "رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع" (إش 6: 1). إرميا أيضًا رأي السيد الرب وهو يملك، لذلك سبحه قائًلاً: "كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مَقْدِسَنا".

إن أردت توجيه هذه الكلمات إلى السيد المسيح لن تكون مخطئًا، وإن وجهتها إلى الآب لن تكون كافرًا.

لمخلصنا كرسي مجد مرتفع من الابتداء لأن مملكته هي من فوق، والسيد المسيح هو ُمقدِّسنا لأن المُقَدِّس والمُقَدَّسين جميعهم من واحدٍ (عب 2: 11). هو "رجاء إسرائيل". فكما أنه هو البر الذي يوجد في الإنسان وهو الحق والقداسة، فإنه هو الرجاء. بدون المسيح لا يمكن أن تكون بارًا ولا قديسًا ولا يكون لك رجاء! [380]].

لنترك الحجلة ونرتبط بمخلصنا، فإن من يتركه يخزى، ومن يحيد عنه لا يُسجل اسمه في سفر الحياة ولا يُنقش على كف الله، وإنما في التراب الذي اختاره بنفسه. من ترك السماوي واتحد بالفاسد يصير فاسدًا.

 ["أيها الرب رجاء إسرائيل". بما أن المخلص هو العدل والحق والقداسة وأيضًا الرجاء، لذلك فإنه غير ممكن أن نكون عادلين بدون السيد المسيح، ولا يمكن أن نكون مُقدسين بدونه، ولا يكون لنا رجاء إذا لم يكن موجودًا في داخلنا، لأنه هو رجاء إسرائيل.

"أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون". كل واحدٍ فينا حين يخطئ يترك السيد المسيح... وبارتكابه الظلم "يترك" العدل، وبنجاسته "يترك" القداسة، وبقيامه بالحرب "يترك" السلام، وبالاستسلام للعدو "يترك" الخلاص، وبابتعاده عن الحكمة "يترك" حكمة الله. لذلك كل الذين يتركون الله يلعنهم النبي، مُعرِّفًا إيانا ماذا سيحدث لهم: "كل الذين يتركونك يخزون"، قدر ما يتركون الله يخزون[381]].

لعله يقصد بقوله "في التراب يُسجلون"، أنهم يدخلون إلى القبر، ويُسجلون في قائمة الموتى. أما أولاد الله فيرتبطون بالله مخلصهم واهب القيامة، فلا يستطيع الموت أن يبتلعهم، أو يمسك بهم إلى الأبد، لهذا لا تُسجل أسماؤهم في قائمته.

يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "كل الذين يتركونك يخزون؛ الحائدون عنى في التراب يُكتبون (يُسجلون)"، قائلاً:

[مثل هذا في التراب يُكتب اسمه على الأرض...

جميع الناس مُسجلة أسماءهم، القديسون مسجلون في السموات، والخطاة على الأرض. قال يسوع لتلاميذه: "افرحوا بالحرى أن اسماءكم كتبت في السموات" (لو 10: 20). إذن يليق بنا أن نفرح إذ كُتبت أسماؤنا في السموات. وكما أن أسماء القديسين مسجلة في السماء، هكذا الذين يسلكون في الأرضيات ولا يدورون حول أرض آدوم، بل لهم حقول أرض آدوم وكرومهم (عد 20: 17-19)، (آدوم معناه أرضي أو ترابي) هؤلاء أسماؤهم مسجلة على الأرض إذ يحيدون عن الرب...

كل إنسانٍ مسئول عن الطريقة التي بها يُسجل اسمه. فإن كنت تطلب الأرضيات لا تطلب السماويات بل تميل نفسك إلى السفليات. أنت المسئول عن ذلك، إذ يقول يسوع: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء" (مت 6: 19). هل تكنز لك كنزًا في السماء؟ أنت مسئول عن تسجيل اسمك في السماء[382]].

عندما فرح الرسل في خدمتهم قائلين حتى الشياطين تخضع لنا وجّه السيد المسيح أنظارهم إلى ما هو أعظم، قائلاً: "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو 10: 20).

الذي يُسجل اسمه في التراب يسمع الصوت الإلهي الذي قيل لآدم الأول: "أنت أرضي وإلى الأرض تعود"، أما الذي يُسجل اسمه في السماء فيُقال له: "أنت سماء وإلى السماء تعود".

من يترك الرب المخلص يخزى، ومن يحيد عنه يُسجل اسمه في التراب لا في السماء، إذ يفقد الله حياته؛ "لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [13]. "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي، قائلاً: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، ومن آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد بعد" (يو 6: 37-39).

ماذا يعني "لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" إلا أن رجاء الشعب في وسط القحط أن يلتصقوا بالله السماوي الحيّ، فيهبهم ذاته ينبوع مياه حية. إن كان قد دُعي الرب "رجاء إسرائيل" فقد سبق فرأينا أن كلمة رجاء يمكن ترجمتها أنها ينبوع أو بركة ماء (4: 8)، مقدمًا نفسه لنا ينبوع مياه متى حلّ القحط والجفاف بالعالم.

من جانب آخر كان اليهود يعتقدون أن الهاوية هو حالة عطش شديد، كما جاء في المزمور: "أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر... بسطتُ إليك يديّ، نفسي نحوك كأرض يابسة" (مز 143: 3، 6). وكأننا إذ نقتني الله - ينبوع المياه الحية - لن ندخل إلى الهاوية ولا نُعاني من الظمأ.

5. الله مخلصنا من الخطية:

إذ تحدث عن الخطية بكونها احتلت القلب حيث كان يليق أن يكون ملكوتًا لله، مظهرًا أهم خطايا يهوذا من اتكال على ذراعٍ بشري ونجاسات والتصاق بالأرضيات، شعر النبي بأنه لا يستطيع أحد أن يخلص ما لم يتدخل الله نفسه، لهذا صرخ قائلاً: "اشفني يارب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت تسبحتي فخري (حسب الترجمة السبعينية)" [14].

كانت التساؤلات: "لماذا كان وجعي دائمًا؟ وجُرحي عديم الشفاء يأبى أن يُشفى؟ أتكون لي مثل كاذبٍ مثل مياه غير دائمة؟" (15: 18). وها هو يعلن إرميا باسم الشعب أنه قد وُجد الشفاء، بل والخلاص حيث المجد، بل والتسبيح أي الفرح مع السمائيين... وُجد هذا كله في الله مخلصه.

يقول العلامةأوريجينوس:

[تأتي بعد ذلك صلاة أخرى، تقول كلماتها:

"اشفني يارب فأشفى،

خلصني فأخلص،

لأنك أنت فخري (تسبحتي).

ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ!

 أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك ولا اشتهيت يوم البلية، أنت عرفت" [14-16].

كل إنسان يريد أن ُيشفى من أمراض الروح والنفس عليه أن يطلب من الطبيب الأوحد الذي جاء خصيصًا من أجل المرضى، والذي قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" بذلك يُمكن للمريض أن يطلب في ثقة ويقول: "اشفني يارب فأشفى". لأنه لو كان أحد آخر يستطيع أن يشفي النفوس، لما كنا نستطيع أن نقول بثقة: "اشفني يارب فأشفى". مكتوب في الإنجيل أن المرأة نازفة الدم قد أنفقت كل ما عندها على الأطباء ولم تنتفع شيئًا" (مر 5: 25) ولم يستطع أحد منهم أن يشفيها. حقًا لا نستطيع أن نقول لأي طبيب بكل جرأة وبكل ثقة: "اشفني فأشفى"، إنما يمكننا أن نقول ذلك بثقة كاملة للطبيب الأوحد القادر أن يمنح الشفاء بمجرد لمس هدب ثوبه. أقول له: "اشفني يارب فأشفى"، لأنك إذا عالجتني، فالعلاج الذي يأتي من عندك يتبعه حتمًا الشفاء، بهذا أخلص. مهما كان الذين يُخَلِصون كثيرين إلا إنني لن أخلص بواسطتهم، لأن الخلاص الوحيد الحقيقي يتم بالسيد المسيح. لأنه "باطل هو الفَرَس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا يُنجي" (مز 33: 17). الرب وحده الذي يخلص، وأي شيء غيره يكون باطلاً. أقول له: "اشفني يارب فأشفى"، لكنني لا أقول هذه الكلمات إلا إذا استطعت أن أقول أيضًا تكملة الآية: "لأنك أنت فخري (تسبحتي)"، إذا نفذت هذه الوصية: "لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفنني إني أنا الرب" (9: 23-24).

إذًا، طوبى للذي يتنازل عن كل فخرٍ أرضىٍ وعن كل كرامةٍ زمنيةٍ، وعن الجمال والأشياء الجسدية، وعن الغنى والمجد، ويكتفي فقط بأن يقول للرب: "لأنك أنت فخري"[383]].

v     [الله وحده هو الصالح أبديًا يجعل الإنسان الشرير صالحًا...

نحن خُلقنا صالحين بواسطة الصالح، إذ خلق الله الإنسان مستقيمًا (جا 7: 29)، لكن بإرادتنا تحولنا من الصلاح إلى الشر، وصار لنا فيما بعد سلطان أن نتحول من الشر إلى الصلاح.

إنه هو الصالح إلى الأبد يُخرج الصلاح من الشر،

إذ لا يحمل الإنسان في ذاته القوة على التحول من الشر إلى الصلاح...

إذ جرحت نفسك أُطلب الطبيب ليشفيك[384].

القديس أوغسطينوس

 "ها هم يقولون لي: أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ" [15].

يوجد في كل عصر أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما بتأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق:

 "قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا" (حز 12: 22).

 "سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين: أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3: 4).

لعل إرميا النبي قد أدرك أن المخلص هو "كلمة الرب"، إذ يقول: "ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ" [15]. إذ يطلبون الخلاص يسألون عن كلمة الرب لكي يأتي إليهم فيتبعونه. أنه وحده الذي يهبهم الراحة وكما يقول العلامة أوريجينوس: [تبعته تنزع الملل[385]].

v     إذ كانوا دائمًا لا يصدقون الأنبياء، اعتادوا القول: "أين هو يوم الرب؟" (عا 5: 18، حز 12: 22، 27)، "ليأتِ مقصد قدوس إسرائيل، لنعلم" (إش 5: 19)، وذلك لأنه قد عبرت سنوات كثيرة قبل أن يتحقق ما قاله الأنبياء[386]...

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقصد بكلمة الرب أيضًا مواعيده، ففي كل جيل يشتكي كثيرون أنهم لا يجدون مواعيد الله ووعوده قد تحققت فيهم، وكأن التقصير هو من جهة الرب، لا من جهة شرهم أو تراخيهم. وكما جاء في إشعياء النبي: "القائلين: ليُسرع، ليعجل عمله، لكي نرى، وليقرُب ويأتِ مقصد قدوس إسرائيل لنعلم" (إش 5: 19).

يتهم الأشرار الله أنه لا يسرع إلى نجدتهم، ولا يحقق وعوده معهم، عوض أن يعترفوا أن تعبهم نابع عن فساد قلبهم. من يعيش بروح العالم يتعب من أجل اقتناء أمور العالم، أما من يعيش بروح المسيح فيحيا بلا قلق حتى وسط الآلام. يقول إرميا نفسه:

"لم اكن قلقًا أن أتبعك..." [16] (الترجمة السبعينية).

 يقول القديس جيروم: [لنشكر الله، ونطلبه بإرادة صالحة فيكون درعنا وإكليلنا ولا نتركه قط بل نتبعه، معلنين مع إرميا: "لم اكن قلقًا أن اتبعك"[387]].

 يقول العلامة أوريجينوس: ["ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب، لتأتِ! أما أنا فلم أتضايق (أَمِلُ) من اتباعك" [15-16].

يقول يسوع المسيح لك: "احمل صليبك واتبعني" (مت 16: 24)، وأيضًا: "اترك كل شيء واتبعني" (مت 19: 27، 9: 9)، وأيضًا: "من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني" (مت 10: 37-38). إذًا، لو استطعت أن تتبع يسوع المسيح دائمًا لن تَمِلّ أبدًا من اتباعه، لأنه "لم يبصر إثمًا في يعقوب ولا رأى تعبًا في إسرائيل" (عد 23: 21). لا يوجد ملل حينما نتبع السيد المسيح؛ مجرد اتباعه ينزع كل مللٍ أو تعبٍ. لذلك يقول لنا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). فإذا كنَّا متعبين وذهبنا إليه وتبعناه، نقول: "أما أنا فلم أمل من اتباعك". نقول له أيضًا: "ولا اشتهيت يوم الإنسان".

يوجد "يوم للإنسان" ويوجد "يوم للرب". يحدث كثيرًا حينما يكون الإنسان مريضًا ومشرفًا على الموت، أنه يطلب من الناس الذين يزوروه أن يصلوا من أجله حتى يظل على قيد الحياة. حينما يقول الإنسان هكذا لا يشتهي يوم الرب، إنما يشتهي يوم الإنسان. لنكف إذًا عن محبة العالم وعن اشتهاء يوم الإنسان، ونتطلع إلى يوم القيامة واللقاء مع القديسين حينما يطوبنا المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين[388]].

"أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك،

ولا اشتهيت يوم البلية.

أنت عرفت.

ما خرج من شفتيّ كان مقابل وجهك" [16].

ربما يقصد إرميا النبي هنا القول هكذا: إن كان كثيرون يتشككون في كلمتك، ويظنون أنك عاجز عن تحقيق وعودك، فينطقون بكلمات مملوءة شكًا، طالبين أن تحقق كلمتك، لكن من جهتي فإني لن أتوقف قط عن أن أتمم عمل الرعاية بكل قوة، ليس بذاتي، وإنما وراءك. اختفي فيك يا طبيب النفوس ومخلصها وتسبيحها، وأعمل بكلمتك. إنني لست قلقًا إذ اختبرت قوة كلمتك.

إنني لم أشتهِ يوم البلية، أي لا أتسرع، طالبًا مجيء يوم الرب أو الدينونة، مترجيًا توبة الكثيرين وتمتعهم بمراحمك. هذا ما أنطق به بشفتي أمامك، قدام وجهك، يا فاحص القلوب ومختبر الكلى.

يقدم إرميا النبي صلاة لله، طالبَا حمايته من مقاومي الحق، قائلاً:

"لا تكن لي رُعبًا.

أنت ملجأي في يوم الشر.

ليخزَ طاردى ولا أخزَ أنا.

ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا.

اجلب عليهم يوم الشر،

واسحقهم سحقًا مضاعفًا" [17-18].

من جهة وعود الله تشكك الأنبياء الكذبة وأتباعهم فيها، بينما آمن بها إرميا النبي... هذا سبب ضيقًا ومقاومة منهم. وها هو يقف مختفيًا في الرب نفسه الذي يدعوه "ملجأي"، وقد دُعي الرب هكذا 11 مرة في سفر المزامير كما في (مز 46: 2). إنه سيأتي يوم الشر، أي الضيق الشخصي الذي يثيره الأشرار ضده، فيختفي في الرب، ويخزى الأشرار، ويرتعبوا ويسقطوا تحت دينونة مضاعفة، لأنهم رفضوا كلمة الرب وقاوموها في شخصه، أما هو فلا يخزى ولا يرتعب، لأنه في حماية مخلصه.

هكذا لا يخاف المؤمن من الأشرار المقاومين له، ولا حتى من عدو الخير إبليس، مهما كانت قوته.

يحدثنا الأب سيرينوس عن عدم ارتعابنا من الشياطين قائلاً: [إننا نعتقد أنهم يتعهدون هذا الصراع بقوة، لكن في مقاتلتهم يكون لديهم نوع من القلق والغم، خاصة حينما يقفون أمام مناضلين أقوياء، أي رجال قديسين كاملين... بالتأكيد تُعد الأرواح نفسها لمهاجمة البشر بقوة لا تقل عنهم لكي يضمنوا النصرة عليهم... (فيسقطون هم فيما يصنعونه بنا) إذ يقول: "وعلى هامته يرجع ظلمه" (مز 7: 16). وأيضًا: لتأتِه التهلكة وهو لا يعلم، ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع" (مز 35: 8)، أي في التهلكة التي دبروها بغشهم للبشر. فتسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد اهلاكنا تهلك هي بنفس التهلكة التي دبروها لنا... [389]]، [لكن لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا[390]].

6. كسر السبت:

طالب الله إرميا النبي أن يقف في باب "بني الشعب" [19]. يرى البعض أنه باب "بنيامين"، وهو باب خاص بالمدينة (37: 13؛ 38: 7)، وإن كان البعض يرى أنه يتحدث عن باب خاص بالهيكل كان يدخل منه ويخرج منه الشعب؛ ليقف بعد ذلك في كل أبواب أورشليم [19].

طالبه أن يوجه حديثه إلى "ملوك يهوذا وكل يهوذا وكل سكان أورشليم الداخلين من هذه الأبواب" [20]. لماذا يقول "ملوك يهوذا" وليس "ملك يهوذا"؟ يرى البعض أنه يقصد بالملوك هنا كل الشعب كمقابل للكهنة[391]، ربما لأن كل واحد صار كملكٍ يريد أن يتسلط ويسيطر، ليس من يقبل أن يسمع أو يطيع!

موضوع الحديث هو "حفظ السبت"، وهو موضوع الأجيال كلها، تحدث عنه الأنبياء كأمرٍ أساسي، بل هو موضوع حياتنا اليومي: تقديس يوم الرب كباكورة لتقديس أيامنا فتصير كلها للرب!

يطالبهم بحفظ السبت لأجل حياتهم لأنها صارت في خطرٍ، إذ يقول "تحفزوا بأنفسكم" [21]، فلا يحملوا فيه حملاً ولا يمارسون عملاً [22-23]، (خر 20: 10؛ تث 5: 14)، هذا من الجانب السلبي، أما من الجانب الإيجابي فيقول: "قدسوا يوم السبت" [22]، أي اسلكوا في نقاوة قلب وقدسية حياة، وكما جاء في رسالة برناباس: [نخطئ إذا اعتقدنا إننا نستطيع أن نقدس اليوم الذي قدسه الرب بدون أن نكون أنقياء القلوب[392]].

أما بركاته فهي:

أ. قمة الوعد الإلهي لحفظ السبت هو أن يدخل ملوك ورؤساء من الأبواب ويجلسون على العروش ويركبون مركبات وخيولْ. بمعنى آخر إن حفظ الشعب سبت الرب، يحفظ الرب مملكتهم ويعطيهم وملوكهم كرامة وقوة وسلطانًا، فيعيشون في حرية ومجدٍ، قائلين مع القديس يوحنا: "جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبينا" (رؤ 1: 6). إن قدسنا عمرنا بروح الله القدوس، تصير حياتنا مقدسة له، سبتًا دائمًا، تُفتح أبواب قلوبنا، أورشليم الداخلية، ليدخل فيها ملك المجد، ويقيم مملكة ابن داود في داخلنا، ويجعل منا ملوكًا أصحاب سلطان على الفكر والإرادة كما على الحواس، لنفكر وننطق ونعمل حسب مشيئته الملوكية السماوية.

ب. أما البركة الثانية فهي أنهم يأتون من ست مناطق ليقدموا محرقات وذبائح وتقدمات ولبان مع الشكر: "ويأتون من مدن يهوذا ومن حواليّ أورشليم ومن أرض بنيامين ومن السهل ومن الجبال ومن الجنوب، يأتون بمحرقات وذبائح وتقدمات ولُبان ويدخلون بذبائح شكر إلى بيت الرب" [26].

إذ يُقدس الشعب يوم الرب تُجتذب نفوس كثيرة من كل جانب كعابدين حقيقيين للرب يقدمون محرقات حب وذبائح شكر مع ذبائح وتقدمات عن الخطايا والضعفات ليتمتعوا بالمصالحة مع الله.

هكذا إذ تتحول حياتنا إلى يومٍ مقدسٍ للرب، نجتذب نفوسًا كثيرة للرب، تشترك معنا في العبادة الروحية. نقدم في أعماقنا حياتنا ذبيحة حب دائمة، ونبذل حياتنا تقدمة للرب الذي بذل ذاته لأجلنا، يرتفع في داخلنا بخور صلاة مقبولة لديه، ونُحسب أهلاً أن نشترك مع السمائيين في الشكر والتسبيح الدائم.

أما ثمرة العصيان وعدم تقديس السبت فهو: "إني أشعل نارًا في أبوابها، فتأكل قصورها أورشليم ولا تنطفئ" [27].

حفظ السبت ليس هبة نقدمها لله، ولا عطية من جانبنا، إنما هو حفظ لأورشليمنا الداخلية، فيكون كسورٍ نارى مقدس يحفظنا من ضربات العدو وسهامه النارية. فإن تراخينا نفقد القداسة وتشتعل الأبواب كما القصور بالنار لا للتطهير بل للإبادة. تفقد أورشليمنا أسوارها وإمكانياتها، كقول الرب عن يهوذا "لأنهم رفضوا ناموس الله ولم يحفظوا فرائضه وأضلتهم أكاذيبهم التي سار آباؤهم وراءها، فأرسل نارًا على يهوذا فتأكل قصور أورشليم" (عا 2: 5).

أساء اليهود إلى السبت بتفسيره بطريقة حرفية. يقدم لنا العلامة أوريجينوس أمثلة للتفسير الحرفي اليهودي والذي دخل بهم إلى خرافات لا حد لها (1 تي 1: 4) ففسروا القول: "لا تحملوا حملاً يوم السبت" [21]، بأنه إن كان نعل الإنسان به مسامير يُحسب ذلك "حملاً" فلا يلبسه يوم السبت، وإن لم توجد مسامير فلا يُحسب حملاً. أيضًا أن حمل إنسان حملاً على كتفٍ واحدة فيحسب ذلك حملاً، أما إن حمله على كتفيه فلا ُيحسب كذلك[393].

قدم لنا الكتاب المقدس "حفظ السبت" من جوانب كثيرة، لكنه ركز عليه كعيدٍ مفرحٍ وراحة في الرب القدوس. فمن الجانب الظاهري كان السبت امتناعًا عن العمل، حتى عن جمع المن النازل كهبةٍ إلهيةٍ (خر 16: 21-30)، من يعمل يتعرض للغضب الإلهي. وجاء السبت يحمل فكرًا اجتماعيًا روحيًا، فقُدم راحة للغرباء والأجراء والعبيد حتى الحيوانات، فيه يذكر الشعب أنه كان قبلاً متغربًا في مصر تحت العبودية فلا يقسوا على خليقة الله (خر 23: 12؛ تث 5: 12-15). وحمل السبت فكرًا أخرويًا انقضائيًا بكونه رمزًا للراحة المقبلة (17: 21-27؛ عب 4).

أخيرًا فإن السبت هو فرصة لا للخمول والتوقف عن العمل، بل للتمتع بالعبادة لله القدوس لينعم الكل بشركة الحياة الإلهية (لا 23: 3؛ عد 28: 9-10). وكأن السبت كما يحدثنا عنه سفر اللاويين هو التقاء مع الله خلال العبادة المقدسة والذبيحة، لا لنكرم الله بعبادتنا، لكن ما هو أعظم لكي ننعم بعمل الله فينا واهبّا إيانا الشركة معه لندخل به إلى قداسته.

تقديس السبت في جوهره هو تمتع بالراحة، إذ كلمة "سبت" في العبرية تعني "راحة"، سرها اتحادنا مع ربنا يسوع المسيح القدوس لننعم به بالحياة الجديدة المقدسة. لقد دعاه إشعياء النبي: "مسرة"، "مقدس يهوه"، "المكرم" (إش 38: 53)، وقدم لنا سفر المزامير تسبحة خاصة بالسبت هي تسبحة فرح وحمد لله (مز 92).

السبت هو عيد التمتع بالراحة في الرب السماوي، فيه نذكر راحة الله في اليوم السابع (تك 2: 3) كرمزٍ ليوم الرب الأبدي، كما يقول القديس أغسطينوس الذي فيه [نستريح ونرى، نرى ونحب ونسبح. هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية[394]]. هو عيد الراحة لا من عبودية فرعون (تث 2: 15) وإنما من عبودية الشر، كقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطية[395]]. هو عيد مفرح ننعم به هنا كعربونٍ للحياة السماوية كعيد تسبيح لا ينقطع، وكما يقول القديس جيروم معلقًا على مزمور يوم السبت (مز 92): [لا يمكن أن يوجد سبت ما لم يسبقه ستة أيام. نحن نعمل الستة أيام لنستريح في السابع. لا نقدر أن نسبح الرب إلا في يوم السبت (مز 92) مادمنا مشغولين بأعمال العالم، أي مادمنا في الستة أيام لا نستطيع أن نُغني للرب... ليس أحد في يوم السبت، أي في راحة الرب، يعمل عملاً دنيئًا، أي يرتبك بأعمال العالم، إنما يلزمه أن يعمل ما يخص السبت. أتريد أن تعرف أنه في السبت يعمل الكهنة في هيكل الرب بينما لا يُسمح لأحدٍ أن يقطع فيه حطبًا، ففي الحقيقة الرجل الذي اُكتشف أنه يجمع حطبًا في البرية رُجم للموت (عد 15: 32-36). في السبت لا يشعل أحد نارًا ولا يمارس أي عمل... إذن لنرى أنه يليق بنا أن نسبح في السبت عندما نترك أعمال هذا العالم[396]].

 

 


 

من وحيّ إرميا 17

في التراب سُجل اسمي،

لتسجله على كفكِ يا إلهي!

v     في التراب سُجل اسمي!

لقد كتبت خطيتي ونحتها كما بقلمٍ حديدي رأسه ماسي!

نقشتُ خطاياي ونجاساتي على جدران قلبي،

فأفسدتُ هيكلك المقدس،

وصار اسمي مسجلاً في التراب،

وأحصيت مع الموتى...

من يقيمني غيرك أيها القائم من الأموات؟!

v     اتكلت على قدراتي وخبرتي وبرّي،

اتكأت على الجسد بكل إمكانياته،

فصرت كنبات العرعر في البرية سرعان ما يجف!

تحولت حياتي إلى قشٍ يحترق، ورمادٍ وترابٍ!

v     إغرسني على مجاري روحك القدوس،

فتمتد جذوري الخفية،

وترتوي من ينابيع نعمتك الإلهية.

أصير كرسي مجدك المرتفع،

وموضع قدسك السماوي!

وُيسجل اسمي على كفك أيها السماوي!

v     أصرخ مع إرميا النبي:

اشفني يارب فأشفى،

خلصني فأخلص،

لأنك أنت تسبحتي!

اشفني من التراب الذي سُجل اسمي عليه،

خلصني من الرماد الذي تحولت أنا إليه،

اجعلني ابنًا سماويًا فأمتلئ فرحًا وتسبيحًا!

v     لتأتِ إليّ يا كلمة الله!

صرتَ لأجلي إنسانًا،

فلتجعلني ابنًا سماويًا!

لترعاني بنفسك،

حولني من ترابي إلى سمواتك!

v     الآن أقول: لا أخز، لا أرتعب!

أنت مخلصي من فساد طبيعتي.

لا أسمع القول: أنت تراب وإلى ترابٍ تعود!

بل أسمعك تقول لي وأنا مخفي فيك:

أنت سماء، وإلى سماءٍ تعود!

<<


 

الأصحاح الثامن عشر

مثل الفخاري

بأمرٍ إلهي نزل إرميا النبي إلى وادٍ منخفض ليلتقي هناك بفخاري، لكي يعلن للشعب كيف أن حياتهم في يد فخاري سماوي حكيم، قادر أن يُخرج من الطين إناءً للكرامة، حتى إن أدب إنما لكي يقبلوا من يده الخالقة إمكانية تجديدهم، كما يعمل الفخاري بالطين فيظهر منه عجبًا.

عوض التجاوب مع إرميا فكروا جديًا في الخلاص منه كي لا يسمعوا بعد كلمة توبيخ.

1. إرميا والفخاري المحب[1-6].

2. الفخاري المؤدب [7-17].

3. الرغبة في الخلاص من إرميا[18-23].

1. إرميا والفخاري المحب:

ُتعتبر مصانع الفخار من الملامح الرئيسية في العالم القديم، إذ كانت الأواني الفخارية أساسية في الحياة اليومية، لهذا نجد علماء الآثار مدينين للأواني الفخارية المكتشفة بلا حصر في التعرف على ثقافات المدن القديمة وتاريخها.

كان صانعوا الأواني الفخارية معروفين لدى الشعب قديمًا وكانوا من بين الذين أقاموا هناك مع الملك لشغله حيث نقرأ "هؤلاء هم الخزافون وسكان نتاعيم وجديرة أقاموا هناك مع الملك لشغله" (1 أي 4: 23)، فقد كان الخزَّافون تحت الحماية والعطف الملكي. وفي (مز 2: 9) يُشبه المسيح بالفخاري الذي يحطم الإناء الفاسد ويكسره قطعًا قطعًا. وفي نبوة إشعياء يشبه الله بالفخاري وما نحن إلاّ الطين بين يديه، فيقول "والآن يارب أنت أبونا نحن الطين وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك" (إش 64: 8). والرسول بولس يستعمل الصورة عينها (رو 9: 21) التي يستحضرها إرميا أمامنا في هذا الأصحاح.

"الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:

"قم انزل إلى بيت الفخاري،

وهناك أُسمعك كلامي" [1-2].

قم انزل

بدأ حديثه بقوله: "قم انزل". هذا يحمل معنى أن الأمر عاجل ويحتاج إلى سرعة: "قم". ومن الجانب الرمزي أو الروحي فإنه لا يستطيع إنسان ما أن يدرك معاملات الله مع البشر، خاصة شعبه، ما لم يختبر القيامة مع المسيح، أو الحياة الجديدة المُقامة، كخبرة يومية معاشة. وكما يقول الرسول: "قم من الأموات، فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14). خلال التمتع بالقيامة نرى كيف يحول الفخاري طينتنا إلى إناءٍ سماوي حيّ مكرم، شريك مع المسيح في المجد.

بينما يطلب منه أن يقوم إذ به يسأله أن ينزل، ربما لأن مصانع الفخار غالبًا ما ُتقام في الوديان والحقول المنخفضة حيث توجد التربة والطين لعمل الأواني الفخارية.

لنقم فيرتفع قلبنا إلى السماء، لكن لا بروح التشامخ والتعالي، إنما ننزل مع مسيحنا إلى الصفوف الأخيرة، فنراه بروح الاتضاع يعمل وسط الخطاة، ليمكثوا معه أبديًا، يحملهم بالحب على كتفيه وينطلق بهم إلى حضن أبيه.

ما أروع كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم الذي يحدثنا بخبرته الروحية عن العمل وسط الخطاة، أنه يجب علينا ألا نتحدث كما من على كرسي المعلم البار، إنما بالحب ننحني بظهورنا، ونمسك بالساقطين بعد أن نكون قد ثبّتنا قدمينا تمامًا، حتى نرتفع بروح الرب بهم دون أن ننهار ونسقط معهم في الوحل، أو ننطرح معهم أرضًا.

مسيحنا نزل إلى وادينا، وادي الموت، وأكل مع العشارين والخطاة، وبحبه قدسهم، لا ليحملهم إلى سمواته فحسب، إنما ليقيم منهم صيادين ماهرين يصطادون النفوس إلى مجده السماوي!

نقرأ عن ربنا يسوع أنه النازل من السماء، تلك الحقيقة التي تتكرر في إنجيل يوحنا الأصحاح السادس سبع مرات وفي ذلك كمال الاتضاع لمن قيل عنه "الذي مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به" (عب 5: 8).

والنزول بحسب فكر الرب معناه الاتضاع تحت يد الله القوية، وإن لم نتضع لابد أن ننحدر منزلقين.

للعلامة أوريجينوس تعليق جميل على "النزول":

[لنرى من خلال الكتاب المقدس نفسه ماذا قيل بخصوص وعاء الفخار الذي بين يدي الفخاري، وكيف أن النبوة نفسها تقدم لنا نقطة انطلاق لا يمكن إغفالها في تفسير قصة الأشياء التي بين يدي الفخاري. "الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً: قم انزل إلى بيت الفخاري" [2].

 كان إرميا فوق، لقد صعد أعلى من آنية الفخار. كانت آنية الفخار أسفل، أيضًا الطبيعة التي تتحكم وتدير هذه الآنية وُجدت أسفل، ذلك بتنازلها من أجل الآنية التي تديرها. لهذا فإن "الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو: قم أنزل إلى بيت الفخاري وهناك أُسمعك كلامي". أما موسى فقيل له: "اصعد إلى الجبل واستمع لأن كل من يسمع كلمة الله، يستمع إما إلى معلومات عن الأمور العليا السماوية وبالتالي يلزمه أن يرتفع بأفكاره إلى السماء ليتأمل فيها أو يستمع إلى تعليمات من الرب بخصوص أمور أرضية وبالتالي يلزمه أن ينزل بأفكاره إلى أسفل ليراها.

أستعين بمثال من الكتاب المقدس حتى يمكن للجميع أن يتابعوني على قدر استطاعتهم: "لكي يجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 10-11).

توجد حكمة تناسب السمائيين، وهي معرفة الطريقة التي بها تُقسم الكائنات السمائية، وحكمة تناسب الكائنات الموجودة تحت الأرض؛ وأخرى تناسب الكائنات الأرضية. فإن أردت أن أفهم الحكمة التي تناسب السمائيين، يجب عليّ أن أصعد إلى قمة الجبل كما فعل موسى، حتى تكون الكلمات الآتية إلى من السماء مفهومة، كما يلزمني أن أعارف الليتورجيات السمائية، لأنه يوجد ظل وصورة للأسرار السماوية في الشريعة التي تسلمناها، وقد أوضح لنا ذلك بولس الرسول حين قال: "الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحى إلى موسى" (عب 8: 5).

إن كان يجب عليّ أن أصعد لكي أتعلم الأمور السماوية، كذلك أنزل  لكي أتعلم الأمور الموجودة تحت الأرض حتى إن كنت نبيًا. ربما لهذا السبب أيضًا نزل صموئيل النبي إلى الهاوية (إلى تحت الأرض)، ليس بسبب حُكم وقع عليه، إنما لينظر ويتعلم الأسرار الموجودة تحت الأرض (1 صم 28: 13).

يمكننا كذلك أن نجد شيئًا مماثلاً لهذا في قول بولس الرسول بالنسبة للحكمة حينما يميز بين درجاتها، قائلاً: "حتى تستطيعوا أن تدركوا مع الجميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو" (أف 3: 18). إذا كُلفت من قبل الله بمعرفة الطول فعليك أن تصعد بعقلك إلى الطول؛ وإذا كُلفت بمعرفة العمق تنزل بعقلك إلى العمق. العقل الذي يستطيع أن يتبع الابن الكلمة يمكنه أن يفعل كل شيء طالما يقوده الرب ويعلِّمه كل شيء، ويتبعه إذا استطاع أن يترك العالم ويحمل صليبه، قائلاً: "قد صُلب العالم لي وأنا للعالم".

إذًا، من بين الذين يسمعون يوجد أناس يصعدون ليتعلموا، لكنهم لا يصعدون بطريقة جسدية؛ ويوجد آخرون ينزلون لكنهم مع هذا يحتفظون بنفوسهم عالية مرتفعة.

ربنا ومخلصنا يسوع المسيح نفسه قد صعد ونزل، لأن "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات" (أف 4: 10). إذن إن كان عليك أنت أيضًا أن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور السماوية والذي صعد إلى العلاء، وأن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور الأرضية والذي نزل إلى أسفل، إذًا "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليُحْدِر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية أي لُيصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول (الكتاب)؟ الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك" (رو 10: 6-8).

يمكنك بواسطة الابن الكلمة أن تصعد إلى السماء أو أن تنزل إلى أسفل طالما أن "الكلمة قريبة منك". لأنه ماذا يمكن أن يوجد في داخل الإنسان البار إلا "كلمة الله" الذي يملأ الكل؟ فإنه بالفعل "ملكوت الله في داخلكم"[397]].

ما هو "بيت الفخاري"؟

سأله أن يذهب إلى "بيت الفخاري" [2]. ما هو هذا البيت إلا كنيسة المسيح، بيته المقدس، المُقام في وادي هذا العالم، لا كمحكمة تدين الخطاة، وإنما كبيت فخاري يحول الطين إلى أوانٍ مكرمة، أو كما يقول البابا أثناسيوس الرسولي عن الكنيسة إنها مستشفى لا محكمة، تضم المرضى، لا ليستعذبوا المرض أو يستسلموا له، بل ليشفوا منه.

يرى البعض أن الكلمة العبرية لـ "فخاري" تعنى "المُشَكِل" أو "الجابِل"، تُستخدم للتعبير عن إمكانية الله الخالق كما في (تك 2: 7-8؛ مز 94: 9)، وكما جاء في إشعياء: "يا لتحريفكم! هل يُحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني؟! أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم؟!" (إش 29: 16).

الإناء الفخاري قبل حرقه والإناء الخزفي

يقول العلامة أوريجينوس:

[توجد وصيتان متتاليتان لإرميا: الأولى تختص بالإناء المصنوع من الفخار الخام، والذي يكون قابلاً للإصلاح وإعادة التشكيل عندما يُكسر، ذلك لأنه يمكن أن يصير عجينة لينة مرة أخرى في يد الفخاري. والثانية تختص بالإناء الفخاري المصنوع من الخزف، الذي إذا انكسر لا يكون قابلاً للعلاج أو الإصلاح، لأنه جاز في النار وأصبح صلبًا غير قابلٍ لإعادة التشكيل مرة أخرى.

طالما الفخار طينًا خامًا يكون قابلاً لإعادة التشكيل، لكن بمجرد دخوله النار يصبح صلبًا إذا انكسر لا يمكن علاجه. ماذا يعني ذلك؟ نفهم هذا بصورة عامة أولاً، ثم إذا سمح الرب نفهمه بالتفصيل.

طالما نحن في هذه الحياة، نُعتبر آنية من الفخار الخام، إما أن نكون مصنوعين من الرذيلة أو الفضيلة. على أي الأحوال يُمكن أن تُكسَر رذائلنا لتصير فضائل جديدة، كما أن تقدُمنا في الفضيلة يكون قابلاً للرجوع والتقهقر إلى الوراء. لكن حينما نعبر الزمن الحاضر ونصل إلى الحياة الأخرى، نجوز في النار، سواء نار سهام الشرير المشتعلة أو في النار الإلهية بما أن إلهنا نار آكلة، وفي كِلتي الحالتين سواء كُنّا أشرارًا أو صالحين، فإنه بعد كسْرِنا (موتنا) لن يمكن إعادة تشكيلنا ولن نكون قابلين للإصلاح.

هكذا ما دمنا في هذه الحياة كأننا في يد الفخاري: إذا سقط الإناء من يديه يمكنه أن يعالجه ويصلحه. فلنتب عن خطايانا التي فعلناها بالجسد، ولنرجع إلى الله بكل قلوبنا الآن، لكي يمنحنا النجاة والخلاص، طالما عندنا فرصة للتوبة، لأنه بعد خروجنا من العالم لن نتمكن من الاعتراف بخطايانا وتقديم توبة عنها.

هذا ما نستطيع أن نقوله بأسلوبٍ سريع ومجمل قبل أن نفحص بالتدقيق هذا النص الخاص بالنوعين من الآنية الفخارية، إحداهما إناء خام والآخر إناء صلب[398]].

في بيت الفخاري

يقول إرميا النبي:

"فنزلت إلى بيت الفخاري،

وإذا هو يصنع عملاً على الدولاب.

ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري،

فعاد وعمله وعاءً آخر كما حسُن في عيني الفخاري أن يصنعه.

فصار إلى كلام الرب قائلاً:

أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا ببيت إسرائيل؟ يقول الرب؟

هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل" [3-6].

واضح هنا أن إرميا قد دُعي ليقدم رسالة رجاء للشعب، فيدركوا إمكانياتهم الحقيقية كطين في يد خالقٍ حكيمٍ قدير. يؤكد الله لهم أنه موجود ومحب، قادر أن يشكلهم من جديد، إن أرادوا.

ر أي إرميا النبي الفخاري بجوار الدولاب، يحرك بقدميه قرصًا حجريًا دائريًا من أسفل، فتتحرك معه عجلة خشبية من أعلى، وقد بدأت أصابعه تلعب في الطين ليُخرج الإناء كما في ذهنه، بالشكل الذي يريده له. وكما جاء في ابن سيراخ (38: 29) "هكذا أيضًا يجلس الفخاري في عمله، ويحرك العجلة بقدميه". ويؤكد أيوب البار سلطان الله على الإنسان، قائلاً: "يذهب بالمشيرين أسرى ويُحمِّق القضاة؛ يحل مناطق الملوك ويشدّ أحقائهم بوثاقٍ؛ يذهب بالكهنة أسرى ويقلب الأقوياء... يُكثر الأمم ثم يبيدها؛ يُوسع للأمم ثم يُجليها") أي 12: 17-23).

بلا شك استرعى انتباه إرميا النبي الآتي:

أ. بقوله: "وإذا هو يصنع عملاً على الدولاب" [3]، أوضح أن الفخاري لا يلهو بالطين أو يلعب به، إنما يعمل في جدية عملاً هادفًا. هكذا حياتنا في يدي الله - الفخاري السماوي - موضع اهتمامه، يعمل في جدية خلال الأفراح والضيقات، بالترفق تارة، وبالضغط تارة أخرى، ليقيم منا آنية مقدسة مكرمة. الله هادف في خلقتنا كما في تجديد طبيعتنا، هادف في إقامة ممالك وإزالتها. كل العالم بين يديه، وكل التاريخ في قبضته، ليس من أمرٍ يسير محض مصادفة.

ب. كيف يعجن الفخاري الطين بيده ليخليها من فقاقيع الهواء، ويضعها في الدولاب ليتحرك برجليه ويديه بل وكل فكره، فيحول قطعة الطين التي لا شكل لها إلى إناءٍ جميلٍ، يوسعه الفخاري من هنا، ويضيقه من هناك، ويفتح فوهته الخ.

ج. "ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري فعاد وعمله وعاءً آخر" [5]. يرى العلامة أوريجينوس في هذا النص مسئوليتنا الشخصية عن فسادنا.

[لماذا لم يُلقِ النبي اللوم على الفخاري باعتباره هو المسئول عن فساد الوعاء الذي كان بين يديه؟ الإجابة ببساطة: أن النص يختص بآنية حية تفسد نتيجة خطأها، إذ يقول: "ففسد الوعاء الذي كان يصنعه".

احذر إذًا لئلا تسقط وتفسد حينما تكون في يدي الفخاري وهو يُشكلك، ويكون فسادك نتيجة لخطأك. يقول السيد المسيح: "ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 28)، كما أنه لا يستطيع أحد أن يخطفها من يده، كذلك لا يستطيع أحد أن يُفسدها. بذلك يمكنني أن أقول: أنه لا يستطيع أحد أن يخطف شيئًا من يدي الراعي الصالح أو ينزعنا من بين يدي الرب، إنما بإهمالنا يمكننا أن نسقط ونفسد ونحن بين يديه[399]].

خلق الله الإنسان صالحًا لكنه فسد خلال فساد إرادة الإنسان، وصار الأمر يحتاج إلى تدخل الفخاري نفسه القادر وحده على إعادة تشكيل الإناء. وكما يقول الرسول: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا؛ ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو 3: 12). يصف لنا البابا أثناسيوس الرسولي عمل الفخاري لإصلاح الطبيعة البشرية قائلاً:

[خلق الله الإنسان، وأراد له أن يبقى في عدم فساد، لكن البشر باحتقارهم ورفضهم التأمل في الله، ابتكروا ودبروا الشر لأنفسهم... فنالوا حكم الموت الذي أُنذروا به، من ذلك الحين لم يستمروا كما خُلقوا، بل فسدوا حسب تدابيرهم...

وإذا ر أي "الكلمة" أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأية وسيلة سوى الموت كشرطٍ ضروري... لهذه الغاية أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت، لكي باتحاد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الكل يكون جديرًا بأن يموت بالنيابة عن الكل؛ ولأن الكلمة أتى وسكن فيه، يبقى في غير فسادٍ، وبذلك ينزع الفساد من الكل بنعمة القيامة].

د. إذا تحطم إناء لا يلقيه خارجًا، بل يعود فيعجنه بيديه مرة أخرى، ويجمع الأجزاء المتناثرة منه بكل حرص، ويضغطها معًا ليجعل منها كتلة واحدة يعيد تشكيلها باهتمام شديد.

هـ. إذ يضع الفخاري الإناء في الفرن يعرف درجة الحرارة المناسبة، ويحدد الوقت بكل دقة، حتى لا يحترق الإناء بنارٍ زائدة، أو يفسد لانخفاض درجة الحرارة. جاءت الكلمة العبرية المقابلة "في عيني" تحمل معنى "السرور"، فالفخاري هنا ليس أجيرًا يعمل لحساب آخر، بل يهوى عمله ويُسر به، يشتهى أن يقدم بيده الفنانة إناءً جميلاً يكون موضع سروره. هكذا نرى في الله خالقنا ومخلصنا، أنه يعمل فينا لا لغرضٍ إلا لأننا موضع سروره، أو كما قيل في ابن سيراخ إن لذة الله في بنى الإنسان. فإنه "لا يُسر بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا" (حز 33: 11)، "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).

و. يستطيع الفخاري أن يصنع ما يريده بالطين وليس العكس، وكأن الله هنا يؤكد لشعبه أنه من حقه أن يضع خطة خاصة بهم لا أن يضع الشعب خطة لله، كقول الرسول بولس: "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟! ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟!" (رو 9: 20-21). كان يليق بهم أن يخضعوا لله الخزاف السماوي، الذي من أجل تقديسه للحرية الإنسانية يترك للجبلة حق الخيار، وإن كانت لا تقدر أن تتشكل بذاتها. إنها في حاجة إلى نعمته المجددة للطبيعة البشرية!

v     بهذا يتكشف بجلاء أن نعمة الله ورحمته تعملان دومًا لأجل خيرنا، فإذا تركتنا نعمة الله لا تنفع كل الجهود العاملة شيئًا. مهما جاهد الإنسان بكل نشاطٍ لا يقدر أن يصل إلى حالته الأولى بغير معونة الله[400].

الأب دانيال

في هذا المنظر تجلى لإرميا النبي حب الله لشعبه وصبره وطول أناته، كيف يشَّكل الطبيعة الفاسدة ليقيم منها إناءً للكرامة مقدسًا نافعًا للمجد (2 تي 2: 21). وكما سبق فصرخ إشعياء النبي: "الآن يارب أنت أبونا، نحن الطين وأنت جابلنا. وكلنا عمل يديك، لا تسخط كل السخط يارب، ولا تذكر الإثم إلى الأبد" (إش 64: 8-9).

قبل أن يصنع الفخاري الإناء يرتسم شكله في ذهنه، فيراه مخفيًا وراء كتلة الطين التي بلا شكل، وينتظر خروجه إلى عالم الوجود. هكذا يرانا الله آنية كرامة مُعدة للمجد الأبدي، يرانا خلال طبيعتنا الترابية التي يعيد تشكيلها في مياه المعمودية بعمل روحه القدوس الناري.

حياتنا الزمنية أشبه بقطعة طين تدخل الدولاب الذي يدور في اتجاه واحد، فنظنها وليدة صدفة أو حياة مملة، لكن يدي الفخاري لا تتوقفان عن العمل لكي يحقق خطته تجاهنا. علينا أن نلبث في الدعوة التي دعينا إليها (1 كو 7: 20)، متكئين على صدر المخلص العامل فينا، فنشعر بلمسات يديه المجروحتين لأجلنا، وندرك عنايته وحبه الباذل فنقول: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا معه كل شيء؟!" (رو 8).

بيديه يعيد تشكيلنا، فجعل من سمعان الذي يخشى جارية بطرس الصخرة التي لا تهتز أمام ملوك وولاة، ومن شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة رسولاً كارزًا بإمكانيات فريدة. يحول حتى أخطاءنا إلى ما هو للخير والبنيان مادمنا بين يديه مجاهدين. يحول الفتيلة المدخنة التي ُتفسد العيون إلى شعلة نار ملتهبة.

عجيب هو هذا الفخاري، فإنه يهب رجاءً لكل نفس. يجعل الحديد المفقود يطفو على وجه الماء (2 مل 6: 6) ويملأ الجرار الفارغة خمرًا جديدة جيدة (يو 2)، ويعوضنا عن السنين التي أكلها الجراد (يؤ 2: 25) ويرد الحرب حتى إن كانت قد بلغت إلى الباب (إش 28: 6).

v     عندما ُشكل آدم من الطين كان لا يزال طرياً... ومع ذلك كان كالقرميدة (بلاطة) متماسكًًا وغير فاسدٍ، أهلكته الخطية، متسللة إليه ومنهارة عليه كالماء. لذلك عجنه الله من جديد وشكَّل ذات الطينة مرة أخرى لأجل كرامة الله، فأتى بها قوية وثابتة في رحم البتول، ووحدّها وربطها بالكلمة، حاليًا جاء بها إلى الحياة فلم تعد بعد لينة أو منكسرة لئلا إذا افاضت عليها بعد مجارى الفساد من الخارج تلين وتهلك.

اظهر الرب (اهتمامه بها) في تعليمه في مثل الخروف المنعزل وحده، إذ قال ربي للذين حوله: "أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟! وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحًا، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران، قائلاً لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال" (لو 15: 4-6) [401].

الأب ميثوديوس

 يرى الأب Methoduis أن هذا المثال يعلن عن حقيقة القيامة[402].

v     يمكن لله ليس فقط أن يُصلح هؤلاء الذين هم من طين، خلال جرن التجديد، بل ويعيدهم إلى حالتهم الأصلية، خلال توبتهم النافعة، هؤلاء الذين نالوا قوة الروح وأخطاؤا[403].

القديس يوحنا الذهبي الفم

بالقيامة يُعاد تشكيلنا

يقول العلامة أوريجينوس:

["فصار إليّ كلام الرب قائلاً: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب" [6]. يفهم كل واحدٍ هذا الكلام قدر استطاعته: فيمكن لواحد أن يفهم المعنى بطريقة سطحية، ولآخر أن يفهمه بطريقة أكثر عمقًا. يفهم بعض الناس موضوع الوعاء الفخاري الذي فسد وأعيد تشكيله بطريقة بسيطة... من وجهة نظر هؤلاء الناس، هذه القصة ترمز إلى القيامة. لأنه إذا كان وعاء الفخار قد سقط وفسد من يدي الفخاري، وعاد هذا الفخاري وعمله وعاءً آخر كما حسن في عينيه، وعمله من نفس المادة التي عمل بها قبل ذلك، فإن الله هو أيضًا، بما أنه الفخاري الذي عمل أجسادنا وخلق طبيعتنا يمكنه إذا سقط الوعاء وانكسر، أن يعيد تشكيله ويصنع منه وعاءً آخر أحسن نوعًا كما يحسن في عينيه[404]].

2. الفخاري المؤدِّب:

بدأ أولاً برسالة الرجاء ليعلن أننا وإن كنا كطينة بلا قيمة، لكننا موضع سرور الفخاري القادر أن يحولنا إلى إناء المجد. الآن يقدم الجانب الآخر، وهو إن لم نقبل حبه وحنانه ونسلم حياتنا بين أصابعه يقوم بالتأديب لأجل خلاصنا أيضًا. إنه يقدم دروسًا قاسية لطينة عنيفة، قائلاً:

"تارة أتكلم على أمةٍ وعلى مملكةْ بالقلع والهدم والإهلاك،

فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها،

فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها

وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس،

فتفعل الشر في عيني، فلا تسمع لصوتي،

فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به" [7-10].

أمتان: واحدة ُتقتلع والأخرى تُغرس!

يقول العلامة أوريجينوس:

[بجانب هذا التفسير، لنسمع أيضًا التفسير الذي يقدمه لنا الرب نفسه:

"فصار إليّ كلام الرب قائلاً:

أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب.

هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل.

تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها.

وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به" [5-10].

هكذا نرى أن ما حدث في بيت الفخاري لا يشير من الجانب الرمزي إلى أحداث فردية (أي إلى قيامة الأفراد) وإنما يُقصد به أمتان أو مملكتان. من هما هاتان الأمَّتان؟ من هي الأمة الأولى التي يتكلم عليها بالقلع والهدم، ومن هي الثانية التي يعطيها الوعد بالبناء والغرس؟ الله في تهديده يهدد بحيث إذا رجعت الأمة وتابت لا ينفذ فيها التهديد، كما أنه في وعوده إذا رجعت الأمة وصارت غير مستحقة تحرم من تلك الوعود...

قام الرب بتهديد الأمة الأولى، وظهر آثار هذا التهديد: فقد تم سبيهم، وخُرَّبت مدينتهم، وُهدم الهيكل، ودُنِس المذبح، ولم يبقَ عندهم شيئًا من المقدسات التي كانوا يملكونها، لأن الرب قال لهذه الأمة: ارجعي إليّ، فلم ترجع. ويتحدث الرب إلى الأمة الثانية عن بنائها وغرسها، لكنه يرى أن تلك الأمة مكونة من أناسٍ قابلين أيضًا للسقوط والفساد؛ لذلك يهددها ويقول لها: بالرغم من أنني تكلمت عليك في البداية بالبناء والغرس، إلا أنك إن أخطأتِ يحدث لك ما حدث مع غيرك حينما أخطئوا.

راجع كل الكتاب المقدس، تكتشف أن معظم أجزائه تتحدث عن هاتين الأمتين. اختار الرب الآباء الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وأقام معهم وعودًا، وقام بإخراج الشعب الآتي من نسل الآباء من أرض مصر وحررهم من العبودية. كان طويل الأناة معهم حينما كانوا يخطئون، وكان يصحح أخطاءهم كأب، وأدخلهم إلى أرض الموعد وأعطاهم إياها، وأرسل لهم الأنبياء في فترات متعددة. كان يوجههم ويرشدهم ويتوبهم عن خطاياهم، وكان في طول أناة يرسل إليهم دائمًا أشخاصًا لكي يساعدوهم على الشفاء، إلى أن جاء رئيس الأطباء، والنبي الذي يفوق جميع الأنبياء. لكنه عندما جاء أسلموه للموت، قائلين: "خذه خذه"، خذ مثل هذا الإنسان من الأرض! "أصلبه أصلبه" (يو 19: 6، 15). من هنا اختار الله أمة أخرى. انظروا كيف أن الحصاد كثير بالرغم من أن الفعلة قليلون. في كل مكان وزمان يعمل الله على أن تكون شبكته دائمًا مُلقاة في بحر هذا العالم لكي يجمع فيها الأسماك من كل الأنواع؛ ويرسل صيادين كثيرين، وقانصين كثيرين، ويصطاد على كل جبل وعلى كل أكمة: انظر كم يعمل الله من أجل خلاص الأمم!

إذًا "هوذا لطف الله وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا"، أي على الأمة اليهودية التي سقطت، "وأما اللطف فلنا نحن الأمة الأخرى، إن ثبتنا في اللطف، وإلا فإننا أيضًا سنُقطع" (رو 11: 22). لأن الفأس لم تكن موضوعة على أصل الشجر في أيام السيد المسيح فقط، بل يمكن أن تُوضع من جديد في وقتنا الحاضر. قال يسوع المسيح في تنبؤه عن سقوط إسرائيل: "هوذا الفأس قد وُضعت على أصل الشجر"، وأيضًا: "كل شجرةٍ لا تأتي بثمر تُقطع وتُلقى في النار". وأما الآن فيوجد زرع آخر، قيل عنه: "تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك، المكان الذي صنعته يارب لسكناك" (خر 15: 17). جاء الرب بأمته الجديدة إلى جبل ميراثه. فإنني لن أبحث عن الجبل في وسط الأشياء الجامدة كما فعل اليهود؛ لأن الجبل هو السيد المسيح، غرسنا فيه وثبتنا فيه.

أنظروا إذًا هل يقول رب البيت بعد أن يكون قد استخدم معنا طول الأناة عندما يجيء: "هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تُبطل الأرض أيضًا؟" (لو 7: 13). لأن الإنسان، الذي يأتي إلى الكنيسة ولا يأتي بثمرٍ يبطل أرض السيد المسيح الجيدة، التي هي الكنيسة، ويشغلها بدون فائدة[405]].

v     يقدم التهديد خلاصًا من الكارثة!

الحكم بالقلع يوقف القلع!

ياله من أمرٍ غريبٍ ومدهش، فإن الحكم الذي يهدد بالموت يجلب حياة! [406]

القديس يوحنا الذهبي الفم

هل يندم الله؟

يقول العلامة أوريجينوس:

["تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها".

يطلب بعض الوثنيين المثقفين منا أن نبرر موقفنا وأن نفسر لهم ماذا يقصد "بندم الله". لأنه يبدو أن "الندم" أمر غير لائق، ليس فقط بالنسبة لله، إنما أيضًا بالنسبة لأي إنسانٍ حكيمٍ. لأنني لا أتقبل فكرة أن يندم إنسان حكيم، لأن من يندم يفعل ذلك لأنه لم يأخذ من البداية الجانب الصحيح أو الرأي الصائب. لا يمكن للرب الذي يرى المستقبل ويعرفه، أن يأخذ أي جانب آخر سوى الرأي السديد. إذًا كيف ينسب الكتاب المقدس لله القول "فأندم...[1]

نجد نفس الفكرة في سفر الملوك أيضًا حينما يقول الرب: "ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا" (1 صم 15: 11). ويُقال أيضًا عن الرب: "ويندم على الشر" (يؤ 2: 13). هلموا لننظر ماذا يقول لنا الكتاب المقدس أيضًا عن الله.

تارة يقول: "ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (عد 23: 19)، تعرفنا هذه الآية أن الله ليس إنسانًا. تارة أخرى يتكلم عن الله كإنسانٍ: "فاعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك" (تث 8: 5). إذًا، عندما يتحدث الكتاب المقدس عن لاهوت الرب، يقول إنه "ليس إنسانًا"، وأن: "ليس لعظمته استقصاء" (مز 145: 3). وأنه "مهوب على كل الآلهة" (مز 96: 4). ويقول أيضًا: "سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور" (مز 148: 2-3).

لكن عندما تنازل الله وأخذ جسدًا واختلط بالناس، أخذ أيضًا حكمة الناس ولغتهم، فعل تمامًا مثلما نفعل نحن حينما نريد أن نتحدث إلى طفلٍ عمره سنتين، فنقوم بعمل حركات وأصوات غير مفهومة تناسب الطفل، أما إذا احتفظنا بوقارنا وأصررنا على الحديث معه بلغة البالغين لن يفهم شيئًا. هكذا يفعل الله في اهتمامه بالجنس البشري، وخاصة الأطفال منهم. انظروا كيف أننا نحن البالغين نقوم بتغيير أسماء الأشياء بالنسبة للأطفال الصغار؛ فنسمي لهم الخبز باسم خاص، والشرب باسم آخر، دون أن نستعين بلغة البالغين التي يستخدمونها في أحاديثهم. ماذا إذًا، هل نحن أشخاص غير ناضجين؟ هل إذًا سمعنا أحد ونحن نتكلم مع هؤلاء الأطفال يقول: لقد فقد هذا الشيخ عقله وتناسى شيبته ووقاره؟ ألا يُرجعوا هذا بالأولى إلى الظروف التي دفعت الشيخ الوقور إلى استخدام تلك اللغة؛ وهى مخاطبة الأطفال؟

بالمثل، يتحدث الله أيضًا إلى أطفالٍ. قال المخلص: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب". بما أننا أشخاص وبشر نندم، فإن الله عندما يريد أن يخاطبنا بلغتنا، يقول: "ندمت"، وحينما يهددنا لا يظهر نفسه بصورة مَنْ يَعْلم المستقبل، لكنه يتصرف معنا كمن يخاطب أطفالاً، بالرغم من أنه "يعرف جميع الأشياء قبل أن تكون".

في مخاطبته للأطفال الصغار يتظاهر بأنه كمن لا يعرف المستقبل. يقول: إذا رجعت هذه الأمة عن شرها، سأندم أنا أيضًا عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها.

 آه يارب! عندما كنت تهدد، ألم تكن تعلم ما إذا كانت هذه الأمة سوف تتوب أم لا؟

وحينما كنت تعطى وعودًا، ألم تكن تعلم ما إذا كان الإنسان أو الأمة التي وجهت إليها وعودك ستظل مستحقة لتلك الوعود أم لا؟

كنت تعلم كل شيء لكنك كنت تتظاهر بعدم المعرفة.

تجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة من هذا النوع، منها: "تكلم مع بني إسرائيل، لعلّهم يسمعون ويتوبون". ليس أن الله كان غير متأكدٍ عندما قال: "لعلهم يسمعون"، لأن الله لن يقع في الشك أبدًا؛ لكنه قال ذلك حتى يُظهر بوضوح حرية إرادتك، حتى لا تقول: بما أن الله يعرف مسبقًا أنني سأخلص، إذن لابد أن أخلص. يتظاهر بعدم معرفته لما سيحدث لك لكي يحترم حرية إرادتك وتصرفاتك.

تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات "غضب الله وثورته" لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة لدى الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم. لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطاءهم نظهر أمامهم بصورةٍ مخيفة ووجه صارمٍ وحازمٍ لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب.

إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكلٍ دائمٍ، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردّهم إلى أسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يُقال أن الله يغضب، المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، بل أنت الذي تتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسمِّيه غضب الله! [407]].

هنا لا نفهم كلمة "أندم" بمعنى أن الله يغير رأيه كأنه غير عارفٍ بما سيحدث في المستقبل، إنما إذ يتحدث الله معنا نحن البشر يكلمنا بلغتنا، مؤكدًا لنا أنه في محبته للإنسان يعطيه حرية الإرادة. فإن كان الله يريد تأديب شخصٍ أو جماعةٍ بسبب الخطية ويقدم الشخص أو الجماعة توبة صادقة قلبية، يرفع عنه أو عنهم التأديب. وإذا ما كان إنسان ما (أو جماعة) يستحق بركات كثيرة لكنه انحرف، يمد الله يده للتأديب. المتغير ليس الله، بل الإنسان الذي تارة يغتصب مراحم الله بالتوبة، وتارة يجلب لنفسه تأديبًا بانحرافه.

هنا يؤكد دور الإنسان وحرية إرادته، فإن الله لا يُلزمنا أن نقبل عمل الخلاص، إنما يحثنا عليه.

v     لا يغصبنا الله، ولا تُلزِم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله ينادينا، وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه[408].

v     الله لا يُلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون[409].

v     نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر، أو آلة للبر[410].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا يُحمِّل الله مملكة يهوذا، على المستوى الجماعي كما على المستوى الشخصي، المسؤولية. لقد أظهرت نفسها أنها غير طيِّعة، بل عنيدة ومقاومة لله.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة [7-10]، قائلاً: [هذا القانون بحقٍ وضعه الله من البداية ونشره على كل البشر بالنبي لكي يطبق بدقة... بمراعاة هذا القانون خلص الذين تحولوا عن غضبه وتحرروا، بتركهم شرورهم[411]].

ربما يتساءل أحد: هل يصنع الله شرًا [8]؟

يجيب العلامة ترتليان لا يُقصد هنا بالشر الخطايا وإنما التأديب: [لا تعني الخطايا الشريرة بل العقاب... فاليونان يستخدمون أحيانًا كلمة "شرور" على الأتعاب والأضرار[412]].

"فالآن كلِّم رجال يهوذا وسكان أورشليم، قائلاً:

هكذا قال الرب:

هأنذا مُصدِر عليكم قصدًا،

فارجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،

وأصلحوا طرقكم وأعمالكم" [11].

هذا هو نداء الرب عبر كل العصور، فيه يبدو الله حازمًا، يصدر علينا تأديبًا نحسبه شرًا، أما غايته فهو رجوعنا عن طريقنا الرديء وإصلاح حياتنا حتى نحمل صورته ونشاركه سماته، ولا نسقط في الهلاك.

إن كان الله هو الفخاري الذي يشكل الطين فإنه يبدو أحيانًا قاسيًا لكي يقبل الطين أن تمتد يد الفخاري إليه وتعمل حسب مقاصده الإلهية من نحوه. في ذهن الله خطة من نحونا نحن الطين، لكنه لا يعمل بدون موافقتنا.

كانت إجابة الشعب على النداء الإلهي مملوءة استهتارًا.

"فقالوا: باطل،

لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)،

وكل واحدٍ يعمل حسب عناد قلبه الرديء" [12].

ربما كان هذا تقرير قدمه إرميا النبي لله في مرارة قلبٍ، فيه يشكو الشعب لأجل استهتارهم بتهديدات الرب الخاصة بالتأديب، وإصرارهم على العناد ضد الله نفسه وضده خطته. جاءت إجابتهم على الله مملوءة عنفًا وعنادًا.

إن كنتم تعيشون في حياة الخطية تكون إجابتكم كالإجابة السابقة تمامًا، حتى وإن لم تستخدموا نفس الكلمات، لا تجيبوا بشفاهكم على الإطلاق، بل أعمالكم الشريرة هي التي تجيب على الدعوة التي يوجهها الله لكم للتوبة.

ماذا تعنى عبارة: "لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)"؟

الذين بدءوا بوضع أيديهم على المحراث وامتدوا إلى ما هو قدام لكي يزرعوا نسوا ما هو وراء، وأعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة. أما إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فهو يسعى وراء شروره، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها، ويجيء مسرعًا إلى الخطايا التي تركها.

يقول العلامة أوريجينوس: [كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهم إلى الفساد، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة، لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات: "لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا) وكل واحد يعمل حسب عناد قلبه الرديء"[413]].

أمام هذا الاستهتار والإصرار على العناد قيل:

"لذلك هكذا قال الرب:

اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟

ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل.

هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟!

أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟!

لأن شعبي قد نسيني.

بخروا للباطل وقد أعثروهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعب في طريقٍ غير سهلٍ" [13-15].

تكررت عبارة: "هكذا قال الرب" 26 مرة في سفر إرميا، أما هنا فيضيف: "لذلك"، وكأن ما يصدره من حكم هنا إنما يقدمه بعد تقديم حيثيات للحكم...

جعل الله من شعبه عذراءً، مقدمًا لها كل إمكانيات لتمارس الحياة المقدسة، فأساءت استخدام العطايا الإلهية. هذا بالنسبة لكنيسة العهد القديم، فماذا بالنسبة لكنيسة العهد الجديد، إذ يقول الرسول: "لأن الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). وأيضًا: "فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مُستحقًا من داس دم ابن الله وحسب دم العهد الذي ُقدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟!" (عب 10: 29).

"اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟

ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل".

يقول العلامة أوريجينوس:

[قال الرب لهؤلاء الناس: "لذلك هكذا قال الرب: اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟‍‍! ما يُقْشًعر منه جدًا عَمِلتْ عذراء إسرائيل". يبدو للبعض أن هذه الكلمات قيلت بدون هدفٍ أو قصدٍ معين. لكنني أقول لا، بل إذا رجعت كنيسة الأمم إلى الرب بكل قلبها ُيقال لها: "اسألوا بين الأمم، واسمعوا المصائب الكثيرة التي ارتكبتها عذراء إسرائيل". دعونا نقارن إذًا بين حياة اليهود الذين أخطئوا وبين حياة هؤلاء الذين تابوا وآمنوا، عندئذ نعرف أن اليهود قد عملوا ما يُقشعر منه جدًا حينما قتلوا رب المجد؛ في حين أن الأمم تابوا ورجعوا إليه بعد ما قتله اليهود، دفعوه إلى الموت من أجل خلاص العالم[414]].

مما يحزن قلب الله أن مملكة يهوذا ليس فقط لم تستجب لنداء حبه، ولا تجاوبت مع نعمته، إنما سلكت أيضًا ضد الطبيعة والمنطق، الأمر الذي لا يحدث بذات الصورة حتى بين الأمم الوثنية. عندما أخطأت نينوى استجابت لأول نداء ُقدم إليها بواسطة يونان الذي لم يقدم لها أي رجاء في الخلاص، وقدمت توبة جماعية، أما يهوذا فقُدم لها عطايا إلهية كثيرة وأُرسل لها أنبياء، وها هي ترفض عريسها الإلهي وتتغرب عنه، ولا تريد العودة إليه.

في عرضٍ مسهبٍ قدم القديس يوحنا الذهبي الفم مقارنة بين الشعب اليهودي في عناده بالرغم مما قدم الله له من إمكانيات وبين أهل نينوى سريعي التوبة، جاء فيه:

[أية عطايا ُقدمت لليهود (في خروجهم من مصر)؟!

ألم تقم المخلوقات المنظورة كلها بخدمتهم؟! وأُعطيت لهم وسائل جديدة وفريدة للحياة؟! فإنهم (في البرية) لم يكونوا يذهبون إلى سوقٍ، إنما يأخذون مجانًا بما يُشترى بمالٍ، ولم يُفلِّحوا أرضًا، ولا استخدموا محراثًا، ولا مهدوا الأرض للزراعة، ولا ألقوا بذارًا، ولا احتاجوا إلى أمطارٍ ورياحٍ أو إلى فصول السنة الزراعية... لم يحتاجوا إلى أدوات للعجن... ولا إلى أي نوعٍ آخر من الأدوات الخاصة بالنسج والبناء وصنع الأحذية، بل كانت كلمة الله هي كل شيء بالنسبة لهم.

كانت لهم مائدة لم تعدها يد بشرية، أُعدت بدون جهاد أو تعب، لأنه هكذا كانت طبيعة المن: كان جديدًا وطازجًا، لا يحملهم أية مشقةٍ أو جهادٍ.

ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم ففقدت ضعفها الطبيعي؛ ثيابهم وأحذيتهم لم ٌتبلَ بعامل الزمن، وأرجلهم لم تتورم بالرغم من كثرة السير. ولم ُيذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا أُنتزع كل ضعفٍ من بينهم. قيل: "فأخرجهم بفضةٍ وذهبٍ، ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)" (مز 105: 37)...

لم تضربهم أشعة الشمس في حرارتها، لأن السحابة كانت تظللهم وتحيط بهم كمأوى متحرك يحمي أجساد الشعب كله.

لم يحتاجوا إلى مشعلٍ يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار مصدر إضاءة لا يُنطق به، يقوم بعملين: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم... قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مرشدٍ بشرى...

لم يسيروا على البر فقط بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة... قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة، إذ وطأوا البحر الثائر...

ماذا أقول عن الصخرة التي أخرجت ينابيع ماء؟

وسحابة الطيور التي غطت الأرض بكثرتها؟!...

ومع ذلك فإنه بعد عناية ملموسة عظيمة هكذا، وبركات لا يُنطق بها، ومعجزات قوية، واهتمام زائد، وتعليم مستمر... تذمروا بلا إحساس!

أما أهل نينوى فبالرغم من كونهم شعبًا بربريًا وغريبًا، ليس له أية شركة في البركات، صغيرة أو كبيرة، لا بكلمات ولا بمعجزات ولا بأعمال، هؤلاء عندما رأوا إنسانًا مُنقذًا من الغرق لم يلتقِ بهم من قبل ولا سبق لهم أن عرفوه يدخل مدينتهم، قائلاً: "بعد (أربعين) يومًا تنقلب نينوى" (يون 3: 4) رجعوا وتابوا... ونزعوا شرورهم القديمة، وتقدموا في حياة الفضيلة بالتوبة...

بالرغم من أن شعب نينوى لم يكن لهم أي نصيب من المعجزات التي للشعب اليهودي، لكن بقدر ما كان لديهم من استعدادٍ داخلي حسن، إذ أُعطيت لهم فرصة بسيطة استفادوا منها ليصيروا إلى حالٍ أفضل، بالرغم من جهلهم بالوحي الإلهي وابتعادهم عن فلسطين![415]].

v     من لا يحزن على مثل هذه الأمور ويقول: "كيف صارت القرية (المدينة) الأمينة زانية؟!" (إش 1: 21)...

خطبتها لنفسي بثقةٍ وفي طهارةٍ وبرٍ وعدلٍ وحنوٍ ورحمةٍ كما وعدتها بهوشع النبي (2: 19)، لكنها ارتبطت بغرباء، بينما أنا رجلها حيّ! دُعيت زانية ولم تخف أن ترتبط برجل آخر.

ماذا يقول قائد العروس (الصديق الذي يقودها من بيت أبيها إلى حجال العرس) بولس الإلهي الطوباوي الذي خلال تأمله وتعاليمه تركت بيت أبيها واتحدت بالرب؟ ألا يقول أيضًا في أسى خشية حدوث مثل هذه المتاعب: "الذي فزعت منه جاء عليّ" (أي 3: 25). "إني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2) أنني بالحق دائمًا "أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3) [416]...

القديس باسيليوس الكبير

"هل يجف ثدي الصخرة؟

أو هل يخلو الثلج من لبنان؟

أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" [14] (LXX).

يترجم البعض عبارة: "هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟" هكذا: "هل يخلو تربة من صخر، وثلج من لبنان؟"[417].

إن كانت الصخور القاسية لا تخلو من تربة صالحة للزراعة، ولبنان لا تخلو من ثلج، وينابيع المياه لا تتوقف، فلماذا جف شعب الله هكذا ولم يوجد بعد فيه تربة صالحة تقدم ثمرًا روحيًا، أو نقاوة كالثلج، أو مياه الروح القدس؟! هكذا يحزن الله على شعبه الذي فقد كل صلاحٍ من ثمرٍ نافعٍ وطهارة وعمل الروح.

يرى البعض انه ُيقصد بالجبل الذي يعلوه الثلج هو حرمون. في الواقع يخلو منه الثلج في شهر يونيو، لكن تبقى قمته كما قمم بقية الجبال العالية يكسوها الثلج أغلب أيام السنة.

v     من هي هذه البتول التي ارتوت بمجارى الثالوث، والتي من صخرتها فاضت المياه، وثديها لم يتوقف وقد فاض عسلها؟!

بحسب قول الرسول، الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)، فمن المسيح لم يتوقف ثديه، ولا البهاء عن الله، ولا النهر عن الروح. هذا هو الثالوث الذي عطر على كنيستهم الآب والمسيح والروح[418].

القديس أمبروسيوس

يقول العلامة أوريجينوس:

["هل يجف ثدي الصخرة؟ أو هل يخلو الثلج من لبنان؟ أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" [14] (LXX).

يتعلق الأمر هنا بأنواع مختلفة من المياه:

في المقام الأول ثدي الصخرة؛

في المقام الثاني ثلج لبنان؛

وفي المقام الثالث المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة.

هذه الأنواع الثلاثة من المياه هي التي تشتاق إليها نفوس الأبرياء الذين أصبحوا مثل الأيائل، حتى أن كل واحدٍ منهم يمكنه أن يقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42: 1). من إذن أصبح مثل الإيل الذي يُقال عنه إنه عدو الثعابين بكل أجناسها وأنواعها ولا يتأثر بسمومها؟ من أصبح عطشانًا إلى الله فيقول "عَطَشت نفسي إلى الله الإله الحيّ" (مز 42: 2)؟"

من أصبح عطشانًا إلى ثدي الصخرة، "والصخرة كانت المسيح"؟

من أصبح عطشانًا إلى الروح القدس فيقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"؟

إذا لم نعطش إلى هذه الثلاثة ينابيع من المياه معًا، لا نستطيع أن نجد أي واحدٍ منها على حدة. كان اليهود يعطشون إلى ينبوع واحد وهو الله الآب؛ لكن لأنهم لم يعطشوا إلى السيد المسيح ولا إلى الروح القدس؛ لم يستطيعوا أن يشربوا حتى من الآب. كذلك الهراطقة كان يبدو عليهم أنهم يعطشون إلى يسوع المسيح، لكنهم لم يعطشوا إلى الآب الذي هو رب الناموس والأنبياء، لذلك لم يستطيعوا أن يشربوا من السيد المسيح. وأيضًا الذين يتمسَّكون بالرب لكنهم يحتقرون النبوات لم يعطشوا إلى الروح القدس الموجود في الأنبياء، لهذا لن يشربوا أيضًا من الآب، ولا من السيد المسيح الذي وقف في الهيكل ونادى قائلاً: "إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب" (يو 7: 37).

إذن ثديا الصخرة لن يجفا، لكنهما يجفان إذا تركا ينبوع المياه الحيَّة؛ إذا هما تركا الينبوع، ولم يُقل الينبوع تركهما. بالفعل، فإن الله لا يبتعد عن أحد، لكن الذين يبتعدون عنه يهلكون. الله على العكس، يقترب إلينا، ويذهب لملاقاة الإنسان الذي يرجع إليه. عندما رجع الابن الضال الذي أضاع ثروة أبيه، "إذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبَّله" (لو 15: 20).

إذن ثديا الصخرة، أو ينابيع مياه السيد المسيح لن يجفَّا؛ كذلك الثلج الذي هو مياه الآب لن يخلو من لبنان.

في الواقع أن البخور المقدس الذي توصى به شريعة الله والذي ُيقدم على المذبح يكون لونه أبيضًا ويدعى لبانًا أي لبنان (تدعى لبنان بالفرنسية Liban واللبان Libanos). إذن جبل لبنان له نفس اسم البخور، وينزل ثلجًا من على Liban مثل مياه الروح القدس التي ُيقال عنها: "هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" إن مياه الروح القدس لا تنشف، ولا تهرب، ولكننا نحن بارتكابنا الخطية نهرب منها بدلاً من أن نشرب من تلك المياه المقدسة[419]].

كثيرًا ما يكرر الله عتابه لشعبه قائلاً إنهم تركوه، أما هنا فلا يقف الأمر عند الترك إنما قد نسوه تمامًا: "لأن شعبي قد نسيني" [15].

نسوا الرب فاختاروا طريق الجحود، الذي في ظاهره مملوء ترفًا وبهجة، لكنه في حقيقته مملوء شُعبًا وغير سهلٍ؛ انحرفوا عن الطريق السماوي الملوكي.

أبرز كيف حولتهم الخطية إلى الغباء والجهالة، فإنهم إذ ينسون الله من أجل الأوثان يصيرون مثل مسافرٍ في حالة ظمأ يترك الثلج الذي على قمم الجبال وقد ذاب ونزل على الجبال وفاض من الصخور كمجارى مياه نقية ونظيفة كالكرستال، حاسبًا أنه يجد ماءً أفضل في المياه الراكدة المملوءة طميًا. هل يفعل مسافر هكذا؟ أو هل يترك ماءً باردًا يأتي من أي مكانٍ آخر في وسط حر الصيف؟!

تركوا الطرق القديمة التي عيَّنها الناموس الإلهي والتي سلكها القديسون، الطريق الآمن الملوكي العلوي، وانحرفوا إلى العبادة الوثنية.

v     هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يُحرمون من الوصول إلى المدينة التي وُجهت إليها أنظارنا[420].

 الأب إبراهيم

يقول العلامة أوريجينوس:

["لأن شعبي قد نسيني، بخَّروا للباطل" [15].

كل إنسان يخطئ ينسى الرب، بينما البار يقول: "هذا كله جاء علينا وما نسيناك ولا خُنَّا في عهدك" (مز 44: 17). لقد نسى هذا الشعب الله، وبخَّروا للباطل.

لنتأمل ماذا تعني هذه الآية: "بخَّروا للباطل"؟ يقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك". إذن صلاتي الرقيقة المكونة من أفكارٍ سماوية خفيفة والصادرة من قلبٍ لطيفٍ وخفيفٍ غير مثقَّل بهموم العالم  تصعد أمام الله كرائحة بخور ذكيَّة.

بما أن صلاة الإنسان البار هي رائحة بخور أمام الله، كذلك صلاة الإنسان الشرير هي أيضًا رائحة بخور، لكن كالبخور الذي قيل عنه: "بخَّروا للباطل"[421]].

إذ يصر الشعب على تجاهل الله إلهه، بل تناسيه تمامًا، يسقطون تحت التأديب:

"لتجعل أرضهم خرابًا وصفيرًا أبديًا.

كل مارٍ فيها يدهش وينغص رأسه.

كريحٍ شرقيةٍ أبددهم أمام العدو.

أريهم القفا لا الوجه في يوم مصيبتهم" [16-17].

يمكن تلخيص التأديب في الآتي:

أولا: "لتجعل أرضهم خرابًا [16]، كأن الأرض التي احتضنت الفساد والجحود ونسيان الرب لا تثمر إلا خرابًا. هكذا أرض الإنسان أي جسده الذي يتلذذ بالخطية، حاسبًا أن سعادته في ملذات الجسد يفقد حتى صحته وسلامته.

ثانيا: لتجعل أرضهم... صفيرًا أبديًا" [16]. لقد فضلوا عدو الخير إبليس، الحية القديمة، عن خالقهم ومخلصهم، لهذا تتحول أرضهم إلى مسكن دائم للحيات، لا ُتسمع فيها إلا صفيرها. والعجيب أنه في السنوات الأخيرة بدأت تحتل الحية مركزًا خاصًا في العالم الحديث، فنرى في بعض المدن محاولة جادة لجذب الإنسان نحو الحية... على سبيل المثال في أستراليا في  بعض دور الحضانة يعلمون الأطفال ما يسمى بـ "رقصة الحية"!

ثالثًا: تصير موضع سخرية كل من يعبر بها: "كل مارٍ يُدهش وينغص رأسه" [16]. نغص الرأس يشير إلى السخرية والاستهزاء، مع حالة من الرعب والخوف مما يحدث، كما ُتستخدم كنوعٍ من الشماتة مع الدهشة على غباء هذا الشعب في علاقته بالله...

رابعًا: تتعرض لهجوم العدو كريحٍ شرقية جافة وحارة وعنيفة تبددهم، ليس من يقدر أن يقف أمامها.

خامسًا: يصرخون إلى الله لكنه لا يستجيب لهم في يوم مصيبتهم حتى يطلبون في جدية الرجوع إليه، لأنهم كسروا العهد معه. أعطوه القفا لا الوجه أي نبذوه، لذا يعطيهم هو أيضًا القفا لا الوجه، لأنه بالكيل الذي به يكيلون ُيكال لهم ويزداد، لكي يدركوا قيمة حرمانهم من الوجه الإلهي.

هذه هي أقصى عقوبة، أن يدير الله وجهه عنا. فإنه مهما بلغت التجارب في قسوتها يمكن احتمالها إن أدركنا أن الله يتطلع إلينا ويترفق بنا، أما إذا أدار وجهه عنا، فتتحول حياتنا إلى جحيم لا يُطاق، ونعاني من الشعور بالعزلة، الأمر الذي عانى منه آدم وحواء وهما في الفردوس!

3. الرغبة في الخلاص من إرميا:

بدأ الأعداء يخططون ضده، حاسبين أن ما يقوله إنما هي تهديدات لن تتم، فستبقى الحياة كما هي... لا يحل الخراب ولا ُتباد الشريعة عن الكاهن الخ.

"فقالوا: هُلم فنفكر على إرميا أفكارًا،

لأن الشريعة لا تبيد عن الكاهن،

ولا المشورة عن الحكيم،

ولا الكلمة عن النبي.

هلم فنضربه باللسان،

ولكل كلامه لا نصغِ" [18].

أرادوا الافتراء عليه باتهامات باطلة دون الإصغاء إليه، بقصد قتله [23]. لعلهم قصدوا بضربه باللسان هو اصطياد كلمات من فمه، لاتهامه بكلمات نطق هو بها، كسلاحٍ يستخدمونه لقتله، أو أنهم أرادوا أن يبكموا فمه فلا ينطق بكلمة الرب.

العداء هو ضد كلمة الرب وإن ظهر أنه شخصي. إرميا ليس طرفًا في المعركة، إنما هو ممثل كلمة الرب التي لا يطيقها عدو الخير. العجيب أنهم وهم يقاومون الكلمة الإلهية يظهرون كأنهم مدافعون عنها، يعملون كي لا تبيد الشريعة عن الكاهن والمشورة عن الحكيم والكلمة عن النبي. يظهرون كأنهم مملئون غيرة على الشريعة والناموس الإلهي وخدمة الهيكل وهم في الواقع مقاومون لهذه كلها.

الاتهامان الموجهان ضده:

أولاً أنه ليس بنبي حقيقي وأنه يدعى النبوة، ما ينطق به ليس من الله، بل هو تجديف[422]. لأن الشريعة تُؤخذ من فم الكاهن لا من فم إرميا. لذلك يجب الخلاص منه حتى تُسمع الشريعة من فم الكاهن والمشورة من الحكيم وكلمة الرب من فم الأنبياء.

الثاني أنه أخذ موقفًا مضادًا للكهنة والحكماء والأنبياء (الكذبة). هذا بجانب الاتهامات الأخرى، كمحطمٍ لنفسية القيادات والشعب بنبواته المملوءة تشاؤمًا في نظرهم!

لقد أرادوا أن يبكموا فمه فيصمت تمامًا، وإذ عرفوا انهم لن يستطيعوا فكروا في قتله [23].

سبق أن قام أهل قريته عناثوث (أقاربه) بتدبير مؤامرة ضد إرميا، قاموا بها لأنهم حسبوه أساء إلى سمعتهم ووضعهم في موقفٍ لا يُحسدون عليه، أما الآن فالذين يخططون للمؤامرة هم الكهنة والحكماء والأنبياء الكذبة... اتفقوا معًا لاتهامه بالهرطقة والخيانة الوطنية.

في المؤامرة الأولى صرخ: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" (12: 1)، أما هنا فقدم صلاة مُرّة للغاية، تكشف عن مدى تعب إرميا الشديد... تُعتبر أقسى صلاة للانتقام في كل السفر. فقد وجد نفسه مُحاطًا بالشباك التي نصبها له من كان يجب أن يساعدوه، وشعر كأن الحق قد صار في خطر، والشعب كله بكل إمكانياته ينهار بسبب قيادات فاسدة مُغرضة.

حاول معهم مرة ومرات، وكان يُصلي لأجلهم ويشفع عنهم، أما وقد شعر باستحالة توبتهم، وأدرك خطر عملهم فصار يصرخ للتدخل الإلهي. رفع إرميا قلبه لله ملجأه كي يدافع عنه ضد الأنبياء الكذبة الذين يدفعون الشعب كله نحو الهلاك، ويطلبون أيضًا نفسه:

"اصغِ لي يارب واسمع صوت أخصامي.

هل ُيجازى عن خيرٍ بشرٍ؟!

لأنهم حفروا حفرة لنفسي.

أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير،

لأرد غضبك عنهم.

لذلك سلم بنيهم للجوع،

وادفعهم ليد السيف،

فتصير نساؤهم ثكالى وأرامل،

وتصير رجالهم قتلى الموت،

وشبانهم مضروبي السيف في الحرب.

ليُسمع صياح من بيوتهم، إذ تجلب عليهم جيشًا بغتةً.

لأنهم حفروا حفرة ليُمسكوني،

وطمروا فخاخًا لرجليّ.

وأنت يارب عرفت كل مشورتهم عليّ للموت.

لا تصفح عن إثمهم،

ولا تمحُ خطيتهم من أمامك،

بل ليكونوا متعثرين أمامك.

في وقت غضبك عاملهم" [19-23].

في هذا ينطق إرميا بصلاة تقترب من تلك التي قدمها داود النبي:

"خاصم يارب مخاصميّ، قاتل مقاتليّ...

شهود زور يقومون، وعما لم أعلم يسألونني.

يجازونني عن الخير شرًا. ثكلاًً لنفسي.

أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا. أذللت بالصوم نفسي..." (مز 35).

هكذا كان إرميا النبي مثل داود النبي رجل آلام، قاسى المتاعب بلا حصر ممن كان يجب أن يكونوا سندًا له وعونًا، وأن ما يطلبه من انتقام يحمل نبوة عما يحل تحقيقًا للعدل الإلهي لنفوس مصممة على تحطيم شعب الله في خداع وبغير توبة!

 


 

من وحي إرميا 18

خذني إلى بيتك أيها الفخاري!

v     هل للطين أن يسأل الخزاف:

لماذا جبلتني هكذا؟!

أما أنا فكثيرًا ما تذمرت عليكَ يا جابلي!

خذني إلى بيتك أيها الفخاري!

أرى هناك يدك الإلهية تشكلني،

وروحك القدوس يجدد طبيعتي،

فتُخرج من الفاسدِ عدم فساد،

ومن الطينِ إناءً سماويًا مكرمًا!

v     من ينحني إلى الأرض ليجمعني في يده،

من يهتم بيّ في جدية،

من يدبر كل كبيرة وصغيرة في حياتي،

سواك أيها الفخاري السماوي؟!

v     يكفيني لمسات يدك المملوء حنانًا!

يكفيني اهتمام قلبك بي وتدبير خطتك،

فإنك حتمًا تضعني في فرن التجارب،

لكن تبقى عيناك مترفقتان بي!

لن تنساني ولا تتجاهلني يا محب البشر ومخلص العالم!

v     عجنتني أنا التراب في مياه الأردن،

وقدمت لي روحك القدوس ساكنًا في،

وهبتني ذاتك كنزًا مخفيًا في، أنا الإناء الخزفي.

عجيب أنت أيها الفخاري، وعجيب هو بيتك!

v     تحملني إلى بيتك أيها الفخاري،

أراه السماء عينها، لأنك حال فيه!

اشترك مع ملائكتك في تسبيحك،

وانعم بجسدك ودمك أيها العجيب في حبك!

v   أقمتني أنا الطين عذراء عفيفة،

أردت لي أن أكون عروسًا سماويًا، وبيتًا مقدسًا لك!

في جهالتي صرتُ كقريةٍ زانية.

جلبتُ لنفسي خرابًا تامًا وهلاكًا،

صرتُ كبرية قفراء.

صار الكل يستهزئون بي.

من يخلصني من هلاكي؟!

v     صرخت إليك،

أعطيتني القفا لا الوجه،

لأنني لم أعطك الوجه قط!

ليُدر روحك القدوس وجهي إليك،

فأعطى القفا لمحبة العالم!

لتدر وجهك إليّ!

ليلتقي وجهك بوجهي،

فتتهلل نفسي بك أبديًا أيها الفخاري العجيب!

<<


 

الأصحاح التاسع عشر

مَثَلْ الإناء الخزفي

في الأصحاح السابق قدم الله لنا نفسه بكونه الفخاري السماوي، الذي يهتم بالإناء الذي يسقط بإرادته من يد الفخاري، فيجمعه من جديد ويشَّكله ليجعل منه اناءً للكرامة. هنا يقدم لنا الإناء الخزفي المُصر على العناد، والذي لا يستحق إلا كسره!

في هذا الأصحاح يؤكد أن الدمار والسبي قادمان ولا مفر منهما [10]، حيث ُتلقى الجثث كالخزف المكسور إلى قطعٍ صغيرة، لا تستحق إلا تركها خارجًا في الشوارع أو في أماكن القمامة:

1. رسالة أمام شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة [1].

2. خروجه إلى وادي ابن هنوم [2].

3. رسالة صريحة عن خطاياهم  [3-5].

4. تأديبهم [6-9].

5. كسر الابريق الخزفي [10-13].

6. وقوفه في دار بيت الرب[14-15].

1. رسالة أمام شيوخ الشعب:

"هكذا قال الرب:

اذهب واشترِ ابريق فخاري من خزف،

وخذ من شيوخ الشعب ومن شيوخ الكهنة..." [1].

بصفة عامة لم يقبله شيوخ الشعب ولا شيوخ الكهنة، لكن بلاشك كانت هناك قلّة تتطلع إليه كنبي مُرسل من الله. فجاء بهذه القلّة كشهودٍ على كلماته أمام الشعب والكهنة مع بقية القيادات. جاء بمندوبين عن الشعب (العلمانيين) والكهنة.

يرى البعض أنه ليس بالأمر الغريب أن يقبل بعض شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة أن يذهبوا معه ليسمعوه، فإنهم إذ كانوا متلهفين على سماعه وهو ينطق بنبوات قاسية، ليس إيمانًا به أنه رجل الله، وإنما فرصة لجمع منطوقات من فمه تشهد ضده [18][423].

عندما ذهب إلى بيت الفخاري كان بمفرده، وعندما انطلق إلى وادي توفة كان اللقاء عامًا وعلى مشهدٍ من بعض شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة. علة ذلك أن الأمر كان قد بلغ الذروة، والتأديب يتم حتمًا، لهذا جاء التوبيخ علانية، أما اللقاء السري في بيت الفخاري فكان من أجل قلب إرميا المنكسر حتى يطمئن أنه مهما بدا الله حازمًا ومؤدبًا قاسيًا لكنه هو الفخاري السماوي الذي يترفق بقطعة طين تبدو بلا قيمة!

بالنسبة للإبريق الفخاري baqbuq غالبًا ما يعني اناء خاصًا بالماء ضيق العنق، كان شائعًا في منطقة فلسطين في ذلك الحين. وقد وُجدت أوانٍ هكذا في الحفريات مختلفة الأحجام، ارتفاعها يتراوح ما بين أربع بوصات وقدم.

هنا يميز القديس يوحنا الذهبي الفم بين الإناء الفخاري في الأصحاح السابق الذي كان لايزال طينًا لم يدخل الفرن ويحتاج إلى إعادة تشكيله لأنه فسد، وبين الإناء المذكور هنا الذي دخل الفرن وانكسر... الأول يمثل النفس التي ُتعطى لها فرصة التوبة، ولايزال الله يترجى خلاصها، أما الثاني فيمثل النفس التي صممت على عدم التوبة بإصرار... إذ يقول:

v     عندما أراد الله أن يعطيهم رجاءً، قاد نبيه إلى بيت الفخاري، وأظهر له ليس إناء من طين دخل الفرن، بل اناء من الطين (لم يدخل بعد الفرن) سقط من يد الفخاري، قائلاً: "إن كان هذا الفخاري يأخذ الإناء الذي سقط ويعيده مرة أخرى، أفما أستطيع بالأكثر ان أصلحكم مرة أخرى بعد سقوطكم؟!"

في استطاعة الله ليس فقط أن يصلحنا خلال غسل التجديد، حيث أننا خزف، وإنما أيضًا بعد أن استلمنا عمل الروح وانزلقنا، يمكنه أن يردنا خلال التوبة الصادقة إلى حالنا السابق.

v     عندما يتحدث الكتاب المقدس عن كارثة لا علاج لها، لا يتحدث عن اناء الفخاري (الذي لم يدخل الفرن بعد) بل عن الإناء الخزفي. عندما أراد الله أن يعلم نبيه واليهود أن المدينة قد سُلمت إلى دمارٍ لا علاج له، أمره أن يأتي بإبريق خزفي ويكسره أمام كل الشعب ويقول: "هكذا أكسر... المدينة" [11] [424].

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. خروجه إلى وادي ابن هنوم:

"واخرج إلى وادي ابن هنوم،

الذي عند مدخل باب الفخاري،

ونادِ هناك بالكلمات التي أكلمك بها" [2].

ُدعى للخروج إلى وادي ابن هنوم ليتحدث هناك مع الشعب عند باب الفخار. يقع هذا الوادي في جنوب شرقي أورشليم، هناك كانت تُحرق القمامة، وأيضًا جثث المجرمين[425]. منه أُخذ اسم "جهنم"، حاليًا هو وادي الربابي Wadi-er-Rababi، وهو يربط أورشليم بوادي قدرون. لا يُعرف موضع باب الفخار في أورشليم القديمة.

دُعي إلى هناك للأسباب التالية:

1. هناك ارتكبوا أبشع فظائع الأعمال الوثنية، أي تقديم أطفالهم ذبائح بشرية ومحرقات للإله ملوك، فأراد أن تشهد عليهم الأرض التي مارسوا فيها الخطية.

2. هناك يلزمهم أن يسمعوا عن مرارة الكارثة التي تحل بهم بكونها المنخفض الذي فيه تُلقى الجثث كقطع الخزف التي في موضع القمامة.

3. في هذا الوادي وقف إرميا وسط هذه كسر الأواني الخزفية التي أُلقيت للتخلص منها، عند مدخل باب الفخار. حسب الترجوم هو باب الدمن (الروث) (نح 2: 13؛ 3: 13-14؛ 12: 31)، منه يلقى بواقى الحيوانات وكسر الخزف والقمامة والنفايات في الوادي[426].

3. رسالة صريحة عن خطاياهم:

"وقل اسمعوا كلمة الرب يا ملوك يهوذا وسكان أورشليم" [3].

لم يكن أحد يتوقع أن يقف إرميا عند باب الفخار حيث تُلقى القمامة ليوجه الحديث إلى ملوك يهوذا مع سكان أورشليم، لأنه ما كان ملوك يهوذا يدخلون من هذا الباب... لكن اشتراكهم في سفك دم الأبرياء (2 مل 21: 16؛ 24: 4) وتقديم أطفالهم ذبائح بشرية للأوثان (2 مل 16: 3، 21: 6) جعلهم يُحصون مع الشعب الداخل في باب القاذورات ليسمعوا معهم كلمة توبيخ قاسية وصدور حكم إلهي عليهم جميعًا بغير محاباة! هذا وقد عاصر إرميا أربعة ملوك ليهوذا.

حقًا ما أصعب على نفس ملك يهوذا أن يأتيه الخبر بأن إرميا يوجه إليه رسالة عنيفة عند باب القاذورات والقاء القمامة... لكن هكذا نزل الملك بنفسه إلى هذا المستوى باشتراكه في الرجاسات الوثنية وعنفها!

أقول ما أصعب على أولاد الله الذين جعلهم الله ملوكًا وكهنة (رؤ 1: 6) أن ينحدروا بأنفسهم ليسقطوا تحت الحكم مع أولاد إبليس الأشرار باشتراكهم معهم في سلوكهم الشرير، وينحطوا أحيانًا إلى مستوى أدنى من الحيوانات!

"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

هأنذا جالب على هذا الموضع شرًا كل من سمع به تطن أذناه" [3].

إذ يتحدث عن التأديب الذي يحل بهم من قبل الله يقول: "رب الجنود إله إسرائيل" [3]. بهذا يوبخهم، فإنه إذ يصدر الحكم بسبيهم يسيئون إليه أمام الأمم، فيبدو كضعيفٍ غير قادرٍ على الدفاع عن شعبه كإله إسرائيل مع أنه رب الجنود السماوية... إذ يسلم شعبه كما في ضعفٍ لأجل خلاصهم الأبدي.

لعله استخدم هذا اللقب كلقبٍ رسمي، فقد صدر الأمر من قبل الملك السماوي، رب الجنود، والمسئول عن شعبه.

 يعلن الله عن خطورة التأديب بقوله: "كل من سمع به تطن أذناه" [3]، وهو تعبير جاء في (1 صم 3: 11) عندما أخبر الله صموئيل النبي الصغير عما سيحل ببيت عالى الكاهن حيث يُقضى على بيته إلى الأبد، ولا يُكَفر عن شره بذبيحة أو تقدمة. وأيضًا في (2 مل 21: 12) عندما تحدث عن الشر الذي يحل على أورشليم ويهوذا بسبب رجاسات الملك منسى الذي سفك دمًا بريئًا كثيرًا جدًا حتى ملأ أورشليم. أُستخدم التعبير ضد عالى الكاهن كما ضد منسى الملك، وهنا يستخدمه إرميا ضد الكهنة والملوك مع كل الشعب السالك وراءهم.

جاء الاتهام صريحًا في النقاط التالية:

أولاً: الإرتداد عن الله.

"من أجل أنهم تركوني" [4]. تكرر هذا الاتهام مرارًا (1: 16؛ 2: 13 الخ).

ثانيًا: إفساد البركات التي قُدمت إليهم.

حولوا أرض الموعد التي كان الله يعتز بها، قائلاً عنها "أرضي"، إلى "أرضٍ غريبة"،

إذ يقول: "وأنكروا هذا الموضع" [4]، يترجمها البعض "جعلوا هذا الموضع غريبًا!" [4]، وهو تعبير أخّاذ يلفت النظر وفريد.

ارتبطوا بآلهة غريبة، فصاروا متغربين عن الله، وصارت أرضهم التي تسلموها هبة من الله غريبة عنه! فقدت سمتها كأرض مقدسة، وصارت دنسة، مملوءة رجاسات.

ثالثًا: محبون للتغيير في العبادة.

"بخروا فيها لآلهة أخرى لم يعرفوها هم ولا آباؤهم ولا ملوك يهوذا" [4].

عندما تركوا الرب واختاروا العبادة لآلهة أخرى، لم يختاروها عن مقارنة بينها وبين الله الحيّ، ولا عن خبرة أو معرفة، وإنما لمجرد حب التغيير!

أليس هذا هو سمة هذا العصر أيضًا، حب التغيير لأجل التغيير في حد ذاته؟! هذا الذي هو علامة على الفراغ الداخلي وعدم الشبع! تغيير في كل شيء حتى وإن كان إلى الأردأ!

رابعًا: سافكوا دماء الأبرياء.

"وملأوا هذا الموضع من دم الأزكياء" [4] وقد أُشير إلى هذه الخطية عند الحديث عن منسى الملك (2 مل 21: 16؛ 24: 4) ويهوياقيم (22: 17).

خامسًا: تقديم أطفالهم ذبائح بشرية للأوثان.

"وبنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أولادهم بالنار محرقات للبعل الذي لم أُوصِ ولا تكلمت به ولا صعد على قلبي" [6]. راجع تفسير إرميا (7: 31-32).

يرفض الله تقديم ذبائح بشرية نهائيًا (تك 22: 1-19)، حتى حينما طلب من إبراهيم إسحق ابنه ذبيحة كرمزٍ لذبيحة المسيح لم يسمح بأن تتم عمليًا، إنما قدمت بنية الحب الباذل، مع إيمان إبراهيم أن إسحق يرجع حيًا، إذ آمن بالله الذي يقيم من الأموات.

4. تأديبهم:

أولاً: تغيير اسم وادي هنوم إلى "وادي القتل" [6]. لأن كثيرين يسقطون فيه قتلى بالسيف [7]، عندما يهاجمهم الأعداء، أو عندما يحاولون الهروب فيُلقى القبض عليهم ويقتلونهم.

أما قوله "أجعل جثثهم أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض" [7]، فقد سبق التعليق عليه في شرح (7: 33؛ 16: 4)، كما تكرر في (34: 20)، كان ذلك علامة غضب الله وحلول اللعنة، ليس فقط في الشريعة الموسوية (تث 28: 26) وإنما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط كلها في ذلك الحين.

ثانيًا: الذين لا يقتلهم السيف يهلكهم الجوع حتى يأكلون أولادهم وبناتهم وأعزّ أصدقائهم. أكل لحوم البشر حقيقة تاريخية تظهر في وقت المجاعات (2 مل 6: 24-31).

ثالثًا: تتحول المدينة إلى خراب. يصير الموضع المقدس موضع سخرية الأرض كلها، لأن الخطية تجلب الخزى والعار. تصير موضعًا للدهش والصفير [8]، حيث يهمس كل من يعبر بها في خوفٍ ورعبٍ مما حلّ بالموضع.

رابعًا: تفشل كل محاولة للخلاص أو الهرب من الضيق. ليس هناك مجال للهروب من العدالة الإلهية إلا بقبول المراحم الإلهية خلال التوبة.

خامسًا: يستمر رعب اللعنات، إذ يفقد الإنسان آدميته تحت ضغط الحصار والضيق، فيأكل الآباء لحوم أولادهم وبناتهم، ثم يعودوا فيأكل الكبار كل واحدٍ لحم أخيه.

"وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم،

فيأكلون كل واحدٍ لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم وطالبوا نفوسهم" [9].

حدث ذلك في السامرة عندما حاربها آرام (2 مل 66: 2 الخ.)، وأيضًا عام 587 ق.م بالنسبة لأورشليم (مرا 2: 20؛ 4: 10)، وعام 70م عندما حاصرها الرومان[427].

5. كسر الإبريق الخزفي:

عندما يتحدث الله عن الإنسان العنيد الذي يرفض الإصلاح يدعوه الإناء الخزفي أو الترابي، مذكرًا إيَّاه بأصله، وعندما يرى فيه شوقًا نحو الإصلاح فينسبه إليه بكونه الخزَّاف الذي يشكل الطين ويجعل منه اناء للكرامة!

"ثم تكسر الإبريق أمام أعين القوم الذي يسيرون معك.

وتقول لهم:

هكذا قال رب الجنود:

هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يُكسر وعاء الفخاري بحيث لا يمكن جبره بعد.

وفي توفة يُدفنون حتى لا يكون موضع للدفن" [10-11].

أولاً: بهذا العمل قدم عنصر المفاجأة، إذ لم يكن أحد يتوقع أن يلقى إرميا النبي بالإناء الذي اشتراه ليحطمه كطفل أمام شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة، لكن إذ عجزت الكلمات أن تعبر عن فادحة الكارثة وسرعة حدوثها مع عنصر المفاجأة تحدث بلغة التمثيل المفاجىء. مع عنصر السرعة والمفاجأة أوضح أن الأمر مرعب ونهائي.

ثانيًا: أساء الشعب فهم طول أناة الله فحسبوه صانع خيرات وواهب العطايا فقط، إن هدد إنما بالكلام لا بالعمل. بهذا كانت نظرتهم إلى الله ومعاملاته مع الإنسان غير كاملة.

ثالثًا: كانت عادة كسر الأواني الفخارية قائمة عند تنصيب ملوك مصر (الفراعنة) أو إقامة اليوبيل لجلوسهم، إذ ينقشون أسماء أعدائهم على أوانٍ فخارية ويقومون بكسرها علامة تحطيمهم تمامًا.

لا تزال هذه العادة قائمة في صعيد مصر في صباح شم النسيم، أي اليوم التالي من عيد القيامة، فيه يكسر المصريون أوانٍ فخارية علامة نهاية العام الماضى والبدء في عام جديد دون تذكر لأحداث الماضي ومشاكله!

رابعًا: ارتبط كسر الإبريق بالإعلان عن كلمات الرب بخصوص تأديب الشعب لئلاَّ يظنوا أن ما يمارسه إرميا من قبيل ممارسة السحر. فقد اعتاد الأشوريون والأراميون وغيرهم أن يكسروا الجرار كطقسٍ سحري يطرد الأمراض ويطلق اللعنات على من يكسر العهد معهم. كما اعتاد قدماء المصريين أن يحطموا الطاسات ليطلبوا قوى اللعنات على أعدائهم[428]، أما إرميا فلم يقصد هذا، موضحًا أن ممارسته لهذا العمل ليست سحرًا إنما رمزًا لإدراك حكم الله التأديبي ضدهم.

خامسًا: ظن شعب يهوذا وأورشليم أنهم أقوياء كالنحاس ليس من يقدر أن يحطمهم، ولم يدركوا أن قوتهم وعنفهم إنما جعل منهم إناء خزفيًا هشًّا، يمكن بسهولة أن يسقط ويتحطم تمامًا.

سادسًا: إذ تركوا الرب صار مصيرهم الكسر مثل الأمم (مز 2: 9؛ رؤ 2: 27)، هكذا شهد أيضًا إشعياء النبي (30: 14).

سابعًا: لا يمكن ليدٍ بشرية أن ُتصلح كسرهم أو تشفيهم، إنما الله وحده قادر على ذلك.

ثامنًا: كما ملأوا وادي توفة بالقتلى كذبائح للأوثان هكذا يسمح الله بقتلهم كذبائح من أجل تحقيق العدالة الإلهية، يصير الوادي كجهنم الملتهبة نارًا.

تاسعًا: استخدموا سطوح البيوت لعبادة جند السماء (صف 1: 5؛ 2 مل 23: 12) عوض استخدامها للعبادة الروحية (أع 10: 9)، فصار ذلك لهم لعنة ونجاسة.

عاشرًا: تحل النجاسة بالمدينة كلها، وذلك بامتلاء شوارعها بالجثث، إذ يقول:

"هكذا أصنع لهذا الموضع، يقول الرب، ولسكانه،

وأجعل هذه المدينة مثل توفة،

وتكون بيوت أورشليم وبيوت ملوك يهوذا كموضع توفة نجسة،

كل البيوت التي بخروا على سطوحها لكل جند السماء..." [12-13].

وجود الجثث في المدينة كما في البيوت، حتى في قصور الملوك يجعلها دنسة (لا 21: 1الخ.، عد 5: 2).

عندما أراد يوشيا أن يدنس المذابح والمرتفعات في بيت إيل نثر عليها عظامًا من المقابر (2 مل 23: 14-20).

6. وقوفه في دار بيت الرب:

ترك إرميا النبي وادي توفة وانطلق إلى الهيكل حيث وقف على تلٍ فوق الوادي يؤكد ما قاله في توفة. حسب الشعب ذلك مجرد تهديدات بالكلام، لكن إرميا أوضح لهم أنهم يخدعون أنفسهم. كأنهم قد أضافوا إلى خطاياهم خطية الاستخفاف بالنبوات، إذ قسُّوا قلوبهم ولم يسمعوا لصوت الرب على فم نبيه إرميا.

 


 

من وحي إرميا 19

دشِّن مسكنك في!

لقد جعلته غريبًا عنك!

v     يبقى الإناء الخزفي الذي حطمه إرميا شاهدًا عليّ!

كنتُ طينًا بلا قيمة،

وجعلتَ مني إناء للكرامة!

حوّلت قلبي هيكلاً لك!

وفكري مقدسًا سماويًا!

v     أعطيتني قلبي أرضًا مقدسة،

لكنني دنستها،

وصيرتها أرضًا غريبة عنك!

دشنها من جديد!

ليعمل روحك القدوس فيها أيها الحبيب!

v     أقمتُ فيها رجاسات،

ومارست في داخلي كل صنوف العنف،

حتى على أولادي وأحبائي،

قدمتهم كذبائح بشرية لحساب عدو الخير!

من يهبني الحنو والرقة إلا أنت يا مخلص الجميع؟!

v     صارت أعماقي وادي القتل،

وتدنست القصور في داخلي،

والآن ارجع إليك،

مدّ يدك ودشن قلبي،

إلهب روحك فيّ، وقدس عواطفي!

اسكب فيض نعمتك، واحفظ حواسي!

ها أنا بين يديك،

قدسني إلى التمام!

v     تعال يا حبيبي،

أسكن في ولا تتركني!

لتعانقني بيمينك وتمسك بي،  

فأصرخ قائلاً:

وجدت من تحبه نفسي،

أمسكته ولم أرخه،

أدخلته بيت أمي،

لن أتركك بعد يا مقدس حياتي!

<<


 

الأصحاح العشرون

مقاومة فشحور له

كان يليق بالكاهن فشحور أن يكرم إرميا ويحميه ككاهنٍ زميلٍ له، ويستشيره كنبي، لأنه ينطق بكلمة الرب، لكنه عوض ذلك جعله في المقطرة، ليضيق عليه فلا ينطق بالحق، لكن التهبت كلمة الرب بالأكثر في قلب إرميا، ولم يستطع الصمت. تمتع بالمعية مع الله وشهد للحق.

1. إرميا في المقطرة[1-2].

2. فشحور المرتعب[3-6].

3. نار محرقة في قلب إرميا[7-9].

4. مقاومة الناس ومساندة الرب[10-11].

5. تسبحة وسط الآلام[12-13].

6. لحظات ضعف بشري[14-18].

1. إرميا في المقطرة:

"وسمع فشحور بن امير الكاهن،

وهو ناظر أول في بيت الرب،

إرميا يتنبأ بهذه الكلمات.

فضرب فشحور إرميا النبي،

وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الأعلى الذي عند بيت الرب" [1-2].

كان فشحور الكاهن هو الناظر الأول للهيكل لفترة مؤقتة، في سلطانه أن يسجن بتهمة الإخلال بالأمن العام. قام بضرب إرميا وجعله في المقطرة وتركه يقضى ليلةً في السجن أو في الجب السفلي.

كان هذا التصرف بلاشك غير شرعي، لأنه ما كان يليق به أن يضرب كاهنًا ويضعه في المقطرة دون فحص قضيته أمام رئيس الكهنة والكهنة زملائه. لكن هذه كانت شكليات لم تشغل بال أحد بسبب الثورة العارمة ضد إرميا. لقد أدرك فشحور أن إرميا يفضح أخطاءه وأخطاء زملائه، كما يحطم شعبية الكهنة، وأن الوقت ضيق، لذا لم يفكر في استشارة أحد، واثقاً أن غالبية الكهنة، إن لم يكن جميعهم، يقفون في جانبه ضد إرميا، وأن إرميا لن يرفع شكواه إلى رئيس الكهنة أو الكهنة!

بالنسبة لاسم "فشحور" فقد حمل كثيرون في تلك الفترة هذا الاسم. ذكر إرميا في الأصحاح التالي شخصًا آخر يحمل ذات الاسم: "فشحور بن ملكيا" (21: 1). يرى البعض أن الاسم مصري الأصل يعني "ابن حورس".

اختلف رأى الدارسين من جهة تصرفات فشحور؛ هل قام بضرب إرميا بنفسه أم رُتبته الكهنوتية تمنعه من ذلك، فقام بإصدار أمره بالضرب؟! هل أُلقى في سجن أم في حجز مؤقت قضى فيه إرميا تلك الليلة؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تشغلنا، إنما ما يشغلنا هو مقاومة فشحور للكلمة الإلهية في شخص إرميا بكل وسيلة ممكنة لديه.

بالنسبة لباب بنيامين الأعلى الذي عند بيت الرب [2]، فقد كان هناك باب للمدينة يُدعى "باب بنيامين (الأدنى)" (37: 13؛ 38: 7) على الجانب الشمالي منها أو شمال شرق المدينة حيث كانت أنصبة بنيامين في ذلك الإتجاه. هذا بخلاف باب آخر يحمل ذات الاسم لدار الهيكل "باب بنيامين (الأعلى)"، يُدعى "الأعلى" حيث ُيقام الهيكل على مرتفعة عالية.

غالبًا لم يكن فشحور بين المستمعين لإرميا النبي في توفة، إنما وردت إليه أخباره هناك، وعرف بما نطق به إرميا أمام بعض شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة. وإذ رآه قادمًا نحو الهيكل توقع أنه يكرر ما قاله هناك أمام خدام الهيكل والشعب، فيحل الرعب بالشعب، وربما ينحاز البعض إليه فلا يقدر فشحور أن يتصرف بعد ذلك. لذلك أسرع بضربه ووضعه في المقطرة علانية أمام الكل حتى متى تكلم لا يسمع له أحد. أراد أن يسخر به أمام الكل حتى لا يلتفتوا إلى كلماته.

يرى العلامة أوريجينوس أن إرميا النبي يمثل كلمة الله. كان يليق بفشحور الكاهن والناظر الأول في بيت الرب أن يكرم إرميا، وينطلق به إلى فوق، فينعم بالرؤى السماوية، ويتمتع باستنارة إلهية، لكنه على العكس نزل بإرميا إلى الجب، إلى أسفل، وهناك جعله في المقطرة، ليربط كلمة الله ويقيدها، ففقد البصيرة كما دخل في حالة رعبٍ وخوفٍ.

هنا فشحور يمثل الإنسان الذي يستهين بكلمة الله، فلا يرتفع بها كما على سطح بيته الداخلي، فيرى مع بطرس الرسول وهو على السطح رؤيا سماوية (أع 10: 9-16) تكشف له عن خطة الله الخلاصية، بل كإنسان ينزل بكلمة الله كما إلى الجب ليغوص وسط الوحل، عوض التمتع بالسماويات يرتبط قلبه وفكره كما أحاسيسه وعواطفه بمحبة العالم وترابه الباطل.

عندما يمسك المؤمن بكلمة الله ويرتفع إلى العلية يتمتع مع تلاميذ الرب بعمل الروح القدس الناري، الذي يحول قلبه إلى ذبيحة محرقة، ويشعل أعماقه بنار الحب الإلهي. هناك في العلية يلتقي بالأرملة التي انطلقت بإيليا النبي إلى فوق، فيقيم ابنها الميت... هكذا تقيم كلمة الرب النفس الميتة، وتبعث فيها الحياة المُقامة. هناك أيضًا يجد المؤمن ربنا يسوع المسيح، الكلمة الإلهي، في العلية يقدم له جسده ودمه المبذولين، حياة أبدية.

إنجيلنا ليس وسيلة للتمتع بالزمنيات، إنما هو وسيلة للارتفاع نحو السمويات. على الجبال العالية يلتقي الله مع رجاله، فعلى جبل سيناء التقى الرب مع نبيه موسى، مقدمًا له شريعته المقدسة. وعلى جبل تابور التقى رب المجد مع موسى وإيليا وبطرس ويعقوب ويوحنا، حيث تجلى أمام تلاميذه، مظهرًا لهم بهاء مجده.

لنحذر جميعًا - كهنة وشعبًا - ألا ننزل بإرميا إلى الجب السُفلي، ونضعه في المقطرة. لنحذر لئلا تتحول كلمة الله إلى وسيلة لطلب أمورٍ زمنية وراحة وقتية، عوض الانشغال بخلاص نفوسنا وخلاص إخوتنا، حيث يلتقي الكل بالمخلص السماوي، وتصير لنا شركة معه في المجد الأبدي.

المسيح يُضرب فينا

يقول العلامة أوريجينوس:

["فضرب فشحور إرميا النبي". يبدو أن فشحور كان ممسكًا بعصا في يده لأنه كان ساحرًا. إذا رجعنا إلى سفر الخروج نجد أن سحرة مصر كان عندهم أيضًا عصى، أرادوا بها أن ُيظهروا أن عصا موسى ليست من الله؛ لكن عصا الرب غلبت عصى السحرة وأكلتها.

"ضرب فشحور إرميا النبي". أكد الكتاب صفة إرميا ورتبته: "النبي". إذن الذي ضَرب إرميا ضَرب النبي. ويذكر سفر أعمال الرسل أيضًا أن واحدًا ضرب بولس الرسول بأمر من حنانيا رئيس الكهنة، لهذا قال له بولس الرسول: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض"، من الخارج له صورة رئيس كهنة عظيم ومن الداخل حائط مبيض، مملوء عظام أموات وكل نجاسة.

لماذا نتكلم عن بولس وعن إرميا؟ فإن ربي يسوع المسيح هو نفسه يقول: "أسلمتُ ظهري للسياط وخدَّيَّ أهملتهما للطم، ولم أرد وجهي عن خزي البصاق".

يظن بعض البسطاء أن ما حدث للسيد المسيح كان في أيام بيلاطس فقط، حينما أسلمه ليُجلد وحينما اشتكى اليهود عليه، أما أنا فأرى يسوع المسيح يُسلَّم ليُجلد في كل يوم. ادخل إلى معابد اليهود اليوم وأنظر كيف أن السيد المسيح يُجلد منهم من خلال التجاديف، كذلك أنظر إلى أبناء الأمم الذين يجتمعون ليشتكوا على المسيحيين، كيف يقبضون على يسوع المسيح الموجود في كل مسيحى ويقومون بجلده. تأمل يسوع المسيح الابن الكلمة كيف أنه مُهان ومرذول ومحكوم عليه من غير المؤمنين. أنظر كيف أنه بعد ما علَّمنا وأوصانا قائلاً: "من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا" قام هو نفسه بتنفيذ هذه الوصية فأهمل خدَّيه للطم. يوجد أُناس كثيرون يجلدونه ويلطمونه أما هو فلا يفتح فاه. حتى يومنا هذا، لا يرد يسوع المسيح وجهه عن خزي البصاق: لأن الذي يحتقر تعاليمه يكون كمن ينفض البصاق في وجهه[429]].

يليق بنا أن نستقبل الأنبياء في العُلِّيةّ لا في الجب السُفلي:

[أمر منطقي أن يُضرب إرميا كما ضُرب بولس وكما ضُرب السيد المسيح. "فضَرب فشحور إرميا النبي وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الأعلى". كانت المقطرة في باب بنيامين في الدور الأعلى (العلوي). كان نصيب سبط بنيامين في الميراث "أورشليم" حيث يوجد هيكل الرب، ذلك كما هو موضح في تقسيم الميراث الموجود في سفر يشوع. بما أن الهيكل كان في سبط بنيامين، لذلك فإن النبي قد "أًلقى في الجب الذي في باب بنيامين" [2] (LXX). اسم بنيامين معناه "ابن اليمين". وهذا الباب موجود بالقرب من الدور العلوي عند بيت الرب. بالرغم من وجود دور علوى في بيت الرب، إلا أن فشحور لم يلقِ إرميا إلا في الجب السُفلي.

أما نحن فنريد أن نأخذ إرميا الآن ونصعده إلى الدور العلوي من بيت الرب؟ أقصد بالدور العلوي المعنى الروحي المرتفع[430]، وذلك كما سأوضح من خلال نصوصٍ عديدة من الكتاب المقدس تؤكد أن الأبرار يستقبلون الأنبياء في الأدوار العليا.

يذكر سفر الملوك أن أرملة صرفة صيدا التي اعدها الرب لإعالة إيليا استَضافته عندها في العُلِّية الموجودة في منزلها (1 مل 17: 19).

كذلك المرأة الشونمية التي كانت تستضيف أليشع النبي كلما مرَّ عليها، عملت له عُلِّية صغيرة لكي يستريح فيها كلما يجيء (2 مل 4: 8-10).

وعلى العكس من ذلك فإن أفتيخوس الخاطي سقط من الطابق العلوي (أع 20: 9).

يوصيك يسوع المسيح أيضًا ألاّ تنزل من السطح، فيقول: "والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا".

إذن الوجود في الأدوار المرتفعة وعلى الأسطح هو أفضل شيء[431]].

2. فشحور المرتعب:

"وكان في الغد أن فشحور أخرج إرميا من المقطرة.

فقال له إرميا:

لم يدعُ الرب اسمك فشحور بل مجور مِسا بيب.

لأنه هكذا قال الرب:

هأنذا أجعلك خوفًا لنفسك ولكل محبيك،

فيسقطون بسيف أعدائهم،

وعيناك تنظران.

وأدفع كل يهوذا ليد ملك بابل فيسبيهم إلى بابل ويضربهم بالسيف" [3-4].

إذ نزل بكلمة الله كما إلى الجب، وقيدها كما بمقطرة، لكي لا تعمل في قلبه، تحول قلبه إلى حالة من اللاسلام، وكما قيل: "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 48: 22). فقد سلامه الداخلي وفرح قلبه، ودخل إلى حالة خوفٍ ورعبٍ حطمته في الداخل وتسللت حتى على محبِّيه. لذا غيَّر الله اسمه من "فشحور" الذي يعني "مثمرًا من كل جانب" إلى "مجور ِمسا بيب" يترجمها البعض "رعب من كل جانب". لا يعني هذا أن الاسم تغير فعلاً في معاملاته مع الغير، وإنما تغير في تظر الله، ليدرك فحشور حقيقة موقفه لعله يتوب!

يرى البعض أن الاسم الجديد يعني "رحيلاً"[432]، وكأن فشحور لن ينعم بالاستقرار بل يُرحل إلى بابل مسبيًّا، هو ومحبوه، عندئذ يرتعبوا.

كان الأمر الإلهي للبشرية: "اثمروا واكثروا" (تك 1: 28)... أما الآن فنزع الله عن فشحور هذه البركة ليدعوه "ارتعب أنت ومحبوك من كل جانب". عوض الإثمار المفرح يصير الموت المرعب له وللذين يحبونه ويرتبطون به لا بوصية الله.

كان الاتهام الرئيسي ضد إرميا النبي أنه محطم لنفسية القيادات والشعب، وأنه دائم التشاؤم، لذا جاء تغيير اسم فشحور ردًا على هذا الاتهام. وكأن مصدر الرعب وتحطيم النفسية هو فحشور ومن على شاكلته، وليس إرميا.

حينما دخل الله مع أبرام في عهد وأعلن له عن شريعة الختان (تك 17) غير اسمه من أبرام (أب مكرم) إلى إبراهيم (أب لجمهور)، وغيَّر اسم ساراي (أميرتي) إلى سارة (أميرة)، فقد صار إبراهيم خلال الميثاق الإلهي أبًا لجمهور من الأمم، ولم تعد سارة خاصة به بل أميرة يعتز بها جميع المؤمنين. هذا حدث مع الختان، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني الختان سوى تجديد الطبيعة البشرية بنزع الإنسان القديم؟ وماذا تعني الأيام الثمانية (للختان) سوى المسيح الذي قام بعدما أكمل الأسبوع، أي بعد "السبت"؟ لقد تغير اسما الوالدين، وأعلن كل شيء جديدًا[433]].

الآن، إذ فقد فشحور ختان القلب والأذن برفضه الكلمة النبوية الإلهية تغيَّر اسمه فلا يكون أبًا لجمهورٍ، بل رعبًا للذين يحبونه، وهلاكًا لهم!

هكذا غُرلة القلب والأذن، ورفض الميثاق الإلهي يغير اسمنا من الإثمار والبركة إلى الرعب والهلاك، حتى الأرض التي نقيم فيها تتغير كما تغيرت توفة إلى "وادي القتل" (19: 6).

يدخل فشحور الكاهن والناظر الأول للهيكل إلى حالة من الرعب، مصدرها من الداخل، وهو رفضه التمتع بكلمة الله والاستماع إلى الصوت الإلهي. وإذ يفقد سلامه الداخلي ينهار أمام ملك بابل، ويسقط في السبي كما تحت السيف. يفقد قوته وكرامته وحريته وأخيرًا حتى حياته!

أولاد الله يعيشون في فرحٍ داخلي حتى وسط آلامهم، أما أولاد إبليس فيعيشون في رعبٍ، حتى إن نالوا كل العالم في أيديهم. يصيرون كقايين الذي قيل عنه: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" (تك 4: 12). وكما يقول القديس أثناسيوس: [نعم، فإن أعياد الأشرار هي ويلات[434]].

أُلقي إرميا في الجب وُقيد بمقطرة، لكن قلبه بقى في السماء، وكلمة الله التي وُهبت له لم تُقيد، وأما فشحور فكان صاحب سلطان ككاهنٍ وناظر أول الهيكل، لكنه انهار في مذلةٍ داخلية وهلاكٍ خارجي. في شجاعة تحدث إرميا النبي مع فشحور، مؤكدَا حدوث السبي وتحقق الهلاك للكاهن كما للبيت الملكي، هكذا:

أولاً: "هأنذا أجعلك خوفًا لنفسك" [4]. كأن ما يحل به من رعبٍ مصدره داخل نفسه؛ يصير قايين زمانه!

ثانيًا: "أجعلك خوفًا... لكل محبيك، فيسقطون بسيف أعدائهم، وعيناك تنظران" [4]. كان يليق به ككاهن الله أن يكون مصدر سلامٍ لكل بشرٍ ما استطاع، لكن بسقوطه في العصيان والعناد صار علة رعبٍ حتى لمحبيه، عوض تمتعهم بالخلاص سقطوا بسيف الأعداء، وعوض ارتفاعهم لرؤية الأمجاد المعدة لهم انفتحت عيني فشحور ليرى هلاك محبيه يبدأ هنا على أيدي البابليين.

ربما يشير محبوه هنا إلى الجسد بكل طاقاته، فالإنسان الذي يحرم نفسه من عمل الكلمة الإلهي في حياته لأجل ملذات جسده، يصب على جسده حالة من الرعبٍ والدمارٍ عوض إعداده لشركة المجد الأبدي مع النفس.

ثالثًا: "وأدفع كل ثروة هذه المدينة وكل تعبها وكل مثمناتها وكل خزائن ملوك يهوذا، أدفعها ليد أعدئهم... "[5]. هكذا تمتد الخسارة لا إلى المحبين فحسب بل وإلى كل المدينة بكل إمكانياتها وخزائنها.

تشير المدينة هنا بثروتها وتعبها ومثمناتها وخزائن ملوكها إلى مواهب الإنسان وقدراته... بالانحراف عن الطريق الروحي الملوكي يفقد الإنسان خزائنه الداخلية ومواهبه التي كان يمكن أن يستخدمها لبنيان نفوس كثيرة، ويصير له رصيد غنى أبدي وإكليل مجد سماوي.

رابعًا: ذهابهم إلى السبي... إشارة إلى فقدان النفس للحرية الداخلية. هنا لأول مرة يشير إرميا النبي إلى اسم الدولة التي تسبيهم: بابل.

خامسُا: "وهناك تموت، وهناك تُدفن أنت وكل محبيك الذين تنبأت لهم بالكذب" [6]... كان يُنظر إلى الدفن في أرض غريبة إحدى علامات غضب الله على الإنسان، وسقوطه تحت اللعنة.

يرى البعض أن فشحور لم يكن كاهنًا فحسب، وإنما كان نبيًا كاذبًا، أعلن أنه لن تصاب الأمة بأذى (14: 13). استحق الموت بسبب كذبه (26: 28). وقد استخدم إرميا النبي كلمة "كذب" أو "بطلان" كثيرًا، إذ سقطت القيادات والشعب في مؤامرة الكذب.

كأن إرميا قد أعلن لفشحور أنه لا يعود بعد ناظرًا للهيكل يُصدر حكمًا على الآخرين، إنما يعاني من صدور الحكم الإلهي ضده يرعبه ويرعب الأمة كلها[435].

3. نار محرقة في قلب إرميا:

في لحظات ضعفٍ بشري وجد إرميا نفسه مضروبًا ومهانًا من كاهنٍ زميلٍ له، وُملقى في المقطرة الليلة كلها، وقد صار أضحوكة بين الكهنة والشعب... كما شعر بفشل رسالته. ليس من يصغي إليه، ولا من يهتم بكلمات الرب التي ينطق بها. هذا كله أثار في نفسه مشاعر مؤقتة، سجلها لنا لكي ندرك أنه ليس أحدٌ بلا ضعف، مهما بلغت عظم رسالته.

في مرارة مع صراحة تامة تحدث مع الله معاتبًا إياه، مقدمًا اعترافًا:

"قد اقنعتني (خدعتني) يارب فاقتنعت فخُدعت).

وألححت (قويت) عليّ فغُلبت.

صرتُ للضحك كل النهار.

كل واحدٍ استهزأ بي" [7].

حقًا تكاليف الخدمة باهظة، إذ يشعر الخادم في بعض اللحظات كأن الوعود الإلهية لا تتحقق، يرى من حوله يضحكون عليه ويستهزئون به.

جاءت الأفعال هنا "خدعتني، قويت عليّ، غُلبت" هي بعينها المستخدمة عندما تخدع زوجة رجلها أو يقوي رجل على سيدة[436]! ولعله استخدم ذلك لأن إرميا شعر باتحاد عجيب مع الله مُرسله، ارتباط قوي كالاتحاد الزوجي... لكنه فجأة شعر كأن كل شيء قد انهار أمامه، كأنه قد خُدع! أين الوعد الإلهي: "قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض؛ فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (1: 18-19)؟ هوذا الآن مُهان ومُضروب ومُقيد... ليس من يسمع له، ولا من يصغي إليه!

لعله لم يدرك إرميا النبي أنه كان يليق به أن يحمل صورة مخلصه يسوع المسيح الذي صار أضحوكة كل النهار، استهزأ به اللص، وسخر منه الشعب كما الجند، واجتمعت القيادات الدينية مع المدنية للخلاص منه!

هذه هي تكلفة الخدمة والتلمذة للسيد المسيح المصلوب، القائل: "ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده... إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فكم بالحرى أهل بيته؟!" (مت 10: 24-25). "لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!" (لو 23: 31).

كثيرًا ما يتحدث العهد القديم عن العابرين الذين يسخرون ويهمسون عند رؤيتهم لشخصٍ ساقطٍ تحت كارثة أو في حالة إنهيار (مل 9: 8؛ مرا 2: 15-16؛ حز 27: 36؛ صف 2: 15).

أما بخصوص العبارة: "قد اقنعتني (خدعتني) يارب فاقتنعت (فخُدعت)" للقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق على ذلك: [يوجد خداع صالح أيضًا، به خُدع كثيرون هذا الذي يجب ألا ندعوه خداعًا قط... استخدم يعقوب هذا الخداع مع أبيه؛ فهو ليس خداعًا بل تدبير[437]].

كانت صرخات إرميا للقيادات كما للشعب هي: ظلم واغتصاب [8]، كاشفًا لهم عن ضعفاتهم، وفاضحًا أعماقهم... فلم يحتملوا.

ربما تردد أحيانًا ولو إلى لحظات، متساءلاً:

"لماذا أخسر الناس؟

لماذا أذكر اسم الله الذي يثيرهم؟

لماذا لا أصمت؟

لأترك الخدمة لآخر غيري!"

لكن صوت الحق كان كنارٍ في قلبه لا يقدر أن يخمدها.

"لأني كلما تكلمت صرخت.

ناديت: ظلمٌ واغتصابٌ.

لأن كلمة الرب صارت لي للعارِ وللسخرةِ كل النهار.

فقلت: لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه.

فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي،

فمللت من الإمساك ولم أستطع" [8-9].

يبدو أن إرميا عانى من صراعٍ داخلي، إذ شعر بنوعٍ من الفشل. فتحت الضغوط المستمرة ممن هم حوله (18: 18؛ 20: 7، 8، 20) خطر بباله أن يعكف عن الخدمة العامة ويمارس حياته التعبدية الخاصة، ما دامت خدمته غير مثمرة بل مثيرة للجميع، حتى للذين أحبهم. اشتهي أن يعود إلى عزلته في قريته المتواضعة. شعر كأن بذار الكلمة قد أُلقيبها على قلوب صخرية، ذهبت ادراج الرياح، فصرخ قائلاً: "فقلت لا أذكره، ولا أنطق بعد باسمه" [9].

هذا ومن جانب آخر كانت كلمة الله للتأديب نارًا محرقة في قلبه، محصورة في عظامه، لكن بسبب أمانته لله وثقته فيه كمخلص لم يستطع أن يمسك عن الكلمة، ولو كلفه الأمر حياته كلها.

اعتاد في وسط آلامه المرّة أن يرفع نظره إلى الله الذي دعاه للخدمة والشهادة للحق. لقد صارت كلمة الرب في قلبه نارًا محصورة في داخله، لكنه لم يقدر أن يمسك عن الكلام متكلاً على الله الذي هو عزه وحصنه وملجأه في يوم الضيق (16: 19)، يصرخ إليه:

"اشفني يارب فأُشفى،

خلصني فأخلص،

لأنك أنت تسبيحتي...

لا أخزَ أنا...

ولا أرتعب أنا..." (17: 14-18).

أعطته هذه النار المتأججة قوة تدفعه ألاّ يصمت عن الشهادة لكلمة الله وألاّ يتوقف عن العمل حتى ولو وقف الجميع ضده. مصدر هذه النار هي محبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس.

يقول القديس أمبروسيوس أن سرّ ذلك هو تقبله الروح القدس الناري الذي يلهب أذهان المؤمنين وقلوبهم[438].

v     لقد أُخبرنا أن كلمة الرب كانت في إرميا كنارٍ محرقةٍ (20: 9). وكان رد الفعل: "الامساك عنها جعلني قلقًا، ولم أستطع". لما كان ربنا يسوع المسيح صالحًا ومحبًا للبشرية جاء بالجسد لكي يجلب هذا النوع من النار إلى الأرض، قائلاً: "ماذا لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49). إنه يود أن يتوب البشر لا أن يموتوا (كما نجد في حزقيال). لهذا أراد أن يحرق الشر والخبث الذي في البشر، حتى إذ يتطهروا يأتوا بثمرٍ (حز 18: 23، 32). إننا نعرف أنه إذ يزرع الكلمة يأتي بثمر: ثلاثين وستين ومائة (مر 4: 20) [439].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     بخصوص التفسيرات السرية (mystical)، أُرسلت إليهم النار التي لم يستطع إرميا أن يحتملها.

عندما تخترق مواضع النفس السرية تحلنا وتطهرنا وتحولنا من الإنسان القديم إلى الجديد، فنستطيع أن ننطق صارخين: "لا أحيا أنا، بل نعمة الله التي في" (راجع غلا 2: 20، 1 كو 15: 10؛ كو 3: 9) [440].

القديس جيروم

4. مقاومة الناس ومساندة الرب:

"لأني سمعت مذمةً من كثيرين.

خوف من كل جانبٍ.

يقولون: اشتكوا، فنشتكي عليه.

كل أصحابي يراقبون ظلعي قائلين:

لعله يطغي، فنقدر عليه، وننتقم منه" [10].

يبدو أن إرميا النبي قد دخل في حالة ارتباكٍ شديدٍ وسط الجو العاصف الذي حل به. رأى الله يخدعه ولم يقف معه ليسنده ضد مقاوميه، كما صارالأعداء (الأنبياء الكذبة) أصحابه يسمعون له لكي يتصيدوا له الأخطاء. تارة يهاجمونه ويسبونه كي لا يصغي الشعب إليه، وأخرى يراقبونه باهتمامٍ كمن يطلبون كلمة منه.

سمعهم يذمونه ويسخرون منه: "لأني سمعت مذمة من كثيرين"، أي من الأنبياء الكذبة والكهنة الذين دعاهم بالكثيرين، كقول المرتل: "كثيرون قاموا عليّ، كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه" (مز 3).

في سخريتهم به كانوا يرددون ما قاله عن فشحور: "لم يدع الرب اسمك فشحور بل مجور مسا بيب (خوف من كل جانب)" [3]. في استهزاء يرددون: "خوف من كل جانب!" لعلهم بهذا كانوا يقولون: من الذي يحلّ به الخوف من كل جانب: فشحور أم أنت يا إرميا؟ هوذا تحلّ الكوارث بك، ويقف الكل ضدك، ولا تجد راحة ولا سلامًا ولا ثمرًا!

كلماتهم تحمل سخرية من الخارج مع اضطراب في الداخل، فقد حلّ بهم الخوف، وحاولوا علاج ذلك، لا بالاستماع إلى صوت الرب، بل بالسخرية به... إنهم يخدعون أنفسهم!

صدرت الأوامر الخفية أيضًا بمخاتلته وخداعه لكي يتكلم بما عنده فيجدون في كلماته سلاحًا ضده. أثاروا من يشتكون عليه ممن يصغون إليه فيجدوا فرصتهم ضده لمحاكمته والانتقام منه.

مقابل هذا، مع هياج الأنبياء الكذبة ضده يعلن الله معيته وحضرته لنبيه المرذول، يتقدم كجبارٍ قديرٍ يدافع عنه، مفسدًا كل خطة شريرة ضده. معية الله هي سرّ قوته ونصرته (مز 48: 1-8).

"ولكن الرب معي كجبارٍ قديرٍ.

من أجل ذلك يعثر مضطهديّ ولا يقدرون.

خزوا جدًا لأنهم لم ينجحوا،

 خزيًا أبديًا لا يُنسى" [11].

اختبر إرميا النبي ما قاله المرتل: "فاستيقظ الرب كنائمٍ كجبار معيط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عارًا أبديًا" (مز 78: 65-66).

هذه هي صورة السيد المسيح الذي نام على الصليب، فظنه عدو الخير أنه لا يقوم ، لكنه صرخ بقوةٍ كجبارٍ، محطمًا متاريس الهاوية، وضرب عدو الخير بالصليب ودفع به إلى عارٍ أبدي! ظن عدو الخير أنه بالصليب يحطم رسالة المسيح، ولم يدرك أنه بالصليب تمت الغلبة والنصرة لحساب كل مؤمنيه، وأن السهام قد ارتدت على عدو الخير نفسه لتحطيمه تمامًا!

5. تسبحة وسط الآلام:

إذ يدرك إرميا النبي معية الله وسط الآلام تتحول حياته من الضيق إلى الفرح، مسبحًا الله المنقذ نفس المسكين من يد الأشرار، وذلك كما فعل المرنمون، إذ غالبًا ما تنتهي مزامير الرثاء بعبارات مفرحة تكشف عن الثقة في الله كمخلصٍ وسندٍ للمتألمين.

"فيارب الجنود مختبر الصديق،

ناظر الكلى والقلب،

دعني أرى نقمتك منهم،

لأني لك كشفت دعواي.

رنموا للرب، سبحوا للرب،

لأنه قد أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار" [12-13].

كلمة الرب تسبب مرارة في البداية لكن تتحول المرارة إلى عذوبة فتتحول حياة المؤمن كلها إلى تسبيح داخلي لا ينقطع.

جاءت التسبحة هنا مطابقة لتلك التي وردت في (11: 20)، حينما وقف أهل عناثوث ضده. فمع كل ضيقة ينتهي إرميا إلى ممارسة حياة التسبيح والتمتع بفرح الله مخلصه.

لماذا يُدعى الله "مختبر الصديق"؟

v     الله لا يتعلم شيئًا عن الشخص الذي يختبره، إذ هو عارف كل شيء قبل حدوثه...

 توجد أسباب أخرى لاختبارنا وتجربتنا: أحيانًا يختبرنا لكي يعلن عن فضائلنا... كما حدث مع أيوب (أي 40: 8-9)... وأحيانًا يضع الناس في تجربة لكي إذ يروا أعمالهم، ويدركوا كيف يسلكون، يتوبون عن شرورهم أو يثبتون في الإيمان كما يتطلب الأمر[441].

البابا أثناسيوس الرسولي

يُدعى الله "ناظر الكلى والقلب"، بكون الكلي هو كرسي العواطف والدوافع الخفية، بينما القلب هو مركز الفكر والإرادة.

كانت الضيقة لخير إرميا نفسه فقد تحقق بالأكثر أنه "المسكين" الذي لا يقدر بنفسه أن يخلص من أيدى الأعداء الجبابرة، لكن تبقى نفسه محفوظة في يد رب الجنود، مُنقذ المساكين!

الآن كمسكينٍ يرى نفسه موضع اهتمام الله الذي ينسب نفسه للمساكين والمرذولين والمطرودين والمظلومين، كما لليتامى والأرامل! هو أب يهتم بالذين ليس لهم من يسأل عنهم!

كان إرميا النبي في وسط ضيقته يسبح الرب، بل ويدعو الكل للتسبيح: "رنموا للرب سبحوا الرب، لأنه قد أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار" [20].

قدم لنا إرميا النبي خبرته العملية في التسبيح لله وسط الآلام، هذه التي عاشها دانيال النبي في السبي كل يومٍ، إذ قيل عنه: "جثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وحمد قدام إلهه" (دا 6: 10).

وكان بولس وسيلا الرسولان المسجونان "يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما" (أع 16: 25).

 دعى داود النبي التسبيح ذبيحة (مز 27: 6؛ 116: 17؛ 50: 14؛ 2: 141).

يقول الشهيد يوستين: [تُعتبر الصلوات وتقديم الحمد حينما تُقدم من أشخاص معتبرين هي وحدها الذبائح الكاملة والمقبولة لدى الله[442]].

[الكرامة الوحيدة التي تليق بالله، ليست في حرق الذبائح بالنار، هذه التي أوجدها الله لقوام حياتنا، إنما تُقدم الكرامة له... بتقديم الحمد له بالتسابيح والألحان لأنه خلقنا[443]].

التسبيح هو تجاوب كيان الإنسان كله لمحبة الله، فتهتز كل مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وإرادته كأوتار قيثارة تُخرج لحن الحب المتجاوب مع حب الله الفائق. هذا التجاوب يُعلن في المخدع حتى في لحظات النوم، كما في العمل والكنيسة...

ما نريد تأكيده أن التسبيح ليس عملاً فرديًا، لكنه شركة الجماعة كلها: المجاهدة والمنتصرة مع طغمات السمائيين:

"أمام الملائكة أرتل لك" (مز 138).

"سبحوه في جميع قديسيه" (مز 150).

"في وسط الجماعة العظيمة أسبحك" (مز 22).

فالمؤمن يقاسم الكنيسة مجدها الأبدي، دون أن ينفصل عنها. لا يمارس التسبيح في السماء بطقس منفرد خاص به... هكذا عمل التسبحة والليتورجيات كلها أن تكشف للمؤمن عن عضويته الكنسية ليدرك لا وحدته مع الكنيسة بل هو جزء لا يتجزأ منها، جاء ذلك ثمرة طبيعية لعمل الروح القدس فيه. إنه لا يحتاج إلى ما يوحده فيها بعد كأنها غريبة عنه.

كان ثمر يوم الخمسين:

"قبلوا كلامه بفرح واعتمدوا...

وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة...

كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب،

مسبحين الله...

وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون" (أع 2).

6. لحظات ضعف بشري:

كانت نفسية إرميا تتمرر من وقت إلى آخر في لحظات الضعف، إذ كان يشعر بانسحاق لأعماقه من أجل ما سيحلّ بشعبه، وفي نفس الوقت يجد مقاومة حتى الموت من القيادات الفاسدة التي أثّرت حتى على الشعب، حتى اشتهي لو لم يولد.

"ملعون اليوم الذي وُلِدتُ فيه.

اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا.

ملعون الإنسان الذي بشّر أبي، قائلاً:

قد وُلد لك ابن،

مُفَرحًا إيّاه فرحًا.

وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولم يندم،

فَيَسْمع صياحًا في الصباح، وجلبة في وقت الظهيرة.

لأنه لم يقتلني من الرحم،

فكانت لي أمي قبري ورحمها حُبلي إلى الأبد.

لماذا خرجت من الرحم لأرى تعبًا وحزنًا فتفنى بالخزي أيامي؟! [14-18].

كان يشتهي لو لم يولد، وكان يود لو أن أحشاء أمه صارت مقبرة له.

صورة للضعف البشري الذي يسقط فيه حتى الأنبياء والرسل... كبشر يحتاجون إلى سندٍ إلهي وسط آلامهم حتى لا ينهاروا.

منذ لحظات كان يسبح الله وسط آلامه، إذ كان متأكدًا أنه يُخلص نفس المسكين من يد الأشرار... لكن سرعان ما ضعف وشعر بالفشل مشتهيًا لو أن الموت قد حلّ به في لحظات ولادته. وقد سمح الله بتسجيل هذه المشاعر لكي لا نيأس حين نضعف وسط آلامنا، متطلعين إلى أن الأنبياء أنفسهم كانوا أحيانًا يضعفون. هذا ويليق بنا أن نسجل لحظات ضعفنا لكي متى تمتعنا بعمل نعمة الله نخجل من أنفسنا، ونعترف بضعفنا وغباوتنا أمامه. ونقدم له الشكر لأنه في صلاحه لم يأخذنا في لحظات ضعفنا، بل أعطانا فرصة التمتع بعمل نعمته، والدخول في خبرة جديدة معه.

مع ما حملته هذه العبارات من روح اليأس، لا ننكر أنها تكشف عن رقة نفس إرميا... لم يكن قادرًا أن يرى الناس يهلكون. يشتهي الموت عن أن يسمع ما سيحل بشعبه.

تسجيل هذه المشاعر لا يعني أن إرميا النبي قد نطق بها أمام أحد، وإنما سُجلت لكي نكتشف كيف أننا في لحظات تعبنا نخطئ بالفكر، لكن يليق بنا أن نضبط لساننا ونلجمه كقول المرتل: "قلت أتحفظ لسبيلي من الخطايا بلساني؛ أحفظ لفمى كمامة فيما الشرير مقابلي؛ صمت صمتًا" (مز 39: 1-2).

مع كل هذه الظروف القاسية، ومع مرارة نفسه لم يهرب من الخدمة... بل كان يهتم بخلاص الآخرين، حتى المقاومين له.

v     عندما سمع النبي هذا لم يرفض الخدمة. لم يقل على مثال موسى: "أسألك يارب، إني لست مستحقًا، أرسل آخر". إذ كان محبًا للشعب[444]...

القديس جيروم

يلاحظ في هذه المرثاة الشخصية الآتي:

أولاً: حسب إرميا يوم ميلاده يوم لعنة لا بركة، إذ ظن أنه لم يحقق رسالته، فما قيمة ميلاده أو حياته! لقد استحق يهوذا الخائن اليائس ذلك: أن يلعن يوم ميلاده، وكان خير له لو لم يولد (مت 26: 24) ، لكن ما كان يليق بنبي يعلم أنه إناء للرحمة أن يفعل ذلك.

ثانيًا: لم يلعن إرميا والديه إنما لعن يوم ميلاده، لأن الشريعة تحرم لعن الوالدين كجريمة عظمى (لا 20: 9؛ 24: 10-16).

ثالثًا: كان اليهود كما كثير من الأمم يفرحون بميلاد طفلٍ ذكر، لقد بشروا والده: "قد وُلد لك ابن (ذكر) ليفرح...

رابعًا: يقصد بالمدن التي قَلَبها الرب سدوم وعمورة، وقد أشير إليهما كثيرًا كعبرة (عا 4: 11؛ إش 1: 9-10؛ 3: 9؛ صف 2: 9). تحولت سدوم وعمورة إلى صياح وجلبه (تك 18: 20)، لكن ليس صراخ التوبة والرجوع إلى الله، بل صراخ التعب والألم مع حالة الرعب والخوف الشديد.

خامسًا: يعلم إرميا النبي تمامًا حالة الإحباط التي تحلّ بالأم التي يموت طفلها عند ولادته (6: 26؛ أم 4: 3)، لكنه يُحسب هذا كلا شيء أمام إحساسه بأن حياته بلا معنى ولا قيمة.

يعلق القديس أمبروسيوس على كلمات إرميا النبي السابقة، قائلاً بان القديسين ينوحون منتظرين حياة أفضل [لذلك القديسون ليسوا بدون سبب كثيرًا ما كانوا ينوحون من أجل طول بقائهم هنا، داود بكى ذلك (مز 119: 5) وإرميا وإيليا (1 مل 19: 4)[445]].

ويقول العلامة أوريجينوس:

[لا نجد أحدًا من القديسين يحتفل بعيد ميلاده أو يقيم فيه وليمة عظيمة، ولا يفرح أحد بعيد ميلاد ابنه أو ابنته، إنما يفرح الخطاة بهذا.

ففي العهد القديم احتفل فرعون ملك مصر بعيد ميلاده (تك 40: 20)، وفي العهد الجديد احتفل هيرودس أيضًا (مر 6: 21)، وفي الحالتين سال الدم علامة تكريمهما لعيد ميلادهما، فقطعت رأس رئيس الخبازين (تك 40: 22)، وأيضًا رأس القديس النبي يوحنا في السجن (مر 6: 27).

أما القديسون فليس فقط لا يحتفلون بأعياد ميلادهم وإنما وهم مملؤون من الروح القدس يسبون هذا اليوم. فإن نبيًا عظيمًا، أقصد إرميا، الذي تقدس في بطن أمه وتكرس كنبي للشعوب (1: 5)، يعلن: "ملعون اليوم الذي وُلدت فيه، اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا..." [14]...].


 

من وحي إرميا 20

اسمك نار في قلبي،

محصورة في عظامي!

v     صار اسمك نارًا في قلبي،

 يلهب أعماقي،

 فلا أستطيع أن أصمت!

v     التهب قلب إرميا النبي،

 فتكلم بكل شجاعة ولم يصمت.

 ضربه الكاهن فشحور، ووضعه في مقطرة،

 لكنه لم يستطع أن يقيد كلمة الله النارية التي ينطق بها،

 لم يستطع أن يطفئ نارك التي ألهبت أعماقه.

v     دعوت فشحور(= مثمر من كل جانب) "مجور ِمسا بيب" (= خوف من كل جانب)،

 لأنه لم يعد يحمل ثمرًا مفرحًا، بل رعبًا لنفسه ولمحبيه!

 حاول فشحور أن يطفئ النار الإلهية،

 فصار إسمه "الخوف في كل جانب"!

 هذه هي ثمرة كل مقاومة لعملك الناري!

 يفقد الإنسان فرحه ليصير مرعبًا لنفسه،

 ويفقد الإنسان ثمره فيرعب أحباءه!

v     في لحظات الضعف ظن إرميا النبي أنك خدعته،

 وعدته بالخلاص والنصرة،

 وإذا بالكل حوله يحطمونه.

 صار أضحوكة الجميع النهار كله!

 صار الكل يسخرون به.

 ولم يدرك أنه إنما شاركك حياتك أيها المخلص!

 ثارت القيادات والجماهير ضدك،

 سخروا منك، قائلين:

 أصلبه! أصلبه!

 خلص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها!

 هل لي شرف مشاركتك آلامك؟!

 ليسخر العالم بي،

 فإنه لن يطفئ لهيب حبك في داخلي!

 بقوة أقول مع خادمك أثناسيوس الرسولي:

 أنا ضد العالم!

 أخدمه بنار محبتك،

 لكنني لا انحني لشره ومفاهيمه الخاطئة!

v     في ضعفي لعنت مع إرميا النبي يوم ميلادي!

 لكنني تطلعت فرأيتك معي القوي القدير!

 لا تحاسبني على ضعفي،

 وإنما إلهب قلبي بنار روحك القدوس!

v     ليعمل روحك الناري في داخلي:

 يحرق ضعفاتي وسقطاتي!

 يلهب نفسي حبًا لك، فلا أكتم كلمتك!

 يشعل أعماقي حبًا، حتى لمقاوميّ!

 يحولني إلى نار مقدسة، مياه كثيرة لا تقدر أن تطفئها!

v     نعم، اسمك نار في قلبي!

 روحك القدوس نار يشعل أعماقي!

 كلامك نار محصورة في عظامي!

 متى أصير كأحد خدامك: لهيب نار لا ينطفئ!

<<


 

الأصحاحات 21-33

 

 

نبوات ما قبل السقوط

إرميا 21 - إرميا 33


 

الأصحاح الحادي والعشرون

قيادة جاحدة

يرد في هذا الأصحاح أمور خاصة بأواخر أعمال إرميا، إذ أرسل صدقيا، آخر ملوك يهوذا، يسأل إرميا النبي إن كان يثور على ملك بابل، وكان يأمل أن تأتي الإجابة حسب هواه، وأن يسمع من إرميا كلمة تشجيع. لكن إرميا تكلم بشجاعة حسب قضاء الرب، ليس محاباةً لبابل، وإنما كواقعٍ يجب أن يدركه الملك والشعب، وهو أن التأديب الإلهي يحل بهم حتمًا، لذا طالب الشعب بالخضوع لملك بابل، وطالب الملك وأسرته بالتوبة.

v     الملك صدقيا

1. الملك صدقيا يطلب مشورة إرميا[1-2].

2. إجابة إرميا: الله نفسه ضد يهوذا[3-7].

3. نصيحة: الخضوع للتأديب الإلهي![8-10].

4. الحاجة إلى التوبة[11-12].

5. أورشليم تؤله نفسها[13-14].

الملك صدقيا[446]:

صدقيا" اسم عبري معناه "يهوه برّ" أو "بر يهوه".

هو آخر ملوك يهوذا، اسم والدته حميطل (2 مل 24: 18). أقامه ملك بابل بعد السبي الأول، وغيَّر اسمه من متنيا إلى صدقيا (2 مل 24: 17)، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، وملك إحدى عشرة سنة (597-587 ق.م). كان يسأل إرميا لكي يستشير الرب، لكنه لم يصغِ إليه، لأنه كان ينتظر إجابة حسب هواه (2 أي 36: 12؛ إر 1: 2، 37) ولأنه كان بالأكثر معتمدًا على وعود فرعون مصر القوية وقد خطط مع رجاله كيف يتخلص من دفع الجزية لبابل[447]، وكأن سؤاله الرب كان أمرًا ثانويًا أو شكليًا. من جهة علاقته بالله، نجس الهيكل بالوثنية (2 أي 36: 14)، ولم يقضِ بالعدل كما نرى في هذا الأصحاح [11-12].

جاء إليه رسل من أدوم وموآب وعمون وصور وصيدا ليرسموا خطة موحدة للثورة على ملك بابل، لكنهم كانوا حلفاء غير أمناء.

في البداية بعث صدقيا سفارة إلى نبوخذنصر غالبًا ليؤكد له ولاءه (29: 3)، وفي السنة الرابعة لملكه ذهب هو إلى بابل (51: 59)، وأخيرًا جسر على التمرد. وقد شجع عظماء يهوذا الملك على الثورة ضد بابل.

كان الباعث على هذه الثورة هو جلوس ملك جديد على عرش مصر أراد أن يناهض بابل، فيسترد لنفسه بعض الأراضي التي كانت قبلاً خاضعة لمصر واغتصبتها بابل منها.

ليس فقط من الجانب الروحي أو الإيماني قد أخطأ صدقيا في اتكاله على ذراعٍ بشري، أي على فرعون مصر، وإنما حتى من الجانب السياسي كانت النظرة خاطئة. فإنه قبل ذلك بحوالي قرن ونصف في أيام إشعياء النبي تقبلت يهوذا ينبوعًا لا ينقطع من الوعود المصرية عن المساندات العسكرية لتقف أمام الآشوريين (وبعد ذلك البابليين). إذ خشي المصريون على أنفسهم من خطر تدخل منطقة ما بين النهرين، وكانوا يودون استخدام يهوذا وإسرائيل كخط دفاعٍ لهم من الجانب الشمالي لمصر[448]. كل هذه الوعود لم ُتجدِ شيئًا ولا قدمت حصانة ليهوذا أو إسرائيل، وكان يليق بالملك أن يضع ذلك في اعتباره.

في اليوم العاشر من الشهر العاشر في السنة التاسعة لملكه عسكر ملك بابل أمام أورشليم وأخذ يبني حصونًا حولها، لكن قوتها حالت دون اقتحامها، فحاصرها البابليون، إلا أن تقدُم المصريين أرغمهم على الانسحاب إلى حين (37: 5)، لكنهم ما لبثوا أن عادوا.

وفي اليوم التاسع من الشهر الرابع في السنة الحادية عشرة لملكه نفذ القوت من العاصمة المحاصرة. في تلك الليلة غادر صدقيا الموقع مع كل رجاله، وتسلل بين القلاع البابلية، وهرب شرقًا نحو الأردن. لكن الجيش البابلي طارده وأدركه في سهل أريحا، فأُلقى القبض عليه وجاءوا به أسيرًا إلى نبوخذنصر إلى ربلة في شمال فلسطين. هناك حُوكم، فقُتل أولاده أمامه، واُقتلعت عيناه، ورُبط بسلاسل من نحاس، وسيق إلى بابل (2 مل 24: 17-20، 25: 1-7؛ 2 أي 36: 11-21؛ إر 39: 1-14)، وحُبس حتى موته (52: 11).

فيما يلي نص طلب صدقيا الملك من إرميا لسؤال الرب، وإجابة إرميا النبي عليه، وكان ذلك في عام 588 أو بداية 587 ق.م.

1. الملك صدقيا يطلب مشورة إرميا:

"الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب حين أرسل إليه الملك صدقيا فشحور بن ملكيا وصفنيا بن معسيا الكاهن، قائلاً:

اسأل الرب من أجلنا،

لأن نبوخذنصر ملك بابل يحاربنا.

لعل الرب يصنع معنا حسب كل عجائبه فيصعد عنا" [1-2].

يرى يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن صدقيا الملك حين سمع كلمات إرميا صدقها، وشعر أن كل ما ينطق به هو حق وأنها لصالحه، لكن أصدقاءه غيروا فكره وانحرفوا به عما نطق به إرميا وألزموه أن يفعل حسبما يسرهم[449].

على أي الأحوال تكشف هذه العلاقة بين الملك والنبي أيهما كان الأقوى وأيهما كان الأضعف[450]. من الظاهر كان الملك في مركز القوة، وكان إرميا موضع سخرية من الأكثرين اليوم كله... أما في الواقع فكان الملك مرتعبًا غير مستقرٍ، محتاجًا إلى كلمة من إرميا تعطيه طمأنينة وسلامًا!

أرسل الملك كاهنين هما فشحور بن ملكيا وهو غير فشحور بن أمير (20: 1) وصفنيا بن معسيا. كانا كاهنين وموظفين عند الملك. كان فشحور يكن كل كراهية لإرميا ويُرجح أن والده ملكيا هو الذي ألقى إرميا في الجب (38: 6).

يرى البعض أن هذين الكاهنين كانا مشيرين للملك من الجانب المدني والديني، وكانا منحازين نحو فرعون مصر، يحثان الملك على التحالف مع فرعون ضد البابليين[451]، والحنث بالعهد الذي أقامه مع نبوخذنصر.

طلب الملك من إرميا النبي: "اسأل الرب من أجلنا" [2]، ليس شوقًا إلى معرفة إرادة الله أو رغبة في الطاعة لله، وإنما رغبة في نوال إجابة من الله تتفق مع ما هم مصممون عليه. إنهم يخدعون أنفسهم، إذ يطلبون أن يسمعوا، لا صوت الرب، بل صوتهم هم على لسان الرب.

كلمة "اسأل"[452] daras هنا تعني عملية الكشف عن فكر الله، استخدمت كثيرًا في العهد القديم (تك 25: 22؛ خر 18: 15؛ تث 4: 29؛ 12: 5، 1 صم 9: 9؛ 1 مل 22: 5، 7-8؛ 2 مل 3: 11؛ 8: 8؛ 22: 13؛ إش 31: 1؛ 55: 6؛ 65: 10، هو 10: 12؛ عا 5: 4-6 الخ).

كان في ذهن صدقيا مناسبة سابقة عندما حوصرت أورشليم بواسطة سنحاريب والجيوش الآشورية عام 701 ق.م (2 أي 23: 20-21؛ 2 مل 19: 35-36؛ إش 37: 36-37)، في تلك المناسبة قام الله بدور خطير حيث تشفع إشعياء النبي لديه، فانسحب سنحاريب. الموقف في ظاهره مشابه، وكان الملك يترقب حدوث معجزة أخرى، لكن هناك فارق بين الموقفين. في أيام سنحاريب كان حزقيا الملك وشعبه يطلبون الإصلاح ويبذلون كل الجهد للمصالحة مع الله، أما صدقيا وشعبه فكانوا رجال جحود وفساد! كان كل اهتمام الملك هو التخلص من المشاكل الساقط تحتها، بأن يصعد ملك بابل عنه، لا أن يتمتع بالسلام مع الله والدخول في مصالحة معه.

كان حزقيا يسأل الله بقلبه، أما صدقيا فبشفتيه.كان قد خطط للثورة ضد بابل مع رجاله، وجاء سؤال الرب أمرًا شكليًا أو ثانويًا كما يرى بعض الدارسين. ثم إن كان صدقيا يعرف الله أنه صانع عجائب عبر الدهور [2]، فلماذا لا يرجع إليه بقلبه بل كانت معرفته معرفة عقلية بحتة، لا تمس حياته الداخلية ولا سلوكه، لا تقدم له نفعًا؟!

من جانب آخر كان حزقيا قد اتكل تمامًا على الرب وانتظر عمله بيقين الإيمان، أما صدقيا فاتكأ على وعود فرعون القوية.

أشار هنا إلى اسم ملك بابل: "نبوخذنصر" التي تعني "ليت (الإله) نابو  Nabu يحمى الحدود"، أو "ليت نابو يحمي الابن" أو "ليت نابو يحمي البغل (الشخص العنيد)[453].

2. إجابة إرميا: الله نفسه ضد يهوذا:

إذ كان صدقيا مرتعبًا بسبب العدو الخارجي الرّابض خارج أسوار أورشليم وجّه إرميا أنظاره إلى عدو داخل الأسوار هو فساد قلبه وقلوب من معه، الذي حوَّل الله إلى العداوة ضدهم.

"فقال لهما إرميا:

هكذا تقولان لصدقيا:

هكذا قال الرب إله إسرائيل:

هاأنذا أرد أدوات الحرب التي بيدكم التي أنتم محاربون بها ملك بابل والكلدانيين الذين يحاصرونكم خارج السور.

وأجمعهم في وسط هذه المدينة" [3-4].

لم يذعن إرميا النبي لرغبة الملك ولم يسايره في شيء، بل كشف بشجاعة عما أعلنه الله له من جهة قضائه، أي الهلاك لجميع الذين يقاومون بابل حتى الملك وأهل بيته. لا يعني ذلك أن إرميا كان مُحبًا لبابل، بل أدرك أن بابل مع كل ظلمها وقساوتها يستخدمها الله - إلى حين - كأداة لتأديب شعبه العنيد والجاحد له.

موقف إرميا هذا خلق عداوة شديدة لكثيرين من مواطنيه ضده، فاتهموه بالخيانة الوطنية.

ويلاحظ في هذه الإجابة التالي:

أولاً: جاءت الإجابة ليس حسب رغبة صدقيا، وإنما حسب قلبه المُبتعد عن الله، إذ يقدم الله للإنسان حسب قلبه إن كان مقدسًا أو تائبًا أم دنسًا ومتشامخًا.

ثانيًا: تُستخدم كلمة "أرد" [4] على الوجه أو العينين حيث يحّول الشخص عينيه أو وجهه عن آخر (2 مل 20: 2). هنا المرة الوحيدة التي تُستخدم عن الأسلحة... وكأن الله يؤكد لشعبه أن نتيجة المعركة لا تتوقف على كمية الأسلحة أو قدرتها، وإنما على وجه الله الذي يديره نحو شعبه أو عنهم. فإن أداره عنهم، تفقد الأسلحة التي بين أيديهم قدرتها ورسالتها، وتتحول من الحماية ضد العدو إلى الاتجاه المضاد. كما أن كل الأمور تعمل للخير للذين يحبون الله (رو 8: 28)، هكذا كل الأمور تتحول للهلاك للذين يقاومون الله ويجحدونه، حتى الأسلحة التي في أيديهم تتوجه لهلاكهم لا لخلاصهم!

عندما نتصالح مع الله تصطلح الطبيعة معنا، وتتحول كل الطاقات لبنياننا، وعندما نقاوم الله تحمل كل الأمور عداوة ضدنا.

ثالثًا: مع ما يبدو في الإجابة من حزم شديد، حتى يصعب أن تجد فيها كلمة رجاء واحدة، إلا أنه يلقب الله "إله إسرائيل" ليبعث فيهم الرغبة في مراجعة أنفسهم، والتعرف على سبب تخلي الله عنهم، وهو الصانع عجائب في حياة آبائهم.

رابعًا: يقصد بأسلحة الحرب فرق يهوذا العسكرية، التي كان يمكنها حتى تلك اللحظات أن تقوم بدور خارج الأسوار وتضايق الكلدانيين. ربما قصد بها جيوش الكلدانيين التي كانت ستجتمع في المدينة.

 هذا ويلاحظ أن تعبير "الكلدانيين" يُطلق على البابليين (2 مل 24، 25). هذا التعبير يشير في الأصل إلى فرق القبائل التي عاشت بين نهريّ الفرات ودجله، بين مدينة بابل والخليج الفارسي. في الوقت الذي فيه مارست الإمبراطورية الأشورية سلطانها على الجنوب كانت هذه القبائل هي مركز القوي المضادة للأشوريين. لقد ضّم الجيش البابلي جنسيات كثيرة بجوار الكلدانيين (34: 1)، لكن حينما يُشار إلى الكلدانيين يُعنى القوة البابلية التي حطمت الأشوريين[454].

يصعب ترجمة كلمة "sarim" [4] هنا بـ "الحصار" حيث لم يكن بعد قد بدأ، لذا تُترجم بالضغط الشديد.

خامسًا: أكد لهم أن كل جهودهم للخلاص من الكلدانيين تنتهي حتمًا بالفشل.

سادسًا: ما يرعبهم هو أن الجيش البابلي ليس إلا إحدى الوسائل التي يستخدمها الله ضدهم خارج أورشليم وداخلها. إذ صار الله نفسه عدوًا لهم يحتاج الأمر إلى مصالحة. إنه لا يصنع عجائب مع شعبه كعادته، وإنما وهو يوجه أسلحتهم ضدهم يقف بنفسه ضدهم.

"وأنا أحاربكم بيدٍ ممدودة وبذراعٍ شديدة،

وبغضبٍ وحموٍ وغيظٍ عظيمٍ.

وأضرب سكان هذه المدينة،

الناس والبهائم بوبأ عظيمٍ يموتون" [5-6].

النقطة الخطيرة أن الله نفسه هو الذي يحارب ضدهم، مستخدمًا الكلدانيين كوسيلة خاصة به. يحول أسلحة يهوذا إلى هلاكهم، كما يسمح بالوبأ والسيف والجوع أن يهلكهم هم وحيواناتهم... مهيأ كل فرصة للعدو أن يغلبهم!

تُستخدم كلمتا "يد" و "ذراع" لتعنيا "قوة" الله كما في (تث 4: 34؛ 5: 15؛ 7: 19؛ 26: 8، 1 مل 8: 42، 2 مل 17: 26).

هنا يبسط الله يده ليؤدب شعبه المُصر على العناد والجحود، مستخدمًا الأمم للتأديب. غير أن بسط اليد يشير إلى تجسد الكلمة، الذي يحل بيننا مستخدمًا كل وسيلة لخلاص العالم. حمل التأديب الإلهي عنا في جسده (إش 53: 4-6)، مستخدمًا الأمم كسفراء عنه، يشهدون لإنجيله الذي يعلن عن حب الله للعالم كله!

إن كان إرميا قد عجز عن تقديم المصالحة بين الله وشعبه، فإننا قبلناها ببسط يده، أي بالتجسد الإلهي.

كان دور النبي في ذهن صدقيا الملك أن يطلب ما هو لخير شعبه، ويعمل لحساب وطنه، مهما كلفه الأمر. فكان الأنبياء في أثناء الحروب يصلون إلى الله، ويشفعون في الشعب ليهبهم النصرة على الأعداء. لكننا نرى هنا إرميا يقف أمام الله ليجد أنه لا مجال للشفاعة عن شعبٍ قد صار الله نفسه عدوًّا لهم... لم يعد الأمر - في عينيه- هو الشفاعة عنهم لكي يتمتعوا بالخلاص من العدو، وإنما أن يجدوا طريق المصالحة مع الله، حتى وإن ظهروا في ضعف، خاضعين للعدو الظاهري، بابل!

3. نصيحة: الخضوع للتأديب الإلهي:

"وتقول لهذا الشعب:

هكذا قال الرب.

هأنذا أجعل أمامكم طريق الحياة وطريق الموت.

الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوبأ.

والذي يخرج ويسقط إلى الكلدانيين الذين يحاصرونكم يحيا، وتصير نفسه له غنيمة.

لأني جعلت وجهي على هذه المدينة للشر لا للخير يقول الرب.

ليد ملك بابل تُدفع فيحرقها بالنار" [8-10].

لم يعد أمام صدقيا ورجاله وكل الشعب إلا الاختيار بين أقل الأمرين مرارة: الاستسلام لبابل أو الموت. هذا ما فعلته الخطية بهم، إصرارهم على الخطية زمانًا طويلاً أفقدهم إمكانية التمتع بالحرية، ودخل بهم إلى ضرورة الانحناء إلى العبودية المرّة والسبي... ولكن إلى زمان، حتى يقدموا توبة صادقة، ورجوعًا حقيقيًا لله مخلصهم صانع العجائب.

كانت الإجابة هي أن يشرب الملك ومن معه من السم الذي أعدوه لأنفسهم. جاءت هذه الإجابة تحطم كل أثر لإمكانية قبول إرميا أو احترامه وسط الكهنة أو القيادات المدنية أو الشعب. إذ بدت نصيحة إرميا كأنها استسلام لبابل، ورآها البعض خيانة وطنية وانحيازًا للعدو (38: 17-21). قدم إرميا النبي ذات النصيحة أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، مؤكدًا للشعب أنه يلزمهم الخضوع للكلدانيين. لم يكن إرميا النبي يتكلم بمنطق الرجل السياسي أو العسكري، إنما منطق رجل الله الذي يوجه الكل نحو الخضوع للتأديب الإلهي كخطوة أولى نحو التجديد المقبل، كاعتراف مبدأي بالخطأ والرغبة في التوبة. جاءت مشورته هي أن يتجنبوا قتلهم بالخضوع في هدوء للبابليين، بدون مقاومة. حجته بسيطة وهي أن الله تخلى عن شعبه بسبب عدم ولائهم له وخيانتهم، لهذا صار سقوط أورشليم أمرًا حتميًا لا مفر منه.

مع هذا عندما سقطت يهوذا سنة 587 ق.م اختار أن يبقى في بلده ليعمل لحساب شعبه لتجديدهم في المستقبل (40: 1-6؛ 42: 7-22).

في سفر التثنية أعطى الله لشعبه حق الخيار بين طريقيْ الحياة والموت (تث 30: 15-19)، طريق الحياة هو الطاعة لإرادة الله (تث 30: 16)، إرادة الله هنا هي تأديبهم بتحطيم مدينتهم. حقًا إنها مدينة الله التي نسبها إلى نفسه (تث 12: 5؛ 2 مل 23: 8)، لكنها إذ تدنست بالأوثان والرجاسات، صارت هناك ضرورة لتحطيمها تمامًا لتقوم من جديد تحمل القداسة اللائقة به. من أراد الحياة فليطع الرب ويستسلم مؤقتًا للكلدانيين، حتى تتقدس المدينة بعد تحطيمها ويعودوا إليها.

يبدو أن ما فعله إرميا هنا يشبه ما حدث بعد ذلك في كورنثوس، حيث أمر بولس الرسول بطرد ذاك الذي ارتكب الشر مع امرأة أبيه. لقد سلمه كما إلى الشيطان لهلاك الجسد مؤقتًا، وإذ قدم توبة أسرع الرسول يأمرهم بقبوله حتى لا يحطمه اليأس، فعاد مقدس النفس والجسد معًا!

 4. الحاجة إلى التوبة:

"ولبيت ملك يهوذا تقول:

اسمعوا كلمة الرب يا بيت يهوذا.

هكذا قال الرب:

اقضوا في الصباح عدلاً،

وأنقذوا المغصوب من يد الظالم،

لئلا يخرج كنارٍ غضبي فيحرق وليس من يطفئ من شر أعمالكم" [11-12].

جاء حديثه عن التوبة عمليًا، إذ بدأ بالملك بكونه القائد الأعلى للشعب والمسئول أمام الله عنهم، مؤكدًا أنه من بيت داود رجل الله، لذا يليق به أن يسمع لصوت الرب ويمارس التوبة العملية.

يوجه هنا حديثه إلى بيت يهوذا الملوكي [11-12] كما إلى المدينة الملوكية، أورشليم [13-14]. يقصد بالبيت هنا [11- 12] الأسرة الملكية.

يوضح الله للملك عمليًّا ما هي خطاياه، لكي يقدم عنها توبة عملية، وقد ركّزها في أمرين:

أولاً: الظلم وتجاهل العدالة.

ثانيًا: التأله والعجرفة.

فمن جهة "الظلم وتجاهل العدالة" لا يكفي للملك أن يكون غير ظالمٍ، بل يلتزم بممارسة العدالة، وأن يبكر مسرعًا في تحقيقها.

في الأصحاح الخامس يطلب الله من إرميا بل ومن كل السامعين أن يطوفوا في شوارع أورشليم وينظروا ويعرفوا ويفتشوا في ساحاتها لعلَّهم يجدون إنسانًا واحدًا يعمل بالعدل ويطلب الحق فيصفح عنها (5: 1). إنه لم يجد... حتى جاء السيد المسيح نفسه، الله المتأنس، يقول: "لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم" (إش 61: 8).

المسئولية الرئيسية للملك هي الإسراع في ممارسة العدل "في كل صباح (مبكرًا)labboqer ؛ ذلك لأنه كانت العادة أن ينظر في القضايا في الصباح المبكر عند باب المدينة (عا 4: 4؛ مز 50: 17؛ مز 101: 8). فالملك كممثل لله وسفيره يلزمه أن يكون حارسًا للعدالة. لذلك طلب سليمان الحكيم في صلاته لله أن يهبه عقلاً رزينًا قادرًا على التمييز بين الخير والشر (1 مل 3: 9؛ 8: 32). وقد ركزت كثير من المزامير الملوكية على ممارسة العدالة ونزع الظلم (مز 45: 5-9؛ 72: 1-4، 12-14 الخ.) مع الرحمة، حتى يترنم الملك مع داود قائلاً:

"رحمة وحكمًا أغنى. لك يارب أرنم...

الشرير لا أعرفه.

الذي يغتاب صاحبه سرًا هذا أقطعه...

عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي.

السالك طريقًا كاملاً هو يخدمني،

لا يسكن وسط بيتي عامل غش.

المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني.

باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101).

أثار الأنبياء هذا الموضوع، مطالبين الملك أن يحقق العدالة وينزع الظلم (عا 5: 11-13؛ إش 1: 17؛ مي 3: 9-12 الخ.).

لتحقيق العدالة بالنسبة للملك أهمية من جهة أنه علامة على الأمانة في تحقيق الميثاق الإلهي، إذ يُحسب شرط "ممارسة العدالة" التزامًا من جانب الملك مقابل تعهد الله بحمايته وإعطائه النصرة. ومن جانب آخر فإن الملك يحمل رمزًا وظلاً للمسيا الملك ابن داود الذي جاء ليحقق العدل (23: 5-6؛ إش 9: 6-7؛ 11: 1-4 الخ)، فإنه ينقذ الإنسان من الظالمين.

إذ جعلنا السيد المسيح ملوكًا (رؤ 1: 6) يليق بنا نحن أيضًا أن نلتحف بالرحمة نحو إخوتنا، خاصة المتألمين والمحتاجين. ففي تعليق للقديس هيبوليتس على كلمات ربنا يسوع مع الأشرار في اليوم الأخير يقول:

[حينئذ يسألون: "يارب، متى رأيناك جائعًا أو عطشانًا أو غريبًا أو عريانًا أو مريضًا أو محبوسًا ولم نخدمك؟!" (مت 25: 44).

يارب، أما تعرفنا؟!

أنت هو الذي خلقتنا، ووهبتنا الروح والنفس!

إننا آمنا بك، ونلنا ختمك.

نلنا معموديتك، واعترفنا بك إلهًا... صنعنا آيات باسمك، وأخرجنا شياطين! من أجلك امتنا الجسد، واحتملنا البتولية وسلكنا في العفة!

من أجلك تغربنا على الأرض، وأنت تقول: لا أعرفكم، إذهبوا عني؟!

يجيب الرب قائلاً:

لقد خُتمتم بخاتم صليبي، لكنكم طمستموه بقساوة قلوبكم!

نلتم معموديتي، لكنكم لم تبالوا بوصاياي!

أخضعتم أجسادكم للبتولية، لكنكم لم تصنعوا رحمة، ولا أخرجتم البغضة نحو أخيكم من قلوبكم!

لأنه ليس من يقول يارب يارب يخلص، بل الذي يصنع مشيئتي[455]].

إن لم تهتم يهوذا بمعالجة حالات الظلم الاجتماعي الخطيرة السائدة في داخلها، تجد نفسها أمام حالة الغضب الإلهي الخطيرة [11].

كثيرًا ما يشبه إرميا النبي الحكم الإلهي بنارٍ لا تنطفئ (4: 4؛ 17: 4، 27؛ 21: 12؛ 14؛ 43: 12؛ 49: 27).

5. أورشليم تؤله نفسها:

"هأنذا ضدك يا ساكنة العمق،

صخرة السهل يقول الرب.

الذين يقولون: من ينزل علينا؟

ومن يدخل إلى منازلنا؟

ولكنني أعاقبكم حسب ثمر أعمالكم يقول الرب.

وأشعل نارًا في وعره (غابته) فتأكل ما حواليها" [13-14].

بقوله: "القائلة: من يقدر أن ينزل ضدك؟" يحمل أحد معنيين:

أ. إما أن أورشليم تظن أن الله لن ينزل ليؤدبها، وكأنه في سمواته لا يبالي بها، ولا ينشغل بتأديبها، فما يهدد به إنما هو كلام! أو أنه لن يلحق بها.

ب. ربما يعني أن أورشليم قد انحطت بالشر إلى الهاوية (أي 12: 13)، فصارت أسفل الأرض...

في كلا الحالتين ظنت أورشليم أنها بعيدة عن طائلة قانون الله وتأديبه.

جاءت كلمة "أنتِ" [13] بالمؤنث، فهو يحدث أورشليم، إذ ينظر إلى المدن كأمهات لسكانها، كما ينظر إلى القرى المحيطة بالمدينة كبناتٍ لها.

لقد ألَّهت أورشليم نفسها، فظنت أنه لن يقترب منها العدو، ولا يلحق بها الله نفسه. إنها ملكة متربعة على الوادي، وصخرة قوية ليس من يحطمها!

كانت أورشليم محاطة بالوديان العميقة من جهة الغرب والجنوب والشرق، لهذا لم تكن تحتاج إلى الدفاع إلا من جهة الشمال فقط.

قيل: "أيتها المتربعة على الوادي" [13]. كما ان الله هو المتربع على الشاروبيم (1 صم 4: 4، 2 صم 6: 2، 1 أي 13: 6، مز 80: 2، 99: 1) هكذا يريد أن تكون مدينته متربعة ومتوَّجة فوق كل الوديان. متى كان حالاًّ فيها كملك، يقيم منها ملكة، ويضع تابوت عهده الممثل لحضرته في الهيكل المقام في أورشليم مدينته.

ربما بقوله "المتربعة على الوادي" يشير إلى شرها الذي أُعلن بوضوح في وادي ابن هنوم، والذي دعاه "وادي القتل"، فصارت ملكة، لا بقبولها الملك واتحادها معه، بل باحتضانها الفساد والشر، وارتباطها برجاسات وادي هنوم.

لعله دعاها "المتربعة على الوادي" مقابل دعوة صور "المتربعة على مداخل البحر" (حز 27: 3)، إذ جعلت من نفسها إلهًا (حز 28: 2)، وكأن إرميا النبي يقول لسكان أورشليم لقد صرتم كنعانيين (10: 17) تدعون مدينتكم "متربعة على الوادي" كما يدعو الفينيقيون مدينتهم "المتربعة على مداخل البحر".

خطيتها هي الكبرياء والتشامخ، وكما جاء في المزمور: "رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان، وجزت فإذا ليس هو. التمسته فلم أجده مكانه" (مز 37: 35، 36).

v     التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة، هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علَّمنا الاتضاع، بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14)[456].

الشهيد كبريانوس

v     كل من يتعاظم ينحدر.

تعاظم قايين على أخيه هابيل فقتله، لُعن وصار هاربًا متشردًا في الأرض.

أيضًا تعاظم أهل سدوم على لوط فأنزل الله عليهم نارًا من السماء وأحرقهم، وانقلبت المدينة عليهم.

تعاظم أيضًا عيسو على يعقوب واضطهده، ونال يعقوب بكوريته وبركته.

تعاظم أولاد يعقوب على يوسف، ثم عادوا فسجدوا أمامه في مصر.

تعاظم فرعون على موسى وشعبه، فغرق فرعون وجنوده في البحر[457]...

الأب افراهات

يرى البعض[458] أن عبارة "المتربعة على الوادي" [11] تشير إلى "الملك" حيث تقابل "ساكنة الوادي (العمق)" [13] التي تشير إلى الشعب، فقد صار الملك متربعًا على الوادي، يهتم بسلطانه، مستخدمًا كل عنف وضغط، عوض أن يمارس أبوّته وخدمته للشعب. تحولت الملوكية من أبوة وخدمة حانية، خاصة بالنسبة للمظلومين والأيتام والفقراء، إلى تسلطٍ وعنفٍ.

يدعوها "صخرة السهل" ليؤكد لها أنها وإن كانت كالصخرة تحميها الطبيعة وتجعل منها مدينة محصنة يصعب على العدو أن يهزمها، مع ذلك تتم الهزيمة حتمًا!

دُعي الله صخرة 33 مرة في العهد القديم، منها 16 مرة في سفر المزامير[459]، وكأن الله يريد من أورشليمه أن تحمل لقبه وتكون صخرة يحتمي فيها المؤمنون، حيث يجدون فيها الله ملجأ لهم وحماية. لكنها للأسف صارت عاجزة عن حماية نفسها، فصارت أشبه بأتون نارٍ تحترق فيه غاباتها. هنا يشبه اليهود بالأشجار التي تجمعت معًا، لكن الفساد ألهبهم بنارٍ محرقة.

"ولكنني أعاقبكم حسب ثمر أعمالكم يقول الرب.

وأشعل نارًا في وعره (غابته) فتأكل ما حواليها" [14].

الحديث هنا موجه إلى سكان أورشليم، ويرى البعض أنه موجه ضد القصر الملكي، الذي دُعي في (1 مل 7: 2؛ 10: 17، 21) "بيت وعر لبنان"، وذلك بسبب كثرة ما استخدموه من الأرز في تأسيسه، ودُعي في إشعياء (22: 8) "بيت الغابة"، كما يُستخدم تعبير الغابة عن الهيكل (1 مل 6: 9-36) وتستخدم كلمة "الوعر" أيضًا كموضع تختبئ فيه حيوانات البرية (5: 6؛ 12: 8). هنا نتصور "الموضع الخفي"، فبحرق الغابات لا تجد الوحوش مكانًا تختفي فيه...

بالتأكيد لا يوجد في أورشليم ذاتها غابات، ولكن توجد على التلال التي حواليها.

نختم هذا الأصحاح بعبارات القديس أغسطينوس:

[لا يخدع إنسان نفسه ظانًا أنه لن يُعاقب بمراحم الله، إذ يوجد حكم.

ولا يخاف إنسان يتغير إلى الأفضل من حكم الرب، متطلعًا أن الرحمة تتقدم الحكم!

فإنه عندما يحكم البشر أحيانًا إذ يريدون تنفيذ حكمٍ صارمٍ يفقدون الرحمة.

أما الله فلن يفقد حزم الحكم في سخاء الرحمة، ولا الحكم الحازم ينزع سخاء الرحمة[460]].


 

من وحي إرميا 21

لأسمع صوتك فأحيا!

v     طلب صدقيا الملك من إرميا أن يسمع صوتك،

لكنه في أعماقه كان يطلب أن يسمع ما يهواه هو!

يريد أن يسألك بشفتيه لا بقلبه،

لم يطلب صوتك بل صوته هو!

v     طلب أن تصنع معه حسب كل عجائبك،

فتخلصه من يد الكلدانيين أعدائه،

ولم يدرك أنه إذ حول وجهه عنك حوّلت وجهك عنه!

لم يدرك أنك تستخدم الكلدانيين لتأديبه!

حولت حتى أسلحته إلى صدره،

وسمحت للوبأ والسيف والجوع أن تهاجمه،

فتحت أبواب أورشليم ليجتمع العدو فيها.

 هذا كله لأنه لم يسمع لصوتك!

v     كلمتك نور تكشف كل ضعفاتي،

كنورٍ تبدد ظلمتي فأصير نورًا.

أعترف لك إنني بغير عذرٍ لم أمارس العدل،

لم أطلب الحق، ولا ترفقت بالمظلومين!

في عجرفة ظننت إنني أهرب من الحكم الإلهي،

وأنت في حبك تؤدب،

تمزج عدلك بالرحمة!

تؤدبني هنا بفيض رحمتك الغنية،

وترحمني في ذلك اليوم العظيم خلال عدلك الإلهي العجيب!

v     مددت يدك لتؤدب أورشليم الشامخة،

ظنت في نفسها صخرة الوادي،

وحسبت نفسها ملكة متربعة على السهل،

اتكلت على حصونها الطبيعية،

لن يلحق بها عدو،

ولا تلحق أنت بها،

مسكينة هذه المتشامخة!

حرمت نفسها من التمتع بفيض رحمتك أثناء تأديبها!

v     أورشليم مدينتك المحبوبة لديك جدًا،

رفضت صوتك فتدنست،

استحقت التحطيم تمامًا!

في حبك لا تتركها،

تود أن تردها إليها،

لتعود فتقيمها من جديد مقدسة ومباركة،

صخرة وعرش وملكة!

يا لك من عجيب حتى في تأديبك أيها الكلمة الحقيقي!

v     مدّ يدك إليّ،

لكن ليس بغضبٍ وحموٍ وغيظٍ عظيمٍ،

بل ابسط حبك ورحمتك نحوي،

فاستمع لصوت تأديبك!

صوتك حلو وعذب، حتى في لحظات التأديب المرّة!

v     صوتك الحلو يحوّل حياتي إلى صخرة الإيمان،

ففيك أحتمي!

صوتك العذب يحوّل قلبي إلى عرشك الإلهي،

ويقيم مني ملكة،

أجلس عن يمينك،

واتحد بك يا حكمة الله الحلو!

صوتك يجعلني أورشليمك المحبوبة والمنتسبة إليك!

<<


 

الأصحاح الثاني والعشرون

حاجة الملك إلى التوبة

إن كان الله قد أقام الملك على كرسي داود، فإنه يليق به كقائد أمين فيما وهبه الله أن يمارس التوبة بروح العدل والرحمة والاتضاع عوض الظلم والكبرياء، حتى لا يفشل، ويصير كعقيمٍ لا يجلس أحد من نسله على كرسي داود.

يناقش هذا الأصحاح مصير ثلاثة ملوك طغاة ليهوذا، هم أبناء الملك يوشيا الصالح: يهوآحاز (شلوم)، ويهوياقيم، ويهوياكين (كنياهو)، ومصير مدينة أورشليم ومملكة يهوذا، حيث لا يعود يُقام ملك على كرسي داود بعد من نسلهم.

1. حديث صريح مع يهوآحاز[1-2].

2. اجروا حقًا وعدلاً[3-9].

3. لا تبكوا ميتًا[10-12].

4. الاعتداد بالذات (يهوياقيم)[13-19].

5. ثمرة العصيان[20-23].

6. تحطيم يهوياكين (كنياهو)[24-30].

1. حديث صريح مع يهوآحاز:

صدرت الأوامر الإلهية إلى إرميا النبي أن يكرز أمام الملك بحزمٍ شديدٍ وتهديد إلهي:

"انزل إلى بيت ملك يهوذا وتكلم هناك بهذه الكلمة، وقل:

اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا الجالس على كرسي داود،

أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [1-2].

يبدو أن هذا الأمر الإلهي الخاص بحديث إرميا عند بيت الملك كان مبكرًا، في بدء خدمته، حيث حمل حديثه رجاءً في إعفاء الشعب مع الكهنة ورجاله من السبي إن تاب الجميع، قادة ورعية، كما هو واضح من القول: "لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه، راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ؛ هو وعبيده وشعبه" [5].

جاء الحديث هكذا:

أولاً: "انزل" ... لأن قصر الملك كان في أحد الوديان محميًا بالجبال الشامخة المحيطة به. دعوة الرب لإرميا أن ينزل تحمل معنيين:

المعنى الأول أنه لا يخشى الملك بكل سلطانه كأنه عالٍ ومرتفع عنه، إنما يتطلع إليه كمن ينزل النبي إليه. إن إرميا كرجل الله يجد له مسكنًا في قلب الله، مرتفع فوق كل الأحداث الزمنية... عندما يلتقي بالملك إنما ينزل إليه ليحدثه.

المعني الثاني أن النزول يحمل الحب نحو النفس الساقطة، فيليق بأولاد الله ألا يتحدثوا بروح التشامخ، كأنهم جالسون على كراسي المعلمين المتشامخة، بل ينزلوا إلى كل نفس ليلتقوا معها كشركاء معها في الضعف، فتجد فيهم أشخاصًا يشاركونها آلامها وضعفها، فتقبل كلمة الرب.

جاء في إحدى عظات القديس يوحنا الذهبي الفم:

[بالحقيقة أيها الإخوة إنى كاهن الله، لأن الله أراد لي ذلك!

إنى خاطئ، معكم أقرع صدري!

معكم أطلب الصفح!

معكم أترجى مراحمه!

أخبرونا أيها الرسل القديسون: هل بعد قيامة الرب من الأموات وثبوتكم بالروح القدس الذي حلَّ عليكم انقطعت عنكم الخطية تمامًا؟!...

لننصت إلى إجابتهم حتى لا ييأس الخطاة... إن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم[461]].

ثانيًا: يذكِّره بأنه الجالس على كرسي داود، الذي كان يحمل قلبًا كقلب الله، وقد نال من الله وعودًا، لذا يليق بنسله أن يحملوا روحه، ويعيشوا كما يليق بأبناء داود البار، ولا يكسروا العهد مع الله.

هكذا يمكننا القول بأن الحديث هنا موجه إلى كل مؤمنٍ تمتع بالملوكية، إذ صرنا خلال اتحادنا بالسيد المسيح ابن داود أو بملك الملوك ملوكًا على يهوذا، حيث صارت نفوسنا وأعماقنا أرض يهوذا المحبوبة لدى الله مخلصنا، وقلوبنا أورشليمه المقدسة. لقد أقامنا ملوكًا (رؤ 1: 6) نحمل سلطانًا. لنا العبيد الذين هم أعضاء جسدنا ومواهبنا وحواسنا وقدراتنا التي قُدمت لنا من الله. متى كانت النفس ملكة تستطيع بروح الله القدوس أن تسيطر على كل ما في داخلها، كما على الجسد بكل طاقاته كعبيد يعملون معًا بانسجامٍ، ويسلكون في الطريق الروحي الملوكي.

 صارت نفس المؤمن ملكة لها شعبها الداخل من أبواب بيتها أو قصرها الملوكي، هذا الشعب هو الأفكار التي عبرت إلى أعماقنا خلال أبواب الحواس.

فالحديث هنا موجه إلى الملك وعبيده وشعبه الداخلين في أبواب بيته، لأنه متى كان الملك مقدسًا أمكنه أن يقود العبيد (رجال القصر) والشعب في الطريق الإلهي المقدس. هكذا متى صارت النفس ملكة مقدسة يخضع لها بروح الرب الجسد والأفكار ليعمل الإنسان بكل كيانه لحساب ملكوت الله.

ثالثًا: جاء النداء الأول للملك وعبيده أي رجاله وشعبه هو: "اسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا... أنت وعبيدك وشعبك الداخلين في هذه الأبواب" [2].

كلمة الرب هي وراء تقديس النفس والجسد، لأنها حية وفعّالة‍‍‍‍!

أما هذه الأبواب فهي ليست أبواب المدينة العامة، وإنما أبواب القصر الملكي، التي كان يدخلها رجال القصر والشعب الذين عوض طلب العدل استغلّوا روح الظلم الذي ساد الملك ورجاله لحسابهم الخاص.

2. أجروا حقًا وعدلاً:

سبق فرأينا في الأصحاح السابق إبراز أن تحقيق العدالة، خاصة مع الغرباء والفقراء والمظلومين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم أو التمتع بحقوقهم، يمثل الدور الرئيسى في حياة الملك.

"هكذا قال الرب:

أجروا حقًا وعدلاً (sadaqa

وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة،

لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دمًا ذكيًا في هذا الموضع" [3].

استغل الملك ورجاله الغير، خاصة الضعفاء والمحتاجين، على خلاف والده يوشيا الذي اهتم بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين.

كما أن الخطية تحطم بيوت الملوك والشعب، هكذا العدل والبر يسندان الكل ويعطيان قوة وكرامة ومجدًا.

"لأنكم إن فعلتم هذا الأمر يدخل في أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين في مركباتٍ وعلى خيلٍ.

هو وعبيده وشعبه.

وإن لم تسمعوا لهذه الكلمات فقد أقسمت بنفسي يقول الرب،

إن هذا البيت يكون خرابًا" [4-5].

كان الاعتقاد السائد في يهوذا عبر الأجيال أن بقاء المُلك في سبط يهوذا من نسل داود علامة رضا الله وبركته وحمايته لشعبه، على خلاف مملكة إسرائيل التي انشقت وأقامت لها ملوكًا وأنشأت عاصمة (السامرة) عوض أورشليم.

إن كان الله قد بارك يهوذا من أجل عبده داود، لكن إن لم يسلك نسله على منواله في علاقته بالله يفقدون هذه البركة. هذا مركز الفكر اللآهوتي السياسي عند إرميا. يعتمد استمرار البيت الملوكي، حتى إن نُسب لداود، على قبول الملك رسالة إرميا من كل القلب. بهذا فقط تبقى أبواب القصر الملوكي مفتوحة أمام الملك ورجاله وشعبه للدخول والخروج.

"لأنه هكذا قال الرب عن بيت ملك يهوذا:

جلعاد أنت لي،

رأس من لبنان،

إنى أجعلك برية،

مدنًا غير مسكونة" [6].

يشبه البيت الملكي وربما الملك نفسه بجلعاد، أي الجبل العالي، أو بقمة جبلٍ من جبال لبنان الشامخة، فإنه وإن ظن في نفسه أنه ثابت ومملوء أمانًا ليس من يقدر أن يهبط به من هذا العلو إلا أنه ينحدر ليصير كبريةٍ قاحلةٍ وكمدينةٍ خربةٍ لا يسكنها أحد.

بقوله "جلعاد ورأس من لبنان" يشير إلى أن قصر الملك في منطقة غنية خصبة ومبهجة مثل جلعاد وجبال لبنان، وقد دُعى قصر سليمان "بيت وعر(غابة) لبنان" (1 مل 7: 2؛ 10: 17، 21).

ارتباط جلعاد بقمة لبنان كما في زكريا (10: 10) يشير إلى الغابات، كما قد يشير إلى "الشرق" و"الغرب"، أي يملك على الضفة الشرقية والغربية لنهر الأردن.

كأن الله يعلن نظرته إلى القصر الملكي، أنه لا يزيد في عينيه عن شجرة في وسط غابة في جلعاد أو على قمة جبل لبنان، أو كحيوانٍ برِّى هناك... مع ما اتسم به القصر من جمال وفخامة لكن الله يبيده ويحطمه، بل ويحسب تحطيمه عملاً مقدسًا يتعهد به الأعداء بسماحٍ إلهي.

لم يقل "إني أجعلك... مدينة غير مسكونة" بل "مدنًا"، لأن الخراب يشمل كل المملكة بمدنها، وليس أورشليم وحدها.

"وأقدس عليكِ مهلكين كل واحدٍ وآلاته،

فيقطعون خيار أرزكِ ويلقونه في النار" [7].

سبق لنا الحديث عن "تقديس" بابل كآلة إلهية لتأديب الشعب. هنا كلمة تقديس تعني "تكريس طاقاتها وإمكانياتها" أو تخصيصها، وكأن الله يضع في قلب بابل أن تكرس كل إمكانياتها البشرية والعسكرية لتحطيم الشعب الذي عصى الرب... إنها تعمل بغيرة لنوال سلطة وسلب إمكانيات ولا تدري أن الله هو الذي سمح لها بذلك، أو هو كرَّسها لهذا العمل.

قلنا أيضًا إن بابل تحسب ذلك "حربًا مقدسة"، إذ تعتبر نصرتها هي نصرة لآلهتها على إله إسرائيل... ومع ذلك فمن أجل تأديب الشعب قبل الله ذلك!!

هنا الصورة أخطر، لأن الله نفسه يدخل في حرب مع شعبه المتمرد، حاسبًا هذه المعركة "حربًا مقدسة"، لا ليهب نصرة لشعبه بل ليهلكهم حتى يتأدبوا.

لما كان البابليون يحترفون قطع الأخشاب[462]، لهذا يحطمون الهيكل بالفؤوس كأنهم يقطعون خيار الأرز، لا لينتفعوا به، وإنما لكي يلقونه  في النار.

كثير من الغرباء (goyim) إذ يعبرون بالمدينة يسألون: لماذا صنع الله هكذا بمدينته العظيمة؟ وتأتي الإجابة: كسروا العهد معه، وعبدوا آلهة أخرى وخدموها [8-9].

بسبب فساد الملك تفقد أورشليم، مدينة الله، سمعتها، بل وتكاد تفقد وجودها، فتصير برية خربة بلا ساكن. وبسبب عصيان يونان النبي فقد الكثيرون سلامهم إذ هاج البحر وثارت الأمواج، وألقى النوتية والمسافرون أمتعتهم في المياه. وعلى العكس الأنبا أنطونيوس بتقديس حياته في الرب حوّل البرِّية إلى فردوس يمتلئ بالعابدين الروحيين، بل وتشتهي الملائكة أن تتطلع إليها لتمجد غنى نعمة الله الفائقة. ما كنا نسمع عن كنيسة نيصص لولا القديس غريغوريوس أسقفها الذي جذب نفوسًا كثيرة إلى السمويات، كما أعطى القديس أغسطينوس لهيبو شهرتها.

كل نمو روحي في حياتك هو لبنيانك وبنيان أسرتك وأصدقائك وكنيستك ومدينتك ووطنك، بل ولبنيان البشرية، وكل انهيار أو انحراف عن الطريق الملوكي يحطمك ويحطم من حولك، ويدفع بالعالم نحو الخراب!

لا تستهن بدورك، كاهنًا كنت أم من الشعب، شيخًا أو شابًا أو طفلاً، رجلاً أو امرأة!

3. لا تبكوا ميتًا:

"لا تبكوا ميتًا ولا تندبوه.

ابكوا ابكوا من يمضي،

لأنه لا يرجع بعد فيرى أرض ميلاده.

لأنه هكذا قال الرب عن شلوم بن يوشيا ملك يهوذا الملك عوضًا عن يوشيا أبيه الذي خرج من هذا الموضع لا يرجع إليه بعد؛

بل في الموضع الذي سبوه إليه يموت،

وهذه الأرض لا يراها بعد" [10-12].

الميت المذكور هنا هو يوشيا الذي قُتل في معركة مجدو عام 609 ق.م (2 مل 23: 29-30) بعد حكمٍ طويلٍ وحياةٍ صالحةٍ، مما يستوجب اشتداد الحزن والحداد. ولكن إرميا يقول هنا إنه يجب أن يشتد البكاء على الملك الجديد الشاب يهوآحاز بن يوشيا، الذي سبي بعد ثلاثة شهور وعشرة أيام بواسطة فرعون مصر نخو ولم يرجع منها فيما بعد.

لقد تولّى يهوآحاز الحكم مع أنه كان الابن الرابع وليس البكر (2 مل 23: 34؛ أي 36: 1). ولعلّه أُختير لأنهم ظنوا أنه أقوى من أخيه البكر. لقد تولّى الحكم ظلمًا لذا لم يبقَ فيه، بل سُبي إلى مصر كما جاء في سفر التثنية: "ويردك الرب إلى مصر في سُفن في الطريق التي قُلت لك لا تعد تراها، فتُباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماءً وليس من يشترى" (تث 28: 68). يبدو أنه لم يُسبي معه أحد (2 أي 26: 4).

الله يطلب من الشعب أن يبكوا يهوآحاز أكثر مما بكوا والده، بل أن إرميا نفسه قد بكاه (2 أي 35: 25). يوشيا ذهب إلى القبر في سلام وبكرامة، لا يحتاج من يبكيه، أما ابنه الشقي فتُحسب حياته كموته بلا كرامة، يعيش في السبي في مهانة. حقًا لقد جُرح يوشيا جرحًا مميتًا في موقعة مجدو، لكن مركبته حملته إلى بلده ليُسلِّم أنفاسه في مدينته المحبوبة لديه والمحبة جدًا له، يلتف حوله الشعب الذي خدمه لمدة ثلاثين سنة من حياته التي بلغت الثمانية والثلاثين.

ليتنا نحن أيضًا نُسلِّم أنفاسنا الأخيرة في مدينتنا المحبوبة لدينا، أي ونحن قاطنون في ملكوت السموات، نُسلِّم نفوسنا في يد إلهنا الذي نكرس كل طاقتنا وحياتنا لحساب ملكوته. نقول مع الرسول بولس: "إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رو 14: 8).

يلزمنا أن نكرم موت الصديقين ونشتهيه، بينما نشعر ببؤس حياة الأشرار. استطاع القديس بولس أن يقول عن موته: "أخيرًا قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس ليفقط بل ولجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 8). لم يكن موته مثيرًا للحزن بل للبهجة والفرح، لأنه يترقب المكافأة التي أُعدت له عن جهاده الحسن.

إنه لا يعود الملك من السبي كما كان هو وشعبه يتوقعون. وقد أكَّد لهم الله أنه لن يعود ولن يرى أرضه بعد، لأنه لم يتمثّل بأبيه الصالح كما اعتدى على حق أخيه الأكبر.

يدعوه إرميا النبي باسمه قبل تولِّيه الحكم "شلوم" وليس بالاسم الملكي "يهوآحاز"، ربما لأنه يُحسب كمغتصبٍ للحكم أو كمن لا يستحق الملوكية بسبب شره وفساد حياته.

يُقدم لنا التاريخ البابلي قصة سبي يهوآحاز. ففي عام 609 ق.م سقط آخر ملوك أشور Ashur-uballit تحت ضيقٍ شديدٍ في حاران بواسطة الجيوش الكلدانية[463]، فأسرعت مصر لمساندته خشية الخطر الكلداني الذي بدأ يظهر على مسرح التاريخ. جاء فرعون نخو إلى فلسطين وصارت منطقة فلسطين وسوريا في قبضته، وأقام قائده في ربله على بعد 47 ميلاً جنوب حامة. استدعى يهوآحاز لمقابلته، فأسره وأرسله إلى مصر[464].

4. الاعتداد بالذات (يهوياقيم):

بعدما تحدث عن سبي يهوآحاز انتقل إلى الملك يهوياقيم الظالم والطماع والطاغية، وقد قضى 11 عامًا في ملكه.

"ويل لمن يبني بيته بغير عدلٍ،

وعلاليه (حجراته التي على السطح) بغير حقٍ (بظلمٍ)،

الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته.

القائل: أبني لنفسي بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة،

 ويشق لنفسه كوى،

ويسقف بأرز،

ويدهن بمغرة" [13-14].

لا نسمع عن علاقة إرميا النبي بيوشيا الملك وابنه يهوآحاز، لكننا نسمع كثيرًا عن علاقته بالملك يهوياقيم الذي يتحدث عنه هنا [13-19]. فقد كان عدوًا لإرميا، منعه من قراءة نبواته ومزق السفر (إر 36). كان يهوياقيم الملك المستبد الدكتاتور، رفض إصلاحات أبيه الملك يوشيا، وكان منحازًا لفرعون مصر ومتكلاً عليه، إذ أقامه نخو سلفًا لأخيه يهوآحاز (2 مل 23: 34).

عنَّفه إرميا النبي على كبريائه وظلمه خلافًا لأبيه يوشيا، ورفضه للعدل والبر (بغير حق sede). وقد جاء توبيخه للملك يتركز في النقاط التالية:

أولاً: شغفه بإنشاء أبنية ضخمة فاخرة لإشباع ذاته ego، وقد نقل ذلك عن الدول المجاورة، خاصة مصر وبابل الشهيرتين بابنتيهما الفخمة. لم يتهمه إرميا النبي بالعبادة الوثنية، لكنه مارس الحياة المترفة المدللّة مع عجرفة وكبرياء. استخدم الأرز، أثمن أنواع الخشب، وقد دهنه باللون الأحمر البرتقالي أو القرمزي (sasar) أو الأزرق.

ظهرت إلى النور في السنوات الأخيرة حفريات في رامة راحيل تشهد عن أبنية فخمة ترجع إلى نهاية القرن السابع ق.م. التي تحدث عنها إرميا النبي بخصوص أعمال يهوياقيم[465].

شتان ما بين يهوياقيم ووالده يوشيا. الأول أقام بيتًا صالحًا، بينما أقام الثاني بيتًا فاخرًا فسيحًا. الأول بالبر أقام بيته، والثاني بغير عدلٍ ولا حقٍ (برٍ) أنشأه.

خير لنا أن نعيش مع يوشيا في بيته القديم الصالح عن أن نقيم مع ابنه يهوياقيم في بيته الفخم المقام بغير عدلٍ ولا برٍ.

استخدم القديس غريغوريوس النزينزي هذه العبارات الخاصة بسكنى الملك يهوياقيم في مبانٍ فخمة في حديثه ضد الأريوسيين الذين سطوا على الكنائس وتعقبوا رجال الله لقتلهم:

[هؤلاء الناس لهم بيوت، أما نحن فلنا الساكن في البيت،

لهم معابد، أما نحن فلنا الله، وبجانب هذا نحن أنفسنا هياكل حية لله الحيّ، محرقات عاقلة، ذبائح كاملة، نعم آلهة خلال العبادة للثالوث.

معهم البشر، ونحن معنا الملائكة،

يندفعون بتهورٍ، ونحن لنا الإيمان،

يهددون ونحن نصلي،

يشتمون ونحن نحتمل،

لهم ذهب وفضة ونحن لنا الكلمة النقية،

بنوا لأنفسهم بيتًا وسيعًا وعلالي فسيحة، بيتًا مسقوفًا، وشقوا كوى (22: 14)، لكن حتى هذه ليست أعلى من إيماني ولا من السموات التي أحملها قدامي[466]].

يرى القديس أغسطينوس أن الأشرار يبنون المباني الشاهقة بروح الظلم، ظانين أنهم يهربون من العدالة الإلهية، أما أولاد الله فلا يجدون لهم ملجأ إلا فيه، إذ يقول:

[إن كنت لا تستطيع الهروب من الله لأنه موجود في كل مكان، فاهرب إليه في الحال، حيثما وجدت اهرب.

هوذا في طيرانك قد عبرت السماء، إنه هناك!

إن هبطت إلى الجحيم، فهو هناك!

أي صحاري الأرض تختار تجده هناك...

إن كان يملأ السماء والأرض، فإنه لا يوجد موضع يمكنك أن تهرب إليه منه.

لتنهِ تعبك ولتهرب إلى حضرته لئلا يدركك مجيئه![467]].

ثانيًا: يقول "الذي يستخدم صاحبه مجانًا ولا يعطيه أجرته" ليكشف عن أسلوبه الاستغلالي، واتباعه نظام السخرة المخفية.

بقوله "صاحبه" يقصد "الشعب"، عندما أُقيم ملكًا في ظروف قاسية، إذ كان الملك ملتزمًا بدفع جزية باهظة لفرعون مصر (2 مل 23: 33-35)، عوض الاهتمام باحتياجات الشعب الزم الشعب ببناء قصره بطريقة مُبالغ فيها. هذا الشعب الذي كان يجب أن يُدعى صاحبه تحول إلى عبيد للملك، يعملون لحسابه بلا أجر، الأمر الذي حذرت منه الشريعة (لا 19: 13، تث 24: 14-15). كان يليق بالملك أن يحفظ هذه الشريعة، ويحميها وسط شعبه فلا يكون بينهم مستغلاً، فإذا به هو أول كاسرٍ لها. بهذا صار مثلاً سيئًا لشعبه وقدوة فاسدة.

ثالثًا: جاء الفعل "يشق" بمعني "يمزق". تُستخدم هذه الكلمة للثياب، أما هنا فتستخدم عن الكوى أو النوافذ، التي وهو يوسِّعها يمزق حياته كثوب، ويفقد الستر والكرامة ليصير كمن هو عريان وفي عارٍ.

كما تُستخدم هذه الكلمة عن عيني الزانية حين توسعهما باستخدام المساحيق. وكأنه يربط النوافذ هنا بالزنا[468]. ارتبط الترف في المساكن بحياة اللهو والزنا، وقد تحدث إرميا النبي عن الموت الذي يصعد خلال الكوى (9: 20).

صار الملك كالزانية التي توسّع عينيها بالمساحيق لتدخل بنفسها إلى الخطية فتموت!

رابعًا: معاملته القاسية وظلمه للفقراء والمساكين.

"هل تملك لأنك أنت تحازي الأرز؟!

أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقًا وعدلاً،

حينئذ كان له خيرُ؟!

قضى قضاء الفقير والمسكين،

حينئذ كان خير.

أليس ذلك معرفتي يقول الرب؟!

لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه؟!

وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما؟!" [15-17].

كأنه يقول له:

[ليست المباني الفسيحة الفخمة هي التي تجعل منك ملكًا، ولا أخشاب الأرز الثمينة أو الزينة...

فكر كيف عاش أبوك كملكٍ مكرمٍ. لقد أكل وشرب حسنًا، لكن هدفه هو الالتزام بمسئولياته الملوكية من تحقيق العدالة والبر في حياته وحياة شعبه.

 لم يكن ناسكًا، لكنه لم يكن نهمًا ومحبًا للملذات...

لم يشغله أكله وشربه، وإن كان الله لم يحرمه من شيء.

"أسلك كما يليق بك كملكٍ"، أو "حاول أن تكون ملكًا"، لا بالكبرياء والتشامخ حاسبًا نفسك كأرز لبنان المتشامخ، وإنما مقتديًا بأبيك الذي كانت له معرفة بالله بإجرائه العدل والبر، وقضائه للفقير والمسكين، فيكون لك الخير.

لا تكن كالزانية التي تتزين بالمساحيق لتبدو عيناها واسعتان، وإنما بزينة العدل والبر والرحمة].

ماذا يعني بقوله: "أما أكل أبوك وشرب؟" إنه عاش في حياة بسيطة يأكل ويشرب، لا للذة والانغماس في الشهوات وإنما ليعيش كي يجري حقًا وعدلاً وسط الشعب، خاصة بين المظلومين، فصارت كل الأمور تسير حسنًا، أو "كان له خير".

أما الربط بين عينيه وقلبه في قوله: "لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الذكي لتسفكه" [17]، إنما يعني أن سلوكه الخارجي يأتي متناغمًا مع شهوة قلبه الداخلية نحو ممارسة الظلم والقتل والطغيان. ففي أيامه قُتل النبي أوريّا (26: 20-23).

بأمانة كاملة تحدث إرميا النبي عن نهاية الملك يهوياقيم، قائلاً:

"لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا:

لا يندبونه قائلين: آه يا أخي، او آه يا أخت.

لا يندبونه قائلين: آه يا سيد، أو آه يا جلالهُ.

يُدفن دفن حمارٍ، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19].

سبق فقال عنه "ويل لهذا الرجل" راجع [13]... وعلامة الويل الخارجية أنه بنى قصرًا فخمًا بمال الظلم، ولم يجد جثمانه قبرًا يُدفن فيه، ولا من يبكيه. فكما لم يسمع لدموع المظلومين والمحتاجين، لا يجد من يسكب دمعة واحدة عليه.

ليس من يندب قائلاً: "آه يا أخي، أو آه يا أخت؛ آه يا سيد أو آه يا جلالهُ." ماذا يعني بهذه الأسماء الأربعة (الأخ، الأخت، السيد، الجلالة)؟

أولاً: يرى البعض أن العبارة الأولى  تصدر عن الحاضرين في الجنازة، ليس منهم من يقول للذين حوله: آه يا أخي، أو آه يا أختي، لأنه لا يشعر الرجال ولا النساء بالحزن على موت الملك. أما العبارة الثانية فيوجهها المشتركون في الجنازة نحو الميت، ليس منهم من يندب الملك كسيد أو صاحب جلاله.

ثانيًا: يرى البعض[469] أن العبارة الثانية تعني بالسيد الأب، وبالجلالة الأم أو السيدة. وقد وجدت في بعض النقوش الفينيقية عن الملك Azitawadda العبارة: [جعلني البعل أبًا وأمً]. وكأن الملك في اللغة التقليدية يتمم كل دور الأسرة كأبٍ وأمٍ وأخٍ وأختٍ. هنا لا يندب الحاضرون الملك لأنه لم يحقق شيئًا في حياته. لم يقم بدور الأخ أو الأخت أو الأب أو الأم.

يُدفن دفن حمار، لا توجد له مقبرة لدفنه، بل يُسحب جثمانه إلى موضع القمامة خارج أبواب المدينة. يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس بأن نبوخذنصر قتله في أورشليم وترك جثمانه بلا دفن بعيدًا خارج أبواب المدينة.

كيف يمكن التوافق بين ما ورد هنا عن موت يهوياقيم وعدم دفنه، وبين ما ورد في (2 مل 24: 6)، أنه رقد مع آبائه، مما يُشتم منه أنه قد دفن في مقبرة آبائه. يرى البعض أن ما ورد في (2 مل 24: 6) لا يعني بها دفنه إنما هي عبارة مستخدمة للتعبير عن الموت أيَّا كانت ظروفه. ويرى آخرون أن عبارة إرميا "يُدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم" [18-19] تعبير مجازى عن حال الملك، فإنه وإن كان قد دفن رسميًا، لكنه كان في عيني شعبه كحمارٍ ميتٍ لا يستحق إلا إلقائه خارج أسوار المدينة. هذه هي مشاعر شعبه من نحوه في لحظات موته ودفنه!

5. ثمرة العصيان:

بعد أن تحدث عن الملك يهوياقيم الشرير ومصيره، يوجه هنا خطابًا لأورشليم العاصية عاصمة مملكته، موضحًا ثمرة هذا العصيان الذي نشأت عليه منذ صباها:

اصعدي على لبنان واصرخي،

وفي باشان أطلقي صوتك،

واصرخي من عباريم،

لأنه قد سُحق كل محبيكِ.

تكلمت إليه في راحتك.

قلتِ: لا أسمع.

هذا طريقك منذ صباك أنكِ لا تسمعين لصوتي" [20-21].

الأماكن المذكورة هنا من لبنان وباشان وعباريم هي مرتفعات حول أورشليم، يُسمع منها الصوت جليًّا من بعيد حتى يعم الخبر. لبنان في شمال أورشليم، وباشان في الشمال الشرقي منها، وعباريم في موآب في الجنوب الشرقي.

ذُكرت عباريم في (عد 27: 12، تث 22: 49) كمكان استطاع منه موسى النبي أن يتطلع إلى أرض الموعد من بعيد ففرح وتتهلل، أما هنا فيطلب إرميا النبي منهم أن يصعدوا لينوحوا ويبكوا، كما سبق فصعدت ابنة يفتاح على الجبال ترثى حالها (قض 11: 37-38).

ماذا يعني بالمحبين الذين سُحقوا؟ ربما يقصد الأمم المحيطة بهم المتحالفة معهم، وأيضًا مصر فإنها عوض مساندتهم تنسحق هي وتتحطم. وقد تكررت كلمة "المحبين" في (هو 2) خمس مرات، وربما قُصد بها آلهة الخصوبة التي زنت معها إسرائيل والتي توقعت أن تحميها وتحفظها وتهبها اثمارًا ونموًا.

بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش عام 605 ق.م (46: 2-12) استولى نبوخذنصر على كثير من الدول في المنطقة.

بقوله: "هذا طريقك منذ صباكِ أنكِ لا تسمعين لصوتي" [21] يعني أن حركة العصيان لم تحدث فجأة في أورشليم، لكنها صارت أشبه بطبيعتها الملازمة لها منذ صباها. وقد أعطاها الرب فرصًا كثيرة للتوبة والرجوع إليه حتى امتلأ كأس شرها، لذا استخدم معها التأديب القاسي. إنه طويل الأناة جدًا، لكن إصرار الشعب على العصيان عبر الأزمنة بلا تغيير يستوجب التأديب الإلهي.

لقد سبق فطلب منها أن تصعد على الجبال مع ابنة يفتاح تبكي عذراويتها وتنتحب مع صديقاتها، لكن شتان ما بينها وبين ابنة يفتاح. الأخيرة خرجت صديقاتها معها إلى الجبال للتعزية وإن كُنَّ لم يستطعن أن ينقذن حياتها من الموت. أما يهوذا فعوض خروج أصدقائها معها إلى الجبل أُخذن إلى السبي في خزى وعارٍ معها!

"كل رعاتك ترعاهم الريح،

ومحبوكِ يذهبون إلى السبي،

فحينئذٍ تخزين وتخجلين لأجل كل شركِ" [22].

ربما قصد بـ "رعاتك" ملوك يهوذا ورجالهم الذين كان يجب أن يرعوا الشعب، فصاروا في حاجة إلى رعاية من الخارج. لقد سقطوا تحت السبي عام 597 ق.م (2 مل 24: 22-15)، فصارت أورشليم في خزي وعارٍ بلا رعاية، يرعاها الريح الباطل.

لعله أيضًا يقصد بالرعاة هنا أولئك الذين كانت تظنهم رعاة لها، سواء ملوك الأمم المتحالفة معهم أو آلهتهم، فإنهم هم أنفسهم يحتاجون إلى رعاة، وقد صارت الريح هي راعية لهم، لا تقدم لهم إلا رياحًا مهلكة! إنها رياح شرقية تبدد الشعب (18: 17). باتكالها على ملوك الأمم وآلهتهم قبلت الرياح المحطمة عوض روح الله القدوس الواهب الحياة والنصرة والنجاح، يهب على النفس فيحولها إلى مقدسٍ سماويٍ لا تستطيع كل قوات الظلمة أن تفسده.

هكذا دفعها شرها إلى الاتكال على الذراع البشري والآلهة الكاذبة فتحطمت معهم!

"أيتها الساكنة (المتربعة) في لبنان،

المعشِّشَة في الأرز،

كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة" [23].

يُقصد بالمتربعة في لبنان كما على عرش الذين يفتخرون بعلوِّهم المنيع، أو الذين يسكنون في قصورٍ فاخرةٍ مصنوعة من خشب الأرز اللبناني، أي يقصد المتعجرفين المتكبرين. فالاتهام الموجه ضد أورشليم هو أنها ألَّهت ذاتها، وحسبت نفسها فوق القانون. ظنت أن عشَّها على قمم جبال الأرز لا يقدر أحد أن يمسها بضرر.

في شيء من السخرية يقول لها: "كم يُشفق عليكِ عند إتيان المخاض عليك، الوجع كوالدة؟!" بعد أن صار الريح هو راعيها، والسبي هو مسكن محبيها، فقدت عرشها وانحدر عشها من قمة الأرز، وصارت كامرأة في حالة ولادة، ليس من يشفق عليها، ولا من يعينها وسط آلامها!

6. تحطيم يهوياكين:

"حيّ أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتمًا على يدي اليمنى فإني من هناك أنزعك" [24].

بدأ الحديث عنه بقسم من جانب الله لتأكيد تأديبه يهوياكين لإصراره على الشر: "حيّ أنا يقول الرب".

كان يهوياكين مثل أبيه يهوياقيم شريرًا (2 مل 24: 8-17)، خلفه في الملك، وكان في بلده أورشليم. كان يمكن بالبر أن يعيش آمنًا كخاتمٍ ثمينٍ في يد الله، لا يقرب إليه أحد، لكنه بسبب شره انتزعه الله بعد ثلاثة شهور من ملكه وهو بعد في الثامنة عشر من عمره مع أهل بيته، وسبي عام 597 ق.م إلى بابل، ليعيش غريبًا مسبيًا في حالة رعبٍ!

حُرم الملك من وطنه ومن شعبه، فصار في مذلة داخلية مهما قُدم له من كرامة أو إمكانيات.

جاء في سفر الملوك (2 مل 24، 25) عن يهوياكين أنه قد رُفع شأنه في بابل في أواخر حياته، لكنه بقى مسبيًا ولم يرجع إلى وطنه.

ومع أنه كان له عدة أبناء (1 أي 3: 17)، فإن أحدًا منهم لم يجلس على عرش إسرائيل، لذلك حُسب عقيمًا.

جاءت الكلمة العبرية المقابلة للختم لتعني إما ختمًا على شكل طوقٍ يُوضع حول العنق، أو كجزءٍ من خاتم في اليد، هنا اُستخدمت بالمعني الثاني. يحمل الختم توقيع صاحبه، لذا يمثل حضرته. جاء في سفر النشيد (8: 6) ليعني اتحادًا مملوء حبًا وعاطفة، وفي حجى (2: 23) يشير إلى العظمة والقدرة حيث جعل الله زربابل ختمًا في يده.

يدعوه إرميا النبي كنياهو وهو اختصار اسمه يهوياكين.

ينتزع الله يهوياكين من يده ليضعه في يد العدو، إذ يقول:

"وأسلمك إلى يد طالبي نفسك،

وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذراصر ملك بابل وليد الكلدانيين.

وأطرحك وأمك التي ولدتك إلى أرض أخرى لم تُولدا فيها، وهناك تموتان.

أما الأرض التي يشتاقان إلى الرجوع إليها فلا يرجعان إليها" [25-27].

عوض أن يكون مكانه في يد الله حيث الحرية والمجد، يصير موضعه هو وأمه في السبي حيث العبودية والذل. لقد سُبيت نحوشتا بنت ألناثان (2 مل 24: 8، 15) مع ابنها الملك يهوياكين إلى بابل. فقد الملك عرشه، وأُلقي في أرض السبي كما في موضع القمامة خارج أبواب أورشليم، وصار كبواقي إناء خزفي مكسور لا قيمة له.

لقد نادى الأنبياء الكذبة[470] بأنه يرجع من السبي وذلك لكي يعطوا رجاءً لرجال الدولة والشعب ويسرونهم، فكان كثيرون يعتبرونه الملك الرسمي بالرغم من سبيه، لكن إرميا النبي في جرأة نطق بما تكلم به الرب.

"هل هذا الرجل كنياهو وعاء خزفٍ مهانٍ مكسورٍ؟!

أو إناء ليست فيه مسرة؟!

لماذا طُرح هو ونسله وأُلقوا إلى أرضٍ لم يعرفوها؟!

يا أرض، يا أرض، يا أرض، اسمعي كلمة الرب.

هكذا قال الرب:

اكتبوا هذا الرجل عقيمًا، رجلاً لا ينجح في أيامه،

لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" [28-30].

لم يُطرد الملك وأمه إلى السبي فحسب، وإنما أُلقى كإناءٍ خزفي مُحتقر ينكسر، ليس من يبالي به، أو يهتم بإصلاحه، "ليس فيه مسرة". وكما جاء في هوشع: "الآن صاروا بين الأمم كإناءٍ لا مسرة فيه" (هو 8: 8).

ربما شبهه بالإناء الخزفي المكسور، لأنه كاد أن يؤلهه الشعب[471]، فها هو قد صار كتمثالٍ خزفي مكسور، ليس فقط لا يستحق العبادة، بل يلزم الخلاص منه بإلقائه في وسط القمامة.

بعد أن كان كخاتمٍ في يد الله، له تقديره الثمين في عيني الله وأمام السماء والأرض، صار ملقيًا كإناءٍ مكسورٍ ليس من يُسر به. وقد قيل عن مقاومي السيد المسيح: "تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم" (مز 2: 9)... هوذا الله المخلص يحطم بقضيب من حديد ذاك الملك المقاوم له.

إن كان كنياهو قد صار وعاءً خزفيًا مهانًا مكسوراً ليست فيه مسرة، فلأنه التصق بالأرض فصار أرضًا، أما الذي يلتصق بالسماء فيصير سماءً. يرى القديس أمبروسيوس البشرية كلها كأوانٍ خزفية، لكن بعضها يتقبل الكنز السماوي، السيد المسيح نفسه، في داخله فيُنسب للسماء.

v     جميعنا أوان خزفية. إن كان أحدنا ملكًا فهو إناء خزفي، أو كان رسولاً فهو إناء. لهذا يقول بولس: "لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية" (2 كو 4: 7)...

تكتِبْ الأرض (أسماء) الذين هم أبناء الأرض عليها في الأسفل. لهذا عندما اتهم اليهود الزانية كتب الرب يسوع بإصبعه على الأرض (يو 8: 6، 8)؛ أما الأبرار فلا يُكتبون على الأرض في الأسفل بل نقرأ عنهم. "افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو 10: 20)[472].

القديس أمبروسيوس

إنه يُشهد الأرض ثلاث مرات أن تسمع وتصغي لحكم الله على الملك الذي لا يسمع لصوت إلهه، كيف أنه وإن أنجب أطفالاً (1 أي 3: 19) يُحسب عقيمًا، حيث لا ينجح أحد منهم في استرداد المُلك. ِبشره لم يسترح في حياته ولا من خلال نسله!

v     الذي وهو في حالة جهالة خاطئ "هو أرض ورماد"، أما الذي في حالة معرفة فإنه إذ يتشبه بالله قدر المستطاع فهو روحي ومختار.

أما كون الكتاب المقدس يدعو الذين بلا حس وعصاة أرضًا فواضح بواسطة إرميا النبي الذي يقول عن يهوياقيم وإخوته:

"يا أرض، يا أرض، ، يا أرض، اسمعي كلمة الرب. اكتب هذا الرجل كرجل محروم" [29-30][473].

القديس إكليمنضس الإسكندري


 

من وحي إرميا 22

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني!

v     أصرخ إليك يا ملك الملوك:

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني!

أرسلت إرميا إلى بيت الملك،

يوبخ أبناء يوشيا: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين،

أبناء الملك البار ملوك طغاة،

حطموا حياتهم، وأفسدوا المملكة، وأضاعوا كرسي داود!

v     وبخ إرميا الملك وعبيده وشعبه.

ها أنا أعترف لك، إننى كملك روحي قد فسدت،

أفسدت مواهبي وحولتها إلى عبيدٍ أشرار!

دنست طاقاتي وحولتها إلى شعبٍ خائنٍ لإلهه!

من يجدد حياتي وطبيعتي ومواهبي غيرك؟!

v     ظننت في نفسي كيهوآحاز، مرتفع كجبال جلعاد وقمم لبنان،

ليس من يقدر أن يصعد إليّ ويحطمني!

لقد قدست تأديباتك لتحولني إلى بريةٍ بلا ساكن!

إني مستحق كل تأديب،

لكن لا تتركني إلى النهاية!

أولادك المقدسون مكرمون حتى في جراحاتهم وموتهم كيوشيا.

أما الأشرار فيخزون حتى إن فلحوا ونجحوا!

v     بنى يهوياقيم لنفسه قصرًا لكن بغير بر.

استغل شعبه لبنائه عوض أن يخدمهم.

عاش طاغية لا يعرف العدل ولا البر.

يبني الأشرار لأنفسهم قصورًا، وعند موتهم لا يجدون من يدفنهم.

يطلبون ما لذاتهم، وفي موتهم لا يجدون من يبكونهم!

قدسني بروحك القدوس،

فيتسع قلبي حبًا وبرًا فيك!

أحمل مجد ابنة الملك في داخلي،

وفي رحيلي أتهلل متطلعًا إلى الإكليل الأبدي!

مات يهوياقيم وُدفن كحمار،

هب لي أن أموت مع الأبرار، فتتهلل نفسي بك!

v     تريدني خاتمًا في يدك أيها القدوس،

لا تنتزعني من يدك كما انتزعت يهوياكين،

لا تضعني في يد بابل، فأفقد حريتي وكرامتي فيك!

ليس ليراحة إلا فيك،

احملني إلى حضن أبيك،

ارجعني إلى فردوس الحب فلا أعيش غريبًا عن وطني السماوي!

ردِّني إلى أبيك، فأصير ملكًا!

ويحي! كاد أن يضيع المُلك مني...

انقذني... خلصني... مجدني في الداخل أيها القدوس!

<<


 

الأصحاح الثالث والعشرون

الرب راعينا وبرنا

في الأصحاح السابق تحدث إرميا النبي عن أبناء الملك يوشيا الأشرار: يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين، وجاء التأديب الإلهي أن يكون الأخير عقيمًا، ليس من نسله من يجلس على كرسي داود ملكًا (22: 30)، وكأن مملكة يهوذا تفقد رعاية الملوك. أما في هذا الأصحاح فإنه يوبخ الرعاة الأنانيين والأنبياء الكذبة وكل القيادات الفاسدة، ليعلن أن الله يتسلم رعاية شعبه بنفسه. إنه لا يترك شعبه، بل يقوم بالعمل الرعوي، مقدمًا بره الإلهي برًا لهم، منطلقًا بهم إلى خروجٍ جديدٍ فائق.

v     نبوات مملوءة رجاءً

1. ويل للرعاة الأنانيين[1-2].

2. أنا أرعى غنمي[3-4].

3. الرب برنا[5-6].

4. خروج جديد [7-8].

5. نبوات ضد الأنبياء الكذبة[9-40].

نبوات مملوءة رجاءً:

في وسط التهديدات القاسية، حيث حان وقت التنفيذ يفتح الله أبواب الرجاء، مقدمًا ثلاث نبوات تحققت قديمًا على مستوى حرفي بتحرير الشعب وعتقه من السبي، وتحققت بصورة فائقة في كنيسة العهد الجديد. هذه النبوات الثلاث هي:

أولاً: إن كان الله يبيد الرعاة الأشرار الأنانيين، فإنه لا يترك شعبه بلا راعٍ أو ملك أو قادة، بل يملك بنفسه عليهم، ويتولى شئونهم كراعٍ صالح يبذل ذاته عن شعبه. وخلال رعيته يقيم رعاة حسب قلبه، يعمل بهم وفيهم بروحه القدوس.

ثانيًا: إن كان الله يدين الشعب مع القيادات على رجاساتهم، فإنه يقدم بره برًا لهم، يصير الرب نفسه بر شعبه، يسترهم فيه، ويغفر خطاياهم، ويبررهم، مقدسًا إياهم كأبناء له!

ثالثًا: إن كان الله قد قدّس بابل لتحطيمهم، وكان ذلك ضروريا لتأديبهم، فإنه يتركهم إلى سنوات حتى يدركوا فشل كل ذراعٍ بشري اتكلوا عليه، ليقوم هو بنفسه بقيادتهم في خروجٍ جديدٍ أعظم من خروجهم من عبودية فرعون!

1. ويل للرعاة الأنانيين:

في الأصحاح السابق كشف إرميا، بأمرٍ إلهي، أخطاء ملوك يهوذا التي تتلخص في الآتي:

v     أنانيتهم على حساب علاقتهم بالله وشعبه.

v     اهتمامهم بالترف والحياة المدلّلة وسط الظروف القاسية التي عانى منها الشعب.

v     الكبرياء والتشامخ، كأنهم فوق كل قانون، لا يخضعوا حتى لشريعة الله.

v     الظلم، إذ كانوا طغاة، لا ينصفون حق الأرملة واليتيم والغريب والمظلوم.

v     اتكالهم على الذراع البشري، أي على الأمم التي تحالفوا معها، وعلى آلهتهم... لهذا قيل عن يهوياكين الذي أُسر إلى بابل: "(يكون) عقيمًا، رجلاً لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسًا على كرسي داود وحاكمًا بعد في يهوذا" (22: 20).

الآن يتحدث بصفة عامة عن القيادات السياسية خاصة في أيام صدقيا الملك التي أفسدت الشعب عوض رعايتهم والاهتمام بهم:

"ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي يقول الرب.

لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن الرعاة الذين يرعون شعبي:

أنتم بددتم غنمي وطردتموها ولم تتعهدوها.

هأنذا أعاقبكم على شر أعمالكم يقول الرب" [1-2].

تطلع إرميا النبي إلى الشعب بروح النبوة، ونظرهم يُقادون في مذلة إلى السبي. لقد اشترك الشعب مع الملك ورجاله في الشر، لذلك استحقوا التأديب؛ لكن الله يلقي باللوم أولاً وقبل كل شيء على القيادات التي تحولت من موقف الرعاية إلى التبديد والطرد.

سمح الله بالسبي، بل وقدس بابل بكل طاقاتها كآلات في يده لأسر شعبه، وفي نفس الوقت فتح باب الرجاء لشعبه، وأعلن حنوه عليهم، مكررًا التعبير "غنم رعيتي"، "شعبي"، "غنمي".

جاءت الكلمة العبرية في قوله: "لم تتعهدوها" paqad، تحمل معني واسعًا، مثل "يتعهد"، "يذهب لينظر"، "يهتم بـ"، "يشتاق إلى"، "يضع في اعتباره"، "يصغي إلى" الخ[474]. هكذا كان يليق بالرعاة أن تُمتص كل مشاعرهم وأفكارهم وطاقاتهم في شعبهم، فيصغون إليهم، ويهتمون بهم، ويشتاقون إليهم، ويبذلون حياتهم من أجلهم.

2. أنا أرعى غنمي:

الله الذي سمح بالتأديب الحازم لشعبه يلاطف ويتحنن، ويقيم رعاة من عنده يهتمون بهم.

"وأنا أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها،

وأردها إلى مرابضها،

فتثمر وتكثر.

وأقيم عليها رعاة يرعونها،

فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [3-4].

بينما يلقي باللوم على الرعاة الأشرار، خاصة الملوك، بكونهم بددوا غنمه وطردوها [2]، إذا به يقول هنا "الأراضي التي طردتهم إليها" [3]، فمن الذي قام بالطرد: الرعاة الأشرار أم الله؟

لقد سمح الله بطردهم كثمرة طبيعية لشر الرعاة وفسادهم. علة الطرد هم "الرعاة"، والذي قام بالطرد هو الرب كتأديب لازم لخلاصهم.

يؤكد الله هنا رعايته لشعبه بنفسه، كما سبق فأعلن جدعون: "لا أتسلط أنا عليكم، ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم" (قض 8: 23).

وترنم داود النبي متهللاً عندما أدرك رعاية الله له، ولشعبه، إذ قال بلسان الشعب كله: "الرب راعيّ، فلا يعوزني شيء... " (مز 23)، وأكد الرب رعايته لشعبه بنفسه في (حز 34: 1-16؛ ميخا 2: 12؛ إش 40: 11، يو 10: 1-18). خلال هذه الرعاية يتمتع الشعب بالبركات التالية:

أولاً: عودة بقية الشعب من الأراضي التي طُردوا إليها. وهنا نلاحظ أمرين:

أ. يجمع البقية الباقية من غنمه. ففي كل جيل توجد بقية قليلة أمينة للرب، سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعلٍ (رو 11: 4). هذه البقية يعمل بها ما هو أعظم مما فعله بالشعب كله! الله لا يهمه العدد، لكنه يطلب الخميرة الباقية المقدسة ليخمر بها العالم!

جاء وقت لم يكن في العالم كله بقية باقية لحساب الرب سوى إبراهيم وربما معه سارة زوجته، نالا المواعيد، ومن خلالهما تباركت كل الشعوب والأمم.

تحدث إرميا النبي عن البقية التي يود الله خلاصها (أصحاحات 24؛ 40-44)، وأيضًا إشعياء النبي (1: 9؛ 37: 4)؛ وميخا (4: 7؛ 7: 18).

يقول إشعياء النبي: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" (1: 9). وتحدث السيد المسيح عن هذه البقية الصغيرة الأمينة بكونها القطيع الصغير الذي يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1). كما تحدث عنها بكونها الخميرة الصغيرة التي تخمر العجين كله (مت 13: 33؛ لو 13: 21). هذه البقية المختارة التي لأجلها يقصر الله أيام ضد المسيح (مت 24: 22).

v     أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بتراخي الكثيرين.

عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله، لأن كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون (مت 20: 16)[475].

القديس يوحنا كاسيان

وتحدث معلمنا بولس الرسول عن القلة القليلة من اليهود التي تقبل السيد المسيح في أواخر الأيام (رو 11: 25-32).

ب. العودة إلى مرابض الغنم الآمنة من الأراضي التي طردوا إليها، فإنه إذ طُرد آدم وحواء من الفردوس كان الله يُعد لهما فردوسًا أعظم خلال ذبيحة آدم الثاني.

تمر علينا لحظات فيها نظن أننا لا نتمتع بالمواعيد الإلهية، وأننا محرومون من كل شيء حتى من المرابض التي وهبنا الله إياها، لكن يبقى الله عاملاً، ليجمعنا معًا من أقاصي المسكونة، فنجد راحة في حضن الآب.

ثانيًا: "فتثمر وتكثر": هذا هو مفتاح الأصحاح كله. فقد قُدم هذا الوعد لآدم وحواء في الفردوس، كما قُدم لإبراهيم ويعقوب اللذين من صلبهما جاء شعب الله... ماذا يعني هذا؟

أُعطي هذا الوعد الإلهي لآدم وحواء كثمرة ميثاق حب متبادل بين الله والإنسان، وتأكد الوعد من جديد حين دخل إبراهيم كأب المؤمنين في ميثاق جديد، وهكذا يبقى هذا الوعد ساريًا لكل من يقبل شروط الميثاق. ما قد حدث في أيام إرميا النبي هو أن القيادات السياسية، خاصة الملك، مع القيادات الدينية التي كادت تفقد كيانها الواقعي، وأيضًا الشعب قد كسروا الميثاق، ورفضوا العهد الإلهي، فصار عوض الوعد: "فتثمر وتكثر" الحكم الإلهي بالدمار والخراب.

تعلق اليهود في ذلك  الحين بآلهة الوثنيين الخاصة بالخصوبة، ظانين أن الارتباط بها يفيض عليهم بالخصوبة بالنسبة للبشر والبهائم وأيضًا النباتات، فإذا بهم يفقدون كل بركة، ويصدر الحكم "(تكون) عقيمًا" (22: 20).

الآن من يرد لهم الإثمار والإكثار؟ رعاية الله نفسه، إذ يتقدم السيد المسيح، كلمة الله، بصليبه ليسجل عهدًا جديدًا يوقعه بدمه نائبًا عنا، فيه نُحسب أبناء العهد، لنا روح الطاعة للآب... فننعم بالوعد الإلهي: "فتثمر وتكثر". لقد أثمر القديس بولس البتول باتحاده بالسيد المسيح، فصار له بنون كثيرون، ولدهم في قيوده بالإنجيل (1 كو 4: 15؛ فل 10)، يشاركونه المجد الأبدي والميراث السماوي.

ثالثًا: مع تأكيده رعايته الشخصية لغنمه يقول: "وأقيم عليها رعاة يرعونها" [4]. إن كان قد ألقي باللوم على الرعاة الأشرار الذين عوض رعايتهم للشعب بددوهم، فإن الشعب أيضًا هو المسئول. إنهم إذ يسلكون في العصيان بإصرار يرسل الله رعاة حسب قلبهم، فإن رجعوا بالتوبة إليه يرسل لهم رعاة يرعونهم ولا يبددونهم. إنه يوجد تأثير متبادل بين الشعب والرعاة.

رابعًا: إذ يستلم الله رعاية شعبه بنفسه، ويعمل أيضًا خلال رعاة يقيمهم للرعاية لا للتبديد، ينتزع عن الشعب الخوف والرعدة ولا يعودوا يُفقدون: "فلا تخاف بعد، ولا ترتعد، ولا تُفقد، يقول الرب" [4].

3. الرب برنا:

إذ وعد بإقامة رعاة من عنده يعلن عن رعايته الشخصية لشعبه التي تحققت بمجيء المسيا، كلمة الله، الراعي الصالح.

"ها أيام (بالتأكيد) تأتي يقول الرب،

وأُقيم لداود غُصن بر،

فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض.

في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا،

وهذا هو اسمه الذي يدعونه به:

الرب برّنا" [5-6].

يتحدث عن الملك الذي طالما ترقبه رجال الله في العهد القديم، المسيا، ابن داود! يتحدث إرميا النبي هنا عن شخص الملك وسماته ودوره واسمه.

قوله: "ها أيام تأتي" [5، 7] تعبير شائع لا يعني تحديد زمنٍ معين، إنما هو تعبير يشد الإنتباه إلى إعلان له قدسيته وأهميته (7: 32، 9: 25، 31: 31 الخ)[476].

أولاً: يدعوه "غصن بر" [5].

دُعي السيد المسيح غصنًا سبع مرات في العهد القديم وقد قدمت هذه النصوص السيد المسيح كما قدمته الأناجيل الأربعة:

v     المسيح الملك (إنجيل متى): (إش 11: 1، إر 23: 5، 33: 15).

v     المسيح الخادم والعبد (إنجيل مرقس): (زك 3: 8) .

v     المسيح الصديق والإنسان (إنجيل لوقا): (إش 53: 1-2؛ زك 6: 12).

v     المسيح ابن الله الممجد ( إنجيل يوحنا): (إش 4: 2) .

دُعي السيد المسيح بالغصن للسببين التاليين:

أ. لأن الغصن مرتبط بالأصل، فمع أنه رب داود لكنه من نسله، مرتبط به حسب الجسد.

ب. صار بالحقيقة إنسانًا ينمو كالغصن.

أُستخدم هذا اللقب "الغصن" في مجتمع قمران ليشير إلى المسيا الملك[477]. وقد أُدخل إلى الصلاة اليهودية التي تُدعىEsreh  Shemoneh (الثمانية عشر بركة):

[ليبرز غصن داود عبدك سريعًا، وليتمجد قرنه بخلاصك[478]].

 في سفر إشعياء حُسب السيد المسيح كقضيب وغصن من يسى الذي عاش ومات قليل الشأن، قائلاً: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" (إش 11: 1). والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدًا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقيران للغاية. بينما يتحدث في الأصحاح السابق عن ملوك يهوذا كأشجار لبنان الشامخة، إذا به يتحدث عن السيد المسيح، الملك المخلص، كغصنٍ متواضعٍ، لكنه "غصن بر". أراد بإتضاعه أن يسحق الكبرياء محطم البشرية، وكما تقول عنه الكنيسة في جمعة الصلبوت: "أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة".

ثانيًا: ملك ليخلص، ملك الرب بالصليب، لا ليسيطر، بل ليهبنا غفرانًا لخطايانا وشركة في الميراث الأبدي. على خلاف ملوك يهوذا في ذلك الحين الذين كانوا يملكون ليبددوا ويهلكوا، إذ يطلبون ما لنفسهم لا ما لشعبهم، فخسروا أنفسهم وشعبهم معًا!

بقوله: "يملك ملك (بحكمة)" [5]. يعلن أن المسيا القادم هو ملك حقيقي يملك على القلوب، وليس كصدقيا الذي كان كدُمية يحركها الأنبياء الكذبة[479].

ثالثًا: ينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض. إذ تصير قلوبنا أرضه المقدسة، يملك عليها ليحقق فيها الحق الإلهي والعدل. ظن ملوك اليهود أنهم ناجحون، لكن إذ أقاموا مملكتهم بغير حقٍ ولا عدلٍ انتهت بالفشل، أما مسيحنا فينجح إذ يقيم مملكته في أعماقنا الداخلية، لا يقدر عدو أن يتسلل إليها.

جاءت الكلمة hiskil لتعني "ينجح" أو "يعمل بحكمة"، فملكنا المسيح قدم لنا حكمة  الصليب التي رآها اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 1: 2-25). أما نحن المخلصون فنرى في الصليب حكمة الله الفائقة إذ هو "قوة الله" (1 كو 1: 18).

رابعًا: يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا.

لقد وعدهم الأنبياء الكذبة بالسلام، لكنهم هم أنفسهم فقدوا سلامهم، أما الراعي الجديد، فهو ملك السلام، يدخل بنا إلى مملكته، إسرائيل الجديد، فنجد سلامًا وأمانًا فيه.

خامسا: يدعى اسمه: "الرب برنا" Yahweh-sidqenn.

أقام البابليون صدقيا ملكًا، لكنه أظهر أنه غير مستحق لهذا الاسم، لأن كلمة صدقيا Sidqi-yahu تعني "برى هو الله". فكان لزامًا أن يُطرد من المُلك ليقوم مكانه ملك جديد، لا يقيمه البابليون، ولا يأتي بذراعٍ بشري، وإنما بخطة إلهية هيأ لها الله عبر الأجيال، خلالها يقدم الملك المسيا بره الإلهي برًا لنا، فنترنم بحق ونحن ننعم برعايته، قائلين: "الرب برنا". نردد مع الرسول بولس: "لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه، ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداءً" (1 كو 1: 29-30).

خلال رعاية السيد المسيح، كلمة الله، نصير كاللاويين والكهنة، ليس لنا نصيب في أرض الميراث، بل يكون الرب نفسه نصيبنا وميراثنا، ننعم به بكونه الحكمة والبر والسلام والفداء، نحمله فينا، ونختفي فيه. يعلن مجده في أعماقنا ويستر ضعفاتنا بدمه الثمين، فنتبرر في عيني الآب، ونحسب حكماء وأبرارًا وقديسين ومفديين!

 في جراءة إرميا النبي نرفض صدقيا الذي ملَّكه البابليون علينا، ونقبل صدقيا الجديد الذي أقامه الآب، والذي نزل إلينا بحبه الفائق يحمل ثقل خطايانا ويهبنا بره. لنرفض البر ذاتي (صدقيا القديم) ونحمل بر المسيح (صدقيا الجديد).

ويلاحظ في الآيتين [5، 6] يتحدث عن شخص المسيح الملك ورعايته الفائقة دون فصل بينهما، فمن لا يتعرف على شخص المسيا لا ينعم برعايته، ومن لا يقبل رعايته لا يدرك أسرار معرفته. إنه إذ يعلن عن ذاته ويكشف عن شخصه إنما يقدم لنا عملاً رعويًا، نقتنيه فنشبع ولا نعتاز إلى شيء!

v     كما تفصلنا خطايانا عنه، هكذا يجتذبنا برّنا مقتربين إليه. قيل: "وأنت بعد تتكلم أقول: هأنذا" (انظر إش 58: 9؛ 65: 24)[480].

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. خروج جديد:

"ها أيام تأتي (بالتأكيد) يقول الرب،

ولا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر،

بل حيّ هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم" [7-8].

بعد أن تحدث عن السيد المسيح كراعٍ يهبنا بره برًا لنا، قدم لنا عمله الخلاصي كخروجٍ جديد، لا من أرض مصر، وإنما من الأراضي التي طردنا إليها لنسكن في أرضنا.

هذا الخروج في معناه الحرفي يشير إلى العودة من سبي بابل، وفي معناه الروحي هو رجوع البشرية إلى حضن الآب، موضع الراحة.

لقد أكد ذلك بقوله "تأتي بالتأكيد" أو "حيّ هو الرب"، وقد سبق فاستخدم هذا التعبير إيليا وإليشع كنبيين إذ يضيفا تعبير: "الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1؛ 18: 15؛ 2 مل 3: 14؛ 5: 16)؛ كما نطق به سليمان ليصف به نفسه كملك (1 مل 2: 24)، وصدقيا الملك في حديثه مع إرميا بكون الله واهب الحياة (38: 16)، كما نطق به داود النبي ليشهد لله مخلصه الشخصي بأسلوب ليتورجي (2 صم 4: 9؛ 1 مل 1: 29؛ مز 34: 23؛ 71: 23).

5. نبوات ضد الأنبياء الكذبة:

بعد أن قدم ثلاث نبوات مملوءة رجاءً من جهة إقامة صدقيا (بر الله) الجديد، حيث يصير الله برنا، فننعم برعاية الله الشخصية في ابنه يسوع المسيح، ينطق بخمس نبوات ضد الأنبياء الكذبة[481]، ربما كُتبت في أوقات مختلفة وُجمعت معًا لأنها تعالج موضوعًا واحدًا.

النبوة الأولى 9-12: إدانتهم بسبب زناهم.

النبوة الثانية 13-15: إدانتهم لأنهم كذبة.

النبوة الثالثة 16-22: ينسبون كلماتهم للرب.

النبوة الرابعة 23-32: يتكلون على أحلامهم.

النبوة الخامسة 33-40: يطلبون وحيّ الرب بأفواههم لا بقلوبهم.

النبوة الأولى [9-12]: إدانتهم بسبب زناهم.

لا يطيق الله القدوس الخطية، ولا يقبل الرجاسات، لهذا أعلن لإرميا النبي عن مصير هؤلاء الأنبياء الكذبة بسبب رجاساتهم وفساد حياتهم. تظاهروا في الخارج بالرقة والتقوى، لكنهم في أعماقهم كما في سلوكهم انحنوا للشهوات الدنسة والرجاسات.

ارتبطوا بالكهنة ليسند كل منهم الآخر، فدنسوا العبادة في الهيكل الذي امتلأ برجاساتهم.

يبدأ إرميا النبي النبوة، قائلاً:

"في الأنبياء -

انسحق قلبي في وسطي،

ارتخت كل عظامي،

صرت كإنسان سكران،

ومثل رجلٍ غلبته الخمر من أجل الرب، ومن أجل كلام قدسه.

لأن الأرض امتلأت من الفاسقين.

لأنه من أجل اللعن ناحت الأرض،

جفت مراعي البرية،

 وصار سعيهم للشر، وجبروتهم للباطل" [9-10].

تظاهر الأنبياء الكذبة بالرقة واللطف، فكانوا يقدمون طمأنينة مخادعة للملك ورجاله كما للجيش والشعب، مصورين إرميا كرجلٍ متشائمٍ ومحطمٍ لنفسية الشعب وخائنٍ للوطن... لكن في الواقع كان إرميا يهتز بكل أعماقه وكيانه من أجل شعبه. تطلع إلى الأنبياء الكذبة وبدأ ينطق بنبواته، لا في شماتة، ولا كرجلٍ بلا أحاسيس نحو شعبه ووطنه، وإنما كإنسانٍ يعتصر بكل كيانه من أجلهم. التهب قلبه بنارٍ، هذه التي صارت محصورة في عظامه (4: 19-21؛ 20: 9).

سبق أن قلنا أن القلب، كان في نظر اليهود مركز الفكر والإرادة. فانكسار قلبه في وسطه لا يعني مجرد اهتزاز عواطفه الجيّاشة، وإنما دخل كما في ارتباكٍ فكري وبلبلة في التخطيط والإرادة، لا يعرف ماذا يعمل أمام تلك الكارثة العظمى التي حلت على الأمة كلها.

أما العظام فتشير إلى الهيكل العام الذي به يقوم كيان الإنسان، فمتى انهارت العظام يكاد يفقد الإنسان وجوده! وكأن الكارثة كادت أن تحطم كيان الشعب كله! إنها كارثة مصيرية بالنسبة للأمة كلها، كما بالنسبة لإرميا، وكما قيل: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي" (مز 22: 14).

يرى البعض أن الفعل الذي تُرجم "ارتخت" يعني "يرف" أو "يطير"، وكأن إرميا قد صار كالطير لا يحتمل الاستكانة، بل صار يرف كالطير، طارت عظامه إلى فوق تتطلع إلى الأمة كلها لتدرك حالها في مرارة!

هكذا انكسر قلب إرميا، وصارت عظامه ترف، ليس له موضع للراحة أو الاستقرار، "وصار كإنسان سكران ومثل رجل غلبته الخمر" [9]، وقد ارتبط السكر بالرعب والحزن كما في (حز 23: 33).

امتلأت الأرض بالفاسقين [10]، إذ صارت عبادة الأوثان خاصة البعل منتشرة على قمم الجبال وفي الوديان وتحت كل شجرة، تلازمها الممارسات الدنسة كطقس ديني لكي تنعم الأرض بالخصوبة، في حيواناتها ومزروعاتها، لكن النتيجة كانت على خلاف ما توقعوا. امتلأت الأرض لعنة، وصارت نائحة، وجفت تمامًا كأنها برية (midbar) بلا ساكن.

وصفها الرب هكذا: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيَّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربت. لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وابني حائطها حتى لا تجد مسالكها؛ فتتبع محبيها ولا تدركهم، وتفتش عليهم ولا تجدهم؛ فتقول: أذهب وأرجع إلى رجُلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن. وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت، وكثَّرت لها فضة وذهبًا جعلوه لبعلٍ" (هو 2: 5-8).

يُقصد باللعنة التعبير عن غضب الله على شعبه المُعلن خلال حالة الجفاف أو الخراب التي تحل بالأرض. وكما يقول إشعياء النبي: "حزنت، ذبلت الأرض... والأرض تدنست تحت سكانها، لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعُوقب الساكنون فيها... ناح المسطار، ذبلت الكرمة، أنَّ كل مسروري القلوب، بكل فرح الدفوف... " (إش 23: 4-8). لعل هدفه وهو إعلان أن الطبيعة نفسها التي خُلقت من أجل الإنسان قد فسدت بسببه، واحتاجت أن يفرغها الله ليجددها.

تشير اللعنة التي حلَّت بالأرض التي جفت إلى جسد الإنسان الذي متى فسدت إرادته تحل اللعنة بجسده، فتتحطم قدراته وإمكانياته وتفسد أحاسيسه ومشاعره، ويصير الجسد أشبه ببرية بلا ساكن!

حين نسمع وعد الله لمباركتنا: "أثمروا وأكثروا" نتلمس هذه البركة حتى في جسدنا، حيث تتبارك مواهبنا وقدراتنا، أما إذا حلَّت اللعنة فنفقد هذا الوعد الإلهي.

حقًا قد يسعى الأشرار ويجاهدون كما بجبروت وقوة لكن "صار سعيهم للشر وجبروتهم للباطل" [10]. يخرجون من تعبهم فارغي اليدين، أو كما يقول الجامعة "فعرفت أن هذا أيضًا قبض الريح" (جا 1: 17)، "التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا 2: 11).

"لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعًا،

بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب.

لذلك يكون طريقهم لهم كمزالقٍ في ظلامٍ دامسٍ،

فيُطردون ويسقطون فيها،

لأني أجلب عليهم شرًا سنة عقابهم يقول الرب" [11-12].

جاء الفعل "تنجسوا" يشير إلى مقاومة المقدسات وليس مجرد "عدم التقوى"، لهذا يُستخدم بالنسبة لمرتكبي الزنا غير المخلصين للمقدسات الإلهية، سواء للوصية الإلهية أو بيت الرب أو جسد الإنسان أو زوجته (أو زوجها).

يرتبط هذا الاتهام بعبادة البعل، حيث يمارس عابدوا البعل طقوس جنسية للخصوبة كطريق الآمان والإنجاب والصحة. وقد سبق فرأينا لأنه عوض التمتع بالحياة دخلوا إلى الموت، وعوض الآمان صاروا في ارتباك خلال السبي، وعوض الإنجاب تحطموا.

لقد قدموا طريق الرجاسات للكهنة الذين صارت لهم كمزالقٍ ينحدرون خلالها إلى ظلمة الفساد، وها هو ذات الطريق يصير كمزالقٍ للأنبياء الكذبة أنفسهم. يُطردون من أمام وجه الرب فينحدرون في طريقهم الذي أقاموه بانفسهم، ويسقطون في شر أعمالهم.

لقد طهر يوشيا الهيكل من العبادة الوثنية أثناء إصلاحاته عام 621 ق.م، لكن عادت الأوثان ورجاساتها بعد موته سنة 609 ق.م، في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا. وقد قدم لنا حزقيال النبي صورة مؤلمة لما حلّ بالهيكل حيث أُقيم تمثال الغيرة في المدخل (حز 8: 5)، وُنقشت تماثيل حيوانات ودبابات على الحائط، وأعطى البعض ظهورهم للهيكل وهم يسجدون للشمس كإله (حز 8). هذه الصورة التي عبر عنها الرب بقوله لحزقيال النبي: "يا ابن آدم، هل رأيت ما هم عاملون؟! الرجاسات العظيمة التي بيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عن مقدسي، وبعد تعود تنظر رجاسات أعظم" (حز 8: 6)، تكشف لماذا أرتبك فكر إرميا وكادت أن تحطمه نفسيًا وجسديًا.

هذه المزالق المظلمة التي سقطت فيها القيادات الدينية في ذلك الحين؛ عوض أن يسندوا كل نفس للالتقاء مع الله، دفعت بهم إلى مملكة الظلمة.

في قول الرب: "في بيتي وجدت شرهم" [11] استخدم الفعل بمعني "اكتشفت"[482]. اكتشف الله كحارسٍ لبيته جريمة فدُهش كيف تجاسر الكهنة والأنبياء على هذا الفعل الشرير في مقدساته التي ائتمنهم عليها.

إنها كلمات عتاب مرّة يكررها الله في حديثه مع أولاده هؤلاء الذين نالوا نعمته المجانية وتحولوا إلى هيكله المقدس، ليعودوا فيرتكبوا الرجاسات فيه. إنهم يدنسون لا أجسادهم بل هيكل الرب، لأنها لم تعد ملكًا لهم بل اُشتريت بدمٍ ثمين!

ائتمنهم الرب على بيته، كما يأتمننا على أجسادنا بكونها هيكله المقدس، لكي تكون طريقًا مقدسًا للتمتع بملكوت الله، أي ملكوت النور. أما هم فبشرهم صار طريقهم كمزالق في ظلام حيث الهلاك. وكما قيل: "أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام، لا يعلمون ما يعثرون به" (أم 4: 18-19)؛ "ليكن طريقهم ظلامًا وزلقًا وملاك الرب طاردهم" (مز 35: 6).

صار طريقهم كالوحل "زلقًا"، عوض ارتفاعه نحو السمويات، ينحدر بالسالكين فيه إلى الوحل فيصير ترابيًا لا سماويًا.

هذا هو ما فعلوه بأنفسهم، إذ يسقطون في الطريق الذي صنعوه: "يسقطون فيها" [12]، "الشرير يُطرد بشره" (أم 14: 32).

النبوة الثانية [13-15]: إدانتهم لأنهم كذبة.

في الاتهام الأول ظهر الأنبياء الكذبة أنهم متحالفون مع الكهنة في ممارسة الرجاسات فتدنسوا ودنسوا بيت الرب. هنا يظهر الأنبياء، خاصة الذين في أورشليم، أنهم قد تحالفوا مع الملك ورجاله ليبثوا روح الكذب والضلال وسط الشعب، فأساءوا قيادة شعب الله، وحولوهم إلى سدوم وعمورة، يحملون روح النفاق.

"وقد رأيت في أنبياء السامرة حماقة.

تنبأوا بالبعل وأضلوا شعبي إسرائيل.

وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يُقشعر منه.

يفسقون ويسلكون بالكذب،

 ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجع الواحد عن شره.

صاروا لي كلهم كسدوم وسكانها كعمورة.

لذلك هكذا قال رب الجنود عن الأنبياء:

هأنذا أطعمهم أفسنتينًا،

وأسقيهم ماء العلقم،

لأنه من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق في كل الأرض" [13-15].

يقارن هنا بين أنبياء مملكة الشمال (عاصمتها السامرة) وأنبياء مملكة الجنوب (عاصمتها أورشليم). الأولون جحدوا الإيمان، وأضلوا إسرائيل حيث تنبأوا باسم البعل. إنهم أنبياء كذبة لأنهم انحرفوا بالشعب عن عبادة الله، كاسرين العهد معه. هذا القول تقبله قيادات يهوذا وأيضًا الشعب، لأنهم يتطلعون إلى مملكة الشمال كدولة منشقة. لكن ما فعلته أورشليم ليس بأقل مما فعلته السامرة. إنها لم ترفض عبادة الله الحيّ لكنها خلطت هذه العبادة بالعبادة الوثنية ورجاساتها، فكسرت العهد مع الله، وصار حالها كحال السامرة، بل ربما أشر فالمملكتان لم تسلكا بولاء لله ولعهده، غير أن أنبياء أورشليم دنسوا الهيكل المقدس بزناهم وكذبهم. وهذا أخطر، إذ يقول: "رأيت ما يُقشعر منه" [14]. سقطوا في عبادة البعل مثلهم كمثل السامرة، لكن أضافوا إلى شرهم تدنيسهم للمقدسات الإلهية.

هنا يربط بين الرجاسات والكذب، قائلاً: "يفسقون ويسلكون بالكذب" [14]. لأن الكل رفض الله الذي هو "القدوس" و"الحق"، وسلكوا بالكذب. بمعني آخر لقد أخطأ الأنبياء الكذبة في حياتهم أو سلوكهم إذ مارسوا الفسق وأخطاؤا في تعليمهم فمارسوا الكذب.

بهذا صاروا "كلهم" [14] في عيني الله كسدوم؛ يُقصد بـ "الكل" أنبياء السامرة وأورشليم، أي الأنبياء الكذبة للمملكتين معًا.

بنفس الروح يتحدث حزقيال النبي عن سكان أورشليم، قائلاً: "مخرجك ومولدك من أرض كنعان. أبوكِ أمورى، وأمكِ حِثِّية" (حز 16: 3)، كما يقول: "إن سدوم أختك لم تفعل هي ولا بناتها كما فعلتِ أنتِ وبناتك" (حز 16: 48).

قدم الأنبياء الكذبة بأفواههم الموت للشعب، لذا يقدم الله لهذه الأفواه السافكة للدماء أو القاتلة للنفوس الافسنتين مأكلاً، وهو نبات مر وسام، وماء العلقم شرابًا [15].

النبوة الثالثة [16-22]: إدانتهم لأنهم ينسبون كلماتهم للرب.

ينطقون لا بإعلان من عند الرب، وإنما بوحي من قلوبهم الكاذبة، وينسبون كذبهم وخداعهم للرب نفسه. لذلك طلب الله من الشعب ألاّ يعطوا أذانًا لهم، ولا يدخلوا حتى في حوارٍ معهم، لئلا يصيروا هم أنفسهم "باطلاً nothingness".

"هكذا قال رب الجنود:

لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم.

فإنهم يجعلونكم باطلاَ.

يتكلمون برؤيا قلبهم، لا عن فم الرب.

قائلين قولاً لمحتقريّ:

قال الرب: يكون لكم سلام.

ويقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر.

لأنه من وقف في مجلس الرب ورأي وسمع كلمته؟!

من أصغى لكلمته وسمع؟!" [16-18].

يميز إرميا النبي بين الأنبياء الكذبة والنبي الحقيقي، موضحًا علامات النبي الحقيقي، وهي:

أ. يحمل النبي الحقيقي سلام الله الداخلي بينما يُحرم الأنبياء الكذبة منه، وإن كانوا يدعون أنهم يهبونه للآخرين. يقول القديس كبريانوس: [يقدمون سلامًا الآن الذين ليس لهم سلام لأنفسهم. يعدون أنهم يردون المخطئين إلى الكنيسة، وهم أنفسهم رحلوا عنها. يوجد الله الواحد، والمسيح الواحد والكنيسة الواحدة[483]].

ب. بينما ينطق الأنبياء الكذبة برؤى قلوبهم يصير النبي الحقيقي فم الرب. رأينا ان كلمة "قلب" في سفر إرميا تعني "العقل" أو "الإرادة"، فهم ينطقون بما تراه أفكارهم أو ما يريدونه، أما النبي الحقيقي فينطبق عليه القول: "مثل فمي تكون" (15: 19).

ج. يقدم الأنبياء الكذبة رجاءً كاذبًا لمحتقري الرب في قلوبهم، الذين يقول عنهم إشعياء النبي: "رذلوا شريعة رب الجنود واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل" (إش 5: 24)، مع أنه قيل: "جميع الذين أهانوني لا يرونها (أرض الموعد)" (عد 14: 23). يتحدثون مع معاندي الرب بكلمة سلام، أما النبي الحقيقي فينطق بالحق ولو كان جارحًا.

إنهم "يقولون لكل من يسير في عناد قلبه لا يأتي عليكم شر". لكن الله الفاحص القلوب يدينهم حسب شر قلوبهم، وكما يقول القديس كبريانوس: [إنه ينظر إلى الإشياء الخفية والسرية ويتأمل الأمور المختومة، لا شيء يختفي من عيني الرب... إنه ينظر قلب كل إنسان وعقله، وسيدين ليس فقط أعمالنا بل وكلماتنا وأفكارنا. أنه يتطلع إلى الأذهان والإرادة ومفاهيم البشر جميعًا، في مخابئ القلب التي لا تزال مغلقة[484]].

د. يتمتع النبي الحقيقي بالحضرة الإلهية: "من وقف في مجلس الرب؟!" [18]. هذه الحضرة العجيبة تتحقق على الأرض وسط شعبه المقدس.

ما هو "مجلس الرب؟" يحل الله في وسط كنيسته المقدسة، في مجمع القديسين، فيقيم منها مجلسًا ينسبه إلى نفسه. وكما يقول المرتل: "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).

هـ. يتمتع النبي الحقيقي بالاستنارة الروحية، إذ يقول: "ورأى" [18]، يتحدث من خلال رؤيته الروحية وخبرته الواقعية كقول القديس يوحنا الحبيب: "الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1: 1).

و. له الأذن المختونة ليسمع ويطيع: "وسمع كلمته، من أصغى لكلمته وسمع؟!" [18].

بينما ينطق الأنبياء الكذبة بالكلمات المعسولة لمحتقري الرب وللعنيدين بقلوبهم. يرى إرميا النبي غضب الله كعاصفة نارية تهب على رؤوس الأشرار. هذا ما سمعه وهو في مجلس الرب، وأن هذه العاصفة لن تهدأ حتى يتحقق التأديب ويقيم الله مقاصد قلبه. عندئذ يفهم الأنبياء الكذبة ذلك، وإن كانوا لا يتراجعون عن شرهم.

"ها زوبعة الرب.

غيظ يخرج ونوء هائج.

على رؤوس الأشرار يثور.

لا يرتد غضب الرب حتى يجري ويقيم مقاصد قلبه.

في آخر الأيام تفهمون فهمًا.

لم أرسل الأنبياء، بل هم جروا.

لم أتكلم معهم، بل هم تنبأوا.

ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي،

وردوهم عن طريقهم الرديء،

وعن شر أعمالهم" [19-22].

لا يقصد هنا بقوله "في آخر الأيام" [20] معني أخرويًا (إسخاتولوجيا) وإنما قصد أنه "بعد ذلك"، أو عندما تعبر هذه الأيام ويحل وقت التأديب[485].

مرة ثانية يوضح النبوة الصادقة التي تقوم على ارساله الله نفسه للنبي، وحديثه معه، مع تمتع النبي بالحضرة الإلهية والوقوف أمامه. بمعني آخر هناك حاجة إلى لقاء صادق مع الله، وقبول إرسالية صادقة، والنطق بكلمات الرب بصدق.

يقول الرب: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا" [21]. ماذا يعني بكلمة "جروا"؟ كانوا مسرعين، شغوفين نحو إعلان رسائلهم الخاصة، وذلك كإلحاحهم "حلمت حلمت" [25]. إنهم يعملون بقوة وبسرعة وبلجاجة لكن عملهم باطل، لأنه مملوء كذبًا، لا يدفع إلى التوبة بل إلى التهاون والاستهتار.

 الأنبياء الكذبة وإن أخذوا صورة الجدية في السرعة في العمل واللجاجة لكن ثمارهم تُظهرهم (مت 7: 16)، لا يدفعون الناس إلى التوبة وتغيير حياتهم.

لننتفع نحن منهم فنخجل من تراخينا في الشهادة لمسيحنا وتقديم الحياة الإنجيلية ولكن ليس بروحهم حيث البر الذاتي وعدم التمتع باللقاء مع المخلص والوجود الدائم في حضرته والاختفاء في وصيته!

يقول: "في آخر الأيام تفهمون فهمًا" [20]؛ وكما يقول القديس إيريناؤس: [لأن كل نبوة بالنسبة للبشر مملؤة غموضًا. ولكن إذ يحين الوقت، وتتحقق النبوة، تصير واضحة ومكشوفة[486]].

النبوة الرابعة [23-32]: يتكلون على أحلامهم.

يحاول الأنبياء الكذبة أن ينسبوا أنفسهم لله بكل الطرق، منها أنهم يتحدثون عن احلامٍ يدعون أنها من قبل الله. لا يعني إرميا النبي هنا "الأحلام" بمعناها الحرفي، إنما كتعبير مجازي، إذ يخدعون الناس بادعاءات وهمية أشبه بالأحلام غير الواقعية التي يقدمونها ويعطون لها تفاسير من عندياتهم، حاسبين هذه الأحلام انها كلمة الرب، وهي بعيدة كل البعد عنها.

أحيانًا يستخدم الله الأحلام لتقديم رسالة إلهية كما حدث مع يوسف الشاب وهو في بيت أبيه، وأيضًا عندما فسّر الحلمين في السجن لرئيس السقاة ورئيس الخبازين، وأخيرًا فسّر أحلام فرعون. دانيال النبي أيضًا فسّر أحلام بعض الملوك، لكن بصفة عامة يتحدث الله مع شعبه خلال رجاله، خاصة الأنبياء، وليس خلال الأحلام.

بدأ الحديث بتوبيخ الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن الله يتحدث معهم بالأحلام، معلنًا أن الله الساكن في الأعالي يتطلع إليهم ويدرك كذبهم.

"ألعَلِّي إله من قريب يقول الرب، ولست إلهًا من بعيدٍ؟!

إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا يقول الرب؟!

أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب؟!" [23-24].

لعلَّه بهذا يوبخهم لأنهم يحسبون الله كالبعل، محدود في حجمه وفي موضع سكناه، غير قادرٍ على إدراك ما يحل بالأماكن المستترة.

يسكن الله في السماء في الأعالي، وكأن الأرض كلها صغيرة بالنسبة له، يراها بكل خطاياها، ولا يقدر أحد ما أن يختفي عنه. وفي نفس الوقت يملأ السماء والأرض، أينما هرب إنسان يجد الله حاضرًا... فهو بعيد ومنزه عن كل الخليقة، وقريب جدًا وملاصق لها.

بمعني آخر يقول: الله منزه عن كل التصرفات التي يمارسها الكذبة، هو في الأعالي يعرف ويرى كل شيء، وهو قريب يود أن يلتقي الكل به!

يؤكد النبي أن الله عالٍ عن الأرض، بعيد كل البعد عن أفكارهم الأرضية الترابية، هو يدرك كل أسرارهم، أما هم فلا يدركونه. ليتخلوا عن التراب الذي التصقوا به، فيرفعهم بروحه إلى سمواته، ويكشف لهم إرادته، بهذا تُنتزع عنهم صفة "الكذب".

أخيرًا جاءت هذه العبارات متناغمة مع كلمات المرتل:

"يا رب قد اختبرتني وعرفتني...

كل طرقي عرفت، لأنه ليس كلمة في لساني إلاَّ وأنت يا رب عرفتها كلها...

أين أذهب من روحك؟! ومن وجهك أين أهرب؟

إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت..." (مز 139).

الله بعيد عن الأشرار، قريب من المتواضعين الذين يطلبونه من كل قلوبهم.

v     لو كان من جهة المكان هو بعيد عنا، لكنت تشك حقًا، لكنه إن كان حاضرًا في كل موضع لذاك الذي يجاهد، وقريب للغيور، فإنه يقول مع النبي: "لا أخاف شرًا لأنك معي"(مز 23: 4) [487].

v     ليتنا لا نستمر في الشر، ولا نيأس من المصالحة، بل لنقل نحن أنفسنا: "أقوم وأذهب إلى أبي"، ولنقترب إلى الله. فإنه هو نفسه لن يبعد عنا، وإنما نحن الذين نبتعد عنه.

نقرأ: "أنا هو الله من قريب ولست إلهًا من بعيد" [23].

مرة أخرى ينتهرهم على لسان النبي: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبيني" (راجع إش 59: 2) [488].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لأن قوة الله حاضرة دائمًا، متصلة بنا، تعمل للفحص والنفع والتعليم[489].

القديس إكليمنضس الإسكندري

v     إنه في كل موضع هذا الذي لا يحده مكان.

لا تتركه، فيكون معك.

إن أردت أن تأتي إليه فلا تتباطأ... فإنه يأتي إليك وأنت في مكانك، إن كنت تؤمن وتحب[490]!

القديس أوغسطينوس

v     مخيف هو ملئه للمسكونة، فلا يوجد موضع يهرب من عمل الله حتى بالطيران إلى السماء، أو بدخول الهاوية، أو بالهروب إلى أقصي الشرق، أو الإغلاق على أنفسنا في الأعماق ونهايات البحر[491].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الإنسان الذي ينتفع بالصلاة يصير مستعدًا أن يختلط بروح الرب الذي يملأ العالم كله، والذي يملأ الأرض كلها والسماء، القائل بالنبي: "أما أملأ أنا السموات والأرض؟ يقول الرب" (23: 24) [492].

العلامة أوريجينوس

v     إننا لا نأتي إليه جميعنا بنفس الطريق، بل يأتي كل واحدٍ حسب قدرته (مت 25: 25).

إما نأتي إليه مع الجماهير فينعشنا بالأمثال لهذا الهدف وحده: لئلا نخور في الطريق (مت 15: 32؛ مر 8: 3) من الأصوام الكثيرة.

أو أننا نجلس دومًا بلا انقطاع عند قدميه، متحررين لأجل هذا وحده: لكي نسمع كلمته دون أن نرتبك قط بالخدمات الكثيرة، بل نختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع عنا (لو 10: 39-42). بالتأكيد الذين يقتربون إليه هكذا ينالون من نوره أكثر[493].

 العلامة أوريجينوس

يتساءل العلامة أوريجينوس أين رحلت رفقة لتطلب الرب (تك 25: 24)، ما دام الرب في كل موضع (23: 24)؟

v     أظن أنها لم ترحل من موضع إلى آخر، بل عبرت من حياة إلى حياة أخرى، من عملٍ إلى عملٍ، ومما هو صالح إلى ما هو أفضل. إنها انطلقت من الأشياء المفيدة إلى ما هي أكثر فائدة، وأسرعت مما هو مقدس إلى ما هو أكثر قداسة[494].

 العلامة أوريجينوس

يكمل حديثه كاشفًا كذب هؤلاء الأنبياء:

"قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين:

حلمت حلمت.

حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب؟! بل هم أنبياء خِداع قلبهم.

الذين يفكرون أن يُنسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه،

كما نسيَ آباؤهم اسمي لأجل البعل" [25-27].

يهاجم هنا ما يدعيه الأنبياء من رؤيتهم أحلامًا يفسرونها على أنها رسائل سماوية للأسباب:

أولاً: كذبهم، إذ يقول كل منهم: "حلمت. حلمت"، ويتنبأون خلالها كذبًا.

ثانيًا: ينسبون ما يتنبأون به للرب، وهذا أخطر، لأنهم ليس فقط يكذبون، لكنهم يتسترون تحت اسم الله وهم يكذبون.

ثالثًا: شغل موضوع الأحلام أفكار الشعب حتى نسوا الله ووصاياه. نسى آباؤهم الله خلال عبادتهم البعل، أما هؤلاء فنسوا الله خلال انشغالهم بالأحلام، لا همّ لكل  شخص إلا أن يروي أحلامًا أو يشتهي أن يسمع عن أحلام إخوته.

بماذا يقيِّم إرميا النبي هذه الأحلام؟ يقارن الأحلام بكلمة الله، كالتبن بجانب الحنطة، يلزم فرز هذه عن تلك.

"النبي الذي معه حُلم، فليقص حُلمًا،

والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق.

ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟!

أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب؟!

وكمطرقة تحطم الصخر.

لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي من بعضهم البعض" [28-30].

أحلام الأنبياء الكذبة كالقش يجب فرزها من كلام الرب، أي من الحنطة.

ليس للأحلام فاعلية، أما كلمة الرب فكنارٍ تحرق الشر في القلب، وتلهبه بنار الحب الإلهي، وكمطرقة تحطم القلب الحجري لتجعله قلبًا لحميًا. بمعني آخر كلمة الرب هي طعام (حنطة)، يشبع النفس، كما يغير طبيعتها، تنقيها كما بنارٍ، وتحطم كل فسادٍ فيها.

بقوله: "ما للتبن مع الحنطة؟!" [28] يؤكد ضعف الأحلام في مواجهتها أو مقاومتها لكلمة الرب. إنها تشبه تبنًا أو عصافة لا تقف أمام ريح غضب الله. إنها تحترق أمام كلمة الله النارية وتتحطم بمطرقتها.

يكشف إرميا عن جانب آخر خطير في حياة بعض الأنبياء الكذبة؛ أنهم أحيانًا لا ينطقون بكلمات كاذبة، ولا يدّعون أنهم يروا أحلامًا، إنما يسرقون كلمة الرب من بعضهم البعض [30].

يشير التبن إلى الأشرار والحنطة إلى أولاًد الله. وكما يقول القديس جيروم: [إن كان إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل لم يكونوا بلا خطية، وان كان أفضل أنواع الحنطة به تبن ممتزج به، فماذا يُقال عنا نحن الذي كُتب عنا: "ما هو التبن للقمح يقول الرب؟" (23: 28) ومع ذلك فالتبن يُحفظ للحرق المقبل، كما أن الحنطة في الوقت الحاضر ممتزجة مع القمح في نموها[495]...].

ماذا يعني بسرقة كلمة الرب؟ إننا ننطق بكلمة الرب كأننا قد اختبرناها دون أن نسمع لها أو نمارسها في حياتنا، إنما نسرقها من أفواه الآخرين أو كتاباتهم. لهذا يليق بنا لكي لا نُحسب لصوص الكلمة أن نمارس ما ننطق به، أو نجاهد بإخلاص في ممارستنا إياها.

ربما يقصد بسرقة كلمة الرب أن بعض الأنبياء الكذبة أرادوا أن ينطقوا بكلمة الرب، لكن فساد قلوبهم وسلوكهم دفعهم إلى تحريف الكلمة حسب أهوائهم الداخلية. ولعله أراد توضيح أن الأنبياء الكذبة غير أمناء ولا مخلصين حتى فيما بينهم، إذ يسرقون بعضهم البعض، فكيف يكونوا أمناء في تقديم الكلمة صادقة للشعب؟ أو أنهم فقراء في المعرفة، ليس لهم ما ينطقون به، فكل واحدٍ يسرق من الآخر، مدعيًا أنه يرى أحلامًا مباشرة من الله.

بمعنى آخر فإنهم حتى وإن سرقوا كلمة الرب، لكن خلال هذه السمات التي سبق أن تحدثنا عنها يقدمونها بطريقة غير صادقة، ويحولونها لخدمة أغراضهم الشخصية.

يختم حديثه عن الأنبياء المدعين أنهم أصحاب أحلام إلهية أو عن سارقي الكلمة، قائلاً:

"هأنذا على الأنبياء يقول الرب،

الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال،

هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها، ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم،

وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم.

فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب" [31-32].

بقوله "ياخذون (أو يستعملون) لسانهم ويقولون: قال" [31] يعني أنهم يستخدمون كلماتهم الشخصية في شكل حديث إلهي ويقولون: "قال الرب...".

للمرة الثالثة يؤكد الرب: "هأنذا على (ضد) الأنبياء" الذين يبشرون بالأحلام الباطلة [30-32]. إنهم مخادعون ولا منفعة منهم [32].

النبوة الخامسة [33-40]: يطلبون وحي الرب بأفواههم، لا بقلوبهم.

أخيرًا يتظاهر هؤلاء الأنبياء أحيانًا بالرغبة في التعرف على وحي الرب بينما بقلوبهم يطلبون وحي أنفسهم. تسلل هذا الداء إلى الكهنة في غير مبالاة، فسقطوا في خطية أخطر وهي الرياء والخداع حتى في معاملاتهم مع الله ورجاله.

"وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟

فقل لهم: أي وحي (ثقل)؟!

إنى أرفضكم هو قول الرب.

فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول وحي (ثقل) الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته.

هكذا تقولون الرجل لصاحبه، والرجل لأخيه:

بماذا أجاب الرب؟

وماذا تكلم به الرب؟

أما وحي الرب فلا تذكروه بعد،

لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه،

إذ قد حرفتم كلام الإله الحيّ رب الجنود إلهنا.

هكذا تقول للنبي: بماذا أجابك الرب، وماذا تكلم به الرب.

وإذا كنتم تقولون: وحي الرب، فلذلك هكذا قال الرب من أجل قولكم هذه الكلمة وحي الرب، وقد أرسلت إليكم قائلاً: لا تقولوا وحي الرب.

لذلك هأنذا أنساكم نسيانًا، وأرفضكم من أمام وجهي أنتم، والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها.

وأجعل عليكم عارًا أبديًا وخزيًا أبديًا لا يُنسى" [33-40].

 جاء الحديث هنا يدور حول كلمة "وحي a  mass" التي تُستخدم بمعانٍ كثيرة؛ وهي مقتبسة من الفعل nasa، معناها "يرفع" أو يحمل"، فيكون الاسم معناه "حمل  burden" أو "ثقل". أُستخدم في العهد القديم ليعني ثقلاً يصدر عن سيد أو إله أو من حيوانات أو بشر، وهنا يعني الالتزام بثقل المسئولية القيادية أو الدينية، أو السقوط تحت ثقل حكم الله، لكن أحيانًا تستخدم كتعاليم نبوية أو وحي نبوي. هنا يقصد بها الوحي.

كثيرًا ما تكررت كلمة "ثقل" في هذه القطعة، إذ تطلع الأنبياء الكذبة والكهنة والشعب إلى كلمة الرب باحتقار واستخفاف وحسبوها ثقلاً، ترعبهم وتخيفهم، كانت ثقيلة على نفوسهم كما يقول القديس جيروم.

إذ يسأل الأنبياء الكذبة أو الشعب: ما هو وحي (ثقل) الرب؟ تأتي الإجابة: "أي وحي؛ إني أرفضكم هو قول الرب" [33]، يترجمها البعض: "أنتم هو الثقل (الوحي) إني أطرحكم (أرفضكم)"؛ وكأنه يقول: ليست كلمة الرب ثقلاً، بل أنتم بخطاياكم تمثلون ثقلاً وتستحقون الطرح خارجًا!

مرة أخرى يقول: "لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه (ثقله)" [36]، وكأن الله يؤكد إن كلمته ليست ثقلاً، إنما كلمات الإنسان هي التي تحطمه كثقل على نفسه!

إنه يطالبهم: "لا تقولوا وحي الرب" [38]، ربما لأنه يرفض استخدام هذه الكلمة  massaالتى استخدموها للتعبير عن مشاعرهم نحو كلمة الرب كثقل؛ أو أن الله بهذا يوبخهم: لماذا تطلبون تعاليم الرب وقد أقمتم أنفسكم آلهة، يسمع كل واحد لتعليمه الذاتي لا لصوتي، تطلبون أن تسمعوا تعاليمي وأنتم تهينونها برفضكم إياها؟!

لقد نسوا صوت الرب حتى إن طلبوه بأفواههم، لذلك يقول: "هأنذا أنساكم نسيانًا" [39].

لم يطيقوا سماع صوت الرب، لهذا جاءت الثمرة: "أرفضكم من أمام وجهي" [39].

أهانوا الكلمة الإلهية واحتقروها، لهذا يرفض الله المدينة التي حسبها قبلاً مدينته المقدسة، والتى وهبها لهم ولآبائهم، ويسكب عارًا وخزيًا عليهم [40].

 

 

 


 

من وحي إرميا 23

ليمت صدقيا القديم!

وليحيا صدقيا الجديد!

v     هب لي يا رب جراءة إرميا فأصرخ:

ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعية الرب،

ويل لصدقيا الذي أقامه البابليون!

وليحيا الراعي الجديد: "الرب برنا"!

ليمت صدقيا القديم، البر الذاتي الذي أنسبه لله كذبًا،

وليحيا صدقيا الجديد في، ويهبنى بره برًا لي!

لقد بدد بري الذاتي طاقاتي التي هي غنم الرب،

لتملك أيها المسيح الراعي الصالح في، وتجمع غنمك في!

v     نعم! لترعى أعماقي، ولتجمع حواسي وأفكاري وكل طاقاتي،

إنها غنمك!

لتردها من أرض الذل والسبي إلى مربضها!

لقد تاهت في وسط غربة هذا العالم!

لتفتح أبواب سمواتك أمامها،

ولتقدسها بروحك القدوس لحساب ملكوتك،

فأستقر وأستريح في أحضان أبيك!

هناك لا أخاف، ولا أرتعب، ولا أفقد شيئًا!

هناك أمتلىء سلامًا أبديًا فائقًا!

v      تعال أيها الملك الحقيقي، صدقيا الجديد،

لتملك في أعماقي، ولتنجح، ولتجري حقك وبرك.

حوّل أرضي إلى ملكوتك.

أنطلق بي، لا من فرعون مصر إلى أرض الموعد،

وإنما من ذاتي الطاغية إلى أورشليمك السماوية!

هب لي أن أختبر الخروج الجديد!

v     ليهلك الأنبياء الكذبة الذين تحالفوا مع صدقيا الشرير،

سلكوا في الفسق وكذبوا،

ادعوا النبوة، وجروا وراء الأحلام الكاذبة،

شغلوا قلوب البسطاء عنك بخزعبلاتهم الشريرة.

تركوا كلمتك الحية، وتمسكوا بالأوهام،

عوض الحنطة أكلوا القش!

تركوا كلمتك النارية،

ورفضوا مطرقة حبك،

ويل لهم فقد طلبوا وحي أنفسهم!

v     هب لي أن أقتنيك،

واشترك في مجلس الرب القدوس الحق!

فلا يجد الفسق له في مكانًا،

ولا يقدر الكذب أن يتسلل إلى أعماقي،

لا أعيش على أحلام واهية،

ولا أنشغل إلا باسمك أيها الحق السماوي!

أطلب كلمتك بشفتي كما بقلبي،

تلهب أعماقي بنار حبك،

وتضرب بمطرقة على خطاياي،

تسندني فأخلص!

كلمتك ليست بثقيلة، بل مبهجة وممتعة!

ما أعذبك وما أعذب كلمتك!

<<


 

 الاصحاح الرابع والعشرون

سلَّتا التين

يقدم الرب لإرميا رؤيا تشرح موقف الفريقين من السبي: فريق الذين خضعوا للسبي وحسبوه تأديبًا إلهيًا، وفريق المقاومين للسبي.

تُعتبر هذه الرؤيا ختامًا لكل ما قد جُمع عن النبوات ضد الملوك والأنبياء الكذبة، ومقدمة لوعود اللَّه الصادقة المسيانية. فإن كان التين الرديء جدًا يشير إلى صدقيا الملك والذين بقوا في أورشليم، فإن اللَّه يقيم عهده مع المسبيين ويجعلهم تينًا جيدًا جدًا... يهبهم قلبًا جديدًا ليدركوا أنه هو اللَّه (ع 7).

v     ماذا وراء الرؤيا؟

1. رؤيا سلَّتى التين 1-3 .

2. التين الجيد 4-7 .

3. التين الرديء 8-10 .

v    ماذا وراء الرؤيا؟

أولاً: حدثت هذه الرؤيا بعدما أُقتيد يكنياهو (يهوياكين) أسيرًا إلى بابل مع الأسرة المالكة وغيرهم من رجال يهوذا (2مل10:24-17). كان الذين قد بقوا في أورشليم ويهوذا مملؤين تفاؤلاً من نحو المستقبل. وقد بدأ الملك الجديد صدقيا في التخطيط للثورة ضد بابل (ص27)، وكان الأنبياء الكذبة الذين سبقوا فنادوا بأنه لن يتم الأسر ينادون بان ما قد حدث هو أمر عارض وأن العودة من بابل سريعة جدًا (ص28). أما إرميا النبي فنادى بان هذا الاتجاه خاطىء. حقا سيعود الشعب من بابل ولكن ليس في أيام صدقيا وأعوانه وإنما بعد .7 عامًا من السبي.

ثانيًا: إذ تحقق السبي البابلى الأول في عهد يكنيا ظن القاطنون في أورشليم أنهم موضع سرور اللَّه ورضاه، تركهم هناك لأجل تقواهم، وأن الذين حُملوا إلى بابل كانوا موضع غضب اللَّه ورفضه إياهم. ففي هذه الرؤيا يعلن الرب أن أفكار اللَّه غير أفكار البشر، وأن الأمر مناقض تمامًا لم يظنه الساكنون في أورشليم.

ثالثًا: أراد اللَّه بهذه الرؤيا أن يطمئن إرميا النبي أنه مع ما سيحل بيهوذا من خراب تبقى بقية مقدسة للَّه. ففي كل جيل توجد سلَّتان، سلَّة تضم تينًا جيدًا جدًا والأخرى تينًا رديئًا جدًا.

في الموجة الأولى للسبي البابلي ليهوذا تطَّلع الملك الشاب يكنيا البالغ الثمانية عشرة من عمره، فإذا بكل تطلُّعاته قد تبددت. لقد ظن شعبه كما ظن هو في نفسه أنه قادر على إنقاذ بلده، فإذا به بعد ثلاثة شهور من حكمه يُسحب مسبيًا إلى بابل، ومعه رجاله رؤساء يهوذا، وأيضًا المهرة من النجارين والحدادين، كما نُقلت خزائن القصر وبيت الرب إلى بلد غريب! صُدم هو ورجاله وكل الشعب أمام هذا الحدث الذي طالما أنذر به الرب على أفواه أنبيائه، وقد كذَّبه الأنبياء الكذبة!

1. رؤيا سلَّتي التين

"أراني الرب وإذا سلَّتا تين موضوعتان أمام هيكل الرب بعدما سبي نبوخذراصر ملك بابل يكنيا بن يهوياقيم ملك يهوذا ورؤساء يهوذا والنجارين والحدادين من أورشليم وأتى بهم إلى بابل" ع1.

أمام الحدث الواحد انقسم الكل إلى فريقين لا ثالث لهما، أحد الفريقين تمثله سلَّة التين الجيد جدًا، والفريق الآخر تمثله سلَّة التين الرديء جدًا، وليس من حالٍ وسط.

أولاً: حدث واحد أمامه تجاوب كل إنسانٍ ليكون نصيبه في السلَّة الأولى أو الثانية. ليس من أنصاف للحلول: إما الانتماء لمملكة اللَّه أو مملكة إبليس. وكما كتب القديس جيروم في رسالة شكر لاستوخيوم التي أرسلت له هدية تحوى كريزًا:

[ليتكِ تحتوين فواكه كتلك التي تنمو أمام هيكل الرب،

هذه التي قيل عنها "(التين) الجيد جيد جدًا".

اللَّه لا يحب شيئًا نصف نصف،

بينما يرحب بالحار ويتجنب البارد يقول في سفر الرؤيا إنه يتقيأ الفاتر من فمه (15:3،16)[i].]

ثانيًا: كانت سلَّتا التين موضوعتين أمام هيكل الرب، حيث يُقدم البشر إلى حضرة الرب، وهو وحده فاحص القلوب قادر أن يفرز التين الصالح من الرديء. الذين قبلوه بإخلاص وخضعوا لإرادته يُحسبون تينًا صالحًا، أما الذين يحتقرون وصيته ويهينونه فيُحسبون تينًا رديَّا ليس فيه مسرة ولا يصلح قط للطعام.

يقف الكل عند باب الهيكل الخارجي ليُفرز الصالحون ويدخلون إلى المقادس يتمتعون بشركة المجد، أما الأشرار فيبقون خارجًا. شبَّه الرب الصالحين بالعذارى الحكيمات اللَّواتى دخلن مع العريس السماوي إلى حجاله، والأشرار بالعذارى الجاهلات اللَّواتي بقين في الخارج (مت25).

ثالثًا: لماذا اختار التين من بين الفواكه؟

في تفسير سفر هوشع رأينا أن اللَّه غالبًا ما يشبه شعبه بالكرمة أو التين. الكرمة تشير إلى التفاف حبَّات العنب حول فرع الخشب إشارة إلى الكنيسة المجتمعة حول الصليب، تشارك السيد المسيح آلامه وقيامته. وأن العنب يُعصر فيصير خمرًا مفرحًا، هكذا تعيش الكنيسة متألمة ومتهللة، بل ومصدر فرح لكثيرين.

أما التين فيشير إلى عذوبة الوحدة، فآلاف البذور الرفيعة جدًا يحتضنها غلاف الوحدة والحب العذب، ويعطيها قيمة. كل بذرة في ذاتها لا تستحق إلا التخلص منها، لكن مع زميلاتها تقدم عذوبة لآكليها وشبعًا وصحة!

إذن سلَّتا التين تمثلان الشعب، اتحد المؤمنون معًا بغلاف الوحدة، وارتبطا بالحب النقي الطاهر فصاروا تينًا جيدًا جدًا، بينما اتحد المقاومون معًا بغلاف الوحدة في مقاومة الحق والارتباط معًا لتحطيم العمل الإلهي، فصاروا تينًا رديئًا جدًا.

رابعًا: ماذا يعني بالتين الباكوري؟

"في السلة الواحدة تين جيد جدًا مثل التين الباكوري" ع2.

دُعي التين الجيد "باكورة"، وبحسب الشريعة تُقدم البكور إلى هيكل الرب.

يرى الدكتور Shaw أن شجر التين في فلسطين يُنتج ثلاثة محاصيل في السنة: المحصول الأول ويُدعى الباكورة Boccore وذلك في منتصف أو نهاية شهر يونيو. وهذا هو ما يُشار إليه بالتين جيد جدًا. والثاني يُدعى Kermez أو التين الصيفي، ينضج قبل شهر أغسطس. والثالث يُدعى التين الشتوي حجمه أكبر وقاتم اللون، يبقى على الشجر طوال الشتاء ويُجمع في بدء الربيع، هذا النوع لا يصلح للأكل[ii]. الذين بقوا في أورشليم ويهوذا ولم يخضعوا للسبي يشبهون التين الشتوي الذي يبقى على الأشجار طوال الشتاء، لكنه لا يصلح للأكل، بل يُلقى في مزبلة أو يُحرق بالنار.

هذا وقد حُسب التين جيدًا أو رديئًا ليس مطلقًا وإنما نسبيًا بالمقارنة فيما بينهم.

2. التين الجيد

"ثم صار كلام الرب إليّ قائلاً:

هكذا قال الرب إله إسرائيل.

كهذا التين الجيد هكذا أنظر إلى سبي يهوذا الذي أرسلته من هذا الموضع إلى أرض الكلدانيين للخير.

واجعل عيني عليهم للخير وأرجعهم إلى هذه الأرض وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم.

وأعطيهم قلبًا ليعرفوني إني أنا الرب فيكونوا لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا لأنهم يرجعون إلى بكل قلبهم" ع4-7.

كان التين الذي ينضج مبكرًا في شهر يونيو يعتبر تينًا جيدًا (إش28:4، هو9:.1).

أُقتيد إلى السبي يكنيا وهو إناء مكسور ومرذول، ولكن معه الآلاف من العمال المهرة حُملوا إلى بابل لخدمة الملك ولحرمان أورشليم من عملهم أثناء الحصار (2مل16:24)، وكان أيضًا أشراف يهوذا، ولعلَّه دعاهم بالتين الجيد لأنه وُجد بينهم من كان صالحًا مثل النبيين حزقيال ودانيال.

مادامت السلتان قد وُضعتا أمام هيكل الرب كان يليق أن يكون كل التين جيدًا، لأنه لا يُقدم للرب إلا ما هو جيد، فالسلة التي بها التين الجيد تشير إلى النفوس المقدسة التي تُقدم للرب كبكورٍ له، أما السلة الثانية فتشير إلى النفوس التي تدنست وبقيت في دنسها وهي تمارس العبادة للَّه! أي تمزج عبادتها للَّه الحي بالفساد الذي تتمسك به.

3. التين الرديء

"وفي السلة الأخرى تين رديء جدًا لا يؤكل من رداءته" ع2.

"وكالتين الرديء الذي لا يؤكل من رداءته، هكذا قال الرب، هكذا أجعل صدقيا ملك يهوذا ورؤساءه وبقية أورشليم الباقية في هذه الأرض والساكنة في أرض مصر.

وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض عارًا ومثلاً وهزأة ولعنةً في جميع المواضع التي أطردهم إليها.

وأرسل عليهم السيف والجوع والوبأ حتى يفنوا عن وجه الأرض التي أعطيتهم وآباءهم إياها" ع8-10.

السلَّة التي تحمل تينًا جيدًا تمثل أولاد اللَّه الذين يقدمهم أبوهم للتأديب خلال الحب لأجل إصلاحهم، أما السلة الثانية فتشير إلى الأبناء العصاة الذين يُتركون لإرادتهم الذاتية في عنادهم المهلك.

للأسف قُدم التين الرديء أمام هيكل الرب، الأمر غير اللآئق، إذ كان الأفضل ألاّ ُيقدم شيء عن تقديم ما هو رديء.

تُعبر هذه الرؤيا عن مفهومٍ روحي عميق وهو أن صلاح الإنسان لا يقوم على موقع جغرافي معين وإنما على عطية اللَّه (القلب الجديد والفهم الجديد ع7)، التي توهب للمسبيين المشتاقين إلى حرية مجد أولاد اللَّه .

الذين ارتبطت قلوبهم بأورشليم في شكليات خارجية مع عصيان وإصرار على الفساد حُسبوا تينًا رديئًا جدًا، أما الذين حُرموا من أورشليم وفقدوا الهيكل بالجسد، لكن أعماقهم مرتبطة به بالروح، صاروا هم أنفسهم أورشليم الروحية وهيكل الرب المقدس!

بمعنى آخر أولئك الذين ارتبطوا بشكليات العبادة مع فساد الحياة صاروا أسرى في سلة التين الرديء جدًا، لا يصلحون للأكل بل يلقون خارجًا في المزبلة ؛ أما الذين يرفعون أعين قلوبهم للرب فإنه يردهم إلى أورشليم العليا ويقيمهم الرب في سلته المقدسة، ويُحسبون كطعامٍ شهي جدًا، كما قدم الرب نفسه خبزًا حيًا، يصيرون هم تينًا روحيًا جيدًا!

 ربما عني أيضا بالتين الرديء أولئك الذين هربوا إلى مصر وأقاموا هناك (ص34-44).

 
من وحي إرميا 24

احسبني تينًا جيدًا جدًا

أيها الخبز الحيّ!

v     في مرارة تطلع النبي إلى شعبك المسبي.

 فقد شعبك كرامته وحريته،

 وفقد سكناه في مدينة الملك،‍

 وعبادته في هيكل سليمان!

 لكن حساباتك أيها الرب غير حساباتنا،

 وفكرك يعلو عن أفكارنا،

 كما علت السموات عن الأرض!

v     رأي الذين في أورشليم كمن هم في سلة تين رديء للغاية،

 والمسببين كمن هم في سلة تين جيد جدًا!

 ويحي أنا الشقي،

 كم مرة عشت بجسدي في أورشليم،

 وأما قلبي فمبتعد عنك وعن هيكل قدسك!

 ألقيت بنفسي في سلة التين الرديء!

 ترى من يحملني إلى سلة نعمتك؟!

v     احملني بروحك القدوس إلى حضن أبيك، ‍‍

 فأحمل برك وتصير نفسي أورشليمك،

 وتتحول أعماقي إلى هيكل قدسك!

 وتصير كل طاقاتي الداخلية تينًا جيدًا جدًا! ‍

v     نزلت إلينا أيها السماوي،

 وقدمت حياتك الفائقة خبزًا سماويًا،

 نأكلك فنحيا إلى الأبد!

 ارفعنا إليك وأدخلنا إلى سلة حبك،

 نصير تينًا سماويًا،

 طعام فرح للسمائيين!

 يروننا فيتهللون ممجدين غنى نعمتك علينا!‍

v     في سلة حبك نصير تينًا جيدًا!

 تضم التينة بذورًا بلا عدد،

 حلوة المذاق،

 مرتبطة معًا بغلاف الحب والوحدة!‍

 لا تعتزل بذرة عن بقية البذور،

 وإلا فقدت برها فيك وعذوبتها بك!

 ضمنا كلنا معًا فيك،

 غلفنا جميعًا بروح الوحدة والحب والقداسة،

 يا من صرخت في ليلة آلامك قائلاً:

 قدسهم في حقك...

 لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضا مقدسين في الحق...

 ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك،

 ليكونوا هم أيضا فينا!

ليكون فيهم الحب الذي أحببني به وأكون أنا فيهم.

<<


الأصحاح الخامس والعشرون

كأس خمر السخط

يرى البعض[496] أن هذا الأصحاح يمثل ختامًا للدرج الذي أملاه إرميا على كاتبه باروخ عام 604 ق.م.، وأن وضعه الأصلي بعد الأصحاحات العشرين الأولى. ففي ذلك الحين أقام نبوخذنصر نفسه سيدًا على منطقة الشرق الأوسط من مصر إلى الميصة (ما بين النهرين). وأدرك إرميا أنه قد هبَّت الريح القادمة من الشمال على يهوذا وأورشليم فعلاً، وهي تحرك الجيش البابلي.

في هذا الأصحاح يقدم لنا النبي ملخصًا لخدمته خلال الثلاث وعشرين عامًا السابقة كنبيًا للشعوب، هذه الخدمة التي رفضها الجميع، كما سبقوا فرفضوا خدمة الأنبياء السابقين له.

1. تاريخ النبوة[1-3].

2. تأكيد الدمار[4-10].

3. مدة الدمار[11-14].

4. ملخص النبوات ضد الأمم[15-28].

5. قضاء الرب للمسكونة [30-38].

1. تاريخ النبوة:

كل الأحاديث النبوية التي سبق فألقاها إرميا إما أنها لا تحمل تاريخًا بالمرة أو تحمله بطريقة عامة كالقول: "في أيام يوشيا" (3: 6)، أو "في بدء حكم يهوياقيم" (26: 1)، لكن هنا وفي بعض الأحاديث التي أُلقيت فيما بعد وضع تاريخًا محددًا لها كما في (28: 1؛ 32: 1؛ 36: 1؛ 39: 1 الخ)[497].

"الكلام الذي صار إلى إرميا عن كل شعب يهوذا في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا.

هي السنة الأولى لنبوخذنصر ملك بابل.

الذي تكلم به إرميا النبي على كل شعب يهوذا وعلى كل سكان أورشليم قائلاً" [1-2].

يرجع تاريخ الفقرة إلى عام 605 ق.م. في السنة الرابعة لملك يهوياقيم التي دارت فيها معركة كركميش الفاصلة، ونتيجة هذه المعركة تم طرد المصريين، واستولت بابل على يهوذا لتصبح جزءًا من إمبراطوريتها (2 مل 24: 1).

الادعاء بوجود خطأ في التواريخ حيث أن السنة الرابعة من حكم يهوياقيم في [1] هي نفسها المشار إليها بأنها السنة الثالثة من حكم نفس الملك في دانيال (1: 1)، مبني على سوء فهم للطرق القديمة في الشرق لترتيب التواريخ الزمنية. ففي فلسطين في القرن السابع قبل الميلاد كانت تُحسب سنة تبوء الملك للعرش إنها السنة الأولى في الحكم، بينما في بابل كانت هذه السنة تحسب مستقلة ثم يتبعها السنة الأولى من الحكم الفعلي. وهكذا احتسب إرميا هذه السنة طبقا للنظام المعمول به في فلسطين بينما اتبع دانيال النظام المعمول به في بابل.

السنة الرابعة لحكم يهوياقيم (506 ق.م.) هي ذات السنة التي فيها أملى النبي إرميا نبوات على باروخ الكاتب، وقد قرأ الدرج أمام الملك (36: 1-26). وإذ أحرقه الملك؛ فأُعيد كتابة درج جديد وصار نواة لتجمعات نبوات إرميا النبي (36: 27–32). القطعة التي بين أيدينا (25: 1-14) إما أنها ملخص للدرج أو مقدمة له تُقرأ قبل قراءة الدرج[498].

وتعتبر هذه السنة نقطة تحول خطيرة في تاريخ يهوذا بعد هزيمة فرعون نخو بواسطة البابليين.

حذفت الترجمة السبعينية التعليق المختص بنبوخذنصر.

"من السنة الثالثة عشرة ليوشيا بن آمون ملك يهوذا إلى هذا اليوم هذه الثلاث والعشرين سنة صارت كلمة الرب إلى فكلمتكم مبكرًا ومكلمًا فلم تسمعوا" [3].

إذ يعتبر إرميا النبي أن خدمته بدأت في السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا سنة 627 ق.م. يتساءل البعض إن كان هذا التاريخ هو بداية أول رسالة تسلمها من الله لإعلانها على الشعب، أم أنه تاريخ ميلاده حيث دُعي للخدمة وهو بعد في بطن أمه. على أي الأحوال بدأ إرميا خدمته مبكرًا جدًا.

الفترة من السنة الثالثة عشرة ليوشيا حتى السنة الرابعة من يهوياقيم تضم 23 عامًا، منها 19 عامًا في أيام يوشيا و4 أعوام في أيام يهوياقيم، بالإضافة إلى 3 شهور مُلك يهوآحاز.

2. تأكيد الدمار:

"وقد أرسل الرب إليكم كل عبيده الأنبياء مبكرًا ومرسلاً فلم تسمعوا ولم تميلوا أذنكم للسمع.

قائلين ارجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء وعن شر أعمالكم واسكنوا في الأرض التي أعطاكم الرب إياها وآباءكم من الأزل وإلى الأبد.

ولا تسلكوا وراء آلهة أخرى لتعبدوها وتسجدوا لها ولا تغيظوني بعمل أيديكم فلا أسيء إليكم.

فلم تسمعوا لي يقول الرب لتغيظوني بعمل أيديكم شرًا لكم.

لذلك هكذا قال رب الجنود:

من أجل أنكم لم تسمعوا لكلامي،

هأنذا أرسل فأخذ كل عشائر الشمال يقول الرب وإلى نبوخذنصر عبدي ملك بابل وآتي بهم على هذه الأرض وعلى كل سكانها وعلى كل هذه الشعوب حواليها فأحرمهم وأجعلهم دهشًا و صفيرًا وخربًا أبدية.

وأبيد منهم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت الأرحية ونور السراج" [4-10].

يُلاحظ في العبارات السابقة الآتي:

أولاً: هنا يوجه إرميا التماسه إلى عامة الشعب وليس للطبقة الحاكمة فقط.

ثانيًا: يؤكد إرميا النبي أن ما نادى به خلال الثلاث وعشرين سنة لم يكن بالأمر الجديد، فقد سبق وأرسل لهم الله أنبياء منذ وقتٍ مبكرٍ ينذرهم بذات الرسالة. فمن جانب ليس لهم عذر بسبب مقاومة الأنبياء الكذبة له. لو كان إرميا هو النبي الفريد في حمل هذه الرسالة لتشككوا، لكن سبقه إشعياء النبي وغيره، فما هو عذرهم؟! ومن جانب آخر، فإن الله تمهل عليهم سنوات هذه عددها لعلَّهم يرجعون إلى أنفسهم ويتوبون، لكنهم عوض التوبة استهانوا بطول أناة الله ولطفه، ظانين أن الله يهدد ولا يؤدب!

ربما أراد النبي تأكيد استمرارية خدمته لهم، فقد قضى من عمره هذه السنوات الطويلة دون أدنى استجابة من جانبهم، وقد بقى وسيبقى يعلن كلمة الله لهم بلا ملل!

ثالثًا: بقوله "عمل أيديكم" [6] ربما يشير إلى صنع التماثيل أو الأوثان التي يصنعونها ثم يتعبدون لها، وقد تشير إلى الشر الذي يرتكبوه، وكأن شرهم قد تمثّل في عبادتهم للأوثان كما في تصرفاتهم الشريرة وسلوكهم الرديء.

رابعًا: يقدم الحكم على يهوذا باسم "رب الجنود" [8] الذي يستدعي كل عشائر الشمال وسكانها ضد يهوذا. هنا يقوم الرب كقائد جنود لا للدفاع عن شعبه بل لتأديبهم، مستخدمًا نبوخذنصر عبدًا له يتمم إرادته. إنه ليس عبدًا له لأنه متعبد له، وإنما بكونه أداة في يد الرب... يقيم به حربًا مقدسة ضد شعبه!

خامسًا: الإشارة لعشائر الشمال [9] هي إشارة للطبيعة المعقدة للإمبراطورية الأشورية وخليفتها الإمبراطورية البابلية.

سادسًا: يؤدب يهوذا وكل الشعوب التي حواليها، ربما لأنها اتكلت عليها وأخذت بمشورتها عوض الاتكال على الرب واستشارته. يجعلهم في حالة رعب (دهشًا) وخرابٍ تامٍ، وينزع عنهم كل علامات الحياة، من أفراح وزيجات وصوت طحن الغلة (الأرحية) والنور، كأنهم يصيرون في حالة موت: أحزان وفقدان للعائلات، وعدم وجود طعام، مع ظلمة! يصيرون كمن هم في قبورٍ قابضة بلا حياة. بجانب هذا يسقطون تحت العبودية حيث تسبيهم بابل 70 عامًا.

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن النبوة هنا قد تحققت بالأكثر لا في السبي البابلي بل في سبيهم بجحد الإيمان بالسيد المسيح المحيي.

v     عندما جاء الرب ووجد إسرائيل بلا ثمر لعنهم خلال معجزة شجرة التين التي قال عنها: "لا يكون منكِ ثمر بعد" (مت 21: 19). بسرعة انتهت شجرة التين هذه بلا ثمر حتى تعجب تلاميذه عندما رأوها قد جفت، بهذا تحققت كلمات النبي (25: 10)[499].

البابا أثناسيوس الرسولي

سابعًا: يقول: "آتي بهم على هذه الأرض"... ماذا يعني هذا؟

حين يرفض الشعب الالتصاق بالسماوي يتركهم ليلتصقوا بالأرض فيصيرون أرضًا، لا سماء. لهذا عندما جاء مسيحنا السماوي ليردنا من سبينا، فتح بدم ذبيحته طريق السماء الملوكي، فلا يُقال عنَّا: "آتي بهم على هذه الأرض"، بل آتي بهم إلى السماء عينها. لهذا يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الإفخارستيا كرحلة إلى السماء، قائلاً:

v     كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة[500].

v     أُهرق هذا الدم فاتحًا طريق السماء![501].

v     مادمنا قد صرنا سمائيين، وحصلنا على ذبيحة كهذه، فلنخف! يليق بنا ألا نستمر في زحفنا على الأرض، ومن يريد منَّا ألاَّ يكون بعد على الأرض، فإنه يستطيع الآن... إذ نقترب من الله نصير في السماء، بل ماذا أُريد من السماء إن كنت أرى رب السماء وصرت أنا نفسي سماءً؟!... أقصد لنتمثل ببولس الذي وهو على الأرض يقضي حياته في السماء[502].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا هو حال النفس التي تدخل إلى حالة عداوة مع الله ورغبة في الاستقلال عنه، هذه التي لا تستجيب لصوت الرب على أفواه أنبيائه. إنها تفقد اتحادها بالله مصدر حياتها، فتُحسب ميتة، أما علامات الموت فهي:

أ. يجعلها دهشًا، أي في حالة رعب، لا لأسباب خارجية، وإنما لفقدان الرب مصدر السلام. ترتعب من لا شيء، وتهرب إلى حيث لا تدرى.

ب. تصير صفيرًا، يستهزئ الكل بها، لأنها انهارت تمامًا، وصارت مثلاً رديئًا، يسخر بها الجميع.

ج. حلّ بها الخراب الأبدي، لا طريق للإصلاح إلا الإقامة من الأموات... تحتاج إلى ذاك الذي يحيي ويخلص من الموت!

د . تفقد الفرح الداخلي: لا يُسمع فيها صوت الطرب وصوت الفرح... لا تحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، ولا شركة مع السمائيين المسبحين بلا انقطاع!

هـ. تحرم من روح الأسرة أو الحياة الكنسية الجماعية، فيبيد منها صوت العريس وصوت العروس! تسيطر الـ ego على النفس فتحرمها من حياة الشركة والاتحاد مع الغير في الرب، فلا تعرف العائلة الإلهية حيث يتقدم الرب عريسًا لكل النفوس التي هي عروسه الواحدة!

و. تفقد طعامها الروحي، حيث يبيد صوت الأرحية، فلا يطحن فيها حنطة طعامًا للناس ولا شعيرًا طعامًا للحيوانات. تفقد النفس طعامها، ويفقد الجسد مجده الداخلي... ويدخل الإنسان بكليته في مجاعة لكلمة الرب وحرمان من الطعام الأبدي!

ز. يحوط بها ظلام الجهل وعدم المعرفة حيث "لا نور سراج". تفقد بصيرتها الداخلية، ونور عينيها، فلا تعاين الأمجاد المعدة لقديسي الرب.

اصلاح مثل هذه النفس يحتاج إلى تدخلٍ إلهي، لتتمتع بالعتق من سبي الخطية والعودة إلى الأصحاح الأحضان الإلهية، حيث تنعم بالحياة المقامة المجيدة. تجد الله نفسه سر سلامها ومجدها وفرحها وشبعها الدائم واستنارتها.

3. مدة الدمار:

"وتصير كل هذه الأرض خرابًا ودهشًا وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة.

ويكون عند تمام السبعين سنة أني أعاقب ملك بابل وتلك الأمة يقول الرب على إثمهم وأرض الكلدانيين وأجعلها خربًا أبدية.

وأجلب على تلك الأرض كل كلامي الذي تكلمت به عليها كل ما كتب في هذا السفر الذي تنبأ به إرميا على كل الشعوب.

لأنه قد استعبدهم أيضا أمم كثيرة وملوك عظام فأجازيهم حسب أعمالهم وحسب عمل أياديهم" [11-14].

هذه هي المرة الأولى التي يُشار فيها إلى مدة السبي البابلي بكونها سبعين عامًا، يحسبها البعض إما منذ بدأ النبي حديثه عن السبي سنة 604 ق.م. أو عندما تم ترحيل أول دفعة إلى السبي سنة 597 ق.م.، أو عند ترحيل عدد ضخم سنة 587 ق.م.

يقول Keil بأن رقم 70 ليس رقمًا تقريبيًا، بل هو رقم تاريخي دقيق، نبوة دقيقة عن السبي. هذا يُفهم مما ورد في (2 أي 36: 21-22) حيث قيل: "وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس لأجل تكميل كلام الرب بفم إرميا نبَّه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداءً في كل مملكته وكذا بالكتابة قائلاً: هكذا قال كورش ملك فارس إن الرب إله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من جميع شعبه، الرب إلهه معه، وليصعد". وجاء في دانيال: "في السنة الأولى من ملكه (داريوس) أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم..." (دا 9: 2).

يرى كثير من المفسرين ومؤرخي الكتاب المقدس أن فترة السبعين عامًا هي ما بين السنة الرابعة ليهوياقيم (606 ق.م) حتى السنة الأولى لملك كورش وتسلُّطه على بابل عام 536 ق.م. يحسبونها تاريخيًا هكذا.

- و 43 = مُلك نبوخذنصر.

- و 2 عامان = ابنه أويل مرودخ.

- و 4 أعوام = Neriglissor

- و 9 شهور = Labrasarchad

- و 17 عامًا = Naboned

 - 1 عام = (كسور بين كل ملك وآخر).

- و 2 عامان = بدء ملك داريوس.

____________

9 و69 سنة

يتفق هذا مع حسابات الكتاب المقدس:

- و 7 أعوام = عهد يهوياقيم (من السنة الرابعة حتى الحادية عشرة).

- و 3 شهور = عهد يهوياكين.

- و 37 عامًا      = من سبي يهوياكين حتى جلوس أويل مرودخ [(راجع 2 مل 25: 27-30) "في السنة السابعة والثلاثين لسبي يهوياكين ملك يهوذا في الشهر الثاني عشر في السابع والعشرين من الشهر رفع أويل مرودخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين ملك يهوذا من السجن وكلمه بخير وجعل كرسيه فوق كراسي الملوك الذين معه في بابل..."].

- و 9 و 23 = حتى سقوط بابل.

- و 2 = العامان الأولان لداريوس.

_______

- 70 عامًا تمامًا.

مع دقة الرقم بحسب حسابات مفسري الكتاب والمؤرخين، يحمل رقم 70 معني رمزيًّا وهو كمال العمل الإلهي في حياتنا الزمنية. رقم 7 يشير إلى الكمال، ورقم 10 يشير إلى الحياة الزمنية التي يجب أن تحكمها الوصايا العشرة، لذلك فإننا وإن كنَّا كمن في السبي ننتظر كمال المجد الأبدي لنصير بالحق الملكة السماوية شريكة المجد... فإننا خلال أعوامنا السبعين ننعم بعمل الله الدائم، حيث يهيئنا بروحه القدوس لنحمل صورته فنصير العروس الملكة الحرة.

أعوامنا على الأرض يُرمز لها برقم 70 حيث نتلمس كمال عمل الله الخلاصي لأجلنا حتى ننطلق إلى سمواته.

v     عندما ينتهي كل الزمن نعود إلى مدينتنا، كما عاد هذا الشعب بعد سبعين عامًا من السبي البابلي. لأن بابل تشير إلى هذا العالم. حيث أن "بابل" تعني "ارتباكًا"... هكذا كل شئوننا البشرية مرتبكة، هذه التي لا تُنسب لله. في هذا الارتباك، في هذه الأرض البابلية أُسرت صهيون. ولكن "عندما ردَّ الرب سبي صهيون صرنا مثل المستريحين" (مز 126: 1)، أي أننا نفرح بتقبلنا التعزية[503].

القديس أغسطينوس

يُلاحظ أن السفر المذكور في [13] هو أصل النبوة التي دمرت على يد يهوياقيم (22: 36) و"الأمم الكثيرة" في [14] هما مادي وفارس اللذين اخضعا بابل تحت حكم كورش عام 539 ق.م.

2. ملخص النبوات ضد الأمم:

الله ليس إله إسرائيل وحده، بل إله كل الشعوب، يهتم بالجميع، وها هو يرسل إرميا نبيه "نبيًّا للشعوب". كما يبادر الله ببركاته على شعبه لا ليحرم الشعوب الأخرى، بل ليهيئ الكل خلال الخميرة المقدسة للتمتع بفيض نعمته، هكذا يبدأ هنا بتأديب شعبه بسبب إصرارهم عل عدم التوبة، بهذا تكون البداية لتسقط أمة وراء أمة تحت ذات التأديب، مادام ليس هناك رجوع إلى الله بالتوبة... وأخيرًا يسقط العالم كله تحت التأديب حتى بابل اليد المستخدمة للتأديب! هنا إعلان صارخ عن فساد الطبيعة البشرية والحاجة إلى تدخل إلهي لإقامة طبيعة جديدة تتجاوب مع خالقها!

"لأنه هكذا قال لي الرب إله إسرائيل.

خذ كأس خمر هذا السخط من يدي واسقِ جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها.

فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا من أجل السيف الذي أرسله أنا بينهم.

فأخذت الكأس من يد الرب وسقيت كل الشعوب الذين أرسلني الرب إليهم.

أورشليم ومدن يهوذا وملوكها ورؤساءها لجعلها خرابًا ودهشًا وصفيرًا ولعنة كهذا اليوم.

وفرعون ملك مصر وعبيده ورؤساءه وكل شعبه.

وكل اللفيف وكل ملوك أرض عوص وكل ملوك أرض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية أشدود وأدوم وموآب وبني عمون.

وكل ملوك صور وكل ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر،

وددان وتيماء وبوز وكل مقصوصي الشعر مستديرًا.

وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية،

وكل ملوك زمري وكل ملوك عيلام وكل ملوك مادي،

وكل ملوك الشمال القريبين والبعيدين كل واحد مع أخيه وكل ممالك الأرض التي على وجه الأرض،

وملك شيشك يشرب بعدهم.

وتقول لهم: هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: اشربوا واسكروا وتقيأوا واسقطوا ولا تقوموا من أجل السيف الذي أرسله أنا بينكم.

ويكون إذا أبوا أن يأخذوا الكأس من يدك ليشربوا أنك تقول لهم:

هكذا قال رب الجنود تشربون شربًا.

لأني هأنذا أبتدئ أسيء إلى المدينة التي دُعي اسمي عليها فهل تتبرأون أنتم؟!

لا تتبرأون لأني أنا أدعو السيف على كل سكان الأرض يقول رب الجنود" [15-29].

v     عندما سمع النبي هذا لم يرفض، لم يقل على مثال موسى: أسألك يا رب، إني لست مستحقًا، أرسل آخر.

إذ كان محبًا للشعب ومفكرًا في الأمم المعادية أنها تُقتل وتسقط بشرب الكأس، قبل كأس الخمر بفرح، ولم يعلم أن أورشليم كانت من بين كل الأمم[504].

القديس جيروم

يُستخدم الكأس عن مصير شخصٍ أو أمةٍ كنبوة عن مستقبلٍ مفرحٍ جدًا كما في (مز 23: 5) أو مؤلمٍ للغاية، وقد دعى السيد المسيح آلامه لحساب البشرية كأسًا (مت 26: 39). هنا يرمز كأس الخمر للغضب الإلهي، وقد استخدمت في (حب 2: 16؛ إش 51: 17، 21-22 ؛ حز 23: 32-34، إر 13: 12 الخ؛ 19: 12؛ مرا 4: 21؛ مز 65: 5؛ 75: 9؛ حب 2: 15؛ زك 12: 2 الخ).

كان الالتزام بشرب الكأس إجراء يُستخدم لاختبار براءة الشخص أو جرمه. وقد جاء في (عد 5: 11-31) يقدم الكاهن للمرأة المُتهمة بخيانة زوجها ماءً مقدسًا في إناءٍ خزفي ويضع عليه من غبار مسكنها... ثم يقدم لها ماء اللعنة، فان كانت قد تنجست يدخل ماء اللعنة المرّ فيورم بطنها وتسقط فخذها وتصير المرأة لعنة في وسط شعبها.

الكأس التي يقدمها هنا إرميا النبي للشعوب هو السيف الذي تُضرب به هذه الشعوب فتترنح كالسكارى بلا وعي من هول الحدث، يفقدون عقولهم ويصيرون كالمجانين. يتساءل البعض: كيف قدم إرميا للملوك كأس غضب الله؟ هل قام برحلة لملوك وشعوب مختلفة؟ أم قدم الكأس لسفرائهم في أورشليم؟ إنه لم يتسلم كأس خمرٍ من يد الله بل كأس السخط الإلهي لا ليشربوه بأفواههم فتترنح أجسادهم، إنما هو كأس غير مادي يحمل غضبًا لا تشربه الأجساد. العمل الذي قام به إرميا هو رسالة تؤكد حقيقة السخط الإلهي على الشر والأشرار المصرين على شرهم، يعلنها النبي في أورشليم أمام الملك والشعب، وتبلغ إلى الملوك والشعوب المحيطة.

في سفر إشعياء إذ يؤكد الله لأورشليم أنها تشرب من كأس غضبه الذي أعدته بعصيانها، إنما إلى حين، إذ يقول:

"انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه ثقل كأس الترنح، شربت، مصصت...

لا تعودي تشربينها في ما بعد...

استيقظي، استيقظي، إلبسي عزِّك يا صهيون،

البسي ثياب جمالك يا أورشليم " (إش 51: 17، 22؛ 52: 1).

ويلاحظ هنا:

1. كل الشعوب المذكورة في الأصحاحات (46-51) مدرجة هنا ماعدا دمشق. لقد دعي إرميا نبيًا للشعوب (1: 5).

2. أعطى الكأس أولاً لأورشليم ثم لمدن يهوذا وملوكها ورؤسائها [18]، فإذ لهم معرفة أكثر من غيرهم يستحقون التأديب قبلهم.

3. يأتي بعد ذلك بالأمم الوثنية، مبتدأً بفرعون ملك مصر وعبيده ورؤسائه وكل شعبه [19]، لأن أورشليم قد اعتمدت على فرعون وجيشه للدفاع ضد بابل، لذا يستحق الكأس بعد يهوذا مباشرة.

4. بعد مصر يتجه نحو الجنوب شرقي وغربي يهوذا، أمة فأمة، ففي [20] نجد عوص وبلاد فلسطين شرقي مصر وعلى حدودها.

ذكر ملك عوص [20] موطن أيوب (أي 1: 1 ؛ مراثي 4: 21) الواقعة في عبر الأردن، إما في حوران جنوب دمشق أو في المنطقة الواقعة بجوار أدوم في شمال الجزيرة العربية وعلى حدود مصر.

5. يسقط تحت التأديب "كل اللفيف" مع فرعون وعبيده ورؤسائه... وقد ذُكر "اللفيف"  في (خر 12: 38؛ نح 13: 3) ليصف الجماعة المختلطة الخارجة من مصر مع الإسرائيليين. عادة يُقصد باللفيف أية جماعة مختلطة من أجناس متباينة ترتبط بشعبٍ واحدٍ وتسكن بينهم كجماعة غريبة[505].

6. مثلت فلسطين بالمدن الرئيسية: أشقلون وغزة وعقرون وأشدود (يش 13: 1؛ 1 صم 6: 4)، ولم تُذكر المدينة الخامسة جت، ربما لأنها كانت قد انهارت في ذلك الوقت[506]، أو لأنها لم تعد بعد عاصمة لمملكة مستقلة لهذا لم تُذكر أيضًا في (عا 1: 6؛ صف 2: 4، زك 9: 5).

7. يتجه بعد ذلك نحو الشرق في [21] حيث ممالك أدوم وموآب وبني عمون، وفي [22] يتجه نحو الغرب حيث الفينيقيون ومستعمراتهم.

8. في [23-24] نجد القبائل العربية في الصحراء الممتدة من فلسطين إلى الفرات.

ددان [23]: شعب كوشي في جنوب العربية، جاء عن كوش بن حام (تك 10: 7). جاء في (تك 25: 3) أنه من نسل ابراهيم عن قطورة بعد موت سارة. ليس صعبًا أن نفهم هذا الارتباط إن تذكرنا النسب بين العربية وكوش [20]. كانوا رجال تجارة (إش 21: 3؛ حز 27: 1، 20؛ 38: 13؛ أي 6: 19) يقطنون جنوب الأدوميين (25: 23؛ 49: 8). لا يزال الاسم باقيًا في ديدان جنوب غربي تيماء. أما ددان الحديثة فهي "العُلا" واحة في وادي القرى شمال الحجاز.

"تيماء" قبيلة عربية تسكن في المناطق الصحراوية وراء حاران (تك 25: 15)؛ و "بوز" قبيلة عربية من نسل ناحور أخو إبراهيم (تك 22: 21) تقطن على الطريق السياحي من دمشق إلى مكة، ما بين تبوق ووادى القرى.

9. ثم أقصى الشرق في [25] عيلام ومادي، بعد ذلك يذكر ملوك الشمال القريبين والبعيدين، وأخيرًا كل ممالك الأرض [26].

10. إن كان الله يستخدم بابل للتأديب، فيعطيها أن تسيطر على العالم كله في ذلك الحين فإنه يعود فيحاكمها على شرها بعد ذكره كل ممالك الأرض، وقد دُعيت هنا "شيشك" [26] وهو اسمها الشفري (51: 41). ربما لكي لا يثير السلطات البابلية ضده. يرى Keil أن الأصل العبري يعني "يغطس"، وكأن التهديد هنا أن بابل تغطس ولا تعود تقوم بعد.

11. أوضح إرميا النبي أن الجميع يشربون من هذه الكأس حتى النهاية [27]، وإن رفضوا فسيشربونه بغير إرادتهم [28].

ليس من يستعفي من شرب هذا الكأس؛ فإن كان الله قد سمح لشعبه أن يشربه، فكيف لا تشربه بقية الشعوب [29]؟!

3. قضاء الرب للمسكونة:

"وأنت فتنبأ عليهم بكل هذا الكلام وقل لهم:

الرب من العلاء يزمجر، ومن مسكن قدسه يطلق صوته، يزئر زئيرًا على مسكنه بهتاف كالدائسين يصرخ ضد كل سكان الأرض.

بلغ الضجيج إلى أطراف الأرض، لأن للرب خصومة مع الشعوب، هو يحاكم كل ذي جسد، يدفع الأشرار للسيف يقول الرب.

هكذا قال رب الجنود: هوذا الشر يخرج من أمة إلى أمة، وينهض نوء عظيم من أطراف الأرض.

وتكون قتلى الرب في ذلك اليوم من أقصاء الأرض إلى أقصاء الأرض، لا يندبون ولا يضمون ولا يدفنون.

يكونون دمنة على وجه الأرض.

ولولوا أيها الرعاة واصرخوا وتمرغوا يا رؤساء الغنم لأن أيامكم قد كملت للذبح وأبددكم فتسقطون كإناء شهي.

ويبيد المناص عن الرعاة والنجاة عن رؤساء الغنم.

صوت صراخ الرعاة وولولة رؤساء الغنم.

لأن الرب قد أهلك مرعاهم.

وبادت مراعى السلام من أجل حمو غضب الرب.

ترك كشبلٍ عيصه (عرينه) لأن أرضهم صارت خرابًا من أجل الظالم ومن أجل حمو غضبه" [30-38].

1. في أسلوب شعري تتغير الصورة إلى منظر أسدٍ مزمجرٍ (عا 1: 2؛ هو 11: 10). هنا يختلف التشبيه عن النصوص الأخرى، فإن صوت الزئير لا يخرج من صهيون ولا من أورشليم بل من الأعالي من مسكنه المقدس في السموات، لأن التأديب لا يصدر ضد الأمم الوثنية فحسب، بل ضد شعبه أيضًا ومدينته.

2. يزأر الله ليؤدب البشرية المُصرَّة على العصيان؛ زئيره يشبه صياح المحاربين.

3. يُسمع زئيره وسط الرعود (خر 19: 16) ؛ وفي العاصف (23: 19؛ عا 1: 2، يؤ 4: 16).

يحذرهم الرب من التباطئ فالكارثة تنتشر بسرعة من أمة إلى أمة، دون تحديد لأسماء الأمم، كعاصفة قوية تهب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها [32].

4. يصرخ كالدائسين العنب.

5. أما الرعاة أو سادة القطيع فيُطلب منهم أن يولولوا ويصرخوا ويتمرغوا في التراب [34]، فقد صاروا ككباشٍ مشتهاة للذبح خلال التأديب والمرارة.

جاء في الترجمة العربية "كاناء  Sشهيkeele " أما في الترجمة السبعينية فهي "ككباشٍ  kikli مشتهاة".

6. يدخل الرب في خصومة قانونية ليحاكم كل البشرية [31]. كأنه وهو الديان لا يحكم على الشعوب، بل يسلمهم إلى القضاء، لكي يعطيهم فرصة للدفاع أو التوبة.

7. يحذرهم أيضا من السلام الكاذب، إذ يظنون أنهم في وسط مراعى السلام يمارسون سلطانهم كرعاة ورؤساء، ولم يدركوا أن الأسد قادم، ومراعيهم تتحول إلى خراب، ويسقطون تحت السيف بسبب الغضب الإلهي.

 

 


 

من وحي إرميا 25

نفسي مُرّة من كأس السخط

يا إله كل الشعوب!

v     تمررت نفس إرميا نبي الشعوب، ‍

فقد سلمه الله كأس السخط لتشرب منه كل الأمم!

تشرب منه يهوذا مع كل الدول المحيطة،

حتى بابل العظيمة تتجرعه بعد سبعين عامًا من مجدها!

ليتني أشارك مشاعر نبي الشعوب، قائلاً:

نفسي مرّة من كأس السخط يا إله كل الشعوب!

v     بعد جهاد دام ثلاث وعشرين عامًا بلا ثمرٍ وبغير مللٍ،

وبعد كفاح أنبياء كثيرين سابقين،

تطلع إرميا إلى كأس السخط الذي تشربه كل البشرية!

رآه كأس غضب الله ضد الشر،

أعده الإنسان بنفسه،

هو من عمل يديه!

v     رأي إرميا الشعوب تُساق إلى السبي البابلي،

إلى أرضٍ غريبةٍ وبلدٍ غريبٍ.

رأي مذلَّة النفس المسبية التي خلقها الله لتنعم بكمال مجد الحرية.

خرجت إلى أرض غريبة إذ صارت هي نفسها أرضًا!

أرادها الله لها أن تكون سماءً يقطنها بنفسه،

فاختارت أن تكون أرضًا تمتلئ بوحل هذا العالم الغريب!

v     صارت دهشًا، في رعبٍ، لفقدانها إلهها مصدر سلامها!

ترتعب من لا شيء، وتهرب وليس من ملجأ!

تركت إلهها صخرة حياتها وملجأها!

v     صارت صفيرًا، يستهزئ الكل بها!

العروس المختارة، الملكة التي تجلس في السمويات،

صارت عارًا وخزيًا للجميع!

v     حلّ بها الخراب التام،

دخلت إلى الموت، أو دخل الموت إلى أعماقها،

من يقدر أن يقيمها ويرد لها الحياة؟!

v     فقدت روح الفرح والطرب،

لم تعد تشرب من خمر الروح المفرح،

ولا تجد أحضان العريس المفتوحة لها!

توَقَّف قلبها عن التهليل، ولسانها عن التسبيح!

صارت الشركة مع السمائيين لها خيالاً!

وصار لها ملكوت الله المفرح بلا وجود!

v     لا يُسمع في داخلها صوت الأرحية حيث تطحن الغلال!

من أين تأتي بالغلال، وقد صارت جنتها وحقولها براري؟!

كيف تشبع الغير هذه التي تنهار جوعًا؟!

تقرأ الكتاب المقدس فلا تنعم بالكلمة الإلهية!

لا تجد النفس قمحًا روحيًا!

هوذا قد حلَّت بها مجاعة كلمة الرب!

v     لا يوجد بها نور سراج!

حلّ بها ظلام الجهالة،

وانطمست عيناها الداخليتان عن رؤية كل ما هو إلهي!

دخلت كما إلى ظلمة القبر بلا رجاء!

v     الآن أصرخ إليك يا إله كل الشعوب:

متى تنتهي سنوات السبي السبعين؟!

لتأتِ بنفسك يا كلمة الله، يا محرر النفوس؟!

فيك وحدك تجد كل الشعوب مجد حرية أولاد الله!

v     عوض الرعب أجدك أنت سلامي،

فيك اختفي يا صخرة قلبي وملجأ حياتي!

أنت هو قوتي... أنت هو خلاصي!

v   عوض الصفير أجدك مجدي الأبدي!

تقيمني عروسًا وملكة،

بتولاً طاهرًا مع أبناء كثيرين،

حيثما حللت يا حمل الله خذني معك،

إلى مجدك الأبدي!

إلى حضن أبيك!

v     عوض الخراب التام والموت أجدك حياتي!

أنت قيامتي وبهجتي!

بك تقوم نفسي لترى شركة المجد الداخلي!

بك يقوم جسدي ليحمل طبيعة جديدة!

لقد متُّ مع آدم الأول لأقوم معك يا آدم الثاني!

v     عوض الكآبة تسقيني خمر حبك!

أنعم بفرح الروح، ولا يقدر أحد أن ينزعه عني!

أعماقي تتهلل بك،

جسدي ولساني وكل كياني يسبحون!

ترتفع أعماقي مع السمائيين لترنم بلا انقطاع!

أعرف شركة القديسين فتصير حياتي عيدًا مستمرًا!

v     عوض الجفاف الشديد تقيم في داخلي أرحية،

تطحن كلمة الله (الغلال) في أعماقي،

ينعم بها الكل فيشبعون ولا يجوعون!

نعم لتتحول كلمتك في أعماقي إلى طعامٍ روحي لكل جسدٍ ونفسٍ!

v     عوض الظلام يُعلن روحك القدوس في،

هو نور ونار!

لينر أعماقي وليحرق الأشواك الخانقة لنفسي!

ليحوّلني إلى سراجٍ منيرٍ،

فأسمع صوتك لي:

"أنتم نور العالم!"

<<


 

الأصحاحات 26-29

 

حوار إرميا مع الأنبياء الكذبة

تحوى الأصحاحات الأربعة (26-29) صورة حية عن حوار إرميا النبي مع الأنبياء الكذبة، موجهًا إلى كل المستويات:

1. على مستوى القيادات مع الشعب: عظة الهيكل ونتائجها (إر 26).

2. على مستوى الملوك: نير بابل (إر 27).

3. على مستوى الأنبياء الكذبة: إرميا يقف ضد حنانيا (إر 28).

4. على مستوى القيادات والشعب في السبي: رسالة إلى المسبيين (إر 29).

<<


 

الأصحاح السادس والعشرون

عظة الهيكل ونتائجها

إن كان الأصحاح السابق يُعتبر ملخصا للنبوات التي نطق بها النبي ضد يهوذا وكل الأمم؛ فإن هذا الأصحاح يمثل رد الفعل العملي من القيادات والشعب على جميع المستويات. وجاءت الثلاث أصحاحات التالية (27-29) تحمل نفس الروح. لقد قدم إرميا النبي حياته كلها ثمنًا للشهادة الحية لكلمة الله النارية .

بناء على الأمر الإلهي وقف إرميا في دار الهيكل يحذر الكل من خراب الهيكل والمدينة مالم يسمعوا لصوت الأنبياء، مقدمًا لهم باب الرجاء خلال التوبة. اتفق الكهنة والأنبياء والشعب على قتل إرميا، كما جاء الرؤساء من بيت الملك يتحالفون معهم إلى حين. لم يخَفْهم إرميا بل حذرهم من سفك دمه البرىء، فوقف الرؤساء مع الشعب ضد الكهنة والأنبياء قائلين إنه إنما يتكلم باسم الرب.

1. إرميا في دار بيت الرب [1-7].

2. القبض عليه ومحاكمته[8-9].

3. صعود الرؤساء إلى بيت الرب[10-11].

4. إرميا يحذرهم من سفك دمه[12-15].

5. الرؤساء والشعب ضد الكهنة والأنبياء[16-24].

1. إرميا في دار بيت الرب:

يحوى هذا الأصحاح ملخصًا لعظة إرميا النبي في دار بيت الرب. يرى بعض المفسرين أن نص العظة ورد في الأصحاح السابع؛ أما هنا فيصف الحدث التاريخي أو أثر العظة على القيادات والشعب؛ مدللين على ذلك بأن محور الأصحاحين هو التهديد الإلهي بأن مصير الهيكل يكون كشيلوه. ويرى Keil[507] أن هذا التهديد قد تكرر كثيرًا في أحاديث إرميا خاصة في الهيكل؛ لهذا لا يؤخذ هذا دليلاً على أن ما جاء في الأصحاح السابع هو نص الحديث الوارد عنه في هذا الأصحاح . ففي الأصحاح السابع ركز على خراب الهيكل وسبي الشعب أما هنا فأضاف أيضًا خراب أورشليم.

 قُدم إرميا للمحاكمة، وقد ظهرت المجموعات التالية:

أ. إرميا كنبي يحذر الشعب، وكمتهمٍ، وأيضا كمدافعٍ عن نفسه.

ب. الكهنة والأنبياء الكذبة يتهمون إرميا.

ج. القضاة.

د. الرؤساء: السلطات المدنية.

هـ. الشيوخ.

و. متهمون آخرون غير إرميا.

"في ابتداء ملك يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا صار الكلام من قبل الرب قائلاً:

هكذا قال الرب:

قف في دار بيت الرب وتكلم على كل مدن يهوذا القادمة للسجود في بيت الرب بكل الكلام الذي أوصيتك أن تتكلم به إليهم.

لا تنقص كلمة.

لعلهم يسمعون ويرجعون كل واحدٍ عن طريقه الشرير،

فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بهم من أجل شر أعمالهم.

وتقول لهم هكذا قال الرب:

إن لم تسمعوا لي لتسلكوا في شريعتي التي جعلتها أمامكم،

لتسمعوا لكلام عبيدي الأنبياء الذين أرسلتهم أنا إليكم مبكرًا ومرسلاً إياهم فلم تسمعوا،

أجعل هذا البيت كشيلوه، وهذه المدينة أجعلها لعنة لكل شعوب الأرض.

وسمع الكهنة والأنبياء وكل الشعب إرميا يتكلم بهذا الكلام في بيت الرب" [1-7].

 تمَّ الحادث الوارد هنا  بعد تجليس الملك يهوياقيم على العرش على أثر ترحيل أخيه يهوآحاز إلى مصر في خريف سنة 609 ق.م، أو في الصيف والسنة التالية (حوالي سنة 608 ق.م) [508].

يرى البعض أن تعبير "في ابتداء مُلك..." يُقصد به الفترة من تجليس الملك إلى بدء السنة الجديدة والتي تُحسب السنة الأولى للملك[509].

كان إرميا النبي في نزاعٍ مستمرٍ مع الملك الشرير يهوياقيم (2 مل 23: 36-37)، الذي وصفه يوسيفوس أنه لم يكن يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، وكان لزوجته نحوشتا أثرها عليه، هذه التي اشترك أبوها ألناثان في جريمة قتل أوريّا.

أحد أسباب النزاع اهتمام الملك ببناء قصرٍ فخمٍ (22: 13 الخ.)، فمع ما تثقلت به مملكته من غرامة ضخمة التزم بها أمام نخو فرعون بعد هزيمة يوشيا، انشغل ببناء القصر مستخدمًا الظلم لبنائه.

كما واجه ايليا النبي آخاب الملك، هكذا واجه إرميا النبي يهوياقيم. هذا يذكرنا بموت أوريا بن شمعيا الذي نطق بكلمات قاسية ضد أورشليم وسكانها كتلك التي نطق بها إرميا، فغضب الملك حتى اضطر أوريا إلى الهروب إلى مصر، لكن الملك جاء به وضربه بحد السيف وطرح جثته في قبور عامة الشعب انتقامًا منه لجرأته. وقد حاول الملك أن يفعل ذلك بإرميا لولا تدخل أخيقام بن شافان وغيره لإنقاذه (26: 20-24).

وقف إرميا في دار بيت الرب يعلن محاكمة الله لشعبه مقدمًا لهم الرجاء الحيّ في العفو إن أعلنوا توبتهم وذلك عوض النظرة التفاؤلية التي قدمها الأنبياء الكذبة في رجاءٍ باطلٍ وخداعٍ.

وقف إرميا في إحدى القاعات الداخلية، أو فيما بين الردهات الخارجية والداخلية حتى يسمع له كل القادمين إما في يوم صوم أو عيد.

تعبير الله لإرميا "لا تنقص كلمة" [2] تعبير حيّ. إذ يُستخدم الفعل هنا في جز اللحية (48: 37، إش 15: 2)، كأن الله يحذر إرميا ألا يهادن الشعب بل ينطق بكل كلمات الرب لهم مهما بدت قاسية، وإلا حُسب عمله كمن يجز لحية كاهن... منتهي الاستخفاف والإهانة! وفي نفس الوقت فإن الله في محبته يشتاق أن يوقف الحكم الصادر ضدهم بالتأديب، إن قدموا توبة.

هنا يؤكد الله أنه يعلن عن إراداته لأنبيائه الحقيقيين وحدهم. ويميز بين أنبيائه الحقيقيين والأنبياء الكذبة، فينسب الأولين له ويدعوهم: "عبيدي" [5]، لأنهم يسمعون له ويتممون إرادته.

ما أصعب أن يسمع الكل عن الهيكل ومدينة الله أن يصيرا كشيلوه هذه التي حطمها الفلسطينيون حوالي سنة 1050 ق.م (1 صم 4)؛ هذه التي ربما أعُيد بنائها فيما بعد لكنها عادت فخربت تمامًا وصارت مثلاً وعبرة وصورة حية للدمار في أيام إرميا.

ما أصعب على آذان الكل أن يسمعوا كلمة " لعنة" [6] عن مدينة الله التي يرى الكل أنها سبب بركة للعالم كله! فإنها إذ تحولت من مركز لمجد الله إلى موضع تجديف عليه، يصيّرها الله لعنة لكل شعوب الأرض [6]! بقدر ما نالت المدينة كرامة في عيني الله حتى أقامها لتكون أشبه بوكالة له أو سفارة عنه أو أيقونة حية عن سمواته، إذ انحرفت تحولت إلى وكالة لعدو الخير وأيقونة لمملكة ابليس تبث اللعنة على الجميع!

2. القبض على إرميا ومحاكمته:

"وكان لما فرغ إرميا من التكلم بكل ما أوصاه الرب أن يكلم كل الشعب به أن الكهنة والأنبياء وكل الشعب أمسكوه قائلين: تموت موتًا.

لماذا تنبأت باسم الرب قائلاً مثل شيلوه يكون هذا البيت، وهذه المدينة تكون خربة بلا ساكن؟!

واجتمع كل الشعب على إرميا في بيت الرب" [8-9].

لم يقف الأمر عند غضب الملك، وإنما رأى الشعب في مجاهرة إرميا بأن الله سيجعل مقدسه - الهيكل الذي يفتخرون به - خرابًا، كما فعل لشيلوه منذ حوالي 500 سنة إهانة لله كأنه عاجز عن حمايتهم والدفاع عن بيته المقدس، واحتقارًا لديانتهم، ومقاومة لما أكده لهم الأنبياء (الكذبة) والكهنة بأن وجود الهيكل بينهم هو ضمان كافٍ لنجاتهم. لقد وجد إرميا نفسه فجأة أمام فوهة بركان غضب كل الشعب.

هذا ما حدث مع معلمنا بولس الرسول حيث أُتهم أنه دنّس الموضع المقدس، فهاجت المدينة كلها عليه، وجره الشعب خارج الهيكل وكاد أن يُقتل لولا تدخل الجنود الرومانيون (أع 21: 27-36).

ألقى القبض على إرميا بالتهم التالية، وهي ذات الاتهامات التي وجهت إلى السيد المسيح نفسه (مت 26: 60)؛ فكان إرميا رمزًا وظلاً لمخلصه:

أ. النطق بكلمات ضد الهيكل والمدينة المقدسة في داخل الهيكل.

ب. النطق باسم يهوه باطلاً، معلنًا أن الهيكل يصير كشيلوه، وأورشليم تصير خرابًا بلا ساكن.

ج. كان إرميا في نظر متهميه نبيًا كاذبًا، إذ كانوا يظنون أن ما نطق به أمر مستحيل، لن يصدر عن رجل الله!

د. أنه مجدف، ينطق باسم الله بما لا يليق بالله!

لا تزال الاتهامات موجهة ضد المسيح في تلاميذه ومؤمنيه؛ الذين يُحسبون إلى اليوم مجدفين. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [على أى الأحوال؛ فإن يسوع يهاجمه شهود زور في كل وقت. طالما وُجد الشر في العالم فهو معرض للاتهامات بصفةٍ دائمةٍ. ومع ذلك لا يزال صامتًا أمام هذه دون أن يقدم إجابة مسموعة؛ بل يقدم دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيين؛ وتعتبر هذه شهادة سامية جدًا تسمو فوق كل شهادة زورٍ؛ تفند كل الهجمات والتهم التي بلا أساس وتهدمها[510]].

جاءت كلمة "اجتمع" [9] في العبرية qahal  تشير عادة إلى تجمع دينى كما إلى تجمع للحرب (2 صم 20: 14) أو اجتماع بنيةٍ معاديةٍ (عد 16: 3)، وكأن الهيكل قد تحول من اجتماع ديني إلى معركة أو ثورة غضب شعبية ضد إرميا[511].

احتمل إرميا الاتهامات والآلام رمزًا للسيد المسيح الذي قبل آلامنا فيه لكي نقبل فرحه فينا. وكما يقول القديس أمبروسيوس:

[لقد حمل في نفسه آلامي؛ لكي يمنحني فرحه!

 بثقة أذكر حزنه؛ إذ أكرز بصليبه !

كان يلزم أن يحمل الأحزان لكي يغلب... أراد لنا أن نتعلم كيف نغلب الموت؛ بالأكثر نحطم الموت القادم (الأبدي)!

لقد تألمت أيها الرب لا بآلامك وإنما بآلامي؛ إذ جُرحت لأجل معاصينا...

تألم من أجل مضطهديه ليس بعيدًا عن الحق ؛ إذ يعرف أنهم يعانون العقوبة من أجل تدنيسهم للمقدسات[512]].

3. صعود الرؤساء إلى بيت الرب:

"فلما سمع رؤساء يهوذا بهذه الأمور صعدوا من بيت الملك إلى بيت الرب، وجلسوا في مدخل باب الرب الجديد.

فتكلم الكهنة والأنبياء مع الرؤساء وكل الشعب قائلين:

حق الموت على هذا الرجل،

لأنه قد تنبا على هذه المدينة كما سمعتم بآذانكم" [10-11].

سمع رجال القضاء الرسميين (رؤساء يهوذا) بالأمر، سواء مباشرة أثناء وجودهم في الهيكل أو ابلغهم البعض بذلك، فأقاموا محاكمة حيث جلسوا في مدخل "الباب الجديد". هذه هي العادة أن تُقام المحاكمة عند الأبواب (تك 23: 10-20، را 4: 1، أم 31: 23)، ونحن لا نعلم شيئًا عن هذا الباب إلا أنه كان في الردهة العلوية (20: 2). يرى البعض أن يوثام قام ببنائه (2 مل 15: 26-35) أو هو اسم آخر لباب بنيامين (17: 19)[513].

لماذا تمت محاكمة إرميا النبي في مدخل باب الرب الجديد؟

يبدو لي أن الله قد سمح لإرميا أن تتم محاكمته في مدخل باب الرب الجديد خارج أورشليم ليدرك أنه ليس هو طرفًا في المعركة؛ ولا هو المقصود من المحاكمة؛ إنما كلمة الرب نفسه! كان ظلاً للسيد المسيح الذي ارتجت الأمم وقامت الملوك ضده؛ وصدر الحكم عليه: موتًا تموت! وصُلب على جبل الجلجثة خارج المحلة. إن كان إرميا في شجاعة لم يخف الموت مدركًا انهم إن قتلوه يسفكون دمًا بريئا؛ فإن السيد المسيح في محبته قبل الموت بارادته ليسكب بره في حياة مؤمنيه! كان إرميا ينذر أن قتله يجلب عليهم الغضب الإلهي بالأكثر؛ أما مسيحنا فكان ولا يزال يكرز خلال تلاميذه ورسله أن قتله يفتح أبواب المراحم الإلهية.

لنقف مع مسيحناعند باب الرب الجديد؛ ولنحمل معه عاره خارج المحلة (عب 13: 13)؛ نقدم حياتنا ذبيحة حب صادقة؛ فننعم بقوة وبهجة قيامته عاملة فينا!

وُجه الاتهام من الكهنة والأنبياء وطلبوا حكم الموت كعقوبة عادلة، وقام رجال القضاء الرسميين كقضاة.

4. إرميا يحذرهم من سفك دمه:

"فكلم إرميا كل الرؤساء وكل الشعب قائلاً.

الرب أرسلني لأتنبأ على هذا البيت، وعلى هذه المدينة بكل الكلام الذي سمعتموه.

فالآن اصلحوا طرقكم وأعمالكم واسمعوا لصوت الرب إلهكم، فيندم الرب عن الشر الذي تكلم به عليكم.

أما أنا فهأنذا بيدكم.

اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم.

لكن اعلموا علمًا أنكم إن قتلتموني تجعلون دمًا زكيًا على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها،

لأنه حقًا قد أرسلني الرب إليكم لأتكلم في آذانكم بكل هذا الكلام" [12-15].

جاء دفاع إرميا ان ما نطق به ليس من عنده بل من قبل الله، وأنه نبي حقيقي [21]، وإن قتله يعني سفك دمٍ برىء، ينتقم له الرب نفسه. كما دعى الكل إلى التوبة لخلاصهم. إنه لا يبالي بقتله لكنه يخشى هلاكهم وضياع الشعب كله والمقدسات الإلهية.

لم يكن دفاع إرميا عن ضعف ولا عن خوف من الموت، وإنما لأجل خلاص سامعيه. فان محاكماتهم لن تفقده سلامه أو سعادته، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الفاضل، وإن كان عبدًا أو سجينًا، فهو أكثر الناس سعادة... ضعيفة هي الرذيلة وقوية هي الفضيلة![514]].

5. الرؤساء والشعب ضد الكهنة والأنبياء:

"فقالت الرؤساء وكل الشعب للكهنة والأنبياء:

ليس على هذا الرجل حق الموت، لأنه إنما كلمنا باسم الرب إلهنا.

فقام أناس من شيوخ الأرض وكلموا كل جماعة الشعب قائلين:

إن ميخا المورشتي تنبأ في أيام حزقيا ملك يهوذا وكلم كل شعب يهوذا قائلاً:

هكذا قال رب الجنود إن صهيون تُفَّلح كحقلٍ وتصير أورشليم خربًا وجبل البيت شوامخ وعر.

هل قتلاً قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا؟!

ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذي تكلم به عليهم، فنحن عاملون شرًا عظيمًا ضد أنفسنا؟!

وقد كان رجل أيضا يتنبأ باسم الرب أوريا بن شمعيا من قرية يعاريم، فتنبأ على هذه المدينة وعلى هذه الأرض بكل كلام إرميا.

ولما سمع الملك يهوياقيم وكل أبطاله وكل الرؤساء كلامه طلب الملك أن يقتله.

فلما سمع أوريا خاف وهرب وأتى إلى مصر.

فأرسل الملك يهوياقيم أناسًا إلى مصر ألناثان بن عكبور ورجالاً معه إلى مصر،

فأخرجوا أوريا من مصر، وأتوا به إلى الملك يهوياقيم، فضربه بالسيف، وطرح جثته في قبور بني الشعب.

ولكن يد أخيقام بن شافان كانت مع إرميا حتى لا يدفع ليد الشعب ليقتلوه" [16-24].

تدخل الرؤساء القادمون من القصر، ومنعوا قادة الثورة من قتل النبي، وعقدوا ما هو أشبه بمحكمة دُعي إليها الشعب والنبي معًا.

أوضح الكهنة والأنبياء رغبة الشعب في قتل إرميا، ثم أداروا وجوههم من المحكمة إلى الشعب يطلبون موافقتهم. لكن وقف إرميا يعلن أنه لا يمكنه إلاّ أن ينطق بكلمات الرب، مؤكدًا نبوة ميخا النبي في أيام حزقيا، مسلمًا نفسه بين أيديهم، مع تحذيرهم أن سفك دمه البريء إنما يجلب عليهم النقمة الإلهية.

قبل الرؤساء دفاع إرميا ووقفوا ضد السلطات الدينية وطالبوا الشعب بعدم التسرع، لأن إرميا ليس بمجدفٍ على الله ومقدساته، إنما هو نبي حقيقي.

عادوا بالكل إلى ذكريات أو إلى حالة عبر عليها قرابة قرن من الزمان. قدموا لهم حالة ميخا المورشتي (مي 3: 12) مثلاً، الذي نطق بكلمات مشابهة وقد سمع له الملك حزقيا (716-687 ق.م) والشعب، ولم يزدروا بكلماته، بل خافوا الرب وطلبوا وجهه، فتمتعوا بالمراحم الإلهية. قام حزقيا بحركة اصلاح دينية (2 مل 18: 14)، متجنبًا الشر.

ربما مقابل ما حدث لإرميا النبي إذ قدم الرؤساء دفاعًا عنه مستندين إلى ما حدث مع ميخا النبي ؛ أورد باروخ النبي مثالاً آخر وهو النبي أوريا بن شمعيا من قرية يعاريم التي تبعد حوالي ثمانية أميال شمال غربي أورشليم، وكانت إحدى مدن الجبعونيين الأربع (يش 9: 17) وكانت تدعى قرية بعل (يش 18: 14) أو بعلة (يش 15: 9)، وقد حُفظ فيها تابوت العهد بعد أن رده الفلسطينيون، ومنها أُرسل إلى أورشليم (1 صم 1: 7-2؛ 2 صم 6). طلب الملك ورجاله قتل أوريا واذ هرب إلى مصر أرسل من يحضره حيث كانت العلاقات طيبة بين مصر ويهوذا، وقُتل النبي.

وجد إرميا مساندة من صديقه أخيقام بن شافان [24]، كان شافان كاتبًا أو سكرتيرًا ليوشيا المصلح (2 مل 22: 3-14).

يبدو أن إرميا كان على علاقة طيبة بكل الاسرة، إذ نجد ابنًا آخر لشافان "جمريا" (36: 10) يتعاطف معه (36: 25) ويحث الملك يهوياقيم ألا يحرق درج إرميا؛ وثالثا "جدليا" يهتم بإرميا، مكرسًا نفسه له بعد سقوط أورشليم (39: 14؛ 40: 5-6). قامت هذه العائلة بمساندة إرميا كى لا يُقتل. أما علة الصداقة فربما لتعاطف إرميا مع الملك يوشيا في إصلاحاته وسياسته العامة.

إذ تكلم إرميا بجرأة حول الله التيار في مصلحته وأصدر الرؤساء وكل الشعب للكهنة والأنبياء قرارًا أنه ليس على هذا الرجل حق الموت لأنه إنما يتكلم باسم الرب إلهنا.

وُجد إرميا غير مستحق للموت؛ هكذا أيضا نطق بيلاطس بنطس بخصوص السيد المسيح (لو 23: 32)؛ لكن إرميا لم يُقتل إلى حين؛ أما السيد المسيح فصُلب ليتمم خلاصنا فمن أجل هذا قد جاء! جاء يحمل آلامنا لكي يحملنا نحن فيه فنجد راحتنا. وكما يقول الأب قيصريوس:

[إن كنا نحني أعناقنا باتضاع لنقبل نير المسيح؛ فإن النير نفسه بالأحرى يحملنا؛ ولسنا نحن الذين نحمله.

 إن كان نير العالم يضغط دائمًا على الإنسان لينزل به إلى أسفل؛ فإن نير المسيح يرفعه إلى أعلى[515]].


 

من وحي إرميا 26

لأسمع صوت إرميا في بيتك الداخلي!

v     من أجلك يا قدوس وقف إرميا في دار بيتك،

لم يُنقص كلمة واحدة مما أخبرته به!

لم يجامل ولم يداهن أحدًا!

لم يخشَ الكهنة والأنبياء الكذبة، وأيضًا الشعب والرؤساء!

أرْهَبَهم بالتأديب الإلهي الذي يحل بالمدينة والهيكل!

فحسبوا ذلك اهانة لك ولبيتك،

وقُدِّم للمحاكمة بتهمة النبوة الكاذبة والتجديف!

v     في سرعة عجيبة أُقيمت المحاكمة،

وصدر الحكم ضده: موتًا تموت!

النبي الحقيقي أُتهم بالكذب،

والناطق بكلمة الرب صار في أعينهم مجدِّفًا!

v     هب لي يارب أن انصت إلى صوتك،

لينطق إرميا في بيتك، في أعماقي!

نعم! لأدين نفسي ولا أدينه!

لأحكم على شرِّي لا على إرميا بالموت!

لتمت خطاياي وليُصلب إنساني العتيق،

ولتحيا كلماتك في أعماقي يا إله إرميا!

v     هب لي يارب عوض محاكمة إرميا أن اقتدي به.

لأنطق بكلماتك النارية، ولا أُداهن أحدًا!

لأُحاكم من أجلك، ولو في ردهات بيتك!

هب لي روحين من نبيَّك العظيم إرميا!

أذوب حبًا، ويحترق قلبي بخلاص إخوتي!

أعمل بروحك، ولا أخشى المقاومة!

ليقف الكل ضدي!

لست في حاجة إلى محامٍ عني،

فأنت وحدك المدافع العجيب والقدير!

v     هب لي أن اختفي في كلمتك النارية أيها النار الآكلة!

فأصير لهيب نارٍ لا تقدر تهديدات العالم أن تطفئه!

ليلتهب قلبي بنار روحك القدوس،

فيتحول برودنا إلى نارك المقدسة،

وأرضنا إلى سمواتك.

نعم! ليحاكمني الكل،

ولأجد نعمة في عينيك وحدك يا مقدِّس كل مؤمنيك!

v     حُوكم إرميا في مدخل باب الرب الجديد؛

ثار الكل ضده خارج مدينة أورشليم!

أُتهم بالتجديف وحُكم عليه:

موتًا تموت!

هوذا أنت يا ديان الكل تموت خارج المحلة!

اُتهمت بالتجديف أيها الابن الوحيد!

حُكم عليك بالموت أيها القيامة، واهب الحياة!

v     لأخرج معك خارج المحلة!

لأحمل صليبك، بل يحملني صليبك!

لأذق موتك القاتل الموت!

لأختبر حبك الباذل يا واهب الحياة!

لأمت معك فأحيا معك إلى الأبد!

لأعش كي أموت كل يوم من أجلك!

<<


 

الأصحاح السابع والعشرون

نير بابل

رأينا في الأصحاح السابق إرميا النبي المجروح في بيت أحبائه، فقد ثار ضده شعبه مع غالبية القيادات لتحكم عليه: موتًا تموت! الآن نرى في هذا الأصحاح الصورة تتكامل بكون إرميا ظلاً للسيد المسيح المتألم. بينما كان الكهنة واللاويون يرتدون الثياب الفخمة، والقيادات تتبختر في مجدها الزمني إذا بإرميا بأمر إلهي يحمل نيرًا أو أنيارًا وأربطة... يحمل ما تئن منه الثيران!

كرمز للسيد المسيح كان يحمل النير (الصليب)، فيُقال عنه: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع مختبر الحزن..." (إش 53: 2-3).

كثيرون بلا شك كانوا يسخرون من منظره، فقد جاءوا إلى بيت الرب بثيابٍ فاخرةٍ أما ثوبه فهو: نير الحب الباذل!

إرميا كنبي للشعوب (إر 1) حذر الأمم الغريبة مع يهوذا مطالبًا إياهم بالخضوع لنير بابل حتى يحيوا... فلا تتعرض بلادهم للحرق بالنار وشعبهم للقتل بالسيف، مع انتشار الجوع والوباء.

1. تحذير لرسل الملوك الغرباء[1-11].

2. نصيحة لصدقيا الملك[12-15].

3. حديث مع الكهنة والشعب[16-22].

1. تحذير لرسل الملوك الغرباء:

هذا الأصحاح هو المصدر الوحيد بين أيدينا عن وجود تحالف بين دويلات الغرب [3]، أما محتوياته التاريخية فقد ألقى عليها شيء من الضوء خلال التاريخ البابلي الذي نشره ويزمان[516].

"في ابتداء ملك يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا صار هذا الكلام إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:

هكذا قال الرب لي:

اصنع لنفسك ربطًا وأنيارًا وأجعلها على عنقك.

وأرسلها إلى ملك أدوم وإلى ملك موآب وإلى ملك بنى عمون وإلى ملك صور وإلى ملك صيدون بيد الرسل القادمين إلى أورشليم إلى صدقيا ملك يهوذا.

وأوصهم إلى سادتهم قائلاً:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

هكذا تقولون لسادتكم.

إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض بقوتي العظيمة وبذراعي الممدودة وأعطيتها لمن حسن في عيني.

والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي، وأعطيته أيضًا حيوان الحقل ليخدمه.

فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه أيضًا فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام.

ويكون أن الأمة أو المملكة التي لا تخدم نبوخذناصر ملك بابل والتي لا تجعل عنقها تحت نير ملك بابل إني أعاقب تلك الأمة بالسيف والجوع والوبأ يقول الرب حتى أفنيها بيده.

فلا تسمعوا أنتم لأنبيائكم وعرافيكم وحالميكم وعائفيكم وسحرتكم الذين يكلمونكم قائلين لا تخدموا ملك بابل.

لأنهم إنما يتنبأون لكم بالكذب لكي يبعدوكم من أرضكم ولأطردكم فتهلكوا.

والأمة التي تدخل عنقها تحت نير ملك بابل وتخدمه أجعلها تستقر في أرضها يقول الرب وتعملها وتسكن بها" [1-11].

تفترض أحداث هذا الأصحاح سبي عام 597 ق.م بعد تجليس الملك صدقيا. جاء في النسخ العربية والسريانية وغيرها "ملك صدقيا" عوض "يهوياقيم" أما الترجمة السبعينية فلا توجد بها الآية الأولى.

يرى Lightfoot أن إرميا قد بدأ في صنع الأنيار والأربطة في عهد يهوياقيم، وبعد ذلك ارسلها إلى الملوك المجاورين في عهد صدقيا الملك.

في السنة الرابعة لملك نبوخذنصر شعر بعض الملوك بأن الجانب الغربي من المملكة البابلية على وشك القيام بثورة وتمرد حيث ظهرت قلاقل في المملكة. ففي عام 5-596 ق.م هُوجم نبوخذنصر بعدو لا يعرف اسمه، ربما عيلام، وفي عام 4-595 ق.م حدثت ثورة على حدود مملكته. في عام 3-594 ق.م قاد حملة عسكرية داخل سوريا... فكانت أيام مملوءة بالقلاقل بالنسبة لنبوخذنصر. هذا دفع بعض الدول في غرب مملكته أن تفكر في الخلاص من نيره. ويرى البعض أنه بعد ما فتحت جيوش ملك بابل أورشليم للمرة الأولى بأربع سنوات قام في مصر ملك جديد اختمرت في قلبه فكرة الثورة على بابل.

أرسل الملوك المجاورون إلى صدقيا الملك يطلبون مشورته وعونه ويقيمون تحالفًا معًا. أكّد الأنبياء الكذبة أن بابل على وشك الانهيار وأن يهوياكين يعود إلى أورشليم ومعه كنوز يهوذا التي سُلبت، وأن الظروف مساعدة للثورة... لكن وُجد رجل واحد يقف أمام الكل لينادى ببطلان نبوات هؤلاء الأنبياء، وهو إرميا النبي!

في نفس السنة، السنة الرابعة من ملكه، ذهب صدقيا الملك إلى بابل (59: 51) إما باستدعاء الملك له أو ليظهر ولاءه على ضوء انتشار خبر تمرد الملوك في غرب المملكة.

أتى إرميا بنير (أو أكثر) خشبي وبه الأربطة الجلدية، هذا الذي يوضع على عنق الثور ويثبَّت بالأربطة الجلدية حتى لا يلقي به الثور عن عنقه. وضعه على عنقه ليحدثهم بلغة التمثيل، إنه ينبغي أن يخضعوا لسلطان بابل.

يرى البعض أن إرميا جاء بعدة أنيار، وضع كل نير على عنقه ثم سلمه لرسول كل ملكٍ من الملوك كي يقدمه لملكه الذي أرسله، بينما يرى آخرون[517] أنه جاء بنيرٍ واحدٍ مملوء أربطة، وما كان على الرسل إلا أن يبلغوا ملوكهم بما رأوه وسمعوه. بهذا يُحسب كأن النير قد وُضع على كل ملكٍ منهم، إذ جاء في الترجمة السبعينية "أرسله" [3] بصيغة المفرد، وليس "أرسلها" مما يوحي بأن إرميا جاء بنيرٍ واحدٍ فقط، وما على الرسل إلا إبلاغ الملوك بالخبر، دون أن يقدم نيرًا لكل رسول.

ربما يتساءل البعض: هل كان بالحقيقة يضع إرميا نيرًا على عنقه؟ الإجابة بالإيجاب، إذ نرى في الأصحاح (28: 10، 12) نبيًا كاذبًا يكسر النير الخشبي الموضوع على عنق إرميا.

على كلٍ لم يتم التحالف المزمع إما لأن الملوك لم يستطيعوا أن يتفقوا معًا على الخطة، أو لأنهم رأوا أن الخطر عظيم.

بدأ حديث إرميا بإعلان سلطان يهوه إله إسرائيل على الأرض كلها وشعوبها وكل الخليقة، ليس بكونه الخالق فقط، وإنما هو إله التاريخ وصانعه، وأنه هو الذي أقام نبوخذنصر عبده لغرض إلهي. هناك خطة من جهة نبوخذنصر وابنه وحفيده، وليس شيء يحدث اعتباطًا. يرى Adam Clarke أن ذلك قد تحقق حرفيًا حيث خلفه ابنه أويل مردوخ وفيما بعد حفيده بيلشاصر (دا 5: 11). بينما يرى البعض أنه لا يقصد هنا بالابن والحفيد حسب الجسد لكنه يقصد الذين يخلفونه بالتتابع لمدة طويلة، فيُحسب الملك الثالث بعده كحفيد له تولى عرش جده. نحن نعلم أن نبوخذنصر خلفه ابنه أويل مردوخ[518]، بعد ذلك جاء نرجل شراصر[519] Nergalsharzer الذي يعرفه اليونانيون باسم Neriglissar (39: 13) ليس ابنه بل زوج أخته بعد قتله أويل مردوخ، ثم تبعه ابنه Laborosoarchod وهو طفل، قُتل بعد 9 شهور بواسطة بعض المتآمرين، وبعد ذلك Naboned الذي اشترك معه بيلشاصر (حفيد نبوخذنصر) كشريكٍ في الملك[520].

عدم الخضوع لبابل هو رفض للمشورة الإلهية ضريبتها السقوط تحت السيف مع الجوع والوبأ.

تحدث إرميا بيقين ليس معتمدًا على تكهنات سياسية، وإنما باقتناع قوي أن الله رب الجنود هو قائد كل شئون العالم، له خطته نحو البشر. حقًا كان نبوخذ نصر شريرًا، ومع ذلك أعطاه الله نصيبًا وافرًا من خيرات هذا العالم، ولكن إلى حين. هذا ما نلمسه كل يوم حين نجد أشرارًا ناجحين، فنصرخ مع المرتل، قائلين: "لماذا تنجح طريق الأشرار؟!"... يستخدم الله أحيانا نجاحهم لتأديب أولاده مع نزع كل عذر للأشرار عن شرهم.

v     إنها خطايانا التي تجعل البرابرة أقوياء، إنها رذائلنا التي تقهر جنود روما...

يا لبؤس الإسرائيليين الذين عندما قورنوا بنبوخذنصر دُعى هو عبد الله [6].

يا لبؤسنا نحن أيضًا الذين إذ نُغضب الله يستخدم غضب البرابرة ليصب غضبه علينا.

ومع هذا عندما تاب حزقيا هلك 185000 جنديًا أشوريًا بواسطة ملاكٍ واحدٍ (2 مل 19: 35).

وعندما رنم يهوشفاط للرب تسابيح وهب الله ذاك الذي تعبد له النصرة (2 أي 20: 5-25).

أيضًا عندما حارب موسى ضد عماليق، غلب لا بالسيف بل بالصلاة. لهذا إن أردنا أن نرتفع يلزمنا أولاً أن ننبطح![521]

القديس جيروم

واضح من [9] لابد أنه كان في الأمم المجاورة أنبياء كذبة يعتمدون على التنجيم والسحر والعرافة كما كان في إسرائيل. وقد ذكر السحرة الوثنيين والعرافين مع الأنبياء الكذبة إذ اشترك الكل في أمرٍ واحدٍ، وهو الرغبة في إرضاء سادتهم وتهدئة نفوس من هم حولهم على حساب الحق الإلهي. هكذا يختلط الوثنيون مع الذين يحملون اسم الله كذبًا ويتنبأون باسمه باطلاً. لهذا يليق بنا لكي نتعرف على إرادة الله (أف 5: 17) ونميز علامات الأزمنة (مت 16: 3) أن نتقدس ونحمل روح الطاعة والتمييز، ولا تكون لنا شركة مع الشر.

إرميا مثل إشعياء الذي وضع حدًا لمملكة أشور (إش 5: 10-12) التي تنتهي عندما تحقق غرض الله منها، هكذا يتحدث إرميا عن بابل.

يستخدم عدو الخير اسم الله كحجة ليبث أكاذيبه (مت 4: 6، 7: 22، 33).

2. نصيحة لصدقيا الملك:

"وكلمت صدقيا ملك يهوذا بكل هذا الكلام قائلاً:

ادخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل واخدموه وشعبه واحيوا.

 لماذا تموتون: أنت وشعبك بالسيف بالجوع والوبأ كما تكلم الرب عن الأمة التي لا تخدم ملك بابل؟!

فلا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يكلمونكم قائلين لا تخدموا ملك بابل لأنهم إنما يتنبأون لكم بالكذب.

لأني لم أرسلهم يقول الرب بل هم يتنبأون باسمي بالكذب لكي أطردكم فتهلكوا أنتم والأنبياء الذي يتنبأون لكم" [12-15].

يكرر إرميا ما قاله لرسل الملوك لصدقيا الملك، حتى يبدو كمن هو عميل لبابل وخائن لبلده.

كان من الصعب على أي يهودي خاصة الملك أن يسمع تلك الكلمات: "ادخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل"، فقد عرفوا أن الله إلههم هو المحرر من نير العبودية، إذ سبق فوعد: "أن الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر من كونكم لهم عبيدًا وقطع قيود نيركم وسيركم قيامًا" (لا 26: 13)، فكيف يطلب منهم أن ينحنوا ليُدخلوا أعناقهم تحت نير ملك وثني؟! إنها علامة غضب الله! كانت إحدى اللعنات التي يسقط تحتها الشعب في عصيانه للوصية هي: "تُستعبد لأعدائك الذين يُرسلهم الرب عليك... فيجعل نير حديد على عنقك حتى يهلكك، يجلب الرب عليك أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها..." (تث 28: 48 الخ)0

لم يسمع صدقيا له، فكان مصيره السبي (587 ق.م) بعد قتل أولاده أمام عينيه، وفُقأت عيناه (2 مل 25: 1-7).

لماذا أمرهم الله بالخضوع لنير بابل؟

أ. يبدو مما نعرفه من التاريخ أن إرميا نجح هذه المرة بأن يردّ صدقيا عن الاشتراك في مثل هذه الثورة. ومن ثمَّ نقدر أن نفهم موقف إرميا وهو يحث الملك والدول المجاورة على البقاء في خضوعها، لا لأنه كان يحب بابل ويُعجب بها ويؤثر سيطرتها على الحرية والاستقلال، بل لأنه أدرك بالإعلان الإلهي أن هذه هي إرادة الله وحكمته ولا يقدر الإنسان أن يقف أمامها.

لعل الله أمرهم بذلك لكي يكتشفوا خلال المذلة لنير بابل النير الداخلي الذي سقطوا تحته، وهو نير الخطية. فباذلال الجسد وظروف الحياة القاسية وحرمانهم من بلدهم ومدينتهم المقدسة وهيكل الرب... يدركون ماذا يفعل نير سبي الخطية. فيقولون مع إرميا النبي: "جعلني ضربة اليوم كله، مغمومة؛ شَدَّ نير ذنوبي بيده، صعدت على عنقي. نزع قوتي، دفعني السيد إلى الابد لا أستطيع القيام منها" (مرا 1: 14).

نسمع عن هذا النير في فريضة البقرة الحمراء (عد 19)، إذ يشترط في البقرة المقدمة كذبيحة خطية أن تكون "صحيحة، لا عيب فيها، ولم يعلُ عليها نير" (عد 19: 2). وذلك بكونها رمزًا للسيد المسيح الذي وحده بلا خطية، ليس فيه عيب، ولم يسقط تحت نير الخطية. لقد وبخ اليهود، قائلاً: "من منكم يبكتني على خطية؟" (يو 8: 46). يقول الرسول بولس: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن البركات الله فيه" (2 كو 5: 21). وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: "من أجلكم أقدس أنا ذاتي" (يو 17: 19)، ويقول أيضًا "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطية"[522]].

أيضًا حينما ارتبك الفلسطينيون بسبب الضربات التي حلت عليهم وضعوا التابوت على عجلة واحدة جديدة يجرها بقرتان مرضعتان لم يعلهما نير (1 صم 6: 7)... فانطلقت المركبة: نحو حقل يهوشع، أي حقل يسوع، كنيسة المخلص... وفرح الحصادون لما رأوا تابوت العهد!

إذن ليحملوا نير بابل فيدركوا قسوة نير الخطية، خلال الصليب، معطيًا للنير عذوبة، لأنه نير صليب الحب الباذل. إذ يقول: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم؛ احملوا نيري عليكم، وتعلموا مني... لأن نيري هيّن (حلو) وحملي خفيف" (مت 11: 28-30). أنه يدعونا لنلقي نيرنا تحت قدميه، لا لنعيش بغير نير، وإنما نستبدل نيرنا بنيره العذب. عوض نير الخطية القاسي نحمل شركة نير المسيح، أي شركة آلامه النابعة عن الحب الباذل!

يحدثنا عن نير الحب العذب هذا وفاعليته في حياتنا، قائلاً: "كنت أجذبهم بحبال البشر برُبُط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مُطعمًا إياه" (هو 11: 4).

إذ يرى المؤمن مسيحه يحمل النير عنه يشتهي أن يكون له مجد الشركة معه في حمل هذا النير. يشتهي أن يحمله منذ صباه، محققًا قول إرميا النبي: "جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب؛ جيد للرجل أن يحمل النير في صباه" (مرا 3: 27).

ب. إذ كانت خطاياهم تتسم بالظلم مع الرجاسات لذلك أراد لهم أن يحملوا نير بابل حتى يدركوا قسوة نيرهم الذين يلقونه على أعناق إخوتهم، فلا يفعلوا كما فعل رحبعام حين قال له يربعام وكل جماعة إسرائيل: "إن أباكم قسّى نيرنا، وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك" (1 مل 12: 4)، أجابهم: "أبي ثقل نيركم وأنا ازيد على نيركم؛ أبي أدبكم بالسياط، وأنا أؤدبكم بالعقارب" (1 مل 12: 14).

المؤمن الذي يدرك مرارة النير لا يطلب أن تنحني رقاب الآخرين لنير غير نير صليب المسيح الممتع. لهذا ففي مجمع الرسل المنعقد بشأن القادمين للإيمان من الأمم قال الرسول بطرس: "فالآن لماذا تجربون الله بوضع نيرٍ على عُنُق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله، لكن بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص كما أولئك أيضًا" (أع 15: 10-11). هكذا طلب الرسول ألا يخضع القادمون للإيمان لنير الطقوس الحرفية للشريعة الموسوية، وكما يوصينا الرسول بولس بخصوص الخضوع الحرفي لختان الجسد: "فاثبتوا إذًا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية" (غلا 5: 1).

3. حديث مع الكهنة والشعب:

"وكلمت الكهنة وكل هذا الشعب قائلاً:

هكذا قال الرب.

لا تسمعوا لكلام أنبيائكم الذين يتنبأون لكم قائلين ها آنية بيت الرب ستُرد سريعًا من بابل.

لأنهم إنما يتنبأون لكم بالكذب.

لا تسمعوا لهم.

اخدموا ملك بابل واحيوا.

لماذا تصير هذه المدينة خربة؟!

فإن كانوا أنبياء وإن كانت كلمة الرب معهم فليتوسلوا إلى رب الجنود لكي لا تذهب إلى بابل الآنية الباقية في بيت الرب وبيت ملك يهوذا وفي أورشليم.

لأنه هكذا قال رب الجنود عن الأعمدة وعن البحر وعن القواعد وعن سائر الآنية الباقية في هذه المدينة التي لم يأخذها نبوخذ نصر ملك بابل عند سبيه يكنيا بن يهوياقيم ملك يهوذا من أورشليم إلى بابل وكل أشراف يهوذا وأورشليم،

إنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن الآنية الباقية في بيت الرب وبيت ملك يهوذا وفي أورشليم.

يؤتى بها إلى بابل وتكون هناك إلى يوم افتقادي إياها يقول الرب فأصعدها وأردها إلى هذا الموضع" [16-22].

يُقصد بالأعمدة العمودين النحاسيين اللذين وضعهما سليمان في رواق الهيكل في المدخل، طول العمود الواحد ثمانية عشر ذراعًا (1 مل 7: 15-22). أما البحر فكان من النحاس دائرى الشكل قطره عشر أذرع، يحوى ماءً يُستخدم في غسلات مختلفة أثناء العبادة، وكان قائمًا على اثنى عشر ثورًا، ربما هذه الثيران هي التي تُدعى هنا بالقواعد (1 مل 7: 22-25).

إن كان الله يؤكد السبي البابلي والاستيلاء على بقية آنية الرب وآنية بيت الملك لكنه يفتح باب الرجاء أمامهم، قائلاً: "إلى يوم افتقادي إياها" [22]. وقد تحقق ذلك في أيام كورش حيث حث الله قلبه أن يحقق هذه النبوة (عز 1: 7؛ 7: 19).

في حديثه الممتع عن رعايته لشعبه بنفسه يقول: "ويعلمون أني أنا الرب عند تكسيري رُبط نيرهم، وإذ أنقذهم من يد الذين استعبدوهم، فلا يكونون بعد غنيمة للأمم، ولا يأكلهم وحش الأرض، بل يسكنون آمنين ولا مخيف" (حز 34: 27-28). كما يقول: "والآن أكسر نيره عنكِ وأقطع رُبُطك" (نا 1: 13).

لم يكن إرميا النبي متشائمًا كما يظن البعض، فإنه في أحلك لحظات الظلمة لم يفقد ثقته في وعود الله بالخلاص. هكذا يليق بالمؤمن أن تستنير نفسه بالمواعيد الإلهية، فتتهلل أعماقه، متأكدًا أن خطة الله الخلاصية ستتم حتمًا، بغض النظر عن الظروف القائمة أو ما سيحل في المستقبل القريب... لننتظر الرب، فإنه حتما سيخلص في الوقت المعين!

هكذا عاشت الكنيسة الأولى وسط الاضطهاد المرّ مملوءة رجاءً في عمل الله معها عبر الأجيال وثقتها في نعمة الله الغنية التي تتحدى الزمن!


 

من وحي إرميا 27

خطيتي تدفعني تحت نير بابل!

حبك يجذبني نحو نير الصليب!

v     دفعت بشعبك تحت نير بابل القاسي،

لعلهم يدركون بالحق نير الخطية الداخلي.

يدركون مرارة عبوديتها،

ويشعرون بقساوة عنفها،

فيصرخون إليك أيها المخلص محرر النفوس!

v     نير تأديبك الإلهي يكشف عن نير الخطية المرّ.

لكنك وأنت القدوس بالحب حملته عني!

أراك على الصليب حاملاً نيري!

يا لك من مخلص عجيب!

v     حملت نيري،

هب لي شرف حمل نيرك.

نيري نير الخطية القاتل،

نيرك نير الحب الباذل واهب الحياة!

نيري عار وخزي،

ونيرك مجد وبهاء!

v     لأحمل نيرك فيحملني هو!

لأقبل آلام صليبك،

فيرفعني صليبك إليك،

ويدخل بي إلى حضن أبيك!

v     حقًا نيرك هين وعذب!

به التقي بك أيها المصلوب!

به أتمتع ببهجة قيامتك،

به أتعرف على أسرارك،

به أنعم بالأحضان الأبوية،

وشركة الأمجاد الإلهية.

<<

 


 

الأصحاح الثامن والعشرون

إرميا يقف ضد حننيا

في عام 594 ق.م كان لإرميا النبي مقابلة مع حننيا بن عزوز أحد الأنبياء الكذبة، هذا الذي نسب لله كلامًا باطلاً حيث نادي بأن نير ملك بابل ينكسر في خلال سنتين، وستُرد آنية بيت الرب ويرجع يكنيا الملك وكل المسبيين من يهوذا. كان يظن أنه بهذا يواسي الشعب ويرفع من روحه المعنوية، كما يكسب شعبية على حساب الحق الإلهي.

1. كلمات حننيا الكاذبة[1-4].

2. إرميا يعلق على كلماته[5-9].

3.حننيا يكسر النير الخشبي[ 10-11].

4. الله يقيم نيرًا حديديًا[12-14].

5. إرميا يقف ضد حننيا[15-17].

1. كلمات حننيا الكاذبة:

"وحدث في تلك السنة في ابتداء ملك صدقيا ملك يهوذا في السنة الرابعة في الشهر الخامس أن حننيا بن عزور النبي الذي من جبعون كلمني في بيت الرب أمام الكهنة وكل الشعب قائلاً:

هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً:

قد كسرت نير ملك بابل.

في سنتين من الزمان أرد إلى هذا الموضع كل آنية بيت الرب التي أخذها نبوخذنصر ملك بابل من هذا الموضع وذهب بها إلى بابل.

وأرد إلى هذا الموضع يكنيا بن يهوياقيم ملك يهوذا وكل سبي يهوذا الذين ذهبوا إلى بابل يقول الرب لأنى أكسر نير ملك بابل" [1-4].

غالبًا ما كان اليهود يقسمون أية فترة إلى قسمين: البداية والنهاية، لهذا تُحسب السنة الرابعة من ملك صدقيا هنا بداية ملكه، لأنه ملك إحدى عشر سنة، فالسنة الرابعة تقع في النصف الأول أو بداية ملكه؛ خاصة وأن الثلاث سنوات الأولى كانت مملوءة اضطرابات، وكان الملك بلا سلطان أو قوة، خاضعًا للجزية.

تم هذا الحدث حوالي عام 3-594 ق.م. بعد حوار إرميا النبي مع رسل الملوك بمدة قصيرة[523]. وكان إرميا لا يزال يضع النير على عنقه بأربطته حتى يذكّر الكل بما تنبأ عنه، الأمر الذي لم يحتمله الأنبياء الكذبة.

كان حننيا من جبعون إحدى مدن الكهنة (يش 8: 17) لذا يرى البعض أنه كان كاهنًا[524]، يجتمع بالكهنة والشعب في بيت الرب ليتحدث باسم الرب كذبًا في بنيامين. وهي مدينة تبعد حوالي خمسة أميال شمال غرب أورشليم تسمى حاليًا قرية "الجيب  El-Jib ، قد وُجدت حفريات حديثة فيها تحمل ذكريات تاريخية هامة. خدع الجبعونيون الإسرائيليين في أيام يشوع (يش 9: 1-15)، وكانت جبعون مسرحًا للنزاع بين رجال شاول ورجال داود (2 صم 20: 12-17)؛ وفيها قتل يوآب عماسا (2 صم 20: 8-10). في جبعون حكم داود في نهاية أيامه، وحكم سليمان في بداية ملكه، وفيها نُصبت خيمة الاجتماع ومذبح النحاس. وقبل ان يُبنى الهيكل قدم سليمان هناك ذبائح، وهناك أخذ في الحلم رسالة الله (1 مل 3: 4-15؛ 1 أي 16: 39-40؛ 21: 29؛ 2 أي 1: 3، 6-3).

كلمة "حننيا" تعني "يهوه حنان" أو "واهب نعمة"، لكن حننيا أعلن حنان الله بطريقة خاطئة، حيث قاوم نبوات إرميا الصادقة.

يرى البعض ان ذكر حننيا "نير بابل" [2] أمام إرميا فيه نوع من السخرية، إذ كان لايزال يلبس النير.

إذ حلّ السبي لم يعد ممكنًا للأنبياء الكذبة إنكاره كما فعلوا قبلاً في مقاومتهم الأنبياء الحقيقيين ومن بينهم إرميا، لذلك نادي حننيا بأنه وإن كان قد تم السبي لكنه لن يستمر أكثر من عامين فقط. بتحديده الرقم حاول الإيحاء بتأكيد نبواته، إذ يتكلم كما بأرقام ثابتة ودقيقة كمن هو واثق من صدق رسالته. هذا بجانب استخدامه نفس تعبيرات إرميا النبي بقوله: "هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل" [2]. بينما يتكلم بروح الكذب، إذا به يتستر باسم الرب وروح الحق.

يلاحظ في حديث حننيا أنه يعطى لآنية بيت الرب أولوية عن الملك وكل الشعب، وكأن ما يشغله بالأكثر هي الآنية الثمينة. حقًا لهذه الآنية قدسيتها حتى في عيني الله، لكنه يقدسها من أجل شعبه، فإن استهان الشعب بأن يكون مقدسًا كهيكل حىّ للرب، هل يهتم الله بالأواني؟! أنه يطلبنا نحن أولاً بكوننا الآنية الفخارية التي تحمله في داخلها، كنزنا السماوي!

2. إرميا يعلق على كلماته:

"فكلم إرميا النبي حننيا النبي أمام الكهنة وأمام كل الشعب الواقفين في بيت الرب.

وقال إرميا النبي: آمين: هكذا ليصنع الرب. ليقم الرب كلامك الذي تنبأت به فيرد آنية بيت الرب وكل السبي من بابل إلى هذا الموضع.

ولكن اسمع هذه الكلمة التي أتكلم أنا بها في أذنيك وفي آذان كل الشعب.

إن الأنبياء الذين كانوا قبلي وقبلك منذ القديم وتنبأوا على أراضٍ كثيرةٍ وعلى ممالكٍ عظيمة بالحرب والشر والوبأ.

النبي الذي تنبأ بالسلام فعند حصول كلمة النبي عرف ذلك النبي أن الرب قد أرسله حقًا" [5-9].

أغلب الظن أن جواب إرميا تهكمي فيه استخفاف بما ينطق به النبي الكاذب. مع أنه كان له بحق أن يضيف "آمين" إلى كلام حننيا، لأنه كان يحب شعبه والهيكل ويتمنى لهما الخير. إرميا النبي كمحبٍ لشعبه ورجل وطني كان يشتهي أن ما قاله حننيا يكون صادقًا، فعندما كان يقول: "آمين" يقصدها من كل قلبه، لكنه كان يدرك أنها نبوة كاذبة تناقض الحق الإلهي! لقد سبق فأعلن عن حبه لشعبه أمام الرب، قائلاً: "أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت! ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك" (17: 16).

يرى البعض إنه بهذا أوضح إرميا النبي أن ما يتنبأ به هو (أي بقاء السبي سبعين عامًا) لا يحمل تحديًا للشعب ولا شماتة، لأنه يشتهي سلام شعبه وحريته. أنه يشفع فيهم لسلامهم.

لم يكن ممكنًا للشعب أن يميز بين النبيين أيهما صادق وأيهما كاذب، فقد تنبأ الإثنان باسم الرب.

قدم إرميا برهانين على صدق نبوته:

أولاً: اعتمد على كلمات الأنبياء السابقين له، موضحًا أن ما قاله حننيا مناقض لنبواتهم. هؤلاء الأنبياء هم يوئيل وعاموس وهوشع وميخا وصفنيا وناحوم وحبقوق وغيرهم. هؤلاء جميعًا أعلنوا أن شرًا سيحل بالشعب الذي سلك في الفساد ولم يتب.

ثانيًا: أعلن أن الزمن وحده يكشف الحق من الباطل.

يرى إرميا النبي أن إسرائيل كشعبٍ خاصٍ منتسب لله يلزمه الطاعة والحياة المقدسة مع الشعور بالمسئولية والالتزام.

3. حننيا يكسر النير الخشبي:

"ثم أخذ حننيا النبي النير عن عنق إرميا النبي وكسره.

وتكلم حننيا أمام كل الشعب قائلاً:

هكذا قال الرب:

هكذا أكسر نير نبوخذناصر ملك بابل في سنتين من الزمان عن عنق كل الشعوب.

وانطلق إرميا النبي في سبيله" [10-11].

قاوم حننيا إرميا بالكلام كما بالعمل الرمزي (كسر االنير الخشبي)، بهذا شجع الشعب على الثورة ضد إرميا كنبيٍ كاذبٍ، ودفعهم للعصيان والتمرد على الكلمات النبوية، ظانين أن يكنيا يعود حتمًا مع بقية المسبيين، ويسترد الهيكل آنيته قريبًا.

كان حننيا واثقًا في نفسه لكنه كان غاضبًا من كلمات إرميا، وقد عبر عن رأيه بكسر النير الخشبي الذي وضعه إرميا على عنقه (27: 2). لابد أن حننيا قد جذب إليه بهذا العمل انتباه الناس جميعًا ورضاهم، هؤلاء الذين كانوا في حالة ثورة، خاصة وأن عامة الشعب يميلون إلى تصديق ما يريدون أن يسمعوه. وقف إرميا صامتًا وهو يعلم أن الكبرياء والتفاخر يجذبان الانتباه أكثر من تقديم الحقيقة القاسية المرّة. وقد صدق هذا في كثير من أحداث التاريخ.

لقد ظن حننيا أنه بحماسه الشخصي يغلب إرميا.

4. الله يقيم نيرًا حديديًا:

ثم صار كلام الرب إلى إرميا النبي بعد ما كسر حننيا النبي النير عن عنق إرميا النبي قائلاً:

اذهب وكلم حننيا قائلاً:

هكذا قال الرب:

قد كسرت أنيار الخشب وعملت عوضا عنها أنيارًا من حديد.

لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

قد جعلت نيرًا من حديد على عنق كل هؤلاء الشعوب ليخدموا نبوخذنصر ملك بابل فيخدمونه وقد أعطيته أيضًا حيوان الحقل" [12-14].

لم يجب إرميا النبي على تصرفات حننيا بسرعةٍ ربما لأنه قد ذُهل لموقفه إذ كسر النير الخشبي الموضوع على عنق إرميا كأن حننيا كان متأكدًا مما يقوله. أو كعبدٍ للرب لم يرد أن يدخل مع النبي الكذاب في حوار وخصومة، بل في هدوء يسمع له، كنبي حقيقي لم يتصرف من ذاته، بل رفع الأمر إلى الله في غير تسرعٍ أو انفعالٍ بشري، حتى إذ جاءته الإجابة وقف في شجاعة يجيب حننيا بكلمات الرب نفسه.

لم يكن النبي الحقيقي حالمًا ولا رجل سياسة لكنه استلم الإجابة من يهوه مباشرة، وهي ذات الكلمة التي سبق فاستلمها. إن كان حننيا قد كسر النير الخشبي هوذا الله يقدم نيرًا حديديًا لا ينكسر، يضعه على عنق جميع الأمم.

الرد الذي جاء لإرميا أكثر حدة في النبرة عن ذى قبل. النير الحديدي يعني أن الله يعاقب يهوذا والدول المحيطة بها بعمل نيرٍ أقوى بسبب محاولتهم القيام بالثورة، وعدم الخضوع للتأديب الإلهي.

إن كانوا بالتمرد قد ألقوا عنهم النير الخشبي وكسروه لكنهم عوض التمتع بالراحة والحرية انحنوا لنير حديدي لا ينكسر!

يؤكد إرميا النبي أن الله يقيم نيرًا حديديًا ليس فقط على عنق يهوذا والأمم المحيطة بل وأيضًا على عنق حيوانات الحقل [14] أو الوحوش. إن كان الأنبياء الكذبة قد فقدوا عقولهم فصاروا كالحيوانات أو فقدوا لطفهم فصاروا كالوحوش فإنهم لن يفلتوا من التأديب الإلهي!  

بينما يتنبأ حننيا كذبًا أنه خلال عامين تُرد أواني بيت الرب ويرجع الملك والشعب المسبي، إذا بإرميا يؤكد أنه في خلال سنة يعود نبوخذنصر ليستولي على بقية أواني بيت الرب ويسبي البقية، ولن يتم أي إصلاح إلا بعد سبعين عامًا من السبي. هذا ولم يعش حننيا عامين ليرى النصرة كما ظن إنما مات بعد شهرين وانحدر بكذبه إلى الهلاك.

5. إرميا يقف ضد حننيا:

فقال إرميا النبي لحننيا النبي: اسمع يا حننيا.

إن الرب لم يرسلك وأنت قد جعلت هذا الشعب يتكل على الكذب.

لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا طاردك عن وجه الأرض.

هذه السنة تموت لأنك تكلمت بعصيان على الرب.

فمات حننيا النبي في تلك السنة في الشهر السابع" [15-17].

أكد إرميا عمليًا أن الله لم يرسل حننيا ليتنبأ وسط شعبه إنما ها هو يرسله سريعًا إلى الموت مطرودًا حتى من وجه الأرض. أنه غير مستحقٍ لخدمة الكهنوت، ولا حتى لممارسة الحياة اليومية كإنسان، لأنه يقاوم الحق الإلهي باسم الله نفسه وبادعاءات كاذبة. وقد مات فعلاً بعد حوالي شهرين من الحوار، فثبت صدق نبوة إرميا، ولم يعد هناك عذر لمن سمع لحننيا.

عوض السبعين عامًا للسبي التي أعلنها إرميا النبي أكد حننيا أن السبي لن يبقى أكثر من عامين، ولم يدرِ أن حياته تُنزع عنه ليس بعد السبعين عامًا ولا بعد العامين وإنما بعد شهرين فقط. عوض انتظار الحرية بعد عامين فقد حننيا حياته خلال شهرين.

لعل الرسول بولس اقتدى بإرميا النبي، إذ قال لحنانيا رئيس الكهنة: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض؛ أفأنت جالس تحكم علىّ حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفًا للناموس؟!" (أع 23: 3).

موت حننيا السريع [17] يظهر خطورة العصيان [17]، أوالتمرد على الإرادة الإلهية (تث 13: 5)، كما حدث مع فلطيا بن بنايا (حز 11: 13)، وحننيا وسفيرة (أع 5: 1-11).

كأنه قد أخطأ خطية للموت، لأنه أقام نفسه نبيًا كذبًا وضلل الكثيرين بكلماته المعسولة، خادعًا قلوب البسطاء، لقد انتحل اسم الرب باطلاً.

لماذا صدر الحكم: "هأنذا طاردك عن وجه الأرضّ؟" قال أحد آباء البرية: "من لا يصلح لموضع فالموضع نفسه يطرده". هكذا إذ صار حننيا مفسدًا على الأرض بسبب عصيانه لله ونسب النبوة إليه كذبًا، لم تحتمله الأرض بل أرادت أن تتقيأه... صار أشبه بطعامٍ فاسدٍ لا يستحق أن يبقى في المعدة، لأنه ضار. إنه يُطرد عن وجه الأرض، كأن الأرض لا تطيق أن تراه بوجهها بل تعطيه ظهرها.

إذ صدر هذا الحكم علينا نحن الخطاة، وحُسبنا مطرودين حتى من الأرض التي خُلقت لأجلنا، تعطينا ظهرها لا وجهها، جاء مسيحنا إلى أرضنا، وعاش بيننا، فتهللت الأرض بجبالها وتلالها ووديانها وأشجارها وكل حيواناتها مع الأنهار والبحار والمحيطات... إنها تسبح ابن الإنسان... تشتهي أن تعطيه وجهها، تخضع له وتطيعه بل وتتهلل بمجيئه. لقد قيل:

"تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر... يبتهج ابتهاجًا ويرنم... هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا" (إش 35: 1-2).

"الأنهار لتصفق بالأيادى، الجبال لترنم معًا" (مز 98: 8).

"نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن الله" (مز 46: 4).

جاء ابن الإنسان إلى أرضنا ليقيم مصالحة بين إله السماء والأرض وبيننا، فيصير المؤمنون بركة للأرض، كما قيل للقديس أنبا أنطونيوس إنه بسبب أنبا بولا تتبارك أرض مصر ونيلها وزرعها. أينما وجد المؤمنون تتبارك الأرض والساكنون عليها... تعطينا الأرض وجهها إذ نشعر أن الأرض وملؤها للرب ولمسيحه... ومع فرحنا بتقديس الأرض نرتفع مع مسيحنا إلى سمواته حيث ننعم بالأرض الجديدة والسماء الجديدة (رؤ 21: 1). يرفع روحه القدوس قلوبنا إلى حضن الآب السماوي، فلا نصير مطرودين من وجه الأرض بل منطلقين إلى خالقنا ومقدسنا!

على أي الأحوال لم يمت حننيا في الحال بل خلال شهرين، وكأنه قد أُعطيت له فرصة كافية لمراجعة نفسه والتوبة حتى يستعد لملاقاة الديان الذي نسب إليه أقوالاً كاذبة.


 

من وحي إرميا 28

نيرك أعذب من الكلمات الناعمة!

v     يا له من مشهدٍ خطيرٍ:

إرميا يحمل نيرًا وأربطة مؤكدًا السبي سبعين عامًا،

وحننيا يكسر النير مؤكدًا تحقق الحرية سريعًا!

إرميا يبدو متشائمًا يثبط الهمم،

وحننيا يبدو مواطنًا يرفع الروح المعنوية!

v     حننيا يعلن عن ردّ آنية بيت الرب أولاً،

كأنها أهم من الملكِ والشعب!

أما إرميا وهي يئن من أجل بيت الرب وأثاثاته،

فمنشغل بالبيت الحيّ،

بشعب الله الذي أسرته الخطية،

واستعبده عدو الخير!

v     هب لقلبي أن ينصت لإرميا في داخلي،

فأحمل نيرك الخشبي يا مخلصي المصلوب!

لأقبل صليبك الذي يحملني إليك،

فأجدك تحتضني وسط الآلام!

لا ترفع آلامي بل تحولها إلى عذوبةٍ ومجدٍ فائقٍ!

v     ليمت حننيا فلا تكون له حياة فيّ!

لا أريد كلماته الناعمة!

لا أطلب حكمته البشرية وخداعه!

لا أطلب حرية شكلية وترفًا زمنيًا!

لئلا يتحول نيري الخشبي إلى نيرٍ حديدي،

أهلك مع ذاك المنحدر إلى الهاوية!

v     لتتكلم أنت يا رب في!

تكلم أيها المصلوب!

فإنني أشتهي أن أشاركك آلامك،

فتحملني آلامك إلى خبرة مجد قيامتك!

لأنتصر بك أيها الغالب،

ولا أقبل كلمات العدو المخادعة الناعمة!

<<

 

 

 

الأصحاح التاسع والعشرون

رسالة إلى المسبيين

لم يقف عمل إرميا النبي عند حدود يهوذا، إذ كان يمثل الصوت الإلهي الموجه إلى الملك ورجاله وكل القيادات الدينية والمدنية وأيضًا إلى الشعب المسبي، أغنيائه وفقرائه. لم يذهب إليهم بشخصه ويعمل بينهم في أرض عبوديتهم فقد أقام الله حزقيال النبي لهذه الخدمة (حز 1: 1) أما إرميا فكان يبعث إليهم رسائله.

حُمل إلى السبي 3023 شخصًا عام 597 ق.م، من بينهم يهوياكين وأسرته وبعض الكهنة والأنبياء الكذبة. لم يتأدب هؤلاء الكذبة ولا تغيرت قلوبهم، وإنما في عجرفة كملوا الطريق في أرض السبي. نادوا بسرعة انهيار بابل وعودة المسبيين إلى وطنهم مقدمين الآمال الزائفة. وشعر إرميا النبي أن من واجبه تحذير المسبيين من هذا الخداع. هكذا اتفق الأنبياء الكذبة معًا على مقاومة كلمة الله، سواء الذين بقوا في يهوذا أو الذين ذهبوا مع السبي، يعملون معًا بفكرٍ شريرٍ واحدٍ.

يحوي هذا الأصحاح مجموعة من الرسائل المتبادلة بين أورشليم وبابل. على الأقل توجد أربع رسائل: واحدة من إرميا إلى المسبيين (1-15؛ 21-23) والأخرى من شمعيا إلى صفنيا (25-28)، وثالثة من إرميا إلى شمعيا (24)، ورابعة رسالة إلى المسبيين (31-32). تمت هذه الرسائل في الأيام التالية لسقوط يهوذا عام 597 ق.م. ويبدو من الرسائل أن مملكة بابل كانت تُعاني من بعض قلاقلٍ داخلية.

حملت رسائل إرميا كلمة توبيخ للأنبياء الكذبة والسالكين وراءهم، كما قدمت كلمة تشجيع لتعزية من لهم إيمان بمواعيد الله.

يرى البعض أن ما ورد هنا هو من ذاكرة باروخ.

1. رسالة إلى المسبيين[1-23].

2. رسالة إلى شمعيا[24].

3. رسالة من شمعيا إلى صفنيا[25-29].

4. رسالة إلى المسبيين[30-32].

1. رسالة إلى المسبيين:

"هذا كلام الرسالة التي أرسلها إرميا النبي من أورشليم إلى بقية شيوخ السبي وإلى الكهنة والأنبياء وإلى كل الشعب الذين سباهم نبوخذنصر من أورشليم إلى بابل،

بعد خروج يكينا الملك والملكة والخصيان ورؤساء يهوذا وأورشليم والنجارين والحدادين من أورشليم.

بيد ألعاسة بن شافان وجمريا بن حلقيا اللذين أرسلهما صدقيا ملك يهوذا إلى نبوخذنصر ملك بابل إلى بابل قائلاً..." [1-3].

واضح أن البابليين لم يمنعوا أية اتصالات بين المسبيين والذين بقوا في يهوذا وإسرائيل، ويرى بعض الدارسين أن البابليون لم يمارسوا أية وحشية ضد المسبيين.

هذه الرسالة موجهة إلى "بقية الشيوخ" مما يشير أن بعض الشيوخ قد ماتوا في السبي أو قتلوا أو سجنوا ربما بسبب بعض الاضطرابات المُشار إليها في [21-22]. وإن كان البعض يستبعدون حدوث قتل للشيوخ. معنى كلمة "الشيوخ yeter" هنا غير أكيد، ربما يُقصد بها البارزين أو الرؤساء[525].

وُجهت الرسالة أيضا إلى الخصيان، وهم فئة تشير إلى جماعة العاملين في القصر خاصة في قسم النساء، يُستخدم هذا اللقب على كل رجال القصر الرسميين (52: 25؛ 1 صم 8: 15؛ تك 39: 1) وأصحاب المراكز الكبيرة حتى إن كانوا متزوجين، ففوطيفار الخصي كان متزوجًا.

أُرسلت الرسالة مع ألعاسة بن شافان ربما أخ اخيقام بن شافان الذي هب لنجدة إرميا النبي في وقت الشدة (26: 2) وجمريا بن حلقيا (36: 10، 25 الخ) وهو غير جمريا بن شافان الكاتب، الكل من عائلات كهنوتية لعبت دورًا هامًا في الإصلاح أيام يوشيا الملك. وكانا صديقين لإرميا ومتعاطفين معه في دعوته ورسالته (26: 24؛ 36: 10، 25 الخ)، كان عملهما بالنسبة لنبوخذنصر فيه شيء من اللطف معه بجانب جمعهم الجزية السنوية له، اُرسلا إلى بابل لتأكيد ولاء صدقيا لنبوخذنصر بعد أن ظهرت حركة تمرد بين الأمم التي في الغرب (ص 27). كان هذان الرسولان مبعوثين من صدقيا المتمرد للتفاوض مع الحاكم البابلي، إلا أنهما حملا رسالة من ملكٍ أعظم جدًا من هذا وذاك، من رب الجنود، هذا الذي يتنازل للاتصال بشعبه المسبي على هذا النحو[526].

حملت الرسالة كلمات تشجيع لتثبيت إيمان المسبيين، وفي نفس الوقت حملت توبيخًا للأنبياء الكذبة الذين دأبوا على تقديم آمالٍ زائفةٍ. فمن جهة التشجيع كتب إرميا النبي:

"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل.

ابنوا بيوتًا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها.

خذوا نساء ولدوا بنين وبنات، وخذوا لبنيكم نساء، وأعطوا بناتكم لرجال فيلدن بنين وبنات واكثروا هناك ولا تقلوا.

واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها،

وصلوا لأجلها إلى الرب، لأنه بسلامها يكون لكم سلام" [4-7].

أ. جاءت الرسالة تناشدهم بقبول الضيقة بكونها من يد الرب، وعوض محاولة استعجال النجاة قبل الأوان المحدد يُلزمهم بالخضوع لبابل وأن يمارسوا حياتهم اليومية بطريقة طبيعية في استقرارٍ ما استطاعوا [5-6] وأن ينتظروا في خضوعٍ لله لكي ينقذهم في الوقت المناسب، لأن السبي مستمر ولن ينتهي في عامين كما ادّعى الأنيباء الكذبة. وأن عبادتهم لله الحي تستمر في البلد الغريب في غيبة الهيكل والذبائح (7: 1- 15؛ 21، 22). بمعنى آخر كان غاية الرسالة ألا ينشغلوا بالعودة بل بالتوبة والعبادة حتى يأتي وقت الرجوع في الزمن المحدد.

يبدو أنه قد حلّ بالمسبيين في البداية حالة كآبة لشعورهم بأنهم خطاة أكثر من كل الذين بقوا في أورشليم، لذلك كتب إليهم النبي ليهبهم نوعًا من التعزية خلال تحقيق مواعيد الله والخضوع للخطة الإلهية.

لابد أن كثيرين من الشبان المسبيين كانوا غير متزوّجين، فحثّهم إرميا على الزواج، لكنه لا يعني بهذا الزواج بالبابليات.

إن كان إرميا النبي قد طلب منهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات ويتزوجون كعلامة على استقرارهم زمنًا طويلاً، لكنه لم يطلب منهم أن يمارسوا حياة الفرح والتهليل، لأن فترة سبيهم إنما هي فترة توبة للرجوع إلى الحضن الأبوي.

ب. يؤكد إرميا النبي أن هذه الرسالة مقدمة من "رب الجنود إله إسرائيل" [4]. فلم يكن إرميا إلا مجرد كاتب أو ناسخ لها. كان مريحًا لهم أن يسمعوا ان إلههم هو "رب الجنود" لم يدفعهم إلى السبي ليتركهم، لكنه قادر على خلاصهم ومساندتهم، وهو الإله الذي دخل مع شعبه في ميثاقٍ. فإن كان لم يُسر بهم بسبب خطاياهم لكنه ينتظر توبتهم ليردهم إليه.

ج. إن كان يؤكد: "كل السبي الذي سبيته" [4]، "المدينة التي سبيتكم إليها" [7]، فإنه هو الذي سمح بالسبي ويسمح  بالعودة في الوقت المعين! بمعنى آخر ما حدث لهم ليس لضررهم ولا حدث اعتباطًا، بل لخيرهم وبخطة إلهية.

د. سمع صدقيا بارسال هذه الرسالة إلى المسبيين دون أن يقاومها، ربما إذ مات حننيا (28: 17) شعر الملك بخطورة مقاومة النبي، أو لكي بطريق غير مباشر يؤكد للشعب عدم عودة يكنيا من السبي.

هـ. إذ جاءوا إلى بابل بسماحٍ إلهي يليق بهم أن يصلّوا لأجل خير مملكة بابل وثباتها [7]، فقد صاروا كجزءٍ منها.

يطلب منهم أن يصلوا حتى عن سلامة الدولة التي سبتهم. إنه أمر مدهش بالنسبة لشعب اُمتصت كل أفكارهم وطاقاتهم في أرض الموعد، لكنها وصية عملية لشعب يبقى 70 عامًا في أرض السبي. يمكننا القول أن ما ورد هنا هو تذوق سابق للفكر الإنجيلي الخاصة بمحبة الأعداء والخضوع للرئاسات أيا كانت كما جاء في رسالة القديس بطرس الأولى: "اخضعوا لكل ترتيبٍ بشريٍ من أجل الرب: إن كان للملك، فكمن هو فوق الكل؛ أو للولاة، فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير؛ لأن هكذا هي مشيئة الله: أن تفعلوا الخير، فتُسكتوا جهالة الناس الأغبياء، كأحرارٍ، وليس كالذين الحرية عندهم سُترة للشر، بل كعبيد لله" (1 بط 2: 13، 16). وفي رسالة القديس بولس لتلميذه تيطس: "ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين" (تي 3: 1)، وفي رسالته إلى تلميذه تيموثاوس: "فأطلب أول كل شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار" (1 تي 2: 1-2).

يرى القديس أغسطينوس في هذه العبارة التزام الكنيسة والمسيحي بالصلاة من أجل المسئولين، حتى في السبي، يُصلي المؤمنون لأجل سلامة الدولة حتى يقضوا حياة هادئة مطمئنة كقول الرسول بولس (1 تي 2: 2) [527].

يقول العلامة ترتليان: [بخصوص الكرامات الواجبة للملوك والأباطرة، لدينا نص كافٍ أنه يليق بنا أن نكون في تمام الطاعة وذلك كوصية الرسول (تي 3: 1)... ولكن حدود الطاعة في هذا أن نحفظ أنفسنا منعزلين عن عبادة الأوثان. ولنا في هذا مثال الثلاثة فتية، الذين مع طاعتهم للملك نبوخذنصر ازدروا بتقديم التكريم لتمثاله، فلم يقبلوا العبادة له... هكذا أيضًا كان دانيال خاضعًا لداريوس في كل الأمور، ثابتًا في واجبه مادام بعيدًا عن أساس إيمانه (دا 6)[528]].

يبدو أن بعض المسبيين التجأوا إلى بعض العرافين لتحقيق الأحلام، لكن الله حذرهم من ذلك.

"لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

لا تغشكم أنبيأوكم الذين في وسطكم وعرافوكم،

ولا تسمعوا لأحلامكم التي تتحلمونها.

لأنهم إنما يتنبأون لكم باسمي بالكذب.

أنا لم أرسلهم يقول الرب" [8-9].

يليق بنا أن نحمل روح التمييز فنمتحن ادعاءات الكاذبين بواسطة كلمة الله وخلال ثمارهم، فنرفض الذين يستبدلون الإعلان الإلهي بأحلامهم الصادرة عن رغبات قلوبهم العاصية.

أكدت الرسالة العودة بعد سبعين عامًا.

"لأنه هكذا قال الرب:

إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع.

لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب،

أفكار سلامٍ لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء" [11-14].

وضع الله خطة معينة لشعبه وفي أزمنة محددة لديه؛ هي لسلامهم لا لضررهم، تبعث فيهم رجاءً في المستقبل [11]. وكما يقول المرتل: "ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها! إن أحصها، فهي أكثر من الرمل، استيقظت وأنا بعد معك" (مز 139: 17-18). لكن يلزمنا أن ندرك أن خطة الله غير خطتنا، وأفكاره ومقاييسه غير أفكارنا ومقاييسنا. وكما يقول: "أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي... لأنه كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم" (إش 55: 8-9). حقًا قد تدخل بنا خطته إلى الطريق الضيق لنحمل الصليب ونقبل الألم، لكنه حتمًا يدخل بنا إلى مجد قيامته كملجأٍ آمنٍ منشودٍ. إنهم لا يجدون أرضهم التي اُنتزعوا منها فحسب، وإنما يجدون الله نفسه ملكًا لهم، يقتنوه فيرد سبيهم ويجمعهم من كل الأمم ومن كل موضع طُردوا إليه.

إن كان تمام السبعين عامًا حيث ينتهي السبي يشير إلى ملء الأزمنة حيث جاء مسيحنا يعلن: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكون أحرارًا"، فبمجيئه نطلب الآب فنجده فينا، حيث تمت مصالحتنا واتحادنا معه في ابنه الوحيد خلال الصليب. لقد غيّر مسيحنا قلبنا، وها هو يجدده بروحه القدوس، فنطلب الله بكل قلوبنا بكونه شهوة نفوسنا. بهذا يتحقق الوعد الإلهي:

"فتدعونني وتذهبون وتصلون إليّ فأسمع لكم.

وتطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.

فأوجد لكم يقول الرب،

وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التي طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذي سبيتكم منه" [12-13].

 يطلبون الرب بكل قلبهم، أي بكل حبهم وإرادتهم وطاقاتهم، لذا يجدونه حاضرًا في وسطهم [13]؛ (عا 5: 4-6 ؛ هو 2: 16-20). ينزع عنهم روح التمرد والعصيان فيوجد بينهم! كأن الله يقدم لهم تجديدًا للعهد بشرط الطاعة له.

ربما ظن بعض اليهود أن الله لا يسمع لهم لأنهم مستبعدون من مدينة الله، أورشليم، ومن هيكله. هنا يؤكد إرميا النبي أن الله يطلب القلب لا المكان. كانوا في الأرض المقدسة والمدينة المنسوبة له وهيكله الفريد في ذلك الحين ومع ذلك بسبب فساد قلوبهم لم يسمع لهم، والآن في أرض غريبة وثنية إذ يصرخون من كل القلب بالتوبة ينصت إليهم ليردهم.

نطلب الله بالقلب (الفم الداخلي)... فحين يتكلم القلب يتكلم الإنسان كله، نطلب الله بتقديس كل الأعضاء والحواس التي تتعلم كيف تتحدث مع القدوس. لذلك يقول رب المجد: "ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات".

يؤكد الله لشعبه أنه هو غاية طلبهم، قائلاً:

"تطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.

فأوجد لكم يقول الرب".

يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الرسول بولس وأبينا إبراهيم حاسبًا الأول أعظم من جهة الترك... ترك حتى الاشتياق إلى السماء من أجل حبه للسيد المسيح.

[تقول إن كل البشر يعظمون إبراهيم لأنه ترك بيته وبيت أبيه وأقرباءه حين سمع الوصية: "أبرام، أُترك مدينتك (أرضك) وبيت أبيك" (تك 12: 1). لقد أمره الله بهذا، وكان هذا يعني كل شيء بالنسبة له. حقًا فإننا نحن أيضا نعجب منه. لكن هل هذا يجعله مثل بولس؟ لم يترك بولس بيته وبيت أبيه و ذويه فحسب بل ترك العالم ذاته لأجل يسوع، بل بالأكثر أقول ترك السماء ذاتها. لم تشغل سماء السموات قلبه، إذ كان هدفه الوحيد هو حب يسوع. لنسمع كلماته الواضحة في هذا الصدد: "لا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق تستطيع أن تفصلنا عن محبة المسيح " (رو 8: 38-39)].

"لأنكم قلتم قد أقام لنا الرب نبيين في بابل.

فهكذا قال الرب للملك الجالس على كرسي داود ولكل الشعب الجالس في هذه المدينة إخوتكم الذين لم يخرجوا معكم في السبي.

هكذا قال رب الجنود:

هأنذا أرسل عليهم السيف والجوع والوبأ وأجعلهم كتينٍ رديءٍ لا يؤكل من الرداءة.

وألحقهم بالسيف والجوع والوبأ،

وأجعلهم قلقًا لكل ممالك الأرض حلفًا ودهشًا وصفيرًا وعارًا في جميع الأمم الذين طردتهم إليهم" [15-18].

إذ تحدث عن الباقين في يهوذا أشار إلى الملك بقوله: "الملك الجالس على كرسي داود" [16]، ليؤكد لهم أن بقاء الملك على كرسي داود لا يعني رضاء الرب عنه. فقد قيل عن نسل داود: "إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي... افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنه ولا أكذب من جهة أمانتي؛ لا انقض عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي" (مز 89: 30-34).

بمعني آخر، يقول لهم إني أرسل السيف والوباء والجوع علي الملك والشعب الباقي معه، ثم أطردهم إلى كل الأمم. سيكون حالهم أشر مما أنتم عليه!

ربما يتساءل البعض: لماذا أطال الله مدة السبي لتبلغ السبعين بينما نادى الأنبياء الكذبة بأنها لن تتعدى السنتين؟ هذا لا يعني أن الأنبياء الكذبة أكثر حنانًا بالشعب من الله، لكن ما يهم الأنبياء الكذبة هو تهدئة النفوس ولو على حساب خلاصها وأبديتها، أما ما يهم الله فهو خلاص شعبه وأبديته. لم تكن مدة العامين كافيه ليفحص الشعب نفسه ويدرك فساده ليتوب. هذا وقد أنجبت هذه الفترة الطويلة رجالاً لله شهودًا أمناء أمام الأباطرة والشعب الغريب الجنس، مثل دانيال النبي والثلاثة فتية القديسين ومردخاي وإستير ونحميا وعزرا والأعداد الراجعة إلى أورشليم في غيرة ونقاوة قلب.

"من أجل أنهم لم يسمعوا لكلامي يقول الرب إذا أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً ولم تسمعوا يقول الرب" [18-19].

لم يتوقف الله عن إرسال عبيده الأنبياء لتحذيرهم، إنه يكرر الرسالة طالبًا توبتهم. ويكرر القديس يوحنا الذهبي الفم حديثه عن "عدم القسم" مرارًا وتكرارًا معتمدًا على هذه العبارة [19] حيث يكرر الله نصحه لشعبه مرارًا وتكرارًا عبر الأجيال.

v     أريد أن أحدثكم مرة أخرى عن موضوع "القسم"، لكنني أشعر بالخجل. حقيقة بالنسبة لي لا أملّ عن أن أتحدث نهارًا وليلاً لأكرر نفس الأمر إليكم. لكنني أخشى إذ أصنع هذا لأيامٍ كثيرةٍ أبدو أنني أدينكم على إهمالكم الشديد...

لست فقط أخجل بل أيضًا أخاف عليكم، فإن التعليم المستمر للذين يأخذون الأمر بجدية نافع ومكرم، أما بالنسبة للمتهاونين فضار وخطير للغاية. كلما سمع الشخص أكثر اقترب بالأكثر إلى عقابٍ أشد إذا لم يمارس ما قيل له. لهذا يوبخ الله اليهود قائلاً: "إذ أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً ولم تسمعوا" [19].

نحن نصنع هذا معكم لاهتمامنا العظيم بكم. لكننا نخشى أن يصير هذا النصح وهذه المشورة ضدكم في اليوم الرهيب[529].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"وأنتم فاسمعوا كلمة الرب يا جميع السبي الذين أرسلتهم من أورشليم إلى بابل.

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن آخاب بن قُولايا وعن صدقيا بن معسيا اللذين يتنبآن لكم باسمي بالكذب.

هأنذا أدفعهما ليد نبوخذنصر ملك بابل فيقتلهما أمام عيونكم.

وتؤخذ منهما لعنة لكل سبي يهوذا الذين في بابل فيُقال يجعلك الرب مثل صدقيا ومثل أخآب اللذين قلاهما ملك بابل بالنار.

من أجلٍ أنهما عمِلا قبيحًا في إسرائيل وزنيا بنساء أصحابهما وتكلما باسمي كلامَّا كاذبًا لم أوصهما به وأنا العارف والشاهد يقول الرب" [20-23].

إن كان الله يرد المسببين بعد توبتهم ورجعوهم إليه بكل قلوبهم فهو أيضًا يؤدب الذين بقوا في يهوذا، الذين لم يسمعوا لصوته خلال أنبيائه. إنهم التين الرديء جدًا الذي لا يُؤكل بسبب ردائته (ص 24).

عاد ليتحدث عن الأنبياء الكذبة الذين سُبوا، محددًا بالاسم أخاب بن قُولايا وصدقيا بن معسيا، هذان اللذان تكلما بالكذب فسُبيا في عام 597 ق.م؛ وعوض التوبة ارتكبا الزنا مع نساء أصحابهما، فارتبط فساد كلامهما بفساد سيرتهما، فاستحقا أن يقليهما نبوخذ نصر بالنار ليصيرا عبرة ومثلاً للعنة!

اُستخدمت عقوبة "القلي" أو "الإلقاء في النار" أحيانا خلال تقديس الوثنيين للنار، كأنهم يقدمون ذبائح بشرية فيها.

ان الشخصين المذكورين هنا لم نسمع عنهما في غير هذا المكان. ولعلَّ إرميا لم يعرفهما شخصيًا، بل سمع عنهما في رسالة من الرسائل التي وردت إلى أورشليم من المسبيين.

يرى القديس جيروم أن هذين النبيين الكاذبين يشيران إلى الذين هم خارج الكنيسة، الذين يحرقهم عدو الخير كما بالنار، فيقليهما، لكنه لا يكف عن محاربة الذين في الداخل لكي يفسد كنيسة المسيح، إذ يقول: [لا يتطلع الشيطان إلى غير المؤمنين فإن هؤلاء في الخارج يحرقهم الملك الأشوري في الأتون [22]، وإنما إلى كنيسة المسيح إذ يسرع ليفسدها (إش 8: 1)، وكما جاء في حبقوق أن "طعامه من المختار" (حب 1: 16) (السبعينية)[530]].

2. رسالة إلى شمعيا:

تحدث إرميا إلى ثلاث مجموعات:

الذين أخذوا إلى السبي (10-14)؛

والذين لحقوا بهم بعد ذلك (15-29)؛

ثم الأنبياء الكذبة في بابل (20-23)،

وأخيرًا رسالة خاصة إلى نبي كاذب يُدعى شمعيا.

كان لرسالة إرميا النبي إلى المسبيين أثرها عليهم، كما سببت حالة ثورة وغضب شديد خاصة بين الأنبياء الكذبة هناك، فهاجموها بعنف.

بعث إرميا رسالة إلى نبي كاذب سبي عام 597 ق.م يدعى شمعيا النحلامي الذي أرسل رسائل إلى الشعب وإلى صفنيا بن معسيا الكاهن وكل الكهنة يثيرهم ضد إرميا النبي، ويحتج لدى السلطات في أورشليم على رسالة إرميا بالقبض عليه ومحاكمته. لا نعرف شيئًا عنه، ربما كان موطنه نحلام وهي غير معروفة أم لا. ربما دُعي النحلامي لأنه كان من الحالمين إذ كان يدعي أن الله يتحدث إليه خلال الأحلام؛ أو لأنه لقب خاص باسرته.

لم يرسل شمعيا إلى إرميا النبي ليبرر موقفه أو يعلن توبته إنما كتب ليثير الكل ضده... كتب كصاحب سلطان بروح العجرفة والكبرياء.

3. رسالة من شمعيا إلى صفنيا:

"وكلم شمعيا النحلامي قائلاً:

هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً:

من أجل أنك أرسلت رسائل باسمك إلى كل الشعب الذي في أورشليم، وإلى صفنيا بن معسيا الكاهن وإلى كل الكهنة قائلاً:

قد جعلك الرب كاهنًا عوضًا عن يهوياداع الكاهن لتكونوا وكلاء في بيت الرب لكل رجلٍ مجنونٍ ومتنبئ فتدفعه إلى المقطرة والقيود.

والآن لماذا لم تزجر إرميا العناثوثىٍ المتنبئ لكم؟!

لأنه لذلك أرسل إلينا إلى بابل قائلاً إنها مستطيلة.

ابنوا بيوتا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها.

فقرأ صفنيا الكاهن هذه الرسالة في أذنيّ إرميا النبي" [24-29].

كان صفينا في ذلك الوقت رئيسًا لحرس الهيكل. لا نعرف شيئًا عن "صفنيا" ولا عن يهوياداع (آية 26) وغيرهما على وجه التحقيق، لكنهم كانوا بلا شك معروفين تمامًا للقراء والسامعين في ذلك الزمن.

لم يرسل شمعيا باسم الله بل باسمه الشخصي متهمًا إرميا أنه قد بعث روح الاستكانة والخنوع وسط المسبيين، إذ طالبهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات كمن هم مستقرين في بابل.

ليس عجيبًا أن يتهم النبي الكاذب رجل الله الحقيقي بأنه قد عيَّن نفسه بنفسه.

كتب شمعيا إلى صفنيا ليثيره حاسبًا أن الله أقامه عوض يهوياداع لا لشيء إلا ليضطهد أنبياء الله الحقيقيين مثل إرميا الذي حسبه رجلاً مجنونًا. هكذا كان الأشرار يحسبون الأنبياء الحقيقيين مختلّي العقل (2 مل 9: 11، أع 26: 24؛ 2: 13، 15، 17، 18). كان إرميا رمزًا للسيد المسيح الذي اُتهم هكذا من أقربائه أنه مختل العقل (يو 10: 20).

لم تصلنا بقية رسالة إرميا لشمعيا، ولكن ما وصل إلينا هو ملخص رسالة شمعيا لصفنيا، وقام الأخير بقراءتها علانية أمام إرميا، ربما لتحذيره من شمعيا.

4. رسالة إلى المسبيين:

ثم صار كلام الرب إلى إرميا قائلاً:

أرسل إلى كل السبي قائلاً:

هكذا قال الرب لشمعيا النحلامي:

من أجل أن شمعيا قد تنبأ لكم وأنا لم أرسله وجعلكم تتكلون على الكذب،

لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا أعاقب شمعيا النحلامي ونسله.

لا يكون له إنسان يجلس في وسط هذا الشعب،

 ولا يرى الخير الذي سأصنعه لشعبي يقول الرب،

 لأنه تكلم بعصيان على الرب" [28-32].

كتب إرميا إلى المسبيين بخصوص النبي الكاذب شمعيا بعبارات تقارب ما كتبه عن حنانيا (28: 15-16)، فقد حُرم من الخير النهائي، أي عودة البقية الأمينة إلى يهوذا والتي كان يمكن أن تشمله هو وبيته. لم يصدر هذا الحكم من إرميا كرغبة في الانتقام الشخصي، إنما هو حكم إلهي صادر من أجل الشعب كله، وما على النبي إلا إعلانه.

قد نستغرب من صرامة إرميا في ردّه على مكتوب شمعيا [31]، لكن ذلك  كان بناء على أمرٍ إلهي، لكن لا يجوز لنا أن نرد هكذا على مقاومينا، ولا أن نرجو لهم شرًا أو موتًا سريعًا (مت 5: 44).

 

 


 

من وحي إرميا 29

إسندني في أرض السبي!

v     أدبت شعبك بالسبي البابلي،

وفي حبك لم تتجاهلهم!

بعثت إليهم رسالة خلال نبيك إرميا تطمئنهم،

v     لأسمع صوتك في أرض السبي وأتقبل رسائلك!

علمني أن أشعر بالاستقرار مهما طالت أيام غربتي،

لأستريح فيك، فأنت وحدك راحتي.

أعيش كما في وادي الدموع،

لكنك تمد يدك لتمسح كل دمعة من عيني!

v     هب لي القلب المتسع فأصلي،

أصرخ في أعماقي حتى أتمم أيام السبي بسلام،

أصلي لأجل الذين حولي...

حقًا ليتسع قلبي بالحب حتى نحو مضايقيّ!

v     هب لي ألا يكون السبي علة للتذمر،

ولا مجالاً للانحراف،

بل فرصة للتوبة والرجوع إلى أحضانك.

اشتهي أن أتحرر لا من أرض السبي بل من عبودية العدو!

أنطلق لا إلى أرض يهوذا،

بل إلى أحضان الآب.

اشتهي الهيكل غير المصنوع بيدٍ بشرية،

أتمتع بالشركة مع طغمات السمائيين!

v     أخيرًا أكرر صراخي إليك:

اسندني في أرض السبي!

هب لي حياة الشكر الدائم!

هيئني بروحك القدوس للحياة المجيدة!

<<


 

الأصحاحات 30-33

سفر تعزية

"العودة وقيام مملكة يهوذا"

تقطع هذه الأصحاحات التسلسل التاريخي لسير الأحداث التي يذكرها باروخ الكاتب، وهي تمثل مجموعة من أقوال النبي مأخوذة من مراحل مختلفة من خدمته. تسمى هذه الأصحاحات الأربع "سفر تعزية"، يمكن أن تُدعى "تسبحة نصرة الخلاص والحرية"، تعبر عن الرجاء المستقبلي أكثر منها الحكم والتأديب كما جاء في الأصحاحات السابقة.

مع تحذيرات إرميا المستمرة ودموعه التي لا تجف وتأكيده للسبي لم يفارق الرجاء كلماته قط، فبالنسبة له لم تكن العقوبات غاية أو نهاية لأحاديثه بل وسيلة للكشف عن الدخول في علاقةٍ جديدةٍ مع الله وعهدٍ جديدٍ. يبقى الله أمينًا في مواعيده وغني في نعمته، يود أن يفيض بها على المؤمنين في الوقت المناسب، خاصة بعد عبور زمن التأديب.

جاءت مقدمة هذه الأصحاحات (30: 1-3) تحمل نغمة العزاء المملوء فرحًا، أما قمتها ففي (31: 31-34).

إن كانت العقوبات قد وُجهت ضد يهوذا لكنه يوجه العزاء إلى إسرائيل ويهوذا معًا (30: 4)، يقدمه في شيءٍ من التفصيل لكي ينشغل به المؤمن في لحظات التأديب فلا يسقط في حالة قنوط بل يمتلئ رجاءً في الرب.

يعلن الله لنبيه كما لكل نفسٍ مقدسةٍ عن مقاصده من جهة شعبه، حتى تطمئن وتستريح في الرب، مدركة أنه دائمًا يعمل لبنيان كنيسته ومجدها الأبدي.

<<


 

الأصحاح الثلاثون

عودة مجيدة

يرى البعض أن هذا الأصحاح والذي يليه جاءا في وقت مبكر عن الأصحاحين (32، 33)، اللذين ينتسبا إلى السنة العاشرة من مُلك صدقيا. كتُبا ليُحفظا لاستخدامها في وقت متأخر[531].

1. مقدمة لسفر التعزية[1-3].

2. كارثة يعقوب وخلاصه[4-11].

3. شفاء جراحات صهيون[12-17].

4. اصلاح يعقوب[18-22].

5. ادراك مقاصد الله[ 23-24].

1. مقدمة لسفر التعزية:

"الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً:

هكذا تكلم الرب إله إسرائيل قائلاً:

اكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر.

لأنه ها أيام تأتي يقول الرب وأرد سبي شعبي إسرائيل ويهوذا يقول الرب،

وأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت آباءهم إياها فيمتلكونها" [1-3].

مقدمة كتبها جامع هذه النبوات، تحوى الموضوع الرئيسي للرجاء في التجديد والاصلاح الواردين في الأصحاحات (30-33).

صدر الأمر الإلهي لإرميا أن يسجل ما يسمعه من الله في كتاب، لكي تقرأه الأجيال القادمة، فمن جانب إذ يتحقق التحرر من السبي بعد السبعين عامًا تدرك الأجيال أمانة الله في وعوده التي ظنها البعض مستحيلة. ومن جانب آخر فإن هذا السبي يمس حياة البشرية عبر العصور... الكل محتاج أن ينصت إلى وعود الله بالتحرر من سبي الخطية، والانطلاق من بابل الزانية إلى أورشليم الداخلية، أي يتحول القلب من الفساد إلى بر المسيح.

يستخدم تعبير: "ها أيام تأتي" [2] في النبوات عن الأحداث المقبلة سواء في المستقبل القريب أو الأحداث الأخروية[532].

جاء النص العبري لقوله "أرد سبي شعبي" [3]. لتقديم بركات أو نعم للشعب، وليست بالضرورة عتق من السبي وذلك كما في (أيو 42: 10، حز 16: 53).

الوعد موجه للمملكتين الشمالية (إسرائيل) والجنوبية )يهوذا)، إذ ذابا معًا في السبي وعادا كشعبٍ واحدٍ، وصار الكل تينًا جيدًا جدًا (ص 24). لعله من خطة الله في السبي أنه إذ انقسم الشعب إلى مملكتين، لم يكن هناك طريق للوحدة إلا من خلال نير السبي.

لم يقف الوعد عند عودة الشعب في وحدة إلى أرض آبائهم، وإنما صاروا "يمتلكونها" [3]. ماذا يعني بقوله: "يمتلكونها"؟ حقًا إنها أرض الموعد، هبة الله لهم، لكنه يؤكد لهم أنهم يمتلكونها لا تمتلكهم. فقد عاش اليهود خلال الفكر الحرفي تمتلكهم الأرض، تشغلهم أرض الموعد ككل ومدينة الله أورشليم وهيكله... لا ليتمتعوا بسكنى الله القدوس في وسطهم فيتقدسون، وإنما لممارسة العبادة بحرفية قاتلة، حتى إن اختلطت عبادتهم بالعبادة الوثنية أو الرجاسات. لذلك يؤكد الله لهم: "تمتلكونها" أي تكون هذه العطايا الإلهية بمقدساتها لخدمتكم، أي لتقديس أعماقكم. يريدنا أن نكون ملوكًا مقدسين نحمل سلطانًا روحيًّا.

2. كارثة يعقوب وخلاصه:

"فهذا هو الكلام الذي تكلم به الرب عن إسرائيل وعن يهوذا.

لأنه هكذا قال الرب:

صوت ارتعاد سمعنا. خوف ولا سلام.

اسألوا وانظروا إن كان ذكر يضع.

لماذا أرى كل رجل يداه على حقويه كماخضٍ وتحول كل وجه إلى صفرة.

آه! لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله.

وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه" [4-7].

يوجه حديثه إلى إسرائيل ويهوذا، فيبدأ بإسرائيل لأنه سُبي أولاً، وبالتالي تكون فترة سبيه أطول مما ليهوذا.

بينما ينادى الأنبياء الكذبة أنه سلام وآمان، إذا بالنبي يعلن أنه "صوت ارتعاد... خوف ولا سلام" [5]. يرى البعض أن "صوت الارتعاد" [5] يشير إلى ما حدث من كورش على بابل، فقد حدث ارتباك شديد، ولم يدرك الشعب الأسير ماذا سيكون مصيره. هل هذه الحرب لصالحه أم ضده؟! هل يفقد ما قد جمعه في بابل أم يعطيه فرصة للعودة إلى أرض الموعد؟‍‍‍‍‍‍‌‌! دخل يعقوب في ضيق حين هاجمت جيوش مادي وفارس بكل طاقاتها البابليين ولم يدرك يعقوب أنه يوم خلاصٍ له بواسطة كورش الفارسي.

من هول الكارثة مع العجز عن التصرف وضع كل رجلٍ يديه على حقويه كامرأة في حالة مخاض، وقد صارت وجوههم شاحبة. ترمز حالة المخاض في إرميا  إلى شدة الكارثة (4: 31؛ 6: 24؛ 22: 23). هكذا يصور آلام السبي بآلام الولادة، فهي وإن كانت مرّة وقاسية، لكنها مقدمة لخلاص الله (عا 5: 18-20؛ صف 1: 14-18).

جاء الحديث عن الضيق مقتضب جدًا، لأنه حدث لفترة قصيرة تلاه خلاص وعودة للشعب. وكأنه آلام مخاض سريع يليه فرح بالطفل المولود.

يقول: "اسألوا وانظروا" [6]، فإن خلاص الله لم يُسمع مثله من قبل، وكما أننا لا نجد ذكرًا يئن من آلام مخاضٍ ليلد، هكذا تكون الضيقة فريدة والخلاص غير متوقع! حينما تقف كل حكمة بشرية وتوقع إنساني يعمل الله إله المستحيلات عجائب!

يُقدم لنا الخلاص في هذا الأصحاح هكذا:

أ. تمتع بالحرية من نير الخطية [8].

ب. تمتع بداود الملك [9].

ج. السلام والراحة [10].

د. المعية مع الله [11].

هـ. تحويل التأديب إلى خلاص [11].

و. شفاء الجراحات عديمة البرء [12-17].

ز. إقامة مدينة متهللة نامية [18-23].

أ. تمتع بالحرية من نير الخطية [8]:

"ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني أكسر نيره عن عنقك وأقطع ربطك ولا يستعبده بعد الغرباء" [8].

يقدم هذا الوعد الإلهي "رب الجنود" نفسه واهب الحرية، فهو يكسر النير عن عنقنا، ويقطع ربطنا، ولا يعود يستعبدنا غرباء! لقد أكد السيد المسيح: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 36). حمل نير الصليب ليكسر نير خطايانا، وربط جسده على الصليب بالمسامير، لكي يحل رباطاتنا، ودفع حياته ودمه ثمنًا كي لا نعود نُستعبد بعد للغرباء.

ماذا يعني بقوله: "لا يستعبده بعد الغرباء؟" حين نحني رقبتنا لمسيحنا الذي صار أخًا بكرًا ونستعبد أنفسنا بالحب لله أبينا، نستعذب هذه العبودية الإرادية التي تحملنا إلى شركة المجد الإلهي، تنزع عنا عارنا وضعفنا وفسادنا لنحيا مع الله في أحضانه. أما من يرغب في التحرر من العبودية لله النابعة عن علاقات الحب، فإنه يستعبد نفسه لغرباء كثيرين. لهذا يقول القديس أرسانيوس: كن عبدًا لسيدٍ واحدٍ (الله) فلا تُستعبد لكثيرين! شتان ما بين عبودية الحب الإرادية لله والعبودية للخطايا ولإبليس وجنوده، هذه التي تدفع بالإنسان إلى الحرمان والهوان والمذلة!

ب. تمتع بداود الملك [9]:

"بل يخدمون الرب إلههم وداود ملكهم الذي أقيمه لهم" [9].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "اعتاد الأنبياء أن يدعو كل واحدٍ من الملوك الصالحين داود"[533]. كما يقول[534] إن كثير من الأنبياء (حز 34: 23-24؛ 27: 24-25، هو 3: 5) يتحدثون عن داود كقادمٍ وقائمٍ مرة أخرى، لا يعنون بهذا داود الذي مات بل أولئك الذين يبارون فضيلته... عظيم هو مجد الإنسان الذي مع الله ومع الناس!

هنا يعد بأن يملك داود على شعبه، بينما نعلم أنه لم يقم ملك قط من نسل داود بعد العودة من السبي. حقًا لقد تم الرجوع على يد زربابل من نسل داود لكنه لم يُقم ملكًا. لقد خضع اليهود لكورش الفارسي وإسكندر المقدوني ثم للدولة الرومانية... فأين داود الملك؟ إنه المسيا الملك (إش 9: 7، لو 1: 32). يتم الخلاص بمجيء ابن داود المسيا المخلص، يملك على النفس ويقيم فيها مملكته بالخلاص.

إذ ترفض النفس أن يملك الله فيها يعطيها الله سؤل قلبها فتُستعبد لملوك غرباء كثيرين، وينحني عنقها للنير أو الأنيار، وإذ ترجع للرب تجد الله نفسه ملكها، والمخلص ابن داود يرعاها الذي قيل عنه: "يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 32-33). هذا الذي يقيم خيمته الساقطة في داخل النفس، فيحولها من الخراب إلى مملكة داود المجيدة المفرحة. هكذا يتحقق في داخلها الوعد الإلهي: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأقيم لداود غصن برٍ، فيملك ملك وينجح ويجرى حقًا وعدلاً في الأرض" (23: 5). تخضع كل طاقات النفس والجسد للملك الحيّ داود، وتصير هذه الطاقات "بني إسرائيل الطالبين الرب إلههم، الخاضعين بالحب لداود ملكهم". وكما يقول هوشع النبي: "بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام" (هو 3: 5).

ج. تمتع بالسلام والرحمة:

"أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف يقول الرب،

ولا ترتعب يا إسرائيل،

لأني هأنذا أخلصك من بعيد ونسلك من أرض سبيه فيرجع يعقوب ويطمئن ويستريح ولا مزعجٍ" [10].

إذ تخضع النفس لداود الملك، يحملها بكل طاقاتها من بابل ويدخل بها إلى مملكته، بل ويقيم منها مملكة سلامٍ فائقٍ، لا يقدر عدو أن يقتحم أسوارها أو ينهب آنيتها المقدسة!

ترجع النفس إلى حضن الآب بيتها الحقيقي بعد زمان تعزيتها، ويرجع الرب إلى أعماقها، ويقيم مملكته التي تفيض سلامًا بغير توقف.

يلاحظ هنا [10] أنه يؤكد أن الخلاص الممنوح لهم يُقدم لهم خلال نسلهم، لكي لا يظنوا أن العودة تتم في أيامهم بل في الأجيال القادمة، بل بعد إتمام السبعين عامًا.

مع عجز الإنسان التام عن الخلاص يتدخل الله ليخلص يعقوب من ضيقه، كاسرًا نير السبي عن عنقه، هذا يتبعه الطاعة والخدمة لله وقبول الملك الجديد "المسيا" بكونه داود الملك [9] (هو 3: 5؛ حز 34: 23-24؛ 37: 24-25).

آلام السيد المسيح مع كونها قاسية وعنيفة لكنها نافعة وضرورية لخلاص البشرية.

هنا لأول مرة يشار إلى يعقوب بكونه "عبدي" ويُعرف بكونه "إسرائيل". يوجد تشابه هنا بما ورد في (إش 41: 8-10؛ 43: 1-6؛ 44: 2-5 الخ).

لعله كان أمام إرميا النبي كلمات إشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن حمله يزول عن كتفك ونيره عن عنقك ويتلف النير بسبب السمانة" (إش 10: 27).

يلاحظ هنا أن النبوة لم تشر قط إلى السبي البابلي وانهياره وإنما إلى انهيار كل الأمم [11] التي يستخدمها الله لتأديب شعبه. إنها ليست نبوة خاصة بزمنٍ معين لكنها كلمة الله التي تمس حياة الكنيسة عبر كل العصور، التي يؤدبها الله لكي تقبل عمله الخلاصي في حياتها حتى إن ظهرت كمن قد تبددت بين كل الأمم.

د. تحويل التأديب إلى خلاص:

"لأني أنا معك يقول الرب لأخلصك.

وإن أفنيت جميع الأمم الذين بددتك إليهم فأنت لا أفنيك بل أؤدبك بالحق ولا أبرئك تبرئة" [11].

يجيب الأب ثيؤدور عن السؤال: لماذا يسمح الله بالضيقات مؤكدًا أنها إما لاختبار المؤمنين أو لإصلاحهم أو كعقوبة عن الخطايا... مقدمًا لنا الحديث الإلهي هنا كعينة للسماح بالضيقات لأجل التأديب: [عندما يؤدب أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، لكي ما يسمو بهم إلى حالٍ أعظم من النقاء، مطهرًا إياهم من الأفكار الدنسة... وذلك كالقول "كثيرة هي بلايا الصديقين" (مز 34: 19)، "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابنٍ يقبله... فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟! ولكن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول (أولاد غير شرعيين) لا بنون" (عب 12: 5-8). وفي سفر الرؤيا: "إلى كل من أحبه أوبخه وأودبه"... ويُصلي داود من أجل عطية التطهير هذه قائلاً: "جربني يارب وامتحني، صفِ كليتي وقلبي" (مز 26: 2)، وإذ يعلم النبي قيمة هذه التجارب يقول: "أدبني يارب ولكن بالحق لا بغضبك" (10: 24)، وأيضًا: "احمدك يارب لأنه إذ غضبت علىّ إرتد غضبك فتعزيني" (إش 12: 1)[535]].

حينما يتحدث الله عن أولاده يقول: "لا أفنيك بل أؤدبك"، أما بالنسبة للأمم فيقول "أفنيهم". كأن الله في تأديبه لنا يطلب خلاصنا ونمونا، لكنه يحطم الأمم (أي الخطايا) أو مملكة إبليس التي حتمًا تنهار أمام مملكة الله!

3. شفاء جراحات صهيون غير القابلة للبرء:

"لأنه هكذا قال الرب:

كسركِ عديم الجبر وجرحكِ عضال.

ليس من يقضي حاجتكِ للعصر، ليس لكِ عقاقير رفادة.

قد نسيكِ كل محبيكِ.

إياكِ لم يطلبوا لأني ضربتُكِ ضربة عدوٍ تأديب قاسٍ،

لأن إثمكِ قد كثر وخطاياكِ تعاظمت.

ما بالكِ تصرخين بسبب كسركِ؟!

جرحكِ عديم البرء، لأن إثمكِ قد كثر وخطاياكِ تعاظمت قد صنعت هذه بك.

لذلك يؤكل كل آكليكِ، ويذهب كل أعدائكِ قاطبة إلى السبي، ويكون كل سالبيكِ سلبًا، وأدفع كل ناهبيكِ للنهب.

لأني أرفدك وأشفيك من جروحك يقول الرب:

لأنهم قد دعوكِ منفية صهيون التي لا سائل عنها" [12-17].

كانت هناك أسباب كثيرة تدعو إلى اليأس، فقد حلّ السبي، وصارت جراحات الشعب غير قابلة للبرء، لقد ضُربوا ضربةً مميتة، وليس من طبيبٍ ماهر يقدر أن يعالج ولا من بلسان يشفي المرض... بقى طبيب واحد هو الله مخلص شعبه الصانع العجائب، إله المستحيلات الذي يقدم نفسه بلسانًا لهم فيشفيهم. والعجيب أنه لا ينتظر من يدعوه أو من يأتي إليه ليعرض جراحاته، بل في حبه الباذل يتقدم من تلقاء نفسه [7] كطبيبٍ للنفس ومحررٍ لها. إنه يفتش عن المجروحين والمسبيين والمطرودين والمرذولين... حين تقف كل الأذرع البشرية عاجزة تظهر يد المسيا المخلصة والشافية.

لكي يؤكد الحاجة إلى تدخل إلهي للإصلاح أوضح خطورة الموقف. إنها في حالة لا يُرجى إصلاحها، ولا يوجد من يهتم بها. جُرحت بسبب خطاياها، ووسط هذه الجراحات فقدت حتى محبيها الذين اشتركت معهم في الخطايا... فازدادت الآلام آلامًا. وكما قيل في هوشع النبي: "ورأي أفرايم مرضه ويهوذا جُرحه، فمضى أفرايم إلى آشور وأرسل إلى ملك عدُوّ ولكنه لا يستطيع أن يشفيكم ولا أن يزيل منكم الجرح" (هو 5: 13).

مصر التي شجعت يهوذا على التمرد أكثر من مرة لم تعد تسندها. ففي عام 588 ق.م. انسحب الجيش المصري أمام البابليين وسقطت أورشليم بعد قليل (37: 1 الخ). إنه ليس من ينقذ غير الرب نفسه.

فجأة يتحول إرميا من الحديث عن العقوبة والتأديب إلى إعلان الخلاص [15-16]. الله يستخدم نبوخذنصر عبده ليتمم مقاصده بتأديب شعبه بعدئذ يأتي الوقت ليسلم بابل للدينونة. بهذا تصير الجراحات التي بلا شفاء قابلة للشفاء [17]، فإن الغير مستطاع عند الناس مستطاع لدى الله (مر 10: 27).

لقد سمح الله بقيام بابل لتحطيم آشور، وقيام مادي وفارس لتحطيم بابل، وقيام اليونانيين (إسكندر المقدوني) لتحطيم فارس ومصر (فرعون) الخ... هكذا تنهار كل قوى العالم وتحطم بعضها البعض، أما النفس التي تلتصق بالله مخلص فتنال قوة فوق قوة، ومجدًا فوق مجدٍ!

الشفاء الروحي أحد المكونات الأساسية لعمل الله الخلاصي في المسيح (يوئيل 2: 25).

إذ تُشفي النفس من جراحاتها المستعصية وذلك بجراحات المصلوب لا تعود بعد تُدعى "منفية صهيون التي لا سائل عنها" [17]، بل "المطلوبة، المدينة غير المهجورة" (إش 62: 12). تصير المحبوبة لدى الله والساكنة في أحضانه. كلمة "منفية" هنا تشير إلى زوجة مطرودة من رجلها أو مهجورة منه... الآن تعود كعروسٍ محبوبةٍ يلتصق بها رجلها، ويتحد معها.

يتحدث الآباء عن السيد المسيح كطبيبٍ سماوي قادر وحده أن يشفي الجراحات المستعصية:

v     حقًا يود الطبيب السماوي أن يكافئ التائبين المملوئين ندامة بل بالأحرى الأسخياء في العطاء، لا بتقديم المغفرة لهم فحسب بل والإكليل[536].

الأب قيصريوس أسقف آرل

4. اصلاح يعقوب:

"هكذا قال الرب:

هأنذا أرد سبي خيام يعقوب وأرحم مساكنه وتبني المدينة على تلها والقصر يسكن على عادته.

ويخرج منهم الحمد وصوت اللآعبين،

وأُكثرهم ولا يقلون،

وأعظمهم ولا يصغرون.

ويكون بنوهم كما في القديم وجماعتهم تثبت أمامي وأعاقب كل مضايقيهم.

ويكون حاكمهم منهم ويخرج وإليهم من وسطهم وأقربه فيدنو إليّ، لأنه من هو هذا الذي أرهن قلبه ليدنو إليّ يقول الرب،

وتكونون لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا" [18-22].

يقدم لهم وعود إلهية ثابتة:

- يتمتع الشعب بالقلب الجديد الذي يطيع العهد.

- ينزع الله عنهم أغلال السبي والعبودية.

- يعاقب الله الذين سبوهم.

- يردهم إلى أرضهم في سلام مع بركات وعطايا.

- يرد سبي خيام يعقوب.

- إعادة بناء المدينة والقصر الملكي [18]. عوض الخيام تُقام مبانٍ للاستقرار، ويُعاد بناء الهيكل والقصر الملكي... هذا ما حدث بعد عودة الشعب من بابل.

- تتحول حياتهم إلى الفرح والتسبيح [19]. وكما قيل بزكريا النبي: "سيجلس بعد الشيوخ والشيخات في أسواق أورشليم كل إنسانٍ منهم عصاه بيده من كثرة الأيام. وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها" (زك 8: 4-5).

- يباركهم فينمون ويكثرون [19].

- يعظمهم فلا يصغرون [19].

- يثّبت بنوهم أمام الرب [20].

- يجعل منهم حكامًا وولاة [21]، ويقوم الله نفسه برعايتهم إذ يهتم بسلامة قطيعه (إش 40: 11)...

- يقتربون من الله ويصيرون له شعبًا وهو إلهًا لهم [22].

5. إدراك مقاصد الله:

"هوذا زوبعة الرب تخرج بغضب نوء جارف.

على رأس الأشرار يثور.

لا يرتد حمو غضب الرب حتى يفعل وحتى يقيم مقاصد قلبه.

في آخر الأيام تفهمونها " [23-24].

ماذا يعني بزوبعة الغضب الإلهي التي تحل برأس الأشرار إلا الانهيار والدمار الذي يحل بملك بابل؟! إذ يحل الغضب على الرأس ينهار الجسد كله!

لنسلم رؤوسنا في يد الله الذي يقدسها، فتحل عليها البركة لا اللعنة، عندئذ يتقدس الجسد كله. أقصد بالرأس هنا "الفكر"، حيث تُمتص أفكارنا في الرب، وتنسحب إلى سمواته وتحمل حياتنا السمة السماوية.

جاءت نفس العبارات في (19: 23-20) مع اختلافات بسيطة. فيها يوضح أن الحق غير مدرك بواسطة الأنبياء الكذبة بل بواسطة ذاك الذي يقف في مجلس الله.

مقاصد الله ثابتة لكنها لا تفهم الآن بل حينما تتحقق في ذلك اليوم الذي ليس هو ببعيدٍ.


 

من وحي إرميا 30

ردني من السبي

وارجعني إلى أرض البر!

v     من يقدر أن يكسر نير الخطية عن عنقي،

ويحل رباطاتها، وينتزع عبوديتها،

إلا أنت يا محرر النفس؟!

الخطية غريبة عن طبيعتي التي خلقتني عليها،

بارادتك سلمت نفسي أسيرًا لها!

حررني وإرجعني إلى أرض البر أيها الرب برنا!

v     استعبدت لنفسي وقبلت الأسر بإرادتي،

هب لي ان أخدمك يا إلهي وأعبدك!

لتقم مملكتك فيّ يا ابن داود.

أقم خيمة داود الساقطة،

وأسس قصرك الملوكي في داخلي!

v     متى تحررني فتستريح نفسي؟!

متى تطلقني من بابل لأعود إلى أحضان أبيك؟!

فيه استقر واطمأن... بلا رعب ولا إزعاج!

v     اعترف لك... لقد تأدبت بحق،

لقد طال زمان أسري!

صارت جرحات نفسي بلا برء!

تعال أيها الطبيب السماوي!

هب لي جسدك ودمك المبذولين داوء الحياة!

v     مع اعترافي بضعفي عاجز عن القدوم إليك،

قدميّ ثقيلتان للغاية،

مربوطتان كما بسلاسل في مقطرة.

لتأتِ فتشفي جراحاتي فإنك تبادر بالحب!

عوض الأسر في الغربة استقر في أحضانك!

أصير لك ابنًا واستريح معك وفيك!

عوض الخيمة الساقطة تقيم فيّ مدينتك المقدسة!

صوت عريس وعروس،

صوت طرب ولاعبين!

عوض المذلة تجعلني ملكًا ذا سلطان!

v     ردني من السبي،

ورد للمسبيين أفعالهم!

حطمتني الخطية فليحطمها صليبك!

قتلني إبليس فليقتله موتك المحيي!

أسرني العدو في أرض غريبة،

فليُلقى في نار جهنم الأبدية!

نعم أعد لي العدو فخاخًا ليأسرني إلى الأبد فسقط فيها.

اقمتني فأنعم بمجد ملكوت حريتك أبديًا!

<<


 

الأصحاح الحادى والثلاثون

العهد الجديد

يظن بعض الدارسين أن أغلب ما ورد في هذا الأصحاح كتبه إرميا النبي لمملكة إسرائيل وذلك قبل السبي الأول ليهوذا سنة 597 ق.م. وأن الاشارة إلى يهوذا [3-4]، وصهيون [17] وكل عشائر إسرائيل [1] جاءت كإضافة فيما بعد لكي ينطبق الحديث على كل شعب الله.

يعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق حيث يتحدث بالتفصيل عن وعود الله لشعبه الذي يخرجه من الأسر ويأتي به إلى الحرية، أو ينطلق به من أرض الغربة القاسية إلى الله نفسه "الرب برنا"!

1. وعود لكل عشائر شعبه [2-6].

2. عودة إسرائيل إلى أرضه [7-14].

3. نهاية حزن راحيل[15-22].

4. إصلاح إسرائيل ويهوذا[23-30].

5. العهد الجديد[31-34].

6. رباط لا ينحل[35-37].

7. أورشليم الجديدة[38-40].

1. وعود لكل عشائر شعبه:

"في ذلك الزمان يقول الرب أكون إلهًا لكل عشائر إسرائيل وهم يكونون لي شعبًا" [1].

بقوله "في ذلك الزمان" يشير إلى (30: 24) "في آخر الأيام"، أي في المستقبل المسياني. يبدأ بذلك كنعمة إلهية وأساس للكمال والإصلاح خلال المحبة الإلهية وأمانتة في وعوده لشعبه[537]. هذه الوعود الإلهية هي:

أ. يقيمهم شعبه:

يكمل إرميا النبي حديثه السابق عن مقاصد الله التي يعلنها موضحًا أنه: يكون هو إلهًا لكل العشائر، وهم يكونون له شعبًا، ينسب نفسه إليهم، وينسبهم إليه.

إذ رأى القديس يوحنا الحبيب أورشليم الجديدة أو السماء الجديدة دُهش، فسمع صوتًا من السماء يعرِّفه عليها قائلاً: "هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهو يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 3). هذه هي كنيسة السماء المنتصرة، حيث يسمع كل عضو فيها الصوت الإلهي المفرح: "من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا" (رؤ 21: 7). كأن الميراث لكل شيء يعني انتسابنا له وهو لنا، إذ يصير لنا الله نفسه واهب كل الخيرات.

ب. يهبهم نعمته وراحته مقدما لهم خروجًا جديدًا:

"هكذا قال الرب:

قد وجد نعمة في البرية الشعب الباقي عن السيف إسرائيل حين سرت لأريحه" [2].

الوعد المقدم هو أن يجد الشعب "نعمة" [2]، هذه التي سبق فنالها آباؤهم حين أخرجهم الرب في البرية وحررهم من عبودية فرعون. وقد جاء التعبير "وجد نعمة" masu hen  خمس مرات في قصة الخروج (خر 33: 12-17).

أخرجهم الرب إلى البرية لكي يهبهم راحة [2].

يتطلع الشعب إلى قصة الخروج من أرض العبودية إلى البرية تحت قيادة موسى للتمتع بأرض الموعد كعملٍ إلهي مستمرٍ عبر الأجيال، فكانوا يترقبون خروجًا جديدًا مستمرًا (هو 2: 14-15؛ إش 40: 3-4؛ 42: 14-16؛ 43: 18-21؛ 44: 27؛  48: 21 الخ). وقد جاء عمل المسيا المخلص كخروجٍ حقيقيٍ فيه يقدم المخلص نفسه فصحًا للبشرية كي تتحرر من عبودية إبليس وتنطلق تحت قيادة روحه القدوس في برية هذا العالم حتى تجد راحة في حضن الآب.

ج. قصة حب أبوي أبدي!

"تراءى لي الرب من بعيد.

ومحبة أبدية أحببتك،

من أجل ذلك أدمت لك الرحمة" [3].

تطلع النبي إلى عمل الله الخلاصي فرأى الرب يعمل "من بعيد" [3]؛ أي منذ القدم... قصة الحب الإلهي قصة قديمة متجددة على الدوام. ربما قال "من بعيد" لأن الإنسان ظن أنه منسيّ في أرض السبي بعيدًا جدًا عن أرض الموعد!

تبقى مراحم الله مستمرة عبر الزمن لأن محبته أو خلاصه أبدي!

د. يجعلهم بناءً إلهيًا:

"سأبنيكِ بعد فتُبنين يا عذراء إسرائيل" [4].

إن كان الشعب قد صار كامرأة زانية استحق التأديب بالسبي البابلي، إلا أن الله في أمانته يقيمه عذراء مقدسة [4]، يبنيها بنفسه كهيكلٍ مقدسٍ له. إنه ليس فقط يردها إلى أرض الموعد أو المدينة المقدسة أو الهيكل بل تصير هي أرضه ومدينته وهيكله، لن تمتد ذراع بشري لبنائها بل يقوم الرب نفسه بانشائها.

يتحدث القديس بولس عن الكنيسة كبيتٍ روحي، والمؤمنين كحجارة حية (1 بط 1: 5). ورأى القديس هرماس[538] الكنيسة المنتصرة في شكل بناء ضخم، حيث بُنيت الحجارة بجوار بعضها فصارت برجًا كحجرٍ واحدٍ، وأن حجارة كثيرة رُفضت أن تكون في البناء لأنها اعتمدت على ذاتها.

هـ. يجعلها عروسًا متهللّة:

تتزينين بعد بدفوفكِ وتخرجين في رقص اللاعبين" [4].

زينتها الفرح المستمر، تخرج دومًا لتجد النفوس المحيطة ترقص وتتهلل بالرب العامل فيها وفيهم! بعد أن علقت قيثاراتها على الصفصاف في بابل كي لا ترنم تسبحة جديدة في أرض غريبة (مز 137: 4) ها هي تمسك بالدفوف بين أصابعها لتسبح الرب بأعمال الحب، وتتزين بالفرح الروحي، وتعيش في تهليلٍ لا ينقطع.

ز. غرس الكروم:

"تغرسين بعد كرومًا في جبال السامرة.

يغرس الغارسون ويبتكرون" [5].

الأرض التي سبق فخربها العدو عندما هاجمها وسباها، محولاً الحقول إلى مراعى غنم ومسكنًا للوحوش، الآن تعود لتُغرس كرومًا. لقد عبدوا البعل إله الخصوبة فحل بهم القحط، وصارت أراضيهم خرابًا، الآن يردهم الرب ويهب أرضهم خصوبة.

ح. شركة عبادة مفرحة:

"لأنه يكون يوم ينادى فيه النواطير في جبال إفرايم:

 قوموا فنصعد إلى صهيون إلى الرب إلهنا" [6].

لم يعد المراقبون يضربون بالبوق ليعلنوا عن مجيء العدو الذي يسبي، وإنما ليعلنوا عن قدوم الشعب من كل موضع ليصعدوا إلى صهيون يتمتعون بالرب إلهنا [6].

2. عودة إسرائيل إلى أرضه:

إن كان إرميا قد تنبأ عن خراب الهيكل خلال السبي فهو ليس ضد الهيكل ولا مقاوم للعبادة الجماعية... إنه يترقب عبادة روحية متهللة تضم الشعب القادم من أقاصي المسكونة بروح الفرح والوحدة.

"لأنه هكذا قال الرب.

رنموا ليعقوب فرحًا، واهتفوا برأس الشعوب.

سمعوا سبحوا وقولوا: خلص يارب شعبك بقية إسرائيل" [7].

يقدم لنا عودة من السبي مملوءة بروح النصرة، عبّر عنها يعقوب بهتافات الفرح والتسبيح [7]، حاسبًا نفسه "رأس الشعوب" أو أولها، وهو تعبير يحمل روح الفخر (عا 6: 1).

"هأنذا آتي بهم من أرض الشمال وأجمعهم من أطراف الأرض.

بينهم الأعمى والأعرج، الحبلى والماخض معًا.

جمع عظيم يرجع إلى هنا" [8].

هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه بناء من وسط الأنقاض والتدمير الكامل فتخرج مدينة فائقة البهاء، ويتحقق الخلاص الإلهي. إنه يأتي إلى هذه المدينة حتى بالعميان من طريق لم يعرفوها (إش 42: 16).

هذا الخلاص أو الخروج العظيم لا يعتمد على ذراعٍ بشري.

يأتي الله بالأعمى فيكون له عينًا، يريه الطريق ويدخل به إلى المجد!

يأتي بالأعرج كمن يحمله على الأذرع الإلهية ليمارس العمل الفائق بقوةٍ.

يأتي بالحبلى والماخض العاجزتين عن الحركة لأمتارٍ قليلة ليسرع بهما لا إلى أميال بل إلى الخروج من محبة العالم إلى السماء عينها!

 هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه فرح عظيم وسط دموع التوبة مع تفجر أنهار الروح من الصخور (إش 40: 3-5؛ 43: 1-7؛ 48: 20؛ 49: 9-13). عوض النوح يحل الفرح، ويهبهم الله راحة وسعادة عوض الحزن.

"بالبكاء يأتون وبالتضرعات أقودهم.

سيرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها.

لأني صرت لإسرائيل أبًا وإفرايم هو بكري" [9].

جاء الحديث هنا [8-9] مشابهًا في الأسلوب والفكر أحاديث إشعياء النبي عن الخروج الجديد (إش 35؛ 40: 3-5، 11؛ 41: 18-20؛ 42: 16؛ 43: 1-7؛ 34: 3-4؛ 48: 20-21؛ 49: 9-13).

ارتبط العصر المسياني في ذهن الأنبياء بالمياه المقدسة (حز 36: 26؛ إش 30: 23؛ زك 13: 1-2؛ مز 46: 4 الخ...) التي تحول القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتقدم حياة وتقديسًا... ما هو المطر المبكر والمتأخر إلا الروح القدس الذي يروي النفس الظمآنة، فتنبت البرية، وتحمل الأشجار ثمارها، وتعطي التينة والكرمة قوتهما؟! إنه الروح القدس الذي عمل في القديم كمطر مبكر، لكنه بالأكثر استقر فينا بعد صعود الرب ليحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مفرحٍ!

لقد ادرك الشعب أمرين: الله هو مخلص شعبه، فإن لله بقية أمينة (عا 5: 15؛ إش 37: 30–31، إر 8: 3، حز 5: 10؛ 11: 23)، يهتم بها فتتمتع بالعهد الجديد (إش 4: 2؛ 28: 5؛ مي 5: 6-7).

يدعو الله نفسه "أب إسرائيل" ليؤكد أن ما سمح به من تأديب خلال السبي إنما هو تأديب أبوي، وأن الله يتطلع إلى شعبه بكره "الابن البكر." لقد دعى أفرايم (إسرائيل) البكر ليس لكي يقدمه على يهوذا، وإنما ليؤكد اعتزازه به كابن بكر... كلاهما "إسرائيل ويهوذا" ابن واحد بكر.

لقد سبق فسمح الله بقتل الأبكار بسبب شر فرعون ليقيم من شعبه "الابن البكر لله" (خر 4: 22، إر 31: 9). أقام الله شعبه كابن بكر له، وإذ جاء البكر الحقيقي إلى العالم واتحدت الكنيسة به صارت بحق كنيسة أبكار، كقول الكتاب المقدس.

يدعوا الله الأمم والجزائر البعيدة [10] أن تشهد الحدث العجيب (إش 42: 10؛ 49: 1).

"اسمعوا كلمة الرب أيها الأمم وأخبروا في الجزائر البعيدة وقولوا: مبدد إسرائيل يجمعه ويحرسه كراع قطيعه.

لأن الرب فدى يعقوب وفكه من يد الذي هو أقوى منه.

 فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون ويجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر وعلى الزيت وعلى أبناء الغنم والبقر.

وتكون نفسهم كجنة ريا ولا يعودون يذوبون بعد" [10-12].

يُستخدم في [11] تعبيران عن الفداء: pada (ransom), goal (redeem) الأول يشير إلى التحرر بعد دفع الفدية، وهو في الأصل تعبير يُستخدم في القوانين التجارية (استخدم في تث 9: 26؛ 13: 5؛ 21: 8؛ 7: 13؛ 13: 14؛ مي 6: 4؛ زك 10: 8؛ مز 25: 22، 78: 42؛ نح 1: 10) أما الثاني فيُستخدم بخصوص الالتزام العائلي. فكان الولي يلتزم أن يفتدي ممتلكات قريبه، كما يلتزم بالانتقام لموته. كان القريب المخلص goal يحمل معنى رمزيًا في العهد القديم. التزم إرميا أن يفدي الحقل الذي كان يملكه ابن عمه حنمئيل (ص 32).

استخدم التعبيران في خلاص الشعب من عبودية فرعون (خر 6: 5؛ 15: 13؛ تث 7: 8؛ 9: 26).

استخدم تعبير مخلص goal بخصوص خلاص الله لشعبه من السبي البابلي، فهو يتدخل كوَلِيٍّ أو قريبٍ لهم يرد لهم الحرية.

يأتون إلى صهيون "بوجوه مشرقة" nahar، وتصير نفوسهم كجنة ريا، أي مروية حسنًا [12].

"حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معًا وأحوِّل نوحهم إلى طرب وأعزيهم وأُفرحهم من حزنهم.

وأروي نفس الكهنة من الدسم ويشبع شعبي من جودي يقول الرب" [13-14].

v     يؤكد لنا ربنا أن أحزاننا يحولها إلى فرح بثمار التوبة[539].

القديس غريغوريوس الناطق باللآهوتيات

يروى نفوس الكهنة من الدسم، دسم الذبائح التي يقدمها الشعب لله حيث كان نصيبهم هو الفخذ اليمين (لا 7: 32-36). وكأن العبادة تعود بقوة ويصير للكهنة أنصبة كثيرة. كما يشير الدسم إلى حالة الرخاء التي سيعيش فيها الشعب (مز 36: 8؛ 63: 5؛ إش 55: 2).

3. نهاية حزن راحيل:

"هكذا قال الرب:

صوت سمع في الرامة نوح بكاء مرّ.

راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودِين.

 هكذا قال الرب:

امنعي صوتكِ عن البكاء، وعينيكِ عن الدموع،

لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب.

فيرجعون من أرض العدو.

ويوجد رجاء لآخرتكِ يقول الرب.

يرجع الأبناء إلى تخمهم" [15-17].

 "رامة" تعني حرفيًا "مرتفع" وتقع في نصيب سبط بنيامين (يش 18: 25؛ قض 4: 5) على الحدود ما بين مملكتيّ الشمال والجنوب. حاليًا تدعى أرام وهي مدينة تبعد إلى الشمال من أورشليم بخمسة أميال. قريبًا منها يوجد قبر راحيل (1 صم 10: 2-3) كما يوجد تقليد بأن القبر كان بالقرب من بيت لحم (تك 35: 19؛ 48: 7؛ 1 صم 10: 2-3). ويتضح من سفر إرميا أنها كانت المكان الذي نُقل إليه المسبيين وُجمعوا فيه قبل أن يُؤخذوا إلى السبي إلى بابل إذ نقرأ "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قِبل الرب بعدما أرسله نبوزردان رئيس الشرط من الرامة إذ أخذه وهو مقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أورشليم ويهوذا الذين سبوا إلى بابل" (40: 1-2).

تختار النبوة راحيل بالذات لأنها في البداية توسلت وطلبت أولادًا إذ نقرأ "فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت: ليعقوب هب لي بنين وإلاّ فأنا أموت" (تك 30: 1).

ماتت راحيل في نهاية أيامها في حزنٍ إذ كُتب: "وحدث حين تعسرت ولادتها أن القابلة قالت لها: لا تخافي لأن هذا أيضًا ابن لك، وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت أنها دعت اسمه بن أوني، وأما أبوه فدعاه بنيامين، فماتت راحيل وُدفنت في طريق أفراتة التي هي بيت لحم" (تك 35: 17-19). ها هي راحيل التي طلبت أولادًا في البداية وماتت في الحزن، تظهر في النهاية مصورة وكأنها قد قامت من الأموات وهي تبكي وصوتها يُسمع في الرامة لأنها ترى أولادها يحملون إلى بابل.

تصور إرميا أن روح راحيل زوجة يعقوب ووالدة يوسف وبنيامين تبكي على أولادها (أسباط إفرايم ومنسى وبنيامين) الذين احتلوا بقعة ضخمة من المملكة، إذ ترى ترحيلهم من أرض الموعد إلى السبي.

يقتبس الروح القدس هذه الأقوال ويطبقها على حادثة قتل أطفال بيت لحم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[540] إذ قد تحقق ما سبق أن قيل بإرميا النبي يمتلئ السامع لهذا القول بالفزع إذ يرى مذبحة عنيفة مملوءة ظلمًا، لكنه يعود فيستريح إذ يدرك أن ما يحدث ليس عن عجز قوة الله عن منعها، ولا عن عدم معرفة الله لها، وإنما سبق فأخبر عنه علانية بواسطة نبيِّه. لهذا يليق بنا ألاّ نضطرب ولا نيأس متطلعين إلى عناية الله التي لا يُنطق بها، التي يمكن للإنسان أن يراها في أعمال الله كما فيما يسمح به من الآلام.

قدم الله لراحيل تعزية، مؤكدا عودة أبنائها، وتقديم جزاء لها عن عملها [17] لحساب أطفالها الذين يردهم من السبي.

"سمعًا سمعت إفرايم ينتحب.

أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ.

توبني فأتوب، لأنك أنت الرب إلهي.

لأني بعد رجوعي ندمت وبعد تعلمي صفقت على فخذي.

زنيت وخجلت لأني قد حملت عار صباي.

هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر،

لأني كلما تكلمت به أذكره بعد ذكرًا.

من أجل ذلك حنت أحشائي إليه.

رحمة أرحمه يقول الرب" [18-20].

جاءت هذه العبارات اعترافًا وتوبة من جانب إفرايم الذي يعلن عن حاجته إلى عمل الله نفسه واهب التوبة.

يقول الأب بينوفيوس:

[بينما يكون الإنسان في انكسار قلب وانسحاق روح، مع استمرار الجهاد والبكاء إذا بالنعمة الإلهية تلاشى تذكر الخطايا السابقة وتنزع وخزات الضمير عنها. وهنا يكون واضحًا أنه قد نال غاية الرضى ومكافأة العفو، وانتزعت منه وصمات الخطايا التي ارتكبها. وعندئذ يمكننا أن نصل إلى نسيان الخطية وذلك بإزالة آثار الخطايا والرغبات العتيدة مع نقاوة القلب وكماله. هذه الحالة لا يصل إليها الكسالى والمتهاونون... إنما يصل إليها من استمروا في التنهد والتأوه بحزن لأجل إبادة كل آثار الخطايا بصلاح قلوبهم مع جهادهم، يعلن كل منهم للرب: "اعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي" (مز 32: 5)، ويقول: "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً" (مز 42: 3)... فيوهب له في النهاية أن يسمع هذه الكلمات: "قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك" (إش 44: 22)، وأيضًا "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا اذكرها" (إش 43: 25). وهكذا إذ يتحرر من رباطات خطاياه التي ربط الكل بها يشكر الرب مسبحًا: "حللت قيودي فلك اذبح ذبيحة حمدٍ" (مز 116: 16-17)[541]].

يقول القديس أمبروسيوس:

[لننقي ذواتنا بالدموع، فيسمع الرب إلهنا حينما ننوح كما سمع لإفرايم حين بكي "سمعت إفرايم يبكي" [18] وقد عبر عن ذلك مكررًا ذات الكلمات التي لإفرايم "أنت أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ" [18]. لأن العجل يلهي ذاته، ويترك معلفه، هكذا إفرايم لم يكن مروضًا كعجل بعيدًا عن المعلف، إذ نسى المعلف الذي أقامه الرب له وتبع يربعام وعبد العجول، الأمر الذي تنبأ عنه بالفعل هارون (خر 31) بان الشعب سيسقط. وإذ تاب إفرايم قال: "توبني فأتوب لأنك أنت هو الرب إلهي. بالتأكيد في نهاية أسري ندمت"، وإذ تعلمت بكيت على أيام الاضطراب وأخضعت نفسي لك إذ تقبلت انتهارك" راجع [19][542]] .

 جاء [20] إجابة لصرخة التوبة تؤكد شوق الله نحو توبته، إذ أحشاء الله تحن عليه. يدعوه "الابن العزيز لديه"، "الولد المسر" يذكره الرب على الدوام.

"انصبي لنفسك صوى اجعلي لنفسك أنصابًا.

اجعلي قلبك نحو السكة الطريق التي ذهبت فيها.

ارجعي يا عذراء إسرائيل ارجعي إلى مدنك هذه.

حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدة؟!

لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض.

أنثى تحيط برجل" [21-22].

بعد أن تحدث عن إفرايم كابن محبوب جدًا، عاد ليتحدث عن إسرائيل كعذراء يدعوها لتقيم لها بيتًا، وأن تضع علامات في الطريق حتى لا تضل عنه. وكأنها تعود من ذات الطريق الذي فيه تركت وطنها!

ستجد في عودتها ترحيبًا في بيتها ومدنها... ستكون في أمان كإنسانٍ في حضن أمه [22].

أما عن الأنثى التي تحيط برجلٍ فتوجد عدة تفاسير:

أ. يرى البعض أن الأنثى المُشار إليها هنا هي عذراء إسرائيل المذكورة في [21] كما أن كلمة أنثى المستعملة في هذا النص وهي (تكلببه) لا تعني فتاة غير متزوجة (ألماه) التي استخدمها إشعياء النبي في نبوته عند حديثه عن ولادة المسيح من العذراء إذ قال "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا..." (إش 7: 14). ولذلك فليس هناك أي تشابه بين النبوتين. فالأنثى أو المرأة في الكتاب تشير إلى الضعف الإنساني وحالة الضعف والخوف المشبه بها الأمة ترِد كثيرًا في النبوات، فإشعياء يشبه الأمة المصرية في ضعفها وخوفها فيقول: "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها" (إش 19: 16).

ب. كلمة "نساء" كرمز للضعف ترد أيضًا في نبوة إشعياء ونبوة إرميا (انظر إش 3: 12، إر 51: 3) ويشير الرجل إلى قوة الإنسان، والتعبير المذكور هنا ليس الإنسان العادي لكن الإنسان القوي، لأن الكلمة المستعملة في الأصل هي كلمة "geber" وتعني الرجل القوي أو الرجل الجبار. جاءت الكلمة هنا لتشير إلى رجلٍ شابٍ قوي العزيمة شجاع[543]، والكلمة المنسوبة لها gibbor تعني محارب، وكأن المرأة تحتضن محاربًا شابًا... وهي ليست الكلمة التي تستعمل عادة للرجل (أنوش) ومعناها الرجل في ضعفه. فالرجل المذكور هنا ليس أنوش الضعيف الهش لكن الإنسان القوي. فضعف المرأة هنا يقهر ويغلب قوة الرجل، ضعف المرأة هنا يهزم كل قوة الرجل وهكذا سيجعل الله هذه المرأة التي كانت بمثابة بنت مرتدة منتصرة وغالبة على كل قوة الإنسان. أو كأنها وهي عذراء قد صارت - باحتضانها المحارب - شجاعة ومحاربة لها دورها في المعركة الروحية.

ج. إن كانت المرأة تشير إلى إسرائيل والرجل إلى يهوه، كأن المرأة التي صارت مطلقة بسبب زناها، بعيدة عنه، عادت إلى إلهها تحتضنه وتلتصق به (هو 1-3؛ إر2: 20-21). هذا هو أمر جديد.

د. الأمر الجديد هنا أن امرأة تحمي رجلاً، وهذا يبين عمل المحبة من الطرف الأضعف جسميًا نحو الأقوى.

هـ. يرى القديس جيروم[544] أن الشيء الجديد الذي يثير الانتباه هو الأنثى التي تحيط برجل، أي العذراء الذي تحتضن كلمة الله المتجسد... هذا هو الرجوع عن السبي! هذا هو التمتع ببركة الرب، فتصير النفس مسكنًا للبر وجبلاً مقدسًا!

[بخصوصها نحن نقرأ عن معجزة عظيمة في نفس النبوة [22]: أن امرأة احتوت رجلاً، وأن أب كل الأشياء يكون في أحشاء عذراء[545]].

يطلب الله من الشعب الذي صار كبنت مرتدَّة أن يتطلع إلى العذراء المقدسة التي تحتضن في أحشائها كلمة الله المتجسد. إذ يقول: "حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدَّة؟! لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض. أنثى تحيط برجل" [22].

و. أن كانت الخطية تجعل النفس كبنت عاصية تطوف في الشوارع ليس لها أين تستقر أو تستريح، فإن الحياة البتولية الصادقة تجعل من النفس موضعًا يستريح فيه الكلمة المتجسد نفسه! خطايانا تحطم سلامنا واستقرارنا، وبرنا في الرب يعطينا راحة، بل ويستريح الرب فينا!

4. إصلاح إسرائيل ويهوذا:

يَعِدْ الله شعبه بالرجوع من السبي، ليمتلك أرض الموعد، وينزع عن راحيل حزنها على بنيها المسبيين، ويحولها من بنت مرتدَّة عنيدة إلى أنثى مملوءة قوة وحبًا تحيط برجلٍ جبارٍ، تحمل روح القوة والنصرة عوض الانهيار والفشل. الآن يقدم لنا صورة حية عن إصلاح إسرائيل ويهوذا حيث يرجع الكل من بابل شعبًا مقدسًا للرب، فيقول:

"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

سيقولون بعد هذه الكلمة في أرض يهوذا وفي مدنها عندما أرد سبيهم.

يباركك الرب يا مسكن البر يا أيها الجبل المقدس" [23].

هنا يدعوا يهوذا "مسكن البر أو البار" (راجع زك 8: 3) ويعني به مسكن الله البار sedeq، وأيضًا "الجبل المقدس أو جبل القدوس". فيسكن الله وسط شعبه الذي يصير مسكنًا له وجبلاً خاصًا به [23]. كأن سرّ فرح الشعب ليس تحرره من بابل بل بالأحرى تمتعه ببركة سكنى الله البار والقدوس وسطه، فيجعل منه هيكلاً مقدسًا وجبلاً حيًا. يدعو شعبه "مسكن البار" و"جبل الله القدوس"، باللقب الأول يعلن بركة الشعب إذ يسكن فيه البار، محولاً شعبه إلى جماعةٍ مقدسة لا تعرف إلا العبادة الحية، وباللقب الثاني الرسوخ كالجبل لا تهزه رياح العالم المقاومة!

بمعني آخر إننا لا نفرح لأننا تحررنا من إبليس بل بالأحرى لأننا اقتنينا الله القدوس. قيل عن الرسل: "رجع السبعون بفرحٍ قائلين: يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" (لو 10: 7)، "قال لهم: رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء؛ ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات".

يقيم الله من شعبه كما من كل عضوٍ فيها جبلاً مقدسًا كجبل طابور، عليه يتجلى حيث يجتمع برجال العهد القديم (موسى وإيليا) مع رجال العهد الجديد (بطرس ويعقوب ويوحنا)، يعلن بهاء مجده الذي يسكب نورًا على الجميع ويحول حياتهم إلى فرحٍ لا ينقطع.

 "فيسكن فيه يهوذا وكل مدنه معًا الفلاحون والذين يسرحون القطعان.

لأني أرويت النفس المعيية، وملأت كل نفس ذائبة" [24-25].

يعود الشعب إلى أرض الموعد ليمارسوا حياتهم اليومية من فلاحة الأرض ورعاية الغنم [24]، لتجد النفس التي صارت في حالة عياء راحةً، والذائبة بسبب ما حل بها من فقدان شبعًا وارتواءً [25].

الله يشبع التائبين ويرويهم، هذا منظر يملأ قلب إرميا النبي بالفرح والسعادة وسط الكارثة والظلام.

من هم هؤلاء الفلاحون الذين يزرعون أرض يهوذا؟ ومن هو هؤلاء الرعاة الذين يهتمون بقطعانها؟

مسيحنا هو فلاح قلبنا القادر بروحه القدوس أن يحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويقود خرافه الناطقة إلى سمواته، مقدمًا دمه الثمين ثمنًا لمجدنا. الآن في حبه لكنيسته أقام تلاميذه ورسله وخدامه فلاحين ورعاة، يقدمون به كلمته بذارًا تأتي بثمرٍ كثيرٍ، ويهبهم شركة المجد أن يرعوا شعبه بروحه القدوس.

كل مؤمنٍ حقيقيٍ تتحول طاقاته الداخلية وإرادته مع أفكاره إلى فلاحين ورعاة يعملون بلا توقف حتى يُعلن فردوس الله في الداخل، وتتحول الأعماق إلى مرعى سماوي مقدس.

"على ذلك استيقظت ونظرت ولذّ لي نومي" [26].

يكون الرب كمن كان نائمًا واستيقظ، إذ رد شعبه إلى راحته، ولذ له نومه لأنه لا تتكرر بعد هذه المأساة [26]. ويرى القديس أمبروسيوس في تعبير "لذّ لي نومي" [26] إشارة إلى الموت الإرادي الذي قبله السيد المسيح بسرور لأجل خلاصنا.

v     ذاك الذي حمل ضعفاتنا حمل أيضًا مشاعرنا، حيث كان حزينًا حتى الموت (مت 26: 38) ولكن ليس بسبب الموت. لأن الموت الذي قبله باختياره الحر لا يمكن أن يحزنه، إذ فيه فرح كل البشرية العتيد وانتعاش الجميع. قيل عنه في الكتاب المقدس في عبارة أخرى: "استيقطت ونظرت ولذّ لي نومي" [16]. صالح هو النوم الذي فيه لا يجوع الجائعون، ولا يعطش العطشى، مهيئًا لهم مذاقًا حلوًا للأسرار[546].

القديس أمبروسيوس

ها أيام تأتي يقول الرب وأزرع بيت إسرائيل وبيت يهوذا بزرعِ إنسانٍ وزرعِ حيوانٍ" [27].

يقوم الرب نفسه بزرعهم، بزرع إنسانٍ وزرع حيوانٍ، إذ يقدس النفس (الإنسان) والجسد (الحيوان) معًا، وينمى الإنسان بكليته ليمارس الحياة الجديدة بعد العتق من سبي الخطية.

"ويكون كما سهرت عليهم للاقتلاع والهدم والقرض والإهلاك والأذى، كذلك أسهر عليهم للبناء والغرس يقول الرب" [28].

يسهر الله على بنائهم وغرسهم، هو الذي سمح بالتأديب الآن يقوم بنفسه ببنائهم وغرسهم، ساهرًا عليهم ليجدد حياتهم... بل يقيمهم شعبًا جديدًا بعهدٍ جديدٍ! لقد سهر الله بحبه حين سمح بالتأديب لكي يهدم فيهم الشر ويقتلع جذور الخطية ويحل بهم ما حسبوه أذى، وبذات الحب يسهر عليهم ليغرس بره ويبني فيهم قداسته ويهبهم كل بركة روحية مفرحة.

ماذا يعني الله بقوله: "أسهر عليهم"؟ ليس عند الله ليل قط، ولا يحتاج إلى نومٍ، فالسهر هنا إنما يعني بلغة بشرية اهتمام الله بنا خاصة في اللحظات التي نظن فيها أن الليل قد حلَّ بظلمته حولنا، أي حينما نفقد رجاءنا في الخلاص. إنه يشرق بنوره وسط ظلمتنا مؤكدًا أنه يسهر علينا حين ينام كل من حولنا، ويعلنون عجزهم التام على مساندتنا.

"في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرمًا وأسنان الأبناء ضرست.

بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه" [29-30].

يقتبس المثل الوارد في (حز 18: 2)، فقد كان الشعور السائد بأن ما يحل بهم إنما هو ثمرة خطايا قديمة ارتكبتها أجيال سابقة، بهذا أحسوا أن الله عاملهم بقسوة لظروف لم يكن لهم فيها يد، ولم يرتكبوا ذنبًا. وأن في ذلك ظلم وليس عدالة (حز 18: 25). يرفض إرميا النبي هذه الفكرة مبينًا أن الله إنما يعاقب الإنسان على خطاياه، لا على خطايا الغير.

غالبًا ما اعتمد حزقيال على إرميا، وكلاهما أشارا إلى المثل ليؤكدا المسئولية الشخصية عن ما يرتكبه الإنسان دون النظر إلى سلوك آبائه وأجداده. لقد أُستخدم هذا المثل في (تث 24: 16) لا لنفي المسئولية الشخصية وإنما لاعتبارات أخرى منها أن الإنسان الذي لا يرتدع عن شره خلال التهديد بالعقوبة قد يرتدع عندما يدرك ما لشره من أثر على حياة أولاده، هذا بجانب الالتزام الجماعي. فكما توجد خطايا عامة يشترك فيها الشعب كله هكذا تلزم التوبة العامة.

5. العهد الجديد:

"حمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل" (خر 32: 19). وكأن موسى قد أعلن عن كسر العهد، وعجز الإنسان عن الحفاظ عليه. هذا ما دفع الأنبياء في العهد القديم إلى التطلع إلى عهدٍ جديدٍ بسماتٍ جديدةٍ قادرٍ على تغيير قلب الإنسان والدخول إلى الحياة الداخلية لكي لا يكسر الإنسان العهد."ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا.

"ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب.

بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام.

يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا.

ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه وكل واحدٍ أخاه قائلين: اعرفوا الرب،

لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب.

لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد" [31-34].

يقول حزقيال النبي: "وأقطع معهم عهد سلامٍ فيكون معهم عهدًا مؤبدًا وأقرهم وأكثرهم وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا" (حز 37: 36-37).

v     قال الله بوضوح (خلال أنبيائه) أن شرائع موسى (الطقسية) تنتهي وتقوم شريعة جديدة يقدمها المسيح: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب" (31: 31-32). لقد وعد بعهد جديد، وكما قال الحكيم بولس: "فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 13). فإذ شاخ القديم كان بالضرورة أن يحتل الجديد موضعه، وقد تحقق هذا لا بواسطة أحد الأنبياء القديسين بل بالأحرى بواسطة رب الأنبياء[547].

القديس كيرلس الكبير

العهد الجديد ليس منقوشًا على حجارة خارجية كالعهد القديم (خر 31: 18؛ 34: 28-29؛ تث 4: 13؛ 5: 22) أو في درج (خر 24: 7)، إنما هو منقوش في القلب الذي احتلته الخطية. يسجله الروح القدس في أعماقنا، إذ يمس حياتنا الداخلية حيث ملكوت الله فينا... "يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا" (عب 8: 10).

عندما حلّ يوم الخمسين واجتمع التلاميذ في علية صهيون كان اليهود من حولهم يعيدون بتجديد العهد مع الله، متذكرين ما حدث مع آبائهم حين سلم الله عهده وشريعته لموسى النبي، وما صاحب ذلك من رعودٍ وبروقٍ وأصوات بوقٍ ودخانٍ حتى ارتعب الكل (خر 20: 18)... في هذا اليوم حلّ الروح القدس على التلاميذ وُسمع أيضًا صوت هبوب عاصف وارتعب الكل وحدث تجديد للعهد خلال الروح القادر أن يجدد القلوب والأذهان، ويكتب الشريعة والعهد في قلوب المؤمنين (31: 31-34)... صار للكنيسة الروح الإلهي الناري الذي يغير الطبيعة الداخلية ويهب روح البنوة فتتقبل عهدًا جديدًا.

يرى البعض أن الله أقام مع الإنسان عهودًا، كملت بالعهد الذي أقامه السيد المسيح بدمه على الصليب.

1. العهد مع آدم، خلاله ينعم الإنسان بجنة عدن وكل خيراتها، لكن آدم نقض العهد وُطرد من الجنة. وقد جاء في سفر هوشع: "لكنهم كآدم تعدّوا العهد، هناك غدروا بي" (هو 6: 7).

2. العهد مع نوح الخاص بالأرض الجديدة بعد الطوفان، حيث بارك الله نوحًا وبنيه (تك 9: 1)، وقال لهم: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض" (تك 9: 1؛ 1: 28). هنا نلاحظ أن الله هو الذي بادر بإقامة العهد (تك 9: 11-12)، وأن العهد قام على أساس الدم، أي تقديم المحرقات.

3. العهد مع إبراهيم: وعده الله أن يهب نسله أرض كنعان، وبه تتبارك كل الأمم. ارتبط العهد بالختان "يُختن منكم كل ذكر، فتختتنون في لحم غُرلتكم، فيكون علامة عهدٍ بيني وبينكم" (تك 17: 11).

4. العهد الموسوي: ارتبط هذا العهد بالذبائح والعمل الكهنوتي وشرائع التطهير والوصايا الإلهية. خلال هذا العهد تحل البركات على أبناء الطاعة واللعنات على أبناء المعصية (تث 28).

هنا [31] أول اشارة إلى "العهد الجديد" في العهد القديم وتُعتبر صلب سفر إرميا كله، تمثل أعمق نظرة في العهد القديم كله. رأى أصحاب الشيع في قمران أنهم رجال العهد الجديد، بالنسبة لهم العهد الجديد هو التمسك بالشريعة الموسوية في حرفية أشد. أما المسيحيون فقد رأوا في الكنيسة تحقيقًا لهذه النبوة، حيث قدم السيد المسيح عهدًا جديدًا ببذل دمه كفارة عن خطايا العالم كله (لو 22: 20؛ 1 كو 11: 15؛ عب 8: 8، 9: 28).

إذ انكسر العهد القديم الذي أقيم بين الله وإسرائيل أقام الله عهدًا جديدًا بينه وبين جميع الأمم، خلال خروج جديد، فيه عُتق لا من عبودية فرعون ولا من سبي بابل بل من أسر إبليس.

ينقش الروح القدس هذا العهد في داخلنا ويكون الله نفسه هو معلمنا، إذ يقول الرسول: "ولا يعلمون كل واحدٍ قريبه وكل واحدٍ أخاه قائلاً اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم" (عب 8: 11). كان العهد القديم بين يدى الأنبياء والكهنة والمعلمين أما العهد الجديد فصار في أيدي كل البشر!

v     هنا نفهم إعلان توقف الختان الأول الذي أُعطى ومجيء موكب الشريعة الجديدة (ليس كما سبق فأُعطيت للآباء) وذلك كما سبق فأعلن جبل الرب وبيت الله في رأس الجبال، ونقول: "يرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب" (إش 2: 2-3)[548].

v     هكذا يظهر أن العهد القديم مؤقت فقط، مشيرًا إلى تغييره، وأيضًا إذ يعد أن ما يتبعه عهدًا أبديًا، إذ يقول بإشعياء: "اسمعوا فتحيا أنفسكم وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة" (إش 55: 3)، ليظهر أن هذا العهد يتحقق في المسيح[549].

العلامة ترتليان

v     لنقبل شرائع الحياة، لننصت لعتاب الله، لنتعرف عليه، فينعم علينا[550]!

القديس إكليمنضس الأسكندري

v     صنع معنا عهدًا جديدًا، لأن ما ينتمي لليونانيين واليهود قديم. أما نحن الذين نعبده بطريق جديدة، في شكل ثالث فمسيحيون.

من الواضع كما أظن، لقد أظهر أن الله الواحد الوحيد عُرف بواسطة اليونانيين بطريق أممي، وبواسطة اليهود بطريق يهودي، وبطريق جديد روحي بواسطتنا![551]

القديس إكليمنضس السكندري

إذ يتحدث القديس غريغوريوس النيصي عن ميليتس يوم نياحته يصفه بتابوت العهد المقدس والحاوي أسرارًا إلهية فيقول: "فيه يوجد لوحا العهد، مكتوبًا على ألواح القلب لا بحبر بل بروح الله الحيّ. فأنه لا يوجد على هذا القلب النقي فكر مظلم أو من الحبر مطبوعًا عليه!"[552].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لان المعلم الآن يملأ الموضع، إذ مكتوب يكون الكل متعلمين من الله (يو 4: 45، إش 45: 13) [553]...].

6. رباط لا ينحل:

هكذا قال الرب الجاعل الشمس للإضاءة نهارًا وفرائض القمر والنجوم للإضاءة ليلاً، الزاجر البحر حين تعج أمواجه رب الجنود اسمه.

إن كانت هذه الفرائض تزول من أمامي يقول الرب

فإن نسل إسرائيل أيضًا يكف من أن يكون أمة أمامي كل الأيام.

هكذا قال الرب إن كانت السموات تقاس من فوق وتفحص أساسات الأرض من أسفل فإني أنا أيضًا أرفض كل نسل إسرائيل من أجل كل ما عملوا يقول الرب" [35-37].

كما أقام الله ناموسًا طبيعيًا للشمس والقمر والكواكب الأخرى للإضاءة نهارًا وليلاً، ووضع للبحر حدًا، هكذا يقيم الله في عهده الجديد مع شعبه ناموسًا روحيًا أبديًا. يقيمهم شعبًا دائمًا له، يشرقون بنوره نهارًا وليلاً، لا تستطيع أمواج بحر العالم أن تكتسحهم! الله الذي خلق العالم المنظور لأجل الإنسان فأبدعه كيف لا يهتم بإقامة ناموس جديد مبدع لبنيان الإنسان نفسه ومجده؟!

7. أورشليم الجديدة:

ها أيام تأتي يقول الرب وتبنى المدينة للرب من برج حننئيل إلى باب الزاوية.

ويخرج بعد خيط القياس مقابله على أكمة جارب ويستدير إلى جوعة.

ويكون كل وادي الجثث والرماد وكل الحقول إلى وادى قدرون إلى زاوية باب الخيل شرقًا قدسًا للرب.

لا تقلع ولا تهدم إلى الأبد" [38-40].

إن كان الله قد سمح بسبي شعبه، وخراب مدينته المقدسة بسبب الشر، فأنه خلال العهد الجديد يقيم أورشليم الجديدة، تُبنى له، وقد وضع لها حدودها.

من برج حنيئيل إلى باب الزاوية: هذا البرج في شمال شرقي المدينة (زك 14: 10، نح 3: 1؛ 12: 39) بينما يبدوا أن باب الزاوية في شمال غربي المدينة (زك 14: 10، 2 مل 14: 13، 2 أي 26: 9)، وقد بنى الملك عزيا في القرن السابق ابراجًا فيها كما في مواضع أخرى (2 أي 26: 9).

الوادي المذكور في [40] هو وادي ابن هنوم (7: 31)، بينما يمثل "الرماد"  بقايا الدهن من الذبائح البشرية. "والحقول" غير مؤكدة المعنى، ينسبها البعض إلى حقل موت Mot، أي حقل إله الموت الكنعاني. كان نهر قدرون يجرى شرق أورشليم، وكان يقع باب الخليل في الركن الجنوبي من الهيكل (نح 3: 28).

 

 


 

من وحي إرميا 31

محبة أبدية أحببتك

v     لكل حبٍ بداية ونهاية،

أما حبك فأزلي أبدي،

أحببتني قبل أن أوجد،

وتبقى تحبني بعد عبوري هذا العالم.

v     اقمتني لك ابنًا،

ونسبت نفسك لي يا إلهي!

تهبني مع كل لحظة خروجًا جديدًا،

اخرج بقيادة روحك القدوس،

من عبودية فرعون وأسر بابل وسخرة إبليس،

لتردني إلى أحضانك الأبوية!

بيديك يا إلهي تقيم خيمتي الساقطة،

وتجعل منى بناءً إلهيًا شاهقًا،

تقطنه أنت مع صفوف ملائكتك!

عوض العبودية المرّة،

تقيمني عروسًا متهللة لا يتوقف عُرسها!

تضمني إلى كنيستك السماوية المتعبدة بالروح والحق!

v     من وسط التدمير الشامل والأنقاض،

تقيم مني بناءً عجيبًا فائق البهاء!

عوض النوح الدائم يحل بي فرحك السماوي!

لا أعود أبكي مع راحيل على أطفالها،

إذ أراهم موكب الغالبين الحالين أينما وُجدت!

تحول صرخات التوبة وعويلها إلى تهليلات لا تنقطع!

v     يا للعجب أرى أنثى تحيط برجلٍ،

عذراء بتول تحمل كلمة الله في أحشائها!

نفسي المسكينة تقتنيك داخلها!

يا له من سرٍ فائقٍ!

هوذا الآنية الخزفية الضعيفة تحوي كنز الكنوز!

v     حبك الأبدي يحررني من السبي!

يدخل بي إلى أرض البر!

يغير بريتي إلى فردوس مثمر!

تغرس أشجار الروح في!

تبنيني بنفسك وتغرسني!

v     حبك الأبدي قدم لي عهدًا جديدًا.

آدم أبي دخل معك في عهدٍ، لكنه نقضه!

نوح البار قبل العهد خلال العالم الجديد،

لكن سرعان ما شاخ العالم وفسد!

إبراهيم أب الآباء نال عهدًا، لكن خلال ختان الجسد.

رجال العهد القديم قبلوا عهد سيناء خلال ذبائح حيوانية.

أما أنا فنلت عهدك الجديد،

تمتعت بجسدك ودمك المبذولين حبًا!

رفعني عهدك إلى الصليب فمزق الصك القديم،

تحررت من الديون والآثام ونلت برك العجيب!

دخل بي عهدك إلى سمواتك وأمجادك!

v     عهدك الجديد حوَّلني إلى أورشليم جديدة!

أقام مني هيكلاً للروح القدس،

وجعل مني عضوًا في جسد المسيح المقدس،

ووهبني البنوة للآب السماوي!

يا لحبك الأبدي الفائق!

<<


 

الأصحاح الثاني والثلاثون

شراء أرض أثناء السبي

يبدأ الجزء الثاني من "سفر التعزية" بهذا الأصحاح الذي له أهميته الخاصة، حيث يؤكد إرميا النبي إيمانه ورجاءه في الوعد الإلهي بالعودة من السبي. وقد وقعت هذه الحادثة في الوقت الذي كانت فيه جيوش بابل قد انسحبت مؤقتًا من حصار أورشليم عند اقتراب الجيش المصري في صيف 588 ق.م.، ثم عادت لتحاصرها. أي كان هذا قبل حوالي عام من السبي الأخير لليهود إلى بابل (2 مل 25: 1-2).

بينما كان البابليون يدقون أبواب أورشليم لنهبها بعد عدة شهور، اشترى إرميا قطعة أرض، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يستقر فيها. لكنه أراد تأكيد أنه في المستقبل تعود الحياة الطبيعية في يهوذا.

1. شراء الأرض [1-15].

2. رد الفعل للشراء [16-25].

3. إجابة الله عليه [26-35].

4. أمجاد الإصلاح المسياني [36-44].

1. شراء الأرض:

يقدم لنا تاريخ نبوة إرميا النبي هنا، قائلاً:

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب في السنة العاشرة لصدقيا ملك يهوذا، هي السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر.

وكان حينئذ جيش ملك بابل يحاصر أورشليم وكان إرميا النبي محبوسًا في دار السجن الذي في بيت ملك يهوذا" [1-2].

حدث هذا في السنة العاشرة لصدقيا ملك يهوذا، أي سنة 7-588 ق.م، وهي تقابل السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر. إذا حُسبت سنة اعتلاء العرش كعادة يهوذا، أما إذا حُسبت من السنة التالية (أي الكاملة) لملكه كعادة بابل فتكون السنة السابعة عشرة[554].

"لأن صدقيا ملك يهوذا حبسه قائلاً:

لماذا تنبأت قائلاً هكذا قال الرب.

هأنذا أدفع هذه المدينة ليد ملك بابل فيأخذها.

وصدقيا ملك يهوذا لا يفلت من يد الكلدانيين،

بل إنما يُدفع ليد ملك بابل ويكلمه فمًا لفمٍ وعيناه تريان عينيه.

ويسير بصدقيا إلى بابل،

فيكون هناك حتى أفتقده يقول الرب.

إن حاربتم الكلدانيين لا تنجحون" [3-5].

الأعداد [3-5] عبارات اعتراضية وُضعت لتفسير السبب في احتجاز إرميا، ومنعه من الهروب، إذ كان الهدف الرئيسي هو محاولة القضاء على رسالته النبوية. لا نعرف المدة التي قضاها إرميا في السجن.

تقدم لنا العبارات السابقة سبع نبوات نطق بها النبي في أورشليم، أعلن النبي هذه النبوات في مواضع كثيرة (21: 3-7؛ 24: 8-10؛ 25: 8-29)، وقد تحققت حرفيًا كما جاء في (2 مل 25؛ 2 أي 36)

أ. يدفع الله مدينة أورشليم ليد ملك بابل فيأخذها.

ب. لا يفلت صدقيا ملك يهوذا من يد الكلدانيين.

ج. بالتأكيد يُدفع صدقيا ملك يهوذا ليد ملك بابل.

د. سيتكلم صدقيا ملك يهوذا مع ملك بابل فمًا لفمٍ، وعيناه تريان عينيه.

هـ. يسير بصدقيا إلى بابل.

تنبأ حزقيال النبي عن صدقيا أنه لا يرى بابل (حز 12: 13). حُمل الملك إلى بابل ليلاً، لكنه لم يرها كما يقول إرميا النبي، إذ فقأوا عينيه في ربلة (2 مل 25: 4-7). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[يعلن أحد الأنبياء: "لا يرى بابل" (حز 12: 13) وآخر يقول: "يسير به إلى بابل" [5] وتبدو النبوة كأنها متناقضة. ولكن الأمر غير ذلك، إذ كلاهما حق، فإنه لا يرى بابل وإن كان يُحمل إليها... لأنه في اليهودية تُفقأ عيناه، لأنه حيث حنث بالقسم هناك يثبت ذلك عليه وينال العقوبة.

 كيف يُحمل إلى بابل؟ مسبيًا!

فإن العقوبة مضاعفة: حرمان من البصر والسبي[555]].

[إنه لم يرَ بابل مع أنه حُمل إليها... لأنه فُقئت عيناه في اليهودية، في الموضع الذي فيه حنث بالقسم هناك نال العقوبة.

لقد خان العهد وحنث بالقسم ولو مع رجلٍ وثنيٍ، لهذا نال عقوبة مضاعفة: السبي والعمى.

هذا هو ثمر خيانة العهد مع الناس فكم بالأحرى مع الله؛ إنها تُفقد النفس حريتها والبصيرة الداخلية نورها، فيخضع الإنسان لعبودية داخلية وعمى داخلي].

و. يكون صدقيا  في بابل فيكون هناك حتى يفتقده الرب، أي إلى يوم موته.

ز. إن حاربوا الكلدانيين لا ينجحون.

طبقًا لما جاء في (39: 1) بدأ حصار أورشليم في السنة التاسعة لملك صدقيا، وقد رُفع الحصار لمدة بسيطة عندما اقتربت القوات المصرية من أورشليم (37: 5) ، لكنه فُرض مرة أخرى عندما قرر المصريون الامتناع عن القتال. وعندما كان إرميا ذاهبًا إلى عناثوث من أورشليم ليتولى عملية شراء ملكية العائلة ظنوه يتعامل مع العدو، لذا تم القبض عليه (37: 11-14)، وُوضع في حبسٍ محكمٍ، ولكن أُعطي بعد ذلك قليلاً من الحرية (37: 21). كانت دار السجن عبارة عن سياج داخل القصر الملكي (نحميا 3: 25).

نقرأ تفاصيل هذا الوصف المختصر هنا في الأصحاحين 37، 38، حيث أُغلق عليه في سجن القصر بواسطة رجال القصر (37: 17) كما أُلقى فيما بعد في جب آخر حيث لم يُوجد فيه ماء بل وحل (38: 6). هنا نرى عدم ترتيب فصول السفر ترتيبًا تاريخيًا.

ربما لم يرد الملك سجن إرميا، بل بالعكس نجَّاه من يد أعدائه فاعتقله في مكانٍ في قصره الخاص حتى لا يمكِّن أعداءه من إيذائه. وكان لإرميا شيء من الحرية أثناء الاعتقال كما كان لبولس الرسول في رومية (أع 28: 30)، فأمكن لأصحابه وأقرباؤه أن يزوروه، واستطاع هو أن يقوم بأعمال البيع والشراء.

"فقال إرميا: كلمة الرب صارت إليّ قائلة:

هوذا حنمئيل بن شلوم عمك يأتي إليك قائلاً:

اشترِ لنفسك حقلي الذي في عناثوث لأن لك حق الفكاك للشراء.

فجاء إليّ حنمئيل ابن عمي حسب كلمة الرب إلى دار السجن،

وقال لي: اشترِ حقلي الذي في عناثوث الذي في أرض بنيامين، لأن لك حق الإرث ولك الفكاك، اشتره لنفسك، فعرفت أنها كلمة الرب.

فاشتريت من حنمئيل ابن عمي الحقل الذي في عناثوث،

ووزنت له الفضة سبعة عشر شاقلاً من الفضة.

وكتبته في صكٍ، وختمت وأشهدت شهودًا ووزنت الفضة بموازين.

وأخذت صك الشراء المختوم حسب الوصية والفريضة والمفتوح.

وسلمت صك الشراء لباروخ بن نيريَّا بن محسيا أمام حنمئيل ابن عمى وأمام الشهود الذين أمضوا صك الشراء أمام كل اليهود الجالسـين في دار السجن.

وأوصيت باروخ أمامهم قائلاً:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

خذ هذين الصكين، صك الشراء هذا المختوم والصك المفتوح هذا، واجعلهما في إناءٍ من خزفٍ لكي يبقيا أيامًا كثيرة.

لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

سيشترون بعد بيوتًا وحقولاً وكرومًا في هذه الأرض" [6-15].

الحديث الذي يذكر حق القريب في التملك بالشفعة هنا يبين أن العادات القديمة التي تتحكم في ملكية الأرض كانت لا تزال سارية المفعول. ففي لاويين (25: 25) يمكن للقريب أن يفك البيع لكي لا تخرج الملكية من العائلة.

 كانت الإجراءات القانونية الصحيحة تُراعى كما لو كانت الأرض في حالة السلم، وكانت الحجة تتكون من نسخة محرزة (مغلقة) تشمل العقد وشروط البيع ونسخة أخرى مفتوحة، وسواء كانت الوثيقتان طبق الأصل أو كانت إحداهما تحوي ملخصًا للثانية هذا ما لا يمكن تأكيده.

كانت الأواني الفخارية شائعة الاستعمال لحفظ الأوراق والنفائس الأخرى، تختم بالقار لضمان حفظ محتوياتها.

ويظهر من الحفريات أنه وُجدت نفس هذه العادة في بلاد ما بين النهرين حيث كانت تُكتب نسختان من العقد على خزف، واحدة تُغلف بغلاف خزفي والأخرى تبقى بغير غلاف. ووُجدت أيضًا نفس هذه العادة في فلسطين في أواخر القرن الرابع ق.م. [556]

كما وُجد حديثًا في مغارة بالقرب من بحر لوط آنية خزف فيها صكوك ومخطوطات وهي نسخ من أسفار العهد القديم وغيرها، وقد ظلَّت مختزنة في بطن الأرض أكثر من ألفي سنة.

ربما كانت الحجة مماثلة لعقود أخرى وُجدت في مصر في أواخر القرن الخامس ق.م. في جزيرة فيلة حيث كانت الحجج من نسختين تُكتب على ورق البردي، إحداهما مقفلة ومختومة والأخرى مفتوحة ليسهل الرجوع إليها. تُحفظ المفتوحة في الدوائر الرسمية، أما المختومة فتُحفظ في مكان أمين إلى انقضاء سني السبي السبعين حيث يكون مستندًا رسميًا لتحديد ميراث إرميا الذي اشتراه من ابن عمه.

يرى البعض أن مجيء حنمئيل إلى ابن عمه إرميا ليبيع حقله ويترك قريته فيه إشارة إلى حالة اليأس التي حلت بالشعب من جهة المستقبل. ربما كان لحنمئيل من هم أقرب من إرميا لكنهم رفضوا الشراء لظروف البلد القاسية، لذا تقدم إلى إرميا.

لم تكن زيارة حنمئيل لإرميا مفاجئة له، فقد سبق فأعلن الله له عنها، وقد أرشده الرب إلى ما يصنعه. هكذا عندما انسحب الكل من إرميا تدخل الله ليرشده في كل أمور حياته حتى التي تبدو زمنية

دفع إرميا في الحقل 17 شاقلاً من الفضة، فإن كان الشاقل يساوي حوالي خُمسين من الوقية (5، 11 جم)، فقد دفع حوالي سبع أوقيات فضة (تك 23: 16)[557]. ويمكننا أن نستنتج من هذا بأن إرميا لم يكن فقيرًا.

مع أن موضوع شراء الحقل من حنمئيل أمر شخصي يعطي قراره فيه بكامل حريته، لكن الكتاب المقدس يوضح أن الله ضابط الكل يحول كل الأمور حتى التي تبدو تافهة لبنيان شعبه وأولاده. كأن ما حدث لم يكن كما يظن البعض محض صدفة - إن صح التعبير - لكن تمّ بعناية إلهية يحمل الآتي:

أ. تأكيد طاعة إرميا النبي لله الذي أعلن له عن الأمر مسبقًا.

ب. تزكية إيمان إرميا الذي يعلن بهذا الحدث أن السبي قادم حتمًا، لذا حفظ نسختي العقد في إناء خزفي. لأنه حفظ النسختين وليس نسخة واحدة في إناء خزفي لإدراك النبي أن تنفيذ شراء الحقل يتطلب عشرات السنين حتى ينتهي السبي. بهذا أعلن تأكيده أن السبي قادم حتمًا، وأن العودة أيضًا قادمة حتمًا!

ج. تزكية إيمانه بأنه سيعود المسبيين يومًا ما وتعود الحياة اليومية من بيع وشراء وفلاحة حقل إلخ.

د. حمل الشراء رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي.

التفسير الرمزي لشراء الحقل

ما هو هذا الحقل الذي اشتراه إرميا وهو في السجن أثناء السبي ليسجل عقد الشراء من نسختين، إحداهما مختومة والأخرى مفتوحة، حتى يملك الحقل بعد الانتهاء من السبي؟

أ. الحقل موضوع الشراء هي الكنيسة التي اقتناها السيد المسيح لنفسه ميراثًا أبديًا، هي له يمتلكها في كمال بهائها ومجدها بعد انقضاء الدهر، كما بعد السبي، كما هو ميراثنا الذي نقتنيه بكوننا أولاد الله، ورثة الله، ووارثون مع المسيح (رؤ 8).

مع أنه اشترى الحقل ودفع ثمنه إلاّ أن لم يضع اليد عليه، فما زال الميراث تحت عبودية الفساد. لقد حصل فداء هذا الميراث بالدم وهو الثمن المدفوع، أما الفداء بمعنى تحقيق الملكية ووضع اليد بالقوة فما زال مؤجلاً ونحن ننتظر ونتوقع فداء المقتنى المدفوع ثمنه.

الدرج المكتوب هو سند ملكية هذا العالم ولا جدال في هذا، ويبقى مختومًا إلى أن يقوم الوارث الشرعي ليطالب بالملكية، ومن الواجب قبل امتلاك العالم فعلاً أن ينقي ميراثه أولاً خلال وفتح الختوم.

ب. قدم إرميا الثمن وهو بعد في السجن داخل القصر وجيوش الأعداء تحيط بأورشليم. لم يرجيء إرميا الثمن بل بثقة ويقين قدم الثمن واستلم العقد. هكذا دفع مسيحنا ثمن خلاصنا، دمه الثمين، بعد أن نزل إلى عالمنا كواحدٍ منا، وهو الملك صار تحت الحكم. أُحصي مع الأثمة، وانهالت الاتهامات ضده، أما هو فما كان يشغله إلا اقتناء كنيسته التي هي حقله المحبوب لديه.

ج. كتابة العقد من نسختين إحداهما مختومة والأخرى مفتوحة إنما تشير إلى أن الخلاص قد تحقق فعلاً إذ سجل مسيحنا بدمه عهده الجديد على الصليب، مكتوبًا بحبه العملي الباذل. صار صليب مسيحنا عقدًا أو عهدًا جديدًا مفتوحًا للمؤمنين الذين يدركون أنه قوة الله للخلاص (1 كو 3: 18)، أما لغير المؤمنين فهو مختوم، إذ يراه اليهود عثرة واليونانيون جهالة (1 كو 3: 23).

بالنسبة لنا أيضًا نرى في الصليب عهدًا واحدًا من نسختين: النسخة المختومة هو ما نناله الآن من عربون للسماويات، فننعم بخبرة الميراث الأبدي ونحن بعد في هذا العالم، أما النسخة المفتوحة فهو تمتعنا بالسماويات عينها حين نرى الرب وجهًا لوجه ونحيا في الأحضان الأبوية أبديًا.

د. وضع النسختين في إناءٍ خزفيٍ يشير إلى أن العهد الجديد الذي به ينال المؤمنون الميراث الأبدي يودع في أناس (لهم الجسد كإناءٍ خزفيٍ) يشهدون للعمل الخلاصي الإلهي خلال حياتهم الزمنية، هذا ما دفع الرسول بولس أن يحث تلميذه تيموثاوس أن يحفظ الوديعة (1 تي 6: 20؛ 2 تي 1: 14) وأن يودعها في أناسٍ أمناءٍ.

هـ. تم العقد أمام باروخ وكل اليهود الذين كانوا في قاعة السجن تأكيدًا أن عمل الخلاص أو العهد الجديد بالصليب يتحقق علانية حيث يرتفع السيد المسيح على جبل الجلجثة أمام اليهود وبعض رجال الدولة والأمن.

لأول مرة يُذكر باروخ [12]، الكاتب الذي يملي النبي كلامه عليه ثم يكتبه، وكان رجلاً تقيًا، صديقًا لإرميا ومعاونًا له وأمين سرّه، كان مسئولاً عن إعداد وثائقه، ولعلّه كان كاتبًا رسميًا وخطاّطًا (36: 26).

2. رد الفعل للشراء:

"ثم صليت إلى الرب بعد تسليم صك الشراء لباروخ بن نيريَّا قائلاً:

آه أيها السيد الرب،

ها إنك قد صنعت السموات والأرض بقوتك العظيمة، وبذراعك الممدودة.

لا يعسر عليك شيء.

صانع الإحسان لألوف ومجازى ذنب الآباء في حضن بنيهم بعدهم،

الإله العظيم الجبار رب الجنود اسمه.

عظيم في المشورة وقادر في العمل،

الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتعطي كل واحدٍ حسب طرقه وحسب ثمر أعماله.

الذي جعلت آيات وعجائب في أرض مصر إلى هذا اليوم وفي إسرائيل وفي الناس، وجعلت لنفسك اسمًا كهذا اليوم.

وأخرجت شعبك إسرائيل من أرض مصر بآيات وعجائب وبيدٍ شديدةٍ وذراعٍ ممدودةٍ ومخافةٍ عظيمةٍ.

وأعطيتهم هذه الأرض التي حلفت لآبائهم أن تعطيهم إياها أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً.

فأتوا وامتلكوها ولم يسمعوا لصوتك ولا ساروا في شريعتك،

كل ما أوصيتهم أن يعملوه لم يعملوه فأوقعت بهم كل هذا الشر.

ها المتارس،

قد أتوا إلى المدينة لياخذوها،

وقد دفعت المدينة ليد الكلدانيين الذين يحاربونها بسبب السيف والجوع والوبأ،

وما تكلمت به فقد حدث وها أنت ناظر.

وقد قلت أنت لي أيها السيد الرب اشترِ لنفسك الحقل بفضة وأشهد شهودًا وقد دفعت المدينة ليد الكلدانيين" [16-25].

يلاحظ في صلاة إرميا أو تسبحته الآتي:

أولاً: لم ينشغل إرميا بشراء الحقل، فقد أدرك أنه لن يعيش على الأرض حتى يتسلم الحقل... لكن ما كان يشغله هو الله نفسه خالق السماء والأرض، الذي يبسط يديه بالحب لمؤمنيه وهو قدير على خلاصهم. حاول إرميا أن يسّكِن من مخاوفه وقلقه بالتفكير بأنه لا شيء يستحيل على الله الذي خلق الكون فهو يفعل ما يشاء. ومع ذلك فهناك مشكلة خطيرة تتعلق بيهوذا، لأن الأمة رفضت سلطان الله عليها (لو 19: 14)، ولأن كل شيء مكشوف بالنسبة لله فلا يمكن لأى شر أن يختفي عن نظر الله.

ثانيًا: صلى بحزن إلى الله الذي هدأ من روعه ليطمئن على المستقبل. كان الحصار ضد أورشليم يشهد بأن إنذارات الله السابقة قد أضحت حقيقة ماثلة الآن، لذلك كان يصعب على إرميا أن يعتقد أن الله الغير متغير وكلى القدرة يمكن أن يأمره بشراء الأرض بينما كانت نهاية الحياة الطبيعية في يهوذا قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ومع ذلك فقد أُمر النبي أن يتصرف كما لو كان للأرض مستقبل مجيد ورائع، وكان إيمانه وطاعته في ظل هذه الظروف نموذجًا للسلوك يحتذي به كل من المؤمنين الحقيقيين (عب 11: 6).

ثالثًا: يقول: "الإله العظيم الجبار رب الجنود اسمه".

اهتم موسى النبي أن يسأل الله عن اسمه (خر 3)، فأعلن الله له أن اسمه "يهوه"، هنا أيضًا يعلن الرب عن اسمه أنه "رب الجنود"، فالله فوق الأسماء كما يقول القديس إكليمنضس السكندري، لكنه يعلن اسمه حسب احتياجنا.

احتاج موسى إلى الله ككائنٍ يحل وسط شعبه، فقدم الله اسمه "يهوه" أي "أنا كائن"، وإرميا يدخل في آلام كثيرة ومرارة، لذلك يعلن الله له عن اسمه "رب الجنود"... وأخيرًا جاء السيد المسيح الابن الوحيد ليعلن اسم أبيه للبشر كآب...

يقول القديس جيروم: [لم يكن هذا الاسم معروفًا في الماضي، إذ يقول الرب: "أنا أظهرت اسمك للناس" (يو 17: 6). فإن كل ابنٍ في الحق يحمل اسم أبيه[558]].

رابعًا: يحدثنا في [23] عن ثلاثة أسباب لدمارهم:

أ. لم يطيعوا الصوت الإلهي.

ب. لم يسلكوا في ناموسه الإلهي.

ج. لم يتمموا شيئًا من وصاياه الإلهية!

لقد حرموا أنفسهم من الصوت الإلهي، والناموس الإلهي، والوصية الإلهية؛ وإن كان من الصعب وضع حدٍ فاصٍل للتمييز بين هذه الثلاثة إلا إنه يمكننا القول:

حرموا أنفسهم من اللقاء الشخصي مع الكلمة الإلهية أو الصوت الإلهي، لقاء الحب والود!

حرموا أنفسهم من الناموس أو الشريعة الإلهية كقائد لهم في الطريق الملوكي حتى لا ينحرفوا يمينًا أو يسارًا عن الطريق الملوكي أو طريق الحياة.

وأخيرًا حرموا أنفسهم من الوصية الإلهية التي قدمها الله للإنسان ليعلن بطاعته لها عن تجاوبه مع الحب الإلهي، فيدخل في حب مشترك بين الله والإنسان!

خامسًا: يصف الله المحرر من السبي بعدة سمات تتحدث عن عظمة قدرته:

أ. خالق السماء والأرض بقوته العظيمة [17].

ب. إله المستحيلات، لا يعسر عليه شيء [17].

ج. محب ومترفق بالآلاف [18].

د. يجازي الآباء في أبنائهم المصرين على السلوك بروح آبائهم لكي يؤدب الكل.

هـ. الله العظيم الجبار [17].

ح. عظيم في المشورة [19].

ز. الإله القدير [19].

ط. العارف كل شيء، عيناه مفتوحتان على طرق بنى آدم ليعطي كل واحٍد حسب طرقه وحسب ثمر أعماله [19].

ى. إله العجائب والمعجزات [20].

ك. واهب الخروج لشعبه بقوة [21].

ل. إله المواعيد الصادقة: واهب أرض الموعد [22].

م. يؤدب على الشرور [23].

سادسًا: لم يتحدث عن التأديب الإلهي إلا بعد أن كشف عن حب الله الفائق واهتمامه بالإنسان، إذ خلق الكل لأجله، وقدم له المستحيلات، مع المشورة الإلهية العظيمة. إنه يشتهي حريته فيخرجه كما من عبودية فرعون، ويدخل به إلى أرض الموعد فلا يعتاز شيئًا، وأخيرًا إذ يصمم الإنسان على العصيان لا يوجد طريق آخر غير التأديب الإلهي مهما بدى قاسيًا.

سابعًا: تحدث في تسبحته للرب عن الخروج من مصر، وهو موضوع لم يشغل موسى النبي وحده بل ورد في الأسفار التاريخية والمزامير وكتب الأنبياء، ويردد كثيرًا في ليتورجيات الأعياد اليهودية والتسابيح التي كانت تُقدم في الهيكل.

3. إجابة الله عليه:

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:

هأنذا الرب إله كل ذي جسد، هل يعسر عليَّ أمر ما؟!

لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا أدفع هذه المدينة ليد الكلدانيين وليد نبوخذراصر ملك بابل فيأخذها.

فيأتي الكلدانيون الذين يحاربون هذه المدينة، فيشعلون هذه المدينة بالنار، ويحرقونها، والبيوت التي بخروا على سطوحها للبعل وسكبوا سكائب لآلهة أخرى ليغيظوني.

لأن بني إسرائيل وبني يهوذا إنما صنعوا الشر في عينيًّ منذ صباهم.

لأن بني إسرائيل إنما أغاظوني بعمل أيديهم يقول الرب.

لأن هذه المدينة قد صارت لي لغضبي ولغيظي من اليوم الذي فيه بنوها إلى هذا اليوم لأنزعها من أمام وجهي.

من أجل كل شر بني إسرائيل وبني يهوذا الذي عملوه ليغيظوني به هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم ورجال يهوذا وسكان أورشليم.

وقد حوَّلوا لي القفا لا الوجه،

وقد علمتهم مبكرًا ومعلمًا ولكنهم لم يسمعوا ليقبلوا أدبًا.

بل وضعوا مكرهاتهم في البيت الذي دعي باسمي لينجسوه.

وبنوا المرتفعات للبعل التي في وادي ابن هنوم ليجيزوا بنيهم وبناتهم في النار لمولك، الأمر الذي لم أوصهم به، ولا صعد على قلبي، ليعملوا هذا الرجس ليجعلوا يهوذا يخطئ" [26-35].

أولاً: يحدثنا عن خطايا إسرائيل السبع:

أ. يمارسون الشر منذ صباهم [30]، أي نشأوا فيها أبًا عن جدٍ، متأصلون فيها.

ب. يثيرون غضب الله بعمل أيديهم (الأصنام)، أي مصممون على الشر بإقامتهم آلهة وثنية.

ج. يعطون الله القفا لا الوجه [33]، أي لا يحملون حبًا لله بل كراهية.

د. لا يصغون لتعاليم الله، متجاهلين الوصية الإلهية.

هـ. يقيمون رجاساتهم في بيت الله ويدنسونه [34]، فيخلطون عبادة الله بالأوثان والحياة التعبدية بالرجاسات. إذ قدمت أورشليم محرقات للأوثان سمح لها أن تحترق على أيدي الكلدانيين.

و. يبنون مرتفعات للبعل [35].

ز. يجيزون أبناءهم وبناتهم في النار للإله مولك في وادي ابن هنوم. يضحون من أجلها حتى بأبنائهم فيلقون بهم في النار كذبائحٍ بشريةٍ، متجاهلين أبسط المشاعر الإنسانية أو حتى الحيوانية!

نجد هنا تركيزًا على شرورهم المستمرة طوال تاريخهم.

تمثل أورشليم الأمة كلها التي كانت في أيام ما قبل داود النبي مسرحًا لوثنية اليبوسيين، وكان الفساد الذي أُدخل تحت حكم سليمان بداية لدخول العبادات الغريبة إلى جانب عبادة الله، والارتداد بصورة شبه مستمرة. وفي عصر إرميا كان ذلك هو الطابع السائد للحياة حتى أن إصلاحات يوشيا لم يكن لها تأثير دائم، وقد أضاف المواطنون لتلك العبادات إساءة وإغاظة برفضهم عهد النعمة، والارتباط بالعبادة الوثنية (7: 31) وتقديم ذبائح بشرية (19: 5؛ لا 18: 21). وكانت عبادة الأوثان على السطوح (انظر 19: 13) من أكثر الأخطاء الذميمة للشعب المختار.

بمعنى آخر احتلت الخطية كل كيانهم: تأصلت فيهم منذ الصبا، فأفسدت سلوكهم (ممارسة الشر) وقلوبهم (إعطاء الله القفا)، وإرادتهم (لا يصغون للتعاليم الإلهية)، وعبادتهم (تدنيس بيت الله)، وطاقاتهم (يصنعون التماثيل ويبنون المرتفعات للبعل)، حتى عواطفهم وعلاقاتهم الأسرية (يجيزون أولادهم في النار).

هذا وقد تسللت الخطية إلى الجميع، لم تقتصر على أسباط معينة ولا على فئات معينة بل انخرط فيها أبناء إسرائيل كما أبناء يهوذا [30]؛ سقطت فيها كل الأمة: الملوك ورجال الدولة والكهنة والأنبياء والشعب، فقد صنعوا شرورًا جماعية كثيرة [31-32] لذا استحقوا تأديبًا جماعيًا! لقد كسروا العهد مع الله [33-35]، وأقاموا عهودهم مع البعل والإله مولك.

ثانيا: نفذ إرميا النبي الأمر الإلهي الخاص بشراء الحقل في ظروف غير طبيعية، بالرغم من تأكده من تسليم أورشليم في أيدي الكلدانيين.

إذ سبَّح إرميا الله القدير مؤكدًا أنه ليس شيء غير مستطاع لديه، أجاب الله أنه إله كل جسد [27]. إله كل البشرية، يعمل في الكل بخطته الفائقة. يستخدم الله نفس كلمات إرميا [17] ليؤكد له أنه لا شيء يعسر على الخالق.

4. الوعد برد السبي:

إذ قدم الله لشعبه الحجة تلو الأخرى، معللاً سر سقوطهم تحت التأديب الجماعي، لم يتركهم في يأس بل قدم لهم عهدًا جديدًا على مستوى أعظم من العهد القديم، حيث ينقشه في قلوبهم. يقدمه عهدًا أبديًا، يُسر به فهو محب لمؤمنيه.

بعد أن كشف الله عن خطاياهم التي بسببها سقطوا تحت التأديب، أراد أن يوضح لهم أن التأديب ليس إلاّ مرحلة مؤقتة، خلالها يدخل بشعبه إلى التوبة كما إلى مدرسة إلهية، يكشف لهم عن خطاياهم ويحاججهم لأجل رجوعهم إليه ونموهم. من الجانب الايجابي يكشف لهم عن حبه العجيب لهم واهتمامه بهم وتقديم عهدٍ جديدٍ فائقٍ: أولاً: يتحدث بروح الصراحة والأبوة أنه هو الذي دفع بهم إلى السبي كما إلى السيف والجوع والوبأ، إذ صاروا موضع غضبه بسبب خطاياهم وعصيانهم. ها هو الآن يردهم بالحب ويدخل بهم إلى الموضع الذي طردهم منه ليعيشوا في أمان سالمين [36-37].

"والآن لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل عن هذه المدينة التي تقولون إنها قد دفعت ليد ملك بابل بالسيف والجوع والوبأ.

هأنذا أجمعهم من كل الأراضي التي طردتهم إليها بغضبي وغيظي وبسخطٍ عظيمٍ،

وأردهم إلى هذا الموضع وأسكنهم آمنين" [36-37].

جاء الحديث في العبرية في صيغة الماضي وليس كمن يتنبأ عن المستقبل ليؤكد لهم أن السبى يتحقق حتمًا والرد منه أيضًا سيتم لا محالة!

ثانيًا: جوهر العهد هو اتحاد الله بشعبه: "ويكـونون لي شـعبًا، وأنا أكون لهـم إلهًا" [38]. هذا الاتحاد هو قمة مجدنا الأبدى، حيث نجد لنا موضعًا في حضن الآب، وُينسب الله إلينا ونحن ننتسب إليه، الذي يعتز بهذا النسب قائلاً: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب".

ثالثًا: "وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا ليخافوني كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم بعدهم" [39].

يعطينا "قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا" ما هو هذا القلب الواحد إلا روح الوحدة، وما هو الطريق الواحد الذي يدخل بنا إلى مخافة الرب لخيرنا وخير أولادنا إلا السيد المسيح القائل: "أنا هو الطريق". ففي هذا العهد نتمتع بعمل الروح القدس والسيد المسيح، فنعيش كشعبٍ واحدٍ، الجسد الواحد، ونثبت في الطريق الإلهي الملوكي لننعم بشركة الطبيعة الإلهية، حاملين الشركة في سمات المسيح فينا.

رابعًا: "وأقطع لهم عهدًا أبديًا أني لا أرجع عنهم لأحسن إليهم وأجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني" [40].

يبقى العهد أبديًا حتى في السماء (رؤ 21؛ إش 50: 3، حز 16: 60)... نرتبط بالله، فلا يقدر الموت أن يحطم علاقتنا به، بل يدخل بنا إلى لقاءٍ أعظمٍ لا يتحطم!

يقول الأب بفنوتيوس: [يتحدث إرميا النبي على لسان الله مقررًا بوضوح أن مخافة الله التي بها نثبت فيه تنسكب علينا منه[559]]. كاسيان 3: 18.

خامسًا: "وأفرح بهم" [41].

هذه هي قمة علاقة الحب، فإنه ليس فقط يحبنا بل يفرح بنا، كأب يشتهي أن يرى أبناءه ويلتقي بهم ويسكب مجده فيهم مقدمًا لهم ميراثًا إلهيًا. هكذا يكشف العهد الجديد عن قلب الله - إن صح التعبير- الذي كأبٍ يطلب خير أولاده ونموهم فيه.

سادسًا: "لأحسن إليهم وأغرسهم في هذه الأرض بالأمانة بكل قلبي وبكل نفسي" [41].

علامة العهد أن تمتد يد الله نفسه لتغرسنا في الأرض الجديدة، اليد الأمينة التي تعمل بغير حدود، بل بكل قلب الله التي لا يأتمن آخر غيره على غرسنا! إن كان بولس الرسول يغرس وآخر يسقي، لكن يبقى الله العامل في قلب الرسل والخدام، هو الذي يغرس ويروى وينمي ويقدم ثمر الروح.

سابعًا: أخيرًا يؤكد لهم استقرار حياتهم بعد السبي في ظل العناية الإلهية كعربون للحياة الكنسية الغنية في ثمارها، والمملؤة سلامًا روحيًا.

"لأنه هكذا قال الرب: كما جلبت على هذا الشعب كل هذا الشر العظيم هكذا أجلب أنا عليهم كل الخير الذي تكلمت به إليهم.

فتُشترى الحقول في هذه الأرض التي تقولون إنها خربة بلا إنسانٍ وبلا حيوانٍ وقد دُفعت ليد الكلدانيين.

يشترون الحقول بفضة ويكتبون ذلك في صكوك ويختمون ويشهدون شهودا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهوذا ومدن الجبل ومدن السهل ومدن الجنوب لأني أرد سبيهم يقول الرب" [41-44].


 

من وحي إرميا 32

وعودك تتحدى الزمن!

v     آمن إرميا بوعودك الصادقة:

بعد 70 عامًا لابد أن ينتهي السبي!

كان في دار السجن وسط الآلام،

وكان البابليون يستعدون لنهب أورشليم،

فرأى بعينيْ الإيمان اليقين الملك ورجاله يُسبون،

المدينة وهيكلها، والقرى وحقولها... تخرب،

مع ذلك اشترى قطعة أرض في عناثوث قريته!

v     افتدى الأرض بسبعة عشر شاقلاً من الفضة!

قدم صك الشراء لباروخ كاتبه!

حُفظت منه نسختان في إناءٍ خزفي،

نسخة مختومة وأخرى مفتوحة!

أكد تقديره لميراث آبائه واعتزازه بأرض الموعد!

أكد إيمانه أنه وإن طال الزمن سيعود شعبه من السبي،

وترجع الحياة اليومية الطبيعية إلى ما هو أفضل!

وعودك بالعودة المجيدة تتحدى الزمن بكل مرارته وعاره!

v     من أجلي دخلت أنت يا مخلصي، وليس إرميا، إلى السجن!

لحسابي حُوكمت كمذنبٍ وحملت ثمرة عصياني!

رأيتني أنهار في السبي وتخرب كل أعماقي!

فقدت مجدي وحاط بي الخزي!

اشتريتَ قلبي حقلاً خاصًا بك!

أقمت منه جنتك وفردوسك!

نعم! ليثمر روحك القدوس فيَّ!

لأتحرر الآن، هوذا صك الشراء محفوظ!

صك الشراء بل صك الفداء مختوم هنا لا نراه إلا بعينيْ الإيمان،

ومفتوح في السماء يتهلل به السمائيون معنا!

v     من أجلي سقطت تحت المحاكمة يا إله إرميا!

لم تنشغل بالاتهامات ولا بالجلدات ولا بالجراحات،

بل كل ما كان يشغلك أن توقع عهدًا جديدًا،

كتبته لي بدمك الثمين!

اشتريتني وسط آلامك حقلاً مقدسًا لك،

قبلتني ميراثك، وأنت ميراثي.

حبيبي لي وأنا لحبيبي الراعي بين السوسن!

v     بدمك سجلت العهد الجديد،

أودعته في قلبي الصغير، الإناء الخزفي،

أودعت كنزك الإلهي في حقارتي!

v     هب لي أن أقرأ النسخة المفتوحة،

فأرى مع يوحنا حبيبك بابًا مفتوحًا في السماء،

ويرتفع قلبي إلى أمجادك!

إني أنتظر أيضًا أن تفتح النسخة المختومة،

حين تأتي يا ديان البشرية،

فأرى ما لم تره عين،

وأسمع ما لم تسمع به أذن،

وأتمتع بما لم يخطر على قلب إنسان!

لك الحمد والتسبيح يا من اقتنيتني لا بذهب وفضة،

بل بدمك الثمين المبذول على الصليب!

<<


 

الأصحاح الثالث والثلاثون

أورشليم... أنشودة فرح!

إذ كان إرميا النبي في السجن تحدث الله معه بشأن شعبه للمرة الثانية. لقد سبق فقدم لهم تحذيرات مستمرة، وها هو يقدم تأكيدات لمواعيده الإلهية الصادقة. فإنه لا يكف عن تكرار تقديم النصائح والتحذيرات وأيضًا المواعيد لأجل تشجيعهم على التوبة وبث روح الرجاء والفرح خاصة أثناء ضيقٍ.

استطاع الأشرار أن يأسروا جسد إرميا لكنهم لم يستطيعوا أن يعيقوه عن إعلان الرسالة الإلهية، وكما يقول الأسير بولس: "الذي فيه أحتمل المشقات حتى القيود كمذنبٍ، لكن كلمة الله لا تقيد" (2 تي 2: 9).

الرسالة الإلهية الموجهة للشعب هنا لبث روح الرجاء، مقدمة أيضًا لإرميا النبي نفسه، فبلاشك كان إرميا يئن في أعماقه وهو يقدم الرسالة الأولى المملؤة تحذيرات للشعب. كانت جدران قلبه تتوجع وأحشاؤه تصرخ من أجل المرارة التي تحل بالشعب. الآن يقدم له الرب رسالة تعزية تفرح أعماقه.

بينما كان إرميا النبي في السجن لم يكن منشغلاً بحاله ومتاعبه ووحدته، إنما بشعبه الذي يسقط تحت السبي بسبب الخطية، والدمار الذي يلحق به. لهذا فتح الله عن عينيه ليرى ما في قلب الله من جهة شعبه. فإن الله يريد مباركته كما يخطط لأجل تحقيق ذلك، فيجعله أشبه بمدينة سماوية، أورشليم العليا، مدينة مسوَّرة لن يقدر أن يقتحمها عدو، مملوءة صحة، لا تعاني بعد من مرضٍ، طاهرة ونقية، لا تفسدها أو تنجسها خطية، متهللة كعرسٍ دائمٍ لا ينقطع.

يجعل شعبه أشبه بمرعى سماوي يشبع ويروي كل احتياجات المؤمنين،

وبقصرٍ ملوكيٍ، يقيم فيه المسيا الملك ابن داود،

وبهيكلٍ مقدسٍ يخدم فيه رئيس الكهنة الأعظم ربنا يسوع.

هذا هو اشتياق الله من جهة شعبه الذي يقيم معه عهدًا أبديًا.

في الجزء الثاني من هذا الأصحاح يعد الله أنه يقيم:

مملكةً أبدية،

عرشًا أبديًا،

نسلاً لداود أبديًا،

وأيضًا كهنة ولاويين ومحرقات وتقدمات أبدية...

هذه جميعها لا يمكن أن تتحقق بطريقة حرفية، لكنها وعود تحققت بمجيء السيد المسيح الذي أقام مملكته السماوية فينا، والتي تُعلَن بأكثر كمال في لقائنا معه في يوم الرب العظيم، حيث نُحسب كهنة لاويين، مقدمين تسابيح الحمد كمحرقاتٍ وتقدماتٍ لا تنقطع.

إن كان الله يرد لمدينته حريتها، يردها من السبي البابلي، فإنه يجعل من اسمها أنشودة فرح، تحمل شهادة حية لعمل الله الخلاصي المفرح، يرى فيها أمورًا عجيبة وفائقة. لقد جاءت هذه الرسالة المفرحة في وقت كانت الحالة تزداد سوءًا.

1. السماء قابلة الصلوات[1-3].

2. أورشليم الحصينة[4-5].

3. أورشليم المتمتعة بالشفاء والسلام [6-7].

4. أورشليم وغفران الخطايا[8].

5. أورشليم... أنشودة فرح[9-11].

6. أورشليم مرعى الراعي الصالح[12-13].

7. أورشليم وكرسي داود[14-17].

8. أورشليم والعمل الكهنوتي[18].

9. الأمانة في العهد[19-26].

1. السماء قابلة الصلوات:

 "ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا ثانية وهو محبوس بعد في دار السجن قائلة:

هكذا قال الرب صانعها، الرب مصورها، ليثبتها يهوه اسمه.

ادعني فأجيبك، وأخبرك بعظائمٍ وعوائصٍ لم تعرفها" [1-3].

أولاً: يبدو أن بعض القيادات جاءت إلى إرميا النبي في دار السجن الذي بالقصر تضغط عليه لكي يتنبأ لهم بانهيار الكلدانيين، ظانين في غباوة أنه بهذا يؤثر على خطة الله ويغيرها فتخلص المدينة من الحصار المرّ. لذلك أعلن الله عن أهمية الصلاة، لا لتحقيق إرادتنا البشرية بغباوة، بل للتعرف على خطة الله وأسراره.

إذ أوشك أن يدخل الشعب إلى أحلك لحظات حياته بسبب السبي البابلي يدعوهم الله إلى الصلاة لكي يعلن لهم عما يريد أن يكشفه لهم. بمعنى آخر مع أن الله قادر أن يتحدث معهم عن أسراره من نحوهم، لكنه يريدهم أن يتحدثوا معه ويحاوروه، فيدركوا أنه أب سماوي يهب أسراره لأولاده الملتصقين به.

ثانيًا: يعلن النبي أنه قد صارت إليه كلمة الرب وهو محبوس بعد في دار السجن، إذ لم يقدر السجن أن يحبس الكلمة الإلهية أو يحدها، بل على العكس كثيرًا ما يتمتع المؤمن بكلمة الله، ويتعرف على أسرارها، كما ينعم بتعزيات الروح القدس وإعلانات الله عندما يكون وسط الآلام. يسجل لنا التاريخ كيف تحولت السجون في أيام الإضطهادات إلى مقادسٍ إلهية، يُسمع خلالها صوت تسابيح المعترفين أو الشهداء، ويتمتع الكثيرون برؤى سماوية. كثيرًا ما يُرسل الله لشهوده المتألمين ملائكة ورؤساء ملائكة، وأحيانًا يتجلى بنفسه ليؤكد حضرته وسط آلامهم.

ثالثًا: ماذا قدمت الكلمة الإلهية لإرميا السجين منفردًا؟

أ. لعل أهم ما قدمته هو شعور إرميا أنه في الحضرة الإلهية، مما حول السجن إلى لحظات لقاء مع الله وتعرف على أسراره الإلهية المفرحة.

ب. يقول الرب لإرميا إنه "صانعها" ربما يقصد "صانع الكلمة" وإن كانت الترجمة السبعينية توضح أنه "صانع الأرض، الرب مصورها، ليثبتها".

استخدم سفر التكوين (الأصحاح 1) ثلاثة أفعال عن الخلقة:

asa تعني يصنع،

yasar تعني يشكل،

bara تعني يخلق.

هنا يتحدث عن الله صانع الأرض ومشكلها[560]، مستخدمًا الفعلين الأول والثاني.

إن كان إرميا في حبس منفرد لكن يليق به أن يدرك أن الأرض كلها هي للرب ولمسيحه. الله خالق الأرض ومشكلها ومثبتها حسب فكره الإلهي. هكذا يليق بإرميا أن تتهلل نفسه لأنه ليس محبوسًا وسجينًا خلال ظلم البشر، وإنما بالأحرى محمول على أرض صنعها الرب للبشر. الذي خلق الأرض لأجل الإنسان وصورها وثبتها لتشبع احتياجاته هو ملتزم بالبشرية، خاصة بنيه وشعبه، وأن يشكلهم ليحملوا صورته، وأن يثبتهم فيه. إننا أثمن من الأرض كلها التي خلقها الله لأجلنا‍.

إن كان التحرر من السبي البابلي يبدو مستحيلاً في أعين المسبيين، فإن الله صانع الأرض ومشكلها ومثبتها قادر أن يقيم شعبه ويؤسس مدينته من جديد ويثبتها. لم يكن ملك يهوذا والقيادات والشعب يتصورون إمكانية السقوط تحت السبي البابلي، خاصة بالنسبة لأورشليم مدينة الله المحتضنة الهيكل. الآن وقد اقترب وقت السبي ادرك إرميا النبي أنهم سيشعرون بأن المستقبل مظلم، وأن التحرر من السبي الذي يطول أمده يصير فوق كل تفكيرٍ بشري؛ لكي يأتي يوم التحرر فيدركون أنه إله المستحيلات.

ج. تعلن له الكلمة الإلهية: "يهوه اسمه"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [اسمه ليس اسمًا لأجل ذاته بل لما يعنيه[561]].

"يهوه" هو الاسم الإلهي الذي يُستخدم للإعلان عن الله الساكن مع شعبه والداخل معهم في ميثاق. لندرك اسمه دومًا، فنرتبط معه في ميثاق أبدي.

v     النفس التي بالحق تطلب أن تثبت رجاءها، عندما تُختطف من هذا العالم تتقبل معرفة اسم الله بلياقة[562]...

القديس أغسطينوس

د. تطالبهم الكلمة بالصلاة حتى يتمتعوا بالعظائم والعوائص، أي يدركوا أعمال الله العظيمة ويتعرفوا على أسراره الخفية التي لم يقدر عقل بشري أن يدركها (عوائص). حقًا إنه اشتياق عجيب لدى الله لاستجابة صرخات القلب الصادقة.

العوائص b’usfet هي الأمور البعيدة المنال، أو البعيدة عن المعرفة البشرية،   إذ تُستخدم أحيانا كلمة n’swrot وهي تعني المخفيات (إش 48: 6).

يطالب الله شعبه مع القيادات أن تدعوه، فهو وحده العارف المستقبل وفي يديه التاريخ، لهاذا يليق بنا الالتجاء إليه وحده. يدعو خدامه لحراسة شعبه بروح الصلاة الدائمة، إذ قيل: "على أسوارك يا أورشليم أقمت حراسًا لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام؛ يا ذاكري الرب لا تسكتوا؛ ولا تدعوه يسكت حتى يثبت ويجعل لأورشليم تسبيحة في الأرض" (إش 62: 6-7). ويقول صموئيل النبي: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12: 23).

تظهر أهمية الصلاة وسؤال الله مما جاء عن السيد المسيح نفسه وهو الابن الوحيد الجنس، الواحد مع الآب في ذات الجوهر، إذ قيل له: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز 2: 8).

الله مستعد دائمّا أن يُعطي، وأن يكشف اسراره للإنسان، لكنه محتاج إلى قلبٍ يستقبل العطية الإلهية ويتجاوب معها. إنه يود أن يتحدث مع وجه متطلع إليه لا إلى قفا لا يبالي به وبأسراره وعطاياه. لهذا يليق بنا أن نطلب بقلبٍ نقيٍ فننال، وكما يقول أيوب: "أدعُ فأنا أجيب، أو أتكلم فتجاوبني" (أي 13: 22)، ويقول المرتل: "الرب قريب لكل الذين يدعونه، الذين يدعونه بالحق" (مز 145: 18)، ولإشعياء: "حينئذ تدعو فيجيب الرب: تستغيث فيقول هأنذا" (إش 58: 9)، ويقول الرب: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم" (مت 7: 7).

للصلاة قوتها إن قدمنا التوبة ورجعنا عن طريق شرنا[563].

v     التأمل العميق في الحياة الصالحة والعناية بالروح ينجبان أناسًا صالحين ومحبين لله. من يطلب الله يجده، وذلك بغلبته على كل الشهوات بالصلاة الدائمة. مثل هذا الإنسان لا يخاف الشياطين[564].

القديس أنطونيوس الكبير

v     من يرغب في البلوغ "إلى قياس ملء المسيح" (أف 4: 13)، يلزمه ألا يفضل شيئًا من الأعمال عن الصلاة، مع قيامه بالأعمال الأخرى دون أن يكون في عوز... فيلزمه ألا يمتنع عن القيام بالعمل الخاص بالضروريات والذي ألزمته الشريعة الإلهية، تحت ادعاء أنه يريد التفرغ للصلاة. يجب عليه أن يميِّز بين الصلاة والعمل، مطيعًا الشريعة الإلهية من غير تساءل (أي منفذًا الاثنين معًا) [565]...

v     صلِ إلي الله حتى يفتح قلبك فتعاين مدى نفع الصلاة والقراءة وتفهم ذلك بالاختبار العملي لهما[566].

القديس مرقس الناسك

2. أورشليم الحصينة:

"لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل عن بيوت هذه المدينة وعن بيوت ملوك يهوذا التي هدمت للمتاريس والمجانيق،

يأتون ليحاربوا الكلدانيين ويملأوها من جيف الناس الذين ضربتهم بغضبي وغيظي والذين سترت وجهي عن هذه المدينة لأجل كل شرهم" [4-5].

يصعب تفسير هاتين الآيتين. يرى البعض أنهما تشيران إلى خراب المنازل ودمار القصور في أورشليم بواسطة الكلدانيين. لذا امتلأت المدينة بجثث القتلى. لقد أدار الله وجهه عنهم، مما أربك الشعب وجعلهم في حيرة.

الله الذي سمح بالدمار هو يسهر على حراستهم ويردهم من السبي.

في بدء خدمته سمع إرميا النبي الوعد الإلهي: "هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديدٍ وأسوار نحاسٍ على كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (1: 18-19). الآن يرى إرميا ما قد وُعد به يتحقق على مستوى الشعب كله، الأمر الذي يفرح قلبه! لم يعد هو المدينة الحصينة التي يحاربها كل شعبه واقربائه ولا يقدرون عليه، بل صار شعبه هكذا مدينة قوية تجابه كل مقاومة بروح النصرة والغلبة بالرب! ما يناله الشعب كأنه قد ناله النبي المفترى عليه منهم! غاية في الحب واتساع القلب!

3. أورشليم المتمتعة بالشفاء والسلام:

"هأنذا أضع عليها رفادة وعلاجًا،

وأشفيهم وأعلن لهم كثرة السلام والأمانة (الحق).

أرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول" [6-7].

جاءت كلمة "رفادة" في العبرية لتعني الرباط الكتاني الذي يوضع حول الجرح حتى يتم شفاؤه.

السقوط في الخطية يدخل بالشعب كما بالإنسان إلى حالة مرضية خطيرة، وكما جاء في إشعياء: "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جُرح وأحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 5-6). صارت الحاجة إلى طبيب سماوي فريد.

العلاج الذي يقدمه هو كثرة السلام والحق. يقدم نفسه لنا سر سلامنا مع  الآب، والحق الأبدي. فهو الطبيب وهو العلاج.

v     الكلمة هو مهذبنا الذي يشفي أهواء النفس غير الطبيعية وذلك بمشورته...

كلمة الآب هو الشافي الوحيد للأمراض البشرية، والمعزي القدوس للنفس عندما تكون مريضة. يقول الكتاب: "يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك، ارحمني يارب لإني إليك اصرخ اليوم كله" (مز 86: 2-3).

حسب كلمات ديموقريطس: "الشافي بفنه الجسد من أمراضه، لكن الحكمة هي التي تخلص الروح من أمراضها". مهذب الصغار الصالح، الحكمة ذاته، كلمة الآب، الذي خلق الإنسان، يهتم بنفسه بكل الخليقة، وكطبيب للإنسان بكليته يشفي كلاً من الجسد والنفس[567].

القديس إكليمنضس السكندري

4. أورشليم وغفران الخطايا:

"وأطهرهم من كل إثمهم الذي أخطاوا به إليّ،

وأغفر كل ذنوبهم التي أخطاوا بها إليّ والتي عصوا بها عليّ" [8].

يقوم العهد الجديد والتحرير على اساس غفران الخطايا (خر 36: 25) والتطهير والتقديس. هذا هو الوعد الإلهي المسياني الذي تحقق في العهد الجديد بمجيء السيد المسيح المخلص الموعود به: "وأرش عليكم ماءً طاهرًا، فتطهرون من كل نجاساتكم، ومن كل أصنامكم أطهركم، وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 25-26). "في ذلك اليوم يكون ينبوع مفتوحًا لبيت داود ولسكان أورشليم للخطية والنجاسة. ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تُذكر بعد وأزيل الأنبياء أيضًا والروح النجس من الأرض" (زك 13: 1-2).

5. أورشليم... أنشودة فرح:

أورشليم التي صارت عارًا وخزيًا تتحول إلى مصدر فرح وتسبيح لله أمام الأمم.

إن كان إرميا يدعى النبي الباكي، إذ كانت احشاؤه تئن على شعبه، لكنه المبشر بالفرح الروحي الغير منقطع (7: 34؛ 16: 9؛ 25: 10). هذا الاتجاه واضح في (مز 100: 5؛ 106: 1؛ 107: 1؛ 136).

"فتكون لي اسم فرح،

شهادة مفرحة لعمل الله وسط الأمم للتسبيح وللزينة لدى كل أمم الأرض،

الذين يسمعون بكل الخير الذي أصنعه معهم،

فيخافون ويرتعدون من أجل كل الخير ومن أجل كل السلام الذي أصنعه لها.

هكذا قال الرب:

سيسمع بعد في هذا الموضع،

الذي تقولون إنه خرب بلا إنسان وبلا حيوان،

في مدن يهوذا، وفي شوارع أورشليم الخربة،

بلا إنسان ولا ساكن ولا بهيمة.

صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت القائلين:

احمدوا رب الجنود، لأن الرب صالح لأن إلى الأبد رحمته.

صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب،

لأني أرد سبي الأرض كالأول يقول الرب" [9-11].

حدث هذا عندما تحقق التحرر من السبي في أيام زُربابل حيث سبح الكهنة واللاويون الرب في الهيكل: "وغنوا بالتسبيح والحمد للرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته على إسرائيل؛ وكل الشعب هتفوا هُتافًا عظيمًا بالتسبيح للرب لأجل تأسيس بيت الرب" (عز 3: 11).

يأتي المؤمنون إلى هيكل الرب ليقدموا "ذبائح الشكر" [11]، وكما يقول المرتل: "ليذبحوا له ذبائح الحمد وليعدوا أعماله بترنم" (مز 107: 22). "فلك أذبح ذبيحة الحمد وباسم الرب أدعو" (مز 116: 17). وجاء في هوشع: "نقدم عجول شفاهنا" (هو 14: 2). هذه الذبيحة يقدمها رجال العهد الجديد، إذ تتحقق في كمال صورتها خلال ذبيحة السيد المسيح نفسه، ذبيحة الأفخارستيا، أو الشكر، القادرة أن تحول طبيعة الإنسان الجاحدة إلى طبيعة شاكرة، باتحادها بالمسيح، وثبوتها فيه.

6. أورشليم مرعى الراعي الصالح:

إذ يتحدث عن أورشليم كأنشودة فرحٍ، فانه لا يعزلها عن حقولها المحيطة بها ومراعي الغنم الخاصة بسكانها، لذلك يصور الله كراعٍ يهتم بقطيعه العاقل، لا يفلت أحد قط من رعايته.

"هكذا قال رب الجنود.

سيكون بعد في هذا الموضع الخرب بلا إنسان ولا بهيمة، وفي كل مدنه، مسكن الرعاة المربضين الغنم.

في مدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، وفي أرض بنيامين، وحوالي أورشليم، وفي مدن يهوذا،

تمر أيضًا الغنم تحت يدي المحصي يقول الرب" [12-13].

تلمس يد الله الراعي الأعظم الحانية الخراف وترعاها، وتهتم بها وهي تدخل الحظيرة لكي لا تُنسى واحدة منها. تمر الغنم تحت يدي المحصي فلا تضيع واحدة منهم.

يقدم السيد المسيح نفسه "الراعي الصالح" الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10)، والذي يرعاهم بتقديم نفسه غذاءً لقطيعه العاقل. يتمتع به الصغار لبنًا روحيًا ينعشهم، وينعم به الكبار طعامًا يقوتهم.

v     أمطر علينا الآب المحب والحنون بالكلمة، الذي هو نفسه صار قوتًا روحيًا للقديسين[568].

v     إذ تدعو (الكنيسة الأم) أطفالها تقوتهم باللبن المقدس، أي بالطفل الكلمة[569]...

v     الكلمة هو كل شيء للطفل: الأب والأم، المهذب والممرض.

يقول: "اشربوا دمي" (يو 6: 55).

يمدنا الرب بهذا الغذاء الجوهري.

إنه يسلم جسده ويسكب دمه، فلا يوجد أي نقص لنمو أطفاله. ياله من سر لا يُصدق![570].

القديس إكليمنضس السكندري

7. أورشليم وكرسي داود:

"ها أيام تأتي يقول الرب،

وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلى بيت إسرائيل وإلى بيت يهوذا.

في تلك الأيام وفي ذلك الزمان أنبت لداود غصن البر،

فيجري عدلاً وبرًا في الأرض.

في تلك الأيام يخلص يهوذا،

وتسكن أورشليم آمنة،

وهذا ما تتسمى به: الرب برنا.

لأنه هكذا قال الرب:

لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل" [14-17].

في السبي البابلي حُرم الشعب من اقامة ملكٍ لهم، أو وجود كهنة يشفعون فيهم في الهيكل ويقدمون ذبائح وتقدمات باسمهم، فجاءت الوعود المسيانية تؤكد تمتعهم بملكٍ أبديٍ وكهنوتٍ وتقدماتٍ أبديةٍ. تحقق الوعد بديمومه مُلك داود في شخص ابن داود (2 صم 7: 16؛ 1 مل 2: 4؛ مز 89: 4، 29، 36؛ لو 1: 32-33).

يقدم إرميا النبي لمحات عن السيد المسيح الملك، الذي يملك كغصن البر (23: 25)، ويقدم نفسه لشعبه برًا منسوبًا لهم (23: 6)، يملك إلى الأبد.

يقدم لنا إرميا ومضات رائعة عن السيد المسيح الذي يحول قلوبنا إلى أورشليمه المتهللة، فيقدمه بكونه ينبوع المياه الحية (2: 13)؛ والراعي الصالح (23: 4؛ 31: 10)، والمخلص (50: 34)، وداود الملك (30: 9) كما يقدمه "الرب برنا" (23: 6) والغصن البار (23: 5). ُيدعى السيد المسيح "غصنًا" [15]؛ (23: 5؛ إش 4: 2؛ زك 3: 8؛ 6: 12)، [15]. تقليديًا تترجم semah s’daqa  بالغصن البارRighteous Branch أو البرعم البار Righteous Shoot، لكن البعض يفضل ترجمتها "الحاكم الشرعي"، على أي الأحوال أنه الملك المثالي الذي يحكم بالعدل والاستقامة[571].

سبق أن دُعى الرب نفسه: "الرب برنا" (22: 6)، الآن يطلق هذا التعبير على أورشليم المتمتعة بعمله الخلاصي، والمتهللة بمُلكه وكهنوته... إنها تحمل إسمه عليها فتُدعى: "الرب برنا".

يتحقق هذا كله بالسيد المسيح ملك الملوك، إذ قيل: "ثم بوق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ولمسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين" (رؤ 11: 15)؛ ويقول السيد المسيح في نهاية الرؤيا: "أنا أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير" (رؤ 22: 16).

8. أورشليم والعمل الكهنوتي:

"ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من أمامي،

يُصعد محرقة،

ويُحرق تقدمة،

ويهيء ذبيحة كل الأيام" [18].

كان يُنظر إلى إرميا الكاهن والنبي أنه نبي متحرر لا يبالي بالهيكل إذ يتنبأ عن خرابه، ينتقد خدمة الكهنة واللاويين وتقديم الذبائح. هنا يعلن النبي عن أعماقه، أنه ليس ضد الهيكل ولا الخدمة الجماعية ولا الذبائح والتقدمات، إنما ضد الفساد والانحراف. يتنبأ عن هيكل أبدي، وخدمة كهنوتية أبدية، وذبائح وتقدمات لا تنقطع.

يؤكد هنا عودة العبادة في الهيكل الذي خربه العدو. أما عن ديمومة الكهنوت فقد تحققت بمجيئ السيد المسيح الكاهن الأعظم (عب 7: 17، 21، 24-28)، واهبًا لخدامه خدمة الكهنوت باتحادهم بالكاهن الأعظم، وواهبًا لكل المؤمنين كهنوتًا عامًا خلال مياه المعمودية ليقدموا ذبائح الشكر ومحرقات الحب (رو 12: 1؛ 15: 16، 1 بط 2: 5، 9؛ رؤ 1: 6).

إذ غار فينحاس على تقديس شعب الله، فأخذ رمحًا بيده وضرب الرجل الإسرائيلي الزاني والمرأة المديانية، قيل عنه: "يكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي" (عد 25: 13). هكذا يضرب مسيحنا بسهام حبه جسدنا ونفسنا فيقتل فينا الإنسان القديم ويخلق فينا بروحه القدوس الإنسان الجديد الحامل صورة خالقه. هذا هو فينحاس الجديد، رئيس الكهنة الأبدي الذي يهب نسله كهنوتًا أبديًا. فما وُعد به الكاهن فينحاس هو ونسله تحقق في المسيح ومؤمنيه.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن الغنوصى (المؤمن صاحب المعرفة الروحية) الحقيقى هو: [الإنسان الملوكي حقًا، هو رئيس كهنة الله المقدس[572]]. يقدم الذبائح الروحية: [ألا يعرف أيضًا النوع الآخر من الذبيحة والتي تتكون من عطاء التعليم وعطاء المال للذين هم في احتياج؟![573]].

9. الامانة في العهد:

في عدم إيمان اتهموا الله بنقض عهده مع إسرائيل ويهوذا، وذلك بسبب سقوطهم تحت السبي. ها هو يؤكد لهم خطأ تفكيرهم، موضحًا أنه لأمانته في عهده معهم سلمهم للسبي المؤقت، حتى يجتازون تحت عصا التأديب ويعبر بهم إليه. إنه لن يتخلى عنهم!

لكي يُعطي الله لشعبه ثقة في أمانته في عهده معهم أكد لهم أنه إن أمكن نقض عهد النهار والليل (تك 1: 4-5، 16؛ مز 116: 8) يُلغي عهد الرب مع داود. الله الذي وضع قوانين الطبيعة واهتم بها كمن صنع عهدًا معها لا يقدر إنسان أن ينقضه، هو الذي يقيم عهدًا مع كنيسته. وكما لا يُمكن فعلاً أن تُعد النجوم ولا رمل البحار، هكذا يكثر الرب ذرية داود واللاويين خدامه.

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:

هكذا قال الرب:

إن نقضتم عهدي مع النهار وعهدي مع الليل حتى لا يكون نهار ولا ليل في وقتهما،

فإن عهدي أيضًا مع داود عبدي يُنقض،

فلا يكون له ابن مالكًا على كرسيه،

ومع اللاويين الكهنة خادميَّ.

كما أن جند السموات لا يُعد ورمل البحر لا يُحصى هكذا أُكثر نسل داود عبدي واللاويين خادميَّ.

ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:

أما ترى ما تكلم به هذا الشعب قائلاً إن العشيرتين اللتين اختارهما الرب قد رفضهما،

فقد احتقروا شعبي حتى لا يكونوا بعد أمة أمامهم.

هكذا قال الرب:

إن كنت لم أجعل عهدي مع النهار والليل فرائض السموات والأرض،

فإني أيضًا أرفض نسل يعقوب وداود عبدي فلا آخذ من نسله حكامًا لنسل إبراهيم وإسحق ويعقوب لأني أرد سبيهم وأرحمهم" [19-26].

إذ يسقط الإنسان تحت التأديب يظن أن الله قد نسيه أو قد نقض عهده معه. هذه هي إحساسات الشعب بعد السبي إذ اتهموا الله بنقض عهده معهم ورفضه لمن سبق أن اختارهم. لم يدركوا أنهم يجتازون تحت عصا التأديب، وأن هذا يتحقق خلال حبه ورعايته وليس تخليه عنهم بالكلية.

فرح شامل

إذ يتحدث في هذا الأصحاح عن أورشليم كأنشودة فرح يؤكد الإصلاح الشامل الذي يمس حياة المدينة فتصير حصينة بالرب.

وشعبها الذي يقدم الرب نفسه لها طبيبًا ودواءً وخلاصًا من الخطية وعريسًا دائمًا.

والحقول بمراعيها، فيتقدم إليها بكونه الراعي الصالح الذي لا يفلت حمل واحد من رعايته.

والقصر الملكي حيث يجلس داود على العرش أبديًا ويصبغ مملكته ببره الإلهي.

والهيكل والخدام حيث تُقدم خدمة أبدية غير متقطعة...

أخيرًا يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده وعهده مع شعبه.

ما أعذب مواعيد الله الذي يتطلع إلى شعبٍ مسبيّ مُهَمل بلا مدينة، خارج أرض الموعد، بلا راعٍ أو ملكٍ وبلا كهنوتٍ ولا هيكلٍ ولا ذبيبحةٍ... فيعطيهم أكثر مما يسألون وفوق ما يطلبون. يعطيهم ليس حسب استحقاقهم، إنما حسب غنى عظمته وفيض نعمته المجانية الفائقة.

إنها صورة مبهجة تتمتع بها النفس التي تتحد بالسيد المسيح مخلصها فتجد فيه كل كفايتها، تتحول إلى مدينةٍ حصينةٍ، وحقلٍ مثمرٍ، ومرعى خصب، وقصرٍ ملوكىٍ مجيدٍ، وعرشٍ يحمل روح الغلبة، ومملكة برٍ، وهيكل إلهي مقدسٍ... تحمل سمات عريسها فيها، فلا يقدر أحد أن ينزع فرحها منها.

 


 

من وحي إرميا 33

لتقم في داخلي مدينتك المتهللة!

v     إذ كان إرميا في سجن منفردًا صارت إليه كلمتك،

لم يعد يشعر بالعزلة لأن كلمتك معه أفضل من كل بشرٍ!

كلمتك أعلنت له أسرار قلبك نحوه!

كلمتك معزية ومفرحة حتى في أحلك اللحظات!

v     نفسي تئن مع إرميا السجين منفردًا،

لا لأجل متاعب السجن ولا بسبب العزلة،

وإنما لأجل خطاياي وجهالات شعبك!

v     افتح عن عينيْ فأرى قلبك،

وأتعرف على أسرار حبك،

وأتفهم خطة خلاصك نحو كل بشرٍ!

v     نعم! لقد سُبي قلبي،

لكنك أنت تحرره!

تقيم عليه متاريس روحك القدوس،

فلا يقدر العدو أن يقترب!

أنت سور نارٍ لي، وحصن حياتي!

v     أصابتني الخطية كمرضٍ لا يُرجى البرء منه،

لكن أنت الطبيب السماوي!

رُد لي صحتي وهب لي سلامك الفائق!

v     تدنست أورشليمي بالخطايا والآثام،

وتحطمت بالعصيان!

أنت غافر الخطايا، ومنقذ النفوس من الفساد.

رُد لأورشليمي نقاوتها وطهارتها أيها القدوس.

v     عوض غم الخطية حوِّل أورشليمي إلى عرسٍ دائمٍ!

يُسمع فيها صوت الحمد والتسبيح، والطرب والتهليل!

صوتك أيها العريس يناجي أعماقي، عروسك الدائمة!

v     أورشليمي هي مرعاك،

لترعى حواسي وأفكاري مع عواطفي وكل طاقاتي!

أقم قطيعك المقدس في داخلي!

ارعه بنفسك يا من تبذل ذاتك عى خرافك!

v     نعم! افتح عن عيني، فأرى أعماقي، أورشليمك:

مملكة أبدية تحكمها أنت يا ملك الملوك!

عرشًا أبديًا وخيمة داود غير الساقطة!

مقدسًا لك يجري فيه العدل والبر يا غصن البر العجيب!

هيكلاً مقدسًا لك، تخدم فيه يا رئيس الكهنة الأعظم!

تقدم فيه ذاتك ذبيحة حب ومحرقة أبدية، وتقدمات لا تنقطع!

v     علمت أنك أمين في عهدك معي ووعودك لي.

هل تكسر عهدك مع الشمس والقمر،

فلا يكون نهار أو ليل،

ولا توجد فصول السنة مادامت توجد الأرض؟

إن كنت تهتم بقوانين الطبيعة لأجلي،

أفلا تبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتي؟!

وعدتني أن يبقى داود ملكًا إلى الأبد،

لتملك يا ابن داود فيّ ملكًا أبديًا!

v     مخلصى الصالح... يامصدر فرحي!

أقم من نفسي مدينتك الحصينة التي لا تهزها قوات العدو،

ولتشفِ شعبها الداخلي: من طاقات ومشاعر ومواهب!

أقم منها حقلاً يحمل ثمر روحك القدوس.

ومرعى خاص بك أيها الراعي الصالح.

اجعلها قصرًا لك يا ملك الملوك،

وعرشًا دائمًا يعلن عن أمجادك،

ومملكة تشهد ببرك الإلهي!

حولها إلى هيكل مقدس لك،

تخدم فيه يا رئيس الكهنة الأعظم!

حقق مواعيدك في أعماقي أيها الأمين في عهدك!

<<


 

الأصحاح الرابع والثلاثون

العبودية عوض الحرية

تمت أحداث هذا الأصحاح في الأيام الأخيرة من مملكة يهوذا، أثناء حصار الكلدانيين لأورشليم، حيث كان إرميا النبي في السجن، أو ربما قبل دخوله السجن. تكشف أحداثه عن شخصية الملك صدقيا المترددة، تارة يستيقظ ضميره فيسأل النبي ليتعرف على إرادة الله، وأخرى يترك الحبل على الغارب لرجاله يتممون مشورتهم المقاومة لإرادة الله. تارة يعمل كل جهده على حفظ شريعة العتق من العبودية أو حفظ السنة السبتية، وأخرى يترك الكل يكسرونها بكل استهتارٍ.

1. رسالة حول مصير صدقيا[1-7].

2. قطع العهد والحنث به[8-11].

3. عهد الله معنا وعهودنا مع الناس[12-19].

1. رسالة حول مصير صدقيا:

يصف هذا الأصحاح المراحل الأولى للهجوم النهائي على أورشليم، حيث تبدأ نهاية يهوذا، كما يظهر موقف صدقيا الميؤس منه[574].

يبدو أن صدقيا الملك كان في صراع بين احترامه لإرميا بإخلاص، إذ غالبًا ما كان يطلب مشورته، لكن في غير استقامة أمام الرب، إذ كان يُعصي كلمة الرب التي كان إرميا يبلغه إيَّاها.

كان جيش نبوخذنصّر، المكوَّن من الكلدانيين والكتائب التابعة من كل  "ممالك أراضي سلطان يده" محاصرًا أورشليم، حين صدر الأمر الإلهي إلى إرميا النبي أن يذهب إلى الملك يخبره بانهيار المدينة وحرقها، وسقوط الملك أسيرًا. لكن لما كان في حياة صدقيا شيئًا من الخير كتوقيره لإرميا فقد أعلن له الرب أنه لا يموت بالسيف بل موتًا عاديًا بسلام، وعند موته ُتقام إجراءات التكريم العادية التي ُتقام لدى موت الملوك، إذ يُحتفي بموته بحرق البخور في احتفالٍ مهيبٍ كما كان لأجداده في الوطن (2 أي 16: 14؛ 21: 19). إذ قيل عن آسا: "واضجعوه في سرير كان مملوءًا أطيابًا وأصنافًا عطرة حسب صناعة العطارة، واحرقوا له حريقة عظيمة جدًا" (2 أي 16: 14)؛ بينما قيل عن يهورام: "مات بأمراضٍ ردية ولم يعمل له شعبه حريقة كحريقة أبيه... وذهب غير مأسوف عليه" (2 أي 21: 19).

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب حين كان نبوخذنصّر ملك بابل  وكل جيشه وكل ممالك أراضي سلطان يده وكل الشعوب يحاربون أورشليم وكل مدنها قائلة:

هكذا قال الرب إله إسرائيل:

اذهب وكلم صدقيا ملك يهوذا وقل له

هكذا قال الرب:

هأنذا أدفع هذه المدينة ليد ملك بابل فيحرقها بالنار.

وأنت لا تفلت من يده بل تُمسك إمساكًا وتُدفع ليده وترى عيناك عيني ملك بابل وتكلمه فمًا لفم وتذهب إلى بابل.

ولكن اسمع كلمة الرب يا صدقيا ملك يهوذا.

هكذا قال الرب من جهتك:

لا تموت بالسيف.

بسلام تموت وبإحراق آبائك الملوك الأولين الذين كانوا قبلك هكذا يحرقون لك ويندبونك قائلين: آه يا سيد.

لأني أنا تكلمت بالكلمة يقول الرب.

فكلم إرميا النبي صدقيا ملك يهوذا بكل هذا الكلام في أورشليم.

إذ كان جيش ملك بابل يحارب أورشليم وكل مدن يهوذا الباقية لخيش وعزيقة، لأن هاتين بقيتا في مدن يهوذا مدينتين حصينتين" [1-7].

كان نبوخذنصّر قد فاز بالنصر في كل موضع تقريبًا فيما عدا أورشليم العاصمة، ومدينتان من مدن يهوذا هما لخيش وعزيقة، وكلاهما جنوب أورشليم. وكانتا محاصرتين، وقد انقطع كل أملٍ في استمرارهما صامدتين.

لخيش[575] (تل الدوير): مدينة حصينة في سهل يهوذا (يش 15: 33، 39) أُشير إليها في رسائل تل العمارنة، تبعد حوالي 30 ميلاً جنوب غربي أورشليم، وخمسة أميال جنوب غربي بيت جبرين. من أكبر مدن يهوذا القديمة، تبلغ مساحتها حوالي 18 فدانًا.

ذات موقع استراتيجي في غاية الأهمية، إذ كانت تهيمن على الطريق القديم من المرتفعات الفلسطينية إلى وادى النيل. كانت آهلة بالسكان قبل أيام إبراهيم.

سقطت في يد يشوع الذي قتل ملكها يافيع (يش 3: 10).

حصنها الملك رحبعام (2 أي 11: 9)، وبنى حولها سوارًا مزدوجًا تسنده أبراج منيعة. وإليها هرب أمصيا ملك يهوذا من وجه الثائرين ضده من أورشليم، وهناك قتله الثائرون (2 مل 14: 19؛ 2 أي 15: 27).

من بين الآثار في شكل نقوش على ألواح حجرية التي أُكتشفت في قصر سنحاريب بنينوى رويت قصة هجوم الملك سنحاريب على لخيش، ونسمع عن الإمبراطور الأشوري كيف يفتخر أنه اصطاد حزقيا كطائرٍ.

خربت المدينة بواسطة نبوخذنصّر مرتين، الأولى عام 598 ق.م عندما حُمل يهوياقين وسكان أورشليم إلى السبي، والثانية عام 587 ق.م عندما حُرقت المدينة بالنار وتحولت إلى رماد. لكنها صارت آهلة بالسكان بعد السبي (نح 11: 30).

يقول عنها ميخا النبي: "شدي المركبة بالجواد يا ساكنة لخيش، هي أول خطية لابنة صهيون، لأن فيكٍ وُجدت ذنوب إسرائيل" (مي 1: 13).

كشفت الحفريات التي أُجريت في أطلال لخيش في سنة 1935 عن بعض الرسائل المكتوبة باللغة العبرية تعود إلى زمن إرميا، يُستدل من هذه الرسائل أن جيش الكلدانيين كان يتقدم للاستيلاء على مدن يهوذا في أواخر حكم صدقيا.

كشفت رسائل لخيش هذه عن حالها في ذلك الحين، فقد وجدت 21 رسالة مكتوبة على قطع من الخزف المكسور وذلك في حجرة مملؤة رمادًا من نار دمرت المدينة عام 587، تحمل رسائل عاجلة من قادة الجيش للقائدGarrison  في لخيش، قام W.F. Albright بترجمتها. جاء في الرسالة الرابعة على وجه الخصوص الكلمات: "ليعلم سيدي أننا نترقب العلامات (signals) التي للخيش حسب كل المشيرات التي اعطانا إياها سيدي، لأننا لا نقدر أن نرى عزيقة". يبدو أن عزيقة كانت قد سقطت. فإن كان الأمر هكذا فواضح أن هذه الرسالة قد كتبت مباشرة بعدما تكلم أرميا بهذه الكلمات الواردة في هذا الأصحاح[576].

وفي رسالة لخيش الثالثة نجد إشارة إلى زيارة كونيا بن الناثان أحد قادة الجيش إلى مصر[577]، طالبًا عون فرعون.

عزيقة[578]: اسم عبرى يعني "الأرض التي تُعزق". وهي مدينة في الأرض المنخفضة بجوار سوكوه (1 صم 17: 1)، كانت من نصيب يهوذا (يش 15: 35)، عسكر بجوارها جليات الجبار وجنوده الفلسطينيون (1 صم 17: 1).

قام رحبعام بتحصينها (2 أي 11: 9)، وحاصرها بنوخذنصّر [7]. عاد إليها اليهود بعد السبي (نح 11: 30).

في موقعها حاليًا تل زكريا؛ وقد ذُكرت في رسائل لخيش حيث سجلت هجوم البابليين على يهوذا أيام نبوخذنصّر.

2. قطع العهد والحنث به:

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب بعد قطع الملك صدقيا عهدًا مع كل الشعب الذي في أورشليم لينادوا بالعتق.

أن يطلق كل واحدٍ عبده وكل واحد أمته العبراني والعبرانية حرين حتى لا يستعبدهما أي أخويه اليهوديين أحد.

فلما سمع كل الرؤساء وكل الشعب الذين دخلوا في العهد أن يطلقوا كل واحدٍ عبده وكل واحدٍ أمته حرين ولا يستعبدوهما بعد أطاعوا وأطلقوا.

ولكنهم عادوا بعد ذلك فأرجعوا العبيد والإماء الذين أطلقوهم أحرارًا وأخضعوهم عبيدًا وإماءً" [8-11].

اقترب الكلدانيون إلى أورشليم لمحاصرتها، فارتعب الملك وأرسل إلى إرميا يسأله إن كان عنده كلمة تعزية من قبل الله (إر 21)، فجاءت الإجابة أن يخضع لبابل. وفي أيام الحصار، وقد أدرك الخوف جميع الناس، ورقّت نفوسهم الصلبة، قامت حركة لإتمام وصية قديمة في الناموس أهملت لمدة طويلة أي عتق العبيد اليهود، ولعلّ الحكومة أرجأت إشراك هؤلاء العبيد في أعمال الدفاع، فقامت بحركة العتق لإرضائهم.

حثّ صدقيا السادة على القسم في بيت الرب في احتفال ديني رسمي بعتق العبيد ظنا أن الله يتأثر بعمل الخير هذا ويرفع الحصار عن العاصمة. أكثر هؤلاء العبيد قد استعبدوا لعدم مقدرتهم على دفع الديون، فكان عتقهم بمثابة تجاوز عن ديونهم. ربما كان صدقيا مخلصًا بحق مشتاقًا أن يحفظ الناموس لكنه كان ضعيف الشخصية، فإذ وجد الفرصة سانحة لذلك لم يكن يتركها، فسمع له السادة وكل الشعب حين كانوا في ضيقة، وإذ رُفعت الضيقة ضغط عليه السادة فانهار في قراره وحنث بقسمه. لقد اهتم بما للناس لا بما لله.

فجأة انسحبت جيوش بابل عن أورشليم لأن خفرع فرعون مصر قد خرج بجيشه واقترب من العاصمة، ربما في نهاية ربيع أو بداية صيف عام 588 ق.م، جاء ليحارب بابل. إذ أراد البابليون إعادة تنظيم قواتهم والاهتمام بمهاجمة المصريين المتقدمين نحوهم، ففرح الناس وحسبوا ذلك دليل رضا الله، ولكنهم رجعوا حالاً إلى ما كانوا عليه، إذ الزموا العبيد المتحررين بالعودة إلى العبودية بالقوة وأساؤا معاملتهم، ظن مالكوا العبيد أن الخطر قد زال فنقضوا وعودهم السابقة الخاصة بتحرير العبيد، فأرجعوهم للخدمة بالقوة. هذا الحنث بالقسم مخالف للناموس (تث 15: 12)، فصاروا مخالفين للناموس ومدنسين لإسم الله الذي حلفوا به. هذا وأن ظروف العبيد كانت نتاج القرن السابق حيث كانت مظالمه الاجتماعية محل هجوم عنيف من عاموس وهوشع وإشعياء وميخا. فراح إرميا يلذعهم بصارم القول، كما في (34: 13-22، 37: 7-10). إن الكارثة لابد من وقوعها، إذ لم ير الله فيهم توبة حقيقية.

ربما تعهد السادة أمام الله وفي بيته بتحرير العبيد، ليس ترفقًا بهم ولا طاعة للوصية الكتابية ولا مراضاة لله، وإنما لأن أورشليم كانت محاصرة والحقول المحيطة بها قد صارت معسكرًا للأعداء. فلم يكن للعبيد عملاً، ولا حاجة إليهم، إذ صاروا عبئًا على سادتهم الذين يلتزمون بتقديم طعامٍ لهم دون أن يمارسوا أعمالهم الزراعية ورعاية الأغنام... أما وقد فك الحصار امتلأ السادة رجاءً أنهم يتسلمون حقولهم؛ وصاروا في حاجة إلى العبيد ليمارسوا عملاً مضاعفًا لإصلاح الحقول التي أفسدها الأعداء، لهذا تجاهلوا ما تعهدوا به أمام الله والزموا العبيد بالعودة.

يحذر إرميا النبي شعبه من كسر العهد الذي تعهدوا به بقسمٍ أمام الرب وفي بيته لعتق العبودية، حاسبًا هذا نقضًا للعهد مع الله نفسه وليس مع العبيد، وإهانة لاسم الرب الذي حلفوا به، ونقضوا شريعته المملؤة حبًا نحو الضعفاء. ما فعله إرميا يفعله حزقيال النبي، مذكرًا إياهم بخطورة الحنث بالقسم وذلك عندما تعهد مع ملك بابل وحنث بوعده.

"قولوا للبيت المتمرد: أما علمتم ما هذه؟!...

لتكون المملكة حقيرة ولا ترتفع، لتحفظ العهد فتثبت...

فهل تنجح؟! هل يفلت فاعل هذا؟! أو ينقض عهدًا ويفلت؟!

حي أنا يقول السيد الرب إن في موضع الملك الذي ملكه الذي ازدرى قسمه ونقض عهده فعنده في وسط بابل يموت...

إذ ازدرى القسم لنقض العهد، وهوذا قد أعطى يده وفعل هذا كله فلا يفلت.

لأجل ذلك هكذا قال السيد الرب: حي أنا إن قسمي الذي ازدراه وعهدي الذي نقضه أردُّهما على رأسه، وأبسط شبكتي عليه فيؤخذ في شركي وآتي به إلى بابل وأحاكمه هناك على خيانته التي خانني بها، وكل هاربيه وكل جيوشه يسقطون بالسيف والباقون يُذرُّون في كل ريح، فتعلمون إني أنا الرب تكلمت" (حز 17: 11-21).

3. عهد الله معنا وعهودنا مع الناس:

"فصارت كلمة الرب إلى إرميا من قبل الرب قائلة:

هكذا قال الرب إله إسرائيل.

أنا قطعت عهدًا مع آبائكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من بيت العبيد قائلاً:

في نهاية سبع سنين تطلقون كل واحد أخاه العبراني الذي بيع لك وخدمك ست سنين فتطلقه حرًا من عندك.

ولكن لم يسمع آباؤكم لي ولا أمالوا أذنهم.

وقد رجعتم أنتم اليوم وفعلتم ما هو مستقيم في عينيَّ منادين بالعتق كل واحدٍ إلى صاحبه وقطعتم عهدًا أمامي في البيت الذي دعي باسمي.

ثم عدتم ودنستم اسمي وأرجعتم كل واحدٍ عبده وكل واحد أمته الذين أطلقتموهم أحرارًا لأنفسهم وأخضعتموهم ليكونوا لكم عبيدًا وإماءً.

لذلك هكذا قال الرب:

أنتم لم تسمعوا لي لتنادوا بالعتق كل واحدٍ إلى أخيه وكل واحدٍ إلى صاحبه.

هأنذا أنادي لكم بالعتق يقول الرب للسيف والوبأ والجوع،

وأجعلكم قلقًا لكل ممالك الأرض.

وأدفع الناس الذين تعدوا عهدي الذين لم يقيموا كلام العهد الذي قطعوه أمامي.

العجل الذي قطعوه إلى اثنين وجازوا بين قطعتيه.

رؤساء يهوذا ورؤساء أورشليم الخصيان والكهنة وكل شعب الأرض الذين جازوا بين قطعتي العجل.

أدفعهم ليد أعدائهم وليد طالبي نفوسهم، فتكون جثثهم أكلاً لطيور السماء ووحوش الأرض.

وأدفع صدقيا ملك يهوذا ورؤساءه ليد أعدائهم وليد طالبي نفوسهم وليد جيش ملك بابل الذين صعدوا عنكم.

هأنذا آمر يقول الرب وأردهم إلى هذه المدينة،

فيحاربونها ويأخذونها ويحرقونها بالنار،

وأجعل مدن يهوذا خربة بلا ساكن" [12-22].

في عدد 15 يوضح أن التعهد بالاطلاق تم في بيت الرب تحت اشراف السلطات الدينية المختصة. لذلك فالحنث به تحدى للناموس السماوي (خر 20: 7).

العجل الذي قطعوه إلى اثنين هنا [18] يشير إلى الطريق البابلية القديمة في المصادقة على العهد (تك 15: 9، 17) بما يوحي بأن أولئك الذين نكثوا الاتفاق عليهم أن يتوقعوا نفس مصير الحيوان الذبيح. عندما قطع الله عهدًا مع أبرام قال له: "خذ لي عجلة ثلاثية، وعنزة ثلاثية، وكبشًا ثلاثيًا ويمامة وحمامة" (تك 15: 9). "أخذها أبرام وشقها من الوسط وجعل شق كل واحدٍ مقابل صاحبه، وأما الطير فلم يشقه" (تك 15: 10). ولما رتَّب كل قطعة كما يجب، أخذ يحرسها، ويطرد الطيور النجسة التي كانت تنزل لتلتهمها. إذ سلك أبرام بالإيمان وعاش أمينًا للعهد مع الله لم يسمح للطيور النجسة أن تنزل لتلتهم الذبيحة. أما هنا فقد إجتازوا بين قطعتي العجل معلنين التزامهم بقسم إلهي أن ينفذوا وعدهم بتحرير العبيد، لكنهم حنثوا بالعهد، فصارت جثثهم مأكلاً لطيور السماء ووحوش البرية. إنهم ليسوا أبناء إبراهيم حافظ العهد مع الله!

لم يتشبهوا بإبراهيم الذي قدَّم الآتي:

أ. عجلة ثلاثية: تشير إلى السيد المسيح الذي جاء كعبدٍ باذلٍ لحساب الغير.

ب. عنزة ثلاثية: صار خطية (مت 25) ليحمل خطايانا.

ج. كبشًا ثلاثيًا: ذبيحة ملء أو قدم حياته مكرسة لأجلنا.

د. الحمامة واليمامة: إشارة إلى البساطة والعفة مع الحياة السماوية.

بمعنى آخر قدَّم إبراهيم رمزًا لذبيحة السيد المسيح الذي بذل ذاته عنا، حاملاً خطايانا، ومكرسًا ذاته لأجل مجدنا، رافعًا إيَّانا بحبه وطهارته إلى سمواته[579].

بينما يقدس الله الحرية الإنسانية ينكر الإنسان حرية أخيه الشخصية. لقد حدد الله فترة العبودية بست سنوات خدمة في ناموس موسى (خر 21: 2؛ تث 15: 1-2) ويتم العتق في السنة السابعة، سنة الحرية أو العتق. ما يذكره إرميا النبي هنا ليس الغاء العبودية، بل نهي اليهودي فقط عن أن يستعبد مواطنه اليهودي بحالةٍ دائمةٍ. وبولس الرسول لم يمنع العبودية في أيامه، بل حرَّض السادة على أن يعاملوا عبيدهم بالعدل والإنصاف، وحرَّض العبيد على أن يتحملوا بالصبر. ولا يطلبوا تحريرهم بدون قيد أو شرط، لكن فيما بعد جاء وقت شعر فيه المسيحيون أن مبدأ المحبة للآخرين لم يعد يسمح باستعباد الآخرين. فأُلغيت العبودية في البلدان المسيحية.

يحث الكتاب المقدس المؤمنين على محبة الله ومحبة الآخرين. هذا المبدأ يعمل من تلقاء نفسه ويؤثر تأثيرًا فعالاً في كل قوانين الهيئة الاجتماعية رويدًا رويدًا ومنها  نظام العبودية.

لقد تحقق هذا التهديد: "واجعل مدن يهوذا خربة بلا ساكن" [22]، إذ تشهد أبحاث علم الآثار في السنوات الأخيرة على هذا الخراب. يقول F. Albright

[خُربت مدن كثيرة في بدء القرن السادس ق.م. ولم تعد فيها حياة.

ومدن أخرى دُمرت لكن عاد إليها العمران نسبيًا في تاريخ لاحق متأخر إلى حد ما.

وبقيت مدن أخرى دُمرت ولم تعد مسكونة إلاّ بعد فترة طويلة من هجرها، اتسمت بتغيرٍ حادٍ في تطورها وحملت المؤشرات العارضة عن استخدامها في أغراض لا تخص المدينة.

لا نعرف حالة واحدة عن مدينة من مدن يهوذا المعروفة استمرت آهلة بالسكان خلال فترة السبي[580]].


 

من وحي إرميا 34

هب لي روح الحرية!

v     أنت هو الحُر الحقيقي،

والد الحرية،

وباعث روح الحرية!

v     قدمتَ لخليقتك العاقلة روح الحرية،

لكنني أسأت استعمالها!

في كمال حريتي عصيتك،

فصرت عبدًا للعصيان،

وذليلاً للشهوات!

فقدت كمال حريتي بك أيها الحُر الحقيقي!

v     تشتاق أن يعمل روحك فيّ،

روح الحرية الذي يرفعني فوق كل مذلةٍ وعبوديةٍ،

يهبني لا أن أعيش حُرًا حقيقيًا فحسب،

بل أَبذل كل حياتي ليعيش الكل حرًا!

من ذاق الحرية الحقيقية لا يحتمل أن يرى كائنًا في مذلة العبودية!

v     أقسم الملك صدقيا وكل رجاله وشعبه في ضيقتهم المرّة،

وتعهدوا في بيتك أن يحرروا العبيد!

لكن ما أن رفعت الضيق عنهم،

حتى حنثوا بالعهد معك،

واستخدموا كل وسيلة بشرية لإذلال إخوتهم!

نسوا أنهم العبيد رفقاؤهم!

فقدوا روح الحرية... فانسحبت قلوبهم إلى العنف!

v     أرادوا لإخوتهم المذلة،

فسقطوا تحت الغضب الإلهي!

فقدوا حريتهم وانهاروا مع العبيد تحت السيف والسبي‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

لم يترفقوا باخوتهم ففقدوا الترفق والحنان!‍‍‍‍‍   

v     ليعمل روحك القدوس فيّ،

فيهبني التحرر من الذات كما من الشهوات،

ليرفعني إلى الحب الإلهي ويحملني إلى إتساع القلب السماوي!

نعم لاختبر الحرية الداخلية،

فتنفتح أعماقي ببذل الذات لأجل كل خليقة!

حررني فاشتهي حرية المسكونة كلها!

نعم اجعلني أتمثَّل بك يا واهب الحرية!

v     طالبت شعبك أن يحرروا العبيد في السنة السبتية،

فيفرح الكل: السادة والعبيد،

ويدرك الكل أنهم إخوة متساوون!

يفرحون معًا، وتفرح أنت بهم!

حوّل كل حياتي إلى سنة سبتية، إلى عيدٍ غير منقطع!

أطلب تحرير كل أخوتي كما ضعفي،

  نعيش كلنا أحرارًا يا واهب الحرية!

نفرح جميعًا إذ نختبر جدة الحياة المقدسة الفائقة.

وتفرح أنت بنا.

نعم ليأت اليوم الأخير لتحيا خليقتك المتحررة معك إلى الأبد!

<<


 

الأصحاح الخامس والثلاثون

موقف الركابيين الأمناء

يُظهر هذا الأصحاح معنى الأمانة والالتزام الروحي خلال أمانة الركابيين عبر قرنين ونصف لوصية أبيهم بالرغم من صعوبتها، كما يُظهر خيانة الشعب لله نفسه وكسر ناموسه.

v     مقدمة في الركابيين

1. إرميا يختبر أمانة الركابيين[1-11].

2. عدم أمانة الشعب[12-16].

3. البقية المقدسة[17-19].

في أواخر أيام يهوياقيم، قُبيل موته، تعرضت القرى المحيطة بأورشليم إلى هجمات من الأشوريين والموآبيين والعمونيين كتهيئة لهجوم نبوخذراصر على أورشليم. هؤلاء اكتسحوا الأودية، وقتلوا الفلاحين والرعاة، ونهبوا المحاصيل والماشية. لهذا اضطر سكان القرى إلى الالتجاء إلى أورشليم العاصمة ليحتموا في أسوارها من الهجمات المتوالية. تدفقت الجماهير يومًا فيومًا على المدينة المكتظة بالسكان. من بين هذه الجماهير وُجدت جماعة غريبة في سلوكها؛ رفضت السكنى في بيوت مبنية، وأقامت خيامها في الأماكن الخالية داخل أسوار المدينة. هذه الجماعة تُدعى "الركابيون".

v    مقدمة في الركابيين:

لم يكن الركابيون أصلاً من جماعة إسرائيل بل كانوا من قبيلة القينيين. كلمة "قيني" اسم سامي معناه "حداد"، والقين باللغة العربية معناها "الحداد". لهذا يُظن أن القينيين كانوا حدادين لإسرائيل. لكن هذا القول مشكوك فيه، إذ قيل: "لم يوجد صانع في إسرائيل" (1 صم 13: 19).

انضم القينيون إلي الإسرائيليين وهم صاعدون من مصر إلى أرض كنعان (قض 4: 11)، وأظهروا لهم عطفًا جزيلاً، وهذا أسس علاقات ودية بين الشعبين، ويبدو أنهم اعتنقوا معتقدات إسرائيل الدينية، ورافقوهم إلى أرض الموعد. صاروا من أحلاف إسرائيل ولاسيما يهوذا. أُحصوا مع سبط يهوذا في (1 أي 2: 55).

يرى البعض أن عدة شعوب تسمّوا بهذا الاسم:

1. أحد الشعوب التي كانت موجودة في أرض كنعان يوم دُعى ابراهيم (تك 15: 19).

2. كان يثرون أو رعوئيل حمو موسى كاهن مديان يدعى القيني (قض 1: 16)، كما يُدعى المدياني (عد 10: 9). هذا يدل على أن القينيين كانوا يسكنون في مديان عند خليج العقبة على ما يُظن. ومديان هو من نسل إبراهيم من قطورة (تك 25: 2). وقد خرج أبناء حوباب ابن حمى موسى من أريحا مدينة النخل (قض 1: 16) مع بني يهوذا إلى البرية التي  في جنوب عراد وسكنوا هناك مع الشعب. أما حابر القيني فقد انفصل عن قبيلته ورحل إلى الشمال قرب قادش، وكان على الحياد بين إسرائيل وأعدائهم. لكن إذ لجأ سيسرا رئيس جيش يابين إلى خيمته استقبلته ياعيل زوجته هذه التي قتلته وهو نائم في الخيمة (قض 4: 11، 17، 5: 24). وأما الآخرون فقد ظلّوا في أماكنهم في أقصى الجنوب، لأنه لما ذهب شاول لكي يضرب عماليق أوصى القينيين أن ينزلوا من وسط العمالقة لئلا يلحقهم أذى الحرب وهم فعلوا معروفًا مع إسرائيل عند صعودهم من مصر (1 صم 15: 16)، وكانوا أصدقاء لداود وأرسل إليهم هدايا من الغنيمة (1 صم 30: 29).

3. هناك قينيون رآهم بلعام ساكنين بين الصخور يأسرهم فيما بعد أشور، إذ يقول: "ليكن مسكنك متينًا، وعشك موضوعًا في صخرة، لكن يكون قايين للدمار، حتى متى يستأسرك أشور؟" (عد 24: 21-22). هذا جعل البعض يظنون أن القينيين كانوا يسكنون في مدينة البترا (الصخرة)، التي بيوتها منحوتة في الصخر. وربما كان هؤلاء بقايا القينيين المذكورين في سفر التكوين (تك 15: 19).

نخلص مما سبق أن الركابيين ينتسبون إلى يثرون حمى موسى. هذه العائلة التي انسلخت من مديان وارتبطت بموسى، فبعد أن عاد يثرون إلى أرضه بعد أن زار موسى والشعب في البرية (خر 18: 27) سأل موسى حوباب أن يكون للشعب بمثابة عيون ليقودهم في ارتحالهم في البرية (عد 10: 29-32) وعلى الرغم من رفضه لكن أولاده ساروا بإيمان في خطوات شعب الله (قض 4: 11، 1 صم 15: 16). وهم في هذا يشبهون راحاب التي كانت من أريحا وتركتها لتقيم مع شعب الله حيث التصقت بيهوذا، وراعوث الموآبية التي تركت شعبها وآلهتها لتلتصق بإله نعمى، وبوعز الذي من سبط يهوذا أيضًا. هكذا صعد بنو القيني من أريحا مدينة النخل (قض 1: 16) مع (تث 34: 3، 2 أخ 28: 15) ليقيموا مع بني يهوذا جنوب عراد.

بيت الركابيين مجتمع ديني، عبارة عن عشيرة أو جماعة تُنسب إلى يوناداب بن ركاب الذي ظهر في أيام إيليا وكان رئيس أحد فروع قبيلة القينيين، ولعله تأثر إلى حدٍ كبيرٍ بتعاليم إيليا. وإذ رأى أن تيار الفساد قد تعاظم جدًا، خصوصًا في المملكة الشمالية التي كانت خاضعة لنفوذ ايزابل وأخاب السيء، تسرب اليأس إلى نفسه، وأصبح الجو كله مسمومًا وخانقًا، ووباء الفساد وحُمى النجاسة في ازدياد مضطرد.

أعطت شجاعة يوناداب بن ركاب الركابيين مكانة ممتازة، فقد خرج لملاقاة ياهو بن نمشى بعد مسحه ملكًا على إسرائيل حيث أباد ياهو بيت آخاب الشرير سنة 480 ق.م، وبينما كان ياهو منطلقًا إلى السامرة التقى بيهوناداب بن ركاب فباركه، وقال له: هل قلبك مستقيم نظير قلبي مع قلبك؟ فقال يهوناداب: نعم نعم (2 مل 10: 15)، فهتف ياهو فجأة: "هات يدك"، فناوله إيَّاها وأصعده إلى المركبة قائلاً: هلمَّ معي وانظر غيرتي للرب. من هنا نستنتج أن ياهو كان يعرف يهوناداب جيدًا باعتباره رجلاً مكرسًا لعبادة الرب وكارهًا لعبادة الأوثان لأنه لم يختلط بعبدة البعل في هيكل السامرة قبل قتلهم.

أما غاية ياهو فكانت التخلص من كل الذين يعترضون مطامعه فقط، فتعامل مع الشر حسبما يناسب مطامع قلبه، لذلك نراه يقضي على بيت آخاب وخطاياه ولا يتعرض مطلقًا لخطايا بيت يربعام. لقد هدم بيت البعل، لكنه أبقى عجول الذهب. لقد أشهر حربه ضد أعداء الرب مندفعًا بميوله الشخصية ولم يكن يُبالي بشريعة الرب، لذلك نقرأ: "ولكن ياهو لم يتحفظ للسلوك في شريعة الرب إله إسرائيل من كل قلبه، لم يحد عن خطايا يربعام الذي جعل إسرائيل يخطئ" (2 مل 10: 31).

أما يهوناداب فلما رأى ياهو يسير في طريق بيت يربعام انسحقت روحه فيه بسبب هذه الإهانات الموجهة إلى الرب، وقاده ذلك إلى أن يلزم نفسه بلون من الحياة يشهد بحكمه الأدبي على الشر وعلى رفضه لأن يمتع نفسه بمباهج الحياة أو حتى لأن يكون مواطنًا في تلك الأرض التي جعلت عبادة الرب مستحيلة بدون النعمة الإلهية.

 ولما قُسمت البلاد بين الأسباط بقيت هذه الفرقة تمارس حياتها البدائية الصحراوية بعيدًا عن الحضر، وتمسكت بمبدأ عدم شرب الخمر. ولعلها كانت تتمسك أيضًا بالعبادة الأصلية البسيطة كما كان الإسرائيليون في البرية، أي في خيمة الاجتماع دون الهيكل. وقد خشوا إدخال أي شيء حديث على العبادة القديمة، لذلك كان وجودهم في أورشليم كلاجئين فقط.

في عصر إرميا يبدو أنهم استقروا في مرتفعات يهوذا، وكان نظامهم في الحياة كما فرضه يهوناداب: تقديس النظام البدوي، وعدم الزراعة، مع الامتناع التام عن شرب الخمر.

وعلى هذا يجيء الأصحاح 35 والمتضمن لحادثة بيت الركابيين في ترتيب أدبي جميل لعمل مباينة بين الشعب المتمرد الذي لم يسمع لوصايا الرب إلهه خاصة بعتق العبيد رفقائهم (إر 34) وبين بيت الركابيين الذين أطاعوا وصية أبيهم.

إذ كان بنو ركاب أناس إيمان، مخلصين وأمناء، فإستخدمهم الله مثلاً... كانت الفرصة سانحة لهم أن يشربوا خمرًا في أحد المخادع في الخفاء، لكن الوصية بالنسبة لهم لها قوتها في حياتهم الخفية.

1. إرميا يختبر أمانة الركابيين:

انقضى على هذه الحال مائتان وخمسون عامًا. وعندما وصلوا إلي أورشليم ظلوا أمناء لتقاليد الآباء، وبكل قوة وقفوا بين شعب المدينة الغارقين في العبادة الوثنية، شاهدين لهم بالحياة السامية الطاهرة، التي كان عليها شعب الله القديم.

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب في أيام يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا قائلة:

اذهب إلى بيت الركابيين وكلمهم،

وادخل بهم إلى بيت الرب إلى أحد المخادع واسقهم خمرًا.

فأخذت يازنيا بن إرميا بن حبصينيا وإخوته وكل بنيه وكل بيت الركابيين.

ودخلت بهم إلى بيت الرب، إلى مخدع بني حانان بن يجدليا رجل الله الذي بجانب مخدع الرؤساء الذي فوق مخدع معسيا بن شلوم حارس الباب.

وجعلت أمام بني بيت الركابيين طاسات ملآنة خمرًا وأقداحًا،

وقلت لهم: اشربوا خمرًا.

فقالوا: لا تشرب خمرًا، لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا قائلاً:

لا تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد،

ولا تبنوا بيتًا، ولا تزرعوا زرعًا، ولا تغرسوا كرمًا،

ولا تكن لكم، بل اسكنوا في الخيام كل أيامكم لكي تحيوا أيامًا كثيرة على وجه الأرض التي أنتم متغربون فيها.

فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به أن لا نشرب خمرًا كل أيامنا نحن ونساؤنا وبنونا وبناتنا،

وأن لا نبني بيوتًا لسكنانا،

وأن لا يكون لنا كرم ولا حقل ولا زرع.

فسكنا في الخيام وسمعنا وعملنا حسب كل ما أوصانا به يوناداب أبونا.

ولكن كان لما صعد نبوخذراصر ملك بابل إلى الأرض أننا قلنا هلم فندخل إلى أورشليم من وجه جيش الكلدانيين ومن وجه جيش الأراميين.

فسكنا في أورشليم" [1-11].

طلب الله من إرميا أن يذهب إلى بيت الركابيين ويكلمهم ويدخل بهم إلى بيت الرب إلى أحد المخادع ويسقيهم خمرًا [2].

إن الأشخاص المذكورين في [4] مجهولون لنا.

حانان بن يجدليا: يبدو أنه كان رئيس جماعة من التلاميذ.

معسيا: كان يشغل وظيفة كهنوتية يقوم بها ثلاثة أفراد (إر 52: 24، 2 مل 25: 18)، كانوا مسئولين عن الأموال المخصصة لعمل الاصلاحات في الهيكل (2 مل 12: 1)، يُنظر إليهم بعين التقدير كما كان لهم نفوذ ديني (52: 24).

لعل جماعة من اليهود استرعى نظرهم اجتماع النبي بهؤلاء الرجال الغريبين في منظرهم، فاقتفوا أثرهم ودخلوا معهم ليرقبوا النتيجة. تأملوا بدقة في تصرفات إرميا حين جعل أمام بني بيت الركابيين طاسات ملآنة خمرًا وأقداحًا ليملأوها من الطاسات ويشربوا. ثم سمعوا أيضًا هذه الجماعة المحافظة وهم يقولون لا نشرب الخمر".

هذا والطاسات هي أوعية كبيرة يُصب منها الخمر في اقداح وكؤوس (تك 44: 2، 12، 16).

أما المخدع أو الغرفة المشار إليها هنا فهي إحدى الغرف الكثيرة التابعة للهيكل. وقد استخدمت لسكن الكهنة والمخازن والمكاتب وأكل الذبائح والتعليم.

ربما تبدو أوامر يوناداب تحكمية وظاهرية، أما أوامر الرب فإنه يؤيدها اقتناع الضمير، ومتفقة مع أعمق مبادئ الفضيلة والتقوى. كان صوت يوناداب خافتًا وآتيًا إليهم من قرنين ونصف، أما صوت الرب فكان دائم التحدث إليهم في كل عصر جديد، وعلى لسان كل رسول أرسله إليهم مبكرًا.

كانت الخمر أمامهم، ولم تكن هناك خطية ضد الله في شربها. ولم يكن ممكنًا أن يتعثر الشعب بها. والنبي نفسه هو الذي دعاهم للشراب.

كانت الخمر مقترنة بالترف والفساد (إش 28: 1-8)، فامتناعهم عن شرب الخمر لم يكن فقط احتجاجًا ضد الشرور التي كانت منتشرة بين الشعب في عصرهم، بل كان أيضًا ضمانا أكيدًا لعدم اشتراكهم فيها.

وخير ما نقدمه في هذا الصدد تلك الكلمات الثمينة التي تحدث بها الرسول: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح". لا يستطيع المؤمن طرد الشيطان بالموقف السلبي، بل يجب أن تمتلئ بالروح القدس. فالذين امتلأوا بالروح القدس، في ملء قوته، هم وحدهم يقفون ثابتين في وجه العالم ولا يشربون من كأسه.

إذا كان شخص تقي، هو رئيس القبيلة، مات منذ القديم، قد أثر في تابعيه هذا التأثير، أفلم يكن من المنتظر أن يؤثر كلام الله في حياة شعبه؟

وقد كان من السهل أن يخطر ببالهم أنه في مكان مقدس كهذا وبدعوة مقدمة إليهم من رجال أتقياء أمناء مثل إرميا النبى يجوز لهم أن يتحللوا من التزامهم العادي ولكنهم قاوموا التجربة وصمدوا للامتحان وظلّوا أمناء لوصية أبيهم على الرغم من سكناهم في أورشليم المدينة.

أما عن التطبيق الروحي بالنسبة لنا نحن المسيحيين فنقول أن الخمر في الكتاب ترمز إلى الفرح (قض 9: 13) وكان على النذير أن يمتنع عنها لأنه لا يجد فرحه في خليقة فسدت. وبنو ركاب باعتبارهم غرباء ونزلاء لا يطلبون فرحهم مما ينتج من كرمة الأرض، وهم في ذلك يرمزون إلى أولئك الذين يطلبون فرحًا أسمى لا يمكن أن يعطيه العالم. إنهم يأكلون بقية ثمار الأرض كضرورة من أجل الحياة الزمنية المؤقتة، أما فرحهم ففي الرب نفسه.

وكما يقول الأب ثيوناس[581]: بنو ركاب أوفوا أكثر مما يطلب الناموس.

2. عدم أمانة الشعب:

بينما كانت تعليمات يهوناداب تطيعها الأجيال المتعاقبة، كانت أوامر الله في سيناء تُهمل بل وتُرفض، وصار هذا هو السلوك المألوف في الحياة.

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

اذهب وقل لرجال يهوذا وسكان أورشليم:

أما تقبلون تأديبًا لتسمعوا كلامي يقول الرب؟!

قد أقيم كلام يوناداب بن ركاب الذي أوصى به بنيه أن لا يشربوا خمرًا فلم يشربوا إلى هذا اليوم لأنهم سمعوا وصية أبيهم.

وأنا قد كلمتكم مبكرًا ومكلمًا ولم تسمعوا لي.

وقد أرسلت إليكم كل عبيدى الأنبياء مبكرًا ومرسلاً قائلاً ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة واصلحوا أعمالكم ولا تذهبوا وراء آلهة أخرى لتعبدوها فتسكنوا في الأرض التي أعطيتكم وآباءكم.

فلم تميلوا أذنكم ولاسمعتم لي.

لأن بني يوناداب بن ركاب قد أقاموا وصية أبيهم التي أوصاهم بها، أما هذا الشعب فلم يسمع لي" [12-16].

بينما كان البابليون يعيدون تنظيم صفوفهم بعد المعركة مع مصر عام 601 ق.م، قامت قوات الغزو الآرامية والكلدانية بغارات متفرقة على اهداف مختارة في يهوذا فيما بين 599 و 597 لنهب يهوذا (2 مل 24: 2).

3. البقية المقدسة:

"لذلك هكذا قال الرب إله الجنود إله إسرائيل:

هأنذا أجلب على يهوذا وعلى كل سكان أورشليم كل الشر الذي تكلمت به عليهم لأني كلمتهم فلم يسمعوا ودعوتهم فلم يجيبوا.

وقال إرميا لبيت الركابيين: هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. من أجل أنكم سمعتم لوصية يوناداب أبيكم وحفظتم كل وصاياه وعملتم حسب كل ما أوصاكم به،

لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام" [17-19].

كانوا أمناء في الخفاء فتمتعوا بوعد إلهي: "لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام" [19].

إن العبارة "يقف أمامي" [19] (أمام الله) تشير إلى حياة روحية سامية، وتتضمن معرفة الله، والقدرة على إتمام وصاياه، وموهبة الشفاعة من أجل الآخرين. كانت هذه العبارة محبوبة جدًا لإيليا، وكانـت تشير إلى سر قوة حياته، وقد أختارها الملاك جبرائيل في حديثه مع القديسة مريم كأقوى ضمان على تصديق رسالته.

مما تجدر الاشارة إليه أن الدكتور ولف Dr. Wolff، أحد المبشرين المتجولين، التقى بقبيلة في بلاد العرب اعترفت بأنها تتصل بالركابيين، وقرأت إليه كلمات إرميا هذه من الكتاب المقدس باللغة العربية. وأن السنيور بيروتي Signor Pierotti التقى بقبيلة قرب الطرف الجنوبي الشرقي للبحر الميت صرحت أيضًا بأنها تتصل بالركابيين، وقرأت هذه الكلمات.

في وسط الضيقة لا ينسى الله البقية الباقية القليلة الأمينة، فإنه يرد لهم أمانتهم بوعود إلهية أمينة وسخية.

ليتنا ندرك دائمًا أن لله بقية أمينة في كل جيل. ففي وسط أحداث السبي المرّة كان الله مشغولاً بمكافأة بني ركاب الأمناء. وحينما رفضته كل أورشليم وُجد له موضع راحة في بيت لعازر ومريم ومرثا في قرية عنيا (العناء) الصغيرة والمجهولة. لم ينشغل الله بكل قيادات المدينة العظمى أورشليم المقاومة له، إنما انشغل بحب أسرة مجهولة في قرية صغيرة!

في الوقت الذي كان فيه العالم كله شريرًا يستحق الإبادة، لم ينسَ الله نوحًا وبنيه ونساء بنيه. لم ينسَ ثمانية أشخاص وسط جمهور البشرية في ذلك الحين.

وعندما استحقت سدوم وعمورة نارًا وكبريتًا للحرق أرسل الله ملاكين لإنقاذ لوط وبنتيه.

وفي سفر حزقيال كثيرًا ما يذَّكر الله نبيَّه أن له بقية باقية أمينة.

الله له شهود أمناء في كل عصر.


 

من وحي إر35

أيها الأمين هب لي روح الأمانة

v     وعدتني: كن أمينًا إلى الموت، فسأعطيك إكليل الحياة.

نفسي تئن في داخلي، قائلة:

من أين لي أن أكون أمينًا؟!

أنظر إليّ أيها الأمين وحده،

وهب لي روح الأمانة!

فأشاركك طبيعة الأمانة!

v     كان بنو ركاب أمناء في وصية أبيهم الذي رقد،

أما أنا فغير أمين في وصية أبي واهب الحياة!

كسرت وصيتك، وقدمت لنفسي أعذارًا!

v     قدّم يوناداب ابن رِكاب وصية لأولاده فحفظوا الأمانة!

أما أنت فقدمت ذاتك لي وديعة أمانة،

فخُنت الأمانة وبددتها دون مقابلٍ!

v     قدّم يوناداب لبنيه وصية تبدو جافة،

أمّا أنت فتُقدم لي ذاتك روح وحياة!

سألهم ألاّ يبنوا بيوتًا يسكنون فيها، بل يُقيموا في خيام.

وها أنت تُقدم لي ذاتك لأختفي فيك أيها المسكن الإلهي؛

أستتر فيك كما في صخرة تحميني من كل الأعداء.

v     طلب منهم ألاّ يزرعوا كرومًا،

وأنت تطلب مني أن أُطعَّم فيك أيها الكرمة الحقيقية.

أوصيتهم ألاّ يشربوا خمرًا،

وأما أنت فوهبتني روحك القدوس يُسكر نفسي بخمر الحب الإلهي.

أشرب من ينابيع روحك،

فتفيض في داخلي أنهار حب تُسكر النفوس!

v     بماذا أعدك يا أبي ومخلصي؟!

ليسكن فيّ روحك القدوس،

فأحيا أمينًا أبديًا!

اسمع صوتك الإلهي:

كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير.

<<


 

الأصحاح السادس والثلاثون

كلمة الرب لا تفنى

غالبًا ما تحوي الأصحاحات 36-44 أحداثًا تاريخية مع نبوات قليلة لإرميا النبي.

في أواخر ربيع 605 ق.م أو بداية الصيف هزم نبوخذنصر القوات المصرية في موقعة كركميش على نهر الفرات، وبدأ يتحرك جنوبًا في سوريا إلى فلسطين. يبدو أن هذا الجو كان مناسبًا لإرميا لقراءة درج يحمل نبواته، هذه التي أملاها بروح الرب على كاتبه باروخ. لم تُقرأ حتى الشهر التاسع من السنة الخامسة للملك يهوياقيم [9]، أي في ديسمبر 604 ق.م، نفس الشهر الذي فيه هاجم الجيش البابلي مدينة اشقلون في السهول الفلسطينية ونهبها[582].

كانت يهوذا في صف مصر شكليًا، لكن عمليًا لم يكن ممكنًا لمصر أن تسيطر على يهوذا. وكان يلزم ليهوذا أن تحدد موقفها من الصراع بين بابل ومصر. وربما جاء الصوم العام لا لطلب مشورة الله بخصوص سياسة يهوذا، وإنما لكي يرفع الله الضيق عن يهوذا وتبقى في سياستها تتمم إرادتها لا إرادة الله... على أي الأحوال كانت الظروف من كل جانب تدفع إرميا لإعلان نبواته أو ملخص لها على لسان كاتبه باروخ.

لهذا الأصحاح أيضًا أهمية خاصة، فمن ناحية أوضح كيف بدأ جمع نبوات إرميا؛ ومن ناحية أخرى ألقى ضوءًا على بعض رؤساء يهوذا الذين كانوا في أعماقهم يطلبون سلام إرميا وباروخ... ربما كان هؤلاء الرؤساء مساعدين في إصلاحات الملك يوشيا لذلك تعاطفوا مع النبي وكاتبه[583].

واضح أيضًا أن كاتب القصة شاهد عيان، غالبًا باروخ نفسه، يكتبها، لا ليسجل لنا عملاً تاريخيًا أو جزءًا من حياة النبي فحسب، بل يعرض لنا أيضًا فكرًا لاهوتيًا.

لم يستطع إرميا أن يتحدث مع الشعب، فأرسل إليهم صديقه باروخ يقرأ للقادمين إلى أورشليم الصائمين النبوات التي سبق فأعلنها، لا لإثارتهم ضد السلطات بل لتوبتهم، إذ يقول: "لعل تضرعهم يقع أمام الرب فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء، لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلم بهما الرب على هذا الشعب" [7].

لم يحتمل الملك كلمة الرب، وعوض التوبة أحرق الدرج، وطلب قتل النبي وكاتبه! إنه لم يطق كلمة الرب ولا الناطق بها.

عاد فكتب إرميا ما كان بالدرج الأول وزاد عليه ما لم يكن مكتوبًا. ولا تزال كلمة الله حيَّة إلى يومنا هذا، لم تقدر النيران أن تبيدها‍‍!

1. كتابة درج السفر[1-7].

2. إعلان عن الصوم [8-10].

3. قراءة للرؤساء [11-19].

4. حرق الدرج [20-26].

5. النسخة الثانية من الدرج[27-32].

1. كتابة درج السفر:

"وكان في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا أن هذه الكلمة صارت إلى إرميا من قبل الرب قائلة:

خذ لنفسك درج سفر،

واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به على إسرائيل، وعلى يهوذا، وعلى كل الشعوب،

من اليوم الذي كلمتك فيه من أيام يوشيا إلى هذا اليوم.

لعل بيت يهوذا يسمعون كل الشر الذي أنا مفكر أن أصنعه بهم،

فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،

فأغفر ذنبهم وخطيتهم.

فدعا إرميا باروخ بن نيريا،

فكتب باروخ عن فم إرميا كل كلام الرب الذي كلمه به في درج السفر.

وأوصى إرميا باروخ قائلاً:

أنا محبوس لا أقدر أن أدخل بيت الرب.

فأدخل أنت واقرأ في الدرج الذي كتبت عن فمي كل كلام الرب في آذان الشعب في بيت الرب في يوم الصوم،

واقرأه أيضًا في آذان كل يهوذا القادمين من مدنهم.

لعل تضرعهم يقع أمام الرب،

فيرجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء،

لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلم بهما الرب على هذا الشعب" [1-7].

كان إرميا محبوسًا لا يقدر أن يدخل بيت الرب [5]. هنا كلمة "محبوس" لا تعني أنه كان مسجونًا، لكنه كان ممنوعًا من الدخول إلى بيت الرب، فحسب نفسه محبوسًا. الفعل العبري Asur الذي يصف سجن إرميا يرد في (33: 1، 39: 15) بمعني إلقاء القبض عليه أو سجنه، لكن المعني هنا مختلف حيث أن عدد 19 يبين أن إرميا كان حرًا في أن يهرب عندما يريد. ولعله تم استبعاد إرميا من الهيكل وحرمانه من دخوله بعد الأحداث الواردة في (19: 1-20)، أو بعد صدور أمرٍ عامٍ بذلك بسبب الاشتباه في أمره حتى يُحرم من الحديث مع الشعب[584].

يظهر أن إرميا لم يجمع قبل هذا الوقت أقوال نبواته في سفر. ولسنا نعرف هل دونها حين ألقاها، أم تركها في ذاكرته. ومهما يكن من أمر، فقد أمره الله أن يجمع كل ما تنبأ به في تلك المدة الطويلة، فيعلنه للشعب بقراءته أمامهم في يوم احتفالٍ عامٍ.

أُملى الدرج الأول ما بين نيسان (أبريل) 605 ق.م ونيسان 604 ق.م، بعد هزيمة مصر في موقعة كركميش مباشرة. وربما كانت بداية الكارثة باعثًا على جمع النبوات على أمل أن يتوب يهوذا.

كان الدرج رقوقًا من الجلد أو البردي (مز 40: 7، حز 2: 9). وكانت الكتب العبرية القديمة تُكتب على شكل أعمدة متوازية تستوجب فتح الدرج عند الاستمرار في القراءة. واضح أن السفر لم يكن حجمه كبيرًا جدًا بدليل أنه قُرأ في جلسة واحدة [10، 15، 21، 22].

لم يسجل إرميا النبي نبواته قبلاً لأنه كان في وسط الشعب يتحدث إليهم من حين إلى حين. أما الآن إذ اقترب السبي جدًا تم تسجيل النبوات كتابة بأمرٍ إلهيٍ حتى يحمل المسبيون نسخة منها إلى بابل فتشهد لهم بكلمة الرب، وتبقى نسخة أخرى مع الذين يبقون في يهوذا أو مع الراحلين إلى مصر.

لعل إرميا أدرك أن حياته في خطرٍ، فلا تعود توجد فرص كثيرة للحديث الشفوي مع الشعب، خاصة وأنه ليس له ابن يردد ما قاله أبوه (16: 2)، فأراد تسجيل النبوات.

محتويات الوثيقة التي نحن بصددها غير معروفة، وإن كان من المحتمل أنها ضمت نبوات في شكل مختارات أدبية وأشعار أُعلنت بين عامي 626 و605 ق.م، وبمضاهاتها بالنبوة الحالية يتضح أنها قصيرة نسبيًا، لأنه يمكن أن تقرأ ثلاث مرات في يومٍ واحدٍ [10، 15، 21].

واضح من [3، 7] أن الله يترجى توبة شعبه ولو في اللحظات الأخيرة حتى ليغير الحكم الإلهي من نحوهم؛ فتغْير اتجاه بيت يهوذا يتبعه تغيير في حكم الله (26: 3).

ما قد سجله إرميا من نبوات ضد يهوذا بواسطة باروخ كان قاسيًا على نفسية إرميا صاحب المشاعر الرقيقة لو لم يتحقق أنها كلمة الرب. لذلك كثيرًا ما يكرر العبارات: "لأنه هكذا قال الرب"، "وصارت إليّ كلمة الرب"، "لأنه هكذا قال رب الجنود"، "اسمعوا كلمة الرب"، "يقول الرب"، "اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب"، "قال الرب لي". فما نطق به هو إعلان إلهي كما يقول الرسول بطرس "لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسانٍ بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 21). كان رجلا الله إرميا النبي وباروخ تحت قيادة الروح القدس، يُعطى للأول كلمة ينطق بها والثاني يكتب.

كان ثمن هذه النبوات حياته كلها، لكنه بقوة الروح يقول للكهنة والأنبياء والرؤساء "أما أنا فها أنذا بيدكم، اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم، لكن اعلموا علمًا أنكم إن قتلتموني تجعلون دمًا زكيًا على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها لأنه حقًا قد أرسلني الرب إليكم لأتكلم في آذانكم بكل هذا الكلام" (24: 14-15).

كان الرب هو المشدد والمعضد له، لذلك على الرغم مما أصابه من أتعابٍ وسخريةٍ وعارٍ واستهزاءٍ لم يستطع السكوت، إذ يقول: "فكان كلام الرب في قلبيَ كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي فمللت من الإِمساك ولم أستطع" (20: 9) إنه يشهد للكلمة الإلهية التي ألهبت أعماقه، إذ يقول: "هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم" (5: 14)، كما قال الرب له: "لأني ساهر على كلمتي لأجريها" (1: 12).

وقد شبَّه إرميا كلمة الله بالنار والمطرقة فيقول: "أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب، وكمطرقةٍ تحطم الصخر؟!" (23: 29).

وقد قال له الرب "إذا أخرجتَ الثمين من المرذول فمثل فمي تكون، هم يرجعون إليك وأنت لا ترجع إليهم" (15: 19).

ولا ننسى أن نبوة إرميا كانت موضوع اهتمام ودراسة الأمناء المعاصرين له مثل دانيال الذي قال: "أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب لإرميا لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دا 9: 2).

كانت كلمة الرب طعامًا مفرحًا لنفس إرميا: "وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (15: 16). وهذا يذكرنا بقول داود النبي "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" وقول الرب للنبي حزقيال الذي كان معاصرًا لإرميا "كُل هذا الدرج واذهب كلم بيت إسرائيل، ففتحت فمي، فأطعمني ذلك الدرج، وقال لي يا ابن آدم أطعم بطنك واملأ جوفك من هذا الدرج الذي أنا معطيكه، فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة" (حز 3: 1-3).

غاية كتابة السفر هو أن يدفعهم إلى التمتع بمغفرة ذنوبهم وخطاياهم، فإن الله لا يشغله كثيرًا إن كنا نسقط تحت التأديب أو نُعفي منه، قدرما يشغله نقاوة قلوبنا وتقديس أعماقنا لكي نصير قديسين كما أنه هو قدوس. إنه الأب الذي يشتهي أن يقتدي به أولاده، يشاركونه حياته لكي يتمتعوا أيضًا بشركة مجده.

لقد أدرك المرتل قوة كلمة الله في رفع الخطايا ونزع عارنا الداخلي فقال: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22). ويعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة قائلاً:

[تستوجب الخطايا العار والخزي، ففي يوم الدينونة يقوم الخطاة إلى الخزي والعار الأبدي (دا 12: 2)...

يوجد نوعان من العار: فمن جهة اختار الله أدنياء العالم والمزدرى" (1 كو 1: 28)؛ ومن جهة أخرى: "فاعل الشر مرذول أمام (الرب)" (مز 15: 4)...

إنني أقول: "دحرج عني العار والخزي، فإني لشهاداتك ابتغيت" (مز 119: 22). لا تحسبني مستحقًا العار والخزي، لأنني حفظت شهاداتك التي قيل عنها: "طوباهم الذين يحفظون شهاداتك" (مز 119: 2) [585]].

إن كانت الخطايا تلصق الإنسان بالتراب، فإن كلمة الله تلصقه بالله، إذ يقول المرتل: "لصقت بالتراب نفسي، فأحيني بكلمتك" (مز 119: 25). ويعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[إذ وجد داود نفسه ساقطًا في الخطية التصقت نفسه بالتراب بفعل الخطية. لقد دمرت الخطية مكانة نفسي وحطمت علوها الطبيعي. حقًا إن كل نفس خاطئة تكون "ملتصقة بالتراب" لذا قيل: "وراء إلهك تسير، وتلتصق به" (تث 13: 4؛ 6: 13؛ 10: 30)؛ هذا ما قيل في الشريعة.

إذ رفض الالتصاق بالتراب وأراد أن يعيش حسب كلمة الرب؛ أي حسب الكتاب المقدس الإلهي الموحي به، يطلب العون الإلهي لكي يحيا. من يهتدي ينطق بكلمات الرب، فتظهر أعماله وسيرته الصالحة[586]].

2. إعلان عن الصوم:

أملى إرميا كاتبه باروخ النبوات، ولا نعرف هل جمعها إرميا كما هي، أو رتبها ولخَّص بعضها. على كل حالٍ يظهر أن هذا العمل استغرق وقتًا طويلاً. والفرصة التي انتهزها إرميا هي الصوم الذي فرضه الملك على الشعب بسبب الخطر المرتقب من جراء تقدم جيوش الكلدانيين. والظاهر أنها كانت الفرصة الأخيرة التي أراد الله أن يعطيها للشعب لأجل التوبة والرجوع إليه.

"ففعل باروخ بن نيريا حسب كل ما أوصاه به إرميا النبي بقراءته في السفر كلام الرب في بيت الرب.

وكان في السنة الخامسة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا في الشهر التاسع أنهم نادوا بصومٍ أمام الرب، كل الشعب في أورشليم، وكل الشعب القادمين من مدن يهوذا إلى أورشليم.

فقرأ باروخ في السفر كلام إرميا في بيت الرب في مخدع جمريا بن شافان الكاتب، في الدار العليا في مدخل باب بيت الرب الجديد في آذان كل الشعب" [8-10].

باروخ بن نيريا

باروخ اسم عبري معناه "مبارك".

كان أخو سرايا رئيس المحلة للملك صدقيا (51: 59)، الذي كان يشغل مركزًا ساميًا في حاشية الملك صدقيا، وكان يطمع في أن يكون واحدا من ملازميه "هل تطلب لنفسك أموراً عظيمة" (45: 5). وكما يقول يوسيفوس المؤرخ إنه من عائلة عريقة للغاية[587].

وقد ذكر أولاً في (32: 12) كمرافق لإرميا، كان معه في السجن، وشهد على عملية شراء حقل ابن عمه بعناثوث، واحتفظ بعقود الشراء. وقد خدم سيده بأمانة (36: 10)، وكتب نبواته (36: 4، 32)، وكان يقرأها بصوتٍ عالٍ أمام الناس (36: 10-15). وقد كلفه ذلك التضحية بالكثير من مشروعاته وأعماله العالمية.

وعندما سقطت أورشليم أقام مع إرميا في المصفاة[588]، وعندما قُتل جدليا قُبض عليه للتأثير على إرميا لكي يرحل (43: 3)، وطبقًا لما جاء في (43: 6) حُمل مع إرميا إلى مصر حيث ماتا هناك[589]. يوجد تقليد آخر يقول إن باروخ ذهب مؤخرًا إلى بابل أو حُمل إلى هناك بواسطة نبوخذنصر بعد فتح الأخير لمصر.

وفي كل أجزاء النبوة يُذكر باروخ على أنه كاتب إرميا وليس كاتب السفر. كتب باروخ في بابل السفر الذي يحمل اسمه، من الأسفار القانونية الثانية، يحوى ستة أصحاحات، منها الأصحاح السادس والأخير عبارة عن رسالة لإرميا النبي موجه للذين كانوا مزمعين أن يُساقوا إلى السبي.

بسبب ارتباط باروخ بشخصية إرميا استغل البعض شهرته فنسبوا إليه فيما بعد كتابًا يسمى "رؤيا باروخ"، ينسب له رؤى تسلمها من السماء. جاء في النسخة السريانية أنه بسبب تقواه لم يسمح الله بخراب الهيكل، لهذا أمره أن يترك أورشليم قبل خرابه ليُبعد حماية حضوره عن الهيكل[590]. وقد رأى باروخ من سنديانة إبراهيم التي في حبرون الهيكل مُقامًا على نارٍ بواسطة ملائكة الذين سبقوا أن أخفوا الأواني المقدسة[591].

في الأدب العبري ينتمي باروخ إلى إرميا بقرابة جسدية، وكلاهما كانا كاهنين ومن نسل راحاب الزانية[592].

قُرئ كلام السفر في آذان الشعب في يوم صوم في الشهر التاسع في السنة الخامسة لحكم الملك يهوياقيم. لم يكن هذا اليوم من أيام الصوم الخاصة بمناسبة دينية وردت في الشريعة، إنما كان من أجل الأزمة القومية التي حلَّت بهم، ربما بمناسبة وصول الجيوش البابلية إلى السهول الفلسطينية. في مثل هذه المناسبة يربط الشعب توسلاته وطلباته بالصوم لكي يخلصهم الله من الضيق. لكنهم إذ لم يلتزموا بالتوبة قيل: "حين يصومون لا اسمع صراخهم، وحين يُصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم" (14: 12).

كان الشهر التاسع هو ديسمبر من عام 604 ق.م، حيث كان الجو باردًا [22]، عندما أطاح البابليون بأشقلون في سهل فلسطين.

جمريا

هو ابن "شافان" الكاتب الرسمي للدولة تحت حكم يوشيا (2 مل 22: 3، 8). إذا كان "شافان" هذا هو نفسه الرجل المذكور في إرميا (25: 24) يكون "جمريا" أخو "أخيقام" الذي عامل إرميا برفق. ولقد كان اسم "جمريا" شائعًا إلى حد ما في القرن السابع ق.م. وتذكر إحدى رسائل "لخيش" (اللوح الأول) "جمريا بن هيسيل ياهو في عام 589 ق.م.

يربط البعض بين قراءة باروخ السفر في غرفة جمريا بن شافان وقصة وجود السفر في الهيكل في أيام يوشيا الملك (2 مل 22: 3، 23: 3)، عندما قرأ شافان هذا الدرج (2 مل 22: 3). على أي الأحوال استخدام باروخ غرفة جمريا يشير إلي تعاطف الأخير مع إرميا النبي.

كانت الحجرة في العلية (26: 10)، حيث يستطيع الشعب المجتمع في الفناء والقاعات السفلى أن يتطلع إليه ويسمعه. لكن للأسف لم نعرف شيئًا عن رد فعل الشعب عند سماعه السفر.

3. قراءة للرؤساء:

"فلما سمع ميخايا بن جمريا بن شافان كل كلام الرب من السفر،

نزل إلى بيت الملك إلى مخدع الكاتب وإذا كل الرؤساء جلوس هناك.

أليشاماع الكاتب ودلايا بن شمعيا وألناثان بن عكبور وجمريا بن شافان وصدقيا بن حننيا وكل الرؤساء.

فأخبرهم ميخايا بكل الكلام الذي سمعه عندما قرأ باروخ السفر في آذان الشعب.

فأرسل كل الرؤساء إلى باروخ يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوشي قائلين:

الدرج الذي قرأت فيه في أذآن الشعب خذه بيدك وتعال.

فأخذ باروخ بن نيريا الدرج بيده وأتى إليهم.

فقالوا له: اجلس واقرأه في آذاننا.

فقرأ باروخ في آذانهم.

فكان لما سمعوا كل الكلام أنهم خافوا ناظرين بعضهم إلى بعض وقالوا لباروخ:

إخبارًا نخبر الملك بكل هذا الكلام.

 ثم سألوا باروخ قائلين: أخبرنا كيف كتبت كل هذا الكلام عن فمه.

فقال لهم باروخ: بفمه كان يقرأ لي كل هذا الكلام وأنا كنت أكتب في السفر بالحبر.

فقال الرؤساء لباروخ: اذهب وأختبئ أنت وإرميا ولا يعلم إنسان أين أنتما" [11-19].

وقف باروخ في الدار العليا، في مدخل باب بيت الرب الجديد وبدأ يقرأ. سمعه شاب يدعى ميخايا حفيد شافان، فتأثر جدًا وأسرع إلى القصر وأخبر الرؤساء الذين استدعوا باروخ ليقرأ لهم ما بالدرج. خافوا جدًا إذ سمعوا عن الخراب الذي سيحل بالبلاد، وشعروا بالمسئولية أن يُخطروا الملك بمحتويات الدرج.

إذا كان "اليشاماع" الكاتب هو نفسه "اليشاماع" المذكور في (41: 1، 2 مل 25: 25) فإنه يكون من أصل ملكي.

"الناثان بن عكبور" ذكر مرة أخرى في (26: 22)، أما عن الآخرين باستثناء "جمريا بن شافان" فلا نعرف عنهم شيء. و"يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوش" [14] غير معروف إلا في هذا الموضع، ولابد أنه كان ذا أهمية في عصره وإلا ما كان هناك داعٍ لذكر نسبه إلى الجيل الثالث.

إذ أمر الرؤساء باروخ أن يجلس فمن الواضح أنهم كانوا يظهرون له المودة، وربما انحدر من عائلة من الطبقات العليا. وقد يدل الاستقبال والحفاوة التي قوبل به على أن لإرميا بعض الأتباع بين حكام يهوذا.

استقبالهم المشوب بالخوف لهذا الدرج ألزمهم أن يخبروا الملك فورًا بما فيه. وقد اهتم الرؤساء أيضًا بسلامة إرميا وباروخ إذ كانوا يعرفون ما اتصف به يهوياقيم من ظلمٍ وعدوانٍ. ومن الواضح أنهم استفادوا من النهاية المأساوية التي لقيها "يوريا" نتيجة لأقواله (26: 23).

يذكر التقليد اليهودي أن مكان الاختباء عرف باسم "كهف إرميا"، وكان يقع خارج باب دمشق وإن كان ذلك ليس يقينًا.

4. حرق الدرج:

ثم دخلوا إلى الملك إلى الدار وأودعوا الدرج في مخدع أليشاماع الكاتب،

وأخبروا في أذنيْ الملك بكل الكلام.

فأرسل الملك يهودي ليأخذ الدرج،

فأخذه من مخدع أليشاماع الكاتب،

وقرأه يهودي في أذنيْ الملك وفي آذان كل الرؤساء الواقفين لدى الملك.

وكان الملك جالسًا في بيت الشتاء في الشهر التاسع، والكانون قدامه متقد.

وكان لما قرأ يهودي ثلاثة سطور أو أربعة أنه شقه بمبراة الكاتب وألقاه إلى النار التي في الكانون حتى فني كل الدرج في النار التي في الكانون.

ولم يخف الملك ولا كل عبيده السامعين كل هذا الكلام ولا شققوا ثيابهم.

ولكن ألناثان ودلايا وجمريا ترجوا الملك أن لا يحرق الدرج فلم يسمع لهم.

بل أمر الملك يرحمئيل ابن الملك وسرايا بن عزرائيل وشلميا بن عبدئيل أن يقبضوا على باروخ الكاتب وإرميا النبي، ولكن الرب خبأهما" [20-26].

بلا شك توقع "أليشاماع" استقبالاً فاترًا من يهوياقيم المتعجرف والذي كان يسكن في بيت الشتاء. والكلمة العبرية "بيت beyit" تعني أحيانًا جزءًا من البناء (1 أي 28: 11، حز 46: 24). ففي المنازل المكونة من طابقين كان الطابق الأرضي عادة يُستخدم للإقامة الشتوية بينما الطابق العلوي الجيد التهوية كان أنسب لحر الصيف. وكان "الكانون" مصدرًا للحرارة في يوم شديد البرودة من أيام الشتاء.

كان دور الشاب ميخايا بن جمريا حيًّا، إذ لم يحتمل أن يسمع الكلمة ويصمت بل ابلغ الرؤساء لعلهم يقومون بدورٍ روحي. فعلاً سألوا أن يأتي بباروخ دون إبطاء ليقرأ عليهم كلمات النبي. وقد وقع عليهم - وكان من بينهم بعض الأشراف - خوف عظيم. ورغم مقاومتهم لإرميا لكنهم خافوا، كما وُجد نفر قليل منهم يثق في كلمات الرب على لسان إرميا، شعروا أن من واجبهم إخطار الملك بالأمر لخطورته.

قبل تقديم السفر طلبوا من باروخ وإرميا أن يختبئا، لأنهم يعرفون طبيعة يهوياقيم العنيفة الظالمة. لقد ظنّوا أن الملك يكتفي بسماع ملخص لما ورد في الدرج، لكن هذا لم يرضه بل طلب من "يهودي" أن يحضر الدرج بينما جلس الملك بجوار كانون النار يستدفئ، والرؤساء واقفون حوله، بينما كان الشعب في أرجاء المدينة في حالة خوفٍ وفزعٍ، خاصة الذين في الهيكل. إذ بدأ الملك يستمع لما ورد في الدرج بدت علامات الغضب على وجهه. كانت أمامه فرصة للتوبة، خاصة وأن بعض رجاله حثوه أن ينصت إلى كلمة الرب، لكنه طرح السفر في النار، فإذا به يطرح نفسه وبيته ومدينته في نيرانٍ قاسيةٍ! وبعد قراءة ثلاثة سطور أو أربعة خطف الدرج وطلب المبراة التي تلازم الكاتب عادة. وكلما كان "يهودي" يقرأ عدة أسطر من الدرج كان الملك يقطع ذلك الجزء ويحرقه في النار باحتقار، ظانًا أنه يستطيع أن يحطم الكلمة النبوية. عوض أن يشقوا ثيابهم ويمزقوا قلوبهم بروح التوبة مزق يهوياقيم الدرج وألقاء في النار. عبثًا حاول دلايا وجمريا والناثان إقناعة ألاّ يحرق الدرج، لكنه أصدر أمره بالقبض على إرميا النبي وكاتبه باروخ فلم يجدهما رسله.

كانت "المبراة" أو "سكين الكاتب" تُستخدم في عمل وإصلاح الأقلام المصنوعة من الغاب ولقطع أو قص سجلات البردي.

التحدي السافر الذي أظهره الملك وحاشيته فيه تناقض صارخ مع رد فعل يوشيا عندما سمع سفر الشريعة المُكتشف حديثًا (2 مل 22: 11). إذ لما سمع يوشيا والد يهوياقيم سفر الشريعة مزق ثيابه.

استخدم الملك المبراة لتمزيق الكتاب والنار لحرقه، لكن ما ورد في الدرج تحقق، وبقيت كلمة الله أعظم من كل قوة مضادة. هكذا يحاول الملحدون وأيضًا النُقاد تمزيق كلمة الله بفلسفات بشرية برّاقة، لكن كلمة الله أعظم من كل مقاومة. كذلك الذين يرفضون طريق الصليب الضيق من أجل الراحة الزمنية يمسكون بمبراة يهودي ليمزقوا الكلمة الإنجيلية في حياتهم.

ما أتعس الإنسان الذي يمزق كلمة الله بمبراة ذهنه ويزيفها بعقله، يطرح رجاءه لا الدرج في النار، أما كلمة الرب فباقية إلى الأبد. "السموات والارض تزولان لكن كلامي لا يزول" (مر 13: 31). من يرتبط بكلمة الحياة الباقية إلى الأبد (1 بط 1: 25، يو 12: 48) يحطم الفناء ويغلب الموت ويدخل إلى عدم الفساد الأبدي.

حقًا إن استخف أحد بصوت الله كف عن التحدث، والذين لا يستحسنون أن يبقوا الله في معرفتهم يسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا كل نجاسةٍ وطمعٍ (رو 1: 28 الخ)، هذا يذكرنا بتلك الكلمات الرهيبة التي خُتمت بها حياة أول ملوك إسرائيل، "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلي يوم موته" (1 صم 15: 35).

v     لا تمزق الخطاب المكتوب على قلبك كما فعل الملك الفاسد حيث شق بمبراة الكاتب الخطاب المُسلم إليه بواسطة باروخ. لا تجعل هوشع يقول لك كما لإفرايم: "أنت كحمامة رعناء" (هو 7: 11)[593].

القديس جيروم

لا نستطيع أن ندرك على وجه التحديد التام معني "الله خبأهما". هل حث أحدًا من الرؤساء ليخفيهما في موضع معين، أم اختفي إرميا وكاتبه وستر الرب عليهما فلم يعرف أحد موضعهما؟!

إننا جميعاً في حاجة الى هذه التخبئة الإلهية التي لا نعرف مدتها. يجب علينا إطاعة الصوت الذي ينادينا كما نادى إيليا "انطلق من هنا واتجه نحو المشرق واختبئ".

عندما لا نطمع في شيء في الوجود إلا في إرضائه فحينئذ نكون مختبئين في حصنه الحصين، ومن مخبأنا الأمين الذي ننعم فيه بمجد نوره العظيم نتطلع بثبات إلى الشرور المزعجة وهي تجوز بجوارنا دون أن تجترئ على الاقتراب منا.

هكذا لا يزال ابن الله يتدخل لحماية خاصته. فعشْ له وحده. كن سهمًا مبريًا مختبئًا في ظل يده وفي كنانته مختفيًا (إش 49: 2). أثبت فيه. أصغِ إليه، فإنه يقول لك كما قال داود لأبياثار: "أقم معي. لا تخف لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك. ولكنك عندي محفوظ" (1 صم 22: 23).

الاسم "يرحمئيل ابن الملك" [26] قد يعني أنه كان من سلالة الملك (39: 6، 1 مل 22: 26، صف 1: 8).

5. النسخة الثانية من الدرج:

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا بعد إحراق الملك الدرج والكلام الذي كتبه باروخ عن فم إرميا قائلة:

عد فخذ لنفسك درجًا آخر واكتب فيه كل الكلام الأول الذي كان في الدرج الأول الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا.

وقل ليهوياقيم ملك يهوذا:

هكذا قال الرب.

أنت قد أحرقت ذلك الدرج قائلاً لماذا كتبت فيه قائلاً مجيئًا يجيء ملك بابل ويهلك هذه الأرض ويلاشي منها الإنسان والحيوان.

لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا:

لا يكون له جالس على كرسي داود وتكون جثته مطروحة للحر نهارًا وللبرد ليلاً.

وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم وأجلب عليهم وعلى سكان أورشليم وعلى رجال يهوذا كل الشر الذي كلمتهم عنه ولم يسمعوا.

فأخذ إرميا درجًا آخر ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار وزيد عليه أيضًا كلام كثير مثله" [27-32].

كم مضى من الوقت بعد تدمير الدرج الأصلي وبين عمل النسخة الثانية؟ لا يعرف أحد بالضبط. لكن ربما لا تزيد عن عدة شهور. وشملت النسخة الثانية على مادة إضافية تركز على المصير الذي ينتظر حاكم غير تقي.

لم ينشغل إرميا النبي وكاتبه بمقاومة الأشرار لهما بل بحفظ الكلمة الإلهية وتسجيلها، ليس فقط في سفر عبر الدهور بل وفي حياتهما. وكما يقول العلامة أوريجينوس معلقًا على قول المرتل: "جلس الرؤساء وتقاولوا عليّ، أما عبدك فكان يهتم بحقوقك" (مز 119: 23): [ليتكلم هؤلاء الرؤساء أيا كانوا، فإن البار لا يفعل شيئًا سوى التحدث بفرائض الرب، هذه الفرائض التي ينطق بها البار ليست كلمات بشرية! [594]].
من وحي إرميا 36

كلماتك نار آكلة

v     ثار الكل على نبيك إرميا لكي يصمت،

أما فهو فشعر بنار الكلمة الإلهية تلتهب في أعماقه،

مياه الضيقات والسخرية لا تقدر أن تطفئها!

v     ليلهب روحك الناري نار كلمتك فيّ،

تحرق كل الأشواك الخانقة في أعماقي!

نعم! لتهبني شركة الطبيعة الإلهية، إنها النار الآكلة.

تبدد كل برودٍ روحيٍ،

وتحولني إلى خادمٍ سماويٍ ناري!

v     لم يمزق يهوياقيم ثيابه عند سماعه كلمتك،

بل مزق بمبراة السفر نفسه،

وألقاه في أتون النار!

ظن هذا المسكين أنه قادر أن يبدد الكلمة،

ولم يدرك أن الكلمة نار سماوية تبني وتمجد!

v     هب لي يارب هذه النار،

فأصرخ قائلاً:

نار كلمتك قد أحرقتني،

أريد ان أرتفع إلى سمواتك

وأحيا معك أيها النار الآكلة،

وأشارك السمائيين النورانيين تسابيحهم!

<<


 

الأصحاح السابع والثلاثون

صدقيا يستشير إرميا

تعتبر الأصحاحات 37 إلى 44 قسمًا تاريخيًا، يبدأ بالحديث عن رفع الكلدانيين الحصار عن أورشليم مؤقتًا لملاقاة فرعون خفرع، وقد طلب صدقيا الملك من إرميا الصلاة من أجله.

ذُكرت هنا حادثتان في الفترة 589-588 ق.م.، ربما في ربيع 588 جاءت الاخبار بوصول قوة انقاذ مصرية، فرفع البابليون الحصار عن أورشليم مؤقتًا لمواجهة التهديد الحربي الجديد، فشهد السكان المحاصرون هدنة لالتقاط الأنفاس.

أرسل صدقيا الذي ملَّكه نبوخذنصر ملك بابل على يهوذا إلى إرميا يستشيره إن كان يتحالف مع فرعون مصر لحمايته من الكلدانيين، ظانا أن الله يجعل من هذه الهدنة المؤقتة هدنة دائمة. وكانت الإجابة صريحة وهي عدم الاتكال على ذراع بشرٍ، مؤكدًا أن جيش الكلدانيين الذي حاصر أورشليم وتركها سيعود مرة أخرى ويحاصرها، ولن يستطيع فرعون أن يخلصهم.

"لأنكم وإن ضربتم كل جيش الكلدانيين الذين يحاربونكم وبقى منهم رجال طُعنوا (جرحي)، فإنهم يقومون كل واحدٍ في خيمته ويحرقون هذه المدينة بالنار" [10].

اعتبره الملك ورجاله خائنًا، مثبِّطًا لهمم الجيش والشعب، لذلك ضربوه وجعلوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب [15]. كانوا يستخدمون الجب لحبس الأشخاص المقبوض عليهم وكان ذلك مؤلمًا جدًا، خاصة وأنه غالبًا ما وُضع في حبسٍ منفردِ.

لم يسترح ضمير الملك إذ بدأ يكتشف أن ما قاله الأنبياء الكذبة خلال الثلاثين عامًا لم يكن إلا خداعًا. فأرسل إلى إرميا سرًا يسأله مرة أخرى، فأكد له أنه سينهزم أمام بابل.

لم يخف إرميا من السجن، ولا انهار أمام الملك، بل بكل جرأة قال للملك: "ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟! [18].

نُقل إرميا من سجن بيت يوناثان الذي هو تحت الأرض وغير صحي إلى سجن بيت الملك (32: 2؛ نح 3: 25، 12: 39)، حيث أصبح لإرميا شيء من الحرية، وأعطي قسطًا من الطعام يوميًا.

1. مُلك صدقيا [1-2].

2. صدقيا يلجأ إلي إرميا[3-4].

3. رفع الحصار[5].

4. نبوته عن استئناف الحصار [6-10].

5. القبض على إرميا[11-14].

6. طرحه في الجب[15-16].

7. إطلاق إرميا[17].

8. إرميا يطلب رحمة[18-21].

1. مُلك صدقيا:

"وملك الملك صدقيا بن يوشيا مكان كنياهو بن يهوياقيم الذي ملكه نبوخذراصر ملك بابل في أرض يهوذا.

ولم يسمع هو ولا عبيده ولا شعب الأرض لكلام الرب الذي تكلم به عن يد إرميا النبي" [1-2].

جاء صدقيا خلفًا للملك يكنيا أو كنياهو (2 مل 24)، وقد رأى في سلفه ثمار رفض الكلمة الإلهية، لكنه لم يتعظ هو ورجاله وشعبه. اُستخدم اسم كنياهو اختصارًا لكلمة "يكنيا"، وفيه نوع من التوبيخ.

رفض الملك وعبيده وشعبه أن يسمعوا لكلام الله [2]، ففقدوا سلامهم الداخلي. ظنوا أن في حبس إرميا إراحة لضمائرهم ونصرة لأفكارهم، لكن بقي النبي المُفترى عليه يحمل قوة وحرية داخلية داخل السجن لأنه ملتصق بالكلمة الإلهية، بينما شعر الملك بالضعف... يطلب كلمة من شفتي إرميا لعله يستريح.

لعل إرميا النبي كان في أعماقه يردد كلمات داود الملك: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" (مز 119: 46)، ويعلق الأب أنثيموس أسقف أورشليم على هذه العبارة، قائلاً: [علامة محبة الله... هي أن تتكلم بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء... لا نخزى إن كانت أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذّ بوصاياه بالمحبة والثقة، لا بضجر أو تهاون[595]].

2. صدقيا يلجأ إلي إرميا:

"وأرسل الملك صدقيا يهوخل بن شلميا وصفنيا بن معسيا الكاهن إلى إرميا النبي قائلاً:

صلِ لأجلنا إلى الرب إلهنا.

وكان إرميا يدخل ويخرج في وسط الشعب إذ لم يكونوا قد جعلوه في بيت السجن" [3-4].

بعث صدقيا برسولين إلى النبي، ربما لأنه كانت تنقصه الجرأة للحديث معه وجهًا لوجه. على أى الأحوال لقد دان صدقيا نفسه بفمه، فإن كان قد أرسل إلى إرميا يطلب صلواته ومشورته إيمانًا بأنه نبي، فلماذا لم يسمع للصوت الإلهي؟! كان يليق بالملك لا أن يطلب من النبي من أجله فحسب، بل وأن يُصلي معه فيمارس حياة الصلاة القادرة على تغيير الأمور. فإننا حتى في الشفاعة نطلب صلوات القديسين معنا فلا تُقبل الصلوات بدون التجائنا نحن إلى الصلاة مع التوبة.

واضح من تصرف صدقيا أنه فاقد الثقة في أنبيائه، لكنه في نفس الوقت لم يأخذ خطوات جادة في الاستماع لصوت الرب.

كان يهوخل بن شلميا مقاومًا لإرميا وطلب موته (38: 4),

كان صفنيا بن معسيا عضوًا في الوفد السابق إلى إرميا.

كان لإرميا حرية الحركة حتى أُلقى القبض عليه وأُودع في السجن إلى لحظات سقوط أورشليم في يوليو 587 ق.م.

3. رفع الحصار:

"وخرج جيش فرعون من مصر.

فلما سمع الكلدانيون المحاصرون أورشليم بخبرهم صعدوا عن أورشليم" [5].

في صيف 588 ق.م تحرك المصريون إلى منطقة فلسطين، ربما استجابة لطلب صدقيا، (حز 17: 11-21)، إذ جاء في رسالة لخيش الثانية إشارة إلى زيارة قائد جيش يهوذا إلى مصر. ولعل تحرك فرعون بجيشٍ لم يكن لحماية يهوذا، وإنما كخط دفاعٍ خشية حدوث هجوم بابلي على مصر. هذا ولم يستمر الكلدانيون في حصارهم لأورشليم خشية أن يأتي جيش مصر فينضم إليه جيش يهوذا ضدهم، لهذا فضل الكلدانيون أن يتركوا أورشليم إلى حين ويحاربوا فرعون بعيدًا عن أورشليم ليعودوا ويحاصروها بعد غلبتهم على فرعون.

فرعون هنا هو خفرع (44: 30) الذي خلف والده نخو والذي حكم من سنة 589-570 ق.م، تراجع قبل الدخول في معركة حقيقية، تاركًا أورشليم تسقط في يد البابليين سنة 587 ق.م. عدم تدخل نخو الثاني (610-595 ق.م) سمح لبابل أن تهاجم أورشليم في سنة 597 ق.م، والنتيجة الوحيدة لتدخل خفرع كان رفع الحصار لمدة مؤقتة، لكن في نهايتها تمت الإطاحة بآمال صدقيا.

4. نبوته عن استئناف الحصار:

"فصارت كلمة الرب إلى إرميا النبي قائلة:

هكذا قال الرب إله إسرائيل،

هكذا تقولون لملك يهوذا الذي أرسلكم إليَّ لتستشيروني.

ها إن جيش فرعون الخارج إليكم لمساعدتكم يرجع إلى أرضه إلى مصر.

ويرجع الكلدانيون ويحاربون هذه المدينة ويأخذونها ويحرقونها بالنار.

هكذا قال الرب:

لا تخدعوا أنفسكم قائلين إن الكلدانيين سيذهبون عنا لأنهم لا يذهبون.

لأنكم وإن ضربتم كل جيش الكلدانيين الذين يحاربونكم وبقي منهم رجال قد طعنوا، فإنهم يقومون كل واحدٍ في خيمته ويحرقون هذه المدينة بالنار" [6-10].

كانت الإجابة صريحة، ليس فيها خداع، ولكن هم أرادوا أن يخدعوا أنفسهم بأنفسهم. يريدون إجابة لا تمثل الواقع، بل حسب هواهم وإرادتهم. حقًا إن لم يخدع الإنسان نفسه لا يقدر حتى إبليس المخادع أن يخدعه! لهذا يقول إرميا النبي: "لا تخدعوا أنفسكم" [9].

بقوله "طُعنوا" [10] بلاغة في التصوير، يؤكد الاستيلاء على أورشليم تحت كل الظروف، حتى إن كان قلة من الرجال قد طعنوا بجراحات قاتلة يقومون ويغلبون أورشليم. هكذا جاءت الإجابة هنا واضحة وقاطعة أكثر من قبل.

يرى البعض إن ما ورد في (52: 15) يظهر أن عددًا من السكان كان قد غادر المدينة وانضم إلى ملك بابل قبل سقوط المدينة. وإن كان هذا مردُّه إلى انشقاق بين الناس واختلاف في الرأي حول السياسة الرشيدة التي يجب اتباعها، فلا يكون إرميا هو الوحيد الذي نصح الملك بالخضوع لبابل، ولكن الحزب المعارض لهذا الفكر حُسب أنصاره من الخائنين.

5. القبض على إرميا:

وكان لما أصعد جيش الكلدانيين عن أورشليم من وجه جيش فرعون،

أن إرميا خرج من أورشليم لينطلق إلى أرض بنيامين لينساب من هناك في وسط الشعب.

وفيما هو في باب بنيامين إذا هناك ناظر الحراس اسمه يرئيا بن شلميا بن حننيا.

فقبض على إرميا النبي قائلاً:

إنك تقع للكلدانيين.

فقال إرميا كذب.

لا أقع للكلدانيين.

ولم يُسمع له، فقبض يرئيا على إرميا وأتى به إلى الرؤساء" [11-14].

تم القبض على إرميا في وقت كان فيه الحصار مرتبكًا، وكان هناك نوع من الحرية في الحركة داخل المدينة وخارجها.

إذ رُفع الحصار مؤقتًا عن أورشليم اندفعت الجماهير إلى الخارج كنوعٍ من التنفيس. خرجت أعداد بلا حصر لترى حقولها التي خربت ومراعيها التي اندثرت. وسط هذه الجماهير خرج إرميا ظانًا ان أحدًا لا يهتم  بشأنه في ظروفٍ كهذه، خاصة وأنه مختفٍ وسط أعداد بلا حصر.

يقع باب بنيامين [13] في الجانب الشمالي من أورشليم، كان مؤديًا إلى أرض بنيامين، خرج منه يبحث عن الأرض التي اشتراها من حمنئيل، لكن أُسيء فهم نواياه، وتم القبض عليه في شك أنه ذاهب إلى العدو. ويرى البعض أنه إذ رأى الحصار قد نُزع مؤقتًا اراد إرميا أن يخرج من أورشليم إلى عناثوث اشتياقًا إلى الراحة بعد حياة شاقة للغاية مملوءة أحزانًا. أو لعله شعر أن مجهوداته قد فشلت في أورشليم، لم يسمع له أحد لهذا أراد الخروج منها. يبدو أن هذا التصرف كان من عندياته بدون استشارة الرب، مما سبب له متاعب أكثر. كان لابد ان يسأل الرب في كل تحركاته.

يقدم لنا[596] B. Duhm صورة حية عن الموقف فيقول إنه من ناحية كان الملك يُعامله بطريقة غير لائقة، حيث وُضع في الجب، مع أنه لم يبالغ في أحاديثه ولم يكن متهورًا، بل كان إنسانًا بسيطًا متضعًا ورقيقًأ، ومن ناحية أخرى كان الملك يقوده رجاله العاملون معه بغير إرادته إلى مغامرة خطيرة. حقًا كان الملك يترقب كلمة تصدر من شفتي النبي، يسمعها في الخفاء لإرضاء ضميره، لكنه كان ضعيفًا وليس شريرًا؛ كان مقيدًا أكثر بكثير من قيود النبي الواقف أمامه.

لماذا وُضع في سجن بيت يوناثان؟ ربما كانت السجون الأخرى مكتظة بالمسجونين، أو لأنهم رأوا أن شخصية إرميا خطيرة للغاية حتى علم أفكار المسجونين أنفسهم من جهة الفكر السياسي، لذا رأوا ضرورة عزله حتى عن المساجين في هذا السجن ضمانًا لعدم التقائه بأحدٍ.

واضح أن الاهتمام الذي وُجه إلى إرميا كان باطلاً، لأن الكلدانيين كانوا قد فارقوا أورشليم، وكانوا مشغولين في الدخول في معركة مع فرعون. هذا وقد وُضع في السجن دون محاكمة طبيعية.

6. طرحه في الجب:

"فغضب الرؤساء على إرميا وضربوه وجعلوه في بيت السجن في بيت يوناثان الكاتب لأنهم جعلوه بيت السجن.

فلما دخل إرميا إلى بيت الجب وإلى المقببات أقام إرميا هناك أيامًا كثيرة" [15-16].

مسكين هو ذاك الذي يحمل كلمة الله (الذي يرمز إليها إرميا) كما إلى الجب لكي يدفنها وسط تراب هذا العالم ووحله عوض أن يلتصق بها لتحمله إلى سمواتها.

يعلق العلامة أوريجينوس على قول المرتل: "إلى الدهر لا أنسى حقوقك، لأنك بها أحييتني" (مز 119: 93)، قائلاً: [سأحفظ ذكرى تعاليمك التي تسلمتها منك، هذه التي تعلمتها هنا على الأرض، وبها انتقلت من الأرض إلى السماء، وصرت ساكنًا مع الملائكة[597]].

7. إطلاق إرميا:

"ثم أرسل الملك صدقيا وأخذه وسأله الملك في بيته سرًا، وقال:

هل توجد كلمة من قبل الرب؟

فقال إرميا: توجد.

فقال إنك تدفع ليد ملك بابل" [17].

التجأ صدقيا الملك إلى إرميا إما لأنه ظن أن طرح إرميا في السجن قد غيَّر من فكره، فينطق بكلمات مطمئنة عوض إصراره على تحقيق السبي البابلي، أو أراد من النبي أن يثبِّت ظنَّه وسؤال قلبه أى أن مغادرة الكلدانيين تعني خلاصًا نهائيًا كليًا لأورشليم. أما إرميا فيرد بأن هذا فكر باطل لأن جيوش بابل ستعود لتهلك المدينة.

كان الحكم على صدقيا قاسيًا لأنه استشار إرميا النبي على الأقل مرتين وأظهر حنوًا نحوه، لكنه في ضعف شخصيته كان يخشى العاملين معه (38: 24-27) الذين رفضوا رسالة إرميا.

8. إرميا يطلب رحمة:

"ثم قال إرميا للملك صدقيا:

ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟

فأين أنبياؤكم الذين تنبأوا لكم قائلين لا يأتي ملك بابل عليكم ولا على هذه الأرض؟

فالآن اسمع يا سيدي الملك.

ليقع تضرعي أمامك:

ولا تردني إلى بيت يوناثان الكاتب فلا أموت هناك.

فأمر الملك صدقيا أن يضعوا إرميا في دار السجن،

وأن يُعطى رغيف خبز كل يومٍ من سوق الخبازين حتى ينفذ كل الخبز من المدينة.

فأقام إرميا في دار السجن" [18-21].

سوق الخبازين [21]: من عادات الشرق القديم أن يكون لكل حرفة أو صناعة شارع يقتصر على أهل المهنة.

كان يمكن لصدقيا أن يطلق إرميا من السجن، لكن لم تكن لديه الشجاعة لأخذ قرارٍ كهذا. لقد تركه في السجن بعد أن خفف عنه بعض الأتعاب، وقد حوَّل الله سجن إرميا إلى بركةٍ له ولغيره.

على أي الأحوال، كان إرميا النبي صاحب الدموع الغزيرة، وجدران القلب المتوجعة، والأحشاء التي لا تكف عن أن تئن، لكنه الرجل الشجاع الذي يقف أمام الملوك بقوة، ليقول "يارب عزّي وحصني وملجأي في يوم الضيق" (16: 19). وكأنه يردد ما سبق فقاله ميخا النبي: "أنا ملآن قوة روح الرب وحقًا وباسًا لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته" (مي 3: 8).


 

من وحي إرميا 37

ليتني لا أدخل بكلمتك إلى الجب،

بل تحملني هي إلى سمواتك!

v     لم يطق الأشرار كلمتك الإلهية،

فدفعوا بإرميا إلى الجب،

ولم يدركوا أن كلمتك تحول التراب إلى سماءٍ!

v     هب لي قوة وشجاعة،

فلا أخدع نفسي كما فعل صدقيا الملك.

أطلب كلمتك حسب هواي،

وأنتظر إراحة لضميري على حساب خلاص نفسي.

لألتقي بإرميا لكن ليس في خوفٍ من الناس.

لأنصت إلى صوته،

وأطلب عمل روحك الناري فيّ،

فأستجيب لوصيتك،

وأحيا بكلمتك!

v     نعم ليحملني إرميا الحقيقي إلى الأحكام الإلهية،

وليدخل بي إلى السموات!

لترتفع معه نفسي،

ولتختبر عذوبة الوصية حتى إن بدت صعبة!

<<


 

الأصحاح الثامن والثلاثون

إرميا في الجب

يرى بعض الدارسين[598] أن كُلاً من الأصحاحين 37، 38 يحملان تفاصيل خاصة بنفس الحادثة، فإن أردنا القصة كاملة يُضم الأصحاحان معًا.

تبرز الأحداث الزمنية لهذا الأصحاح بعض الصعوبات بسبب التشابه بينها وبين ما ورد في (37: 11-21)، ففي كلتا الروايتين يُتهم إرميا بالخيانة ويُسجن (37: 15-20، 38: 6، 26). وكلا الأصحاحين يتحدثان عن مقابلة سرية مع الملك، وكلاهما ينتهيان بأن يوضع إرميا في دار السجن. لكن يوجد مع ذلك اختلاف في الروايتين تشمل الآتي:

أ. الأصحاح 37 يشير إلى القبض على إرميا (37: 11-15)؛ أما الأصحاح 38 فلم يُشر إلى ذلك.

ب. السجن المذكور في (37: 15-16) في بيت يوناثان الكاتب، أما في [6] فيُدعى جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن. ربما هذا الاختلاف ليس بذي قيمة لأننا لا نعرف موقع بيت يوناثان الكاتب بالنسبة لدار السجن الذي كان بجوار القصر (32: 2)، فقد يكون ملاصقًا له.

ج. أصحاح 38 يروي لنا الإفراج عن إرميا من الجب في شيء من التفصيل، والدور الذي قام به عبد ملك الكوشي [7-13] الأمر الذي لم يُشر إليه الأصحاح 37.

د. جاء اللقاء السري الذي تم بين الملك والنبي إرميا في [14-26] بشيء من التفصيل أكثر مما جاء في [11-27]؛ وإن كانت النغمة واحدة.

هـ. يوضح الأصحاح 38 حقيقة أن صدقيا الملك كانت له سلطة كافية لمنع إعدام النبي بتهمة الخيانة.

مع هذا يرى كثير من الدارسين أن ما ورد في الأصحاحين هما تقريران عن حادثٍ واحدٍ، وهذا ليس بالأمر الغريب على إرميا؛ فقد أشار إلى العظة في الهيكل في الأصحاحين 7، 26؛ وإلى إفراج إرميا بواسطة البابليين في (38: 28؛ 39: 14) وأيضًا في (39: 11-12؛ 40: 1-6)[599].

1. المطالبة بقتل إرميا[1-4].

2. القاء إرميا في السجن[5-6].

3. عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا[7-13].

4. لقاء سري مع الملك[14-16].

5. نبوة عن رحمة مشروطة[17-23].

6. صدقيا يخشي الرؤساء[24-27].

7. بقاء إرميا في الحبس[28].

1. المطالبة بقتل إرميا:

"وسمع شفطيا بن متان وجدليا بن فشحور ويوخل بن شلميا وفشحور بن ملكيا الكلام الذي كان إرميا يكلم به كل الشعب قائلاً:

هكذا قال الرب:

الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوبأ.

أما الذي يخرج إلى الكلدانيين فإنه يحيا وتكون له نفسه غنيمة فيحيا.

هكذا قال الرب:

هذه المدينة ستُدفع دفعًا ليد جيش ملك بابل فيأخذها.

فقال الرؤساء للملك ليقتل هذا الرجل،

لأنه بذلك يضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة، وأيادي كل الشعب،

إذ يكلمهم بمثل هذا الكلام،

لأن هذا الرجل لا يطلب السلام لهذا الشعب بل الشر" [1-4].

اثنان من المذكورين في [1] سبق أن أرسلهما الملك صدقيا إلى إرميا: زار يوخل بن شلميا إرميا خلال الانسحاب المؤقت للكلدانيين (37: 3)، وفشحور بن ملكيا عندما بدأ نبوخذنصر حصاره لأورشليم عام 588  ق.م (21: 1).

جاء التقرير هنا مطابقًا تمامًا لما ورد في (21: 9) الذي قدمه في بدء الحصار قبل القبض عليه، مؤكدًا موت الذين يقيمون في المدينة بالسيف والجوع والوبأ. وقد تكررت هذه الضربات الثلاث معًا في سفر إرميا (24: 12؛ 21: 7، 9؛ 24: 10؛ 27: 8، 13؛ 29: 17-18؛ 32: 24؛ 34: 17؛ 38: 2؛ 42: 17، 22؛ 44: 13).

يقصد بقوله: "يخرج إلى الكلدانيين" تسليم نفسه لهم.

صدر الحكم من الرؤساء على إرميا بالقتل [4] كخائنٍ للوطن، ولم يدركوا أن إرميا يحمل حبًّا حقيقيًا للشعب، ينبع عن أحشائه الملتهبة. وأن ما نطق به هو حكم صدر عليهم بسبب عصيانهم المستمر. فالأمر ليس في يديه بل في أيدي الملك والرؤساء والكهنة والشعب إن قدموا توبة تتغير كل الأحكام!

ما أسهل أن يلقي الرؤساء اللوم على إرميا، حاسبين أن بقتله تُحل المشاكل ويعود للبلد سلامه وأمانه!

2. القاء إرميا في السجن:

"فقال الملك صدقيا ها هو بيدكم لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء.

فأخذوا إرميا وألقوه في جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن ودلوا إرميا بحبال.

ولم يكن في الجب ماء بل وحل فغاص إرميا في الوحل" [5-6].

ربما لم يصرح الملك بقتله ظنًا منه أنه طالما كان النبي على قيد الحياة فإن الله يمكن أن يرجئ عقاب يهوذا المتنبأ عنه في (37: 15)، أو يريد الملك قتله لكن ليس بيديه، إنما بأيدي الرؤساء، وهذا من شيمة الإنسان الضعيف الذي يشتهي الشيء، لكنه يدفع الآخرين إلى تنفيذه، لكي يبرر نفسه فيما بعد!

كان لمعظم البيوت في أورشليم آبار خاصة (2 مل 18: 31، أم 5: 15) لتخزين المياه المتجمعة من الأمطار أو من الينابيع، وكانت في العادة على شكل كمثري ذات فتحة صغيرة من أعلى حتى يمكن تغطيتها عند الضرورة لمنع الحوادث أو تلوث الماء. وبحلول عام 1200 ق.م كانت الآبار تقوى بالأسمنت، مثل خزان قمران.

اهتز صدقيا الملك أمام كلمات إرميا، الذي ربما كان يشعر بمخافة أمامه، إذ كان يخشاه. لكنه إذ كان ضعيف الشخصية سلمه إلى أيدي رجاله الأشرار قائلاً لهم: "ها هو بيدكم، لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء" [5].

كان للرؤساء سلطة الحكم عليه ولكن حكم الإعدام لابد من موافقة الملك عليه. وقد أبدى هذا بوادر الضعف والاستسلام فلم يرتدعوا، إلاَّ أنه لم يسمح لهم بقتله رأسًا، لذلك ألقوه في الجب ليموت هناك جوعًا.

كلمات الملك نفسها [5] تكشف عن شخصيته الضعيفة أو عن مركزه الضعيف، فكانت السلطة الحقيقية في يد الرؤساء الذين كانوا يحركون الملك كدمية في أيديهم، لأن نبوخذنصر أقامه ملكًا بعد سبي يهوياكين، وربما كان غير مقبولٍ من أحدٍ في الأمة كملك حقيقي، بل ينتظر الكل عودة الملك المسبي يهوياكين.

لقد صدر الحكم بإلقائه في جب به وحل ليموت هناك. وقد فضَّل إرميا أن يموت في وحْل الجُب ولا تُدفن كلمة الله في وحل العصيان أو المجاملة على حساب الحق.

كان يمكنه أن يهرب من هذا الوحْل إن تراجع عن نبواته وتخلّي عن كلمة الله ورسالته... لكنه رفض!

ألقوه ليموت جوعًا دون سفك دمه، ولم يدركوا أنهم يقتلون أنفسهم إذ حرموا أنفسهم من خبز الملائكة، كلمة الله. قَبِلَ أن يموت جسديًا بجوع من خبز العالم ولا يموت جوعًا من خبز الملائكة!

v     تُرك إرميا وحده يسبح الله؛ ألقوه في جب مملوء وحلاً، أما نفس هذا الرجل فكانت أثمن من كل الشعب.

أتريد أن تعرف ماذا يمكن لإنسان واحدٍ أن يفعل؟ كان يشوع بن نون وحده، بينما كان العالم كله مسكونًا. هناك كانت توجد جماهير بلا عدد أما هو فكان وحده بمفرده وأمر الشمس والقمر فتوقفا. أعطى إنسان أمرًا فاهتمت السماء! انصتت السماء إليه لأنه كان ينصت للرب...

ماذا يقول (ميا)؟ "جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا" (15: 17). كيف كنت وحدك في المدينة؟ أقول كنت وحدي لأنه لم يكن أحد معي يشاركني هدفي[600].

القديس جيروم

إذ أُلقى إرميا في الجب السفليّ تحولت حياته إلى صلاة، فصرخ إلى الله قائلاً:

"دعوت باسمك يارب من الجب الأسفل،

لصوتي سمعت،

لا تستر أذنك عن زفرتي عن صياحي،

دنوت يوم دعوتك،

قلت: لا تخف.

خاصمت يا سيد خصومات نفسي...

رأيت يارب ظلمي.

أقم دعواي..." (مرا 3: 55-59).

حين أُغلقت كل الأبواب في وجهه وجد أبواب الله مفتوحة. وجد أذني الرب تميل إليه وهو في الجب لتسمع صرخات قلبه الداخلية. يؤكد له الرب وعوده السابقة منذ لحظات دعوته: "لا تخف!"؛ ويشاركه آلامه، فيحسب الخصومات ضد إرميا كأنها خصومات ضد الله نفسه. يصير الله هو القاضي وهو المحامي الذي يقيم دعوى إرميا ضد مضطهديه.

إن كان هذا الأصحاح قد كشف عن دور عبد ملك الكوشي في خلاص إرميا، فإن مراثيه تكشف عن الذي قام بالدور الحقيقي هو الله سامع صلوات المظلومين... تحرك بالحب لينصت إلى أنينه، وحرَّك عبد ملك بالحنان ودبّر خلاص إرميا من الجب!

3. عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا:

"فلما سمع عبد ملك الكوشي رجل خصي وهو في بيت الملك أنهم جعلوا إرميا في الجب والملك جالس في باب بنيامين،

خرج عبد ملك من بيت الملك وكلم الملك قائلاً:

يا سيدي الملك قد أساء هؤلاء الرجال في كل ما فعلوا بإرميا النبي طرحوه في الجب،

فإنه يموت في مكانه بسبب الجوع،

لأنه ليس بعد خبز في المدينة.

فأمر الملك عبد ملك الكوشي قائلاً:

خذ معك من هنا ثلاثين رجلاً، وأطلع إرميا من الجب قبلما يموت.

فأخذ عبد ملك الرجال معه، ودخل إلى بيت الملك إلى أسفل المخزن،

وأخذ من هناك ثيابًا رثة وملابس بالية ودلاها إلى إرميا إلى الجب بحبال.

وقال عبد ملك الكوشي لإرميا ضع الثياب الرثة والملابس البالية تحت إبطيك تحت الحبال.

ففعل إرميا كذلك.

فجذبوا إرميا بالحبال وأطلعوه من الجب.

فأقام إرميا في دار السجن" [7-13].

كان هدف الرؤساء قتل النبي دون سفك دمه، بتركه يتعذب ويموت ببطئ في الجب.

ربما كان عبد ملك الكوشي خصيًّا، موظفًا في بيت نساء الملك، وربما كانت المخازن تحت يديه. ولعلَّ بعض النساء أشفقْن على إرميا النبي فاعتنين بأمره.

الرجل الغريب الجنس لم يقبل أن يرى إرميا في الوحل، فذهب إلى الملك وتحدث معه بصراحة... قائلاً له حقًا قد يموت إرميا في الجب، لكن بسبب هذا تموت المدينة كلها من الجوع [9].

العجيب في شخص عبد ملك أنه اتسم بالآتي:

أ. الشجاعة، فذهب إلى الملك وهو يعلم أن تكلفة هذا العمل هو هياج كل رجال الملك ضده، وربما تكون تكلفته حياته كلها.

ب. الإيمان: إن مات إرميا في الجب جوعًا ستموت المدينة كلها جوعًا، فإن ما فعلته المدينة بنبي الله يرتد عليها.

ج. تشغيل طاقات الآخرين لحساب ملكوت الله، فلم يعمل وحده بل أخذ ثلاثين رجلاً لرفع إرميا النبي بالحبال من الجب، مع أنه كان يمكن له وحده أو ربما معه شخص آخر أو أثنان للعمل، لكنه أراد أن يشرك الكثير في عمل الخير.

د. كان عجيبًا في رقته وحنانه، فكان يكفي لإرميا في الجب أن ُتلقى إليه الحبال ليمسك بها فإنه كاد أن يموت، لكن عبد ملك دلى ثيابًا بالية لكي يضعها النبي تحت أبطيه حتى لا يتجرح جسمه أو يشعر بألم! أحيانًا نطلب خلاص الآخرين لكن بعنف، فنتحدث معه بكلمات جارحة. ليتنا في خدمتنا للغير الاَّ نجرح مشاعر أحد.

إذ كان الوقت شتاءً لم يكن الجب مُحتملاً بسبب البرد القارص مع الوحل، مما يدفع بإرميا إلى الموت الأكيد!

وُجد عبد ملك الغريب الجنس يعمل بحب لحساب ملكوت الله، ففي كل جيلٍ نجد حتى في قصور الملوك والرؤساء أناسًا يعملون لمجد الله! بلا شك أن أمانة هذا الخصي الغريب الجنس كان لها أثرها على الملك الذي وثق فيه، واستمع إلى مشورته، وأعطاه سلطانًا لتحقيق خطته، دون مبالاة بما قد يحدث من الرؤساء أصحاب السلطة الذين حملوا عداوة مُرّة ضد إرميا. بأمانته شهد للحق وواجه بشجاعة ما لم يستطع غيره أن يفعله!

لعل عبد الملك هنا يشير إلى الأمم الذين يقبلون كلمة الله لخلاصهم فيشبعون من الخبز النازل من السماء، السيد المسيح؛ بينما أنزل بنو إسرائيل الكلمة النبوية إلى الجب ورفضوا المخلص وصاروا في مجاعة روحية. هذه كانت نبوة عن دخول الأمم إلى الإيمان، هؤلاء الذين رفضوا أن يدخل الناموس والأنبياء إلى وحل الحرف القاتل.

نزول إرميا إلى الجب يشير إلى الإنسان الذي ينزل بكلمة الله إلى وحل هذا العالم، فيحول حتى الكلمة التي لخلاص نفسه وتمتعها بالسماويات إلى وسيلة لطلب الزمنيات.

يقيم العلامة أوريجينوس مقارنة بين إرميا النبي الذي أُلقى في جب ملكي في دار السجن، حيث غاص في الوحل [6]، والقديس بطرس الذي صعد إلى السطح وهناك نظر رؤيا إلهية، فيقول بأن واجبنا كمؤمنين روحيين أن نصعد مع كلمة الله بالروح القدس لننال معرفة حقة ورؤى إلهية، ولا ندع كلمة الله أن تُلقى في الجب خلال أفكارنا الجسدانية وشهواتنا الشريرة. لقد أخذ عبد ملك ثلاثين رجلاً معه ورفعوا إرميا من الجب، بالقاء ثياب بالية إليه ليضعها تحت ابطيه مع الحبال [12]. من هو عبد ملك هذا إلا ربنا يسوع المسيح الذي صار عبدًا ليرفع أفكارنا وطبيعتنا من عمق الهاوية خلال الكنيسة (30 رجلاً) باتضاعه (الثياب البالية)؟! يليق بنا أن نقبل فقر ربنا يسوع المسيح لكي نُرفع إلى فوق ونرتدي الثياب السماوية الملوكية أبديًا. هكذا نجلس عن يمين الملك السماوي الذي نزل إلى الحفرة كي لا ننزل نحن إليها.

يرى العلامة أوريجينوس[601] أن هذه العبارات تطابق ما جاء في نشيد الأناشيد: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق سليمان" (نش 1: 5).

v     لست أظن أنه غير لائق أن نقول أن هذا الأجنبي الذي من جنس قاتم ignoble، الذي سحبه من جب الموت، هذا الذي ألقاه فيه رؤساء إسرائيل، يمثل شعب الأمم، الذين آمنوا بقيامة ذاك الذي مات، هذا الذي أسلمه هؤلاء الرؤساء للموت. بهذا الإيمان سحبوه مرة أخرى من الهاوية.

بل أظن أن هذا الأثيوبي ُيقال عنه أنه الخِصْيْ، لأنه خَصَى نفسه لأجل ملكوت السموات، بل لأن فيه ذاك الذي بلا بذار للشر (مت 19: 12).

هو أيضًا عبد الملك، لأن العبد الحكيم يحكم على سادة جهلاء، فإن كلمة "عبد ملك" تعني "عبدًا للملوك"[602] (أم 17: 2).

هذا هو سبب أن الرب الذي ترك شعب إسرائيل بسبب خطاياهم، يتحدث إلى الأثيوبي مخبرًا إيَّاه: "هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر لا للخير... ولكنني أنقذك في ذلك اليوم... فلا ُتسلَّم ليد الناس... بل إنما أنديك نجاة" (39: 17-18).

أما السبب الذي لأجله خلص، فهو أنه سحب النبي من الجب، أي أنه بإيمانه في قيامة المسيح من الأموات بطريقة عُبر عنها أنه سحبه من الجب[603].

العلامة أوريجينوس

لم يكن عبد الملك محتاجًا إلى ثلاثين رجلاً لرفع إرميا من الجب حتى ظن البعض أن الرقم الأصلي هو ثلاثة رجال، لكن بعض الدارسين يرون أنهم كانوا ثلاثين لا لرفعه وإنما لإنجاح مهمة عبد ملك، لئلا يحاول البعض من قبل بعض الرؤساء إفساد مهمته.

إذ تصرف عبد ملك بلطفٍ لإنقاذ النبي من الموت، وعده النبي بالخلاص من الخراب المقبل على أورشليم (39: 15-18). الله لا ينسى تعب المحبة من أجله ومن أجل خدامه، لذلك أنقذ عبد ملك الكوشي في يوم المدينة ولم يُسلم ليد أعدائه (39: 15- 18). كان أجنبيًا عن رعوية إسرائيل حسب الجسد، لكنه ابن إبراهيم حسب الإيمان الحيّ العامل بالمحبة.

وجد إرميا عطفًا من رجل غريب في وقت كاد أن يرفضه الكل!

4. لقاء سري مع الملك:

يروى لنا اللقاء الأخير والوداعي بين الملك وإرميا، كان فيه النبي صريحًا كل الصراحة. قدَّم كل ما في قلبه وما أعلنه له الرب، فقد أدرك أنه لن يرى الملك بعد... تحدث بصراحة كاملة حتى لا يُدان أمام الله!

"فأرسل الملك صدقيا وأخذ إرميا النبي إليه إلى المدخل الثالث الذي في بيت الرب،

وقال الملك لإرميا:

أنا أسألك عن أمر.

لا تخفِ عني شيئًا.

فقال إرميا لصدقيا: إذا أخبرتك أفما تقتلني قتلاً؟

وإذا أشرت عليك فلا تسمع لي؟

فحلف الملك صدقيا لإرميا سرًا قائلاً حيّ هو الرب الذي صنع لنا هذه النفس إني لا أقتلك ولا أدفعك ليد هؤلاء الرجال الذين يطلبون نفسك" [14-16].

بقوله: "أفما تقتلني قتلاً؟" لا يعني أن الملك نفسه يقتله، إنما يتخلى عنه حتى يقتله أعداءه كما سبق إن ألقوه في الجب، وربما قصد ألاّ يتركه يُلقى في الجب مرة أخرى.

"المدخل الثالث" لم يذكر إلا هنا، ربما هو مدخل الملك (2 مل 16: 18)، وهو مدخل سرى يسمح لدخول الملك اليائس في سرية ليستشير النبي المرزول من الملك وشعبه طويلاً.

عاد الملك صدقيا فأرسل إلى النبي قائلاً له: "أنا أسألك عن أمرٍ. لا تخفِ عني شيئًا..." [14]. ربما لأنه لم يكن مستريحًا في أعماقه لمشورة رجاله، فكان يود أن يسمع من رجل الله. ولعله ظن أنه صنع خيرًا بإرميا وأخرجه من الجب فيغير إرميا كلماته. كان يود أن يسمع النبي يتنبأ ليس حسب كلمات الرب بل حسب هواه الشخصي ليهدأ ضميره.

واضح من تصرفات صدقيا في أكثر من موقف ضعف شخصيته واهتزازها أمام رجال الدولة، إذ كان يدرك دور إرميا كنبي حقيقي، لكنه كان يصدر أوامره أحيانًا بالتخفيف كما سمح أن يُعطى رغيف خبز كل يوم من سوق الخبازين طالما في المدينة خبز... كما كان يستشيره سرًا، لكنه لم يطلقه ولا أعلن براءته. كانت تنقصه الشجاعة لذلك سلم إرميا بين يدي رجاله، إذ قيل: "ها هو بيدكم لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء" [5].

لا نعرف أيضًا ما الباعث هنا لأن يرسل الملك في طلب إرميا. لعلَّه أدرك أن النهاية وشيكة فأراد أن يسمع نصيحة النبي لينجو من الخطر. ولا يخفي أن الملك خشي التسليم وخاف من أعدائه من اليهود الذين كانوا قد غادروا المدينة من قبل، وحرَّضوا ملك بابل عليه.

يؤكد إرميا النبي للملك أنه يليق به ألاّ يخاف الناس، أي رجال الدولة، بل يخاف الله، فلا يعصي كلمته، بهذا ينقذ حياته، وينقذ أورشليم من حرقها بالنار.

لقد رسم إرميا النبي صورة مثيرة عن نتائج عصيان الكلمة الإلهية، وذلك خلال رؤيا أظهرها الله له، فقد شاهد بروح النبوة نساء القصر والأبناء يُقادون وهم ينشدون مرثاة مُرَّة تُعلن عن شعورهم بالخداع الذي مارسه الأصدقاء، متطلعين إلى الملك أنه قد غاص في الوحْل. تتناسب هذه المرثاة مع وضع إرميا الذي أُلقي في جب ليغوص في الوحْل حتى يموت [7]. لم يمت إرميا في الوحْل، إنما دفع الأنبياء الكذبة الملك في وحْل كذبهم فغاص في خداعهم. لقد أرسل الله عبد ملك الغريب الجنس لينقذ إرميا، أما الملك فلم يجد من ينقذه من وحْله!

5. نبوة عن رحمة مشروطة:

"فقال إرميا لصدقيا: هكذا قال الرب إله الجنود إله إسرائيل.

إن كنت تخرج خروجًا إلى رؤساء ملك بابل تحيا نفسك ولا تُحرق هذه المدينة بالنار، بل تحيا أنت وبيتك.

ولكن إن كنت لا تخرج إلى رؤساء ملك بابل،

تدفع هذه المدينة ليد الكلدانيين فيحرقونها بالنار وأنت لا تفلت من يدهم.

فقال صدقيا الملك لإرميا: إني أخاف من اليهود الذين قد سقطوا للكلدانيين لئلا يدفعوني ليدهم فيزدروا بي.

فقال إرميا: لا يدفعونك.

اسمع لصوت الرب في ما أكلمك أنا به، فيحسن إليك، وتحيا نفسك.

وإن كنت تأبى الخروج، فهذه هي الكلمة التي أراني الرب إياها.

ها كل النساء اللواتي بقين في بيت ملك يهوذا يخرجن إلى رؤساء ملك بابل وهن يقلن قد خدعك وقدر عليك مسالموك.

غاصت في الحمأة رجلاك وارتدتا إلى الوراء.

ويخرجون كل نسائك وبنيك إلى الكلدانيين وأنت لا تفلت من يدهم،

لأنك أنت تُمسك بيد ملك بابل، وهذه المدينة تحرق بالنار" [17-23].

كان إرميا صريحًا كل الصراحة، فتحدث مع الملك بكلمات الرب، كما كان عجيبًا في حبه للغير، حتى للملك الذي دخل به إلى السجن فإنه يطلب له أن يخلص من الموت.

بما أن إرميا قد عرف أن الملك لا يقبل نصيحته، فإنه كلمة "اسمع" يكون معناها هنا "إذا سمعت".

قدم له سبع نبوات خطيرة إذا لم يسمع لصوت الرب ويخرج إلى رؤساء ملك بابل، وقد تحققت هذه النبوات حرفيًا:

أ . تسليم المدينة في أيدي رؤساء ملك بابل [17-18].

ب. يحرقون المدينة بالنار [18، 23].

ج. لن يفلت الملك من أيديهم.

د . يخرج كل نساء الملك إلى الرؤساء [22].

هـ. يقدم النساء مرثاة على الملك، قائلاًت: لقد خدعك أصدقاؤك [23]. وردت هذه المرثاة في عوبيديا 7: "طردكَ إلى التُخم كل معاهديك، خدعك وغلب عليك مسالموك؟ أهل خبزك وضعوا شركًا تحتك؛ لا فهم فيه".

في الشرق  يشعر الإنسان بخجلٍ شديدٍ عندما يصدر التوبيخ من امرأة، كم بالأكثر إن صدر هذا نحو ملك، خاصة وإن كانت النساء هن نساء قصره.

و. يُرسل نساء الملك وبنوه إلى الكلدانيين.

ز. يهرب الملك لكن يلقي ملك بابل القبض عليه.

تتم هذه النبوات الخطيرة  في حياة كل إنسانٍ يرفض كلمة الرب ويعمل حسب مشيئته البشرية:

v     تُسلم مدينة قلبه إلى أيدي رؤساء ملك بلبل، أي تسقط تحت خطايا كثيرة تفقده حريته الداخلية، وتسلبه سلامه الحقيقي، فيعيش مستعبدًا في مذلةٍ وعارٍ.

v     تحرق المدينة أورشليم الداخلية بنار الشهوات عوض أن تلتهب بنار الروح القدس وتشتعل بالحب الإلهي.

v     لن يفلت الملك من أيديهم بل يسقط أسيرًا فيُنزع عنه سلطانه الملوكي. هكذا تفقد الخطية سلطان الإنسان، وتحرمه من الملوكية ليعيش في ضعف.

v     أما نساؤه أي طاقات جسده وغرائزه وأحاسيسه ومشاعره فتخرج إلى الرؤساء؛ أي تُمتص في الشر، وتتحد مع الفساد عوض تقديسها لحساب الرب.

v     المرثاة التي تقدمها النساء تشير إلى شهادة أعماق الإنسان نفسه ضده، فبعد سقوطه في الفساد، يشعر بالخيبة والضياع، لكنه يفقد حرية الإرادة والقدرة على التصحيح.

v     إرسال النساء والبنون إلى الكلدانيين، تعني حرمان الإنسان من أرض الموعد والتمتع ببيت الرب الروحي ليحيا كما في السبي.

v     هروب الملك صدقيا وقبض ملك بابل عليه يشير إلى فشل المحاولات البشرية للخلاص دون الالتجاء إلى الطاعة لكلمة الله والتمسك بالنعمة الإلهية.

6. صدقيا يخشى الرؤساء:

"فقال صدقيا لإرميا: لا يعلم أحد بهذا الكلام فلا تموت.

وإذا سمع الرؤساء أني كلمتك وأتوا إليك وقالوا لك أخبرنا بماذا كلمت الملك لا تخفِ عنا فلا نقتلك وماذا قال الملك.

فقل لهم إني ألقيت تضرعي أمام الملك حتى لا يردني إلى بيت يوناثان لأموت هناك.

فأتى كل الرؤساء إلى إرميا وسألوه فأخبرهم حسب كل هذا الكلام الذي أوصاه به الملك فسكتوا عنه لأن الأمر لم يسمع" [24-27].

سمع الرؤساء عن هذا اللقاء السري الذي تمّ بين الملك وإرميا النبي، وعرفوا جانبًا واحدًا من الحديث وهو الجانب الذي لا يهمهم، أما الأمور الخطيرة فقد أُخفيت عنهم.

لسنا ندري لماذا خاف الملك من إشاعة هذا الكلام بين الناس. ولعله خاف أن يعرف الناس شيئًا عن قلق نفسه وميله للاستسلام. ص 155، 156

7. بقاء إرميا في الحبس:

"فأقام إرميا في دار السجن إلى اليوم الذي أُخذت فيه أورشليم" [28].

سمح الله لإرميا أن يبقى في دار السجن حتى سقوط أورشليم، ربما لكي لا يرى بعينيه انهيار مدينته المحبوبة جدًا لديه، بينما عاد الملك صدقيا إلى قصره يحمل في جعبته صورة حيّة عمّا كان يجب عليه أن يفعله، لكن لم تسعفه جرأته لفعل شيء ما. بمعنى آخر كان إرميا ملقيًّا في السجن لكنه يحمل روح الحق بشجاعة، بينما دخل الملك قصره يترقّب لحظات هلاكه وهلاك شعبه وبلده!

 


 

من وحي إرميا 38

أطلقني من الجب السفلي

v     نطق إرميا بكلمة الحق أمام الكل،

 فأنزلوه في جب سفليّ!

 أرادوا أن يطمروا كلماته في الوحْل،

 ويكتموا فمه الناري فلا ينطق بكلمة!

 ويخلصوا من حياته التي تبكتهم!

v     ظنوا أنهم يقتلونه بالجوع دون سفك دمه،

 ولم يدركوا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

 بل بكل كلمة تخرج من فم الله!

 ألقوه ليموت جوعًا من خبز العالم،

 وإذا بهم يموتون جوعًا من خبز الحياة!

 حرموا أنفسهم من كلمة الرب،

 من خبز الملائكة واهب الحياة!

v     نعم! تحوَّل قلبي إلى جب سفليّ،

 نزلتُ بكلمتك كما إلى وحلّ هذا العالم،

 ولم أرد أن ترتفع بأعماقي إلى نور سمواتك العليا!

v     لم ترسل لي عبد ملك الكوشي ليرفعني،

 بل صرت عبدًا لتهبني بنوتك العجيبة نعمة مجانية!

 لم تلقِ بحبال مادية لأمسك بها،

 بل ألقيت عليّ بحبال حبك الإلهي لتقتنصني!

 لم تترفق بي بثيابٍ بالية أضعها تحت إبطي،

 بل سكنت فيّ ووهبتني روحك القدوس،

 تقدم لي شركة الطبيعة الإلهية!

 نعم! ارتديت طبيعتي كثيابٍ بالية،

 فنزعت عنها فسادها وقدستها لحسابي!

v     لأمانته ألقوا إرميا في جب الضيق،

 لكن الجب قذفه إلى النور،

 بينما ألقت الخطية بالملك ورجاله إلى جب الذلٍ والعارٍ مع الهلاك!

v   هب لي ألاّ أخاف من الجب الذي يلقيني فيه الناس،

 بل أحذر الجب الذي تحدرني إليه إرادتي الشريرة وخطاياي!

<<


 

الأصحاح التاسع والثلاثون

سقوط أورشليم في السبي

يصف أحداث السبي، كيف حوصرت أورشليم وأُلقي القبض على صدقيا وهو هارب، ثم قام ملك بابل بقتل أبناء صدقيا أمام عينيه، كما قتل كل أشراف يهوذا، ثم فقأ عينيْ صدقيا وقيده بسلاسل وقاده إلى بابل.

1. سقوط المدينة[1-3].

2. أسر صدقيا[4-8].

3. سبي الشعب [9-10].

4. العناية بإرميا [11-14].

5. رسالة إلى عبد ملك [15-18].

1. سقوط المدينة:

كان نبوخذنصر حاضرًا في بدء الحصار، أما في نهايته حيث سقطت أورشليم فكان في ربلة (3، 6). بقي الملك خارج أورشليم بينما ترك رئيس جيشه يدخل في المعركة ضد يهوذا، وذلك لكي يمنع أية قوة خارجية لنجدة يهوذا تقترب إلى أورشليم، وكان كبار الأسرى يُرسلون إليه للمحاكمة الفورية.

"في السنة التاسعة لصدقيا ملك يهوذا في الشهر العاشر أتى نبوخذراصر ملك بابل وكل جيشه إلى أورشليم وحاصروها.

وفي السنة الحادية عشرة لصدقيا في الشهر الرابع في تاسع الشهر فُتحت المدينة.

ودخل كل رؤساء ملك بابل وجلسوا في الباب الأوسط،

نرجل شراصر وسمجرنبو وسرسخيم رئيس الخصيان ونرجل شراصر رئيس المجوس وكل بقية رؤساء ملك بابل" [1-3].

لقد بدأ الحصار في يناير من عام 588 ق.م.، وباستثناء هدنة قصيرة في الصيف استمر حتى يوليو سنة 587 ق.م، أي استمر الحصار حوالي سنة ونصف، بعدها انهارت كل مقاومة. فعندما انهزمت مصر أمام بابل وقرر المصريون ألا يهبوا لنجدة أورشليم ركز البابليون على اختراق أسوار أورشليم والإطاحة بالمدينة، ولم يكن أمام المدافعين اليهود الذين انهارت قواهم خيار سوى الاستسلام.

جلس رؤساء ملك بابل في الباب الوسط أي الرئيسي أو الثاني (صف 1: 10) في السور، الذي يفصل جزئي المدينة عن بعضهما البعض. إذ بُنيت مدينة أورشليم على خمسة تلالٍ، أهمها تل في الجنوب يُدعى صهيون أو مدينة داود (2 صم 5: 7)، والثاني في الشمال يدعوه يوسيفوس اكرا أو المدينة السفلي، بينهما وادي منخفض جدًا. الباب الوسط هو باب يربط بين هذيين الجزئين من المدينة، اللذين يدعيان أحيانًا المدينة العليا والمدينة السفلي. كان هذا الباب في الوسط، في قلب المدينة. توقف الرؤساء هناك ولم يتسللوا إلى الداخل حتى لا يعرضوا حياة أحدٍ منهم للقتل من الشعب.

جلس حاملوا أسماء الآلهة الوثنية في الموضع الذي اعتاد أن يجلس فيه حلقيا الذي يحمل اسم الله، وتحققت نبوة إرميا "فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم" (1: 15).

كلمة "جلس" تعبير عن الاحتلال العسكري أو إقامة معسكرعند الباب علامة استلام المنطقة.

 غالبًا مرت الفترة الأخيرة السابقة لانهيار المدينة دون احتكاك بين إرميا النبي ورؤساء يهوذا. فكان النبي في سجنه يئن داخليًا مترقبًا انهيار بلده بمرارة، وقد انكشفت أمام عينيه كل الأحداث هذه التي أعلنها في شيء من التفصيل للملك صدقيا. وكان صدقيا والرؤساء مع القيادات الدينية والعسكرية في ضعفٍ شديدٍ، فقد انهار الجند بسبب المجاعة، وأُغلقت أبواب الرجاء أمام عيونهم. أخيرًا إذ اقتحم الجيش البابلي المدينة أدرك الكل أن حماية الله قد رُفعت عنهم كما حدث لشمشون الذي حلّ به الضعف حينما قُص شعر نذره.

أقام قادة العدو مجلسًا عسكريًا عند الباب الرئيسي لأورشليم. يذكر هنا أربعة أسماء رؤساء ملك بابل، كان معهم أيضًا آخرون لا نعرف عددهم، ويلاحظ أن الأسماء المذكورة في [3] تختلف إلى حد ما عن تلك التي وردت في [13]. وهذا أمر طبيعي حين تُترجم الأسماء من لغةٍ إلى أخرى، خاصة إن كان أصل كل لغة مختلف عن الأخرى، كترجمة الأسماء البابلية إلى العبرية. ويرى البعض أن سبب الاختلاف هو ذكر الأسماء أحيانًا والألقاب أو الوظائف أحيانًا أخرى، وإن كان البعض يرى أن قائمة الأسماء الواردة في [13] تحتوي رؤساء جدد، فالتغيير ليس في الاسم بل في الشخص نفسه.

أ. نرجل[604] شراصر، في اللغة الأكادية Nergal-sar-usur معناها "نرجل يحمي الملك"، دُعي في [13] Rabmag، ربما كان هو الملك نيري جلسر (559-556 ق.م.)، الذي خلف نبوخذنصر على بابل بعد أن قتل أولاً أويل مرودخ بن نبوخذنصر في ثورة. وقد ورد اسم نيري جلسر في القرن السادس ق.م. في النصوص البابلية الشرعية وغيرها.

ب. سمجرنبو: أسم أكادي ربما معناه "تحنن يانبو"، ربما كان سمجرنبو لقبًا وليس اسم شخص، وفي الماسورية فإن سمجر منقولة عن اللقب البابلي المُنتسب لموظف من نابو Nabu.

ج. سرسخيم رئيس الخصيان Rab-saris. اسم أكادي معناه "رئيس العبيد" ، أو "رئيس الخصيان". كان صاحب مقام كبير وكانت له مهام عديدة دبلوماسية أو عسكرية.

د. نرجل شراصر رئيس المجوس أو رئيس الأطباء (رب ماج Rab-mag). Mag كلمة فارسية تعني عظيم أو قوي وكلمة "رب ماج" قد تعني "الأمير العظيم".

2. أسر صدقيا:

"فلما رآهم صدقيا ملك يهوذا وكل رجال الحرب هربوا وخرجوا ليلاً من المدينة في طريق جنة الملك من الباب بين السورين وخرج هو في طريق العربة.

فسعى جيش الكلدانيين وراءهم،

فأدركوا صدقيا في عربات أريحا،

فأخذوه وأصعدوه إلى ملك بابل إلى ربلة في أرض حماة،

فكلمه بالقضاء عليه.

فقتل ملك بابل بني صدقيا في ربلة أمام عينيه،

وقتل ملك بابل كل أشراف يهوذا.

وأعمى عينيْ صدقيا وقيده بسلاسل نحاس ليأتي به إلى بابل.

أما بيت الملك وبيوت الشعب فأحرقها الكلدانيون بالنار،

ونقضوا أسوار أورشليم" [4-8].

احتمى صدقيا الملك ورجال الحرب في الليل ليهربوا من وجه العدو، لكن لم يستطع أن ينجيهم. كان الأفضل لهم أن يحتموا في النور، بالطاعة لكلمة الله، فما كان قد حلّ بهم هذا العار بل والموت.

جاء في الترجمة السبعينية "نقض رئيس الطباخين Rab-tabbachim أسوار أورشليم" [8]. يقول الأب غريغوريوس (الكبير) [إن رئيس الطباخين هو البطن التي تهدم النفس المرتفعة والمشتاقة للسلام الفائق. يحطم رئيس الطباخين أسوار أورشليم... إذ تتحطم فضائل النفس بالشهوات[605]].

لقد تحققت النبوة (32: 4؛ 34: 3) أن صدقيا يرى ملك بابل ويتكلم معه فمًا لفمٍ، وأن يُقتل ابناؤه وتُفقأ عيناه (38: 17-23). وأُحرقت القصور بعد شهر من استلام المدينة أما سبب تأخير حرق المنازل فهو الانتظار حتى يُقدم رؤساء يهوذا إلى الملك في ربلة وينظر في قضيتهم.

كانت حديقة الملك تقع بالقرب من بركة سلوام (نح 3: 15)، بينما الباب الذي بين السورين ربما كان باب العين الذي ورد في (نح 2: 14، 12: 37) في جنوب صهيون والعربة كانت وادي الأردن العميق شمال البحر الميت، وهو مخرج يبدو أنه كان أفضل طريق للهروب إلى ما وراء الأردن إلى الصحراء العربية وربما قصد أن ينطلقوا من هناك إلى فرعون مصر. مع ذلك أُسر صدقيا وأتباعه وأحضروا إلى نبوخذنصر في معسكره في ربلة بالقرب من أرض حماة في شمال فلسطين ليُحاكموا كمجرمين ثوار ضد الحكم.

كان الحكم بالموت [6] هو المصير العادل  للقادة الذين يقودون مقاومة غير ناجحة في وجه الحصار طبقًا لتقاليد الحرب في الشرق القديم، وكان قلع العينين شكلاً آخر من أشكال العقوبة القديمة (قض 16: 21)، خاصة بالنسبة للثوار العنفاء.

3. سبي الشعب:

"وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والهاربون الذين سقطوا له وبقية الشعب الذين بقوا سباهم نبوزرادان رئيس الشرط إلى بابل.

ولكن بعض الشعب الفقراء الذين لم يكن لهم شيء تركهم نبوزرادان رئيس الشرط في أرض يهوذا،

وأعطاهم كرومًا وحقولاً في ذلك اليوم" [9-10].

سيق الشعب إلى بلدٍ غريب يسيرون مئات الأميال في مذلةٍ، وقد سبق أن أهلكهم الجوع والوبأ بسبب الحصار. لقد فقدوا مدينتهم وهيكلهم وممتلكاتهم... والآن يُساقون كالحيوانات تحت قيادة سادة قساة، وها هم لا يعرفون ما هو مصيرهم هناك.

أما الفقراء جدًا وهم قلة، لا حول لهم ولا قوة، لا يفيدون شيئًا في أرض السبي، تُركوا في يهوذا وسُلمت لهم الكروم والحقول التي جفت وخربت مع طول مدة الحصار لعلهم يصلحونها.

لعل البابليون أدركوا أن هؤلاء الفقراء لم يكن لهم دور في القرار الخاص بعدم الاستسلام أثناء الحصار، لذا تركوهم في أرضهم. ومن جانب آخر فإنه من الحكمة أن يرضوا الفقراء حتى متى عاد الكلدانيون إلى بابل ورحلت الجيوش عن أورشليم لا تحدث ثورة ضد بابل. ليس فقط تُرد ممتلكات هؤلاء الفقراء الذين نهبهم أغنياء بني جنسهم  واستغلوهم، وإنما ينالون ما كان للأغنياء.

v     يقودني نبوخذنصر الحقيقي مربوطًا بالسلاسل إلى بابل، أي إلى بابل الفكر المرتبك.

هناك يضع عليَّ نير العبودية،

هناك يضع خزامة من حديد في أنفي،

ويأمرني أن أرنم بتسبحة من تسابيح صهيون (2 مل 19: 28، مز 136: 3)[606].

القديس جيروم

4. العناية بإرميا:

"وأوصى نبوخذراصر ملك بابل على إرميا نبوزرادان رئيس الشرط قائلاً:

خذه وضع عينيك عليه،

ولا تفعل به شيئًا بل كما يكلمك هكذا افعل معه.

فأرسل نبوزرادان رئيس الشرط ونبوشزبان رئيس الخصيان ونرجل شراصر رئيس المجوس وكل رؤساء ملك بابل.

أرسلوا فأخذوا إرميا من دار السجن،

وأسلموه لجدليا بن أخيقام بن شافان ليخرج به إلى البيت.

فسكن بين الشعب" [11-14].

"رئيس الشرط" لقب قديم وهو حرفيًا: رئيس السقاة.

أطلق سراح نبي الله الآن وعومل باحترامٍ كبيرٍ، وقد كان القبض عليه عفويًا بسبب الجهل بشخصه، وقد عامله أهل ما بين النهرين البسطاء كرجل الله بنفس الاحترام الذي كانوا يقدمونه لأنبيائهم وعرَّافيهم في بابل.

يظهر من هذا الفصل أن ملك بابل فور فتح أورشليم اهتم بإرميا فأخرجه من السجن مكرمًا ليبقي مع الباقين في البلاد دون أن يُسبي. لكننا نرى في (40: 61) أن الأمر كان عكس هذا، إذ قُيِّد إرميا بسلاسل وأرسل مع المسبيين حتى وصل إلى رامة قبل أن يُطلق سراحه. ولسنا ندري هل سمع ملك بابل عنه من قبل بواسطة اليهود الذين أسروا مع يهوياكين إلى بابل، أم أخبره عنه بعض اليهود المأسورين اخيرًا قائلين إن إرميا حث صدقيا الملك أن يخضع لبابل ويدفع الجزية مسلمًا نفسه لهم عوض الثورة ضدها، وأنه بسبب ذلك عاني الكثير وأُلقي في السجن. يرى البعض أن القصتين في (39، 40) متكاملتان، فإنه بالفعل أطلق سراح إرميا من السجن فور سقوط المدينة، لكنه اقتيد مع الرؤساء إلى رامة، وهناك اطلق سراحه وسُمح له أن يختار موضع سكنه كيفما يُريد.

يعلق القديس جيروم على توصية نبوخذنصَّر لنبوزرادان على إرميا قائلاً:

[تمتع إرميا بميزة عظمى لأنه عُين لبركة البتولية.

حينما سُبي الكل، حتى أُستولى على أوان الهيكل... هو وحده تحرر من العدو، ولم يعرف مذلة السبي، وكان المنتصرون سندًا له.

لم يوصِ نبوخذراصَّر نبوزرادان على قدس الأقداس بل على إرميا. لأنه هو هيكل الرب الحق، هو قدس الأقداس، التي تكرس للرب بالبتولية الطاهرة[607]].

يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن إرميا وحده هو الذي انعتق من العدو ولم يؤخذ إلى الأسر باراداته. نبوخذنصر لم يهتم بالقدس والهيكل إنما اهتم بإرميا وحده، لأنه في عيني الله هو هيكل الرب الذي يحمل الرب في داخله.

يذكر لنا هذا الأصحاح أنه خلص من هذا الدمار ثلاثة:

أ. إرميا النبي الذي أوصى الملك بحسن معاملته.

ب. عبد الملك الغريب الجنس الذي وعده النبي بإنقاذه.

ج. القله القليلة من الفقراء جدًا الذين أُعطيت لهم الحقول.

هؤلاء جميعًا يشيروا إلى الكنيسة التي تتمتع بالمراحم الإلهية: فإرميا يشير إلى القلة من اليهود الذين قبلوا نبوات العهد القديم وتعرفوا على السيد المسيح وآمنوا به؛ وعبد ملك يشير إلى الأمم الذين قدموا إلى السيد المسيح وتمتعوا بخلاصه؛ أما القلة القليلة الفقيرة فتحمل سمة الكنيسة: "القطيع الصغير" الذي يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت" (لو 12: 32).

5. رسالة إلى عبد ملك:

بعث إرميا النبي وهو في السجن برسالة إلى عبد ملك الكوشي تحوي خمس نبوات:

أ. الشر الذي يحل بالمدينة.

ب. تحقيق كلمة الله في أيامه.

ج. لا يُسلم عبد ملك ليد من يخافهم.

د. خلاص عبد ملك من يد الأعداء.

هـ. لن يسقط بالسيف.

"وصارت كلمة الرب إلى إرميا إذ كان محبوسًا في دار السجن قائلة:

اذهب وكلم عبد ملك الكوشي قائلاً:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر لا للخير أمامك،

 فيحدث أمامك في ذلك اليوم.

 ولكنني انقذك في ذلك اليوم يقول الرب،

فلا تُسلم ليد الناس الذين أنت خائف منهم.

بل إنما أنجيك نجاة فلا تسقط بالسيف بل تكون لك نفسك غنيمة،

لأنك قد توكلت عليّ يقول الرب" [15-18].

إذ كان إرميا النبي أمينا ومخلصًا لكلمة الله لذلك وعده الله: "إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق" (15: 11). وها هو يحقق وعده معه.

لقد لقي إرميا معاملة طيبة من قبل رئيس جيوش بابل وملكها وكذلك عبد ملك الذي أنقذ حياة إرميا من الجب. ذكر الكتاب المقدس كثيرين أُنقذوا بسبب تقواهم. فلابد من أن نتساءل: هل هذا قانون ثابت في مجازاة الله للناس، لأننا كثيرًا ما رأينا  الصالحين الأتقياء قد هلكوا مع الأشرار الأردياء، لا سيما في أبان الحروب وكوارث الطبيعة. إننا نؤمن أن الله يجازي كل الناس بحسب أعمالهم، لكننا لا نحصر مجازاة الله في هذه الحياة، بل نعتقد بأنها تكون أضعافًا في الآخرة.


 

من وحي إرميا 39

في ملء الزمان

v     لكل أمر له ملء زمانه،

لقد حُذرت يهوذا مرة ومرات بأنبياء كثيرين،

وظنوا أنها مجرد تهديدات،

لكن في ملء الزمان تحققت كل النبوات المرّة،

وفي ملء الزمان خلص إرميا وأُنقذ عبد ملك الكوشي!

v     في ملء الزمان فقد صدقيا مملكته بعد إنذارات كثيرة،

وقُتل أولاده،

وصار أعمى

ومقيدًا بالسلاسل!

انهارت مدينته حتى الهيكل،

وأيضًا احترقت القصور!

v     نعم يا لعار الخطية!

تنزع عني سلطاني في الرب وتحطم إرادتي الحرة،

تفقدني اولادي: ثمار الروح المفرحة،

تنزع عني بصيرتي، فلا أدرك أسرار الله،

تجعلني مقيدًا، عبدًا أسيرًا!

أُنتزع كما من حضن إلهي، من مدينتي المقدسة،

وتحترق كل مواهبي وقدراتي!

يا لها من مرارة!

v     وفي ملء الزمان أُطلق إرميا من السجن مكرمًا حتى من الأعداء،

وأُنقذ عبد الملك الغريب الجنس،

وتمتع الفقراء بالحقول!

إذ ننتظر مواعيدك الإلهية نختبر الحرية الداخلية،

نرتفع فوق كل ضيقة وتجربة،

نملك مع الرب كما في حقله الإلهي!

v     متى يأتي ملء الزمان،

فيجدنا كإرميا النبي ننتظر الرب؟!

ونثق في ذراعه الأبدي الحامل لحياتنا؟!

ونترجى مواعيده الإلهية الصادقة؟!

<<


 

الأصحاحات 40-45

خبرات إرميا ونبواته

بعد خراب أورشليم

تقدم لنا الأصحاحات 40-45 خبرات ونبوات إرميا النبي بعد خراب أورشليم، أو خبرات أيامه الأخيرة على الأرض.

أولاً: الأيام الأخيرة لإرميا في يهوذا

كما بدأ إرميا النبي حياته في يهوذا وسط إصلاحات الملك يوشيا التي لم تمس قلوب القيادات الدينية ولا الشعب، بل انشغلوا بالشكليات وحدها، هكذا تنتهي حياته في أرض الموعد في أيام جدليا الذي أقامه ملك بابل واليًا على يهوذا، وكان هناك بارقة أملٍ للإصلاح، غير أنه لم يستمر كثيرًا إذ قتله بنو جنسه.

ثانيًا: اقامة جدليا واليًا على يهوذا

"جدليا" اسم عبرى معناه "يهوه عظيم". أقام نبوخذناصر جدليا بن أخيقام بن شافان حاكمًا على مدن يهوذا ووكيلاً عن ملك بابل، وكما نعلم أن أخيقام كان أحد الخمسة الذين أرسلهم الملك يوشيا إلى خلدة النبية ليسأل عن سفر الشريعة (2 مل 22: 12، 14)، وقد استخدم نفوذه لحماية إرميا (26: 24)؛ أقام في المصفاة.

ثالثًا: اغتيال جدليا

أفسد الحسد كل شيء، إذ قام شخص من الدم الملكي[608] يدعى إسماعيل بن نثنيا، - بلا شك كان يفكر في اعتلاء الحكم - وبتشجيع من بعليس ملك عمون، جاء مع عشرة من رجاله إلى جدليا في ضيافته وقتلوه وهو على المائدة يقدم لهم طعامًا بحبٍ. قتلوه هو وكل اليهود الذين معه والجنود الكلدانيين الذين تُركوا في الأرض بواسطة ملك بابل، كما قتلوا سبعين حاجًا يهوديًا كانوا مارين بالمصفاة في طريقهم إلى أورشليم لتقديم عطايا غير دموية للهيكل المتهدم، ربما بمناسبة عيدٍ ما. هؤلاء الذين كانوا في حزنٍ شديدٍ بسبب خراب الهيكل وتوقف الذبائح الدموية مع دمار المدينة وسبي الشعب. سبى إسماعيل ورجاله بنات الملك مع بعض اليهود، وانطلقوا بهم إلى بني عمون.

انطلق يوحانان والرؤساء الذين معه وراء إسماعيل حيث استطاعوا أن يطلقوا سراح المسبيين الذين كانوا مع اسماعيل وهرب إسماعيل وثمانية ممن معه إلى عمون (2 مل 25: 25؛ إر 40: 7؛ 41: 18).

لا جدال في أن يوحانان أحد رؤساء يهوذا كان رجلاً شجاعًا ووطنيًا ومخلصًا. في إخلاصه حذر جدليا من إسماعيل سرًا وفكَّر أن يقتله، لكن جدليا حسبه كاذبًا. إنما كانت تعوزه روح التقوى، وقد كان رجل أفعال، لكنه لم يكن رجلاً ينتظر الله ليرشده إلى الطريق الواجب سلوكه، فبدون تردد ولا سؤال من الرب قاد الموالين له والجماعة التي أنقذها من يد إسماعيل ورجاله إلى جيروت كمهام بالقرب من بيت لحم على الطريق إلى مصر. لقد صمم هو ومن معه أن يذهبوا إلى مصر خوفًا من وجه الكلدانيين، لأنهم كانوا خائفين بسبب ما فعله إسماعيل (42: 1، 43: 7).

رابعًا: استشارة إرميا شكليًا

قبل أن يهربوا إلى مصر ذهب يوحنان والذين معه إلى إرميا النبي الذي أخذوه معهم من المصفاة حيث كان يعيش وسط الشعب يطلبون منه الإرشاد من الرب، الكبير والصغير طلبوا منه أن يصلي إلى الرب ويشفع فيهم ليريهم الطريق الذي يسيرون فيه وقد وعدوا بالطاعة الكاملة لإرادة الرب، مهما تكن الظروف. حسب الظاهر كان  حسنًا أن يتوجهوا إلى الرب في مثل هذه الظروف يلتمسون منه الإرشاد، فيقولون: "ليت تضرعنا يقع أمامك فتصلي لأجلنا إلى الرب إلهك لأجل هذه البقية، لأننا قد بقينا قليلين من كثيرين كما ترانا عيناك، فيخبرنا الرب إلهك عن الطريق الذي نسير فيه والأمر الذي نفعله" (42: 1-3). كانوا يطلبون مشورة الله وشفاعة إرميا النبي بينما كانت رغبتهم في الذهاب إلى مصر لها جذورها العميقة في عقولهم كما في قلوبهم. كل ما كانوا يشتاقون إليه هو أخذ أمر ظاهري للذهاب إلى مصر، تحت مظهر أنهم يتممون إرادة الله، بينما كانوا قد وضعوا في قلوبهم أن يتمموا مشيئتهم الذاتية.

قال لهم إرميا "قد سمعت. هأنذا أصلي إلى الرب إلهكم كقولكم ويكون أن كل الكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به، لا أمنع عنكم شيئًا" (42: 3). يقول إرميا  "الرب إلهكم... والكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به" أي أنه سيكون وسيطًا لدى الله من قبلهم يتحدث باسمهم، فإن الله يريد أن ينتسب إليهم ويقدم لهم المشورة الصالحة.

يبدو حسب الظاهر أنهم يطيعون الرب طاعة كاملة (42: 5-6)، وقد سمح الرب بأن تمر عشرة أيام قبل أن يجيب على النبي.

خامسًا: رسالة إلهية مملؤة رجاءً وتحذيرًا

بعد عشرة أيام جاءت الإجابة من قبل الرب واضحة وصريحة، فأعلنها النبي علانية:

أ. جاءت الإجابة تحمل وعدًا إلهيًا يكشف عن شوق الله إلى بنائهم كبيت مقدس له، وغرسهم ككرمة من غرس يدىْ الله.

ب. مع الوعد والرجاء قدمت الإجابة الإلهية تحذيرًا من رفض الإرادة الإلهية من أجل تتميم الإرادة الذاتية.

أرادوا الهروب من أرض يهوذا خشية السيف والجوع، ليحتموا في مصر؛ فإذ بالسيف والجوع والوباء يلحق بهم هناك، بجانب سقوطهم تحت اللعنة والعار بسبب عصيانهم لله وانسكاب الغضب الإلهي عليهم. إذن سلامهم وحمايتهم ليست بالهروب إلى أرض معينة، بل بالتخلي عن الإرادة الذاتية والطاعة للإرادة الإلهية.

سادسًا: رفض المشورة الإلهية

رفضَ هؤلاء الذين تكلم إليهم إرميا بكلام الرب الواضح والصريح النصيحة والتوجيه، ولم يسمعوا لتحذيرات الرب، والسبب كما قال إرميا: "لأنكم قد خدعتم أنفسكم" (42: 20).

كانوا مصممين على تنفيذ إرادتهم الذاتية عندما طلبوا من إرميا أن يصلي إلى الرب طلبًا للإرشاد، وبهذا سقطوا في الكبرياء الذي يحرم من الاعتراف بالخطأ وتقديم التوبة (43: 1-3).

اتهموا إرميا أن نبوته كاذبة، لا ينطق بكلمة الرب بل يتكلم بالكذب. قالوا نحن سألناك أن تقول لنا كلمة الرب لكنك أخبرتنا بأقوال باروخ لكي يدفعنا في يد الكلدانيين فيقتلوننا ويقومون بسبينا.

سابعًا: ذهابهم إلى مصر

رفضوا صوت الرب على لسان إرميا قبل حدوث السبي ورفضوا كلامه أثناء السبي، وها هم يرفضونه بعد السبي ويذهبون إلى مصر ويأخذون معهم إرميا وباروخ بن نيريا بالقوة (43: 5-7).

ثامنًا: إرميا في مصر

ختم إرميا حياته لا في أرض الموعد، بل محمولاً من شعبه إلى مصر، حيث الآلهة الوثنية والوصية المكسورة!

أراد الرب أن يُعلِّم الشعب درسًا بطريقة رمزية فأمر إرميا أن يأخذ بيده حجارة كبيرة ويطمرها في الملاط (الطين) في الملبن (مكان صنع اللبن، أي قوالب الطوب الني) الذي عند باب بيت فرعون أمام قصره أو خلفه في تحفنحيس أمام رجال يهوذا. وقد جذب إرميا انتباه الشعب بهذه الوسيلة لكي يعلن لهم القضاء باسم رب الجنود إله إسرائيل فقيل: "هأنذا أرسل وآخذ نبوخذناصر ملك بابل عبدي وأضع كرسيه فوق هذه الحجارة التي طمرتها..." (43: 8-13).

إن كانوا قد هربوا من يهوذا إلى مصر من وجه ملك بابل، كي لا ينتقم منهم، غير واثقين في مواعيد الله، فإن ملك بابل يلحق بهم وبفرعون الذي احتموا فيه، يضع كرسيه على الحجارة الكبيرة التي منها يقيم فرعون قصره، حتى وإن اختفت هذه الحجارة وسط الملاط.

أنذر إرميا النبي اليهود في مصر بسبب حياتهم الفاسدة (44: 1-14). فإن هذه البقية التي نزلت إلى مصر مارست العبادة الوثنية في مصر، لهذا يذكِّرهم الرب بما حدث لهم وهم في مملكة يهوذا.

لم يجد هذا التحذير الخطير أذنًا صاغية، فقد جاء الرد من الرجال بكل عنفٍ: "إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب" (44: 16). وأكثر من ذلك نسبوا الخير والشبع عندما كانوا في أرض يهوذا إلى تبخيرهم لملكة السموات، وحين كفوا عن التبخير لملكة السموات حلّ عليهم الفناء والجوع انظر (44: 17-19). جاء جواب الرب لهم قاطعًا ليعلن أن ممارساتهم الوثنية هي التي استنزلت عليهم غضب الله (44: 20-23).

أما النساء فكان لهن من الرب كلمة خاصة، لأنهن كن يتزعمن تلك الممارسات الوثنية المهينة لاسم الرب (44: 27-28).

أعطاهم الرب علامة عن الهلاك القادم حتى إذا حدث يعرفون أن ساعة دينونتهم لن تتوانى بعد. العلامة هي أن فرعون حفرع ملك مصر سيُدفع إلى يد أعدائه وإلى يد طالبي نفسه كما دُفع صدقيا ملك يهوذا إلى يد نبوخذنصر ملك بابل عدوه وطالب نفسه [29-30]، بذلك تنكسر القصبة المرضوضة التي اتكأوا عليها.

تاسعًا: اهتمام شخصي بباروخ

وسط هذه الأحداث الخطيرة أساء الشعب إلى باروخ، متهمًا إياه أنه مثير لإرميا كي يدفع بالشعب إلى البقاء في يهوذا فيهلكهم ملك بابل. لا نعرف ماذا كان رد فعل باروخ الذي حُمل مع إرميا إلى مصر، إنما يبدو أنه مرْ بمرحلة قاسية خلال الضعف البشري، فدخل في حالة إحباطٍ شديدة. ربما بدأ يفكر في نفسه كيف صار موضع اتهام كخائنٍ وطني. على أي الأحوال، الله لم ينساه وسط هذه الأحداث، فجاء الأصحاح 45 حديثًا موجهًا إليه. الله لا ينسى أحدًا من خائفيه أينما وجد ومهما كانت الظروف!

<<


 

الأصحاح الأربعون

إرميا مع جدليا في أورشليم

يوضح هذا الأصحاح ثلاثة أمورٍ:

أولاً: كانت معاملة العدو لإرميا رقيقة، تناقض تمامًا ما لاقاه من بني جنسه.

ثانيًا: غاية إقامة جدليا حاكمًا:

أ. يمتص طاقة النشاط الفدائي المعادي لبابل ويكسب ودهم، كما يعطيهم الطمأنينة.

ب. تقديم المساعدة للفلاحين حتى لا يثوروا على بابل، بل يقدموا جزية من المحاصيل.

ثالثًا: تدبير إسماعيل بن نثنيا من السلالة الملوكية مؤامرة لقتل جدليا.

1. قرار إرميا [1-6].

2. جدليا الحاكم [7-12].

3. الكشف عن مؤامرة ملك بني عمون [13-16].

1. قرار إرميا:

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب بعدما أرسله نبوزرادان رئيس الشرط من الرامة،

إذ أخذه وهو مقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أورشليم ويهوذا الذين سبوا إلى بابل.

فأخذ رئيس الشرط إرميا وقال له:

إن الرب إلهك قد تكلم بهذا الشر على هذا الموضع.

فجلب الرب وفعل كما تكلم لأنكم قد أخطأتم إلى الرب ولم تسمعوا لصوته فحدث لكم هذا الأمر" [1-3].

يلاحظ أن الأصحاح اُفتتح بالعبارة: "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب"... مع ذلك لا نجد رسالة معينة يقدمها الرب. لعل إرميا حسب أن كلمات رئيس الشرط له ليست من عنده بل هي كلمة الرب التي يوجهها الله لشعبه، فإن ما نطق به هذا القائد الكلداني الغريب الجنس لم يكن إلا ملخصًا لما نادى به الأنبياء للشعب ولم يسمعوا لهم. لقد قدم الرجل الوثني تفسيرًا لاهوتيًا وروحيًا لهزيمتهم، الأمر الذي لم يكن ممكنًا للشعب اليهودي أن يفهمه أو يتقبله.

إذ قال رئيس الشرط الوثني لإرميا أن ما حلّ بالشعب هو ثمر خطاياهم وعدم سماعهم للصوت الإلهي. هذه الشهادة لا يمكن أن تكون قد حدثت عن فراغ، بل لابد وأن البابليين أدركوا أن نصرتهم على يهوذا واستيلائهم على العاصمة لم يتحقق بطريقة طبيعية، إنما خلال تدخلٍ إلهيٍ، ليس من جانب آلهتهم الوثنية بل من جانب الله الحيّ.

بلا شك أدهشت كلمات رئيس الشرط إرميا النبي وثبّتت بالأكثر إيمانه، كما انتشرت بين اليهود فصارت لتوبيخهم؛ كأنها رسالة إلهية موجهة إلى المسبيين ينطق بها رجل وثني عدو.

يظهر الله كيف أنه يكافئ متقيه السامعين لكلمته الشاهدين له بالحق في حياتهم، إذ يجعل حتى الأعداء يسالمونهم.

بالرغم من اتفاق رئيس الشرط في الفكر اللاهوتي مع إرميا إلا أن إرميا لم يجبه بكلمة، ولم يعلق على كلماته، حتى لا يتهمه الحاضرون أنه عميل بابلي.

أُقتيد إرميا مع المسبيين مقيدًا بالسلاسل حتى وقف أمام رئيس الشرط، وهناك عُزل عن المسبيين لكي تُعطى له كرامة وهدايا مع حرية الحركة، بينما صار الآخرون في مذلة وحرمان. كان من الصعب عزل إرميا من بين صفوف المسبيين، لكن حان الوقت للكشف عن كرامته ومجده. هكذا يصعب في العالم أن نميز بين المؤمنين العاملين الحقيقيين وغيرهم، لكن اليوم سيظهر مجد كل أحدٍ أو عاره!

"الرامة" [1] معناها "المرتفع"، أُطلق هذا الاسم على مواضع كثيرة، لكن هنا غالبًا ما يُقصد بها قرية تبعد حوالي 6 أميال شمال أورشليم، وتبعد حوالى ميلين أو ثلاثة من المصفاة. بناها بعشا ملك إسرائيل وحصنها لكي لا يدع أحدًا من شعبه يخرج أو يدخل، غير أن ملك يهوذا دبّر له مكيدة وانتزعها منه (1 مل 15: 17-22).

إليها جُمع اليهود حيث رُحِّلوا إلى السبي البابلي، وإليها عادوا بعد رجوعهم من السبي (عز 2: 26؛ نح 11: 23). مكانها اليوم "الحرم".

شهدت هذه القرية أحداثًا تاريخية هامة منها أن كلاَّ من  سنحاريب ملك أشور، ونبوخذنصر ملك بابل وتيطس الروماني ألقى منها أول نظرة على أورشليم!

"فالآن هأنذا أحلّك اليوم من القيود التي على يدك.

فإن حسن في عينيك أن تأتي معي إلى بابل فتعال،

فأجعل عيني عليك.

وإن قبح في عينيك أن تأتي معي إلى بابل فامتنع.

انظر. كل الأرض هي أمامك، فحيثما حسن وكان مستقيمًا في عينيك أن تنطلق فانطلق إلى هناك.

وإذ كان لم يرجع بعد قال:

ارجع إلى جدليا بن أخيقام بن شافان الذي أقامه ملك بابل على مدن يهوذا،

وأقم عنده في وسط الشعب،

وانطلق إلى حيث كان مستقيمًا في عينيك أن تنطلق.

وأعطاه رئيس الشرط زادًا وهدية وأطلقه.

فجاء إرميا إلى جدليا بن أخيقام إلى المصفاة،

وأقام عنده في وسط الشعب الباقين في الأرض" [4-6].

كان هناك أمر من الملك إلى رئيس الشرط أن يكرم إرميا النبي، لكن الجند المسئولين عن القاء القبض على اليهود وترحيلهم إلى الرامة تحت كثرة الأعباء اتوا بإرميا وسط الأسرى، مقيدًا بالسلاسل خطأ. وإذ تعرف عليه نبوزاردان رئيس الشرط اطلقه في الحال وأعطاه حرية الحركة.

يرى البعض أن رئيس الشرط جاء بعد شهر من احتلال أورشليم ليكمل تدميرها، في ذلك الوقت اطلق إرميا حرًا.

سمع نبوزردان رئيس الشرط عن إرميا وكيف كان يشير على الملك صدقيا أن يخضع لبابل فظنه من رجاله. بعد أن حلّه من القيود أعطاه حق الخيار أن يذهب إلى بابل أو يبقى في يهوذا، فاختار أن يرجع إلى جدليا الذي ينتمى إلى عائلة شافان المتعاطفة مع النبي، ويقيم عنده وسط الشعب. رفض أن يُكرم في بابل ليعيش مع الشعب المسكين في يهوذا يشاركهم أتعابهم وآلامهم، يسكن مع أولئك الذين حسبهم البابليون ليسوا أهلاً لنقلهم حتى كأسرى إلى بابل. هكذا تشبّه بموسى النبي الذي قيل عنه: "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24-25). هكذا اشترك أنبياء العهد القديم في عار المسيح الباذل حياته بفرح عن شعبه.

 كان من الحكمة ألا يذهب إرميا مع المسبيين في بابل، لأنه كان بلاشك سيلقي كرامة من الملك، فيثبت في ذهن اليهود أنه عميل بابلي وخائن لوطنه.

لم يكن ممكنًا لجدليا أن يقيم في أورشليم حيث كانت قد خربت تمامًا لا تصلح للسكن (مرا 2: 13؛ 4: 1)، لذا اختار المصفاة التي يحتمل أن يكون في موقعها الآن تل النصبة، تبعد حوالى 8 أميال شمال غرب أورشليم وقريب جدًا من الرامة وتقع في جنوبها الغربي؛ كانت مركزًا هامًا من الجانب السياسي والديني عبر القرون. وهي تتبع سبط بنيامين، فيها كان صموئيل يقضي بين الشعب، وأُختير شاول ملكًا (1 صم 7: 15 الخ؛ 10: 17). لا توجد أية علامات أن المصفاة قد مرت في هذه الفترة بمرحلة تدمير[609] بذات القوة التي حدثت مع أورشليم ومدن يهوذا[610].

واضح من [4] أن إرميا لم يكن متوقعًا ما قيل له، أي أن تُعطى له الحرية في اختيار موضع الإقامة، لهذا إذ سمع كلمات رئيس الشرط صمت قليلاً، لعله كان يفكر ليأخذ قراره، أو يرفع قلبه لله يطلب المشورة، أو لعله كان يطلب مهلة لأخذ قرارٍ خطيرٍ في حياته كهذا. لهذا قال له رئيس الشرط: "ارجع إلى جدليا" [4]؛ هناك يأخذ قراره كما يشاء!

مهما كانت الأمور واضحة ليتنا لا نتسرع في أخذ قراراتنا خاصة المصيرية أو التي تمس حياة إخوتنا، بل نتمهل ونطلب مشورة الله.

2. جدليا الحاكم:

"فلما سمع كل رؤساء الجيوش الذين في الحقل هم ورجالهم أن ملك بابل قد أقام جدليا بن أخيقام على الأرض،

وأنه وكّله على الرجال والنساء والأطفال وعلى فقراء الأرض الذين لم يسبوا إلى بابل،

أتى إلى جدليا إلى المصفاة إسمعيل بن نثنيا ويوحانان ويوناثان ابنا قاريح وسرايا بن تنحومث وبنو عيفاي النطوفاتي ويزنيا ابن المعكى هم ورجالهم.

فحلف لهم جدليا بن أخيقام بن شافان ولرجالهم قائلاً:

لا تخافوا من أن تخدموا الكلدانيين.

اسكنوا في الأرض واخدموا ملك بابل فيُحسن إليكم.

أما أنا فهأنذا ساكن في المصفاة لأقف أمام الكلدانيين الذين يأتون إلينا" [7].

إن كانت يهوذا قد صارت مستعمرة بابلية، لكن كان لها الحق أن تحتفظ بسماتها الخاصة تحت قيادة والٍ من شعبها يخضع سياسيًا لملك بابل ويدفع له الجزية.

المدن التي أشير إليها في [10] هي تلك التي خربت بواسطة الكلدانيين، لكن مع بدء ولاية جدليا عادت إليها الحياة، خاصة بعودة الهاربين من وجه بابل. كان هناك بارقة أمل لانتعاش يهوذا لو بقى جدليا في الحكم. فقد عاد الذين التجاؤا إلى دول أخرى مثل موآب وعمون وآدوم ليمارسوا حياتهم في ظل الاستعمار البابلي.

إذ جمع الراجعون خمرًا وتينًا كثيرًا شعر البعض أن ذلك علامة بركة الرب، إذ لازال ينتظر أن يعمل لإصلاح شعبه. هؤلاء الذين شبههم إرميا النبي بالتين الجيد جدًا [24].

 "أما أنتم فاجمعوا خمرًا وتينًا وزيتًا وضعوا في أوعيتكم واسكنوا في مدنكم التي أخذتموها،

وكذلك كل اليهود الذين في موآب وبين بني عمون وفي أدوم والذين في كل الأراضى سمعوا أن ملك بابل قد جعل بقية ليهوذا وقد أقام عليهم جدليا بن أخيقام بن شافان.

فرجع كل اليهود من كل المواضع التي طُوحوا إليها وأتوا إلى أرض يهوذا إلى جدليا إلى المصفاة وجمعوا خمرًا وتينًا كثيرًا جدًا" [7-12].

إذ عُرف جدليا كرجل سلامٍ، كانت رسالته أن يعيد إلى يهوذا حياتهم العادية، وأن يخضعوا للكلدانيين بغير تخوفٍ منهم، وأن يستقبل اليهود العائدين من موآب وبني عمون وآدوم، وكانوا غالبًا من الجنود.

كان جدليا يرفض الثورة ضد بابل، متأثرًا بإرميا وغيره من الأنبياء، لذلك عينه ملك بابل وكيلاً له، وواليًا على يهوذا.

3. الكشف عن مؤامرة ملك بني عمون:

"ثم إن يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين في الحقل أتوا إلى جدليا إلى المصفاة.

وقالوا له:

أتعلم علمًا أن بعليس ملك بني عمون قد أرسل إسمعيل بن نثنيا ليقتلك؟!

فلم يصدقهم جدليا بن أخيقام.

فكلم يوحانان بن قاريح جدليا سرًا في المصفاة قائلاً:

دعني أنطلق وأضرب إسمعيل بن نثنيا ولا يعلم إنسان.

لماذا يقتلك فيتبدد كل يهوذا المجتمع إليك وتهلك بقية يهوذا؟!

فقال جدليا بن أخيقام ليوحانان بن قاريح لا تفعل هذا الأمر،

لأنك إنما تتكلم بالكذب عن إسمعيل" [13-16].

يقصد بـ "رؤساء الجيوش في الحقول" [13] ضباط الجنود المسرحين (2 مل 25: 5) الذين خافوا أولاً من معاملة بابل لهم، ولكنهم تأكدوا فيما بعد (في أية 9 حلف لهم جدليا قائلاً "لا تخافوا") أنهم سينالون العفو إذا خضعوا واستسلموا وعادوا يستغلون الأرض ويخضعون لجدليا وحكومته في المصفاة. ورجع أيضًا اليهود الذين غادروا البلاد قبل هجوم بابل وكانوا قد التجأوا إلى شرق الأردن.

إذ بدأ السلام يدب في يهوذا، وتجمعت طاقات ممتازة حول جدليا، وبدأت الحقول تأتي بثمار... بعث بعليس ملك بني عمون إسماعيل بن نثنيا ليقتل جدليا وقد حذر رؤساء الجيوش جدليا منه مؤكدين له وجود مؤامرة مدبرة لقتله لتحطيم بقية يهوذا، أما هو فلم يصدق.

ما كان يشغل قلب يوحنان ليس الخوف على قتل جدليا، وإنما انهيار النبتة الجديدة لإقامة دولة يهوذا التي خربت تمامًا بواسطة البابليين، وقد صار هناك بارقة أمل لتجميع الجهود ولو تحت الاستعمار البابلي. فكان في رأيه أن قتل إسماعيل أفضل من ضياع الأمة كلها.

لقد أخطأ جدليا إذ لم يسمع لهم، وكان يليق به أن يرفع قلبه بالصلاة يطلب مشورة الله، وأن يلجأ إلى إرميا النبي الذي كان ملاصقًا له. هنا تظهر خطورة اتكال الإنسان على أفكاره وحده.

كان بعليس ملك عمون في شرق الأردن ينتظر اغتنام فرصة رجوع جيوش بابل إلى وطنهم ليملك على ما بقي من البلاد في غرب الأردن، ويقتل جدليا وكيل ملك بابل.

ما هي دوافع بعليس ملك عمون في اغتيال جدليا؟

دوافعه غير واضحة:

أ. واضح أنه يريد أن يسبب قلاقل للبابليين كما يظهر من (حز 21: 18-32). حيث خطط نبوخذنصر للغزو في الغرب في سنة 587 ق.م.، مهاجمًا بني عمون ويهوذا كمقاومين له.

ب. يحتمل أن صدقيا كان يحاول الهروب إلى بني عمون ناظرًا إلى ملكها كحليفٍ له. لذلك تطلع بعليس إلى جدليا كخائنٍ وعميلٍ بابلي، وأن إسماعيل الذي من نسل ملوكي أولى بالحكم لأنه في نظره مخلص ليهوذا.

ج. يحتمل أن يكون هناك عداوة شخصية بين بعليس وجدليا.

د. لعل بعليس أراد أن يحطم البقية من يهوذا التي بها بارقة أمل لقيام دولة لليهود مرة أخرى[611].

حذر يوحنان جدليا وأخبره عن المؤامرة، لكن جدليا لم يصدق الذين أنذروه ولم يسمح بقتل المشتبه فيه، مبعوث ملك عمون. لم يصدق جدليا ما قيل له من يوحنان وزملائه، لأنه كان يعرف إسماعيل شخصيًا حينما كان يعمل في القصر وكان إسماعيل أميرًا ملوكيًا. أو ربما لم يكن ممكنًا لجدليا أن يعتقد بأن أحدًا، خاصة من النسل الملوكي، ألا يكون مخلصًا في إعادة قيام يهوذا ولو في ظل الاستعمار البابلي.

واضح أن إسماعيل سقط في خطية الحسد التي تدفع الإنسان إلى سلسلة لا تنقطع من الخطايا، إذ تحول حياته إلى جحيم كراهية بلا سبب وبلا هدف. هنا يرتكب اسماعيل الخطايا التالية:

أ. اغتيال جدليا دون مراعاة لواجب الضيافة، إذ قدم له جدليا مائدة وأكلا معًا؛ عوض الشكر قدم الغدر والخيانة، ولم يراعِ حتى ظروف البلده.

ب. سحبته الخطية إلى خطية أخرى وهي قتل كل اليهود الذين كانوا مع جدليا.

ج. قتل رجال الحرب الذين لم يتوقعوا هذه الخيانة ولم يكونوا مستعدين لمقاومته هكذا بدد كل الطاقات التي كان يمكن ان تكون لبنيان بلده.

د. قتل سبعين رجلاً من الثمانين القادمين ببكاء ومرارة من شكيم وشيلو والسامرة للذهاب إلى أورشليم وتقديم بعض العطايا... قتلهم بلا ذنب! جاء هؤلاء الرجال من شكيم وشيلو والسامرة لزيارة بيت الرب عابرين بالمصفاة. يبدو أن بعض أنواع العبادات لم تنقطع عن هذا المعبد العظيم الذي كان يفتخر به اليهود بين الأمم عبر الأجيال. جاءوا في حزنٍ شديدٍ على الهيكل وما حلّ به.

هـ. سبى بقية الشعب الذين في المصفاة وبنات الملك ليعبر بهم إلى بعليس ملك بني عمون الوثني. ماذا كان هدفه من هذا كله؟!

و. بسبب تصرفاته الحمقاء اضطر يوحنان بن قاريح وكل رؤساء الشعب أن يقتفوا أثره للدخول معه في معركة، واضطروا إلى الهروب إلى مصر خوفًا من ملك بابل.

هكذا حطم هذا الحاسد نفسه والرجال الذين معه وأيضًا بلده!


 

من وحي إرميا 40

بحبك حررتني من قيودي!

وبحبك أشتهي أن أُقيد مع إخوتي!

v     انطلق إرميا مقيدًا بالسلاسل مع المسبيين،

لكن رئيس الشرط حلَّه من القيود،

كرّمه أمام الجميع وقدم له هدايا.

أعطاه كامل الحرية ليقطن أينما شاء!

v     تحرر إرميا من السلاسل الحديدية،

لكنه اشتهي قيود الحب،

ورفض أن يذهب إلى بابل ليُكرم من ملكها!

v     بحبك حررتني من قيودي،

وأنا بحبي أشتهي أن أقيد مع المقيدين!

قيود الخطية تملأني عارًا ومذلة!

أما قيود الحب فتهبني شركة معك أيها المصلوب!

لأتحرر بك يا واهب الحرية،

لأُقيد بقيود الحب أيها الحب الحقيقي!

v     هب لي مع إرميا إن يفك نبوزرادان قيودي،

ومع صليبك أشتهي أن أحمل القيود بارادتي،

نعم ما أعذب قيود الحب!

 

 


 

أطلب مشورتك فلا ينطفئ نوري!

v     انطلق إرميا إلى المصفاة يسند جدليا الوالي.

ورجع كل الهاربين إلى الدول المحيطة،

واطمأنوا واستراحوا لكي يعملوا مع جدليا وإرميا.

بنات الملك استراحت نفوسهن!

الفقراء حصدوا ثمارًا كثيرة!

بركات الرب حلت على الكل!

v     لم يطق بعليس ملك عمون الخير لغيره،

فأثار الأمير إسماعيل ليجعل منه مجرمًا غادرًا.

أرسل الله يوحنان يحذر جدليا،

بغير حكمة لم يستشر جدليا الله،

ولا طلب صلوات النبي عنه.

بهذا أنطفأ نوره وحرم الكثيرين من النصرة!

v     بغدرٍ قتل جدليا والمحيطين به،

فأطفأ شعلة النور في بدء انطلاقها.

وسبى بنات الملك ليذهب بهن إلي عمون!

قتل ونهب وانطلق ليعيش وسط الأوثان!

هكذا لم يطق الظلام النور!

v     هب لي يارب ألا اتكل على ذاتي،

بل أطلب دومًا مشورتك،

ولا أحتقر مشورة إخوتي.

بهذا لا ينطفئ نورك في داخلي.

<<


 

الأصحاح الحادي والأربعون

اغتيال جدليا والي أورشليم

كان اليهود يحتفلون بقتل جدليا كمناسبة حزينة وذلك بالصوم في الشهر السابع (أكتوبر) (زك 7: 5؛ 8: 19). ولا تُعرف السنة التي قُتل فيها جدليا. فقد تم جمع المحصول قبل قتله (40: 14)، هذا يعني احتمال أنه مرَّ عام ما بين سقوط أورشليم ومصرعه، حيث سُمح للاجئين أن يعودوا ويزرعوا الأرض. وإن كان البعض يرى أن جدليا لم يبقَ في الولاية سوى شهرين[612] أو ثلاثة شهور.

قُتل جدليا لكن الله حفظ إرميا حتى يتمم رسالته. في هذا الأصحاح لا نجد خبرًا عن إرميا نفسه، ولا نسمع عنه كلمة، بل جاء كمقدمة لما يأتي فيما بعد، وهو نزول جماعة من اليهود إلى مصر آخذين معهم إرميا على الرغم منه.

1. مصرع جدليا [1-3].

2. فظائع أخرى [4-9].

3. سبي البقية واطلاق سراحها [10-18].

1. مصرع جدليا:

"وكان في الشهر السابع أن إسمعيل بن نثنيا بن أليشاماع من النسل الملوكي جاء هو وعظماء الملك وعشرة رجال معه إلى جدليا بن أخيقام إلى المصفاة،

وأكلوا هناك خبزًا معًا في المصفاة.

فقام إسمعيل بن نثنيا والعشرة الرجال الذين كانوا معه وضربوا جدليا بن أخيقام بن شافان بالسيف فقتلوه،

هذا الذي أقامه ملك بابل على الأرض.

وكل اليهود الذين كانوا معه، أى مع جدليا في المصفاة،

والكلدانيون الذين وُجدوا هناك ورجال الحرب ضربهم إسمعيل" [1-3].

سبق أن تحدثنا في الأصحاح السابق عن إسمعيل بن نثنيا الذي دفعه بعليس ملك عمون على اغتيال جدليا. ولا نعرف ما الذي دفعه إلى هذه الجريمة، وما الذي دفع ملك

عمون على تحريضه.

هل كان إسمعيل مدفوعًا بغيرة دينية قومية على بلاده حاسبًا أن الخضوع لبابل خيانة عظمى؟

أم كان مدفوعًا بوعود ملك عمون (40: 14)؟

أم كان الحسد أو العداوة الشخصية مع جدليا؟

أو محبة المال هي الباعث؟

حاسبًا نفسه أحق برئاسة الشعب دون جدليا؟

تحدى إسمعيل كل قوانين كرم الضيافة الشريفة في الشرق باغتياله مضيفه بعمل صارخ من أعمال الخيانة.

واضح أن عنصر الحسد له دوره في ارتكاب هذه الجريمة. فإن الحسد يفقد الإنسان اتزانه وقدرته على التفكير لصالح غيره وصالح الجماعة وأيضًا لمجد الله. إنه يدفع الإنسان إلى التهور ليقتل أعماق نفسه، غير مبالٍ بنظرة الله أو الجماعة أو حتى ضميره الداخلي. وكما قيل: "حياة الجسد هدوء القلب، ونخر العظام الحسد" (أم 14: 30).

v     منذ بداية العالم كان الشيطان هو أول من أهلك نفسه ودمَّر الآخرين. لقد انكسر بالغيرة مع الحسد المملوء ضغنية، ذاك الذي كان في العظمة الملائكية، مقبولاً أمام الله ومحبوبًا عنده.

إنه لم يرشق الآخرين بغريزة الغيرة قبل أن يرشق نفسه بها، ولا رشقهم بالأسر قبل أن يُؤسر، ولا بالدمار قبل أن يهلك. وفي إغرائه بالغيرة أفقد الإنسان نعمة الخلود الموهوبة له، وهو نفسه فقد تلك التي كانت له سابقًا.

يالها من شرورٍ عظيمة أيها الأحباء، فقد أسقطت (الغيرة أو الحسد) الملاك، وأزالت مجدًا عظيمًا وبهيًا، فتلك التي خدع بها الآخرون هو نفسه بها خُدع! [613]  

القديس كبريانوس

v     لا توجد خطية تفرق الإنسان عن الله والناس مثل خطية الحسد، لأن هذا المرض أشد خبثًا من محبة الفضة. لأن محب الفضة يفرح متى ربح شيئًا، أما الحاسد فيفرح متى خسر أحد شيئًا أو ضاع تعبه سدى. ويحسب خسائر الآخرين ربحًا له أكثر من أى نجاح، فأي شرٍ أعظم من هذا؟!

يتورط الزاني في الخطأ لأجل لذة مؤقتة، وقد تكون للسارق حجة الفقر، ولكن أى عذرٍ تقدمه أيها الحاسد؟!... الحاسد يعذب نفسه ولو لم يحدث له ضرر مما يحسده، لهذا خطيئة الحسد أشر الخطايا وأشنعها. لأن الحاسد لا يمكنه مفارقة خطيته، بل يكون كالخنزير المتمرغ في الحمأة، ويماثل بفعله الشيطان...

لهذا أقول لكم إنه إن كان أحدكم يصنع المعجزات أو يحفظ البتولية أو يكون صوامًا أو باسطًا كفّيه أو ينام على الأرض ويصل بهذه الوسائط إلى فضيلة الملائكة، ولكن فيه آلام الحسد، فلا محالة يكون أشر من جميع الخطاة وأردأ منهم[614].

v     الشيطان حاسد، لكنه يحسد البشرية ولا يحسد شيطانًا آخر، أما أنت فإنسان وتحسد أخاك الإنسان، وبالأخص الذين من عائلتك وعشيرتك، الأمر الذي لا يصنعه الشيطان[615].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     الحاسد لا يرى النور، لأنه يلوم المضيئين ويعيبهم بحسده[616].

الشيخ الروحاني

v     الحسد جرثومة وأصل الشرور[617].

القديس يوحنا ذهبي الفم

2. فظائع أخرى:

"وكان في اليوم الثاني بعد قتله جدليا ولم يعلم إنسان،

أن رجالاً أتوا من شكيم ومن شيلو ومن السامرة  ثمانين رجلاً محلوقي اللحيّ ومشققي الثياب ومخمشين، وبيدهم تقدمة ولبان ليدخلوهما إلى بيت الرب.

فخرج إسمعيل بن نثنيا للقائهم من المصفاة سائرا وباكيًا.

فكان لما لقيهم أنه قال لهم:

هلم إلى جدليا بن أخيقام.

فكان لما أتوا إلى وسط المدينة أن إسمعيل بن نثنيا قتلهم وألقاهم إلى وسط الجب هو والرجال الذين معه.

ولكن وُجد فيهم عشرة رجال قالوا لإسمعيل:

لا تقتلنا لأنه يوجد لنا خزائن في الحقل، قمح وشعير وزيت وعسل.

فامتنع ولم يقتلهم بين إخوتهم.

فالجب الذي طرح فيه إسمعيل كل جثث الرجال الذين قتلهم بسبب جدليا هو الذي صنعه الملك آسا من وجه بعشا ملك إسرائيل.

فملأه إسمعيل بن نثنيا من القتلى" [4-9].

يرى Thenius  وSchmieder  أن هؤلاء الرجال جاءوا إلى المصفاة لا إلى أورشليم، لتقديم عبادة في بيت الرب في المصفاة، لكن Hitzig يرفض هذا الرأى حيث لم يرد في التاريخ إشارة إلى وجود موضع عبادة جماعية في المصفاة في ذلك الحين، ففي رأيه أن إسمعيل دعاهم إلى المصفاة لرؤية جدليا[618]. هذه الحادثة مكدرة جدًا تدل على أن نفس إسمعيل لم تكن منطوية على غيرة دينية على بلاده ليخلصها من نير بابل، بل كان رجلاً سفاحًا ذبح أناسًا أبرياء، إذ لم يُذكر سبب لقتل هؤلاء الأبرياء.

لسنا ندري هل كانت لهم علاقة بجدليا من قبل أم لا.

واضح أنهم كانوا في حالة حداد على الهيكل الذي دُمر والذبائح التي توقفت والشعب الذي سُبي، وقد يُستدل على ذلك من كلام إسمعيل الكذاب وهو يبكي بدموع التمساح، حيث عرف أنهم أتقياء ينوحون على الهيكل الذي تهدم، فظهر كمن يشاركهم مشاعرهم.

يجوز أن يكون القصد من تقدمتهم تقديمها على المذبح في الموضع الذي كان مخصصًا للهيكل.

كانوا مخمشين، أي بهم جروح قطعية في الجلد، وهو أمر محرم في الشريعة (لا 19: 28؛ 21: 5؛ تث 14: 1؛ إر 16: 6).

ما هو الدافع وراء هذه الجريمة؟

أ. يرى Graf أن ما فعله إسمعيل مع هؤلاء الرجال كان نوعًا من الانتقام لسفك دماء أقربائه ورفقائه في الرتبة على يديْ الكلدانيين[619].

ب. يرىNagelsbash  إن ما فعله إسمعيل كان بسبب رغبته في نهب ما لديهم، إذ قتل أناسًا عزل قادمين لتقديم عطايا لبيت الرب المتهدم، وفي نفس الوقت أبقى منهم العشرة رجال الذين ادعوا أن لهم خزائن سرية لا يعرف أحد موضعها، وهي في الحقول مملوءة من المحاصيل، فأراد أن يغتصبها... هذا يكشف عن شخصه أنه لص! لكن حديث يوحنان السري مع جدليا قبل قتله وكشفه عن خطة إسمعيل توضح أن إسمعيل لم يكن يطلب النهب بل تبديد الشعب كله وتحطيم ما فعله جدليا.

3. سبي البقية وإطلاق سراحها:

"فسبي إسمعيل كل بقية الشعب الذين في المصفاة،

بنات الملك وكل الشعب الذي بقى في المصفاة الذين أقام عليهم نبوزرادان رئيس الشرط جدليا بن أخيقام سباهم إسمعيل بن نثنيا،

وذهب ليعبر إلى بنى عمون.

فلما سمع يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه بكل الشر الذي فعله إسمعيل بن نثنيا،

أخذوا كل الرجال وساروا ليحاربوا إسمعيل بن نثنيا فوجدوه عند المياه الكثيرة التي في جبعون.

ولما رأى كل الشعب الذي مع إسمعيل يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معهم فرحوا.

فدار كل الشعب الذي سباه إسمعيل من المصفاة ورجعوا وساروا إلى يوحانان بن قاريح .

أما إسمعيل بن نثنيا فهرب بثمانية رجال من وجه يوحانان وسار إلى بني عمون.

فأخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه كل بقية الشعب الذين استردهم من إسمعيل بن نثنيا من المصفاة بعد قتل جدليا بن أخيقام رجال الحرب المقتدرين والنساء والأطفال والخصيان الذين استردهم من جبعون.

فساروا وأقاموا في جيروت كمهام التي بجانب بيت لحم لكي يسيروا ويدخلوا مصر من وجه الكلدانيين،

لأنهم كانوا خائفين منهم،

لأن إسمعيل بن نثنيا كان قد ضرب جدليا بن أخيقام الذي أقامه ملك بابل على الأرض" [10-18].

سبى إسمعيل بنات الملك، لا يُقصد بهن بنات صدقيا فحسب بل كل الأعضاء الأناث في البيت الملكي والأميرات اللواتى كن قد وُضعن في رعاية جدليا، اللواتي تسلمهن من يد نبوخذنصر.

قبل أن يتمكن إسمعيل السفَّاك من الهرب إلى بلاد عمون بمن أراد أن يأخذهم معه من أهل جدليا والشعب عمومًا، هاجمه يوحنان بن قاريح وبعض الرؤساء الآخرين عند بركة جبعون (2 صم 2: 13) حيث وقع في القديم الصدام بين رجال داود ورجال إيشبوشث بن شاول، ولم يقدر إسمعيل أن يقاومهم فاضطر أن يترك الذين أجبرهم إلى ذهاب معه، فهرب ومعه ثمانية رجال إلى بلاد عمون حيث فقد اثنين من رجاله، ولم نعد نسمع عنه شيئًا.

يرى البعض أن المياه الكثيرة في جبعون ربما تشير إلى بركة جبعون لخزان المياه المحفور في الصخر الموجود في الجب، والذي يرجع تاريخه إلى العصر الحديدي الأول. هذه الحفرة قد حفرت إلى عمق خمسة وثلاثين قدمًا في الصخر وبها درج يؤدى إلى نفق على بعد أربعين قدمًا أخرى مؤديًا إلى خزان مياه. وفي القرن السابع ق.م. كان يُصنع النبيذ في منطقة الحفرة وكانت الجرار المختومة تخَّزن في مخازن رطبة محفورة في الصخر.

والرأي القائل بأن الكلمة هنا يجب أن تكون (جبعة) "Geba" بدلاً من جبعون رأى ليس له قيمة حقيقية.

كان يوحانان بن قاريح حاسمًا وسريعًا في تتبع إسمعيل وقد سبق فحذر جدليا من نواياه الإجرامية.

رأي يوحانان والذين معه أن يهربوا إلى مصر خوفًا من عقاب بابل، وإن كانوا هم أنفسهم لم يثوروا على بابل هذه المرة كإسمعيل.


 

من وحي إرميا 41

من ينزع عني روح الحسد!

v     انزع عني روح الحسد يا محب البشر!

قتل إسمعيل جدليا حسدًا بلا سبب!

قتل الرؤساء فحطَّم بلده،

قتل البسطاء والقادمين للعبادة الأتقياء!

قتل وتمادى في القتل، ولم ينتفع شيئًا!

v     من ينزع عني روح الحسد؟

بثّ إبليس روحه فينا،

هذا الذي حرمنا من الفردوس وهو لم يدخله!

صرنا أشر منه،

فالشيطان لا يحسد شيطانًا،

أما الإنسان فيحسد أخاه الإنسان!

v     ويحي أنا الشقي!

بالحسد لا أطلب نجاح نفسي بل فشل إخوتي!

بالحسد يحترق قلبي لا لشيء إلا لنجاح الغير!

بالحسد يضيق قلبي جدًا،

فلا يسمح بدخول أحدٍ!

بالحسد أُطرد خارج الكنيسة،

بل وأفقد جمال إنسانيتي!

v     بالحسد سقط جبابرة إيمان!

بالحسد صارت عبادتهم عائقًا في طريق نموهم!

بالحسد حُرم صانعوا عجائب من التمتع بك!

بالحسد تسلل الموت حتى إلى بعض الخدام الناجحين والنسَّاك والمتوحدين!

إنه لصٌ خفيٌ خطير،

له مداخل خفيَّة إلى أعماق النفس!

v     من ينزع عني الحسد،

إلا أنت يا محب البشر؟!

يحملني روحك القدوس إلى حضن أبيك،

أجده متسعًا للجميع،

فأصير أنا متسعًا للكل!

v     بصليبك حطمت حسد إبليس العامل فيّ،

ووهبتني حبك الإلهي الفائق!

فأشتهي أن أقتدي بك يا من صرت آخر الكل!

هب لي أن أنطلق معك إلى الصف الآخير،

أبسط يديّ مع يديك لاحتضن الجميع.

أشتهي أن أتألم معك ليستريح الكل،

وأن أحمل عارك لتتمجد كل نفسٍ،  

وأفقد كل شيء لكي يغتني الجميع بك.

نعم، لأمت معك وليحيا الكل بك!

<<


 

الأصحاح الثاني والأربعون

قد خدعتم أنفسكم!

كما سبق فرأينا أن يوحنان وكل رؤساء يهوذا قد وضعوا في قلوبهم أن يذهبوا إلى مصر مهما تكن الظروف! كانوا مصممين على ذلك، لكنهم خدعوا أنفسهم حين ذهبوا إلى إرميا النبي يطلبون منه أن يصلي لأجلهم ويطلب باسمهم مشورة الرب. ربما قصدوا بالمشورة معرفة الطريق الذي يسلكونه في ذهابهم إلى مصر.

كثيرًا ما يخدع الإنسان نفسه [20] حين يريد أن يحرك الله حسب هواه، لا أن يخضع لحكمة الله وخطته ومشورته.

يتضح من الحديث الأول [1-6] بين إرميا والرؤساء أن النبي لم يعرف أنهم مصممون على الذهاب إلى مصر. على أية حال لم يُظهر لهم إلاَّ كل رقةٍ ولطفٍ، فوعدهم باستشارة الله في الأمر. ولعله هو نفسه لم يكن يعرف ما هو الأفضل لهم، الذهاب إلى مصر أم البقاء.

تأخر جواب الله مدة عشرة أيام. ولعل الرؤساء فضلوا هذا التأخر، وإذ رأوا إرميا يرافق صديقه باروخ كل هذه المدة وهم عالمون أن باروخ لا يحبذ الذهاب إلى مصر، اتهموا إرميا بأنه لم يتلقَّ جوابه من الله بل من باروخ. أما نحن فلا نستغرب الجواب لأنه ينسجم مع كل أفكار إرميا السابقة وإرادة الله نحو شعبه، وهو الخضوع لبابل حتى يفرج الله عنهم بعد مدة من الزمن.

لم يتعلموا الثقة في الله بلا قيد أو شرط في كل ظروف الحياة (في 4: 19)، فقد كان اهتمامهم منصبًا على معرفة إن كان الله يوافق على خطتهم للهروب إلى مصر أم لا، وبذلك لا يبحثون عن الإرشاد الروحي بمعني الكلمة (41: 17). وبينما يتعهدون بالطاعة كانوا يظنون أن الله على استعداد لمباركة خططهم.

1. طلب مشورة الله [1-3].

2. إرميا يسأل الله [4].

3. اليهود يعدون بالطاعة [5-6].

4. الرسالة الإلهية: بركة مشروطة [7-12].

5. لعنة العصيان [13-22].

1. طلب مشورة الله:

"فتقدم كل رؤساء الجيوش ويوحانان بن قاريح ويزنيا بن هوشعيا وكل الشعب من الصغير إلى الكبير.

وقالوا لإرميا النبي:

ليت تضرعنا يقع أمامك فتصلي لأجلنا إلى الرب إلهك لأجل كل هذه البقية.

لأننا قد بقينا قليلين من كثيرين كما ترانا عيناك.

فيخبرنا الرب إلهك عن الطريق الذي نسير فيه والأمر الذي نفعله" [1-3].

اقترب الكل، الرؤساء مع الشعب، الكبير مع الصغير، بروحٍ واحدٍ إلى إرميا يحملون مظهر الاتضاع والاحتياج إلى صلوات إرميا من أجلهم، ويعترفون أنهم صاروا قليلين من كثيرين، ويسألون مشورة الله. ربما استطاعوا بمظهرهم وكلماتهم أن يخدعوا النبي إلى حين، لكنهم لن يخدعوا الله فاحص القلوب والعارف بأسرارهم وأفكارهم الخفية.

طلبوا صلوات إرميا لكنهم لم يشاركوه الصلاة، فلا يكفي أن نطلب من الغير، حتى إن كانوا أنبياء الصلاة لأجلنا دون أن نصلي نحن أيضًا لأجل أنفسنا.

لم يقولوا "إلهنا" بل الرب "إلهك"، حيث الإحساس بالبُعد عن الله؛ إذ لم يشعروا بإمكانية الاقتراب إليه بثقة.

اعترفوا أنهم صاروا قليلين من كثيرين دون أن يذكروا السبب وهو عصيانهم المستمر لكلمة الرب التي نادى بها الأنبياء.

  لقد انتظروا من الرب أن يجيبهم حسب شهوة قلوبهم، إذ ظنوا أنه لن يسمح الله ببقاء البقية في يهوذا ليقتلها نبوخذ نصر انتقامًا لمقتل جدليًا ومن معه، بل بالضرورة يعلن الله لإرميا أن يهربوا إلى مصر! لقد أرادوا أن يكشف الله لهم عن الطريق الذي يسلكوه بأمان للذهاب إلى مصر، وما يفعلوه، لا أن يعلن لهم إن كانوا يذهبون إلى مصر أم يبقون في يهوذا.

2. إرميا يسأل الله:

"فقال لهم إرميا النبي:

قد سمعت.

هأنذا أصلي إلى الرب إلهكم كقولكم،

ويكون أن كل الكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به.

لا أمنع عنكم شيئًا" [4].

جاءت كلمات إرميا لهذا الشعب تكشف عن شخصيته العجيبة ومشاعره الرقيقة نحو شعب الله، إذ نلاحظ في هذه الإجابة:

أ. يقول: "قد سمعت" [4]. لقد عانى الأمرين من الرؤساء والشعب، قضى عشرات السنوات يحذرهم، مقدمًا لهم مشورة الله أن يخضعوا لملك بابل، دون أن يسمعوا له ولإلهه، والآن إذ دخلوا في ضيقة وحملوا مظهر الطاعة لم  يوبخهم بكلمة جارحة عن تصرفاتهم القديمة، ولم  يغلق باب الرجاء أمامهم، بل بروح الاتضاع يقول: "قد سمعت!" انحنى بقلبه كما بأذنيه، بل وبكل كيانه ليسمع كلمات الشعب ويصغي إليهم! إنه ليس بالقائد الآمر الناهي، بل بالأب الذي ينصت لصوت أولاده لعله ينزع عنهم روح العصيان.

ما أصعب أن ينحني الوالدان أو الكاهن أو القائد نحو الغير لينصت إليهم في طول أناة دون عتاب في الماضي أو تجريح بسبب أخطاءٍ سابقة!

ب. يقول: "هأنذا أصلي إلى الرب"؛ هذا هو عمله الأول كنبي وكاهن! كأنه يقول مع صموئيل النبي: "أما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الله وأكف عن الصلاة من أجلكم" (1 صم 12: 23)، حاسبًا التوقف عن الصلاة حتى من أجل المعاندين خطية موجهة ضد الله نفسه الطالب خلاصهم!

ج. إن كانوا قد شعروا بالبُعد عن الله فقالوا لإرميا النبي: "الرب إلهك" [2]؛ يرد لهم الثقة فيقول لهم: "الرب إلهكم"؛ وكأنه يعاتبهم قائلاً: "لماذا لا تنسبون الرب إليكم، إنه إلهكم الذي يطلب مملكته فيكم؟!"

القائد الحق لا يُكثر من كلمات التوبيخ بل يبعث في مخدوميه روح الرجاء في الرب، يربطهم به.

د. مع لطفه ورقته في إجابته عليهم يؤكد أيضًا صراحته ووضوحه، فإنه لن يخفي عنهم شيئًا مما ينطق به الرب، حتى إن جاءت الإجابة ليست حسب هواهم!

يحمل إرميا النبي الحب الحق والحزم. يتسع قلبه جدًا، ولا يجرح مشاعر أحدٍ، لكن ليس على حساب الوصية الإلهية.

3. اليهود يعدون بالطاعة:

"ليكن الرب بيننا شاهدًا صادقًا وأمينًا إننا نفعل حسب كل أمرٍ يرسلك به الرب إلهك إلينا.

إن خيرًا وإن شرًا،

فإننا نسمع لصوت الرب إلهك الذي نحن مرسلوك إليه ليحسن إلينا إذا سمعنا لصوت الرب إلهنا" [5-6].

وعد اليهود إرميا النبي بالطاعة الكاملة لله، مهما كانت إجابة الرب أو مشورته لهم. لم يكن ممكنًا لإرميا أن يكذبهم، فهو لا يعرف أسرار قلوبهم، لكنه إذ تحدث مع الله كشف له عما يضمرونه في داخلهم [20-23].

4. الرسالة الإلهية: بركات مشروطة:

"وكان بعد عشرة أيام أن كلمة الرب صارت إلى إرميا.

فدعا يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقال لهم:

هكذا قال الرب إله إسرائيل الذي أرسلتموني إليه لكي ألقى تضرعكم أمامه.

إن كنتم تسكنون في هذه الأرض فإني أبنيكم ولا أنقضكم، وأغرسكم ولا أقتلعكم.

لأني ندمت عن الشر الذي صنعته بكم.

لا تخافوا ملك بابل الذي أنتم خائفوه.

لا تخافوه يقول الرب، لأني أنا معكم لأخلصكم وأنقذكم من يده.

وأعطيكم نعمة فيرحمكم ويردكم إلى أرضكم" [7-12].

سمح الرب بأن تمر عشرة أيام قبل أن يجيب على النبي، وهذا أمر له أهميته:

أ. تعطى هذه الأيام العشرة الفرصة للشعب أن يستعدوا روحيًا ونفسيًا للإجابة الإلهية، فيتهيأوا للطاعة له.

ب. ربما أعطت هذه الأيام فرصة لإرميا النبي لكي يتقدس ويتأهل للتعرف على إرادة الله.

ج. العدد عشرة يرمز إلى الوصايا العشرة التي أعطيت على جبل سيناء. بمعني أنهم مسؤولون أن يراجعوا أنفسهم لئلا يكونوا قد كسروا الوصية الإلهية، فالأمر لا يقف عند اختيار مكانٍ السكن قدر الاهتمام بالطاعة للوصية وقبول المشورة الإلهية.

د. في هذه الأيام العشرة لم يتقابل إرميا مع الشعب إذ لم يرد أن يكون له رأي شخصي عن الطريق الذي يسلكونه، بل انتظر التوجيه الكامل من الرب.

مع أن الله يعلم نيتهم وهي الإصرار على الذهاب إلى مصر، وعدم طاعتهم لإرادته الإلهية، لكنه قدم لهم فرصة الرجوع عن شرهم؛ قدم لهم بركات مشروطة. بدأ بالحديث عن بركات الطاعة لإرادته والخضوع لمشورته قبل الحديث عن لعنة العصيان، فاتحًا باب الرجاء أمامهم. جاءت الإجابة تحمل وعدًا إلهيًا يكشف عن شوق الله إلى بنائهم كبيت مقدس له، وغرسهم ككرمة من غرس يديْ الله. إنها إجابة مملوءة رجاءً! من جهتهم لم يكونوا بعد قد قدموا أية توبة صادقة، ومع ذلك أظهر الرب رحمة وحنوًا وإحسانًا حسب غنى نعمته، فإذا ما اتكلوا على ذراعه القوية وهم في ضعفهم هذا وسكنوا في الأرض التي أعطاهم إياهم وإذا ما تقبلوا تأدبيه وانحنوا خضوعًا لكلمته يبنيهم ويهتم بهم، عندئذٍ لا يخافوا من ملك بابل. مهما كان الخراب الذي شمل الأرض لازالت هناك بركة لأجل البقية القليلة.

بركات الطاعة هي:

أ. الله نفسه يبنيهم [10].

ب. لن ينقضهم.

ج. الله يغرسهم.

د. لن يقتلعهم.

هـ. يندم الله على الشر (التأديب) الذي صنعه معهم. معني ندامة الله [10] ليس أن الله يندم كإنسان، بل إنه يكتفي بقصاص الشعب إلى هذا الحد إذا عاد إليه بالتوبة.

و. ينقذهم من ملك بابل [11].

ز. يظهر لهم المراحم الإلهية [12].

ح. يُظهر لهم ملك بابل الوثني والعدو رحمة.

ط. يردهم إلى أرضهم، أرض الموعد.

هكذا إذ نسمع لصوت الرب يسمع هو لنا. نسمع له لا بالكلام فقط بل وبالسلوك فيسمع لنا بالمواعيد الإلهية العاملة فينا.

v     يجعلنا بيته الخاص الذي لا يُبنى بيدٍ بشرية بل بالذراع الإلهي؛ يبني ولا ينقض.

v     يغرسهم بيديه ككرمته الخاصة، يرويها بدمه الثمين، ويفيض عليها بينابيع حبه... لن يقتلعها.

v     يرفعها من مرحلة التأديب المرّة ليحتضنها بذراعيه ويجعل منها عروسه المحبوبة لديه.

v     ينقذها من إبليس (ملك بابل) وكل جنوده الشريرة وأعماله الرديئة، فلا يكون للعدو سلطان عليها، ولا للخطية قوة... بل يحطم مملكة إبليس ويكسر شوكة الخطية.

v     تتحول حياتها إلى خبرات مستمرة للتمتع بالمراحم الإلهية غير المنقطعة.

v     يعطيها نعمة حتى في أعين العنفاء (ملك بابل) فتجد رحمة.

v     يجعل من أرض الموعد أرضها التي ترجع إليها؛ أو يرد النفس إلى حضن الآب حيث تجد استقرارها الأبدي!

5. لعنة العصيان:

"وإن قلتم لا نسكن في هذه الأرض ولم تسمعوا لصوت الرب إلهكم،

قائلين لا بل إلى أرض مصر نذهب حيث لا نرى حربًا،

ولا نسمع صوت بوقٍ، ولا نجوع للخبز، وهناك نسكن.

فالآن لذلك اسمعوا كلمة الرب يا بقية يهوذا.

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

إن كنتم تجعلون وجوهكم للدخول إلى مصر وتذهبون لتتغربوا هناك،

يحدث أن السيف الذي أنتم خائفون منه يدرككم هناك في أرض مصر،

والجوع الذي أنتم خائفون منه يلحقكم هناك في مصر فتموتون هناك.

ويكون أن كل الرجال الذين جعلوا وجوههم للدخول إلى مصر ليتغربوا هناك يموتون بالسيف والجوع والوبأ،

ولا يكون منهم باقٍ ولا ناجٍ من الشر الذي أجلبه أنا عليهم.

 لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

كما انسكب غضبي وغيظي على سكان أورشليم هكذا ينسكب غيظي عليكم عند دخولكم إلى مصر،

فتصيرون حلفًا ودهشًا ولعنًة وعارًا ولا ترون بعد هذا الموضع.

قد تكلم الرب عليكم يا بقية يهوذا لا تدخلوا مصر.

اعلموا علمًا إني قد أنذرتكم اليوم.

لأنكم قد خدعتم أنفسكم،

إذ أرسلتموني إلى الرب إلهكم، قائلين:

صلِ لأجلنا إلى الرب إلهنا،

وحسب كل ما يقوله الرب إلهنا هكذا أخبرنا فنفعل.

فقد أخبرتكم اليوم، فلم تسمعوا لصوت الرب إلهكم،

ولا لشيء مما أرسلني به إليكم.

فالآن اعلموا علمًا أنكم تموتون بالسيف والجوع والوبأ في الموضع الذي ابتغيتم أن تدخلوه لتتغربوا فيه" [13-22].

بعد أن تحدث عن بركات السلوك حسب مشورته قدم لعنة العصيان:

أ. من يذهب إلى مصر يلحقه السيف، أو يسقط تحت الجوع أو يتعرض للوبأ، وهناك يموت [10-16]، إن كان يهرب من يهوذا خشية انتقام ملك بابل منه فإنه في الواقع يهرب من الأمان إلى الهلاك المحقق.

ب. الله الصانع الخيرات، محب البشر، يجلب عليهم شرًا (تأديبًا) لن يهربوا منه، إذ يسقطون تحت غضبه الإلهي.

ج. الذين يهربون إلى مصر جميعهم لا ينجون.

د. الذين يذهبون إلى مصر لن يروا أرض الموعد بعد.

مسكين من يظن أن الوصية الإلهية تفقده شيئًا أو تحرمة من الملذات!

عصيان الرب يدفع إلى الهلاك غير المتوقع، ويحرم الإنسان من مصدر حياته، ويفقده الأحضان الإلهية.

لقد جاءت إجابة الله تفضح رياءهم وتكشف عن تمسكهم بآرائهم الذاتية، إنه فاحص القلوب الذي يطلب تقديسها وتطهيرها خاصة من الرياء.

 


 

من وحي إرميا 42

قُدْ حياتي،

فلا أخدع نفسي!

v     حذرتني يا إلهي لئلا أخدع نفسي!

إني لا ألوم الناس،

ولا اعتذر بالظروف المحيطة بي،

لكنني أعترف:

إني كثيرًا ما أخدع نفسي!

أطلب مشورتك،

وأنا أطلب ما تريده نفسي!

v     قُدْ حياتي،

علمني، دربني أيها القائد الحق،

فأُسر بمشورتك،

حتى وإن بدت مرّة!

v     بركتك مشروطة بالطاعة.

من يسمع صوتك ينعم بمواعيدك،

ويتمتع بما نظنه مستحيلاً!

v     من يعصي وصيتك،

ويرفض مشورتك،

يسقط تحت اللعنة!

v     نعم! طريقك فيه آمان،

أما طريقي الذي اختاره لنفسي فغير آمن!

<<


 

الأصحاح الثالث والأربعون

حمل إرميا إلى مصر قسرًا

بالرغم من قوة حجة إرميا وأمانته الشخصية التي كشفتها الأحداث الماضية إلا أنهم اتهموه بالكذب، لأنه أخبرهم بما لم يحبوا أن يسمعوا؛ ونسبوا كلماته إلى باروخ كاتبه، قائلين عنه إنه سيطر على مشاعر إرميا لكي يقدم رسالة تخالف إرادة الله.

من المؤلم أن يتهموا إرميا أن نبوته كاذبة، لا ينطق بكلمة الرب بل يتكلم بالكذب. قالوا نحن سألناك أن تقول لنا كلمة الرب لكنك أخبرتنا بأقوال باروخ لكي يدفعنا في يد الكلدانيين فيقتلوننا ويقومون بسبينا. لم يتهموا إرميا مباشرة لكنهم جعلوا باروخ كبش الفداء وألقوا باللوم عليه. حقًا عمل باروخ  بأمانة مع إرميا وعرَّض حياته للخطر في تنفيذ ما أوكل إليه، لكن الادعاء بأن النبي يتمم إرادة باروخ إدعاء غاية في الغباء يدل على عدم الإيمان والعناد.

لم يهتم إرميا بالرد على هذا الاتهام؛ كما لم ييأس منهم، بل استمر في خدمته لهم حتى النهاية.

1. الذهاب إلى مصر[1-7].

2. التنبوء بغزو مصر[8-13].

1.الذهاب إلى مصر:

"وكان لما فرغ إرميا من أن كلَّم كل الشعب بكل كلام الرب إلههم الذي أرسله الرب إلههم إليهم بكل هذا الكلام،

أن عزريا بن هوشعيا ويوحانان بن قاريح وكل الرجال المتكبرين كلموا إرميا قائلين:

أنت متكلم بالكذب.

لم يرسلك الرب إلهنا لتقول لا تذهبوا إلى مصر لتتغربوا هناك.

بل باروخ بن نيريا مهيجك علينا لتدفعنا ليد الكلدانيين ليقتلونا وليسبونا إلى بابل" [1-3].

كانوا يتطلعون إلى الله لا كربٍ يطيعونه بل كقوة يستخدمونها[620].

ينطبق على هذا الشعب المتكبر والعنيد ما سبق فقاله الله عن الذين أرادوا بناء برج بابل: "والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" (تك 11: 6). فالكبرياء هو والد العصيان والاستخفاف بالوصية الإلهية. هنا في كبريائهم لم يعلنوا عصيانهم للمشورة الإلهية، بل نسبوا لإرميا النبي الكذب، لا لشيء إلا ليعطوا لأنفسهم عذرًا للسلوك حسب هواهم، حاسبين في أنفسهم أنهم حكماء.

لم يستطيعوا أن ينكروا نبوة إرميا، لكنهم اتهموه أنه لا يسأل الله بل يحركه كاتبه باروخ.

مع مقاومتهم لإرميا واتهاماتهم المستمرة ضده، كانوا بلاشك  يهاجمونه كرجل الله الذي وحده يعلن لهم إرادة الله الحقة ويقدر أن يشفع فيهم، لهذا حملوه معهم قسرًا إلى مصر.

"فلم يسمع يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش وكل الشعب لصوت الرب بالإقامة في أرض يهوذا،

بل أخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش كل بقية يهوذا الذين رجعوا من كل الأمم الذين طوحوا إليهم ليتغربوا في أرض يهوذا،

الرجال والنساء والأطفال وبنات الملك وكل الأنفس الذين تركهم نبوزرادان رئيس الشرط مع جدليا بن أخيقام بن شافان وإرميا النبي وباروخ بن نيريا.

فجاؤا إلى أرض مصر:

لأنهم لم يسمعوا لصوت الرب،

وأتوا إلى تحفنحيس" [1-7].

لو أن هؤلاء الرؤساء وطنيون بحق لما ذهبوا إلى مصر واختاروا أشهر مدنها الحصينة في ذلك الحين، وإنما كانوا يفضلون البقاء في براري يهوذا ليشاركوا المتألمين من الشعب المُعدم عن التمتع بمدن مصر.

لم يكتفِ الشعب برفض مشورة إرميا الخاصة بالهروب إلى مصر، وإنما حملوه هو وصديقه باروخ معهم إلى مصر قسرًا. كنا نتوقع أن يتركوا إرميا في أرض يهوذا ولا يأخذوه معهم إلى مصر، لأنه كان يعارضهم بشدة في ذهابهم إلى مصر، لكنهم حملوه قسرًا، إما لأنهم كانوا لا يزالوا يحترمونه كنبيٍ يستطيع أن يشفع فيهم في أرض غربتهم بالرغم من مقاومتهم له؛ أو لأنهم خشوا من وجوده في أرض يهوذا لئلا يتحالف هو وتلميذه مع بابل ضد بلده كعميلين لبابل.

لو أن إرميا وباروخ عميلان لبابل لذهبا إلى بابل من البداية ونالا كرامة، ولم يبقيا وسط الشعب الفقير جدًا يشاركانه آلامه. لكن هؤلاء الرؤساء الأشرار فسروا بقاءهما أنهما يعملان لحساب الكلدانيين، خاصة باروخ، وأنهما يطلبان بقاء الرؤساء حتى يسقطوا في شباك بابل ويقتلوهم أو يسبوهم.

ذهبوا إلى تحفنحيس، أو تحفنيس، جاءت في الترجمة السبعينية "تفينس"، تُسمى باليونانية "دفنة". يبدو أنه كان لملك مصر قصر في تحفنحيس، يأتي إليه مع حاشيته حين يجيء في أسفاره إلى هناك، خاصة وأن تحفنحيس مدينة محصنة.

كانت مدينة هامة في أيام إرميا وحزقيال. وجد سير فلندرز بيتريSir Flinders Petrie موقع تحفنيس، وعرفت بـ "تل دفنه"، مدينة مصرية محصنة في أقصى شرق الدلتا، على بعد 10 أميال غربي القنطرة، جاءت في الترجمة السبعينية "تفنيسط"، أما معناها فهو "حصن أو قلعة بناحس Penahse". كان بناحس غالبًا قائدًا صاحب سلطان من طيبة، عاش في القرن 11 ق.م، قام بثورة في الشمال، فنشأت عدة مدن تحمل اسمه.

2. التنبؤ بغزو مصر:

تبرز شجاعة إرميا الذي حُمل مع كاتبه باروخ قسرًا إلى مصر، في بلدٍ غريبٍ، ولم يكن معه أحد يقف بجواره سوى باروخ. ومع هذا نطق بنبواته بكل جرأة ضد فرعون مصر وضد اليهود الهاربين إليها. لقد أعلن لهم أنهم هربوا من بابل إلى مصر، هوذا تبلغ إليهم بابل حيث تُعلن سلطانها على مصر.

بالرغم من عصيانهم وذهابهم إلى مصر، لم يمنع الله عنهم النبوة، فتنبأ إرميا وهو في مصر. أنه يود أن يفتقد شعبه أينما وُجدوا. لم يكن الموضع هو الذي يحث إرميا على الشهادة بكلمة الرب، بل القلب الناري الذي لا يفتر عن أن يستجيب لروح الرب، لذا نجد إرميا ينطق بكلمة الرب أينما وجد حتى إن حُمل إلى بلدً غريبٍ لا يريد أن يقطنه:

أ. تنبأ في آذان أورشليم (2: 1).

ب. في أبواب بيت الرب، فكان يشهد للداخلين للسجود هناك (7: 1-2).

ج. في كل أبواب أورشليم (17: 19).

د. عند مدخل باب الفخاري حيث يسمع ملوك يهوذا وسكان أورشليم كلمة الرب (19: 1-3).

هـ. في قصر الملك (22: 1-3).

 و. في دار بيت الرب حيث يتكلم مع القادمين للسجود من كل مدن يهوذا (26: 1-2).

ز. في السجن (32: 6).

ح. في أرض مصر (34: 8- إر 44).

بلاشك لم يكن إرميا سعيدًا في مصر للأسباب التالية:

أ. كانت مصر مملوءة بالأصنام.

ب. لم يكن شعبه متعاطفًا معه، ولم يكن يتوقع منهم معاملة حسنة.

ج. لا ننسى أنه حُمل إلى مصر وهو الذي نادى بعدم الالتجاء إليها، فلم يكن يتوقع معاملة طيبة من أى رجلٍ حكوميٍ في مصر، إذ كانت أفكاره السياسية معروفة.

"ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا في تحفنحيس قائلة:

خذ بيدك حجارة كبيرة واطمرها في الملاط في الملبن الذي عند باب بيت فرعون في تحفنحيس أمام رجال يهوذا، وقل لهم:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

هأنذا أرسل وآخذ نبوخذراصر ملك بابل عبدي وأضع كرسيه فوق هذه الحجارة التي طمرتها فيبسط ديباجه عليها.

ويأتي ويضرب أرض مصر،

الذي للموت فللموت،

والذي للسبي فللسبي،

والذي للسيف فللسيف.

وأوقد نارًا في بيوت آلهة مصر، فيحرقها ويسبيها ويلبس أرض مصر كما يلبس الراعي رداءه ثم يخرج من هناك بسلام.

ويكسر أنصاب بيت شمس،

ويحرق بيوت آلهة مصر بالنار" [8-13].

لا يُعرف إن كان هذا قد تحقق فعلاً أم كان ذلك رؤيا يتحدث عنها إرميا وسط شعبه لتأكيد هجوم بابل على مصر، خاصة وأن ذهاب إرميا النبي مع بعض رجال يهوذا إلى جوار القصر في بلد غريب أمر صعب. جاء في بعض النسخ أن هذا تم ليلاً أو سرًا.

لقد جاء هذا الهجوم متأخرًا جدًا، عام 568 ق.م، ولم يذكر التاريخ هجومًا لبابل على مصر قبل هذا التاريخ.

ويلاحظ في نبواته التي نطق بها في مصر الآتي:

أ. حملت النبوة شقّين الأول ورد هنا في هذا الأصحاح حيث تنبأ إرميا عن خراب مصر، والثاني في الأصحاح التالي حيث تنبأ عن اليهود الذين في مصر. سبق فقال لهم إنهم إن ذهبوا إلى مصر فالسيف يتبعهم هناك، الآن يحدد هذا السيف وهو سيف نبوخذراصر. جاء في فقرة من نص بابلي أن نبوخذراصر غزا مصر عام 7/568، وقد ترك فرعون أحمس (أماسيس) على العرش يمارس السياسة البابلية[621]. لقد صارت هذه النبوة واقعًا تاريخيًّا إذ غزا ملك بابل مصر مرتين وهزمها، هذا أمر غير مشكوك فيه[622].

ب. إن كانوا قد أصروا على الذهاب إلى مصر ولم يسمعوا لصوت الرب، فإن صوت الرب يذهب إليهم هناك ليحثهم على التوبة.

ج. ملك بابل وهو من أعظم عابدي الأصنام، يُكرم الشمس في معابده وأصنامه، مع ذلك يأتي إلى مصر في "بيت شمس" ليحطم أصنام الشمس المصرية.

د. في مثل الحجارة المطمورة في الطين يشبه بابل بالحجارة الضخمة القوية ومصر بالوحل، لقد تغطت الحجارة بالوحل فلم ير اليهود قوة بابل، لكن حتمًا يُزال الوحل ويكتشف اليهود الهاربين إلى مصر سلطان بابل.

هـ. في [12] الراعي الذي يرتدي ثوبه يعني أن نبوخذنصر يصير سيدًا على مصر بسرعة وبسهولة جدًا كراعٍ يعبر بقطيعه من موضع إلى آخر فيرتدي ثوبه. أو أن ملك بابل يلتحف بمصر حوله كما يرتدي الراعي ثوبه بسهولة وسرعة[623]. أو أن مصر تصير في قبضة ملك بابل تمامًا كما يسيطر الراعي على ثوبه حين يرتديه في ليلة قارصة البرد.

و. بالنسبة لحرق معابد مصر [13]، كانت العادة في الشرق الأوسط عندما يغزو ملك بلدًا ما يحطم معابدها ويستولي على أصنامها ليأخذها معه. جاء في بردية من جزيرة الفيلة بجوار أسوان بأنه حدث سطو على المعابد بواسطة Cambyses الحاكم الفارسي عندما هزم مصر[624]. وغالبًا ما كانت التماثيل تُحمل في موكب الملوك المنتصرين عند عودتهم إلى بلادهم.

بيت شمس: كان يُطلق على هذا الموضع "أون On, Aven"، يدعى باليونانية "هليوبوليس". وهي مدينة إله الشمس "رع Ra"، تبعد حوالي عشرة أميال شمال شرقي القاهرة، حاليًا صارت جزءًا من العاصمة، وتحتضن مطار القاهرة الدولي. كانت تبعد حوالي 19 ميلاً من شمال مدينة ممفيس القديمة.

كانت المدينة الرئيسية للعِلم المصري. يتحدث عنها هيرودت كأحد أربعة مدن عظيمة، عرفت باحتفالاتها الدينية الخاصة بتكريم الشمس.

هذا وقد أُطلق هذا الاسم على مدن بإسرائيل يهوذا، أحدها في تخم أرض يهوذا الشمالي وكانت تخص بني هرون (يش 15: 10؛ 21: 16) وربما هي عين شمس (يش 19: 41)؛ وأخرى في أرض نفتالي (يش 19: 38) وربما هي عين الشمسية الحالية، والثالثة في تخم أرض يساكر (يش 19: 22) وربما هي نفس المدينة السابقة.

ربما يقصد بالأنصاب [13] المسلاّت الشهيرة في مصر.


 

من وحي إرميا 43

هب لي أن أحتمي فيك،

لا في مدينة فرعون الحصينة!

v     إذ نطق إرميا بالكلمة الإلهية،

حذر رؤساء يهوذا من الإحتماء في فرعون!

اتهموه بالكذب،

وحسبوا باروخ تلميذه قد أثَّر عليه!

v     إرميا النبي في حبه لم يعاتبهم بكلمة،

لكنه في حزم حذرهم لخلاصهم.

حملوه قسرًا إلى مصر،

وهناك لم يتوقف عن الحديث معهم،

بشجاعة أعلن لهم كلمات الحق.

v     ظنوا بهروبهم إلى فرعون ينجون من السيف،

فإذا بسيف بابل يقتل في مصر.

هربوا حتى لا يسبيهم ملك بابل،

فإذا بملك بابل يسبي آلهة المصريين.

ظنوا أن سلامهم في المدن المصرية الحصينة،

فإذا بنار بابل تلتهم المدن وتحرق البيوت!

اختفوا في حصون مصر بعيدًا عن عيني بابل،

فإذا بملك بابل يلتحف بها كثوب راعٍ!

هناك التقى بهم وبددهم!

v     هب لي يارب أن أحتمي فيك،

لا في مدينة فرعون الحصينة!

فالتحف بنعمتك واتحصن باسمك،

عِوض الاختفاء في حصون البشر!

<<


 

الأصحاح الرابع والأربعون

نبواته في مصر

إذ هاجر اليهود قبل خراب أورشليم سنة 587 ق.م. إلى مصر تشتتوا هناك في مواضع مختلفة، فذهب بعضهم إلى مجدل وآخرون إلى تحفنحيس ونوف وأيضًا إلى صعيد مصر. قدم لهم إرميا النبي عندما حُمل إلى مصر كما من المنفي كلماته الأخيرة، تحمل ملخصًا لأحاديثة السابقة (ص 7، 25).

في هذا الأصحاح يوبخ إرميا النبي اليهود الذين في مصر بوجه عام[625] وإلى تجمعات خاصة بهم في البلاد الكبيرة. عوض التوبة اشتركوا في عبادة الأوثان، بل واندفعوا فيها، وظنوا أنها تُقدم لهم الكثير، وقدموا تبريرات لممارستهم العبادة الوثنية، لذلك يعلن الله قضاءه عليهم كما على المصريين الذين اتكلوا عليهم وشاركوهم عبادتهم. لقد نسوا ما حلّ بآبائهم بسبب انحرافهم إلى الوثنية ولم يأخذوا درسًا من الماضي.

1. موجز الأحداث [1-6].

2. التنديد والمحاكمة [7-14].

3. الرد المخزي للبقية [15-19].

4. رسالة إرميا الأخيرة [20-30].

1. موجز الأحداث:

"الكلمة التي صارت إلى إرميا من جهة كل اليهود الساكنين في أرض مصر،

الساكنين في مجدل وفي تحفنحيس وفي نوف وفي أرض فتروس قائلة:

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

أنتم رأيتم كل الشر الذي جلبته على أورشليم وعلى كل مدن يهوذا،

فها هي خربة هذا اليوم وليس فيها ساكن.

من أجل شرهم الذي فعلوه ليغيظوني،

إذ ذهبوا ليبخروا ويعبدوا آلهة أخرى لم يعرفوها هم ولا أنتم ولا آباؤكم.

فأرسلت إليكم كل عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً قائلاً:

لا تفعلوا أمر هذا الرجس الذي أبغضته.

فلم يسمعوا، ولا أمالوا أذنهم ليرجعوا عن شرهم،

فلا يبخروا لآلهة أخرى.

فانسكب غيظي وغضبي واشتعلا في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم،

فصارت خربة مقفرة كهذا اليوم" [1-6].

يتحدث إرميا بكلمة الرب إلى اليهود الذين تشتتوا في مصر. فإنهم وإن كانوا قد عصوا الرب، والتجاؤا إلى مصر عوض الالتجاء إلى الله بالتوبة، فإن الله لا يتركهم يهلكون، إنما يتحدث معهم حتى في الشتات.

أ. مجدل: لفظ سامي معناه "برج" أو قلعة". وهي مدينة حصينة في شمال شرقي مصر، تجاه البحر الأحمر، ليست بعيده عن منطقة البلسم (خر 14: 2؛ عد 33: 7). ربما كانت تل المسخوطة شرقي الإسماعيلية أو تل الهير جنوبي الفرما. العبارة "من مجدل إلى اسوان" تشير إلى تخمي مصر الشمالي والجنوبي كما تشير العبارة "من دان إلى بئر سبع" إلى تخمي فلسطين الشمالي والجنوبي.

ب. تحفنحيس: سبق الحديث عنها في الأصحاح السابق.

ج. نوف: مأخوذه عن العبري "موف" لممفيس عاصمة مصر السفلي، على ضفة النيل الغربية، لها ثلاث أسماء على الأثار:

v     "انب - مج"، "السور الأبيض".

v     "من نفر" أى "المسكن الجيد"، وقد جاء الاسمان نوف وموف مشتقين من هذا الاسم.

v     وأخيرًا "حوت كاتباح" ومعناه " بيت الروح تباح"، ومنه اشتق الاسم اليوناني "ايجيبتوس" لمصر كلها.

تبعد هذه المدينة نحو 12 ميلاً جنوبي القاهرة. ويرى هيرودت أن أول ملوك مصر "مينيس" هو الذي أسسها، ومن أشهر مبانيها هيكل أبيس، وقبر ايزيس، وهيكل السيرابيوم، ومقبرة موف العظيمة. تنبأ النبيان إشعياء وإرميا بخرابها (46: 29). وقد تمّ ذلك على يديْ قمبيز سنه 525 ق.م، أي بعد حوالي 45 عامًا من نبوة إرميا (600 ق.م). انحطت بالأكثر بعد بناء الإسكندرية، واُستخدمت حجارتها في بناء القاهرة. حاليًا في مكانها قرية ميت رهينة، ويوجد أبو الهول من المرمر وتمثال كبير لرمسيس الثاني. 

د. فتروس: كلمة مصرية تعني "أرض الجنوب"، وهو الوصف العام لصعيد مصر (إش 11: 11) المعروف في النقوش الأشورية باسم Pa-tu-ri-si باتوريس. تُعرف بمنطقة "طيبة"، جاء ذكرها بين مصر وكورش (إش 11: 11)، وكانت مقر المصريين الأصلي (حز 29: 14). يقول هيرودت أن منيس هو أول ملك مصري في التاريخ سكن في مصر العليا.

يحذرهم بقوة لئلا يرتكبوا خطايا أسلافهم التي سببت خرابًا ودمارًا لمدن يهوذا، خاصة أورشليم. وكأنه لا يُلقى اللوم على ملك بابل ولا على إرميا بل على الشعب الذي مارس الشر [3] فدخل تحت الغضب الإلهي [6].

لم يتركهم الله، بل سبق فأرسل لهم الأنبياء منذ البداية المبكرة [4] لعلهم يرجعون إلى أنفسهم ويدركون شرهم فيتوبون. كان جوهر حديث الأنبياء لهم، أنه يلزمهم أن يكرهوا ما يكرهه الله: "لا تفعلوا أمر هذا الرجس الذي أبغضته" [4]. وفي العبرية جاء الحديث يحمل نوعًا من الرقة، إذ يعني "أرجوكم ألا تفعلوا الرجاسة التي أنا أبغضها"[626].

2. التنديد والمحاكمة:

"فالآن هكذا قال الرب إله الجنود إله إسرائيل:

لماذا أنتم فاعلون شرًا عظيمًا ضد أنفسكم لانقراضكم رجالاً ونساءً أطفالاً ورضَّعًا من وسط يهوذا ولا تبقى لكم بقية؟!" [7].

ما قد فعلوه حطمهم وسيحطم الأجيال المقبلة، إذ دخلوا بأطفالهم والرضع إلى الشر. كأن الله يقول لهم: "إنكم لا تصيبوني بضررٍ ما، إنما تضرون أنفسكم وأولادكم. أليست أنفسكم لها وزنها في أعينكم؟!"

إن كانوا يحبون أنفسهم فليسمعوا لصوت الرب لئلا يُهلكوا أنفسهم! استخدم الأنبياء أسلوب اللطف مع التحذير. من جهة اللطف يليق بالمؤمن أن يعلن حبه لله، فيجب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله؛ من جهة التحذير يستخدم الخوف، أي لئلا تهلك أنفسهم. يليق بهم أن يكفوا عن الشر إن لم يكن من أجل محبتهم لله وصداقتهم معه واتحادهم به، فمن أجل أنفسهم ذاتها لئلا تهلك.

يحمِّلهم الله المسئولية، فإن ما يصيبهم هو ثمرة شرهم. وكما قيل: "فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم ويشبعون من مؤامرتهم؛ لأن ارتداد الحمقى يقتلهم وراحة الجهال تبيدهم؛ أما المستمع لي فيسكن آمنًا ويستريح من خوف الشر" (أم 1: 31-33). كما قيل: "ولا يكون خيرٌ للشرير، وكالظل لا يطيل أمامه، لأنه لا يخشى قدام الله" (جا 8: 13).

"لإغاظتي بأعمال أياديكم إذ تبخرون لآلهة أخرى في أرض مصر التي أتيتم إليها لتتغربوا فيها،

لكي تنقرضوا،

ولكي تصيروا لعنة وعارًا بين كل أمم الارض" [8].

جاء في البردية الفيلية (من جزيرة الفيلة) Elephantine Papyri أن اليهود في هذه الجزيرة كانوا يعبدون الإلهة "أناث ياهو  Anath-Yahu" أي أناث يهوه[627].

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[628] أن الله سمح لإرميا أن يُحمل مع الشعب إلى مصر، لأنهم وإن كانوا قد عصوا صوت الرب بإصرار شديد، لكنه لا يتركهم في عنادهم. حملوا إرميا ليعلن الصوت الإلهي ولو بغير إرادتهم حتى لا يهلكوا تمامًا.

فضهم الاستماع لإرميا يُظهر مدى الارتداد المستمر في حياة الهاربين إلى مصر. على أي الأحوال، لم ينتفعوا من التجربة بهروبهم إلى مصر حيث تنتشر العبادة الوثنية، مقاومين فكر اله. لقد ألقوا أنفسهم في أرض الخطية.

يوبخهم على استمرارهم في العبادة الوثنية، مقدمين بخورًا للأوثان. إنهم دفعوا بأنفسهم إلى السقوط تحت التجربة بهروبهم إلى مصر حيث تنتشر العبادة الوثنية، مقاومين فكر الله. لقد ألقوا أنفسهم بأنفسهم في أرض الخطية.

"هل نسيتم شر آبائكم،

وشرور ملوك يهوذا،

وشرور نسائهم،

وشروركم،

وشرور نسائكم،

التي فُعلت في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم؟! [9].

يذكرهم بشرور آبائهم ونسائهم، هنا يوضح أن الشر كان منتشرًا على مستوى الملوك والشعب، يُمارس علانية في أرض الموعد وفي مدينة الله، وأوضح أيضًا دور النساء في الإغراء على عبادة الأوثان، كما حدث مع آخاب وسليمان الحكيم.

"لم يذلوا إلى هذا اليوم ولا خافوا ولا سلكوا في شريعتي وفرائضي التي جعلتها أمامكم وأمام آبائكم.

لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

هأنذا أجعل وجهي عليكم للشر ولأقرض كل يهوذا.

وآخذ بقية يهوذا الذين جعلوا وجوههم للدخول إلى أرض مصر ليتغربوا هناك،

فيفنون كلهم في أرض مصر،

يسقطون بالسيف وبالجوع يفنون من الصغير إلى الكبير،

بالسيف والجوع يموتون،

ويصيرون حلفًا ودهشًا ولعنةً وعارًا.

وأعاقب الذين يسكنون في أرض مصر كما عاقبت أورشليم بالسيف والجوع والوبأ.

ولا يكون ناجٍ ولا باقٍ لبقية يهوذا الآتين ليتغربوا هناك في أرض مصر ليرجعوا إلى أرض يهوذا التي يشتاقون إلى الرجوع لأجل السكن فيها لأنه لا يرجع منهم إلا المنفلتون" [10-14].

حين كانوا في يهوذا كانوا يطلبون الذهاب إلى مصر، وإذ جاءوا إلى مصر يشتهون العودة إلى يهوذا.

في [13] يحدثهم عن معاقبة الذين يسكنون في مصر، هنا يشير إلى الحملة التأديبية التي قادها نبوخذنصر عام 568/567 ق.م.،

حتى في عقاب البقية العاصية سوف يسمح الله لقليلٍ من الناجين بالتسرب إلى يهوذا وبذلك يسمح بالاتصال بين الشعب والأرض.

الذين أطاعوا الله وسلموا أنفسهم للتأديب وذهبوا إلى بابل، لم يسقطوا هناك في العبادة الوثنية، لذا يرجعون إلى يهوذا، إنهم التين الجيد (ص 24، 29). أما الذين عصوا المشورة الإلهية وجاءوا إلى مصر، فإنهم وإن كانوا يشتهون العودة إلى يهوذا لكنهم يهلكون في مصر، ليس بسبب عصيانهم فحسب، وإنما بسبب عدم توبتهم، إذ عوض الرجوع إلى الله اشتركوا في عبادة الأوثان وبرروا أنفسهم في ممارستها هؤلاء هم التين الرديء جدًا. لن يعود إلى يهوذا إلا قلة قليلة جدًا، هذه التي حُملت إلى مصر قسرًا. هؤلاء يهربون من مصر قبل مجيء الكلدانيين.

3. الرد المخزي للبقية:

"فأجاب إرميا كل الرجال الذين عرفوا أن نسائهم يبخرن لآلهة أخرى

وكل النساء الواقفات محفلٌ كبيرٌ

وكل الشعب الساكن في أرض مصر في فتروس قائلين:

إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب،

بل سنعمل كل أمرٍ خرج من فمنا

فنبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب،

كما فعلنا نحن وأباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزًا وكنا بخير ولم نرَ شرًا.

ولكن من حين كففنا عن التبخير لملكة السموات وسكب سكائبٍ لها احتجنا إلى كلٍّ وفنينا بالسيف والجوع.

وإذ كنا نبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب، فهل بدون رجالنا كنا نصنع لها كعكًا لنعبدها ونسكب لها السكائب؟!" [15-19].

مما لا يصدقه عقل أن السامعين العصاة ينسبون نجاحهم إلى طقوس العبادات الوثنية التي تمارسها زوجاتهم.

واضح هنا دور النساء في إغراء رجالهن على عبادة الأوثان (1 مل 11: 4؛ 1 تي 2: 14) مع استخدام أسلوب التحدي ضد الله، تحدي النساء على كل المستويات، من نساء ملوك ورؤساء وعامة الشعب [16]. ما أصعب أن يتحدى الإنسان الله نفسه!

ربما الإشارة هنا [16] إلى عصر منسّى الملك قبل إصلاح يوشيا أو عصر يهوياقيم حيث أُستخدمت بعض العادات الخاصة بعبادة ملكة السموات (القمر). فادّعوا أن أحوالهم المادية كانت في ذلك العصر خيرًا مما كانت في عهد الإصلاح، واتخذوا ذلك دليلاً على أن الله لا يكره هذه العادات، لذلك لا ينصاعون إلى كلام إرميا.

ملكة السموات: كلمة m’Ieket (ملكة) يُعتقد أنها إشارة للإلهة الأشورية عشتار Ishtar (الكنعانية عشتارا Astarte)، آلهة الحرب والحب، والتي من ضمن ألقابها العديدة لقب "ملكة السموات" ويُقصد بها القمر، إلهة الفينيقيين، غالبًا ما ترتبط بالإله الذكر بعل Baal، إله العواصف (قض 10: 6؛ 1 صم 7: 4؛ 12: 10). كثيرًا ما يُستخدم صيغة الجمع "عشتاروت"، "بعليم"، وذلك بسبب كثرة الأصنام التي للعشتار والبعل.

كانو يدعون الشمس "ملكًا" والقمر "ملكة". ومع ذلك فموضوع العبادة لا يسهل تحديده بالضبط، لأن بعض المخطوطات العبرية تذكر الكلمة mle’ket ومعناها "العمل الخلاّق"، ولذا فهي تدل على النجوم والكواكب. وفي السبعينية (7: 18) نقرأ "جند السماء"، بينما في مخطوطات قمران نجدها "نجوم السماء".

كانت النساء المتعبدات لملكة السموات، أى للقمر، يصنعن كعكًا على شكل هلال كتقدمة للملكة، ويقدمن لها السكائب علانية وليس من وراء أزواجهن. وكأن مجرد معرفة رجالهن لذلك ينفي عنهن الخطأ. هكذا عوض أن يسند الأزواج بعضهم البعض ليرتفع الكل نحو الله السماوي، إذا بهم يحطمون بعضهم البعض وينحدر الكل إلى الهاوية.

4. رسالة إرميا الأخيرة:

"فكلم إرميا كل الشعب الرجال والنساء وكل الشعب الذين جاوبوه بهذا الكلام، قائلاً:

أليس البخور الذي بخرتموه في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم أنتم وآباؤكم وملوككم ورؤساؤكم وشعب الأرض هو الذي ذكره الرب وصعد على قلبه؟!

ولم يستطع الرب أن يحتمل بعد من أجل شر أعمالكم،

من أجل الرجاسات التي فعلتم،

فصارت أرضكم خربة ودهشًا ولعنةً بلا ساكن كهذا اليوم؟!

من أجل أنكم قد بخرتم وأخطأتم إلى الرب

ولم تسمعوا لصوت الرب

ولم تسلكوا في شريعته وفرائضه وشهاداته،

من أجل ذلكم قد أصابكم هذا الشر كهذا اليوم.

ثم قال إرميا لكل الشعب ولكل النساء:

اسمعوا كلمة الرب يا جميع يهوذا الذين في أرض مصر.

هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً:

أنتم ونساؤكم تكلمتم بفمكم وأكملتم بأياديكم قائلين:

إننا إنما نتمم نذورنا التي نذرناها أن نبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب فإنهن يقمن نذوركم ويتممن نذوركم.

لذلك اسمعوا كلمة الرب يا جميع يهوذا الساكنين في أرض مصر:

هأنذا قد حلفت باسمي العظيم قال الرب إن اسمي لن يُسمى بعد بفم إنسانٍ ما من يهوذا في كل أرض مصر قائلاً حيّ السيد الرب.

هأنذا أسهر عليهم للشر لا  للخير فيفنى كل رجال يهوذا الذين في أرض مصر بالسيف والجوع حتى يتلاشوا.

والناجون من السيف يرجعون من أرض مصر إلى أرض يهوذا نفرًا قليلاً،

فيعلم كل بقية يهوذا الذين أتوا إلى أرض مصر ليتغربوا فيها كلمة أيّنا تقوم.

وهذه هي العلامة لكم يقول الرب:

إنى أعاقبكم في هذا الموضع لتعلموا أنه لابد أن يقوم كلامي عليكم للشر.

هكذا قال الرب:

هأنذا أدفع فرعون حفرع ملك مصر ليد أعدائه وليد طالبي نفسه كما دفعت صدقيا ملك يهوذا ليد نبوخذراصر ملك بابل عدوه وطالب نفسه" [20-30].

يقدم لهم علامة لتأكيد كلماته وهي أنهم إذ يتكلون على فرعون لحمايتهم من ملك بابل، إذ كانوا يتوقعون منه ما لم يتوقعوه من صدقيا، لكن باطلاً يستطيع أن يحمي حتى عرشه أو نفسه.

لقد ظن اليهود أن مصر بلدٌ حصين، تحميه حواجز طبيعية، لن يستطيع عدو أن يقتحمها، لهذا يؤكد هنا انهيار فرعون حفرع أمام ملك بابل.

يندر أن يذكر في الكتاب المقدس اسم ملك مصر بالذات، إذ يقال عادة فرعون لا غير. أما هنا فيذكر اسم الملك "خفرع". يذهب المؤرخون إلى أنه مات سنة 564 ق.م. وقد هاجم بابل قبل موته، ويقول المؤرخون أن فرعون هذا مات ميتة شنيعة.

تميز حكم فرعون حفرع رابع ملك في الأسرة السادسة والعشرين (589-570 ق.م.) بالتدخل في شئون فلسطين لنجدة أورشليم المحاصرة (37: 5)، لكنه انسحب تحت ضغط بابل في عام 588 ق.م.، وبعدها سقطت أورشليم. يذكر هيرودت[629] أنه بعد الحملة على ليبيا (569 ق.م.) تمرد عليه قائد جيشه وهو شاب من أقربائه يسمى احمس Ahmose (Amasis) وأعلن نفسه ملكًا على مصر، وحاول حفرع أن يهزم أحمس في معركة في عام 566 ق.م. لكنه قُتل، كما تنبأ إرميا. ولا يُعرف إن كان إرميا قد عاش ليرى تحقيق ذلك أم لا، إذ حدثت هذه القلاقل في مصر، ظهر نبوخذ نصر هناك.

هذا هو الحديث الأخير لإرميا النبي الذي تم في مصر، لم نسمع عنه بعد ذلك شيئًا في الكتاب المقدس، ولم يُخبرنا تلميذه باروخ عن رحيله من العالم، لكن جاء في التقليد المسيحي أن اليهود رجموه في تحفنيس.


 

من وحيّ إرميا 44

انزع عني كل تحدٍ مهلك!

v     عوض الحب تحداك الشعب والتجأ إلى فرعون.

عوض التوبة شاركوا المصريين عبادتهم الوثنية.

أساءوا تفسير التاريخ،

وحسبوا في الوثنية رخاءً وسلامًا.

v     في غير حياءٍ صنعت العبرانيات كعكًا لملكة السموات.

وجذبن أزواجهن للأوثان.

v     هب لي يارب روح الخضوع والتوبة،

فاسمع صوتك وسط التأديب،

وأدرك معاملاتك عبر التاريخ.

جدد طبيعتي الفاسدة،

واحسبني من التين الجيد،

لأسمع صوتك وارتمي في أحضانك!

قدني بيمينك فلا أهلك!

<<

 


 

الأصحاح الخامس والأربعون

حديث معزي مع باروخ

يأتي هذا الأصحاح بعد الأصحاح الرابع والأربعين حيث يقدم إرميا كلماته الأخيرة ضد الذين نزلوا إلى مصر، وقبل الأصحاح السادس والأربعين حيث يعلن نبواته ضد الأمم، إذ يريد الرب أن يعلن لهؤلاء الذين رفضوا نصيحة إرميا بالبقاء في يهوذا وأرغموه على النزول معهم إلى مصر، أن القضاء الذى نطق به إرميا لا بد أن يتم وذلك مثل الكلام الذى سبق فأملاه على باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم، لكن الملك يهوياقيم رفضه فتم كل الكلام بحذافيره ولم يسقط منه حرف واحد. ولا بد أن يقع القضاء على مصر التي هربوا إليها وذلك بيد نبوخذنصر كما تكلم إرميا، وأنهم لا ينجون من هذا القضاء وهم في مصر.

جاء بعد الأصحاح الرابع والأربعين المشتمل على التهديدات القاسية ضد اليهود في مصر، الذين كان من بينهم باروخ الذى حُمل إلى مصر قسرًا. وكأن هذه الرسالة تقدم استثناءً لباروخ مما قيل عن الذين في مصر[630].

جاءت هذه الرسالة موجهة إلى باروخ الذى أصيب بحالة إحباط لأسباب كثيرة منها:

أ. رد فعل الملك يهوياقيم الذي مزّق السفر وأحرقه بالنار، وطلب القاء القبض على إرميا وباروخ ليقتلهما (إر 36). ربما حسب باروخ هذا الأمر إهانة شخصية له، كما صار مستقبله مظلمًا، لا يعرف ماذا يفعل.

ب. إذ كان باروخ يكتب النبوات ضد شعب يهوذا، ربما شعر بفشل خدمته[631]، فكان ينتظر توبة الملك والرؤساء والشعب فيندم الله على الشر أو التأديب الذى أعلن عنه، وذلك حسب وعده الإلهي.

على أى الأحوال، كان باروخ في حاجة إلى مساندة إلهية لكي يخلص من حالة اليأس التي تسربت إلى نفسه.

مع قصر هذه الرسالة فإنها حديث إلهي مملوء بالرجاء الحي، موجه إلى كل مؤمن يعمل في كرم الرب لكي يمتليء رجاءًا، مهما بدت الظروف قاسية.

أنها رسالة إلهية تعلن عن عنايته التي لن تخيب، وحبه الشديد للعاملين لحسابه، ونظراته المملوءة حنانًا وترفقًا. فانه يهتم بنفسياتهم كما بكل احتياجاتهم.

1. تاريخ الحديث[1].

2. حالة احباط[2-3].

3. رسالة رجاء[4-5].

1. تاريخ الحديث:

من الناحية التاريخية يأتي هذا الأصحاح بعد (36: 8)، فالعبارة التالية تشير إلى الكلام الذى أملاه إرميا إلى باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم ومستشاريه ثم أُلقي في النار بكل احتقار.

"الكلمة التي تكلم بها إرميا النبي إلى باروخ بن نيريا عند كتابته هذا الكلام في سفر عن فم إرميا في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا قائلاً" [1].

2. حالة إحباط:

"هكذا قال الرب إله إسرائيل لك يا باروخ.

قد قلت ويل لي لأن الرب قد زاد حزنا على ألمي.

قد غشي عليّ في تنهدي ولم أجد راحة" [2-3].

يبدو أن باروخ شعر بأن رفض الملك لكلمة الله إهانة موجهة إليه شخصيًا، أو موجهة إليه مع إرميا، لا إلى الرب الذى أمر بكتابة هذا الكلام على الدرج، وهذا أوجد عنده شعور بالخيبة والفشل، لذلك تنهد باروخ ولم يجد راحة. لقد كان مضغوطًا بالخوف ولم يقدر أن ينام، وتثقَّل بالحزن والألم فدخل في حالة احباط.

سبق أن رأينا إرميا النبي يتعرض لنفس المشاعر إلى حين. هذا هو الضعف البشري الذى يلاحق حتى الأنبياء أحيانًا، لكن الله لا يتركهم بلا عون!

3. رسالة رجاء:

إذ استخدم الله باروخ أداة لإعلان مشورته الإلهية إلى الآخرين لا يمكن أن يهمله الرب عندما يدخل في حالة احباط، لذلك يوجه الرب إليه الرسالة الخاصة التالية:

"هكذا تقول له:

هكذا قال الرب:

هأنذا أهدم ما بنيته،

وأقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض.

وأنت، فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة؟! لا تطلب.

لأنى هأنذا جالب شرًا على كل ذي جسد، يقول الرب،

وأعطيك نفسك غنيمة في كل المواضع التي تسير إليها" [5].

إن كان الحكم قد صدر على كل الدول في ذلك الحين، لكن جاء الأمر الإلهي مشددًا على شعبه، فقد بناه بنفسه وغرسه ككرمٍ خاص به، لكن بسبب العصيان قام الله نفسه بهدمه واقتلاعه.

يقدم الرب إلى باروخ كلمة تصلح شعارًا لكل واحدٍ منا، هذه الكلمة هي "وأنت، فهل تطلب لنفسك أمورًا عظيمة؟ لا تطلب". فكم يميل القلب إلى طلب الأمور العظيمة.

كان باروخ رجلاً متعلمًا، أُعدَّ ليكون كاتبًا، وكان أخوه سرايا رئيس المحلة عند صدقيا الملك (51: 59)، لذلك ربما ترجى باروخ أن ينال منصبًا في القصر الملكي لخدمة شعبه، لكنه يرى كل شيء ينهار أمامه.

لننظر إلى مسيحنا الذي لم يكن له موضع في المنزل عند ولادته. ومع أن الماشية والقطعان فوق الجبال ملك له استعار الجحش والأتان ليركب عليهما. كما استعار من إنسانٍ علية لعشاء الفصح؛ بينما أقرضه آخر قبره الجديد. قيل عنه: "وأخر كثيرات كنعان يخدمنه من أموالهن" (لو 8: 3).  كانت للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما هو فلم يكن له موضع يسند فيه رأسه (مت 8: 10). قيل عن الآخرين "فمضى كل واحدٍ إلى بيته، أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون" (يو 7: 53، 8: 1)، لأنه لم يكن له بيت هنا. وينطبق عليه تمامًا القول: "لماذا تكون كغريبٍ في الأرض وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!" (14: 8). لم يكن له موضع بين العظماء أثناء وجوده بالجسد على الأرض، بل كان دائمًا غريبًا. كان مرفوضًا حتى من خاصته (يو 1: 11). ليتنا نحن أيضًا لا نطلب أمورًا عظيمة في هذا العالم؛ الأمور العظيمة المختصة بنا آتية عما قريب وهي الأمور الباقية والثابتة، لأن الأمور التي تُرى هي وقتية أما التي لا ترى فهي أبدية (2 كو 4: 18).

v     إن امتدحك الله وأكرمك، فهل سيكون هناك من هو مبارك أكثر منك؟! لأن الفرق بين المجد الذي من الله والمجد الذي من الناس أعظم بكثير من الفرق بين المجد والعار هنا...

v     مع أنه في استطاعتك أن تحيط نفسك بشهودٍ من السماء، إلا أنك تستعيض عنهم بمتفرجين أرضيين[632].

القديس يوحنا الذهبي الفم

نجد توبيخًا لباروخ لشعوره بالاكتئاب فيما يخص مستقبله. حقًا سيجيء القضاء، لكن هذا القضاء لا يمكن أن يمسه بأي سوء؛ فليأتِ السيف ولتأتِ المجاعة وليأتِ الوباء ويهلك الكثيرون أما باروخ فيحفظه الرب. وإن هاج الناس عليه لا يمكن أن يصيبه أذى أو سوء، لأن الرب سند له.


 

من وحي إرميا 45

ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة

v     أحشائي تئن من أجل كل نفسٍ!

أعماقي تصرخ بسبب ضعفات كل إنسانٍ!

تسلل اليأس إليَّ،

صرت كمن هو في حالة إحباط،

من يستطيع أن ينقذني سواك؟!

v     ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة!

حين يصير العالم كله مظلمًا في عينيْ،

إشراقات حبك تملأني رجاءً،

نعمتك تؤكد لي أنك إله المستحيلات!

v     في ضعفي كثيرًا ما ظننت في خدمتك خسارة،

معك أفتقر لكي يغتني الكثيرون!

معك أحمل التعييرات لكي يُكرم الكل!

معك أموت لكي تحيا كل نفسٍ أبديًا!

v     خدمتك صليب مجيد،

به تصير السموات مفتوحة،

وتتهلل نفسي مع كل نفس متهللة،

وأحسب إكليل الكل إكليلي!

<<


 

الأصحاحات 46-51

نبوات عن الأمم

في دراستنا لأسفار حزقيال (25-32) وإشعياء (31: 23) وعاموس (1-2)، وصفنيا (2: 4-15) تحدثنا عن النبوات ضد الأمم التي غالبًا ما كانت لتأديبهم. واضح أن هذه النبوات لم ينفرد بها نبي معين، لكنها تكاد تكون مشتركة بين الأنبياء، وتمثل جزءًا حيًا من الكلمة الإلهية التي تود أن تكشف لكل البشرية عن الله نفسه ومعاملاته معهم.

يمكننا في إيجاز هنا أن نوضح أسباب اهتمام النبوة بالأمم:

1. الله هو إله البشرية كلها، حتى وإن انحرفت. فمهما بدى تأديبهم قاسيًا فإن غايته هو رجوعهم إلى الله ليتمتعوا بشخصه ومواعيده الإلهية. لهذا كثيرًا ما تُختم النبوات ضدهم بفتح باب الرجاء أمامهم ليختبروا الحب الإلهي. إن كان العهد القديم قد احتوى على نبوات ضد الأمم، لكنه لم يقف عند ذلك بل فتح الطريق أمامهم لإدراك سر العهد الجديد الذي قدم كلمة الله لحساب الأمم. هؤلاء الذي كانوا غرباء صاروا قريبين، أهل بيت الله، وكما يقول الرسول بولس: "أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أف 2: 13). إن كانت حاجة إلى برهان على أن إله إسرائيل كان يُنظر إليه أنه إله الأرض كلها فهنا نجد البرهان[633]. هذا ما سنراه واضحًا في الأصحاحات التالية.

2. ترمز الأمم الساقطون في عبادة الأصنام برجاساتها إلى الخطية نفسها، خاصة وأن بعضهم كانوا يقدمون أطفالهم ذبائح بشرية للأوثان بإجازتهم في النار. دمارهم يشير إلى التخلص من الخطايا ذاتها ومن مصادرها لكي يحيا الإنسان في بر السيد المسيح. يقول العلامة أوريجينوس: [في رأيي أن بعض أسماء الشعوب أو الملوك التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس تخص بلا شك الملائكة الأشرار أو السلاطين المضادة، مثل فرعون ملك مصر ونبوخذنصر ملك بابل وأشور[634]].

يرى القديس جيروم في تفسيره للمزامير[635] أن الأمم المقاومة لله ولشعبه والتي خضعت للتأديب هي إحدى عشر أمة إشارة إلى النقص، إذ لم تبلغ اثنتي عشرة، رقم الكمال الذي يشير إلى ملكوت الله على الأرض.

3. الله ضابط الكل وصانع التاريخ له السيطرة التامة على الأفراد كما على الأمم. لقد شعر الأنبياء في كل مراحل نشاطهم أنهم يشاركون في الأحداث التي يكون لها أكثر من مجرد معني محلي أو قومي، لهذا اهتموا اهتمامًا جادًا بسلوك الشعوب الأجنبية التي لا يمكن عزلها عن خطة الخلاص التي أعدها الله. وقد عبر ذلك الاهتمام عن نفسه أحيانًا بإدانة الشعوب المجاورة.

يوجد ثلاثة أسفار نبوية ركزت بالكامل على قوة أجنبية: سفر عوبديا على أدوم، ويونان وناحوم على نينوى[636]

في هذا الفصل يعلن إرميا النبي عن القضاء الإلهي على الشعوب الوثنية التالية:

                        1. نبوات عن مصر في الجنوب ص 46.

                        2. نبوات عن فلسطينفي الغرب47: 1-7.

                        3. نبوات عن صور وصيدافي شمال غرب47: 4.

                        4. نبوات عن موآبفي جنوب شرقص 48.

                        5. نبوات عن عمونفي الشرق49: 1-6.

                        6. نبوات عن أدومفي جنوب شرق49: 7-22.

                        7. نبوات عن سوريافي الشمال49: 23-27.

                        8. نبوات عن قيدارفي الشمال49: 28-33.

                        9. نبوات عن حاصورفي الشمال49: 28-33.

                        10. نبوات عن عيلامفي شمال شرق49: 34-39.

                        11. نبوات عن بابلفي شمال شرقص 50، 51.

جاء ترتيب النبوات ليس حسب تواريخ حدوثها، وإنما حسب مواقع الأمم، مبتدأ من الغرب ومتجهًا نحو الشرق.

<<


 

الأصحاح السادس والأربعون

ارتعاب مصر الوثنية

يبدأ إرميا النبي بمصر في نبواته ضد الأمم الغريبة للأسباب التالية:

أ. كانت المنطقة كلها تعيش إلى فترةٍ طويلة من الزمن تحت النفوذ السياسي المصري.

ب. كانت المشكلة السياسية التي يُعاني منها إرميا النبي هي ميل الملك ورجاله مع القيادات الدينية خاصة الأنبياء الكذبة وأيضًا الشعب إلى الاتجاء إلى فرعون والتحالف معه ضد بابل حتى لا تسقط يهوذا تحت السبي البابلي كما سقطت إسرائيل تحت السبي الأشوري. أُتهم إرميا وكاتبه بالخيانة الوطنية لرفضهم الالتجاء إلى فرعون والاحتماء تحت ظل جيشه.

ج. لم ينسَ العبرانيون عبر الأجيال الظلم الذي سقطوا تحته بواسطة فرعون خاصة في أيام موسى النبي، وبقيت قصة الخروج حية في حياتهم تعبَّر عن عمل الله الخلاصي وإنقاذهم من عبودية إبليس وتحريرهم من الظلم.

د. من الجانب التأويلي يُنظر إلى مصر وبابل في العهد القديم كأعظم قوتين في العالم في ذلك الحين يمثلان الخطية. تمثل مصر حياة الرخاوة والترف ومحبة العالم، وذلك بسبب كثرة خيراتها. وتمثل بابل العصيان والكبرياء ضد الله وشعبه. لهذا بدأت الأمم هنا بمصر لتمثل حياة الرخاوة المفسدة للنفس وانتهت ببابل التي تمثل تمرد النفس وعجرفتها.

بدأ بمصر وختم بابل لأنه غالبًا ما يركز الإنسان فكره على البداية والنهاية فيعطيهما الأولوية والاهتمام في الدراسة والفحص.

هـ. بدأ بمصر لأنها وإن خضعت للتأديب القاسي لكنها تعود وتقبل عمل الله الخلاصي، فتسمع الوعد الإلهي: "مبارك شعبي مصر" (إش 19: 25)، فصارت تمثل كنيسة الأمم التي جاء إليها الرب راكبًا على سحابة سريعة (إش 1: 19)، أما بابل فتمثل مملكة ضد المسيح فنسمع في سفر الرؤيا الصرخة: "سقطت، سقطت بابل العظيمة، فصارت مسكنًا للشياطين ومحرسًا لكل روحٍ نجس..." (رؤ 18: 2).

و. في سنة 609 ق.م. إذ حشد فرعون نخو جيشه تقدم به لاحتلال أرض الفرات، وقتل يوشيا الملك الصالح في معركة مجدو لأنه حاول تقديم معونة عسكرية لملك أشور، وصار حزن شديد وسط الشعب، فكانوا يتساءلون: لماذا سمح الله بقتل الملك الصالح؟ لقد حان الوقت للانتقام للدم البريء من فرعون مصر.

ولعله لذات الأسباب السابقة احتلت النبوات ضد مصر مركز الصدارة في سفر حزقيال (أصحاحات 29-32).

                        1. دعوة إلى معركة[1-4].

                        2. ارتعاب مصر[5-6].

                        3. كبرياء مصر[7-8].

                        4. يوم للسيد الرب [9-10].

                        5. سقوط مصر[11-12].

                        6. قضاء مصر[13-17].

                        7. سبي وخراب[18-26].

                        8. تعمير مصر [26].

                        9. إصلاح إسرائيل الجديد [27-28].

1. دعوة إلى معركة:

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم.

عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذرانصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا" [1-2].

بقي الجيش المصري مرابضًا في كركميش (في الطريق بين بابل ومصر) لمدة أربع سنوات (609-605 ق.م) خلالها كان فرعون مسيطرًا على سوريا ومصر، يقيم لهم ملوكًا يحركهم كما يشاء كدميات، أما القوة الرئيسية الأخرى أي البابلية فكانت منشغلة بأمورٍ أخرى، وأخيرًا هجم الجيش البابلي على المصريين في كركميش لاقتلاعهم تمامًا.

غلب فرعون نخو البابليين واستولى على كركميش في عام 605 ق.م، وقام بتحصينها، ثم عاد إلى بلده. لكن في تلك السنة أرسل نبوبلاصر ابنه نبوخذنصر بجيشٍ ضد فرعون حيث انتصر بالقرب من نهر الفرات ورد مدينة كركميش، وطارد المصريين حتى ديارهم، واخضع كل الولايات الثائرة.

جاءت النبوة هنا تخص انهيار جيش نخو في معركة كركميش على نهر الفرات، الأمر الذي لم يكن متوقعًا بسبب قوة الجيش المصري. فقد أوضح هنا كيف تهيأ الجيش للعمل بنفسيةٍ عاليةٍ جدًا وثقة ويقين أن النصرة تتم حتمًا.

معركة كركميش (2 أي 35: 20، إش 10: 9).

كلمة "كركميش" تعنى "قلعة كموش" إله موآب الرئيسي (2 مل 23: 13)[637].

تمت في السنة الرابعة من مُلك يهوياقيم وفي السنة الأولى لنبوخذنصر كملك بابل (25: 1). وهي احدى المعارك الحاسمة في التاريخ القديم، قضت على سلطان مصر الذي دام زمانًا طويلاً على المنطقة السورية الفلسطينية.

تصف النبوة ما كان عليه جيش مصر وذلك في شكل دعوى إلى المعركة موجهة من قادة الجيش المصري إلى رجالهم الأبطال:

" أعدوا المجن والترس، وتقدموا للحرب.

أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ.

اصقلوا الرماح.

ألبسوا الدروع" [3-4].

طلب القادة أن يعد الكل المجن والترس، أي يحملوا العدة الحربية بكل أحجامها وأنواعها، وأن يستعد الفرسان وقادة المركبات. فقد عُرفت مصر كأفضل مصدر للأنواع الجيدة للخيول (1 مل 10: 28).

2. ارتعاب مصر:

"لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء وقد تحطمت أبطالهم وفروا هاربين ولم يلتفتوا؟!

الخوف حواليهم يقول الرب.

الخفيف لا ينوص، والبطل لا ينجو.

في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا" [5-6].

رأى إرميا بروح النبوة كيف انهار جيش فرعون عند هزيمتهم على يديْ نبوخذنصر، فقد كانت الضربة غير متوقعة وذلك بالنسبة للاستعدادات الضخمة التي كانت لجيش فرعون ولكبريائهم وتشامخهم كأعظم قوة عالمية في ذلك الحين.

هكذا عندما يتشامخ القلب جدًا، ويمتلئ كأس العجرفة تحل الهزيمة ويسقط الإنسان، فإنه "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19).

دخل الجيش إلى حالة رعب، ليس لهم الله أن يتقدموا إلى الأمام حيث نهر الفرات، وإنما في رعب يهربون إلى الوراء وقد تحطم الأبطال. عوض اليقين بالنصرة حل بهم الخوف من كل جانب. ارتبك الكل، فالخفيف أي السريع الحركة تعثر ولم يعد قادرًا على الهروب (لا ينوص)، والقوي لا ينجو.

إن كانوا يتشامخون بنهر النيل كمصدر حياتهم ورخائهم، صار نهر الفرات قبرًا لأبطالهم حيث تعثروا وسقطوا قتلى.

هذا هو عمل الخطية! إنها تبعث الخوف الداخلي في النفس فتحطمها. لا تستطيع أن تلتفت إلى الأمام ولا إلى ما هو حولها بل تنحدر دومًا إلى الخلف، وتفقد سرعتها في الحركة وقوتها، وأخيرًا تسقط كجثةٍ هامدةٍ بلا حياة.

3. كبرياء مصر:

"من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواجها؟

 تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه.

فيقول أصعد وأغطي الأرض.

أهلك المدينة والساكنين فيها" [7-8].

خطية فرعون هي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء. في تشامخه ظن أنه كنهر النيل الذي في فترة فيضانه تمتلئ قنواته كأنهار تجرى حوله لتغطي الأراضي بمياهها وطميها. لا يستطيع أحد أن يقف أمام هذا الفيضان أو يقاومه. في كبرياء يقول فرعون: "نهر لي وأنا عملته لنفسي" (حز 29: 3). يُقال إنه قصد به فرعون حفرع الذي افتخر بأمرين: أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا النهر إنما لأجله هو قد وُجد. لقد أقام "الأنا" إلهًا، هي الصانعة للنهر، سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيروديت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرين عامًا، وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلاً إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته.

في سفر حزقيال (ص 29) يُشبه فرعون مصر بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره، يظن أنه خالق النهر لحساب نفسه، يجلس في النهر كما في عرشه ليدافع عن الأمم المحيطة به المتحالفة معه.

4. يوم للسيد الرب:

"اصعدي أيتها الخيل وهيجي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال.

كوش وفوط القابضان المجن،

واللوديون القابضون والمادّون القوس.

فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه،

فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم.

لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات" [9-10].

إذ يتطلع إرميا النبي إلى المعركة ويرى انهيار فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة الذين استأجرهم، يدعو ذلك اليوم "يوم للسيد رب الجنود". إنه ليس كيوم معركة هرمجدون "يوم الله القادر على كل شيء" (رؤ 16: 14)، إنما يشبهه. هو يوم نقمة حيث يسقط فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة أو المتحالفة معه القادمة من كوش (أثيوبيا أو النوبة) وفوط (ليبيا) واللوديون (أفريقيون غالبًا كانوا يقطنون ليبيا).

5. سقوط مصر:

"اصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر.

باطلاً تكثرين العقاقير.

لا رفادة لكِ.

قد سمعت الأمم بخزيكِ،

وقد ملأ الأرض عويلكِ،

لأن بطلاً يصدم بطلاً فيسقطان كلاهما معًا" [11-12].

إذ سقط جيش فرعون لم يعد يرى النبي في الجيش أبطالاً، بل رآه كله أشبه بفتاة، أو ببنتٍ ضعيفة مجروحة، جراحاتها خطيرة لا يُرجى شفائها.

لقد عُرفت مصر القديمة بنبوغها وتقدمها في الطب، خاصة الطب النباتي. حاليًا تقوم دراسات مكثفة حول هذا الطب. لكن يرى النبي أن عقاقير مصر وخبراتها الطبية عجزت عن تقديم الشفاء لجيشها الجريح. صاروا في خزي وامتلأت الأرض من صراخاهم حيث يتعثر بطل في بطلٍ ويسقط الكل معًا.

أين العلاج؟ في جلعاد حيث تجد البلسان!

عليها أن تصعد إلى هناك فتنال الشفاء!

إنها في حاجة إلى روح الله القدوس الذي وحده يمسك بيد البنت الأممية ليصعد بها من وحل هذا العالم وفساده إلى كنيسة المسيح، جلعاد الحقيقية، هناك تجد السيد المسيح، البلسان الروحي واهب الشفاء.

إنها دعوة إلى الأمم التي يُرمز لها بمصر لتترك عقاقيرها الكثيرة وتلجأ إلى كنيسة المسيح، هناك تتحد مع المخلص الذي يضمد جراحات النفس ويشفيها[638].

6. قضاء من بابل:

"الكلمة التي تكلم بها الرب إلى إرميا النبي في مجيء نبوخذرانصر ملك بابل ليضرب أرض مصر.

أخبروا في مصر وأسمعوا في مجدل وأسمعوا في نوف وفي تحفنحيس قولوا انتصب وتهيأ لأن السيف يأكل حواليك.

 لماذا انطرح مقتدروك؟!

لا يقفون لأن الرب قد طرحهم.

كثَّر العاثرين حتى يسقط الواحد على صاحبه، ويقولوا:

قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم.

قد نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك.

قد فات الميعاد" [13-17].

يرى البعض أن الحديث هنا عن المعركة التي تمت بعد معركة كركميش بحوالي 15 أو 16 عامًا حيث جاء ملك مصر بجيشه العظيم لمحاربة نبوخذنصر أثناء حصاره أورشليم. اضطر نبوخذنصر إلى فك الحصار مؤقتًا حتى يحقق نصرته على جيش فرعون ويعود ثانية إلى محاصرة المدينة واقتحامها (37: 1-10). بعد عودته إلى بابل تحققت هذه النبوة إذ عاد ليقيم حربًا مع مصر ليهزمها تمامًا، فصارت بابل القوة العظمى الوحيدة في العالم في ذلك الحين (دا 2: 37-42؛ 7: 4).

كثيرا ما افتخر فرعون حفرع (Apries) Hophra بقوته في حماية حلفائه، لكن ظهر عجزه تمامًا في اللحظات الحاسمة. يُعتبر هذا وصمة عارٍ تلحق باسمه الذي يحمل تورية عن الجدية، فإن الفعل العبري hebir يعني "ليعبر" مشابهًا الاسم المصري لفرعون (whiher) Apries[639].

يكشف [16] عن انهيار الجنود المرتزقة أو المتحالفة مع فرعون فقد أخذوا درسًا قاسيًا من المعركة، وقرروا العودة إلى بلادهم، إذ قالوا: "قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم" [16].

تُرجمت كلمة "هالك" [17] هنا بـ "ضجيج"، ويمكن تفسيرها هكذا:

v     تعثر الجبابرة إذ سقط الواحد على الآخر، وصار الصراخ الموجه إلى الملك هو: "ضجيج!" [17].

v     لعله يُقصد بهذا أن وعود الملك بحماية الأمم الأخرى خلال سنوات ملكه السابقة لم تكن إلا ضجيجًا لا معنى له. فقد عجز فرعون عن تقديم أي عون حقيقي ليهوذا أو حتى لبلده، إذ قيل "فإن مصر تُعين باطلاً وعبثًا" (إش 30: 7).

v     أيضًا ربما صار هذا هو مفهوم المرتزقة، إذ أدركوا أن حسابات فرعون العسكرية خاطئة ولم تكن إلا ضجيجًا.

v     ربما قُصد به أن الملك لم يتعلم درسًا من معركة كركميش السابقة فحطم بلده بعدم حكمته.

7. سبي وخراب:

أخيرًا يصور لنا الخراب الذي حَّل بمصر التي ظنت أنها قادرة على إنقاذ يهوذا من أيدي البابليين:

أ. ارتفاع اسم بابل أو ملكها نبوخذنصر:

"حيّ أنا يقول الملك رب الجنود اسمه كتابور بين الجبال وككرمل عند البحر يأتي" [18].

لقد ظن فرعون أنه سيحطم بابل، وينزل بملكها إلى الهاوية، فإذا بهزيمة مصر تجعل من بابل الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، فيصير اسمها مشهورًا جدًا كشهرة جبل تابور وسط جبال كنعان، وكشهرة الكرمل عند البحر. أكد الله الملك رب الجنود بقسمٍ أن هذا يتحقق فعلاً وليس تهديدًا.

يبدو أن إرميا النبي رأى في نبوخذنصر الذي غزا مصر بقوة جبلاً عاليًا يرتفع فوق السهل. إنه مثل جبل تابور الذي يرتفع حوالي 1800 قدمًا كجبلٍ منفردٍ في سهل يزرعيل في شمال إسرائيل، أو مثل جبل الكرمل عند البحر الذي تبلغ قمته حوالي 1700 قدمًا وينحدر سفحه الغربي بحدة نحو البحر المتوسط[640].

ب. صارت مصر بنتًا عاجزة عن التصرف:

"اصنعي لنفسك أهبة جلاء أيتها البنت الساكنة مصر،

لأن نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن" [19].

جاءت الضربة قاضية في هذه المرة، حيث حُطمت مصر كلها، خاصة المدن الكبرى. يصور مصر بفتاة مسبية لا تقدر على الدفاع عن نفسها أو الهروب من الذين أسروها، هذا عن جيشها العظيم وملكها فرعون المتشامخ، أما عن الأرض فصارت نوف وهي من المدن الكبرى كما رأينا خرابًا، أحرقتها النيران، لا يقطنها إنسان.

ج. صارت مصر كعجلة مسمنة لا تصلح إلا للذبح:

"مصر عجلة حسنة جدًا.

الهلاك من الشمال جاء جاء" [20].

لماذا يشبه مصر بالعجلة الحسنة جدًا؟ لقد ظن فرعون بجيشه الذي من بين معبوداته الرئيسية عجل أبيس أنه قادر أن يخلص شعب يهوذا الذي في نظره يعجز الله رب الجنود عن إنقاذه. لم يدرك فرعون أنه قد حول بهذا الفكر مصر إلى عِجلة تحمل الصورة الحسنة جدًا، وذلك بسبب شهرتها في العالم كله، وقوة جيشها، وإمكانياتها من جهة الخيول والمركبات وكل العدة الحربية. لكنها عجلة سمينة عاجزة عن أي عمل، لا تصلح إلا لذبحها، يأتي الذين من الشمال (بابل) ليذبحوها.

لقد حوَّل العجل أبيس عابديه إلى عجلة حسنة جدًا تؤكل وتستهلك فلا يكون لها حياة!

د. حوَّلت حلفاءها والجنود المرتزقة إلى عجول سمينة:

أيضًا مستأجروها في وسطها كعجول صيرة،

لأنهم هم أيضًا يرتدون يهربون معًا.

لم يقفوا لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم" [21].

لم تصر مصر الوثنية وحدها عجلة كمعبودها عجل أبيس، وإنما حولت مستأجريها أي القوات المرتزقة الأجيرة والتي حلت في وسطها وشاركتها عبادة العجل إلى عجول صيرة أي سمينة. جاءوا للدفاع عنها مع جيشها فصارت ذبائح سمينة للقتل.

هـ. صارت حركتها كحفيف الحية:

"صوتها يمشي كحية لأنهم يسيرون بجيش وقد جاءوا إليها بالفؤوس كمحتطبي حطب" [22].

استخدم إرميا النبي تشبيه الحية الخارجة من الغابة لتُضرب بالفؤوس، لأنه كان للحية مكانة عالية بين الآلهة عند المصريين. إنها عاجزة ليس فقط عن حماية العابدين لها، بل وحتى عن حماية نفسها.

إذ تحرك الجيش المشاة مع الفرسان والمركبات وكانت الأصوات رهيبة ومرعبة... نظر إليه النبي فرآه أشبه بحية خارجة من وسط الغابة تزحف بصوت ضعيف للغاية يصعب سماعه، تسقط تحت ضربات لا فأس محتطبٍ واحدٍ بل عدة فؤوس لقاطعي الأخشاب!

إنها سخرية بهذا الجيش العظيم الذي بكل إمكانياته لا يزيد عن صوت تحرك حية عاجزة أمام فؤوس كثيرة.

و. صارت كشجرة تسقط تحت ضربات فؤوس كثيرة:

"يقطعون وعرها يقول الرب وإن يكن لا يحصى لأنهم قد كثروا أكثر من الجراد ولا عدد لهم" [23]. إنها تعجز أن تقاوم أو حتى تشتكي المعتدين عليها. تنهار عليها الفؤوس غير المحصية لتسقط وتتحطم إلى قطع خشبية صغيرة لا تصلح إلا للنيران.

إن كانت الشجرة تستطيع أن تصرخ أمام ضاربيها بالفؤوس، يمكن لفرعون أن يرفع صوته مشتكيًا نبوخذنصر.

ز. صارت كفتاة بيعت لشعب معادٍ لها.

"قد أخزيت بنت مصر ودفعت ليد شعب الشمال" [24].

"قال رب الجنود إله إسرائيل:

هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه.

وأدفعهم ليد طالبي نفوسهم وليد نبوخذرانصر ملك بابل وليد عبيده" [25-26].

8. تعمير مصر:

"ثم بعد ذلك تسكن كالأيام القديمة يقول الرب" [26].

لا يختم على مصر بالخراب بل بالتعمير، فالله وإن كان يؤدب لكنه يشتاق إلى تقديس كل بشر. لقد كشف بتأديباته عن جراحات النفس لا لتبقى في آلامها بل لتطلب يد الطبيب السماوي، فيضمد جراحاتها، ويقدم لها نفسه بلسمًا من جلعاد فتنعم بكمال الصحة. عندئذ يتحقق فيها الوعد الإلهي: "في ذلك اليوم يكون مذبح في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة للرب في أرض مصر" (إش 19: 19-20). وقد تحقق ذلك منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع 2: 10)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل.

9. إصلاح إسرائيل الجديد:

"وأنت فلا تخف يا عبدي يعقوب، ولا ترتعب يا إسرائيل،

لأني هأنذا أخلصك من بعيد ونسلك من أرض سبيهم فيرجع يعقوب ويطمئن ويستريح ولا مخيف.

 أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني أنا معك لأني أفني كل الأمم الذين بددتك إليهم.

 أما أنت فلا أفنيك بل أؤدبك بالحق ولا أبرئك تبرئة" [27-28].

التقينا بهذا النص قبلاً في (30: 10-11) يتبعه وعد مسياني (داود ملكهم إر 30: 9). هنا نلاحظ أن الوعد قد جاء مباشرة بعد تقديم وعد إلهي لمصر بتعميرها بعد الخراب، وكأن ما تناله مصر من وعود مرتبط بخلاص إسرائيل الجديد، وتمتع الأمم بالإيمان الحي.

للنص هنا تفسيران:

أولاً التفسير التاريخي: إذ تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي، واستراح إسرائيل إلى حد ما، إذ تحرروا من السبي. هنا يؤكد ان سر الراحة ليس مجرد تغيير المكان، أي خروج من أرض السبي إلى أرض الموعد، وإنما تغيير الوضع الداخلي، وهو عوض الارتباط بالعبادات الغريبة يعلن الله عن نفسه للمؤمنين ويؤكد معيته معهم: "أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني معك".

ثانيًا: التفسير التأويلي، إسرائيل هنا هي كنيسة العهد الجديد، الشعب القادم من كل الأمم، يعقوب المجاهد الروحي الذي انعتق من سبي الخطية ودخل إلى التمتع بأورشليم العليا، ونال عربون السمويات.


 

من وحي إرميا 46

 حوِّل أممي الداخلية إلي مقادس لك!

v     في داخلي أمم كثيرة احتلت قلبي،

أفسدته بالكبرياء مع الفساد وكل نجاسة.

لتحطم تلك الأمم في أعماقي،

ولتقمها من جديد أممًا مقدسة!

فتتحول كل طاقاتي لمجد اسمك القدوس!

v     أقام فرعون عرشه في داخلي،

فتحول كياني كله إلى العجرفة والتشامخ،

صرُت كتمساح كبير في وسط النيل،

يظن أنه ملك النهر وصانعه!

هذه هي الأنا التي حطمت كل صلاح فيّ!

لتحطمها بصليبك،

عوض فرعون أملك أنت في أعماقي،

أقم عرشك فيَّ،

فأشاركك اتضاعك،

وأعيش معك أبديًا!

v     ضرب قادة فرعون العسكريون بالبوق،

فاجتمع المشاة مع الفرسان بلا عدد،

وجاءت القوات المرتزقة والمتحالفة بقوة،

أعدت كل أدوات الحرب وجميع المركبات.

ظن العالم كله أنه ليس من يقف أمام هذا الجبروت.

لكن إذ حلّ بهم الغضب الإلهي انهار الجيش أمام نبوخذنصر.

صار الجيش العابد العجل عجلاً مسمنًا يستحق الذبح،

هرب كحية لا يُسمع لها صوت تتحطم بفؤوس المحتطبين.

صاروا كفتاة مسبية دُفعت إلى شعبٍ غريبٍ في مذلة.

صاروا كشجرة تُضرب بالفؤوس ولا تستطيع أن تنطق ببنت شفةٍ.

v     نعم، هذا ما فعلته بي الخطية!

حولتني إلى حياة حيوانية،

كعجلٍ مسمنٍ لا يصلح إلا للذبح،

جعلت من نفسي التي على صورتك حية دنسة هاربة في ضعف.

صارت في ضعف كفتاة مسبية تذلها الخطية وتلهو بها الشياطين!

افقدتني حياتي فصرت كقطعة خشب تضرب بالفؤوس!

v     من لي غيرك يرد لي كرامتي؟!

تجدد طبيعتي الحيوانية الفاسدة فأنعم بشركة السمائيين!

عوض صورة الحية التي انطبعت في داخلي،

احمل صورتك أيها القدوس.

عوض بنوتي لإبليس، الحية القديمة، أتمتع بالبنوة للآب محب البشر!

لا يعود يصير صوتي كحفيف حية، بل صوت هتافٍ ملائكي،

صوت نصرة دائمة لا تنقطع!

تتحول أعماقي من فتاة مسبية يذلها الكثيرون،

إلى عروس عذراء للعريس السماوي الممجد!

لا تعد قطعة خشب تحطمها الفؤوس،

بل شركة مع الصليب واهب الحياة!

v     لتقتل في داخلي مصر الوثنية،

لتهرب إليها أيها القدوس،

لتأتِ محمولاً على سحابة خفيفة بيضاء،

ولتقم مذبحك في داخلي!

<<


 

الأصحاح السابع والأربعون

سيف الرب على الفلسطينيين الوثنيين

والقوات المتحالفة معهم

بدأ إرميا النبي نبواته ضد الأمم بمصر بكونها ترمز لحياة الرخاوة والتهاون كأول باب ينفتح للخطايا كي تتسلل إلى النفس وتفسدها. الآن يتحدث عن الفلسطينيين  الوثنيين حيث كانوا يحملون عداوة ضد الله الحيَّ وضد شعبه. كأن هذه النبوات موجهة ضد خطية العنف والعداوة لله وللناس.

غالبًا ما برهن المصريون أنهم أصدقاء باطلون، قدموا وعودًا بالخلاص، فدفعوا شعب الله إلى الاتكال على الذراع البشرى العاجز، أما الفلسطينيون فغالبًا ما حملوا روح العداوة و المقاومة، ومما يزيدهم خطورة أنهم كانوا من ألصق الجيران لهم.

بدأت العداوة بدخول الإسرائيليين أرض الموعد حيث احتلوا بعض مدنهم بعد موت يشوع (قض 1: 18)، ولكن الفلسطينيين استردوا مدنهم وسقط العبرانيون فى قبضتهم (قض 10: 6-7) ثم أُنقذوا. عاد فأذل الفلسطينيون العبرانيين أربعين عامًا حتى أنقذهم شمشون (قض 14-16)، وفى عهد صموئيل النبي استولوا على تابوت العهد (1 صم 14-16)، ثم عاد فهزمهم صموئيل النبي بعد عشرين عامًا. دخلوا فى حرب مع إسرائيل فى أيام شاول الملك، وأُخضعوا فى أيام داود النبي، لكنهم برزوا ثانية للمقاومة حتى جاء نبوخذنصر الذي حطمهم مع بقية الأمم المجاورة.

تخلل هذه النبوات نبوة عن الحلفاء مع الفلسطينيين: قوات صور وصيدا [4].

1. نبوات ضد الفلسطينيين [1-7].

2. نبوات ضد صور وصيدا[4].

1. نبوات ضد الفلسطينيين الوثنيين:

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الفلسطينيين قبل ضرب فرعون غزة" [1].

نعرف القليل جدًا عن الزمن الذي يقصده هنا الخاص بضرب فرعون غزة، ربما يقصد أحد المواقف التالية:

v     عندما اتجه نخو نحو حاران عام 609 ق.م[641].

v     عندما كان فرعون نخو فى الشمال [2] بين 609 و 605 ق.م يترقب الدخول فى معركة حاسمة مع نبوخذنصر على نهر الفرات، مؤكدًا فى ذلك الحين سلطانه على الفلسطينيين[642].

v     ربما ضرب فرعون نخو غزة عند عودته بعد غلبته على يوشيا فى موقعة مجدو (2 أي 35: 20).

v     عند عودته من محاولته الفاشلة لانقاذ أورشليم من الكلدانيين، ضرب غزة حتى لا يظن أحد أنه عاد إلى بلده فاشلاً.

يتحدث عن انهيار الفلسطينيين هكذا:

"هكذا قال الرب:

ها مياه تصعد من الشمال وتكون سيلاً جارفًا فتغشي الأرض وملأها،

المدينة والساكنين فيها،

يصرخ الناس ويولوِل كل سكان الأرض" [2].

أ. يصعد الجيش البابلي الذي زحف بقوة عليهم بعد غلبته على المصريين فى كركميش كمياه تنهار عليهم من الشمال [3]؛ هنا لا يقصد بـ"الشمال" الاتجاه الجغرافي فحسب، لكنه يرمز للقوة المضادة أيا كان مصدرها.

ب. يحل الجيش المهاجم عليهم كسيلٍ جارفٍ [2] يغرق الأرض وكل ملئها، المدينة والساكنين فيها [2]. يشبه الكلدانيون بالسيل الجارف أو فيضان مياه كثيرة تصدر عن نهرهم أي الفرات. كثرة المياه تعني كثرة الجماهير التي تحل على موقع ما كفيضان.

للشيطان طرق كثيرة، يعرف كيف يحل بالنفس كسيلٍ جارفٍ يسقط عليها فجأة ليحوط بها من كل جانب، فيشل كل حركتها، ويفقدها التمتع بأية معونة خارجية، وأحيانًا يتسلل خفية إلى النفس ليدخل إلى أعماقها ويتسلم عجلة قيادتها.

مع كل ما لعدو الخير من حيل وخبرات طويلة وقدرات خطيرة، لا يحمل سلطانًا عليها للتسلل إلى داخلها ما لم يكن الباب مفتوحًا، ويجد في الداخل من يتجاوب معه. كما ليس له سلطان أن يحل بالنفس فجأة ويسيطر عليها إن كانت فى يد الله، محفوظة بنعمته. في هذا يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ليس لعدو الخير سلطان علينا، ولن يقدر أن يؤذينا ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه[643].

ج. يغطي السيل الجارف الأرض وملأها [2]، لكنه لا يستطيع أن يقترب من السماء ولا أن يصل إليها. فإن كانت النفس أرضًا تغرق بسيول الخطايا، أما التي صارت سماءً بسكنى السماوي فيها فلا تقدر الخطية أن تقترب إليها.

د. "يصرخ الناس ويولول كل سكان الأرض" [2]. إذ اختاروا الأرض لا السماء مسكنًا لنفوسهم لا يختبروا فرح السماء وتهليلاتها بل الصراخ والولولة. مسكين الانسان الذي يحرم نفسه من بهجة الخلاص فلا يختبر الفرح الداخلي حتى وسط تسلياته ونجاحة الزمني، ومطوَّب هو ذاك الذي يجلس مع الرسول بولس فى السماويات (أف 2: 6)، فإنه وإن دخل فى ضيقات كثيرة يفرح ويتهلل بالله مخلصه، الذي يحول أتون الضيق إلى ندى السماء، كما فعل مع الثلاثة فتيه الغرباء.

هـ. "من صوت قرع حوافر أقويائه،

من صرير مركباته،

وصريف بكراته،

لا تلتفت الآباء إلى البنين بسبب ارتخاء الأيادي" [3].

 يفقدون حتى العواطف الطبيعية التي تربط الوالدين بأبنائهم، إذ لا يلتفت الآباء إلى بنيهم حيث ترتخي أياديهم بسبب صوت الجيش المرعب الصادر عن حوافر الخيول والمركبات العسكرية والبكرات. ليس لديهم الشجاعة ولا القوة للعودة إلى الخلف لإنقاذ أبنائهم الذين تركوهم. 

حقًا إذ تدخل الخطية إلى القلب ترهبه فلا يبالي الإنسان بخلاص نفسه وخلاص بنيه... لا يلتفت إليهم، بل يصير فى رعبٍ ورعدةٍ.

و. "بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين،

لأن الرب يُهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور" [4].

 يحطم المتحالفين معهم، صور وصيدا [4] ويُهلك الفلسطينيون فى جذورهم إذ يشير إليهم فى جزيرة كفتور، وهي تشير فى العهد القديم إلى جزيرة كريت، الأرض التي جاء منها الفلسطينيون أصلاً (عا 9: 7). ربما قصد بالكريتيين هنا جماعة من الفلسطنيين كانوا قد قدموا من جزيرة كريت في الربع الأول من القرن الثاني عشر ق.م[644].

ز. "أتي الصلع على غزة" [5].

 تشبه فلسطين بسيدة أو فتاة قصت شعرها حتى القرع، وجرحت جسمها. هذه وسائل وثنية تستخدم للتعبير عن الحزن الشديد (لا 19: 28)، خاصة عند موت الأقرباء جدًا (16: 6؛ 41: 5)، أو هو وصف يعبر عن مسح غزة من كل إنسانٍ كما بموسي فلا يُترك فيها أحدٌ. ربما يقصد بالصلع أن العدو سلبهم كل ممتلكاتهم من ذهبٍ وفضةٍ وحجارةٍ كريمة فصاروا كالقرع بلا زينة.

ح. "أُهِلكت أشقلون مع بقية وطائهم" [5].

أشقلون: هي إحدى المدن الفلسطينية الخمس الرئيسية، مكانها اليوم مدينة عسقلان. كان لها ميناء بحري فى العصور الغابرة. اسم الإلهة الرئيسية فى اشقلون دركتو، لها وجه انسان وجسم سمكة.  تقع على بعد عشرة أميال شمال غزة. وفى عصر العمارنة كان يحكمها ملك مصري (تث 2: 23). وفى التواريخ الأشورية عرفت بـ As-qa-en-na.

ط. تُصاب النفس بالجراحات إراديًا، فمن يخضع للخطية يحطم نفسه بالجراحات الداخلية، لذا يُقال لها بروح التوبيخ:

"حتى متى تخمشين نفسكِ؟!

آه يا سيف الرب حتى متى لا تستريح؟!

أنضم إلى غمدك، أهدأ وأسكن.

 كيف يستريح والرب قد أوصاه؟!

على أشقلون وعلى ساحل البحر هناك واعده" [5-7].

يُسمى سيف بابل هنا "سيف الرب"، لأنه يشبه المنجل فى يد الله، به يحصد سكان المدن الذين كمل شرهم وسقطوا تحت الغضب الإلهي.

كما أن كلمة الله لا ترجع فارغة حتى تحقق رسالتها، هكذا سيف الرب (أو تأديبه) لا يتوقف حتى يتمم ما أُرسل لأجله.

2. نبوات ضد صور وصيدا:

"لينقرض من صور وصيدُون كل بقية تعين" [4].

صور وصيدُون: "صور" اسم سامي معناه "صخر"، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلا أن القديس جيروم يرى أن كلمة "صور" فى العبرية تعني "محنة"، ولذا يرى سكانها يمثلون الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه[645]. كما يفسر اسمهم: "موت بسبب جرعةٍ سامةٍ"[646]، لذلك كانوا فى رأيه يمثلون الذين يشربون كأس غواية الشيطان فيسقطون سريعًا.

أما "صيدون" فتعني "أرض صيد سمك"، اشتركت مع صور فى السخرية من يهوذا عند سبيها. اتسمت صور وصيدا بالغنى الشديد خلال تجارتهما العالمية مع الانحلال والفساد.

فى سفر إشعياء النبي يشبه الله "صور" بزانية تزني مع كل ممالك البلاد على وجه الأرض (إش 23: 17)، لكنها إذ تتمتع بالإيمان الحيّ "تكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب" (إش 26: 18).

نالت كل من صور وصيدُون (صيدا) نصيبهما من الجيش البابلي لمنع أية قوة عسكرية فينيقية تهب لنجدة فلسطين من أيدى البابليين. قدم حزقيال النبي نبوات ضد صور وصيدا (حز 26، 27)، وقد سبق لنا التعليق عليها فى دراستنا لسفر حزقيال.

 


 

من وحي إرميا 47

من ينقذني من سيول خطاياي الجارفة؟!

v     إنقذني من سيول خطاياي الجارفة

التي حلت بأرض قلبي فغطتها بمياهٍ مهلكةٍ،

غرَّقت كل زرعٍ مقدسٍ في داخلي!

v     حوِّل أرضي إلى سماء

فلا تقدر مياه كثيرة أن تقترب إليها!

عوض الصراخ يمتلىء قلبي تهليلاً!

عوض جفاف العاطفة يتسع قلبي بالحب للجميع!

عوض معونة الناس أترقب غنى نعمتك!

عوض القبح اسكب جمالك فيّ!

v     لا يعود سيف الرب يجرح ويقتل أعماقي،

إنما كلمته كسيف تهلك الشر،

وتهبني حياة أبدية‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

<<


 

الأصحاح الثامن والأربعون

نبوات ضد موآب

بدأت النبوات ضد الأمم بمصر الوثنية التي تشير إلى محبة العالم، ثم ضد الفلسطينيين الوثنيين الذي يشيرون إلى روح العنف والعداوة، ثم صور وصيدا اللتين تشيران إلى المتحالفين مع الشر. هنا يتحدث عن موآب الذي وإن اتسم بالكبرياء كغيره من الشعوب المقاومة لله لكن سمته الرئيسية هي الفساد، فبجانب أن أبيهم موآب هو ثمرة علاقة أمه بأبيها لوط وهو في حالة سكر، أشار بلعام على ملك موآب أن ينزل بعض النساء الموآبيات الجميلات إلى شعب إسرائيل فيغرين الرجال على ارتكاب النجاسة (مع عبادة الأصنام)، عندئذ يتخلى الله عنهم فيضعفون وينهارون (عد 25: 1-3).

موآب

جاء الموآبيون من نسل لوط (19: 37)، لذا فهم ينتمون إلى إسرائيل بصلة قرابة. امتدت ذرية موآب في شرقي بحر لوط بين وادي أرنون ووادي زريد Zered وطردوا الإيميين من هناك (تث 2: 11)، وعبدوا الإله كموش. وكانت بلادهم تنقسم إلى بلاد موآب وعربات موآب، وهذه كانت في وادي الأردن مقابل أريحا.

سمح لهم الرأوبينيون بالسكنى في مدنهم، وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش، كما وُجدت علاقات طيبة أحيانًا بين موآب وإسرائيل، فقد تغربت نُعمى هناك ورجعت معها راعوث الموآبية. وعندما قاوم شاول الملك داود النبي أودع الأخير والديه لدى ملك موآب (1 صم 22: 3-4)، ولكنه إذ صار ملكًا ضربهم بشدة وجعلهم عبيدًا له (2 صم 8: 2). وأوصى الله العبرانيين ألا يأخذوا أرضهم (تث 2: 11). ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح العداوة تجاه إسرائيل ويهوذا، فكثيرا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم. وفي أيام القضاة أخضع الموآبيون العبرانيين، ووضعوا عليهم جزية إلى أن قتل أهود عجلون ملك موآب (قض 3: 12-30).

بعد موت سليمان صارت موآب جزءًا من المملكة الشمالية، وفي مُلك يهوشفاط هجموا على اليهودية لكنهم انهزموا أمامهم (2 مل 3)، بعد ذلك صارت موآب تارة خاضعة وأخرى مستقلة.

في أواخر القرن الثامن ق.م. هزمهم الأشوريون، لكن إذ تدهور حال الإمبراطورية الأشورية استعاد موآب استقلاله. وفي أيام الملك يهوياقيم تحالف موآب مع الكدانيين ضد يهوذا (2 مل 24: 2). وبعد سنة 582 ق.م. انهار موآب أمام نبوخذنصر؛ بعد ذلك خضع موآب لفارس والعرب.

يُنظر في العهد القديم  إلى النبوات ضد موآب أنها قضاء إلهي (إش 15، 16؛ 25: 10؛ حز 25: 8-11؛ عا 2: 1-3؛ صف 2: 8-11؛ إر 9: 26؛ 25: 21؛ 27: 3).

يرى القديس جيروم أن كلمة "موآب" التي تعني "من الأب" تشير إلى الشيطان والخارجين عن الله أبيهم، والذين لا يفكرون فيه[647].

يشير موآب إلى "روح عدم التمييز"، فقد ظن أنه لا فرق بين الله الحيّ والآلهة الوثنية، وحسب بهلاك يهوذا وتدمير أورشليم أن لا خلاص للشعب مرة أخرى: "يقولون هوذا بين يهوذا مثل كل الأمم" (إش 25: 8). يقول القديس مارافرام السرياني: [إنه بغير طين لا يبُنى البرج "وبغير معرفة لا تقوم فضيلة"[648]].

1. الله الحيّ ضد كموش [1-5].

2. دعوة للهروب [6-10].

3. خراب موآب [11-25].

4. حيثيات الحكم [26-30].

5. مرثاة على موآب [31-39].

6. الغزو البابلي [40-43].

7. هروب موآب [44-46].

8. إصلاح موآب [47].

يوضح هذا الأصحاح الآتي:

أولاً: الأحداث التي تلحق بموآب ليست أحداثًا عابرة بلا معنى، لكنها تتم بسماح إلهي، فالله ضابط التاريخ كله.

ثانيًا: إذ يعلن الله عن قضائه ضد موآب أو غيره من الأمم يقدم حيثيات الحكم؛ فهو ليس بالإله الأمر الناهي، بل الإله الذي يتحاجج مع البشر.

ثالثًا: ذكر عددًا ضخمًا من مدن موآب، هذا يكشف عن معرفة اليهود في ذلك الحين لمملكة موآب وأسماء مدنها ومواقعها، كما لو كانت جزءًا لا يتجزأ من بلدهم.

رابعًا: إن كان الله يعلن عن قضائه ضد الموآبيين إنما يختم كلماته بإصلاحهم، فهو يطلب خلاص كل الأمم. لهذا نرى النبيان إشعياء وإرميا بل والله نفسه يعلنون حزنهم على ما يحدث لموآب أثناء تأديبه. فيقول إشعياء: "يصرخ قلبي من أجل موآب" (إش 15: 5)؛ "أبكي بكاء يعزير على كرمة سبمة، أرويكما بدموعي يا حشبون والعالة... ابطلت الهتاف، لذلك ترن أحشائي كعودٍ من أجل موآب وبطني من أجل قير حارس" (إش 16: 9-11). كما يقول إرميا النبي: "من أجل ذلك أولول على موآب، وعلى موآب كله أصرخ... ابكي عليكِ بكاء يعزير ياجفنه سبمة" [31-32].

خامسًا: يرى يوسيفوس أن نبوة إرميا النبي عن خراب موآب قد تحققت في السنة 23 من حكم نبوخذنصر (582 ق.م)[649].

سادسًا: تبنى إرميا النبي بعض العبارات الواردة في سفر إشعياء وذلك بارشاد الروح القدس لتأكيد ماسبق فتنبأ به إشعياء عنهم، غير أن إشعياء تنبأ عن تدمير موآب على يديْ الملك شلمانصر الأشوري، أما إرميا فأشار إلى تدميره على يديْ نبوخذنصر البابلي[650].

1. الله الحي ضد كموش:

"عن موآب. هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

ويل لنبو لأنها قد خربت.

خزيت وأُخذت قريتايم.

خزيت مسجاب وارتعبت.

ليس موجودًا بعد فخر موآب.

في حشبون فكروا عليها شرًا.

هلم فنقرضها من أن تكون أمة.

وأنتِ أيضا يا مدمين تُصمين ويذهب وراءك السيف.

صوت صياحٍ من حورونايم هلاك وسحق عظيم.

قد حُطمت موآب وأسمع صغارها صراخًا.

لأنه في عقبة لوحيت يصعد بكاء على بكاءٍ،

لأنه في منحدر حورونايم سمع الأعداء صراخ انكسار" [1-5].

أولاً: واضح أن الهجوم هنا ضد الإله كموش الذي يُسبى مع كهنته ورؤسائه [7]، فقد دُعي الموآبيون أمة كموش (عد 21: 29) وشعب كموش [46]، كما دُعى كموش "رجس الموآبيين".

ادخل سليمان الملك عبادته إلى أورشليم (1 مل 11: 7)، وأبطلها يوشيا الملك (2 مل 23: 13) حاسبًا إياها رجاسة. وكان الملوك الموآبيون ينسبون نصراتهم إلى كموش كما يظهر في الحجر الموآبي أن الملك ميشع يفعل ذلك (2 مل 3: 4).

كانت هناك صلة وثيقة بين كموش إله الموآبيين وملكوم إله العمونيين، وفي العبادة لكليهما كان الأطفال يُقدمون ذبائح باجازتهم في النار (2 مل 3: 27).

ثانيًا: يعلن الله عن نفسه أنه "رب الجنود إله إسرائيل" [1] يقوم بتأديب موآب. هو رب الجنود أو القوات السمائية الذي لا يُغلب، وهو إله إسرائيل أي المحب لشعبه والمدافع عن مؤمنيه المقدسين له.

إنه يستخدم ملك بابل "المهلك" لتأديب كل مدينة موآبية [8]. وفيما يلي بعض المدن الموآبية الهامة التي يحل بها الخراب والخزى وتأخذها الرعدة وتصير في عارٍ.

أ. نبو: لا يقصد جبل نبو بل مدينة نبو التي تخرب.

ب. قريتايم: تصير في عارٍ وتُسبى.

ج. مسجاب: يحل بها الخزى وتأخذها الرعدة، وتصير كأنها غير موجودة بعد أن كانت فخر موآب.

د. حشبون العاصمة يحل بها الشر فتنقرض، هذه التي كانت كرسي المشورة (حسب معناها) صارت مركزًا لمشيرين آخرين يدمرونها[651].

هـ. مدمين: مع تغيير بسيط في حروف الاسم تعني في العبرية "صمتًا"، تقف صامتة من هول الحدث، إذ يطاردها السيف، كما يستحق اسمها (إش 15: 1).

و. حورونايم: يُسمع فيها صوت صراخِ بسبب الدمار والهلاك العظيم.

يلاحظ أن كثير من أسماء البلدان المذكورة في هذا الأصحاح وُجدت منقوشه على الحجر الموآبي الذي نقشه ميشه Mesha ملك موآب، اكتشف عام 1868م.

أخيرًا يعبر النبي عن المرارة التي لحقت بالصغار، فصار صراخهم يتزايد ويُسمع في كل مكان، فالعدو لا يترفق حتى بالأطفال.

نبو [1]: كلمة بابلية تعني "مذيع". وهو اسم إله بابلي يسيطر على الأدب والعلم، ابن بعل مردوخ ورسوله، الذي يفسر إرادته للقابلين الموت. أما المدينة التي تحمل هذا الاسم فتقع على جبل نبو أو بجواره. أحد جبال سلسلة جبال عباريم في موآب، مقابل اريحا (عد 33: 47، تث 32: 49)، شرقي الأردن في نهاية جنوب البحر الميت، وهو الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتهللت نفسه مشتاقًا أن يعبر إلى أرض الأحياء، وينعم بكنعان السماوية، وقد مات هناك (تث 34). تدعى قمته رأس الفسجة. وربما كان جبل النبا.

تبعد المدينة خمسة أميال جنوب شرقي حسبان، حاليًا هي خربة المخيط. بناها سبط رأوبين أي أعادوا بناءها، وبحسب ما جاء في الحجر الموآبي أن ملك موآب استولى عليها.

قريتايم [1]: اسم عبري معناه "قريتان"، بناها بنو رأوبين مع حشبون (عد 32: 37) أو جددوها، ولكنها تحولت بعد ذلك إلى مملكة موآب. تسمى حاليًا "القريات"، تبعد حوالي عشر أميال جنوب بعل معون، وستة أميال شمال غربي ديبون بالأردن.

مسجاب: اسم موآبي معناه "مرتفع"، لأنها كانت قائمة على موضع عالٍ، يترجمها البعض hammisgab ومعناها حرفيًا "برج عالٍ" أو "حصن". ربما كان لقبًا لمدينة قير.

مدمين [2]: اسم موآبي معناه "مزبلة"، يرجح أنها قرية في موآب، ربما كانت خربة دمنة في وادي بني حمد، تبعد حوالي ميلين شمال غربي ربة Rabbah.

حشبون [2]: اسم موآبي معناه "حسبان" أو "تدبير" أو "مشورة". وهي مدينة سيحون ملك الأموريين، أخذها الموآبيون من سبط لاوي (يش 21: 29، أي 6: 81). تُعرف حاليًا باسم "حسبان"، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق، تقع نحو سبعة أميال ونصف شمال مادبا. وكانت هي ومدينة العالة [34] موضع نزاع بين إسرائيل وموآب.

حورونايم [3]: اسم موآبي معناه "كهفان" أو "وهدتان" (نح 2: 10؛ إش 15: 5). وهي مدينة موآبية عند سفح أحدود.

عقبة لوحيت [5]: "لوحيت" كلمة موآبية معناها "مصنوع من الواح"، وهي مدينة موآبية مبنية على تل أو عقبة. يرى القديس جيروم أنها لوئيثا Luhith الواقعة بين اريوبوليس (أي ربات موآب Rabbath- Moab) وصوغر Zoar وهي خرابة فاس أو خربة مدينة الرأس بين غور الصافية و الخنزيرة.

تقع لوئيثا على مرتفعٍ بينما توجد حورونايم في موضع سهل لهذا يصعد الموآبيون من حورونايم وهم يبكون لعلهم يجدون مكانًا آمنا، فيجدون سكان لوئيثا نازلين باكين يطلبون الأمان. وكأنه أمام بابل لا يجد سكان المرتفعات ولا سكان الوديان والسهول أمانًا إذ يلحقهم السيف في كل موضع. ويصدر الصراخ المرّ مع الصاعدين كما مع النازلين!

2. دعوة للهروب:

إذ ينحدر سكان المرتفعات بدموع كل يطلب من الآخر أن يهرب يجدوا الصاعدين من السهول قادمين ببكاء يطلبون الهروب، فيرتبك الجميع ولا يعرفون إلى أين يذهبون.

"اهربوا نجوا أنفسكم وكونوا كعرعرٍ في البرية.

 فمن أجل اتكالك على أعمالك وعلى خزائنك ستؤخذين أنتِ أيضًا ويخرج كموش إلى السبي كهنته ورؤساؤه معًا.

 ويأتي المهلك إلى كل مدينةٍ،

فلا تفلت مدينة،

فيبيد الوطاء ويهلك السهل كما قال الرب.

أعطوا موآب جناحًا لأنها تخرج طائرة وتصير مُدنها خربة بلا ساكن فيها.

ملعون من يعمل عمل الرب برخاء (بتراخ أو بخداعٍ) وملعون من يمنع سيفه عن الدم" [6-10].

نجد هنا دعوة إلى الهروب لنجاة النفس:

 1. الهروب من أسوار المدن إلى عرى (عرعر) البرية. لعلها دعوة إلى عدم الثقة في الحصون البشرية التي يصنعها الإنسان لنفسه في غير اتكال على الله. فإن كانت البراري بلا حصون لكن موآب يظن أنها أكثر أمانًا من أسوار المدن التي تقتحمها بابل. على أي الأحوال إذ يهرب موآب إلى البرية حيث يحسب العدو أنه لا حاجة لاقتفاء أثره هناك لأن البرية نفسها تحطمه وتهلكه.

 2. عدم الاتكال على الأعمال الذاتية والخزائن؛ فأنها تقيم إلهًا (كموش) لا يقدر أن يخلص نفسه ولا كهنته ولا رؤساءه. إذ يحمل الموآبيون تماثيل كموش معهم إلى المعركة تؤخذ منهم إلى أرض السبي علامة نصرة آلهة بابل على آلهه موآب.

 3. لا يتحقق الهروب بتغيير المكان بل بتغيير الأعماق، فالتدمير يبلغ كل مدينة، يبيد المناطق العالية ويهلك الأماكن السهلة؛ لا المرتفعات ولا الوديان  تقدر أن تخلص بل يد الرب العاملة في قديسيه.

4. الحاجة إلى جناحي الروح لكي تطير النفس من وجه الشر [9]، فلا تقطن بعد في الأماكن الخربة. ولعله هنا يحمل معني التوبيخ في شيء من السخرية، فإنه إذ يحل الخراب فجأة لا يعرف موآب إلى أين يذهب، فالأرض كلها قد تدمرت. إنه في حاجة إلى جناح يطير به بسرعة لكي يرتفع عن كل الأرض... ولكن إلى أين؟

5. الجدية في العمل، إذ ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة [10]... هنا دعوة إلى بابل للعمل بكل جدية لتحقيق ما سمح به الرب من تأديب لموآب، وفي نفس الوقت هي دعوة إلهية لكل نفس في ممارستها للعمل الإلهي بإخلاص وجدية، في غير رخاوة.

v     أشار إرميا إلى أن الإهمال أمر خطير. "ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة" [10]. من كان في قائمة خدَّام الرب يلزمه أن يكون مجتهدًا ومتيقظًا. عندما يمسح الخطية من حياته بغيرته يتهيأ للاقتراب نحو الله، الذي يدعوه الكتاب نارًا آكلة (تث 4: 24؛ 9: 3؛ عب 12: 29).

يلزمنا أن نتذكر أن الله الذي يجعل ملائكته أرواحًا هو نفسه روح، يجعلهم خدامًا له لهيب نار (مز 104: 4)[652].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     يلزم على كل أحدٍ أن ينتبه إلى عمله الخصوصي ويهتم به برغبة، ويتممه بدون ملامة، بغيرة ونشاطٍ وعنايةٍ وسهرٍ، لئلا يستحق اللعنة، إذ قيل ملعون من يعمل عمل الرب باسترخاء [10]...

 خير لنا أن نباشر عملاً واحدًا بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمالٍ كثيرة بدون إتقانٍ. لأن التشتت بين أشغالٍ كثيرة والتنقّل بين الأمور بحيث لا يُقضى منها شيء دليل على خفة متأصّلة في الطبع أو مدعاةً لتولِّد تلك الخفة[653].

القديس باسيليوس الكبير

يعلق الأب غريغوريوس الكبير على عبارة "ملعون من يمنع سيفه عن الدم" [10] قائلاً [الذين يمنعون السيف عن الدم إنما يمنعون كلمة الكرازة عن قتل الحياة الجسدانية (الشهوانية)، وقد قيل عن هذا السيف: "سيفي يفترس الجسد" (تث 32: 42)[654]].

v     الإنسان الذي يصد "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (عب 6: 7) من سفك الدم، بالتأكيد يسقط تحت اللعنة التي أعلنها إرميا قائلاً: "ملعون من يمنع سيفه (الكتاب المقدس) عن الدم" [10]. إذًا لنفعنا يُسفك الدم الفاسد الذي لمادة خطايانا (بكلمة الله).

هذا هو السلاح الذي يقطع وينقي كل أمر شهواني وأرضي ينمو في نفوسنا. إنه يجعل الناس يموتون عن الخطية، ويعيشون لله، ويزدهرون بالفضائل الروحية[655].

 الأب بينوفيوس

3. خراب موآب:

"مستريح موآب منذ صباه وهو مستقر على دُرديه،

ولم يُفرغ من إناءٍ إلى إناءٍ ولم يذهب إلى السبي.

لذلك بقي طعمه فيه ورائحته لم تتغيرْ.

لذلك ها أيام تأتي يقول الرب: وأرسل إليه مصغين فيصغونه ويفرغون آنيته ويكسرون أوعيته،

فيخجل موآب من كموش كما خجل بيت إسرائيل من بيت إيل متكلهم" [11-13].

إذ جاء النداء أن يُعطى موآب جناحًا ليطير لعله يجد موضعًا غير الأرض يستريح فيه، وهذا أمر صعب أو يكاد يكون مستحيلاً، الآن يكشف عن عدم خبرة موآب في الحرب. حقًا إن موآب أمة قديمة ومستقرة قبل ظهور إسرائيل، عاشت في مجد وآمان منذ صباها. لقد عاش موآب أغلب زمانه مستريحًا منذ صباه، مثل الخمر المستقرة رواسبها في إناء لا يتحرك.

لقد دخل في معارك مع إسرائيل، ومنذ حوالي 40 عامًا حمل شلمناصر بعضًا من الموآبيين إلى السبي، لكنه إذا قورن ذلك بالأمم المحيطة يُحسب موآب مستريحًا، لم يفرغ من إناء إلى إناء، أي يحمل بين الآن والآخر إلى السبي.

سيخجل موآب من كموش إلهه المحمول مسبيًا إلى بابل، كما خجل بنو إسرائيل من عجلي الذهب اللذين أقامها الملك يربعام في بيت إيل طالبًا من الإسرائيليين أن يتعبدوا لهما.

"كيف تقولون نحن جبابرة ورجال قوة للحرب؟!

أهلكت موآب وصعدت مدنها وخيار منتخبيها نزلوا للقتل يقول الملك رب الجنود اسمه.

قريب مجيء هلاك موآب وبليتها مسرعة جدَّا.

اندبوها يا جميع الذين حواليها وكل العارفين اسمها،

قولوا: كيف انكسر قضيب العز عصا الجلال؟!

انزلي من المجد،

اجلسي في الظماء،

أيتها الساكنة بنت ديبون،

لأن مهلك موآب قد صعد إليكِ وأهلك حصونكِ" [14-18].

يعبر عن كارثة موآب التي حلت بإلهه كما بمدنه وأبطاله وسلطانه:

أ. بينما ظن الموآبيون الذين عاشوا أغلب زمانهم جبابرة أنهم رجال قوة للحرب، إذا بمدنهم تخرب.

ب. دخل منتخبوه في معركة ضد الملك رب الجنود، فسقطوا قتلى.

ج. انهار اسمه وعزه وسلطانه، فانكسر قضيب عزه وعصا جلاله.

 إذ لجاؤا إلى ديبون المدينة المرتفعة الحصينة، التي تحتضن مرتفع كموش، صعد إليهم الهلاك وحطم حصونهم.

ديبون [18]: اسم موآبي معناه "مرتفعات" أو "هزال" أو "انحلال"، وهي مدينة تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال نهر أرنون، شمال غربي عروعير تُسمى بالعربية زيبان.

"قفي على الطريق وتطلعي يا ساكنة عروعير.

اسألي الهارب والناجية قولي ماذا حدث؟!" [19].

من هول الكارثة هربوا من المدن التي في المرتفعات كما كانوا يسألون بعضهم البعض: ماذا حدث؟! ولا إجابة!

عروعير [19]: اسم موآبي وعبري معناه "عارية". مدينة على الشاطئ الشمالي لنهر أرنون، وإلى الجنوب من مملكة سيحون، وكانت من نصيب رأوبين صارت فيما بعد تابعة لموآب. تُسمى الآن عراعير، على بعد إثني عشر ميلاً شرقي البحر الميت، جنوبي ذيبان بقليل.

"قد خزى موآب لأنه قد نُقض.

ولولوا وأصرخوا أخبروا في أرنون أن موآب قد أُهلك" [20].

أرنون [20]: كلمة عبرية معناها "زئير"، وهو اسم لنهر يدعى اليوم "وادي الموجب" في الأردن، ويتكون من وادي "وله" الذي يأتي من الشمال الشرقي، وادي "عنقيلة" الآتي من الشرق "وسيل الصعدة" الآتى من الجنوب. هذه هي أودية أرنون (21: 14)، ويجري نهر أرنون في غور عميق حتى يصل إلى البحر الميت في نقطة تقع إلى مسافة قصيرة من منتصف الشاطىء الشرقي.

"وقد جاء القضاء على أرض السهل،

على حولون وعلى يهصة وعلى ميفعة

وعلى ديبون وعلى نبو وعلى بيت دبلتايم

وعلى قريتايم وعلى بيت جامول وعلى بيت معون

 وعلى قريوت وعلى بصرة وعلى كل مدن أرض موآب البعيدة والقريبة" [21-24].

حولون [21]: اسم عبري ربما كان معناه "رميلة"، وهي مدينة من جبال يهوذا (يش 15: 51)؛ أُعطيت بضواحيها أو مسارحها للكهنة (يش 21: 15)، دُعيت أيضًا حيلين (1 أي 6: 58)، لا يعرف مكانها اليوم.

يهصة [21] أو ياهص [34] (يش 13: 18، 21: 36): اسم موآبي معناه "موضع مُداس". وهي مدينة موآبية قرب البادية في نصيب رأوبين. في هذا الموضع انتصر العبرانيون على سيحون، فاستولوا على الأرض ما بين أرنون ويبوق. لكن يبدو أن الموآبيين أخذوها في الأيام المتأخرة. يُقال إنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر، تبعد حوالي اثني عشر ميلاً شرقي البحر الميت، وعلى بعد ميل جنوبي زرقاء معين.

ميفعة [21]: اسم عبري معناه "بهاء"، من مدن اللاويين في رأوبين (يش 13: 18؛ 21: 37)، أخذها موآب، وربما كانت تل الجاوة، تبعد حوالي ستة أميال جنوبى عمان.

بيت دبلتايم [22]: اسم عبري معناه "بيت أقراص التين"، تُسمى أيضًا علمون دبلتايم (عد 33: 46).

بيت جامول [23]: اسم عبري معناه "بيت الجمل"، ربما كانت هي خربة جميل، تبعد حوالي ستة أميال شرقي ديبان. وهي بلدة لا سور لها، ولا يسكنها إنسان، بل وحوش البرية كما تنبأ إرميا النبي.

 بلعون أو بيت معون [23] أو بعل معون (يش 13: 17). اسم موآبي معناه "بعل المسكن"، بناها الرأوبينيون (عد 32: 38)، حاليًا تُدعى معين، تبعد حوالي تسعة أميال جنوب غربي حسبان، وتوجد فيها الآن خرب كثيرة ورد ذكرها في الحجر الموآبي.

قريوت [24]: اسم عبري معناه "القرى" أو "المدن". توجد مدينتان تحملان نفس الاسم، الأولى في جنوب يهوذا (يش 15: 25)، والثانية مديِنة حصينة في موآب، ذُكرت في الحجر الموآبي، ويظن أنها نفس عار التي كانت عاصمة موآب، وهي خربة الربة التي تبعد حوالي 14 ميلاً جنوبي نهر أرنون.

بصرة [24]: اسم عبري معناه "قلعة" أو حظيرة"، توجد مدينتان بذات الاسم، الأولى في أدوم (إش 34: 6) والثانية في بلاد موآب، ويظن أنها باصر.

"عُضب قرن وتحطمت ذراعه يقول الرب:

أسكروه لأنه قد تعاظم على الرب فيتمرغ موآب في قيائه وهو أيضا يكون ضحكة.

أفما كان إسرائيل ضحكة لك؟!

هل وجد بين اللصوص حتى أنك كلما كنت تتكلم به كنت تنغض الرأس؟!" [25].

يشير قطع القرن وكسر الذراع إلى انتهاء القوتين السياسية والعسكرية لموآب، لم يعد لموآب قرن عز أمام الأمم ولا ذراع عسكري للدفاع عن نفسه.

كان موآب يستهزئ بإسرائيل عند سبيه، حاسبًا هذا ضعفًا أو عجزًا في الله إلههم (حز 25: 8)، وكان يسخر بإسرائيل محركًا رأسه كمن يسخر بلصٍ أُلقي القبض عليه.

4. حيثيات الحكم:

"خلُّوا المدن واسكنوا في الصخر يا سكان موآب،

وكونوا كحمامة تعشش في جوانب فم الحفرة.

قد سمعنا بكبرياء موآب.

هو متكبر جدًا. بعظمته وبكبريائه وجلاله وارتفاع قلبه.

أنا عرفت سخطه يقول الرب:

إنه باطل. أكاذيبه فعلت باطلاً" [26-30].

توجه الدعوة إلى موآب لإخلاء المدن والسكن في الكهوف السرية التي في الصخور، فيكون كحمامة بلا قوة تضع عشها في فم صخرة.

يصير موأب كحمامة لا تضع عشها في الحدائق على الأشجار، بل منفرده في صخرة بعيدة. يتحول موآب من طيرٍ مغردٍ إلى طيرٍ حزينٍ في عزلة لا يعرف إلا الصراخ.

5. مرثاة على موآب:

أ. يبدأ إرميا النبي بإعلان حبه للأمم مثل سيده الذي لا يُسر بموت الأشرار بل يرجعوا فيحيوا. فهو وإن كان يتنبأ على موآب بالخراب لكنه يولول عليه، ويصرخ من الخارج، كما يئن قلبه من الداخل، يبكي فتجري دموعه كمياه ينابيع غزيرة لا تتوقف.

"من أجل ذلك أولول على موآب، وعلى موآب كله أصرخ.

يُؤَّن على رجال قير حارس.

أبكي عليك بكاء يعزير يا جفنة سبمة.

قد عبرت قضبانك البحر وصلت إلى بحر يعزير" [31-32].

مثل إشعياء النبي لم يحتمل إرميا النبي أن يرى ما يحل بهذه المدن العظيمة، وكيف تحول شعبها إلى صراخٍ مستمرٍ، حتى صارت موآب ترتعد في داخلها: "نفسها ترتعد فيها" (إش 15: 4)، لذلك يقول "يصرخ قلبي من أجل موآب" (إش 15: 5). لا يقف شامتًا في الأعداء، إنما يشاركهم مرارتهم، مشتاقًا إلى رجوعهم عن عداوتهم وتمتعهم بالخلاص. هذه هي سمة رجال الله: الحب الداخلي الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقاومين لهم!

v     لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شره، ولا يعود  بعد عدوًا لكم. إنه عدوكم لا بسبب طبيعته البشرية وإنما بسبب خطيته! [656]

القديس أغسطينوس

v     لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء... فإن صلينا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشارين، أما إن أحببنا أعداءنا وصلينا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر[657].

القديس يوحنا ذهبي الفم

قير حارس [31]: اسم سامي معناه "سور" أو "مدينة ذات أسوار" تبعد حوالي أحد عشر ميلاً شرقي الجزء الجنوبي من البحر الميت. موضعها اليوم مدينة كرك في الأردن.

يعزير: اسم عبري معناه "يعين"، وهي مدينة من جلعاد، أُعطيت لجاد ثم لعشيرة مراري من سبط لاوي (عد 21: 32؛ 32: 1). كانت في أيام داود الملك للحبرونيين (1 أي 26: 31)، وفي الأزمنة المتأخرة صارت لموآب. يرى يوسيفوس أنها تبعد حوالي عشرة أميال غربي رية عمون و15 ميلاً شرقي حسبان. ويظن البعض أنها خربة جزر جنوبي السلط قرب عين هزير على وادي شعيب.

شبام: ومؤنثها "سبمة"، ويعني "بارد أو باردة"، صارت من نصيب رأوبين (يش 33: 19)، واستولى عليها بنو موآب. عرفت بكرومها (أش 16: 8-9، إر 48: 32). يرى القديس جيروم أنها تبعد حوالي نصف ميل من حشبون. حاليًا تُسمى الكبش بين حسبان ونبو، وتبعد ثلاثة أميال شمال شرق صياغة على وادي سلامة.

ب. فقد موآب حقوله وبالتالي محاصيله، فتحولت جناتة إلى براري.

"وقع المهلك على جناك وعلى قطافك.

ونزع الفرح والطرب من البستان ومن أرض موآب" [32-33].

ج. اُنتزع الفرح من بساتينه، فحيث لا حصاد ولا ثمر لا يوجد فرح ولا طرب.

"وقد أبطلت الخمر من المعاصر. لا يُداس بهتاف. جلبة لا هتاف" [33].

إن كان الخمر يشير إلى الفرح، فإنه لا يوجد عنب للحصاد، وبالتالي لا يخرج خمر من المعاصر، وإن وُجد العنب فلا توجد معاصر إذ هدمها العدو، وإن وُجدت المعاصر لا يوجد الرجال الذين يدوسون العنب لعصره... هكذا عوض هتاف الفرح والأغاني التي كان يتغنى بها الدائسون المعاصر، امتلأت البقاع بالجلبة والنوح.

د. يشبه موآب بعجلة عمرها ثلاث سنوات اُخذ منها العجل رفيقها فتجري من موضعٍ إلى آخر بغير خطة، في حالة هيسترية.

"قد أطلقوا صوتهم من صراخ حشبون إلى ألعالة إلى ياهص، من صوغر إلى حورونايم كعجلةٍ ثلاثيةٍ لأن مياه نمريم أيضًا تصير خربة" [34].

العالة [34]: اسم عبري معناه "الله صعد" أو "الله عال". أعاد بناءها سبط رأوبين، وقد سقطت في يد بني موآب (إش 15: 4، 16: 9، إر 48: 34). تبعد حوالي ميلين شمال حشبون، تُسمى حاليا "العال"، تقع على تلٍ.

صوغر: اسم سامي معناه "صِغَر"، وهي إحدى مدن الدائرة (تك 13: 10) واصغرها (تك 19: 20، 22). كان اسمها الأول بالع، لم تخرب هذه المدينة عند دمار سدوم واخواتها مدن الدائرة، لأن لوطًا صلى والتجأ إليها (تك 19: 20-30). ذكرها مع موآب يجعلنا نظن أنها كانت في الضفة الموآبية الشرقية من البحر الميت. لعلها كانت قريبة من خرائب القرية. ويُرجح أنها اليوم تحت مياه البحر.

نمريم [43]: اسم سامي معناه "مياه صافية". وهي ينابيع في وادي نميرة في الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الميت.

هـ. يستخدم موآب كل ما يعَّبر عن الحزن الشديد: قرع الرأس، جز اللحية، وتجريح الأيادي، ولبس المسوح على الأحقاء، ونوح علني على السطوح وفي الشوارع.

"وأبطل من موآب يقول الرب من يصعد في مرتفعةٍ ومن يبخر لآلهته.

من أجل ذلك يصوت قلبي لموآب كنايٍ،

ويصوت قلبي لرجال قير حارس كنايٍ،

لأن الثروة التي اكتسبوها قد بادت.

لأن كل رأس أقرع،

وكل لحية مجزوزة،

وعلى كل الأيادي خموش،

 وعلى الأحقاء مسوح.

على كل سطوح موآب وفي شوارعها كلها نوح" [35-38].

قرع الرأس يشير إلى المذلة، إذ اعتاد الغالبون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح؛ وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحي وكرامته، والاتزار بالمسح علامة اليأس الشديد، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلي.

هذه هي صورة النفس التي تعتزل إلهها ليسبيها العدو الشرير؛ تفقد حريتها وجمالها وسلطانه وكرامتها وفرحها، لتصير أشبه بأمة قبيحة ذليلة منكسرة، ولا تجد راحة لا في الأزقة ولا على السطوح (حيث يضع الوثنيون آلهتهم) ولا في الساحات؛ أينما وجدت لا تشعر بالراحة.

و. يفقد موآب الثروة التي اكتسبها [36]، فإذ وقف شامتًا في يهوذا عند سبيه واستغل الأحداث، فدخل بأغنامه إلى أرض يهوذا وسلب ما استطاع سلبه، فقد ليس فقط ما سلبه ولكن كل ثروته. هكذا إذ يسلب الإنسان شيئًا يفقد حتى ما ناله بجهاده شرعيًا.

ز. فقد قيمته في عينىْ الله فصار كأناء لا مسرة به.

"لأني قد حطمت موآب كإناء لا مسرة به يقول الرب.

يولولون قائلين: كيف نُقضت؟!

كيف حولت موآب قفاها بخزيٍ فقد صارت موآب ضحكة ورعبًا لكل من حواليها" [38-39].

6. الغزو البابلي:

"لأنه هكذا قال الرب: ها هو يطير كنسرٍ ويبسط جناحيه على موآب.

قد أخذت قريوت وأمسكت الحصينات وسيكون قلب جبابرة موآب في ذلك اليوم كقلب امرأةٍ ماخضٍ.

 ويهلك موآب عن أن يكون شعبًا لأنه قد تعاظم على الرب.

خوف وحفرة وفخ عليك يا ساكن موآب يقول الرب" [40-43].

كثيرًا ما يشبَّه ملك بابل بالنسر يهجم على الفريسة بسرعة وبقوة فلا تجد فرصة للهروب أو المقاومة أو الدفاع عن نفسها.

إذ ظن موآب في نفسه يحمل قوة لمقاومة الله "يهلك عن أن يكون شعبًا" [42]، يفقد كيانه أمام الأمم، ولا يكون له ملك ولا حكومة مدنية تدير أموره.

وكما سبق فقال موسى النبي: "لأن نارًا من حشبون، لهيبًا من قرية سيحون؛ أكلت عار موآب، أهل مرتفعات ارنون. ويل لك يا موآب، هلكتِ يا أمة كموش" (عد 21: 28-29).

7. هروب موآب:

"الذي يهرب من وجه الخوف يسقط في الحفرة،

والذي يصعد من الحفرة يعلق في الفخ،

لأني أجلب عليها أي على موآب سنة عقابهم يقول الرب.

في ظل حشبون وقف الهاربون بلا قوةٍ.

لأنه قد خرجت نار من حشبون ولهيب من وسط سيحون فأكلت زاوية موآب وهامة بني الوغا.

ويل لك يا موآب.

باد شعب كموش لأن بنيك قد أُخذوا إلى السبي وبناتك إلى الجلاء" [44-6].

لا مجال للهروب، فمن يهرب من الخوف يجد نفسه ساقطًا في حفرة، وإن صعد من الحفرة يجد فخًا قد اقتنصه. من هرب من قريته ليجد أمانًا في حشبون الحصينة وجد نارًا تخرج منها لتلتهمه. إذ يهربون إلى العاصمة حشبون يحتمون في أسوارها يشعرون بالضعف الشديد، وتخرج نار من هناك تأكلهم.

8. إصلاح موآب:

"ولكنني أرد سبي موآب في آخر الأيام يقول الرب إلى هنا قضاء موآب" [47].

بلا شك عند عودة اليهود في أيام كورش عاد بعض من الموآبيين والعمونيين والفلسطنيين لكن لم ينل أحد منهم استقلاله، ولا صار لهم ملوك. لذا يرى كثير من الدارسين أن هذه النبوة قد تحققت بقبول هذه الشعوب الإيمان بالسيد المسيح فنزع عنهم سبيهم الداخلي، وتمتعوا بمجد حرية أولاد الله.

 


 

من وحي إرميا 48

إلى أين أهرب من وجهك يارب؟!

v     لاقت موآب كل حب منك ومن شعبك،

فردت الحب بالعداوة،

قدمت من رجاساتها ما يفسد المؤمنين،

جذبتهم إلى النجاسة وافقدتهم العمل الإلهي!

v     استحقت أن تتحطم كل مدنها،

فلا تجد راحة إلى المرتفعات ولا في السهول،

بل خراب ودمار مع مرارة ودموع!

لا يسمع في أعماقي إلا صوت صراخ مرعب! 

v     لتحطم يارب كل مدينة أقمتها بنفسي في أعماقي،

لتهدم كل مرتفع في داخلي،

ولتقم أورشليمك المتهللة فيّ!

نعم! لتحطم أعمالنا البشرية الذاتية ولتعلن عملك الإلهي العجيب!

هب لي أن أهرب إليك وليس من وجهك.

عوض خزائن العالم اعطني جناحي الروح،

أطير إليك وأسكن معك في سمواتك!

أحمل روحك القدوس فأصعد على الدوام،

أحيا بروح القوة لا الفشل،  

لا أعرف الرخاوة أو الغش بل الخلاص مع الجدية!

هب لي أن أمسك بكلمتك كسيفٍ ذي حدين،

أضرب كل خطية وأبددها!

لتمت خطاياي وتحيا كلمتك في داخلي.

v     دللتنى منذ صباى فعشت مستريحًا، 

وأنا لغباوتي لم أنتفع بطول أناتك عليّ.

سقطت تحت التأديب،

وبحبك لا تُسر بهلاكي،

ردني من السبي يا محرر نفسي!

ردني إليك فأحيا حرًا!

<<


 

الأصحاح التاسع والأربعون

نبوات ضد الأمم

بدأت النبوات ضد الأمم الغريبة بمصر الوثنية (إر 46) إشارة إلى أن مدخل الخطية هو الرخاوة والتعلق بالعالم.

ثم فلسطين الوثنية (إر 47) بكونها رمزًا للعداوة والعنف في ذلك الحين، فإن انشغال القلب والفكر بالماديات يولد أنانية تبعث عداوة ضد الغير بلا سبب.

ثم صور وصيدا (إر 47: 4) بكونهما رمزًا للتحالف مع الشر، فالعنف يدفع بالنفس إلى الارتباط بالعنفاء دون مبررٍ.

بعد ذلك موآب (إر 48) بكونها رمزًا للفساد.

الآن في هذا الأصحاح يقدم لنا النبي نبوات ضد ست أمم:

1. بنو عمون البنت المرتدة[1-6].

2. آدوم المتشامخ[7-22].

3. سوريا الهاربة المرتعدة[23-27].

4. قيدار فاقدة الخيام[28-29].

5. حاصور مسكن بنت آوي[30-33].

6. عيلام صاحب القوس المنكسر[34-39].

يتحدث النبي في الأصحاحين التاليين (إر 50، 51) عن بابل بكونها رمزًا لمملكة ضد المسيح، حيث يبلغ الشر أقصاه في الأيام الأخيرة بعد الارتداد، وقبل مجيء السيد المسيح الأخير.

1. بنو عمون البنت المرتدة:

تقدم بنو جاد وبنو رأوبين إلى موسى والعازار الكاهن ورؤساء الجماعة وطلبوا منهم السماح لهم بأن يكون نصيبهم في شرقي الأردن، لأن الأرض هناك هي مكان مواشي (عد 32). اختاروا لأنفسهم المشاكل التي لا حصر لها. دخل رأوبين في صراع مع الموآبين، ودخل جاد في صراع مع عمون.

غالبًا ما كانت العلاقة بين إسرائيل وعمون لا تحمل روح الصداقة.

في أيام الخروج سمح عمون بمرور الشعب في أراضيهم كما فعل موآب وآدوم؛ وليس مثل مملكتي الأموريين سيحون وعوج اللتين لم تسمحا بذلك (تث 2: 37). بعد ذلك قامت بينهما حرب في أيام القضاة (قض 11: 1-11)، كما قاوم ناحاش العموني إسرائيل في أيام شاول (1 صم 11: 1-11). طلب داود الملك السلام لكنهم أهانوا عبيده، وقام سليمان بالسيطرة عليهم (1 مل 4: 13-19). علق عاموس النبي على نشاطهم العنيف في منطقة جلعاد في القرن الثامن ق.م. (عا 1: 13-15).

وعندما تمرد يهوذا على بابل سنة 600 - 597 ق.م. استطاع نبوخذنصر أن يرسل قوات من الآراميين والموآبيين والعمونيين ليخضعوا يهوذا (2 مل 24: 2)[658].

لعب بعليس ملك عمون دورًا خطيرًا في اغتيال جدليا والي يهوذا (40: 14؛ 41: 15). وفي سنة 582 أرسل نبوخذنصر قوة ضد عمون وأيضًا ضد موآب ويهوذا (52: 30)، كما سقطت عمون وموآب ضحية لهجمات العرب عليهم الذين خربوا بلادهما وذلك في منتصف القرن السادس ق.م، ولم تعد عمون بعد ذلك أمة مستقلة. في القرن الأول ق.م حارب يهوذا المكابي بني عمون (1 مك 5: 6).

جاءت النبوة ليست ضد الملك بل ضد "ملكوم" إله عمون الذي ارتبطت العبادة له بتقديم الأطفال ذبائح بشرية حتى قبل أيام موسى النبي.

قُدمت النبوة التي بين أيدينا قبل سقوط يهوذا وعمون، ربما حوالي عام 601 - 600 ق.م. (2 مل 24: 2). وقد تحققت جزئيًا على يدّ نبوخذنصر عام 582 ق.م، وتمت بالكامل في منتصف القرن السادس في وقت غارات العرب[659].

ينتسب بنو عمون إلى عمون ابن ابنة لوط الصغرى، أنجبته من أبيها بعد أن سكر (تك 19: 38). وكما يقول القديس جيروم: [بالحقيقة لم يكن لوط يعرف ماذا كان يفعل، ولا كانت خطيته بإرادته، ومع هذا فخطأه عظيم إذ جعله أبًا لموآب وعمون عدوىّ إسرائيل[660]].

يبدأ نبواته ضد بني عمون بعتابه إياهم إذ حاولوا عبر العصور الاستيلاء على أرض جاد واحتلال مدنه فيقول:

"عن بني عمون. هكذا قال الرب:

أليس لإسرائيل بنون أو لا وارث له؟!

لماذا يرث ملكهم (ملكوم) جاد وشعبه يسكن في مدنه؟!" [1].

يترجم البعض الكلمة العبرية "ملكوم" وليس "ملكهم"، وهو الإله القومي لبني عمون. إنه يوبخهم إذ ظنوا أن إلههم ملكوم (1 مل 19: 38) يرث ما للرب. وإن كان الاسرائيليون أنفسم قد عبدوه أو تأثروا بعبادته (32: 35؛ لا 18: 21؛ 20: 2-5؛ 1 مل 11: 5، 7: 33؛ 2 مل 23: 10، 13؛ عا 5: 26).

يرجع ذلك إلى أيام القضاة حيث أرسل يفتاح إلى ملك بني عمون يقول: "ما لي ولك إنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي؟!" (قض 11: 12). وبعد سليمان الملك كان بنو عمون يطردون بني جاد من أراضيهم ومدنهم تدريجيًا حتى حلَّ السبي الأشوري على يديْ تجلث بلاسر الثالث سنة 733 ق.م. (2 مل 15: 29)، واُقتيد بنو جاد إلى السبي وورث عمون بعض أراضيهم ومدنهم.

هنا يقدم إرميا النبي عشرة نبوات تكشف عن عمل الخطية في حياة الإنسان:

أ. سماع إنذار الحرب في ربة العمونيين كجلبة، فإنها تحول المدن الداخلية إلى معركة لا يُسمع فيها صوت بوق كلمة الله المفرح بل صوت الحرب، فتتحول أعماق النفس من مدينة الله المتهللة إلى موقع حرب كله صراخ وضجيج.

"لذلك ها أيام تأتي يقول الرب وأسمع في ربة بني عمون جلبة حرب" [2].

ربة بني عمون: عاصمة عمون، تقع على نهر يبوق، وتبعد حوالي 14 ميلاً شمال شرقي حشبون، حاليًا عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية. كشفت الحفريات عن آثار لربة عمون[661]، كما وُجدت نقوش هامة عن عمون القديمة.

ب. تحول ربة إلى تلٍ خرب، فإن الخطية تحطم كل بنيان داخلي لتجعل منه كومة خراب لا يقدر كائن بشري أو سماوي أن يقطن فيها.

"وتصير تلاً خربًا" [2].

ج. حرق بناتها:

"وتحرق بناتها بالنار" [2].

د. تفقد ماورثته:

"فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب" [2].

هـ. ولولة وصراخ:

"ولولي يا حشبون لأن عاي قد خربت.

اصرخن يا بنات ربة.

تنطّقن بمسوح.

اندبن وطوفن بين الجدران" [3].

كانت حشبون عادة تحت سيطرة موآب (48: 2) وإن كانت أحيانًا تنتمى إلى عمون (قض 11: 26)، فهي على الحدود بين الأمتين.

عاي: لا تُعرف مدينة عمونية بهذا الاسم، لذا يرى البعض أنه لا يُقصد بها مدينة معينة، خاصة وأن كلمة عاي معناها "كومة" أو "دمار" وكأنه يعني أن حشبون قد صارت كومة خربة؛ وإن كان البعض يفترض وجود عاي أخرى تابعة لعمون غير قرية عاي التي في إسرائيل.

و. سبي الملك والكهنة والرؤساء:

"لأن ملكهم يذهب إلى السبي هو وكهنته ورؤساؤه معا" [3].

ز. امتلاء أوديتها بالدماء.

"ما بالك تفتخرين بالأوطية.

قد فاض وطاؤك دمًا أيتها البنت المرتدة والمتوكلة على خزائنها قائلة: من يأتي إليّ؟!" [4].

ح. يحل بها الخوف من كل جانب:

"هأنذا أجلب عليكِ خوفًا يقول السيد رب الجنود من جميع الذين حواليكِ" [5].

ط. طرد الجميع:

"وتطردون كل واحدٍ إلى ما أمامه وليس من يجمع التائهين" [5].

ي. إصلاح وعودة روحية: الوعد هنا يشبه الوعد الإلهي لمصر (46: 26) وموآب (48: 47). في أيام فارس نرى طوبيا حاكمًا محليًا لعمون (نح 2: 10، 19؛ 4: 7).

"ثم بعد ذلك أرد سبي بني عمون يقول الرب" [6].

هذه النبوات العشرة التي تحققت في بني عمون الابنة المرتدة المتكلة على خزائنها والتي تظن أنها فوق كل قانون، لا تستطيع يد أن تمتد إليها [4]، تتحقق مع النفس التي ترتد عن مسيحها لتتكل على ذاتها وإمكانياتها البشرية، فتظن أنه ليس من يقدر أن يؤدبها. لكن الله في حبه يكشف لها عن ثمر خطاياها، فتجني مرارة الخطية لتقبل مسيحها فيردها إليه، ويرجع إليها ويحملها معه إلى حضن أبيه.

v     يتحول قلبها كما فكرها إلى "ربة عمون" التي لا يسمع فيها هتافات الملائكة بل جلبة حرب، وضجيج لا ينقطع.

v     تصير تلاً خربًا لا فردوسًا وجنة يقتطف منها مسيحها ثمر روحه القدوس المشبع.

v     تحرق بناتها أي تفقد امكانيات الجسد وقدراته ومواهبه، فتتحطم الحواس المقدسة، وتهلك مشاعر الحب الصادقة، وتتحول المواهب من العمل الإيجابي البناء إلى عملٍ محطمٍ.

v     تفقد ما سبق أن ورثته، إذ يؤخذ ما عندها حتى من الغرائز الطبيعية الصالحة، فتصير أعنف من الحيوانات المفترسة، وأجهل من النملة المجاهدة...

v     تتحول أعماقها من عرسٍ دائم إلى ولولة وصراخ. عوض ارتداء ثوب العرس المبهج تلتحف بالمسوح لتندب وهي تطوف بين الجدران كحبيسة منفردة... ليس من يعزيها ولا من يسندها.

v     يسبي ملكها أي إرادتها الحرة التي تدير كل كيانها، ويسبي كهنتها أي قلبها الذي يقدم ذبائح يومية عاقلة مقبولة لدى الله، كما يسبي رؤساؤها أي الفكر والحواس والأحاسيس، فتفقد قدرتها على العمل الجاد.

v     تمتلىء أوديتها بالدماء، إذ تحمل روح الكراهية والشماتة، تطلب الشر للغير وتشتهي الضرر دون نفع لها.

v     يحل بها الخوف من كل الذين حواليها، عوض أن تسكب سلامًا كما فعلت القديسة مريم عند زيارتها لنسيبتها اليصابات، تخاف وترتجف.

v     تصير كما في حالة تيه، تُطرد كل امكانيتها وتتشتت، فلا تستقر أعماقها ولا تستريح.

v     أخيرًا إذ تعمل نعمة الله فيها تدرك كل ما حلّ بها، فلا تُلقى باللوم على الظروف، بل ترجع تائبة إلى الله مخلصها، فيرد سبيها واهبًا إياها الحرية ويجدد أعماقها!

2. آدوم المتشامخ:

كثير من العبارات الواردة هنا جاءت في سفر عوبديا، بذات الكلمات وإن كان الترتيب مختلفاً، لذا أرجو الرجوع إلى تفسيرنا لسفر عوبديا.

آدوم تعني "دموي" أو "أحمر" أو "سافك دمٍ" فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إذ هو محب للقتال بطبعه.

بنو آدوم هم نسل عيسو (تك 36: 19)؛ غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو (آدوم) حيث اغتصب الأول البكورية منه. لهذا كثيرًا ما تحالف بنو آدوم مع أممٍ أخرى ضد إسرائيل. لم يسمح آدوم لموسى النبي أن يعبر هو وشعبه في تخومه أثناء رحلتهم في البرية (عد 20: 21). وإن كان الله امر شعبه ألا يسيئوا التعامل مع الآدوميين (تث 23: 7-8) بكونهم إخوتهم. حارب شاول الملك الآدوميين (1 صم 14: 47)؛ وسيطر داود الملك عليهم (2 صم 8: 13-14)، لكن دخل سليمان في متاعب مع هدد الآدومي الذي هرب إلى مصر (1 مل 11: 14-22). وفي أيام يهوشفاط ملك يهوذا لم يكن هناك ملك في آدوم بل أقام يهوذا وكيلاً هناك. تحالف يهورام بن آخاب مع ملك يهوذا وملك آدوم وحاربوا موآب (2 مل 3: 5-9). وفي أيام يورام بن يهوشفاط عصى آدوم يهوذا وأقاموا لأنفسهم ملكًا (2 مل 8: 20-22). وقد قتل أمصيا عشرة آلاف من الآدوميين طوح بهم من فوق قمة الصخرة، فقتلهم في وادي الملح وأخذ سالع عاصمة بلادهم (2 مل 14: 7؛ 2 أي 25: 11-12). وفي أثناء حكم آحاز غزا الآدوميون سبط يهوذا وأخذوا منه أسرى. وقد بقيت آدوم مدة من الزمن خاضعة لحكم اشور وكان هذا أثناء حكم تغلث فلاسر الثالث وسرجون وسنحاريب واسرحدون وأشور بانيبال، لكنها اشتركت في ثوارت عامي 711، 701 ضد أشور. وفي أيام السبي كانوا يساعدون الأعداء ضد يهوذا، وإن فلت أحد أمسكوه وباعوه للعدو، وأخيرًا جاءوا بأغنامهم لترعى في مدن يهوذا وحقولها بعد أن صارت خرابًا، لذلك استحقوا حلول غضب الله عليهم[662]. في القرن الخامس ق.م. طرد الأنباط الآدوميين من جبل سعير، وفي القرن الثاني ق.م. أخذ يهوذا المكابي واليهود حبرون وغيرها من المدن التي كان قد استولى عليها الآدوميون، وقد أرغم يوحنا هركالوس الآدوميين على الاختتان وادخلهم ضمن جماعة اليهود، وقد كان هيرودس ونسله آدوميين.

بهذا كله ظهروا غير حكماء، لهذا يعاقبهم الله، قائلاً:

"عن آدوم.

هكذا قال رب الجنود:

ألا حكمة بعد في تيمان؟!

هل بادت المشورة من الفهماء هل فرغت حكمتهم؟!

اهربوا التفتوا تعمقوا في السكن يا سكان ددان" [7-8].

تيمان: اسم عبري معناه "اليميني أو الجنوبي"، حفيد عيسو (تك 36: 11)، أعطى اسمه للقبيلة القاطنة في شمال شرقي آدوم، كما للموضع نفسه الذي يقطنون فيه. تسمى أرض أبناء الشرق، وتدعى تيمن (حز 25: 13). ربما مكانها الآن "طويلان" شرقي البتراء. اُستخدم اسم تيمان للتعبير عن أرض آدوم كلها أيضًا (حب 3: 3)، عُرف سكانها بالحكمة وحنكتهم في ضرب الأمثال [7، 20]؛ (عو 9).

سكان ددان: من نسل إبراهيم خلال قطورة (تك 25: 1-3). شعب تُجاري هام، له مكانة مرموقة في تجارة العالم القديم (حز 27: 15، 20؛ 38: 13). كانت ددان محطًا للقوافل كما كانت مركزًا للتجارة الآتية من اليمن والهند إلى البحر الأبيض المتوسط. عاش هذا الشعب في شمال غرب العربية (25: 23)، وجنوب شرقي آدوم، وربما كانت جزءًا من آدوم. اسمها الحديث العُلا في وادي القرى في شمال الحجاز.

يقدم إرميا النبي النبوات التالية عن آدوم:

أ. حلول كارثة على آدوم:

"لأني قد جلبت عليه بلية عيسو حين عاقبته،

"لو أتاك القاطفون أفما كانوا يتركون علالة؟!

أو اللصوص ليلاً أفما كانوا يهلكون ما يكفيهم؟!" [8-9].

إذ يتحدث عن البلية التي تحل بعيسو يقدم الله مثلين: يترك القاطفون علالة في الأشجار ولا ينتزعون كل الثمر، ومهما سرق اللصوص يتركون شيئًا إذ يسرقوا ما يشعرون أنهم في حاجة إليه. قصد بهذين المثلين أحد أمرين، إما أنه يتهم آدوم بأنه عنيف في هجومه على الغير فيسلب كل شيء، ولا يكون كالقاطفين للثمار أو حتى كاللصوص الذين لا ينهبون إلا ما يحتاجون إليه. أو يود أن يؤكد أن البلية التي تحل بهم تجردهم تمامًا [10]، فلا تسقط عليهم كما يسقط القاطفون على الأشجار، ولا حتى كاللصوص على المنازل أو المخازن؛ بل سيأتي الكلدانيون ويهاجمون آدوم ويعرونه من كل شيء، يسْبون الشعب ويضعون أيديهم على كل الممتلكات، فيكونوا أعنف من اللصوص.

ب. تجريد عيسو وتعريته: فقد ظن أنه قادر على سفك الدماء دون معاقبته، إذ يُهلك ويختبئ وسط الجبال العالية وفي الصخور. لكن الله يفضحه (يجرده)، فيصير عاريًا أمام الكل، ويكشف عن الأماكن التي يختبئ فيها.

"لكنني جردت عيسو وكشفت مستتراته، فلا يستطيع أن يختبئ" [10].

ج. هلاك نسله واخوته وجيرانه:

"هلك نسله واخوته وجيرانه فلا يوجد" [10].

د. اهتمام الله بأيتامه وأرامله:

إن كان الله يؤدب بحزم شديد لكنه يفتح أبواب الرجاء، مؤكدًا أنه يهتم بالأيتام والأرامل الذين فقدوا الآباء والأزواج في المعركة أو بسبب السبي.

"اترك أيتامك أنا أحييهم وأراملك عليّ ليتوكلن" [11].

هـ. يشرب من كأس التأديب:

"لأنه هكذا قال الرب:

ها إن الذين لا حق لهم أن يشربوا الكاس قد شربوا، فهل أنت تتبرأ تبرؤًا؟!

لاتتبرأ بل إنما تشرب شربًا" [12].

و. حلول العار والخراب واللعنة ببُصرة، المدينة الرئيسية لآدوم وعاصمتها، وهي غير بصرة موآب، ربما في موقعها حاليًا بُصيرة تبعد حوالي 25 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من البحر الميت[663].

"لأني بذاتي حلفت يقول الرب إن بُصرة تكون دهشًا وعارًا وخرابًا ولعنة،

وكل مدنها تكون خربًا أبدية" [13].

ز. اثارة الشعوب للحرب ضده فيصير بينهم صغيرًا ومحتقرًا:

"قد سمعت خبرًا من قبل الرب وأرسل رسول إلى الأمم قائلاً:

 تجمعوا وتعالوا عليها وقوموا للحرب.

لأني ها قد جعلتك صغيرًا بين الشعوب ومحتقرًا بين الناس" [14-15].

ح. كسر كبريائه:

"قد غرك تخويفك كبرياء قلبك يا ساكن في محاجئ الصخر،

الماسك مرتفع الأكمة.

وإن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" [16].

عرفت آدوم بكثرة الأماكن الخفية في الجبال ووسط الصخور. ربما يقصد بالصخر هنا أم البيارة، موضع مشهور من خلاله تُرى بتراء أو بيترا (صخرة) وهي خلفها[664].

ط. تصير مهجورة:

"وتصير آدوم عجبًا،

 كل مار بها يتعجب ويصفر بسبب كل ضرباتها.

كانقلاب سدوم وعمورة ومجاوراتهما يقول الرب لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم" [17-18].

ي. تصير مثلاً أمام الأمم حيث يهاجمها نبوخذنصر كأسد مفترس خارج من عرينه بسبب فيضان نهر الأردن وبلوغ المياه إلى عرينه.

"هوذا يصعد كأسد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم.

لأني أغمز وأجعله يركض عنه.

فمن هو منتخب فأقيمه عليه؟!

لأنه من مثلي، ومن يحاكمني، ومن هو الراعي الذي يقف أمامي؟!" [19].

ك. يُسبى كغنم صغير عاجز عن المقاومة:

"لذلك اسمعوا مشورة الرب التي قضي بها على آدوم،

وأفكاره التي افتكر بها على سكان تيمان.

إن صغار الغنم تسحبهم.

إنه يخرب مسكنهم عليهم" [20].

ل. تهتز الأرض من صراخهم الذي يدوي حتى بحر سوف:

"من صوت سقوطهم رجفت الأرض.

صرخة سُمع صوتها في بحر سوف" [21].

بحر سوف: أو يم سوف yam sup أو بحر الغاب Reed sea حيث يوجد الغاب Reed نباتات البردي على الحدود بين مصر في شمالها الشرقي والبرك المالحة، حاليًا منطقة قنال السويس[665]، الموضع الذي فيه تم الخروج من مصر.

م. ينهار فتتحول قلوب جبابرة الحرب إلى قلب امرأة ماخض عاجزة حتى عن الحركة. بينما يُشَّبه نبوخذنصر بالأسد والنسر، يشبه آدوم بامرأة ماخض في ضعف شديد، وخوفٍ، لا تجد من يعينها.

"هوذا كنسرٍ يرتفع ويطير ويبسط جناحيه على بصره،

ويكون قلب جبابرة آدوم في ذلك اليوم كقلب امرأةٍ ماخضٍ" [22].

النسر من أقوى الطيور الجارحة، يدعى مجازيًا ملك الطيور، بسبب قوته وضخامة حجمه مع حدة بصره وقدرته على الطيران (تث 28: 49، أي 9: 26، 39: 30، أم 23: 5، 30: 17-19، إش 40: 31، حز 17: 3، حب 8: 1). عُرفت النسور برعايتها الفائقة لصغارها، إذ تحوم حولها حتى تقدر النسور الصغيرة على الطيران (خر 19: 4، تث 32: 11، مز 103: 5). ولهذا حينما أراد الله أن يعلن عن محبته لشعبه ورعايته لهم قال: "كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده وليس معه إله أجنبي" (تث 32: 11).

شُبه المؤمن بالنسر الذي يتجدد شبابه ولا يشيخ (مز 103: 5)، ربما لأن النسر يعمر كثيرًا، أو من أجل القصة المشهورة عن طائر العنقاء الذي يتجه نحو هيكل الشمس في مصر ويموت بعد أن يكون قد أعد لنفسه موضعًا يُدفن فيه ثم يقوم من جديد الخ.

وحينما أراد الله أن يؤدب شعبه أكد لهم أنه يرسل لهم "أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد" (تث 28: 49-50)، وقد شُبه الكلدانيين هكذا: "يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل" (حب 8: 1)، وأيضًا قيل عن آدوم المتعجرف: "إن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" [16]، وأيضًا: "إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب" (عو 4).

هكذا يرمز النسر لرعاية الله الذي يحمل شعبه كما على جناحي النسر، وفي نفس الوقت يرمز للعنف والسرعة في الخطف، فحسبت الأمم المُؤدِبة لشعب الله كالنسر.

يحمل أحد الكاروبيم وجهًا شبه النسر (حز 10: 14، رؤ 4: 7)، وفي الفن المسيحي يرمز النسر للإنجيلي يوحنا ويشير للاهوت المحلق في الأعالى كما للقيامة. وفي نفس الوقت أيضًا يشير للقوة الغاشمة، فقد استخدم الفرس النسر شعارًا لدولتهم القديمة، لذلك وصفهم إشعياء النبي بالكاسر من المشرق (إش 46: 11)، كما صار رمزًا للجيش الروماني، وحاليًا يستخدمه الجيش الأمريكى رمزًا له، كما تستخدمه كثير من البلدان.

يرى القديس جيروم[666] أن النسر، ملك الطيور، هو الشيطان الذي يقيم له عشًا في الأماكن العالية كمن يملك ويستقر في أمان، لأنه رئيس هذا العالم، أما الإنسان المسيحي فليس له استقرار في هذا العالم، خاصة الراهب. [ليس للراهب قلاية، لكنه أينما وجد قلاية ففيها يقيم!].

3. سوريا الهاربة المرتعدة:

يقدم لنا النبي دمشق عاصمة سوريا كهاربة مرتعدة، ومعها حماة وارفاد وهما مدينتان أو دويلتان آراميتان في وسط وشمال سوريا، كثيرًا ما يرد ذكرها في النصوص الأشورية في القرن الثامن وما قبل ذلك. فقد تحالف آرام مع افرايم ضد يهوذا، واتكأ الاثنان على فرعون مصر ضد أشور، لهذا سمح الله لملك أشور تغلث فلاسر أن يهجم على آرام وافرايم ويغلبهما سريعًا[667].

يتنبأ عن سوريا بالآتي:

أ. سقوط مدنها الكبرى في الخزي:

"عن دمشق. خزيت حماة وارفاد" [23].

حماة وأرفاد: اسم ارامي معناه "حمى، حصن، قلعة". تقع حماة على نهر العاصي Orontes شمال حرمون (يش 13: 5) تبعد حوالي 110 ميلاً شمال دمشق، على إحدى الطرق التجارية الرئيسية بين آسيا الصغرى والجنوب. أما ارفاد فهي في شمال سوريا تعرف باسم تل أرفاد، تبعد حوالي 20 ميلاً جنوب غربي حلب، و13 ميلاً شمالي حماة.

سقطت الأخيرة في أيدي الأشوريين في القرن التاسع ق. م. ثم ثارت ضدهم، لكنهم عادوا واستولوا عليها عدة مرات، وقد سقطت في أيديهم منذ سنة 738 ق.م. (إش 10: 9؛ 36: 19؛ 37: 13) بينما تنهزمت دمشق في عام 732 ق.م (2 مل 16: 9).

ثارت حماة ضد سرجون الثاني عام 720 ق.م، لكنها أُخضعت بصعوبة ليست بالغة. يسجل لنا سفر الملوك الثاني (2 مل 24: 2) الفرق الآرامية (السورية) مع غيرها تهاجم يهوذا ما بين عامي 600 و 597 ق.م لكننا لا نعرف كثيرًا عن أحداث سوريا في القرن السابع ق.م.

ب. تُصاب مدنها بحالة إحباط وصغر نفس:

"قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبرًا رديئًا" [23].

ج. فقدان الهدوء:

"في البحر اضطراب لا يستطيع الهدوء" [23].

د. رخاوة ورعب:

"ارتخت دمشق والتفتت للهرب.

وأمسكتها الرعدة،

وأخذها الضيق والأوجاع كماخض" [24].

هـ. فقدان شبابها وأبطالها:

"كيف لم تترك المدينة الشهيرة قرية فرحي؟!.

لذلك تسقط شبانها في شوارعها، وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود" [25-26].

ز. احتراق أسوارها وقصورها:

"وأشعل نارًا في سور دمشق فتأكل قصور بنهدد" [27].

بنهدد: حمل كثير من ملوك السريان هذا اللقب (1 مل 15: 18، 20: 1؛ 2 مل 6: 24؛ 8: 7؛ 13: 3).

4. قيدار فاقدة الخيام:

كانت قيدار وأيضًا مملكة حاصور غنيتان جدًا، شعباهما تجار مواشي ورعاة غنم، يعيشون في خيام، ليس لهم مدن مسورة بأسوار.

قيدار: اسم سامي معناه "قدير أو اسود"، وهو ابن إسماعيل الثاني (تك 25: 23)، أب لأشهر قبائل العرب. تعيش رحّالة في الصحراء السورية العربية، كما تُستخدم للاشارة إلى البدو بوجه عام، خاصة القاطنين في فلسطين؛ وكانت لهم تجارة مع فينيقيا (حز 27: 21)، وكانوا بارعين في الحرب ولا سيما في الرمي بالقوس.

"عن قيدار وعن ممالك حاصورالتي ضربها نبوخذراصر ملك بابل.

هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار أخربوا بني المشرق.

يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم،

وينادون إليهم الخوف من كل جانب" [28-29].

عُرف أهل قيدار كرعاة يعيشون في الخيام، غير أن بعضهم كانوا يسكنون المدن (إش 42: 11). هاجمهم الكلدانيون واستولوا على خيامهم وأغنامهم وشققهم (الستائر) وأوانيهم، وجردوهم من كل شيءٍ، ثم تركوهم هاربين في البراري، إذ شعر الكلدانيون أنهم لا ينتفعون شيئًا من سبيهم إلى بابل، بل يمثلون ثقلاً عليهم.

5. حاصور مسكن بنت آوي:

حاصور: قريبة من الفرات والخليج الفارسي. يعتقد البعض أن حاصور كانت تقع على مياه ميروم، المعرفة الآن ببحيرة الحولة (يش 11: 1-5). ولعلها هي تل القدح وربما حضيرة أو ضربة صرة على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين.

لا يُقصد هنا مدينة حاصور في شمال فلسطين، وإنما مساحة يشغلها عرب شبه رحالة، كما تشير إلى القري (hesarem) الصغيرة، التي استقر فيها بعض القبائل العربية (إش 42: 11).

اسم "حاصور" بالعبرانية معناه "حظيرة" أو "مُحاط بسورٍ"، وفي رأي العلامة أوريجينوس معناه "قصر"، ويعلق على ذلك بقوله: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك "إبليس" الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنه في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع عنه ممتلكاته. إذن ملك القصر هو رئيس هذا العالم[668]].

في أيام يشوع كان ملكها يدعى يابين (يش 11: 1)، وهو اسم كنعاني يعني "الله يراقب"، وإن كان العلامة أوريجينوس يرى أن معناه "أفكار" أو "مهارة"، وكأن يابين يرمز للشيطان الذي يملك على العالم كما في قصره مستخدمًا أفكاره ومهارته للسيطرة على البشرية. كانت بمثابة حصن.

"اهربوا انهزموا جدًا تعمقوا في السكن يا سكان حاصور يقول الرب،

لأن نبوخذراصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة وفكر عليكم فكرًا.

قوموا اصعدوا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة يقول الرب،

لا مصاريع ولا عوارض لها،

تسكن وحدها.

وتكون جمالهم نهبًا، وكثرة ماشيتهم غنيمة،

وأذري لكل ريح مقصوصي الشعر مستديرًا،

وآتى بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب.

وتكون حاصور مسكن بنات آوي وخربة إلى الأبد.

لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم" [30-33].

ما حلّ بقيدار يحلّ بحاصور. الذين يهربون لا يجدون أمة آمنة يلجأون إليها، لكنهم يجدون حتى الرياح تهاجمهم من كل جانب. تقف الطبيعة ضدهم، لأنهم يقاومون خالق الطبيعة. تصير أرضهم خرابًا لا يسكنها إنسان بل الذئاب وبنات أوي.

6. عيلام صاحب القوس المنكسر:

عيلام: اسم عبري من أصل اكادى معناه "مرتفعات". تقع شرقي نهر التيجر، شرق بابل في سهل خزيستان، وهي من أقدم المراكز الثقافية. حاربت مع حكام أشوريين كثيرين، هزمها تمامًا أشوربانيبال حوالي سنة 640 ق.م. بعد موته استردت استقلالها. خضعت لنبوخذنصر مثل بقية الأمم، وفي سنة 540 ق.م ساعدت قواتها على تحطيم الإمبراطورية البابلية.

قدمت هذه النبوة قبل خراب أورشليم بحوالي 11عامًا. عُرف رجال عيلام بمهارتهم في ضرب الرماح، وكان ذلك مصدر حمايتهم الوحيد. لذلك بدأت النبوة ضدهم بتحطيم قوسهم أول قوتهم.

تنبأ عنهم هكذا:

أ. تحطيم قوسهم:

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي على عيلام في ابتداء ملك صدقيا ملك يهوذا قائلة:

هكذا قال رب الجنود: هأنذا أحطم قوس عيلام أول قوتهم" [34-35].

ب. هجوم الكلدانيين عليهم من كل جانب كما تهب الرياح من أربعة جهات المسكونة، فيصيروا كالقش الطائر في الهواء ليس له موضع استقرار.

"وأجلب على عيلام أربع رياح من أربعة أطراف السماء وأذريهم لكل هذه الرياح ولا تكون أمة إلا ويأتي إليها منفيو عيلام" [36].

ج. سقوطهم في حالة رعب:

"وأجعل العيلاميين يرتعبون أمام أعدائهم وأمام طالبي نفوسهم،

وأجلب عليهم شرًا حمو غضبي يقول الرب" [37].

د. قتلهم بالسيف:

"وأرسل وراءهم السيف حتى أفنيهم.

وأضع كرسي في عيلام،

وأبيد من هناك الملك والرؤساء يقول الرب" [38].

هـ. ردهم من السبي وتمتعهم بالحرية الداخلية في المسيح يسوع. كان بعض العيلاميون حاضرين يوم العنصرة في أورشليم حينما حلّ الروح القدس على الكنيسة الأولى (أع 2).

"ويكون في آخر الأيام أني أرد سبي عيلام يقول الرب" [39].

 


 

من وحي إرميا 49

 لا تتركني إلى النهاية!

v     إذ أتطلع إلى الأمم القديمة المتشامخة،

عمون وآدوم وسوريا،

وقيدار وحاصور وعيلام،

تنفضح خطاياي أمامي.

v     حقًا لتمتد يدك ولتؤدب،

لكن حسب حبك وحنانك،

وليس كغضبك يا إلهي!

v     لتهدم كل شر في،

ولتبدد بنار حبك كل فسادٍ في داخلي،

ولتجردني وتعريني أمام نفسي.

 فاعترف لك بخطاياي.

لتنزع عني كبريائي وتشامخي،

ولتهبني اتضاعك أيها العلي.

لتسبي كل خطاياي وتطردها،

انتزعها من أعماقي.

ولتملك أنت في داخلي!

v     خطاياي حولت فردوسك فيّ إلى قفر،

وفرحك وعرسك إلى صراخ وولولة،

وملكوتك المجيد إلى عارٍ وخزي،

وسلامك إلى خوف ورعدة!

من يخلصني منها سواك؟!

v     نعم! لتدخل وتملك،

فتهرب كل نجاسات قلبي!

لتتمجد فيّ فيزول عاري!

لتعلن سمواتك في داخلي،

فيُنتزع عني كل خرابٍ ودمارٍ!

تعال واحتل مملكتك فيّ يا قدوس!

<<


 

الأصحاح الخمسون

سقطت، سقطت أساسات بابل!!

يختم إرميا النبي نبواته ضد الأمم ببابل (إر 50، 51). لا نعجب إن جاءت المساحة هنا تكاد تعادل مساحة ما ورد عن الأمم معًا، ذلك بسبب خطورة بابل البالغة على كل غرب آسيا في نهاية القرن السابع ق.م وبدء القرن السادس. حتى في النبوات الخاصة بالأمم الأخرى وُجدت اشارات إلى بابل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (46: 2، 13، 25؛ 49: 28-33)[669]. كانت بابل تمثل العدو الرئيسي لشعب الله، والأمة المتشامخة على جميع ممالك الأرض.

ويلاحظ في هذه النبوات الآتي:

أ. جاءت النبوات هنا متشابكة معًا بين القضاء على بابل وتحرير شعب الله، تتنقل من الواحدة إلى الأخرى حيث لا فصل بينهما.

ب. يرى البعض أنها مجموعة نبوات نطق بها النبي في أوقات مختلفة جُمعت معًا، ويرى آخرون أنها ضمت تعليقات على نبوات إرميا في عصر لاحقٍ له. على أي الأحوال، كُتبت هذه النبوات قبل انهيار بابل، فإنها لا تحمل أي دليل على أن الكاتب عاصر غزو كورش لبابل ولا تدمير المدينة، بل على العكس يظهر أن بابل كانت لاتزال صاحبة السلطان على أعدائها، كما لا توجد أية إشارة إلى الفارسيين.

واضح أيضًا أن هذه النبوات قيلت قبل موت نبوخذنصر عام 562 ق.م، وأنه كان لايزال على قيد الحياة (50: 17؛ 5: 34).

ج. كتب إرميا النبي بإفاضة عن القضاء ضد بابل، وبأسلوب قاسي حتى ظن البعض أنه لا يمكن أن يكون كاتبها إرميا. هؤلاء أساءوا فهم شخصية إرميا، فإنه وإن كان قد طالب يهوذا بالخضوع لبابل لم يعنِ ذلك تعاطفه مع بابل، بل مطالبة يهوذا بالخضوع للتأديب الإلهي (27: 6). لقد سبق أن أشار إرميا إلى انهيار بابل في مناسبات كثيرة (27: 7؛ 29: 10). كرجل الله سبق فأعلن ليهوذا عن مشورة الله، وكرجل الله يؤكد تأديب بابل بسبب كبريائها على الله الذي استخدمها أداة في يديه.

أعلن عن سقوط بابل بواسطة كورش الفارسي عام 539 ق.م. بدون معركة، كما قام كورش بإِصدار قوانين متلاحقة لعودة الشعوب المسبية إلى بلادهم فسمح لليهود بالعودة من السبي وإعادة بناء أورشليم.

بابل

أ. نشأتها: جاء في (تك 10: 9) أن نمرود هو منشئ مدينة بابل، وهو رجل جبار عاصي قاد كثيرين إلى عصيان الله؛ على أن البابليين ينسبونها إلى "مرودخ" إلههم الأكبر. ولا يعرف بالضبط تاريخ تأسيسها ولكنه من المؤكد أنه يرجع إلى الأزمنة البدائية. صار إلهها "مرودخ" رأس مجموعة الآلهة البابلية، بسبب نفوذ بابل كعاصمة، إذ كانت محج عبادته، وبسبب مركز برج بابل العظيم الذي كانوا يتناقلون عنه أمورًا عديدة.

بلغت بابل ذروة مجدها في القرن الثامن عشر قبل الميلاد في عصر حامورابي المشترع العظيم من الأسرة البابلية الأولى، وكذلك في القرن السادس قبل الميلاد في عصر نبوخذنصر في الأسرة الكلدانية.

ب. عنادها: اتسمت بابل بالعناد منذ نشأتها إذ دعيت بابل "لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض" (تك 11: 9) حينما أرادوا أن يقيموا لأنفسهم برجًا يحتمون فيه من الله متى أراد الانتقام منهم. اشتهر شعب هذه المملكة بشدة البأس والإقدام. وفي أيام نبوخذنصر هاجموا جميع البلدان الواقعة ما بين دجلة والنيل. وكان صدى صليل سيوفهم يملأ أعداءهم رعبًا. أما أصوات مركباتهم فكانت كرعدٍ قاصفٍ (إر 4: 29، خر 26: 10). وامتاز جنودهم بالمهارة في رمي السهام وطعن الرماح وضرب السيوف، حيثما حاربوا تكللوا بالنصرة، وحيثما ساروا ارتعبت منهم الأمم. ملأ الرعب قلوب جميع الأمم المجاورة، ولاسيما الشعب اليهودي. كانوا عنفاء يمثلون بالقتلى ويسيئون معاملة المسبيين والأسرى ما لم يسبقهم إليه أحد سوى الاشوريين.

من هنا صارت كلمة "بابل" تشير إلى معاندة الله ومحبة العالم والقسوة على البشر.

ج. فسادها: ظهرت "بابل" في سفر الرؤيا كإمرأة زانية وكمدينة عظيمة.

والمرأة في الكتاب المقدس تشير إلى نظامٍ معينٍ أو مجموعةٍ معينةٍ. فالسيد المسيح له المجد له عروس حقيقية هي الكنيسة (أف 5: 23-32). إنها إمرأة مقدسة بلا دنس ولاغضن. ولضد المسيح أيضًا عروس هي "بابل"، هي جماعته التى تعمل ضد الإيمان وتعاند الله وتحث على النجاسات.

والمدينة تشير إلى السكنى، فأورشليم المقدسة تشير إلى سكنى الله بين البشر، لذلك دعيت مقدسة. ويمكن أن نقول إن كل نفس أيضًا هي أورشليم مقدسةٌ لأن الله يسكن في داخلها. وبابل العظيمة تشير إلى سكنى "ضد المسيح" بين البشر، لذلك دُعيت "عظيمة" إذ هو عنيف. ويمكن أن يسمح لهذا الضد أن يستخدم أية مدينة سواء كانت هذه بابل فعلاً أو غيرها.

ولكن يمكننا أن نقول أيضًا أن كل نفس معاندة للرب هي بابل لأنها مسكن إبليس.

د. المعنى التأويلي لكلمة بابل:

1. يرى القديس أغسطينوس[670] وطيخون الأفريقي، أنها تشير إلى جماعة الأشرار، أي ترمز إلى محبي العالم ومجده وغناه ولذاته، المتعلقين به.

2. ويرى أغلب الآباء الأولين أنها تشير إلى مملكة الدجال وعمله الشيطاني، إذ يُعاد بناء بابل وتكون مركزًا إداريًا للتخطيط الشيطاني المعاند، غير أنه ليس من الضروري أن تكون بابل في نفس الموقع القديم، ولا حاجة لأن تدعى "بابل" حرفيًا. وإن كان البعض يرى أنها تدعى حرفيًا هكذا، وتقوم في نفس مكان بابل القديمة.

3. يرى البعض أن بابل هذه صورة استعارية للشكل الذي يقوم عليه نظام الدجال الديني والسياسي بما يحمله من كل آلات للشر يمكن أن يستخدمها إبليس في مقاومة الرب[671]. فهي مجرد تعبير للكشف عن حالة العداوة القائمة ضد الله بصورة أو بأخرى.

يذكر التاريخ أن بابل تميزت من البداية بالسحر والتنجيم والأسرار الوثنية، وهي تمثل النفس التى تسقط في "تشويشٍ" أو "بلبلةٍ"، وفي آخر الأيام تمثل مملكة ضد المسيح، ويرى البعض أنها تمثل الكنيسة الشكلية المتعجرفة الرافضه للسيد المسيح المتضع.

1. الغزو الفارسي [1-3].

2. تجميع إسرائيل[4-7].

3. الغزو[8-16].

4. عودة إسرائيل [17-20].

5. قضاء على بابل[21-32].

6. ضيق مشترك[33-34].

7. قضاء عاجل[35-38].

8. قضاء مستقبلي[39- 40].

9. غزو عاجل[41-48].

1. الغزو الفارسي:

تُفتتح النبوات ضد بابل بالكلمات:

"الكلمة التى تكلم بها الرب عن بابل وعن أرض الكلدانيين على يد إرميا النبي" [1].

تُعتبر عنوانًا للأصحاحين 50، 51، توضح أنها نبوة عن بابل، عن الكلدانيين الذين جاءوا عن قبيلة استقرت في جنوب أور. منذ القرن العاشر ق.م. عُرفت أرضهم باسم كلديا Kaldu في نقوش نبولاسر والد نبوخذنصر الذي كان مواطنًا كلدانيًا جلس على عرش بابل سنة 626 ق.م وانشأ فترة بابلية جديدة استمرت حتى سنة 539 ق.م.، وتعتبر فترة مُلك نبوخذنصر هي أشهر وأطول فترة في هذه المملكة.

تصور لنا النبوة هنا إرميا النبي في حضرة الله يقف لا ليسمع إلى كلمته فحسب وإنما يتسلمها بيده، وكأن الكلمة هنا ليست صوتًا يُسمع فحسب وإنما أمرًا تستلمه النفس بيدها الداخلية كهبة إلهية، فإن إدانة الشر الذي يصحبه حرية مجد أولاد الله هو عطية تتسلمها النفس وتعتز بها.

يرى العلامة أوريجينوس[672] أن تعبير "على يد إرميا" [1] هو استخدام اسماء الأعضاء الجسدية للأعضاء الخاصة بالنفس، وذلك كالقول:

"الحكيم عيناه في رأسه" (جا 2: 14).

"من له أذنان للسمع فليسمع" (مر 4: 9).

"لا تعثر رجلك" (أم 3: 23).

"يارب لقد حُبل بنا في الرحم بمخافتك" (إش 26: 18).

"حلقهم قبر مفتوح" (مز 5: 9).

"أخبروا في الشعوب، وأسمعوا وارفعوا راية.

أسمعوا لا تُخفُوا.

قولوا أُخذت بابل.

خزى بيل. انسحق مرودخ. خزيت أوثانها، انسحقت أصنامها.

لأنه قد طلعت عليها أمة من الشمال هي تجعل أرضها خربة فلا يكون فيها ساكن.

من إنسان إلى حيوان هربوا وذهبوا" [2-3].

"بيل": إسم أكادي يقابل الإسم العبري "بعل" ويعني " السيد"؛ كان مستخدمًا في ذلك الوقت للإله مرودخ (50: 2؛ 51: 44)؛ وهو إله الشمس وإله الربيع، خالق العالم حسب الأساطير البابلية، له شكل رجل عظيم على رأسه تاج وله سبعة قرون ثور، يُقدم له طعام وشراب بكميات كبيرة كل مساءٍ، وكانوا يعتقدون أنه يأكلها ويشربها حتى كشف دانيال النبي للملك عن وجود باب سري في الهيكل، خلاله يدخل الكهنة بعائلاتهم ليلاً ليأكلوا الطعام ويشربون خفية، كما ورد في قصة بيل في تتمة دانيال.

"مرودخ" لقب حمله أشخاص كثيرون، وهو إسم ملك الآلهة مذكور مع بيل [2]، ويرمز إليه بالسيار المريخ، كثيرًا ما يكون اسمه جزءًا من اسم ملك من ملوك بابل.

ماذا قدمت كلمة الرب لإرميا؟

 قدمت خلاصًا للمؤمنين وحرية لأولاد الله وذلك بعد تأديبهم ورجوعهم إليه، يصحب هذا تحطيم للشر ونهاية له.

إذ سقطت بابل في العجرفة، وظنت أن آلهتها قد وهبتها النصرة، لذلك وضع الله آلهة بابل في خزيٍ وعارٍ.

يسمح الله  لمادي وفارس أن تحطما الإمبراطورية البابلية وتحولا بابل فيما بعد  إلى خراب لا تصلح حتى لسكنى الحيوانات.

كثيرًا ما يستخدم إرميا النبي تعبير "أمة من الشمال" إشارة إلى حلول ضيقٍ ما أيا كان مصدره، (1: 14؛ 4: 6؛ 6: 1؛ 13: 30؛ 15: 12؛ 46: 20؛ 47: 2؛ 50: 41؛ 51: 48). هنا وإن كانت مادي فارس شرق بابل أكثر منها شمالاً فقد كان الهجوم الرئيسي على بابل من الشمال.

2. تجميع إسرائيل:

"في تلك الأيام وفي ذلك الزمان يقول الرب،

يأتى بنو إسرائيل هم وبنو يهوذا معًا،

يسيرون سيرًا،

ويبكون ويطلبون الرب إلههم.

يسألون عن طريق صهيون ووجوههم إلى هناك قائلين:

هلم فنلصق بالرب بعهدٍ أبدي لا يُنسى.

كان شعبي خرافًا ضالة.

قد أضلتهم رعاتهم.

على الجبال أتاهوهم، ساروا من جبل إلى أكمة.

نسوا مربضهم.

 كل الذين وجدوهم أكلوهم،

وقال مبغضوهم: لا نذنب من أجل أنهم أخطأوا إلى الرب مسكن البر ورجاء آبائهم الرب" [4-7].

تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي. غير أنه جاء في سفر التعزية (إر 30-33) أن اصلاح إسرائيل الذي يرد له وحدته معًا مع توبته وتجديد العهد الذي لا ينكسر يشير إلى الإصلاح المسياني لإقامة شعب الله، إسرائيل الجديد، كنيسة العهد الجديد. كما يتحقق ذلك كل يوم بالنسبة لكل نفس تعود إلى إلهها وتتمتع بالعهد الجديد.

لئلا يظنوا أن الأحداث تتم بلا هدف إلهي أوضح هنا أن الشعب قد سبق فضلوا، ملقيًا باللوم على الرعاة الذين ضللوا الشعب وهم الملوك والكهنة والأنبياء الكذبة. يشير النص هنا إلى القيادات الدينية التى حثت الشعب على الارتداد وعبادة البعل على المرتفعات (2: 20؛ 3: 2) حتى نسوا مرعاهم، الموضع الذي فيه يرعى الله قطيعه العاقل.

والعجيب أن الله في محبته للبشرية يذكرهم بمحبتهم الأولى قبل سقوطهم حاسبًا الذين افترسوهم وهم مقدسين للرب في صبوتهم أنهم اجرموا، أما الذين افترسوهم وهم في حالة ارتداد فيستطيعون القول: "إننا لسنا مجرمين".

3. الغزو:

"اهربوا من وسط بابل،

واخرجوا من أرض الكلدانيين،

وكونوا مثل كراريز أمام الغنم" [8].

هنا وعد إلهي مع التزام من جانب الإنسان. فهو يفتح لنا باب للهروب من وسط بابل لكي ننطلق نحو أورشليم العليا ونعطي القفا للخطية والفساد، ويهبنا القوة والطاقة للخروج، ومستعد أن يمسك بأيدينا بل ويحملنا بروحه القدوس للهروب إلى الأحضان الإلهية، لكنه لا يلزمنا بذلك، بل يأمرنا: "اهربوا... اخرجوا... كونوا". هذا الخروج هي عطية مجانية ننعم بها بواسطة النعمة الإلهية التى تعمل مع من يتجاوب معها وليس للرافضين لها أو المقاومين. هذا وهو يطالبنا في خروجنا أن نحث الغير على التمتع معنا بذات الحرية التى لأولاد الله فيقول: "كونوا مثل كراريز أمام الغنم". كما تقود الجداء القطيع، هكذا يقود اليهود الأمم في عودتهم من السبي. كما كانت أول الأمم التى سقطت تحت التأديب القاسي، فإنها إذ تتوب تقود غيرها إلى التوبة للتمتع بالحرية.

نهاية بابل قربت، والسبي ينتهي! صورة رعوية رائعة! عند فتح الباب تخرج الجداء فورًا إذ لا تطيق القيود، فينطلق اليهود نحو بيتهم في مقدمة الشعوب المسبية التى تنعم بالحرية.

"لأني هأنذا أوقظ وأُصعد على بابل جمهور شعوب عظيمة من أرض الشمال فيصطفون عليها.

من هناك تؤخذ.

نبالهم كبطلٍ مهلكٍ لا يرجع فارغًا.

وتكون أرض الكلدانيين غنيمة.

كل مغتنميها يشبعون يقول الرب.

لأنكم قد فرحتم وشمتم يا ناهبي ميراثي،

وقفزتم كعجلة في الكلاءِ (العشب)،

وصهلتم كخيل.

تخزى أمكم جدًا، تخجل التى ولدتكم،

ها آخرة الشعوب برية وأرض ناشفة وقفر.

بسبب سخط الرب لا تُسكن بل تصير خربة بالتمام.

كل مارٍ ببابل يتعجب ويصفر بسبب كل ضرباتها.

اصطفوا على بابل حواليها يا جميع الذين ينزعون في القوس.

ارموا عليها.

لا توفروا السهام لأنها قد أخطأت إلى الرب.

اهتفوا عليها حواليها.

قد أعطت يدها.

سقطت أسسها، نُقضت أسوارها.

لأنها نقمة الرب هي فانقموا منها.

كما فعلت افعلوا بها.

اقطعوا الزارع من بابل، وماسك المنجل في وقت الحصاد.

من وجه السيف القاسي يرجعون كل واحدٍ إلى شعبه،

ويهربون كل واحدٍ إلى ارضه" [9-16].

يشبه الله مملكة فارس بجمهور نائم يحتاج إلى الله يوقظه معطيًا أمرًا بالصعود على بابل والاستيلاء على أرض الكلدانيين. كما كانت الأمم غنيمة لبابل هكذا تصير هي غنيمة لفارس. حقًا لم يخرب كورش مدينة بابل حين غزاها، لكن فيما بعد أثناء الحكم الفارسي إذ ثارت المدينة سباها داريوس هستاسبيس Darius Hystaspis سنة 514 ق.م حيث أعدم حوالي 4000 شخصًا، وبدأ بتدميرها تدريجيًا حتى اختفت تمامًا. قامت بابل في منطقة خصبة جدًا، مع انتهاء سلطانها جفت قنواتها وصارت اليوم منطقة صحراوية [16]. ظهرت آثارها بواسطة رجال الحفريات في القرن التاسع عشر.

لم يكن الأمر بالغزو الفارسي على بابل حكمًا مُجْحفًا، لكن الله يقدم حيثيات لهذا الحكم أهمها:

أ. فرح البابليون وشمتوا عندما نهبوا ميراث الرب [11]، هكذا يحسب الله من يسيء إلى مؤمنيه ويشمت فيهم حتى في لحظات تأديب الله لهم إهانة إلى ميراث الرب نفسه.

الذي يشمت فيمن يسقط تحت التأديب يفقد تعقله واتزانه، حتى طهارته وعفته، فيكون كالعجلة التى تقفز فى وسط العشب بغير تعقلٍ لأنها تطلب العجل رفيقها، وكالخيل الذي يصهل [11]. إنهما صورتان عن الحياة الريفية توضحان بهجة بابل بانهيار شعب الله.

ب. اخطأت بابل إلى الرب [14]، إذ ظنت أنه عاجز عن الوقوف أمام إلههم الباطل مرودخ.

ج. "كما فعلت افعلوا بها" [15]، بالكيل الذي كالت به يُكال لها!

أما القضاء فهو مشابه لما قيل عن الأمم الأخرى ولكن بصورة أشد، لأنها كانت أعنف منهم.

أ. ظنت بابل أنها أمًا للأمم، ولم تدرك أن الأم تفرح بأولادها، وتقدمهم عنها، وتطلب نجاحهم، وتفتخر بهم، فإن فشلوا خربت جدًا. الآن يصيب أمها الخزي والخجل.

ب. يجعلها آخر الشعوب بعد أن كانت بابل الإمبراطورية الأولى والمتقدمة للشعوب، بل وتحسب نفسها الإمبراطورية الوحيدة، كأنه لا يوجد غيرها في العالم.

ج. يحل بها الخراب فلا تصلح للسكن.

د. يسخر بها العابرون عليها.

هـ. تصير هدف السهام بلا رحمة.

و. تسقط أساساتها وتنهار أسوارها.

ز. تصير قفر لا يجد الزراع له عملاً، فيها ولا الحاصد يجمع شيئًا.

ح. بلا سلام، يود الكل أن يهرب منها.

وكما سبق فقلنا إن هذا كله يحل بالنفس الساقطة الرافضة الله واهب المجد الداخلي الأبدي.

هذا ويلاحظ أن العقوبة هنا جاءت متشابهة تمامًا لما فعلته بابل بالأمم الأخرى.

لقد دفعت الأمم الأخرى إلى الخزي والعار، ونزلت بهم ليصيروا كلا شيء، قتلت الكثيرين من سكانها، وهدمت أسوارًا وقصورًا، وقتلت الكرامين وأفسدت الحقول الخ. هذا كله يحل بها الآن، ليتحقق القول الإلهي: "كما فعلت افعلوا بها" [15].

4. عودة إسرائيل:

"إسرائيل غنم متبددة.

قد طردته السباع.

أولاً أكله ملك أشور، ثم هذا الأخير نبوخذرانصر ملك بابل هرس عظامه.

لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هانذا أعاقب ملك بابل وأرضه كما عاقبت ملك أشور.

وأرد إسرائيل إلى مسكنه فيرعى كَرْمَل وباشان،

وفي جبل افريم وجلعاد تشبع نفسه.

في تلك الأيام وفي ذلك الزمان يقول الرب يطلب إثم إسرائيل فلا يكون وخطية يهوذا فلا توجد لأني أغفر لمن أبقيه" [17-20].

يتحدث هنا عن جميع الأسباط، إذ اشترك إسرائيل ويهوذا معًا في السبي فتبددوا كغنم تطارده السباع، ويشترك الكل معًا في التمتع بعمل الله وردهم من السبي.

صورة رائعة لعمل الله مع النفس الراجعة إليه بعد تأديبها:

أ. يتطلع إليها كغنم متبددة تتعقبها السباع. عوض أن يعاتبها على خطاياها الماضية مبررًا لماذا سمح لها بالتأديب القاسي، ينظر إليها بعين الرحمة فيشفق عليها وهي متبددة والسباع تريد أن تلتهمها. عجيب هو الله في حنانه، فإنه حتى عند تأديبنا يئن مع أناتنا، ولا يطلب هلاكنا بل خلاصنا.

ب. لقد سمح لأشور أن يسبي إسرائيل، وبعد ذلك لبابل أن تسبي يهوذا، ومع هذا يرثيهما لأنه كان يود أن يؤدبهما لا أن يأكل أشور شعبه ويهرس بابل عظامهم.

ج. يفرح الله إذ يفتح لشعبه الأبواب المغلقة وينطلق بهم إلى أرض الموعد، خاصة الكرمل وباشان وجبل افرايم وجلعاد، حيث الأرض التى تفيض عسلاً ولبنًا.

د. إذ احتج العدو بأن شعب الله أخطأ، يعلن الله أنه يطلب إثمهم وخطاياهم فلا يجدها، لأن البقية المقدسة قد اختفت في الدم الطاهر، وحملوا بر المسيح!

الكرمل تعني "أرض الحديقة".

تضم تلال أفرايم الكثير من الأراضي الزراعية.

لجلعاد معني واسع يشمل كل منطقة شرق الأردن (تث 34: 1، يش 22: 9، 2 صم 2: 9، 1 مل 5: 17، 24-27). أما جلعاد بمفهوم أكثر تحديدًا، فهو منطقة جبلية شرق الأردن تشمل حاليًا البلقاء الحديثة، غرب عمون عند حدود حشبون تقريبًا من جهة الجنوب وحدود يرموك من جهة الجنوب. يبلغ ارتفاعها حوالي 2000 قدم فوق مستوى البحر، تشمل في بعض المناطق غابات وأيضًا حقول ووديان ومجارى مياه. تصلح للرعي حتى شبه العريس عروسه بقطيع معز رابض على جبل جلعاد (نش 4: 1، 6: 5). تشتهر بنوع من الأشجار يخرج منه مادة صمغية تسمى بلسان جلعاد ذات خواص طبيّة (8: 22، 46: 11)، قيل أن عصيره كان يستخدم كعلاج للالتهابات، وإن قيمته كانت مرتفعة جدًا حتى أنه في زمن الإسكندر كانت قيمته تقدر بضعفي وزنه من الفضة، وجاء في سفر التكوين (37: 25) أنه يمثل تجارة هامة. حينما يتحدث الأنبياء عن إصلاح حال إسرائيل الجديد في العصر المسيّاني يذكرون جلعاد كشبعٍ لنفسه (إر 50: 19، مي 7: 14، زك 10: 10).

5. قضاء على بابل:

يقدم النبي قضاء ضد بابل: الشعب وقياداته وجيشه، والأرض والحقول والمدن، والمبدأ هو "كافئوها نظير عملها افعلوا بها حسب كل ما فعلت" [29]. والعجيب أنه قد تم  الإعلان عن خراب بابل المجيدة في صهيون [28].

"اصعد على أرض مراثايم، عليها وعلى سكان فقود.

أخرب وحرم وراءهم يقول الرب،

وافعل حسب كل ما أمرتك به.

صوت حرب في الأرض وانحطام عظيم.

كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟!

كيف صارت بابل خربة بين الشعوب؟!

قد نصبت لك شركًا فعَلِـقْتِ يا بابل وأنت لم تعرفي.

قد وُجدت وأُمسكت لأنك قد خاصمتٍ الرب.

فتح الرب خزانته وأخرج آلات رجزه لأن للسيد رب الجنود عملاً في أرض الكلدانيين.

هلموا إليها من الأقصى.

افتحوا أهراءها.

كوِّموها عرامًا وحرموها ولا تكن لها بقية.

أهلكوا كل عجولها.

لتنزل للذبح.

ويل لهم لأنه قد أتى يومهم زمان عقابهم.

صوت هاربين وناجين من أرض بابل ليخبروا في صهيون بنقمة الرب إلهنا نقمة هيكله.

ادعوا إلى بابل أصحاب القسي.

لينزل عليها كل من ينزع في القوس حواليها.

لا يكن ناج.

كافئوها نظير عملها.

افعلوا بها حسب كل ما فعلت.

لأنها بغت على الرب، على قدوس إسرائيل.

لذلك يسقط شبانها في الشوارع،

وكل رجال حربها يهلكون في ذلك اليوم يقول الرب.

هأنذا عليكِ أيتها الباغية يقول السيد رب الجنود،

لأنه قد أتى يومك حين عقابي إياك.

فيعثر الباغي ويسقط، ولا يكون له من يقيمه،

وأشعل نارا في مدنه فتأكل كل ما حواليها" [21-32].

يرى البعض أن إرميا ذكر ثلاثة اسماء رمزية لبابل:

أ. مراثايم [21]: لأن الإمبراطورية البابلية تأسست على التمرد المزدوج. مراثايم معناها "تمرد مزدوج"، مع تغيير بسيط في الحروف Mat Marratim، وهو موضع عند رأس الخليج الفارسي في نقطة تلاقى نهري التيجر والفرات.

ب. فقود: لأن الله يفقد هذه الإمبراطورية بالقضاء أو العقوبة [21]؛ (حز 23: 23). فقود تعني "عقوبة"، وهي تشير إلى عشيرة في شرق بابلPuqudu  (حز 23: 23). كأن الله يدعو أرض التمرّد المزدوج (مراثايم) وشعب العقوبة لممارسة الضغط على بابل.

 ج. شيشك (25: 26؛ 51: 41)، وقد سبق لنا الحديث عنه.

كانت بابل أشبه بصياد وضع الفخاخ ليصطاد الأمم، واحدة تلو الأخري، تسقط الأمة في الفخ فتسخر بها وتقتلها، والآن سقطت بابل نفسها في ذات الفخ لتصير أضحوكة الأمم وتنال جزاءها.

يُرمز هنا [23] لنبوخذنصر بالمطرقة التى هشمت كل ممالك الأرض في ذلك الحين، لكن جاء الوقت لتحطيم المطرقة ذاتها وسحقها.

ويرى القديس جيروم أن الشيطان هو المطرقة التي تُحطم كل الأرض، إذ يقول: [الشيطان هو رئيس تلك الظلمة (أف 6: 12)، يدعوه الكتاب المقدس العدو (مت 13: 39)، والقاضي الظالم (لو 18: 6)، والتنين (رؤ 12: 3)، وإبليس، والمطرقة [23]، وبليعال، والأسد الزائر (1 بط 5: 8)، ولويثان (أي 3: 8)، ورؤوس التنانين (مز 73: 13)، وأسماء أخرى كثيرة[673]].

v     يريد الله أن تُفهم هذه المطرقة التي للأرض كلها إنها الشيطان. بهذه المطرقة التي في يد الرب، يُعطي صدى لمدائح الله.

يُضرب كل من الإنسان البار والخاطئ بهذه المطرقة. الأول كتجربة والثاني كعقاب؛ أو على الأقل لكي يزداد البار في الفضائل ويصلح الخاطئ من رذائله.

يُضرب بهذه المطرقة التي في يد الرب ليس فقط المتواضعين بل والمتكبرون؛ لكن يُضرب المتواضعون كالذهب والمتكبرون ينكسرون كالزجاج. ذات الضربة تجعل الصالح في مجدٍ وتحول الشرير إلى رماد، فيتحقق فيهم المكتوب: "كالقش الذي تذرّيه الريح" (مز 1: 4) [674].

الأب قيصريوس أسقف آرل

قام القديس جيروم بترجمة عظتين للعلامة أوريجينوس على [23، 29]، تحدث فيهما بشيء من التفصيل عن الشيطان كمطرقة كل الأرض جاء فيهما:

المطرقة وبيت الرب

["كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟ كيف صارت بابل خربة؟"

يلزمنا أن نبحث هنا عن معنى "مطرقة كل الأرض"، وكيف تحطمت؟

ولماذا يقول النبي أنها قطعت قبل أن تتحطم؟

نقوم بتجميع كل ما ذُكر عن المطرقة ونحاول فهم ماذا يقصد بها.

مثال من الأمثلة التي سنقدمها: قديمًا، تم بناء بيت للرب، والذي بناه هو سليمان؛ وقد ذُكر في سفر الملوك، على سبيل المديح والإشادة ببيت الرب "ولم يُسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول (مطرقة) ولا أداة من حديد" (1 مل 6: 7). كما لم يُسمع صوت مطرقة في بيت الرب، كذلك أيضًا في الكنيسة بما أنها بيت الله فإنه لا يُسمع فيها صوت مطرقة.

ما هي هذه المطرقة التي تعمل على منع الحجارة من أن تُستخدم في بناء الهيكل، إذ في سلطانها أن تحطم تلك الحجارة بحيث لا تجعلها تصلح لبناء الأساسات؟ أليس الشيطان هو مطرقة كل الأرض؟[675]].

الماس أقوى من المطرقة

[أما أنا فأؤكد أنه يوجد من لا يبالي كثيرًا بمطرقة كل الأرض. وبما أن الكتاب المقدس قد استخدم المطرقة كمثال، ابحث عن مادة أخرى أشد صلابة من المطرقة، لا تتأثر ولا يصيبها أي ضرر إذا ضربت المطرقة فوقها. في بحثي وجدتها في الآية: "هوذا إنسان قائم فوق جبال الماس، وفي يده ماسة" (عا 7: 7). بحسب قانون الطبيعة فإن الماس أصلب من أن تضربه أية مطرقة، إذ لا يُصاب بضررٍ منها.

إذا كان الشيطان كالمطرقة، ووُجدت أسفله ماسة يمسكها الله في يديه ويحميها ويضعها تحت نظره، فإن تلك الماسة لا يمكن أن يصيبها أي ضرر.

إذًا الإنسان البار هو مثل جبل الماس أو مثل الماسة الموجودة في يدي الله. إنها لا تقلق ولا تبالي بالمطرقة، بل على العكس كلما اشتدت عليه الضربات ظهرت فضائله أكثر.

يُقال عن الذين يتاجرون في الحجارة الكريمة إنهم يختبرون الماس قبل شرائه، ذلك لأنهم يجهلون ما إذا كانت هذه الحجارة الموجودة أمامهم هي ماس أم مادة أخرى، ويظلوا يجهلون حقيقته إلى أن تُوضع تحت المطرقة ويُضرب بها؛ فإذا ظلت الحجارة بدون ضرر يتأكدون حينئذ أن الحجارة الموجودة أمامهم هي ماسات أصيلة[676]].

البار ومطرقة التجارب

 [هكذا الحال بالنسبة للإنسان البار في مواجهة التجارب؛ فإن الذين لا يعرفون كيف يختبرون الحجارة يجهلون حقيقة هذا البار. أما الله فهو وحده يعلم حقيقة الماس الذي يجهله معظم الناس.

أنا نفسي لا أعلم حتى الآن هل سأُقطع وأتحطم إذا ضربتني المطرقة، وبالتالي تظهر حقيقتي إنني لست ماسة، أم سأثبت ضد التجارب والاضطهادات والمخاطر وبالتالي أظهر مثل الماسة الأصيلة؟![677]].

فوائد المطرقة

[راجع بنفسك الكتاب المقدس، وابحث هل وضع الله شيئًا مفيدًا في المطرقة. أذكر لك مثالاً عن فائدة المطرقة: بدون المطرقة لما وُجدت أبواق مشدودة (عد 10: 1) يُضرب بها في مناسبات الأعياد الموجودة في الشريعة، وأيضًا تُستخدم في الحروب حيث تلهب حماس الشعب حينما يسمعونها. إذًا لابد من وجود المطرقة لعمل الأبواق المشدودة[678]].

المطرقة والبوق الرسولي بولس

[ساعدت المطرقة كثيرا في صنع هذا البوق المشدود، بولس الرسول. فلقد ساعدت على تقدمه ونموه من خلال التجارب المختلفة التي تعرض لها، فاجتاز الاختبار بنجاح، وأثبت أنه يمكن وضعه تحت المطرقة دون أن يُصاب بضررٍ، بل على العكس أن وضعه تحت المطرقة صنع منه بوقًا يُعطي صوتًا واضحًا حتى أن كل من يسمعه يتهيأ للقتال (1 كو 14: 8) [679]].

لنميز بين المطرقة والضارب بها

[بما أن قوة العدو هي مطرقة، فأنني أستعين بكلمة أخرى من الكتاب المقدس مشتقة عن كلمة مطرقة. أتوقف عند كلمات: أن "قايين" ولد بنين، وأحدهم كان توبال "الضارب (طارق) كل آلة من نحاس وحديد" (تك 4: 22). فكما أن إبليس أصل كل التجارب يسمى "المطرقة"، كذلك يُسمى خادمه الذي ينفذ أوامره "الضارب" أو (الطارق). في كل مرة تسقط فيها في تجربة اعلم أن المطرقة هو إبليس، وأن الطارق هو الإنسان الذي يرسله إبليس ليوقع بك. وأيضًا عندما تمت خيانة السيد المسيح، كان إبليس هو المطرقة وكان يهوذا الإسخريوطي هو الطارق. كذلك وُجد العديد من الطارقين في وقت آلام يسوع المسيح، كانوا يصرخون: "خذه! خذه! اصلبه! اصلبه!" جميع الذين يرحبون بالشيطان في تصرفاتهم وسلوكهم يجعلون من أنفسهم خدامًا له ويصيرون "طارقين"[680]].

اترك المطرقة ولا تضرب بها!

[إن كنت طارقًا بالأمس وممسكًا بمطرقة في يدك، الآن وقد عرفت أن الطارقين هم أبناء قايين الذي قتل أخيه؛ فإلقِ بالمطرقة من يدك، وتعال إلى النسل الصالح لتنتمي إليه، النسل الروحي الذي يبدأ من شيث ثم أنوش والباقين الذين يمدحهم الرب في سفر التكوين[681]].

مطرقة كل الأرض وليس مطرقة السماء!

[نهاية المطرقة القطع والتحطيم. يجب أن نعلم أن الشيطان الذي يرمز إليه النبي بالمطرقة، ليس هو مطرقة لجزء من الأرض، بل مطرقة كل الأرض. يجب أن تؤخذ كلمات "كل الأرض" بمعناها الحرفي، لأن شره ورذاءله انتشرت في كل الأرض، وأن هذه المطرقة تصنع الشر في كل مكان.

حينما نقول أن الشيطان هو مطرقة كل الأرض، هذا يعني ضمنًا أنه لا توجد مطرقة في السماء. إننا في الواقع لا نستخدم المطرقة مع مادة خفيفة ورقيقة، بل مع مادة غليظة وثقيلة. فإذا كنت تلبس صورة الترابي (1 كو 15: 49)، تضربك المطرقة لأنها أرضية ترابية[682]].

مطارق لأجزاء من الأرض

[كما أن الشيطان هو مطرقة كل الأرض، يمكننا أن نتخيل أيضًا أن هناك مطرقة أخرى أصغر نوعًا ما، هي مطرقة جزء من الأرض؛ وهي تتمثل في قوات العدو، أي الشياطين الصغيرة التي ليس لها نفس سلطان إبليس وقدرة رئيس الشياطين الذي يمكنه أن يحارب جميع الناس في وقتٍ واحدٍ.

إذا توجد في داخلي مطرقة، ليست لكل الأرض وإنما تختص بأرضي أنا فقط. لكن بما أن مطرقة كل الأرض قُطعت وتحطمت، فما بالكم بالمطارق الأخرى الصغيرة؟[683]]

مسيحنا محطم المطرقة!

[نبحث عن الذي قطع وحطم مطرقة كل الأرض:

ليس موسى هو الذي قطع وحطم مطرقة كل الأرض،

ولا إبراهيم أب الآباء،

ولا يشوع بن نون،

لا أي واحدٍ من الأنبياء.

اذا من هو ذاك الذي استطاع أن يقطع ويحطم تلك المطرقة الشديدة القوة، مطرقة كل الأرض؟ أنه يسوع المسيح.

لذلك فإن إرميا النبي في إعجابه الشديد بعمل السيد المسيح يقول بروح النبوة: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟" لقد قُطع (انكسر) الشيطان أولاً، ثم بعد ذلك تحطَّم (سُحق). لنرجع إلى الإنجيل ونري الفقرة التي قال فيها الشيطان للسيد المسيح: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9)، في رأيي أن السيد المسيح في تلك اللحظة لم يحطم الشيطان وإنما فقط قطعه، ولكن بعدما ما فارقه الشيطان إلى حين (لو 4: 13)، ثم لما رجع إليه بعد هذا الحين، سحقه يسوع المسيح وحطمه (على الصليب)[684]].

التقطيع والتحطيم الدائم للمطرقة

[تُقطع مطرقة كل الأرض من جديد بواسطة كل واحدٍ منا حينما نصير أعضاء حقيقيين في الكنيسة، وحينما ننمو باستمرارٍ في الإيمان، ثم تتحطم وتسحق بعد ذلك حينما نصل إلى حياة الكمال.

في هذا الشأن استمع إلى قول بولس الرسول الذي يوجهه إلى الأبرار: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا" (رو 16: 20)[685]].

لنسحق المطرقة حتى لا تسحقنا

[هذا الشيطان ثائر باستمرار ضدنا، وهو يحاول بكل وسيلة أن يقطعنا وأن يحطمنا ويسحقنا. سحق بالفعل كثيرين الذين لم يكونوا يقظين ولا حريصين على أنفسهم، الذين لم يمارسوا عمليًا الحفاظ على القلب (أم 4: 23) [686]].

لنخف الله فلا نخاف من المطرقة!

[أما نحن الذين لنا ثقة في الرب، ولنا إيمان بيسوع المسيح ابن الله، فإننا لا نخاف الشيطان.

نخاف الله، فلن نخاف الشيطان، ولن يمكن لإبليس أن يصنع بنا أي شر، بل ويمكننا أن نقول بكل فخرٍ عن عمل الله معنا: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟"[687]].

سحق المطرقة يليه خراب بابل

[بعد أن قُطعت المطرقة وتحطمت، صارت بابل خربة. لقد اتبع إرميا النبي ترتيبًا يدعو للإعجاب حينما قال: "كيف قُطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض؟ كيف صارت بابل خربة؟" لقد أعلن الأمر الذي تحقق أولاً في البداية، ثم أعلن بعد ذلك ما حدث بعده.

إذا متى صارت "بابل" مدينة القلق والاضطراب "خربة"؟[688]].

متى تصير بابل خربة؟

[صارت خربة حينما خربت جميع الاضطرابات الموجودة في داخل نفسي وانتهت.

حينما لا أضطرب عند موت ابن أو زوجة لي.

حينما لا يعود أحد يستطيع أن يثيرني ولا أن يدفعني إلى الحزن أو الغضب أو الشهوة.

حينما أصير متزنًا غير قلقٍ رغم جميع الأحداث.

عندئذ يقال عني: صارت بابل أي الاضطرابات خربة.

"قد نصبت لكِ شركًا فعلقتِ يا بابل وأنتِ لم تعرفي" [24] يا ليت بابل الموجودة في كل واحدٍ فينا تسقط وتُعلق في الفخ المنصوب لها! [689]].

يكمل العلامة أوريجينوس عظته معلقًا على العبارات التالية في نفس الأصحاح هكذا:

["قد وجُدتِ وأُمسكتِ لأنك قد خاصمتِ الرب (قاومتي الرب)"

ليست بابل هي الوحيدة التي قاومت الرب، بل جميع الأمم والشعوب الذين تركوا الخالق وعبدوا الأوثان قاوموا أيضًا الرب. أليست هذه العبادة هي أسلوب رمزي يُقصد به أن كل نفس تخاصم أورشليم "رؤية السلام" تكون مثل بابل؟ لأن الأبرار كانوا في أورشليم، والخطاة كانوا في بابل، لذلك حينما أخطأ سكان أورشليم  تم سبيهم إلى بابل مع الخطاة.

"فتح الرب خزانته وأخرج آلات زجره...

لكي أفهم معنى "فتح الرب خزانته وأخرج آلات رجزه (غضبه)" أبحث عن معنى آلات غضب الله في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس. لقد وجدت بالفعل فقرة مناسبة جدًا تتلائم مع هذا الموضوع في كلمات بولس الرسول الذي يقول: "فماذا إن كان الله وهو يريد أن يُظهر غضبه ويُبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يُبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد، التي أيضًا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا" (رو 9: 22-24).

يقسم بولس الرسول جميع البشر إلى مجموعتين، قائلاً إن بعضهم يمثل آنية رحمة والبعض الآخر يمثل آنية غضب؛ لقد أطلق مثلاً على فرعون وعلى المصريين أنهم آنية غضب، بينما أطلق على نفسه هو وجميع الذين آمنوا سواء من اليهود أو من الأمم آنية رحمة.

إذًا توجد في خزائن الرب آنية (آلات) غضب، فما هي إذًا تلك الخزائن التي يوجد فيها آنية غضب الله؟

هل لا يوجد في خزائنه سوى آنية غضب؟

خزائن الرب من وجهة نظري تتمثل في الكنائس، كثيرا ما يختبئ فيها أناسًا يمثلون آنية غضب، يأتي وقت حين يفتح الرب خزائنه التي هي الكنائس. الكنائس الآن مغلقة، وآنية الغضب موجودة وسط آنية الرحمة، والقمح موجود مع التبن (مت 3: 12)، والسمك الجيد مع السمك الرديء في نفس الشبكة (مت 13: 47). عندما يفتح الرب كنيسته في يوم الدينونة ويُخرج آلات غضبه؛ فإن كل واحدٍ من الذين يمثلون آنية الرحمة يقول عن آنية الغضب التي أخرجت خارجًا: "منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" (1 يو 2: 19)[690]].

يكمل العلامة أوريجينوس حديثه عن الآنية التي للرحمة وتلك التي للغضب قائلاً بإن هذا يحدث في بيت الرب أي بين المؤمنين، منهم من هم مقدسون وآخرون فاسدون يُدانون؛ لكن توجد أواني أخرى خارج الكنيسة ليست هكذا ولا كذلك، فهي تُحرم من الملكوت لكن لا تُلقى في نار جهنم... هذا الفكر في رأيه موضوع نقاش غير مستقر عليه، وواضح من كلماته أنه لا يمثل رأيًا عامًا إذ يقول:

[هذا الموضوع يدعونا للدخول في مناقشة مجالٍ آخر يتشابه مع هذا الموضوع فإنه توجد في خزائن الرب آنية للغضب؛ وفي خارج خزائنه يوجد خطاة ليسوا آنية للغضب، بل هم آنية أقل درجة من آنية الغضب: هم العبيد الذين لا يعملون إرادة سيدهم لأنهم لا يعلمون ما هي إرادته (لو 12: 47).

الذي يدخل إلى الكنيسة يكون إما آنية غضب وإما آنية رحمة؛ أما الذي في خارج الكنيسة فهو ليس آنية غضب ولا آنية رحمة، بل يمكن اعتباره آنية مخصصة لأي شيء آخر. أستطيع أن أؤكد كلامي هذا، وأن أثبت صحته من الكتاب المقدس نفسه، حيث يقول بولس الرسول "ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضًا، وتلك للكرامة وهذه للهوان، فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عملٍ صالحٍ" (2 تي 2: 20).

لا تظن أن هذا البيت الكبير هو كنيستنا الحالية، ولا تعتقد أنك ستجد فيها آنية للكرامة وأخرى للهوان؛ بل أن هذا البيت الكبير هو المدينة الجديدة التي أعدها الله لنا في الدهر الآتي، فيها تصير آنية الرحمة، آنية من ذهب وفضة للكرامة؛ بينما الآنية الأخرى التي هي الأشخاص الموجودين خارج الكنيسة والذين ليس في استطاعتهم أن يصيروا آنية للرحمة ولا آنية للغضب؛ فإنهم بموجب وضعهم الخاص وحالتهم الفريدة، يمكنهم أن يشغلوا وظيفة آنية الخزف التي للهوان، والتي رغم كونها آنية للهوان إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها في داخل البيت.

بالنسبة لنا نحن الذين في بيت الله أي في الكنيسة، ماذا ننتظر حتى نطهر أنفسنا؟

هل نتظر حتى يأتي الرب ويفتح خزائنه فيخرجنا خارجًا؟!

ألا يجب علينا أن نبدأ من الآن حتى نصنع من أنفسنا آنية للرحمة، فلا نكتفي فقط بأن نبعد عن أن نصير آنية للغضب، بل بالأكثر أن يصير هؤلاء الذين كانوا قبلاً آنية غضب آنية للرحمة؟! يقول بولس الرسول شيئا مشابهًا للكورنثوسيين:

"يسمع مطلقا أن بينكم زنى، وزنى هكذا لا يُسمى بين الأمم حتى أن تكون للإنسان امرأة أبيه. أفأنتم منتفخون وبالأحرى لم تنوحوا حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل؟!" (1 كو 5: 1-2) كأنه يقول لهم: لتُفتح خزائن الرب، ولتخرج منها آنية الغضب! لأن "الرب فتح خزانته وأخرج آلات غضبه".

قرأت عبارة نُسبت للسيد المسيح "الذي يوجد بالقرب مني فهو قريب من النار، والذي يوجد بعيدًا عني فهو بعيد عن الملكوت"!

أي أن الإنسان الذي سمع تعاليمي ثم خالفها صار إناء غضبٍ معد للهلاك (رو 9: 22)، مثل هذا الإنسان عندما يكون بالقرب مني يصير قريبًا من النار.

إذا ابتعد أحد عني لكي لا يوجد بجانب النار، فليعلم مثل هذا الانسان أنه بذلك يُبعد نفسه عن الملكوت، مثل ما يحدث مع المصارعين تمامًا: فإن المصارع الذي لا يكتب اسمه ضمن أسماء المشتركين في الصراع (المصارعة) لن يخاف من الضربات، في الوقت نفسه لن ينتظر أن يُتوج بأكاليل النصرة. أما إذا اشترك في المصارعة فإنه سُيضرب ويقع كما في حالة خسارة، بينما يُتوج في نصرة. نفس الشيء يحدث مع الذين كُتبت أسماؤهم في الكنيسة، الذين قبلوا كلام الرب، فهم بهذا يسجلون أسماءهم للاشتراك في المصارعة الدينية، طالما انضموا إلى المشتركين، فإذا لم يصارعوا بكل اجتهاد يتلقون ضربات كثيرة، لن يتلقاها الآخرون الذين لم يشتركوا من الأصل في هذا الصراع، إما إذا صارعوا بشجاعة وتجنبوا الضربات، فإنهم يأخذون إكليل مجدٍ لا يفنى (1 كو 9: 25) [691]].

لنخرج من أرض الكلدانيين

["لأن للسيد رب الجنود عملاً في أرض الكلدانيين" [25].

أي مكان أو موقع أرضي يمكن أن يُسمى بأسماء عديدة ومختلفة بحسب وجهات النظر السائدة فيه. وكما أن مخلصنا يسوع له أسماء كثيرة من وجهات نظر متعددة، ذلك لأنه واحد في جوهره لكنه متعدد القدرات والصفات، كذلك أيضًا الأمور الأرضية، فرغم كونها نفس الشيء في جوهرها، إلا أنها متعددة جدًا من وجهات نظر الناس في كل مكان على الأرض. أوضح ذلك بالأكثر بتفسير المثال الذي ذكرته عن المخلص ثم أرجع بعد ذلك إلى الموضوع الأساسي الذي يحتاج إلى التفسير.

فبالرغم من أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح هو جوهر واحد، إلا أنه من وجهة نظر معينة يُدعى طبيبًا حيث قيل "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (مت 9: 12).

ومن وجهة نظر أخرى يُدعى راعيًا (يو 19: 14).

ومن وجهة نظر ثالثة يُدعى ملكًا (يو 18: 37).

ومن وجهة نظر رابعةُ يدعى الكرمة الحقيقية (يو 15: 1).

ومن وجهة نظر خامسة يُدعى الحكمة (1 كو 1: 30).

من وجهة نظر سادسة يُدعى الحق (يو 14: 6).

ومن وجهة نظر سابعة يُدعى برًا (1 كو 1: 30).

إذًا، كما أن مخلصنا رغم أنه واحد في جوهره إلا أنه يحمل أسماء مختلفة تبعًا لوجهات نظر متعددة، كذلك أيضًا بالنسبة للأمور الأرضية، فإنها مكونة من نفس المادة إلا أنها تأخذ أسماء مختلفة تبعا للأماكن الموجودة فيها. كثيرًا ما ذكرنا أن بابل هي الأمور الأرضية المضطربة دائمًا، ومصر هي الأمور الأرضية التي تصيبنا بالحزن والضيق، أما أرض الكلدانيين فتمثل الذين يعبدون النجوم والكواكب، ينسبون معظم الأحداث التي تجرى على الأرض إلى النجوم، حتى أنهم يقولون إن ما يوجد عندنا من خطايا أو من فضائل هو نتيجة لحركة النجوم. كل إنسانٍ يشترك في تلك المعتقدات يكون في أرض الكلدانيين. إذا اتبع أحدكم خرافات المنجمين يكون هو أيضًا في أرض الكلدانيين. بل أن بعض الناس يظنون أننا أصبحنا مسيحيين بسبب تحركات معينة تحدث في مدارات الكواكب والنجوم. لذلك فإنه عندما يهدد الرب الذين في أرض الكلدانيين، وفقا للتفسير الروحي، يهدد الذين يذهبون وراء علم التنجيم القائلين إن كل ما يحدث على الأرض يرجع إلى تحركات النجوم. من أجل ذلك حينما دعا الله إبراهيم للتوجه نحو أمورٍ أفضل، قال له: أنا الرب الذي أخرجك من أرض الكلدانيين" (تك 15: 7). الله وحده هو القادر على إخراجنا من أرض الكلدانيين، لأنه هو خالق كل شيء ومدبر كل شيء وضابط الكل[692]].

["هلُم إليها من الأقصى،

افتحوا أهرءها (مخازنها)،

كوموها عرامًا وحرّموها ولا تكن لها بقية" [26].

مخازن الكلدانيين هي عقائدهم الخاصة بمعرفة الغيب والتنجيم. من يرفض حسابات علم الغيب والتنجيم، ويتبع بدلاً منها عقيدة الحق التي تؤكد أن لا شيء مما يقوله هؤلاء المنجمون حقيقي، ومن يعلم أن ما أبعد أحكام الله عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء (رو 11: 33)، ومن يقول أن الكواكب ليست هي سبب الأحداث التي تجري على الأرض؛ مثل هذا الإنسان ينفذ أمر الرب بإهلاك أرض الكلدانيين.

"صوت هاربين وناجين من أرض بابل ليخبروا في صهيون بنقمة الرب إلهنا" [28].

يتنبأ إرميا هنا عن الذين تركوا تقاليد أجدادهم، ورفضوا العادات الوثنية التي كانت موجودة عندهم قديمًا، تركوا عدم الإيمان، ثم آمنوا في النهاية بكلمة الرب.

أعتقد أن هذا هو المقصود بكلمات: "صوت هاربين وناجين من أرض بابل".

يا ليتها تكون كلماتنا نحن أيضًا، فنكون هاربين من الرذائل والخطايا، إذ أن صوت الهاربين هو نفسه صوت الناجين. لا يكفي أن نهرب من أرض بابل بل يجب كذلك أن ننجو منها حتى نُخبر في صهيون بنقمة الرب إلهنا.

عندما نهرب من بابل نأتي إلى صهيون "المدينة الحصينة"، أي كنيسة الرب حيث نخبر فيها بنقمة الرب إلهنا أي نقمة شعبه (دفاعه عن مؤمنيه).

"ادعوا إلى بابل أصحاب القسي. لينزل عليها كل من ينزع في القوس حواليها لا يكن ناج". أي اهدموا واهلكوا كل ما يخص بابل "كافئوها نظير عملها، افعلوا بها حسب كل ما فعلت، لأنها بغت على الرب على قدوس إسرائيل". أو: "لأنها قاومت الرب قدوس إسرائيل" [29].

طالما توجد في داخلك أفكار شريرة تقاوم القداسة والإيمان الحقيقي، لا تزال بابل  في داخلك؛ أما إذا أهلكت هذه الأفكار وقضيت على الخطايا الموجودة في أرضك (نفسك)؛ فإنك تكون قد قتلت بابل، وبالتالي تستطيع أن تذهب إلى مدينة الله أورشليم (عب 12: 22) وتلتقي بالمسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين[693]].

6. ضيق مشترك:

"هكذا قال رب الجنود إن بني إسرائيل وبني يهوذا معًا مظلومون،

وكل الذين سبوهم أمسكوهم.

أبوا أن يطلقوهم.

وليهم قوي.

رب الجنود اسمه.

يقيم دعواهم لكي يريح الأرض ويزعج سكان بابل" [33-34].

سمح الله لهم بالسبي لكي يتمتعوا بالوحدة التي حُرموا منها في أرض الموعد. ففي عبودية مصر وأيضًا في بابل كان الكل معًا في مذلة. وكما أبى فرعون أن يطلقهم هكذا أبى البابليون أن يطلقوهم [33]، لكن في كلا الحالتين اكتشفوا أن "وليهم قوي، رب الجنود اسمه" [24] هو الذي يحررهم. بالنسبة لهم هو "الولي" أي يمت إليهم بصلة قربي ملاصقة جدًا، وقائد "رب الجنود"، ومحامي يقيم دعواهم [34]. إنه ينتقم لهم من الأشرار القتلة، ويحميهم، ويضُمن لهم حريتهم، ويحرر أرضهم (لا 25: 25، 47-55؛ عد 35: 21). إن كان الله قد أخرجهم من مصر بيدٍ قوية وبذراعٍ رفيعة فلا يزال القادر أن يحررهم من بابل بقوة.

7. قضاء عاجل:

"سيف على الكلدانيين يقول الرب وعلى سكان بابل وعلى رؤسائها وعلى حكمائها.

سيف على المخادعين فيصيرون حُمُقاً.

سيف على أبطالها فيرتعبون.

سيف على خيلها وعلى مركباتها وعلى كل اللفيف الذي في وسطها فيصيرون نساء.

سيف على خزائنها فُتنهب.

حَرٌّ على مياهها فتنشف، لأنها أرض منحوتات هي وبالأصنام تُجن" [35-38].

أمر السيف أن يضرب ليعلن عجز آلهة بابل وأصنامها عن الحركة والدفاع عن العابدين لها:

- سيف على الكلدانيين (الشعب).

- سيف على الرؤساء (الأباطره ورجال الدولة).

- سيف على الحكماء (المشيرون).

- سيف على المخادعين (الأنبياء الكذبة والمنجمون).

- سيف على أبطالها (الجيش).

- سيف على خيلها... (الإمكانيات الحربية).

- سيف على اللفيف الذي في وسطها (حلفاؤها).

- سيف على خزائنها (التي امتلأت بما نهبوه).

- حر على مياهها (تتحول الحقول إلى براري). يرى البعض هنا إشارة إلى تحويل مياه نهر الفرات من القنوات الطبيعية تحت أبواب المدينة الضخمة إلى بركة ضخمة خارج المدينة حيث عبر مادي وفارس إلى بابل من خلال قنوات النهر.

8. قضاء مستقبلي:

"لذلك تسكن وحوش القفر مع بنات آوي،

وتسكن فيها رعال النعام ولا تسكن بعد إلى الأبد، ولا تعمر إلى دور فدور.

كقلب الله سدوم ومجاوراتها يقول الرب،

لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم" [39-40].

هذه الكلمات حقيقية بالنسبة لخرائب بابل، فلا يزال يتجنبونها ظانّين إياها أماكن تختبئ فيها الحيوانات المفترسة ومملوءة بالأرواح الشريرة (إش 13: 19-22).

لم يحدث أن تعرضت بابل لما تعرضت له مدينتا سدوم وعمورة، لذا يرى البعض أنه يشير هنا إلى ما سيحدث في الأيام الأخيرة حيث يُقال عن سقوط بابل: "وحدثت زلزلة عظيمة لم يحدث قبلها منذ صار الناس على الأرض، زلزلة بمقدارها عظيمة هكذا... وبابل العظيمة ذُكرت أمام الله ليعطيها كأس خمر سخط غضبه" (رؤ 16: 18-19). كما قيل عن ملاكٍ إنه "صرخ بشدة بصوتٍ عظيم قائلاً: سقطت سقطت بابل العظيمة وصارت مسكنًا لشياطين ومحرسًا لكل روحٍ نجس..." (رؤ 18: 2).

9. غزو عاجل:

"هوذا شعب مقبل من الشمال وأمة عظيمة ويُوقظ ملوك كثيرون من أقاصي الأرض.

يمسكون القوس والرمح.

هم قساة لا يرحمون،

صوتهم يعج كبحر،

وعلى خيل يركبون مصطفين كرجلٍ واحدٍ لمحاربتك يا بنت بابل.

سمع ملك بابل خبرهم فارتخت يداه.

أخذته الضيقة والوجع كماخضٍ.

ها هو يصعد كأسد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم.

لأنى أغمز وأجعلهم يركضون عنه.

فمن هو منتخب فأقيمه عليه؟!

لأنه من مثلي؟! ومن يحاكمني؟! ومن هو الراعي الذي يقف أمامي؟!

لذلك اسمعوا مشورة الرب التي قضى بها على بابل،

وأفكاره التي افتكر بها على أرض الكلدانيين. إن صغار الغنم تسحبهم.

إنه يخرب مسكنهم عليهم.

من القول أُخذت بابل، رجفت الأرض، وسُمع صراخ في الشعوب" [41-46].

تكرر ما جاء [41-43] في (6: 22-24) مع اختلافات طفيفة، بينما [44-46] تكرر ما ورد ضد أدوم (49: 19-21).

من الجانب التاريخي، الذين كانوا في السبي كانوا فاقدي الرجاء في الخلاص من جبروت الإمبراطورية البابلية، فكانت كلمات إرميا هذه أشبه بعظات نظرية غير عملية، لكن الذين آمنوا بكلمة الرب امتلأوا رجاءً ووثقوا في يد الله العاملة لخلاصهم، فكانت نبوات وكلمات إشعياء وإرميا وحزقيال مصدر عزاء لهم في غربتهم.

 

 


 

من وحي إرميا 50

لتزعزع أساسات بابل!

v     ظنت بابل أنها أم العالم كله،

لا بالحب بل بالقمع والتحطيم.

وظنت الأمم جميعًا أنه لا خلاص من بابل المستبدة!

لكن الله ضابط الكل أعلن عن دمارها،

ليُفعل بها ما فعلته بالأمم.

كمطرقة سحقت كل الأرض،

هوذا تُقطع المطرقة وتُسحق!

v     لتزعزع يا مخلصي أساسات بابلي المتشامخة!

لتهدم في داخلي امرأة إبليس المتعجرفة الزانية!

لتحطم يا مخلصي المطرقة الحقيقية،

عدو الخير الذي حطم كل الأرض،

أقام نفسه أرخونا للعالم لينحدر به إلى الهاوية!

v     مجيئك يا مخلصي قطَّع المطرقة،

صليبك سحقها تمامًا!

أي سلطان لعدو الخير عليّ؟!

أية قوة للخطية في داخلي؟!

نعم! وهبتني النصرة،

أعطيتني أن أضرب بصليبك على المطرقة فأسحقها!

v     روحك القدوس حوَّلي ترابي إلى ماس حقيقي!

ليضرب العدو بكل طاقاته،

فإنه لن يقدر أن يحطم الماس ولا أن يسحقه!

بل يكشف بالأكثر عن تقديرها وصلابتها!

أختفي فيك وأرتمي بين يديك،

فلا تقدر المطرقة أن تحطمني!

اقتنيني ماسًا لا يُقدر بثمن.

v     لتضرب مطرقة كل الأرض عليّ!

إنها لن تقدر أن تلحق بي،

فإنني لست بعد أرضًا بل سماء!

أجلسني روحك القدوس في السمويات،

حوّل أرضي الداخلية إلى سماء،

وبابلي إلى أورشليم العليا!

مجدًا لك يا محطم مطرقة كل الأرض!

<<


 

الأصحاح الحادي والخمسون

اهربوا من بابل!

أعلن الله في الأصحاح السابق على لسان إرميا النبي عن تقطيع بابل - مطرقة الأرض - وتحطيمها (50: 23)، فكما سحقت الأمم سُحقت هي أيضًا، لأنها مدينة ضد المسيح، تُقدم للعالم إبليس الذي هو بالحقيقة مطرقة كل الأرض، وقد سحقه رب المجد بالصليب (كو 2: 15) ولم يعد له سلطان على أولاد الله. في هذا الأصحاح يعلن الله عن التزامنا بالهروب سريعًا من بابل، لأننا في حاجة إلى بلسانٍ يشفي جراحات نفوسنا الخطيرة. هذا البلسان هو رب المجد يسوع المصلوب الذي لن يوجد في بابل بل في جلعاد الجديدة التي هي الكنيسة.

1. ريح مهلكة [1-4].

2. الله لن ينسى شعبه [5].

3. اهربوا من وسط بابل[6].

4. بابل كأس ذهب[7-8].

5. جراحات لا تُشفي[8-18].

6. نصيب يعقوب [19].

7. عصا الرب للتأديب [20-25].

8. حرمان من حجر الزاوية [26].

9. جاء وقت الحصاد [27-33].

10. شكوى إسرائيل [34-35].

11. الله ينتقم لشعبه[36-44].

12. اخرجوا من وسطها [45-46].

13. الحكم [47-49].

14. أمر بالعودة إلى المقادس[50-51].

15. نهاية السبي البابلي [52-58].

16. قراءة النبوات في بابل[59-62].

17. سقوط بابل [63-64].

1. ريح مهلكة:

"هكذا قال الرب:

هأنذا أوقظ على بابل وعلى الساكنين في وسط القائمين عليَّ ريحًا مهلكة.

وأرسل إلى بابل مذرّين فيذرّونها ويفرغون أرضها،

لأنهم يكونون عليها من كل جهة في يوم الشر.

على النازع في قوسه فلينزع النازع،

وعلى المفتخر بذراعه،

فلا تشفقوا على منتخبيها بل حرموا كل جندها.

فتسقط القتلى في أرض الكلدانيين والمطعونون في شوارعها" [1-4].

في الأصحاحات السابقة يشير النبي إلى بابل إما باسمها الذي يعني "بلبلة"، أو باسم "الكلدانيين" الذي يشير إلى انغماسهم في العقائد الخاطئة حيث يرفضون العناية الإلهية، حاسبين أن كل حياتهم حتى سلوكهم تديره حركة النجوم، بهذا يظنون أن الإنسان مسلوب الإرادة. هنا يدعو الله البابليين: "الساكنين في القائمين عليّ" [1]، أي المقاومين لله علانية، لهذا استحقت بابل المخاطر التالية:

أ. هبوب ريح مهلكة عليها، عوض التمتع بروح الله القدوس الذي يهب كريحٍ ليجدد على الدوام؛ تهلك الريح حتى العطايا الطبيعية الموهوبة للإنسان.

ب. قيام مذرين لتفريغ أرضها، يكشفون أنها لا تحمل حبة حنطة واحدة وسط القش، لهذا تفرغ أرضها تمامًا.

ج. ضربات القوس المتواترة؛ عوض التمتع بسيف الكلمة الإلهية الذي يبتر كل شرٍ، أو برمح الحب الإلهي الذي يجرح النفس بجراحات الحب الإلهي، يُقتل شبابها المنتخب وكل جيشها بالرماح، ويُلقون في الشوارع [3].

د. تحريم جندها: تصير كل طاقات الإنسان التي للجسد كما للنفس جنودًا محرمين لا يمارسون الحياة المقدسة، ولا ينعمون بتكريسهم للرب.

يترجم البعض "الساكنين في القائمين عليّ" هكذا: "الساكنين في Leb- Kamai، أي في Atbash ، قاصدًا بذلك "كلديا"[694].

 يتحدث هنا عن مادي وفارس بكونهما ريحًا مهلكة تحطم بابل، وقد قدم إرميا النبي سبع تشبيهات لمادي وفارس:

أ. الأسد الصاعد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم (50: 44)، بينما يشبه بابل بصغار الغنم المسحوبة بلا قوة (50: 45)، يفترسها الأسد.

ب. ريح مهلكة [1]، لا تستطيع بابل أن تقاومها.

ج. مذرون يذرون أرض بابل ويفرغونها [2]، حيث تنفضح بابل فتظهر أنها قش يطير في الهواء بلا حنطة. بينما يكشفون عن حقيقة المؤمنين في الكنيسة، إذ يفصلون القش عن الحنطة. هذا هو عمل التجارب والضيقات، فالمؤمنون الحقيقيون يتمجدون خلال التجربة بالتصاقهم بالله مخلصهم بينما يتعثر الآخرون ويجدفون على الله.

د. "فأس حرب" يسحق بابل [20]، إذ كان الجند يستخدمون أحيانًا الفؤوس في المعارك الحربية.

هـ. أدوات حرب [20].

و. غوغاء أو جراد يرفعون على بابل جلبة أي يحدثون أصواتًا قوية أشبه  بصوت أغاني الغلبة والنصرة  [14، 27].

ز. ناهبون [35].

2. الله لن ينسى شعبه:

"لأن إسرائيل ويهوذا ليسا بمقطوعين عن إلههما عن رب الجنود وإن تكن أرضهما ملآنة إثمًا على قدوس إسرائيل" [5].

يرى إرميا النبي إسرائيل ويهوذا أرملتين مقطوعتين عن إلههما، العريس السماوي، لكن الله لا يتركهما بعد تأديبهما. حقًا لقد ملأَتا الأرض إثمًا ضد الله القدوس، لكن إذ رجعتا بالتوبة إليه تجدانه راجعًا إليهما لينزع عنهما حالة الترمل.

3. اهربوا من وسط بابل:

"اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه.

لا تهلكوا بذنبها لأن هذا زمان انتقام الرب هو يؤدي لها جزاءها" [6].

 يقدم لنا العلامة أوريجينوس تفسيرًا لهذه العبارة:

أين تقطن نفوسنا؟

[كما أن جسدنا يسكن في مكان معين من الأرض، كذلك نفسنا تسكن بحسب حالتها في المكان أو البلد الذي يحمل نفس اسمها (صفاتها)، أو بطريقة أكثر وضوحًا: جسدنا موجود إما في مصر أو بابل أو فلسطين أو سوريا أو في أي بلدٍ أخرى تحمل الاسم الذي يتناسب مع كل نفس[695]].

السكنى في بابل

[تقطن النفس بابل عندما تكون قلقة ومضطربة، حينما يرحل منها السلام، فتكون مضطرة للمصارعة مع الخطية ومواجهة حرب الشهوات والوقوف بمفردها في وسط ضجيج الأسلحة التي تحاصرها من كل جهة؛ إلى مثل تلك النفس يوجه النبي كلماته قائلاً:

"اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه".

طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد قائلاً: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ (مز 137: 4). مادمنا في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تُستخدم في توصيل النغمات للرب معلقة بدون استخدام، لذلك يقول النبي "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)"[696]].

التوقف عن التسبيح في بابل

يرى العلامة أوريجينوس أن الله يطالبنا بالخروج من بابل والانطلاق إلى أورشليم، لأنه في بابل تُعلق قيثارتنا على الصفصاف فلا يمكننا التسبيح لله بتسبحة جديدة للرب في أرض غريبة، إذ نفقد سلامنا السماوي ونُحرم من الفرح الداخلي. لهذا يليق بنا أن نهرب إلى أورشليم لنسترد قيثارات قلوبنا ونترنم لله لا بألسنتنا فحسب، بل بكل كياننا حيث تتحول مشاعرنا وأحاسيسنا وطاقاتنا إلى أوتار روحية تُخرج سيمفونية حب، تتجاوب مع حب الله الفائق. يقول:

[طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث "رؤية السلام" ترجع القيثارات التي كانت قبلاً معلقة بلا استخدام مرة أخرى إلى أيدينا، ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله.

كما قلنا في البداية، تكون النفس موجودة دائمًا في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية (الروحية). مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في "دان" التي تشغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم.

من جهة أخرى، الإنسان الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر (تأويليًا).

كما أن الموجودين في اليهودية لا يسكنون كلهم في مكانٍ واحدٍ، فيسكن أحدهم في أورشليم، وآخر في دان، وآخر في نفتالي، وآخر في أرض جاد؛ كذلك أيضًا الذين في مصر لا يسكنون كلهم في أماكنٍ سيئة بنفس الدرجة: منهم من يسكن في تانيس، ومنهم من يسكنٍ في نوف أو في سين أو في فيبستة (حز 30: 13-18). فإذا كان القارئ إنسانًا روحيًا يحكم في كل شيء دون أن يُحكم فيه من أحد (1 كو 15: 2)، يستطيع أن يجد تفسيرًا تأويليًا لأسماء المواقع الموجودة في مصر والتي ذكرها حزقيال النبي في نبوته، فلا يكتفي فقط بمعرفة تفسير أسماء الأمم مثل بابل ومصر واليهودية، وإنما يهتم أيضًا بمعرفة ما هو المقصود من خلال تلك الاسماء الصغيرة. "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟!" (هو 14: 9)[697]].

الهروب السريع من بابل

[هناك تساؤل آخر: لماذا تعطى كلمة الرب للذين في بابل هذا الأمر: "اهربوا من وسط بابل"؟ لا تتركوها بالتدريج، بل اهربوا منها بسرعة، لأن الهروب يعني الجرى أثناء الخروج.

"اهربوا من وسط بابل". هذه الكلمات موجهة إلى كل النفوس "المضطربة" بأمور هذا العالم وشهواته الرديئة المختلفة. فماذا إذا يعني أمر الرب؟ لم يقل: "اخرجوا من وسط بابل" لأن الخروج يمكن أن يحدث بالتدريج، بل قال: "اهربوا من وسط بابل"، في الواقع قوله: "من وسط" بابل، دفعني للبحث عن المقصود بتلك الكلمة. فقد يحدث أن يكون إنسان موجودًا في أطراف بابل، وبالتالي يكون بطريقة أو بأخرى خارجها. أما الوجود في وسط بابل فهو شيء آخر، لأن المسافة من الوسط إلى أي طرف من أطراف بابل تكون متساوية: أي أن الوجود في مركز بابل هو مثل وسط قلب أي حيوان. ففي الواقع القلب هو الجزء المتوسط في جسم أي حيوان، كما أن وسط الأرض يُسمى في إنجيل متى "قلب الأرض" (مت 12: 40)؛ إذًا يلزم على الخطاة أن يهربوا من وسط بابل أي من قلبها.

اهربوا إذًا من وسط بابل لكي إذا ما تركتم وسطها تصبحون بعد ذلك في أطراف أرضها.

حتى لا يكون هذا الكلام غامضًا أوضحه أكثر: الإنسان الغارق في الشرور والخطايا هو في وسط بابل؛ أما الذي يبتدئ تدريجيًا في ترك الخطية متجهًا نحو الخير ولم يحصل بعد على الفضائل، إنما يبدأ في الحصول على الاشتياق للفضائل، فبالرغم من هروبه من وسط بابل إلا أنه لم يتركها كلية[698]].

نجاة من جديد

يقول القديس جيروم في رسالته إلى استوخيوم إن والدتها قد نفذت هذه الوصية الإلهية فخرجت من أرضها لتستريح مع مخلصها[699].

يقول العلامة أوريجينوس:

 [ثم أضاف قائلاً: "وانجوا (من جديد) كل واحدٍ بنفسه".

يجب أولاً أن نهرب من وسط بابل، ثم بعد ذلك ننجو من جديد كل واحدٍ بنفسه. لم يتحدث هنا عن النجاة فقط، بل عن النجاة من جديد، هذه الإضافة تحوى سرًا؛ تعني أننا قد ذقنا الخلاص قبل ذلك، لكن إذ حُرمنا منه بسبب خطايانا، أدى هذا إلى مجيئنا إلى بابل. لهذا يجب أن ينجو كل واحدٍ منا بنفسه من جديد، لكي نبدأ في استعادة ما قد فقدناه، وبحسب كلمات بطرس الرسول: "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم" (1 بط 1: 9-10) [700]].

الفرق بين الطرد والرفض

[يوجد أمر ثالث: "لا تُطردوا بإثمها"

إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يصير "هلاكه" أمرًا طبيعيًا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مُترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جدًا في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حدٍ كبيرٍ. قال على سبيل المثال: "اخترت أن أصير مرفوضًا (مطروحًا أو مُلقى) في بيت إلهي الخ." (مز 10: 84)، فهو لم يقل: "اخترت أن أصير مطرودًا". نفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل: "لا تصيروا مرفوضين بإثمها" بل: "لا تصيروا مطرودين بإثمها".

الطرد شيء والرفض شيء آخرٍ. الإنسان المُحتقر من الناس والمُهمل منهم، ليس مطرودًا وإنما مرفوض. أيضًا الإنسان الذي يوجد باستمرار خارج دائرة الخلاص مطرود لأنه لا ينعم بالتطويب الإلهي. لكي تفهم الفرق بين الكلمتين، يمكنك تجميع كل النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تحتوي على هاتين الكلمتين، والمقارنة بينهما[701]].

التأديب الإلهي علامة الحب والاهتمام

 ["لأن هذا زمان انتقام الرب". يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات تُوقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر على احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: "لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" (هو 4: 14).

لا يعاقب الله الخطاة بسبب غضبه عليهم كما يظن البعض، أو بمعنى آخر عندما يوقع الله عقابًا على إنسانٍ خاطئ، لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن غضب الله على الإنسان يظهر في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: "يارب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك" (مز 6: 1).

إن أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: "أدبني يارب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" (24: 10). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، حينما يخطئ أبناء السيد المسيح يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: "إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 30-33).

من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يُعاقب حتى الآن يكون ذلك  علامة عدم استحقاقه للعقاب بعد[702]].

"هو يؤدي لها جزاءها"

[لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدى لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئًا على ذلك، وهو أن الله لا يُعاقب الخاطئ بنفسه، لكنه أحيانًا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم كما نرى في المزامير: "أرسل عليه حمو غضبه سخطًا ورجزًا وضيقًا (عن طريق) جيش ملائكة أشرار" (مز 78: 49). بالنسبة لهؤلاء لم يؤدِ لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب.

قد يستعين الرب بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال هنا بالنسبة لبابل.

عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده يعالج المريض. يحدث أحيانًا أن يكون المريض محتاجًا إلى بتر أحد أعضائه وإلى استخدام المشرط، مع ذلك لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدًا من مساعديه قادرًا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض.

لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، ويكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يديّ التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى أيدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جدًا كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه[703]].

4. بابل كأس ذهب:

"بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض.

من خمرها شربت الشعوب من أجل ذلك جنت الشعوب.

سقطت بابل بغتة وتحطمت. ولولوا عليها" [7-8].

يقول القديس جيروم: باختصار يلزمك أن تعرف أن الذهب غالبًا ما يكون تشبيهًا للبلاغة العالمية، كمثال لسان الهرطقة برّاق بالذهب[704].

v     اقام يربعام عجلي ذهب ووضع أحدهما في بيت إيل وجعل الآخر في دان (1 مل 12: 29) [قد يتساءل البعض: لماذا صنعوا عجلي ذهب؟ كنزنا محفوظ في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7). الكنسيون بحق هم بسطاء، أما الهراطقة فهم أرسطاطليون وأفلاطونيون. باختصار لتعرف أن الذهب هو التشبيه المعتاد للبلاغة الزمنية، حيث يكون لسان الهراطقة كتمثال ذهبي متلألئ، اسمع كلمات النبي: "بابل هي كأس ذهبي في يد الرب" [7]. لاحظ كيف يصف بابل المرتبكة. إذن هذا العالم هو كأس ذهبي، وكل الأمم يشربون منه[705].

 القديس جيروم

v     بابل تعني "ارتباكًا"، والكأس الذهبي حقًا هو تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء.

من بالحق لم ينحرف بواسطة الفلاسفة؟

من لم يُخدع بواسطة خطباء هذا العالم؟

كأسهم ذهبي، وسمو بلاغتهم من الخارج، أما الداخل فمملوء سمًا الذي لا يقدرون أن يخفوه إلا خلال بريق الذهب.

تذوقون عذوبة بلاغتهم لكي تتأكدوا ولا تشكوا أنه سم قاتل[706].

القديس جيروم

يقول العلامة أوريجينوس:

بين كأس الذهب والإناء الخزفي

["بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض،

من خمرها شربت الشعوب،

من أجل ذلك جنَّت الشعوب (اختل عقلها)، سقطت بابل بغتة وتحطمت".

نبوخذنصر، الذي كان يريد أن يغوي الناس ويجذبهم من خلال كأس بابل المُضِل والمخادع، لم يضع المشروب الذي أعده في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7)، ولا حتى في أوانٍ أخرى أفضل في النوع كالحديد أو النحاس أو حتى ما هو أفضل مثل الأواني الفضية؛ لكنه اختار إناءً من ذهب ليُعد فيه مشروبه، حتى يجتذب بريق الذهب عيون الناس، فيركزون كل اهتمامهم وأنظارهم على جمال الإناء الخارجي دون أن يلتفتوا إلى ما في داخله. بهذا يمسكون بالكأس ويشربونها وهم غير عالمين.

ماذا يعني كأس نبوخذنصر؟

ماذا يُقصد بكأس الذهب المذكورة هنا؟

إن نظرت إلى الجمال الخارجي الذي يغلف الكلمات القاتلة التي للعقائد الفاسدة، وإلى بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهبٍ، يوجد في هذه الكأس سموم الزنا، وسموم الكلمات القبيحة، وسموم العقائد التي تقتل نفس الإنسان.

أما مسيحنا ففعل العكس: فإنه إذ يعرف أن كأس الشيطان مصنوعة من الذهب، لم يشأ أن يجعل الإنسان الذي يدخل في الإيمان يظن أن كأس السيد المسيح مشابهة للكأس التي تركها (أي كأس الشيطان التي تركها الإنسان حينما آمن بالرب)، ولم يشأ أن يصنع كأسه من الذهب حتى لا يقع المؤمنون في حيرة حينما يرون أن كأس الرب وكأس الشيطان مصنوعتان من نفس المادة، فمن أجل ذلك حرص السيد المسيح على أن يكون لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7).

"بابل كأس ذهب بيد الرب".

بابل ليست كأس ذهب إلى الأبد، بل يأتي يوم تسقط من يديْ الرب حيث يقوم هو بنفسه بتوقيع العقاب عليها.

"تُسكر كل الأرض"، كأس الذهب هذا، أي بابل، تُسكر كل الأرض.

كيف تسكر كل الأرض؟ ستفهم ذلك حينما تدرك أن كل الناس أصبحوا سكارى: لقد سكرنا من الغضب، ومن الحزن، ومن الحب الفاني، ومن الشهوات الشريرة، ومن كل ما هو باطل. فكم من مشروبات أعدتها لنا بابل؟ وكم من كأس ذهبٍ أسرتنا بها؟

"بابل كأس ذهبٍ بيد الرب تُسكر كل الأرض".

إن أردت أن تعرف كيف أصبحت كل الأرض سكرى بفعل كأس بابل أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. قد تقول لي إن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط، أي الخطاة وحدهم، هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن مكانهم في السماء. بالتالي لا يليق أن يُقال للإنسان البار: أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود"، بل سيقول له الرب طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): "أنت سماء وإلى السماء تعود". لذلك فإن كأس بابل لن يُسكر إلا الذين ما زالوا "أرضًا".

"من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جنت الشعوب".

 الذين يشربون الخمر العادي، عندما يشربون منه أكثر من حاجتهم ويكثرون من شربه بدون عقل نرى فيهم صورة إنسانٍ سكرانٍ مختل الجسد ذو أرجل متراخية ورأس مثقلة، ولسان ثمل، ينطق بكلمات غير مفهومة، تخرج من خلال شفتين مضمومتين. بذلك يمكننا أن ندرك كيف أن الذين شربوا من خمر بابل جنوا واختل عقلهم، صارت خطواتهم غير ثابتة، وبسبب عقولهم الواهية وأفكارهم المترددة يعيشون دائمًا في قلقٍ واضطرابٍ ويملأ الشك حياتهم باستمرار. يقول الكتاب عن مثل هؤلاء الناس: "لذلك أخذتهم الرعدة" (مز 48: 6).

دعونا نتوقف قليلاً عند بعض الكلمات الغامضة: لماذا قيل عن قايين الخاطئ إنه حينما خرج من لدن الرب، سكن في أرض نود شرقي عدن (تك 4: 16)؟ إن كلمة "نود" تترجم في اليونانية "اختلال أو رعدة". الإنسان الذي يترك الله، والذي لا توجد عنده القدرة على التفكير في الرب يكون موجودًا في أرض نود، أي يعيش في القلق واضطراب قلبه الرديء وفي اختلال الفكر والعقل.

"سقطت بابل بغتة وتحطمت"

متى سقطت بابل بغتة؟"

أعتقد أن المقصود بتلك الكلمات هو أن نهاية العالم تجيء بغتة، ستكون مثل أيام الطوفان حين كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع" (مت 24: 37-38)، وكما حدث في أيام لوط (لو 17: 28). نفس الشيء يحدث في نهاية العالم، لن تجيء بالتدريج وإنما بغتة. وفي رأيي أن هذا أيضًا يتشابه مع ما جاء في سفر يشوع عن مدينة أريحا التي سقطت "بغتة" بمجرد حدوث صوت الأبواق، يحدث نفس الشيء أيضًا مع مدينة بابل في نهاية العالم تسقط بغتة وتتحطم. هذا إذا اعتبرنا أن العبارة السابقة تتحدث عن وقت انتهاء العالم؛ أما إذا تأملنا ماذا حدث في وقت السيد المسيح، ونظرنا إلى عمله العجيب، كيف أنه أفسد جميع التعاليم الوثنية المتعلقة بالأصنام وعبادتها، لكي يحمي المؤمنين من ثقل الخطية، عندئذ ستدرك أن في ذلك الوقت سقطت بابل بغتة وتحطمت.

ليفحص كل واحدٍ منا نفسه ليرى هل سقطت بابل من داخل قلبه أم لا. إذا كانت مدينة الاضطراب (بابل) لم تسقط بعد من قلبه، هذا دليل على أن السيد المسيح لم يأتِ بعد إلى هذا القلب، لأنه بمجرد دخوله إلى القلب تنهار بابل وتتحطم في الحال. فمن أجل ذلك حينما تصلون، اجتهدوا أن تطلبوا مجيء السيد المسيح في قلوبكم حتى يحطم بابل ويسقط كل شرها وخبثها ومكرها، ويقيم على أنقاضها أورشليم مدينة الله المقدسة، يقيمها في داخل قلوبنا[707]].

5. جراحات لا تُشفي:

"خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تُشفي.

داوينا بابل فلم تُشفَ.

دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه،

لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب" [8-9].

هذا الحديث في رأى الأب سيرينوس[708] موجه من الله إلى الأطباء والجراحين ليحزنوا بسبب عدم قبولها الدواء، بينما تكملته [9] هو تعليق هؤلاء الأطباء من ملائكة منوطين بهم ورسل وروحيين ادركوا أن بابل رفضت العلاج.

v     حاول إرميا أن يشفي بابل إن استطاع!...

لم يُشفَ المجمع لأن البلسان قد عبر إلى الكنيسة! جاء التجار من جلعاد، أي من موضعهم أو سكناهم في الناموس، واحضروا بضائعهم إلى الكنيسة لكي يشفي البلسان خطايا الأمم. عن هؤلاء قيل: "شددوا الأيادي المسترخية والركب التي بلا قوة" (إش 35: 3 LXX).

البلسان هو الإيمان غير الفاسد. مثل هذا الإيمان عرضه بطرس إذ قال للأعرج: "باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشىِ" (أع 3: 6) [709].

القديس أمبروسيوس

v     لقد اعتنى ببابل، لكنها لم تنل صحة، لأنه حين يكون الذهن مرتبكًا بالشر يسمع كلمات التوبيخ ويشعر بتأديبات الانتهار، لكنه يستخف بالرجوع إلى طرق الخلاص المستقيمة[710].

الأب غريغوريوس(الكبير)

يقول العلامة أوريجينوس:

["ولولوا عليها، خذوا بلسانًا (بلسمًا - مرهمًا) لجرحها لعلها تُشفي".

بما أن كل نفس يمكنها أن تحصل على الخلاص، لا توجد نفس واحدة غير قابلة للشفاء بالنسبة للرب، لذلك ينصح الله الذين يستطيعون أن يعبروا إلى أورشليم أن يحصلوا على بلسم العهد الجديد، أن يحاولوا بقدر استطاعتهم أن يستخدموا هذا العلاج مع بابل لكي تُشفي وتستعيد صحتها.

ليتنا نحاول نحن أيضًا أن نفعل ذلك، فنطلب من الله أن يعطينا البلسم الروحي؛ لكي نتعلم كيف نعصب جراحات بابل، مقتدين بالسامري الصالح؛ وبالتالي تُشفي هذه المدينة البائسة، فلا تعود بعد إلى حالتها الأولى.

أين هم الهراطقة الآن؟ أين الذين يؤمنون بتعدد أنواع النفوس، ويؤكدون وجود نوعٍ من النفوس لا رجاء فيه، والأمل في خلاصه مفقود؟ لو كانت هناك نوعية من النفوس لا بد أن تهلك، أفما كانت بابل هي أول تلك النفوس التي يجب أن تهلك؟

ومع ذلك، فإنه حتى بالنسبة لبابل، لم يحتقرها الله، بل يأمر الأطباء أن يضعوا بلسمًا لجرحها لعلها تشفي!

إذًا هؤلاء الذين صدر الامر إليهم بمعالجة بابل، حينما علموا بإمكانية شفائها واستعادة صحتها، قاموا بالفعل بتنفيذ الأمر، ووضعوا بلسمًا على جرحها، لكن إذ وجدوا أنهم لم يحصلوا على النتيجة التي كانوا ينتظرونها، لأن بابل ظلت في شرورها ولم ترد أن تُشفي، قالوا بعد أنهم أدوا مهمتهم وتمموا مسئوليتهم: "داوينا بابل فلم تُشفَ، دعوها". أفلا يحدث معك هذا أنت أيضًا أيها الإنسان؟

يحدث أحيانًا أن يرسل لك الله الملائكة ويأمرهم بوضع المراهم عليك لعلاجك من مرض النفس "لعلك تُشفي"، فتكون النتيجة أن هؤلاء الملائكة يجيبون الرب قائلين: "داوينا بابل، التي هي نفسك المضطربة بشهوات هذا العالم، فلم تُشفَ". سبب عدم الشفاء لا يرجع إلى قلة معرفتهم وخبرتهم الطبية ولا إلى رداءة نوع البلسم، بل يرجع السبب أولاً وأخيرًا إليك أنت، لأنك لم تشأ أن تُشفي، فلم تتبع تعليماتهم وعلاجهم. "دعوها"؛ إن الملائكة هنا كانوا يمثلون أطباء مهمتهم تنفيذ أوامر الله الطبيب الأعظم؛ لقد أرادوا معالجة ضعفاتنا وتحرير نفوسنا من الرذائل، أما نحن فإننا نُبعدهم عنا بعيدًا برفضنا اتباع نصائحهم. لذلك فإن هؤلاء الملائكة، إذ يرون أن تعبهم يذهب هباءً، يقولون: "دعوها. ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه". أو أنهم يقولون بطريقة أخرى: لقد سلمنا الله الدواء لمعالجة النفس البشرية، فجئنا لنجدتها وقدمنا لها الدواء، أما هي فإنها عنيدة جدًا وعاصية لا تريد أن تستمع إلى ما نقوله، وقد أصبح مجهودنا بلا ثمر، وبالتالي "دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه".

احذر أيها الإنسان لئلا يتركك الطبيب، سواء كان هذا الطبيب ملاكًا من قبل الرب أو إنسانًا مكلفًا من قبل الله بإعطائك الدواء الذي يقودك إلى الخلاص. لأنه لو تركك الطبيب وقال: "دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب"، فإن تركه إياك إنما يعني إدانتك كإنسانٍ غير قابل للشفاء لأنك رفضت أن تعالج. عندما يتركك الطبيب، ماذا يحدث لك إلا الشيء الطبيعي الذي يحدث لأي مريض فقد الأطباء الأمل في شفائه؟ المريض الذي أحب مرضه يسقط حتمًا في حالة أكثر سوءًا.

يظل الأطباء الصالحون المخلصون  بجانب المريض طالما يستطيعون معالجته بحسب مهنتهم، وطالما يمكنهم أن يستخدموا الدواء مع هذا المريض. لكن إذا تفاقم المرض وازداد سوءًا إلى درجة فقدان الأمل في الشفاء، أو إذا خالف المريض تعليمات الأطباء نتيجة لتعبه من الآلام وضجره منها، إذ يفقد الطبيب الأمل في مثل هذا الإنسان يدعه (يتركه) وينسحب لئلا يموت المريض بين يديه، وبالتالي تُلقى المسئولية عليه. نفس الشيء يحدث معنا نحن أيضًا، فلكي تتجنب الملائكة الأطهار أن نموت بين أيديها يتركوننا عندما يفقدون الأمل في شفاء نفوسنا ويقولون: "من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت" (إش 1: 6).

"لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب".

الإنسان الذي تكون خطيته صغيرة، لا يرتفع قضاؤه إلى السماء، بينما الذي ينمو في الشر ينمو أيضًا قضاؤه ويزداد حجمه، وكلما تزيد شروره يزيد أيضًا عقابه. إذا كان قد أخطأ إلى الدرجة التي وصلت فيها خطاياه إلى السماء وارتفعت إلى السحاب حينما يقاوم الله بعناده ترتقى خطاياه أكثر فأكثر، لذلك فإن الرب يهين الخطية التي أوصلت قضاء الإنسان إلى السماء، كما أنه في الوقت نفسه يكافئ الإنسان البار مكافأة تليق بالحياة التي عاشها في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين[711]].

يرى القديس جيروم أن الأنبياء والرسل هم السحاب، إذ قيل "حقك للسحاب" (مز 36: 6)، هكذا ينبع الحق من السحاب أي من الأنبياء والرسل. إذ يلتقى هذا السحاب ويحتك معًا يعطي بهاءً وبريقًا لتعليمٍ واحدٍ يضيء على العالم كله[712].

[أتريد ان تعرف كيف يُدعى المؤمنون سحابًا في الكتاب المقدس؟ يقول إشعياء: "أوصي الغيم أن لا يمطر عليهم مطرًا" (راجع إش 5: 6). كان موسى سحابة، لذلك قال: "يهطل كالمطر تعليمي" (تث 32: 2). رسائل الرسل هي مطر روحي يهطل علينا. كحقيقة واقعة "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة" (عب 6: 7)، مرة أخرى يقول "أنا غرست وأبولس سقى" (1 كو 3: 6) [713]].

الآن إذ أعلن أن خطايا بابل قد بلغت إلى السماء وتعرف عليها رجال الله خاصة الأنبياء، مؤكدين أن جرحها لا يبرأ لأنها ترفض البلسان (السيد المسيح) الذي في جلعاد (كنيسة العهد الجديد)، يؤكد الحقائق التالية:

أ. أن الرب هو برنا:

"قد أخرج الرب برنا" [10].

شتان بين خطايا بابل وخطايا المؤمنين، الأولى إصرار على العصيان وعناد ومقاومة لعمل الله؛ أما الثانية فضعفات لذا يلجأ المؤمنون إلى الله الذي يبرر، إذ يستر علينا بنعمته، فلا تُحسب علينا خطية مادمنا نتجاوب مع عمل نعمته، ونُحسب أبرارًا، لأن "الرب برنا". إنه يؤدبنا وأيضًا يبررنا!

ب. إعلان عمل الله في كنيسته: 

"هلم فنقص في صهيون عمل الرب إلهنا" [10].

يحلو لله أن يقص على أولاده أعماله المجيدة، فيكشف لهم إرادته الإلهية، من جهتهم كما من جهة الأشرار المُصرين على عنادهم.

ج. قضاء بابل:

خلاص الكنيسة يحوي ضمنًا تحطيم الشر وسقوط مملكة إبليس المظلمة، لذلك يقول:

"سنوا السهام.

أعدوا الأتراس.

قد أيقظ الرب روح ملوك مادي لأن قصده على بابل أن يهلكها.

لأنه نقمة الرب نقمة هيكله.

على أسوار بابل ارفعوا الراية.

شددوا الحراسة.

أقيموا الحراس.

أعدوا الكمين،

لأن الرب قد قصد وأيضًا فعل ما تكلم به على سكان بابل" [11-12].

هنا نجد دعوة موجهة من الله إلى ملوك مادي، أي رؤسائها، رجال كورش، للتحرك والهجوم ضد بابل. عاش أهل مادي في شمال غرب إيران، في المنطقة التي تدعى حاليًا كردستان الايرانية، كانت تنقسم إلى ست مقاطعات، وفي أيام اليونان والرومان انقسمت إلى مقاطعتين، وهما أتروباتينة في الشمال ومادي الكبيرة في الجنوب مع الشرق.

الماديون هم نسل بن يافث (تك 10: 2)، اشتهروا بخيولهم، وكانوا يتصلون بالفرس في الجنسية واللغة والثقافة والتاريخ (دا 5: 28؛ 6: 8، 12، 15).

عاصمة مادي هي Ecbatana، من أعظم ملوكها Astyages (585-550 ق.م). مع وجود معلومات عن تاريخ مادي إلا أنه يعتبر تاريخًا غامضًا قبل كورش الذي أَخضع المنطقة عام 550 ق.م.

هنا يلاحظ أن تأديب الرب لهم هو تأديب بسبب هيكله الذي خربوه.

وقد طلب حراسة مشددة على أبواب بابل حتى لا يهرب منهم أحد.

"أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن، قد أتت آخرتك، كيل أغتصابك.

قد حلف رب الجنود بنفسه إني لأملأنك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليكِ جلبة" [13-14].

دعاها الساكنة على مياه كثيرة، وقد سبق لنا التعليق على ذلك، فإنها تشير إلى الآتي:

أ. تجلس ملكة على أمم كثيرة حيث أن المياه تشير إلى الشعوب.

ب. كثرة المياه تعني الموارد الطبيعية الضخمة في تحويلها إلى جنات وحقول تفيض عليها بالخيرات.

ج. تشير إلى مركزها الجغرافي بكونها على نهر الفرات بقنواته الكثيرة وبرك المياه التي تقوم بدور الحصانة العسكرية للمدينة.

اتسمت بالحصانة مع الغنى حيث جمعت كل ما في مخازن الأمم المحيطة بها حين استولت عليها، لكن نهايتها قد قربت، إذ يغزوها جيش مادي وفارس كسحابة جراد بأصواته القوية... أصوات الغلبة والنصرة. ليس من يقدر أن يقف أمام حملاته!

يرى البعض أن الجلبة هنا تعني صوت نصرة الغالبين، وهو نفس التعبير الذي يُقال عن الذين يدوسون العنب لعصره. وكأن جيش مادي وفارس دخل ليدوس بابل تحت أقدامهم كعنب يُعصر ويصير خمرًا مسكرًا. إنه خمر غضب الله الذي يلزم لبابل أن تشربه!

يقدم بعد ذلك تسبحة حمد لله [15-19]، إذ يقول:

"صانع الأرض بقوته،

ومؤسس المسكونة بحكمته،

وبفهمه مدّ السموات.

إذا أعطى قولاً تكون كثرة مياه في السموات،

ويصعد السحاب من أقاصى الأرض.

صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه.

بَلُدَ كل إنسان بمعرفته.

خزى كل صائغ من التمثال، لأن مسبوكه كذب ولا روح فيه.

هي باطلة صنعة الأضاليل.

في وقت عقابها تبيد" [15-18]. 

حملت هذه التسبحة نفس الروح والعبارات الواردة في (10: 12-16).

أراد النبي أن يوضح لبابل سر شقائها وإصابتها بالجراحات القاتلة وهو حرمانها من الله الحقيقي، الطبيب الحقيقي، فقدم هذه التسبحة التي تعلن عن الله أنه القدير، الحكيم، يهب الأمطار والبرق، ويجلب الرياح من مخازنها. هو قادر أن يسخّر الطبيعة بكل إمكانياتها لحساب مؤمنيه، بقوته الإلهية وحكمته وأبوته. إنه يبسط الفكر السماوي في داخل النفس ويجلب عليها أمطار نعمته الغزيرة، ويبرق بنور المعرفة على الفكر، ويهبها روحه القدوس فتُشفي وتغتني! إذ تفخر بابل أنها جالسة على مياهٍ كثيرة، يؤكد النبي أن مصادر المياه في يديْ الخالق، الذي بكلمته تفيض المياه، ويأتي بالسحاب من أقاصي الأرض، وبكلمته أيضًا يمنعها لتأديب بابل.

6. نصيب يعقوب:

"ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصور الجميع وقضيب ميراثه رب الجنود اسمه" [19].

شتان ما بين عقوبة الأشرار المصممين على عنادهم وتأديب النفوس الساقطة في الخطايا عن ضعفٍ أو جهلٍ. يخشى الأشرار قدرة الله إذ يرونه جبارًا يسيطر عليهم، أما المؤمنون فيفرحون بجبروته إذ يرتبط ذلك بأبوته وحبه. حقًا يؤدب، لكن في تأديبه يعلن عن حبه واهتمامه بهم، لأنهم ميراثه، منسوبون إليه.

7. عصا الرب للتأديب:

إن كان الله يقطع مطرقة كل الأرض ويحطمها، فإنه يوضح هنا عمله أنه يستخدم مطرقة لتحطيم الشر. ما هي هذه المطرقة؟

كانت في البداية أشور التي استخدمها الله كعصا تأديب لإسرائيل (10: 5-19)، وفيما بعد استخدم عبده  نبوخذنصر البابلي لتأديب يهوذا وبقية الأمم (27: 4-11)، وأخيرًا استخدم كورش ليطرق به بابل داعيًا إياه راعيه ومسيحه (إش 44: 28؛ 45: 1). يبدأ هنا ببابل كمطرقة في يد الرب (20-23)، يليه دينونة بابل (25-24).

"أنت لي فأس وأدوات حرب،

فأسحق بك الأمم وأهلك بك الممالك.

وأكسر بك الفرس وراكبه وأسحق بك المركبة وراكبها.

وأسحق بك الرجل والمرأة،

وأسحق بك الشيخ والفتى،

وأسحق بك الغلام والعذراء.

وأسحق بك الراعي وقطيعه،

وأسحق بك الفلاح وفدانه،

وأسحق بك الولاة والحكام" [20-23].

كانت فؤوس المعارك متنوعة؛ كانت الفأس المصرية بيدٍ طويلة ولها رأس واحدة نحاسية أو حديدية، بينما الفؤوس الفارسية أياديها قصيرة ولها رأس ضخمة. توجد فؤوس حرب لها رأسان.

بفؤوس الحرب والأدوات الأخرى التي للرب، أي بجيش بابل سحق الأمم والممالك، كما الجيوش وأدواتها، وكل طبقات الشعب لتأديبهم... وكان يليق ببابل أن تتعظ ولا تسقط في العجرفة حتى على الله نفسه.

إذ إنتهي الحديث عن بابل كمطرقة تسحق الأمم، تتقبل بابل ثمرة شرها وغطرستها. كانت تتشامخ كجبلٍ عالٍ، الآن يهددها لتصير "جبلاً محرقًا" لا يصلح لشيء.

"وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على كل شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب.

هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب،

المهلك كل الأرض،

فأمد يدي عليك،

وأدحرجك عن الصخور،

وأجعلك جبلاً محرقًا" [20-25].

يدعو الله بابل جبلاً مع أنها قائمة على سهل، وذلك كرمز كقوتها وعظمتها.

8. حرمان من حجر الزاوية:

"فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولا حجر لأسسٍ بل تكون خرابًا إلى الأبد يقول الرب" [26].

عوض كونها جبلاً متشامخًا صارت جبلاً محرقًا لا تجد فيه حجرًا يصلح لزاوية ولا كأساسٍ لأي مبنى. هذا هو ثمر الكبرياء، يفقد الإنسان كل صلاحية.

لقد دُعى السيد المسيح "حجر الزاوية"، وصار إيمان التلاميذ به هو حجارة الأساسات التي يقوم عليها مبنى كنيسة العهد الجديد، لكن بابل لم تتمتع بالسيد المسيح ولا بإيمان الرسل، لذلك  انهارت تمامًا. 

تتحقق هذه النبوات بالكامل حين يسكب الملاك السابع جامه (رؤ 14: 8؛ 16: 17-21؛ 18: 1-24).

9. جاء وقت الحصاد:

في هذه المرة لا توُجه الدعوة إلى رؤساء مادي وحدهم بل إلى كل الأمم والشعوب لتتحالف معًا وتقدس حربًا ضد بابل. هذا النداء مُوجه للأمم بعد خضوعها لمادي لتعمل مع مادي ضد بابل، وتحسب أن حربها مع بابل هو عمل مقدس، لأنه بسماحٍ إلهي. النداء موجه بالأكثر إلى ممالك في منطقة أرمينيا (ممالك أراراط ومِنّيِ واشكناز).

"ارفعوا الراية في الأرض.

اضربوا بالبوق في الشعوب.

قدسوا عليها الأمم، نادوا عليها ممالك أرارط ومِنّيِ وأشكناز.

أقيموا عليها قائدًا،

أصعدوا الخيل كغوغاء (جراد) مقشعرة" [27].

أراراط: منطقة في ارمينيا شمال بحيرة فان Van.

مِنّيِ Minni  شعب قريب من مملكة أراراط، شرق بحيرة فان.

اشكناز: يُقال إنهم من نسل جومر (تك 10: 3)، يرى البعض أنهم السكيثيون.

واضح أن هذه الممالك صارت خاضعة لملوك مادي، غلبها الماديون في القرن السادس ق.م. هنا الدعوة موجهة إليهم للعمل مع مادي [28] في مقاومة بابل، إذ يقول:

"قدسوا عليها الشعوب ملوك مادي وُلاتها وكل حكامها وكل أرض سلطانها" [28].

لقد ارتجفت الأرض واهتزت أمام ما حلَّ ببابل العظيمة:

"فترتجف الأرض وتتوجع،

لأن أفكار الرب تقوم على بابل ليجعل أرض بابل خرابًا بلا ساكن.

كف جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون.

نضبت شجاعتهم.

صاروا نساء.

حرقوا مساكنها.

تحطمت عوارضها.

يركض عداء للقاء عداء،

ومخبر للقاء مخبر،

ليخبر ملك بابل بأن مدينته قد أخذت عن أقصى.

 وأن المعابر قد أمسكت والقصب أحرقوه بالنار ورجال الحرب اضطربت.

 لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل إن بنت بابل كبيدر وقت دوسه.

بعد قليلٍ يأتي عليها وقت الحصاد" [29-33].

نلاحظ هنا أن تكرار نفس العبارات التي قيلت عن يهوذا بعد دماره بواسطة نبوخذنصر (4: 7؛ 44: 22)، وأيضًا عن مصر (46: 19) وموآب (48: 9)؛ وكأن ما فعلته بابل بغيرها يسقط عليها.

كثيرًا ما يكرر هذا الأصحاح انهيار جيش بابل، إذ كفّ الجبابرة عن الحرب بسبب المفاجأة التي لم تكن متوقعة، فاختفوا في الحصون، وفقدوا شجاعتهم، وصاروا كنساءٍ في ضعف، غير قادرين على الدخول في معركة.

يظهر مقدار ما حلّ بجبابرة بابل من ضعف إذ أُصيبوا كما بفالجٍ فشُلَّت حركتهم بسبب الخوف. يذكر هيرودت أن البابليين رجعوا إلى المدينة وبقوا في الحصون كما سبق فتنبأ إرميا [30] [714].

كانت العادة قديمًا أن يركض واحد وراء آخر قادمين من أرض المعركة ليخبروا الملك بالأحداث (2 صم 18: 19؛ 19: 1). هنا يركض كثيرون من كل جانب ليخبروا الملك بسقوط المدينة في يد العدو.

جاءت الاخباريات الأولى تعلن عن انهيار الحصون الخارجية. بجانب الحصنين العظيميين اللذين كانا يحيطا بقلب بابل وُجد حصن داخلي سمكه 21 قدمًا وآخر خارجي سمكه أكثر من 21 قدم. كانت هناك حصون في شمال المدينة وجنوبها، كما قام نهر الفرات مع قنوات والبرك بتحصين المدينة طبيعيًا.

يقصد بالمعايير أُمسكت، أنهم قد سيطروا علي النهر ذاته؛ وإذ هرب كثيرون وسط القصب حرق العدو القصب حتى لا يختفي أحد فيه.

ماذا يعني أن بنت بابل صارت كبيدر وقت دوسه؟ إذ يأتى وقت الحصاد تجمع عيدان القمح، وتُلقى على الأرض، وتدوسها الحيوانات، وتقطع العيدان بالنورج ثم تذرى. هكذا صارت بابل كبنت ملقاه على الأرض تدوسها الحيوانات ويمزقها النورج ويذرونها كما في البيدر!

10. شكوى إسرائيل:

"أكلني أفناني نبوخذراصر ملك بابل.

جعلنى إناءً فارغًا.

ابتلعني كتنينٍ وملأ جوفه من نعمي، طوَّحني.

ظُلمي ولحمي على بابل تقول ساكنة صهيون،

ودمي على سكان أرض الكلدانيين تقول أورشليم" [34-35].

لماذا حلّ كل هذا ببابل؟ لأن إسرائيل يشتكي عليها، فقد افترسته وأكلته وشربته حتى صار كإناء فارغ. أكل نبوخذنصر وشرب ولم يترك شيئًا في إناء إسرائيل!

لم يصنع هذا عن احتياجٍ إلى أكلٍ أو شربٍ، إنما كان نبوخذنصر كتنينٍ يبتلع فريسته ليملا جوفه بها ويتنعم بها ثم يتقيأها (طوَّحني). بهجته في ابتلاع الآخرين ليتقيأهم بعد ذلك.

11. الله ينتقم لشعبه:

يأخذ الله على عاتقه دفاعه عن أولاده في الوقت المناسب. يدافع شرعيًا، فيقيم خصومة ومحاكمة لكي يعطي للخصم فرصة الدفاع عن نفسه.

"لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا أخاصم خصومتك وأنتقم نقمتك،

وأنشف بحرها وأجفف ينبوعها.

وتكون بابل كومًا ومأوى بنات آوى ودهشًا وصفيرًا بلا ساكن" [36-37].

سبق أن شبَّه البابليين بالأسود التي تزمجر، الآن إذ تشعر بالجوع تزمجر وتضطرب، فيعد لها الله وليمة، لا من أكلٍ بل من شربٍ، لكي تشرب منها وتسكر. يقدم لها كأس غضبه (25: 15الخ)، يشربون فينامون ولا يقومون. لقد صاروا كخرافٍ مذبوحة وليس كأسودٍ قوية.

"يزمجرون معًا كأشبال.

يزئرون كجراء أسود.

عند حرارتهم أعد لهم شرابًا وأسكرهم لكي يفرحوا ويناموا نومًا أبديًا ولا يستيقظوا يقول الرب.

أنزلهم كخرافٍ للذبح وككباش مع أعتدة" [38-40].

استولى كورش على بابل بينما كانت المدينة كلها منشغلة بعيدٍ دنس. تحولت أغاني العيد إلى زمجرة أشبال صغيرة وزئير جراء أسود لكن بلا عون.

كانوا يسكرون في لهوٍ بالعيد ولم يدروا أنهم يسكرون بخمر غضب الله.

كانوا يقدمون الخراف والكباش ذبائح للإله بيل ولم يدركوا أنهم هم صاروا خرافًا للذبح وكباشًا تُستهلك.

"كيف أُخذت شيشك؟!

وأُمسكت فخر كل الأرض؟!

كيف صارت بابل دهشًا في الشعوب؟!

طلع البحر على بابل فتغطت بكثرة أمواجه.

صارت مدنها خرابًا أرضًا ناشفة وقفرًا،

أرضًا لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم.

وأعاقب بيل في بابل،

وأخرج من فمه ما ابتلعه،

فلا تجرى إليه الشعوب بعد ويسقط سور بابل أيضًا" [40-44]. 

سبق أن رأينا أن كلمة "شيشك" شفرة خاصة ببابل[715]، وأنها غالبًا مأخوذة عن فعلٍ معناه "يغطس". كأن بابل تغطس في وسط المياه ولا تقوم. لقد سبق فغطس يونان في البحر بينما جلست بابل على المياه الكثيرة كملكة. لكن شتان ما بين الإثنين، إذ تحولت مياه البحر بالنسبة ليونان إلى نهرٍ حلوٍ يحوط به (يونان 2: 5)، حوّلت قفر قلبه إلى جنة، فقدم تسبحة القيامة (يونان 2)، وعاين هيكل قدس الرب وتمتع بالخلاص (يونان 2: 7، 9). أما بابل الجالسة كملكة على نهر الفرات العذب فغطاها البحر المالح بأمواجه، وغرَّق حقولها ومدنها، ولم يعد يسكنها إنسان أو حيوان. أما إلهها بيل الذي ظنوه يأكل ما يذبحونه له وما يقدمونه له من أطعمةٍ فإنه يتقيأ ما ابتلعه، فيكون سخرية أمام الشعوب! وأخيرًا أسوار بابل التي كان العالم يتطلع إليها كإحدى الأعاجيب العظمى، فإنها تسقط. وكأن بابل تفقد نهرها وأرضها ومدنها وسكانها وحيواناتها وإلهها وأسوارها وحمايتها وسلامها!

12. اخرجوا من وسطها:

"اخرجوا من وسطها يا شعبي،

ولينجِ كل واحدٍ نفسه من حمو غضب الرب.

ولا يضعف قلبكم فتخافوا من الخبر الذي سُمع في الأرض،

فإنه يأتي خبر في هذه السنة ثم بعده في السنة الأخرى،

خبر وظلم في الأرض متسلط على متسلط." [45-46].

تكررت الدعوة بالخروج من وسط بابل، وكأنها إنذارات خطر تدوّى بلا توقف حتى يهرب المؤمنون منها. ليخرجوا بلا خوف وليترقبوا أخبار متوالية تعلن عن خراب بابل ودمارها تمامًا.

13. الحكم:

"لذلك ها أيام تأتي وأعاقب منحوتات بابل،

فتخزى كل أرضها، وتسقط كل قتلاها في وسطها.

فتهتف على بابل السموات والأرض وكل ما فيها،

لأن الناهبين يأتون عليها من الشمال يقول الرب.

كما أسقطت بابل قتلى إسرائيل تسقط أيضًا قتلى بابل في كل الأرض" [47- 49].

يُسمع هتاف النصرة والفرح في السموات وعلى الأرض، ليس شماتة في زملائهم البابليين، وإنما تهليلاً بعمل الله بخلاص أولاده، وتحقيق العدل الإلهي في الزمن المناسب.

هذه هي خبرة المؤمن إذ تتحطم بابله الداخلية يهتف جسده (أرضه) مع نفسه (سمواته)، ويشترك كل كيانه في التهليل للرب.

14. أمر بالعودة:

"أيها الناجون من السيف اذهبوا لا تقفوا،

اذكروا الرب من بعيد، ولتخطر أورشليم ببالكم.

قد خزينا لأننا قد سمعنا عارًا غطى الخجل وجوهنا،

لأن الغرباء قد دخلوا مقادس بيت الرب" [50-51].

للمرة الخامسة في هذه النبوات ضد بابل يطالب الله شعبه بالخروج من بابل، ويحثهم على العودة إلى أرضهم (50: 8، 51: 6، 9، 45، 50).

إنه يطالبهم بالانشغال بأورشليم وتطهير هيكلها من الغرباء الذين دنسوها. إنها دعوة لكل نفس أن تُمتص أفكارها في أورشليمها الداخلية، مقدس الرب، ولا تسمح لفكرٍ غريب يدخل فيها ليدنسها.

15. نهاية السبي البابلي:

"لذلك ها أيام تأتي يقول الرب، وأعاقب منحوتاتها،

ويتنهد الجرحى في كل أرضها.

فلو صعدت بابل إلى السموات،

ولو حصنت علياء عزها،

فمن عندي يأتي عليها الناهبون يقول الرب.

صوت صراخ من بابل وانحطام عظيم من أرض الكلدانيين.

لأن الرب مخرب بابل وقد أباد منها الصوت العظيم،

وقد عجت أمواجهم كمياه كثيرة وأطلق ضجيج صوتهم.

لأنه جاء عليها على بابل المُخرب وأخذ جبابرتها وتحطمت قسيهم لأن الرب إله مجازاة يكافئ مكافأة.

وأُسكر رؤساءها وحكماءها وولاتها وحكامها وأبطالها،

فينامون نومًا أبديًا ولا يستيقظون يقول الملك رب الجنود اسمه.

هكذا قال رب الجنود:

إن أسوار بابل العريضة تُدمر تدميرًا وأبوابها الشامخة تُحرق بالنار،

فتتعب الشعوب للباطل والقبائل للنار حتى تعيا" [52-58].

سقوط بابل هو تحقيق للعدالة الإلهية، ما تعاني منه هو ثمر طبيعي لجرائمها.

إذ اجتمع الرؤساء والحكماء، أي المنجمون، والولاة والحكام والأبطال للتشاور معًا تحول مجلسهم إلى جلسة مستهزئين، لأنهم سكروا من خمر اليأس وترنحوا، وفقدوا قدرتهم على التفكير والتصرف.

16. قراءة النبوات في بابل:

"الأمر الذي أوصى به إرميا النبي سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل في السنة الرابعة لملكه. وكان سرايا رئيس المحلة.

فكتب إرميا كل الشر الآتي على بابل في سفرٍ واحدٍ كل هذا الكلام المكتوب على بابل.

وقال إرميا لسرايا: إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام.

فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الموضع لتقرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خربًا أبدية" [59-62].

سرايا هذا هو أخ باروخ كاتب إرميا النبي، ذهب مع صدقيا الملك إلى بابل لكي يجدد عهده بالولاء، لكن بعد العودة مباشرة كسر الملك عهده وثار ضد ملك بابل.

كتب إرميا كل النبوات ضد بابل في سفر وأرسلها مع سرايا ليذهب بها إلى بابل ويقرأها على الذين سبق سبيهم، ويختم القراءة بصلاة [62] فيه يطلب سرايا أن يحقق الله وعوده هذه بتحطيم بابل.

واضح أن تصرفات إرميا النبي تبدو غير منطقية بشريًا، فقد أعلن نبواته ضد بابل قبل سبي يهوذا، أي في الوقت الذي فيه كان يوبخ الملك وكل رجاله مع كل القيادات بسبب عدم خضوعهم لبابل، عصا التأديب الإلهي؛ وفي نفس الوقت يعلن عن انهيار بابل، ويسلم ذلك لأحد مساعدي الملك ليذهب بهذه النبوات إلى بابل نفسها ويتحدث بين المسبيين علانية عن ذلك! بمعنى آخر بينما يطالب بالخضوع لبابل يعلن عن نهاية إمبراطوريتها! حقًا هكذا يسلك أولاد الله بروح الاخلاص للكلمة الإلهية حتى إن بدت غير مقبولة في أعين الكثيرين.

لماذا كتب إرميا السفر بنفسه؟

ربما كان باروخ متغيبًا في ذلك الحين، أو لأنه لم يرد أن يعرضه للخطر البابلي، فقد قبل أن يتعرض هو لا كاتبه للمتاعب! هنا نجد فيه أبوة عجيبة! 

غالبًا لم يتقبل كل المسبيين هذه النبوات بترحاب:

أولاً: لأن بعضهم نجح في تجارته هناك واستقر ماديًا.

ثانيًا: لأنهم خشوا انتشار هذه الأخبار في بابل وبلوغها إلى الملك فيسيء معاملتهم. لقد قُرأت بالعبرية التي لا يفهمها الكلدانيون، لكن يمكن أن تبلغ إليهم بطريق أو آخر.

17. سقوط بابل وعدم قيامها:

ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجرًا وتطرحه إلى وسط الفرات.

وتقول هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون.

إلى هنا كلام إرميا" [63-64].

تختم نبوات إرميا بإلقاء السفر في البحر مربوطًا بحجر إشارة إلى دمار بابل التام وعدم قيامها مرة أخرى. هكذا عند مجيء الرب ينحدر عدو الخير وملائكته إلى جهنم ولا تقوم له قائمة، ويعيش أولاد الله يشاركون الرب أمجاده الأبدية دون أية مقاومة من عدو!

يتحقق ذلك بالنسبة لبابل الأخيرة، أي مملكة ضد المسيح، إذ نسمع: "ورفع ملاك واحد قوي حجرًا كرحى عظيمة ورماه في البحر، قائلاً: هكذا بدفع ستُرمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد" (رؤ 18: 21).


 

من وحي إرميا 51

لتلقِ ببابلي في نهر النسيان!

v     على أنهار بابل جلست حزينًا مرّ النفس،

علقت قيثارات حبي على الصفصاف،

وانهارت سخريات العدو عليّ!

v     لأسمع صوتك العذب يأمر أعماقى:

اهربوا من وسط بابل فتنجوا.

نعم روحك القدوس يحملني من وسط الخطية،

ويقدم لي قيثارات الروح لأعزف عليها.

أنضم إلى صفوف السمائيين،

وأشارك تسابيح الحمد وهتافات التهليل!

v     أُصيب أعماقي بجراحات لا يُرجى شفاءها!

أنت طبيب نفسي وبلسانها الفريد،

احملنى إلي جلعاد الجديدة، كنيستك الحية،

أنت طبيبي ودوائي، أنت قوتي وتسبحتي،

أنت الكل لي!

v     هب لي أن ألقي بكأس بابل الذهبي،

بريقه خدعني سنوات هذه عددها،

سكب لي فيه عدو الخير سمًا خفيًا،

أسكرني وقتلني وطرحني في الهاوية!

قدم لي خطية تسحبني إلى أخرى،

سحب أعماقي من دنسٍ إلى دنسٍ،

بلبل أفكاري بفلسفات براقة!

v     عوض كأس بابل الذهبي هب لي إناءك الخزفي!

عوض الخمر الممزوج سمًا،

هب لي ذاتك بلسانًا من جلعاد الجديدة!

أنت طبيب نفسي واهب القيامة للموتى!

أنت البلسان السماوي شافي النفوس!

أنت منقذ حياتي من الموت والفساد!

هب لي كأسك الخزفي،

فلا يخدعني بريق الذهب،

بل أنعم بالكنز المخفي،

أغتنى بك،

وأسكر بحبك يا شهوة قلبي!

v     أعترف لك بخطاياي فتستر عليّ،

تطلب آثامي فلا تجدها،

لأنها مُحيت بدمك الطاهر!

نعم! روحك النارى يحول ترابي إلى سماء!

فلا تستطيع بابل أن تخدعني،

ولا تقدم لي كأس الذهب الذي يُسكر كل الأرض!

أقمني سماءً تسكنني أنت أيها القدوس المتواضع!

فلا تقترب كأس كل الأرض إلى شفتي!

بل أشارك كأس آلامك المملوءة حبًا!

كأسك كأس البذل، يُعطي النفس اتساعًا ومجدًا!

v     حدرتَ بابل كحجر رحى كما إلى مياه نهر الفرات فلم تعد تُوجد،

صارت جبلاً محرقًا،

لا يصلح منه حجرٌ لزاويةٍ ولا لأساسٍ.

أما أنت فصرت لي حجر الزاوية وحجر الأساس،

تحملني بحبك فتجعل مني حجرًا حيًا متكئًا عليك!

v     استمع يارب إلى شكواي،

حطم بابل الداخلية، اقتلها،

فقد قَتَلتْ أعماقي وحَطَمت حياتي!

ولتقم أورشليمك فيّ أيها الحياة!

تمم وعودك الإلهية فيّ أيها الأمين!

<<


 

الأصحاح الثاني والخمسون

ملحق تاريخي

العبارة الأخيرة من الأصحاح السابق "إلى هنا كلام إرميا" (51: 64) توضح أن نبوات إرميا قد تمت وأن ما ورد فيما بعد هو ملحق لها.

لم يرد ذكر كاتب هذا الأصحاح، ربما كتبه عزرا، وقد كتب إرميا ما جاء في هذا الأصحاح في الأصحاحاين (39، 40)[716]؛ وهو يكاد يكون مطابقًا لوحيّ العهد (2 مل 24: 18-25، 30)، وما لم يرد هنا جاء في (40: 7، 43: 7).

بسبب التشابه بين ما ورد في هذا الأصحاح وما جاء في (2 مل 24) ظن البعض أن هذا الأصحاح مقتبس من ملوك الثاني، لكن توجد دلائل لها وزنها تناقض هذا[717]:

أ. ورد اسم ملك بابل هنا "نبوخذراصر"، الاسم الذي كثيرًا ما استخدمه إرميا النبي، بينما استخدم سفر الملوك اسم "نبوخذنصر".

ب. جاء في هذا الأصحاح ملاحظات لم ترد في (2 مل 24، 25)، وهي:

v      جاء في [10] أن نبوخذنصر أمر بقتل كل رؤساء يهوذا في ربلة بينما حُمل صدقيا إلى بابل وسُجن إلى يوم وفاته.

v      جاء في [19-23] تفاصيل عن أدوات الهيكل المسلوبة لم ترد في (2 مل) ولا في وصف مبنى الهيكل في (1 مل 7).

v      ذُكر في [28-30] الترحيلات الثلاث إلى السبي وأعدادها بدقة الأمر الذي لم يرد هكذا في كل الأسفار التاريخية في العهد القديم.

جاء هذا الملحق للسفر لتأكيد أن ما تنبأ عنه إرميا قد تحقق فعلاً. كثيرًا ما تحدث إرميا عن خراب أورشليم والهيكل وسبي يهوذا، الأمور التي قاومها بشدة الأنبياء الكذبة، وسخر منها الكل فيما عدا قلة قليلة جدًا، وحسبها الكثيرون أحاديث بشرية تحطم نفسية الشعب والجيش، الآن يعلن الكاتب أن ما كانوا يظنونه خيالاً صار واقعًا. لقد تحققت، وبدأ السبي القاسي، لكن مع نسمات الرجاء الحيّ في عمل الله وسط شعبه بأن يردهم إلى بلادهم بعد تأديبهم. أما بالنسبة لأحاديثه عن العودة من السبي، فقد قدم الكاتب ما تم من الملك يهوياكين [31-34] كأول علامة رجاء من أجل المستقبل[718].

1. تمرد يهوذا[1-3].

2. سقوط أورشليم[4-7].

3. محاكمة صدقيا[8-11].

4. خراب أورشليم[12-14].

5. السبي النهائي ليهوذا[15].

6. ترك بقية[16].

7. الاستيلاء على غنى الهيكل [17-23].

8. قتل الكهنة والرؤساء[24-27].

9. الترحيلات الثلاث[28-30].

10. الأيام الأخيرة ليهوياكين[31-34].

1. تمرد يهوذا:

"كان صدقيا ابن إحدى وعشرين سنة حين ملك، وملك إحدى عشرة سنة في أورشليم، واسم أمه حميطل بنت إرميا من لبنة.

وعمل الشر في عينيْ الرب حسب كل ما عمل يهوياقيم.

لأنه لأجل غضب الرب على أورشليم ويهوذا حتى طرحهم من أمام وجهه كان أن صدقيا تمرد على ملك بابل" [1-3].

صدقيا هو الاسم الملكي أُعطي لمتانيا عند تجليسه (2 مل 24: 17)، الذي أقامه نبوخذنصر حاكمًا على يهوذا.

صنع صدقيا الشر في عينيْ الرب، وإن كان ليس هو أشر ملوك يهوذا. أما أسباب دفعه بشعبه إلى الهلاك فهي:

أ. خطاياه أفقدته العون الإلهي.

ب. تمرده على ملك بابل، حانثًا بقسمه أن يبقى مواليًا له (2 أي 36: 13؛ حز 17: 15، 16، 18) أفقدت الملك ثقته في القيادات اليهودية، إن لم يكن كلها فعلي الأقل أغلبها، خاصة الأسرة الملكية.

ج. غباؤه وعدم حكمته في التصرف.

د. ضعف شخصيته: سبق أن التقينا مع صدقيا الملك في الأصحاحات 34، 37، 38 كشخصية غير مستقرة، لا يصلح كقائدٍ وطني ولا كوكيل لنبوخذنصر، وضع نفسه في المطرقة بين نبوخذنصر وشعبه، ولم يكسب أحدًا منهم. يذهب إلى بابل ليجدد ولاءه للملك ثم يعود ليتمرد عليه حانثًا بوعده (2 مل 24: 9). تارة يطالب بتحرير العبيد العبرانيين لكي يرفع الله غضبه عنه، وإذ يُرفع الحصار عن أورشليم يستعبدهم من جديد (34: 18، 16، 21). يحكم على إرميا بالسجن منقادًا لرجال قصره، ثم يذهب إليه ليطلب مشورته أكثر من مرة، مقدمًا له كل وقارٍ!

2. سقوط أورشليم:

"وفي السنة التاسعة لملكه في الشهر العاشر في عاشر الشهر جاء نبوخذراصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزلوا عليها وبنوا عليها أبراجًا حواليها.

فدخلت المدينة في الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا.

في الشهر الرابع في تاسع الشهر اشتد الجوع في المدينة ولم يكن خبز لشعب الأرض.

فثغرت المدينة وهرب كل رجال القتال وخرجوا من المدينة ليلاً في طريق الباب بين السورين اللذين عند جنة الملك والكلدانيون عند المدينة حواليها فذهبوا في طريق البرية" [4-7].

تم حصار أورشليم وسقوطها من يناير 588 ق.م إلى يوليو 587 ق.م، أي استمر الحصار 18 شهرًا.

3. محاكمة صدقيا:

"فتبعت جيوش الكلدانيين الملك،

فأدركوا صدقيا في برية أريحا وتفرق كل جيشه عنه.

فأخذوا الملك وأصعدوه إلى ملك بابل إلى ربلة في أرض حماة،

فكلمه بالقضاء عليه.

فقتل ملك بابل بني صدقيا أمام عينيه،

وقتل أيضًا كل رؤساء يهوذا في ربلة.

وأعمى عيني صدقيا،

وقيده بسلسلتين من نحاس،

وجاء به ملك بابل إلى بابل وجعله في السجن إلى يوم وفاته" [8-11].

جاء ما ورد هنا مطابقًا كلمة بكلمة مع (2 مل 24: 18-20)، ويطابق ما جاء في إرميا (39: 1-7).

لم يشر النص هنا إلى هروب الملك، وإن كان بقية الأصحاح يلمح إلى هروبه. ربما كان هروبه من بابٍ كان يُعرف باسم "بين الحائطين"، وكان يظن أنه قادر أن يخترق الحصار الكلداني حول المنطقة، لكن استطاع الجيش الكلداني أن يدركه في برية أريحا (راجع إر 39: 5-7؛ 2 مل 25: 5-7).

قُدم صدقيا الملك للمحاكمة أمام نبوخذنصر الذي كان ينتظر في ربلة بأرض حماة، وهي مدينة سريانية جنوب قادش على نهر العاصى Orontes. وكان لموقعها أهمية إستراتيجية، إذ تقع في ملتقى الطرق بين مصر وما بين النهرين. كان المصريون مرابطين فيها عندما أُتي بيهوذا أسيرًا (2 مل). وكما سبق أن قلنا أنه اختار نبوخذنصر هذا الموقع ليمنع أية معونة أجنبية تتقدم لمساندة يهوذا أثناء اقتحام جيشه أورشليم.

قُتل أبناء الملك وكل رؤساء يهوذا المقبوض عليهم، أما الذين هربوا فرجعوا فيما بعد والتفوا حول جدليا الوالي (41: 1).

أُلقي صدقيا في "السجن"، وكما يرى Hitzig أن النص العبري يعني "بيت العقوبة" أو "بيت الاصلاح"، حيث أُلزم صدقيا أن يدور بالطاحونة كبقية المجرمين، وكما أُلزم شمشون بذلك (قض 16: 21)[719]. يرى Ewald ذلك متطلعًا إلى ما جاء في المراثي: "اخذوا الشبان للطحن" (مرا 5: 13) إشارة إلى الملك المسجون ومن معه[720].

4. خراب أورشليم:

"وفي الشهر الخامس في عاشر الشهر وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذراصر ملك بابل جاء نبوزرادان رئيس الشرط الذي كان يقف أمام ملك بابل إلى أورشليم.

وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار.

وكل أسوار أورشليم مستديرًا هدمها، كل جيش الكلدانيين الذي مع رئيس الشرط" [12-14].

بعد انهيار المدينة بشهر جاء نبوزرادان رئيس الشرط ليحرق المباني الهامة مثل الهيكل وقصر الملك، غالبًا الذي بناه سليمان الحكيم بعد بناء الهيكل، وقصور العظماء ثم المدينة ككل لتدميرها تمامًا، وأخيرًا دمَّر الجيش أسوار المدينة لكي لا يبقى رجاء لأحد في عودة الحياة هناك، وبالتالي لن يحدث تمرد ضد بابل.

أحرق الهيكل ودمر مبناه الشامخ الذي يعتز به اليهود حتى يومنا هذا، وقد بقى قائمًا 424 عامًا و3 شهور 8 أيام. لاعتزازهم به كان اليهود يمارسون صومين أثناء السبي، أحدهما تذكارا لحرق الهيكل والثاني لاغتيال جدليا الوالي.

5. السبي النهائي ليهوذا:

"وسبى نبوزرادان رئيس الشرط بعضًا من فقراء الشعب وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والهاربين الذين سقطوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور" [14].

6. ترك بقية:

"ولكن نبوزرادان رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين" [16].

ترك نبوزرادان من رآهم ليسوا بذي قيمة، لأن ذهابهم إلى بابل لن يفيد شيئًا، إذ سبق فسُبي كثيرون يعملون ككراميين وفلاحيين، ولم تعد هناك حاجة إلى آخرين في بابل، وبقاؤهم في يهوذا لن يؤثر، إذ هم عاجزون عن القيام بأية ثورة أو تمرد، لأنهم فقراء جدًا وضعفاء، شبههم إرميا النبي بالتين الرديء جدًا [24].

7. الاستيلاء على غنى الهيكل:

"وكسر الكلدانيون أعمدة النحاس التي لبيت الرب والقواعد وبحر النحاس الذي في بيت الرب وحملوا كل نحاسها إلى بابل.

وأخذوا القدور والرفوش والمقاص والمناضح والصحون وكل آنية النحاس التي كانوا يخدمون بها.

وأخذ رئيس الشرط الطسوس والمجامر والمناضح والقدور والمناير والصحون والأقداح، ما كان من ذهب فالذهب، وما كان من فضة فالفضة.

والعمودين والبحر الواحد والاثني عشر ثورًا من نحاس التي تحت القواعد التي عملها الملك سليمان لبيت الرب.

لم يكن وزن لنحاس كل هذه الأدوات.

أما العمودان فكان طول العمود الواحد ثماني عشرة ذراعًا وخيط اثنتا عشرة ذراعًا يحيط به وغلظه أربع أصابع وهو أجوف.

وعليه تاج من نحاس، ارتفاع التاج الواحد خمس أذرع وعلى التاج حواليه شبكة ورمانات الكل من نحاس.

ومثل ذلك للعمود الثاني والرمانات.

وكانت الرمانات ستًا وتسعين للجانب.

كل الرمانات مئه على الشبكة حواليها" [17-23].

استولى الكلدانيون على كل أثاثات الهيكل النحاسية والفضية والذهبية. هذه هي المرة الثانية التي يفعلون فيها ذلك. الأولي سنه 597 ق.م. حيث حملوا بعض الأدوات، خاصة الذهبية والفضية (إر 27: 16؛ 2 مل 24: 13)، والثانية أغلبها من النحاس حيث حُملت أغلب الأدوات الذهبية والفضية قبلاً، وقد قام الشعب بتصنيع أدوات جديدة للهيكل خلال هذه السنوات العشرة.

8. قتل الكهنة والرؤساء:

"وأخذ رئيس الشرط سرايا الكاهن الأول وصفنيا الكاهن الثاني وحارسي الباب الثلثة.

وأخذ من المدينة خصيًا واحدًا كان وكيلاً على رجال الحرب،

وسبعة رجال من الذين ينظرون وجه الملك الذين وُجدوا في المدينة،

وكاتب رئيس الجند الذي كان يجمع شعب الأرض للتجند،

وستين رجلاً من شعب الأرض الذين وجدوا في وسط المدينة.

اخذهم نبوزرادان رئيس الشرط وسار بهم إلى ملك بابل إلى ربلة.

فضربهم ملك بابل وقتلهم في ربلة في أرض حماة.

فسبى يهوذا من أرضه" [24-27].

اختار نبوزارادن شخصيات لها وزنها ليأخذهم إلى الملك في ربلة فيحكم عليهم كيفما يرى. وهم:

v     سرايا حفيد حلقيا رئيس الكهنة في أيام يوشيا (1 أي 6: 13-15)، ابنه يوصادق والد يشوع رئيس الكهنة عند اعادة بناء الهيكل بعد السبي (عز 5: 2، حج 1: 1).

v     صفنيا ربما الذي أشير إليه في (29: 24-32؛ 37: 3).

v     حارسوا الباب الثلاثة، وهم كهنة ذوو رتب عالية ربما كانوا حارسي الهيكل.

v     الخصي الوكيل على رجال الحرب، وهو رجل مدني يهتم بشئون رجال الحرب ربما كوزير الدفاع.

v     السبعة رجال الذين ينظرون وجه الملك، وهم مشيروه الذين يرافقونه باستمرار ويثق في مشورتهم.

بقوله ضربهم ثم قتلهم يعني قام بتعذيبهم قبل قتلهم.

9. الترحيلات الثلاث:

"هذا هو الشعب الذي سباه نبوخذراصر في السنة السابعة.

من اليهود ثلاثة آلاف وثلاثة وعشرون.

وفي السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر سبى من أورشليم ثمان مئة واثنان وثلاثون.

في السنة الثالثة والعشرين لنبوخذراصر سبى نبوزرادان رئيس الشرط من اليهود سبع مئة وخمسًا وأربعين نفسًا.

جملة النفوس أربعة آلاف وست مئة" [28-30].

جاءت الحسابات هنا على النظام البابلي حيث لا تُحتسب السنة الأولى من تولى الملك عرشه مادامت لم تبدأ باليوم الأول من السنة، أي تكون كسرًا من السنة.

المرحلة الأولى للسبي سنة 7/598 ق.م في السنة السابعة لنبوخذنصر (حسب الحسابات البابلية يبدأ الحساب في بدء السنة الجديدة الكاملة أي سنة 604 ق.م.) عدد المسبيين 3023 شخصًا، بينما في (2 مل 24: 14-16) العدد 18.000، ربما لأنه يذكر هنا الذكور الناضجين أو المتمردين، وفي سفر الملوك التعداد الكامل.

المرحلة الثانية سنة 6/587 ق.م. في السنة الثامنة عشرة من ملك نبوخذنصر حسب النظام البابلي، والسنة التاسعة عشرة في (2 مل 25: 8) حسب النظام العبري؛ أيضًا عدد المسبيين 823 صغير جدًا، يمثل غالبًا الذكور الناضجين أو المتمردين، ولأن كثيرين قُتلوا.

المرحلة الثالثة والأخيرة التي فيهت أُقيم جدليا واليًا، عدد المسبيين 745 شخصًا.

 يرى البعض أن عدد المسبيين في هذه المراحل الثلاث والبالغ 4600 رقم صغير جدًا.

10. الأيام الأخيرة ليهوياكين:

"وفي السنة السابعة والثلاثين لسبي يهوياكين في الشهر الثاني عشر في الخامس والعشرين من الشهر رفع أويل مرودخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين ملك يهوذا وأخرجه من السجن.

وكلمه بخير،

وجعل كرسيه فوق كراسي الملوك الذين معه في بابل.

وغيّر ثياب سجنه،

وكان يأكل دائمَا الخبز أمامه كل أيام حياته.

ووظيفته وظيفة دائمة تُعطى له من عند ملك بابل أمر كل يوم بيومه إلى يوم وفاته كل أيام حياته" [31-34].

السنة السابعة والثلاثون لسبي يهوياكين هي عام 561 ق.م؛ في ذلك الحين مات نبوخذنصر وتولى الحكم ابنه اويل مردوخ Evil -Marduk. اسمه بالأكادية هو "اميل Amel مردوخ"، ويعني "رجل مردوخ"، لكن مع تلاعب خفيف في الحروف يصير بالعبرية ewil - Marduk، وتعني كلمة ewil شخصًا غبيًا. حكم لمدة قصيرة 561 -560 ق.م.، حيث اغتاله زوج أخته نرجل شراصر وخلفه على العرش (560-556 ق.م).

إذ مت الملك الشيخ نبوخذنصر وقد حمل ذكريات سيئة عن ملوك يهوذا حيث تعهد الملك صدقيا بقسم أن يخضع له سرعان ما تمرد عليه، لذل كانت نظرته لملوك اليهود أنهم غير أهل للثقة. إذ مات الملك وجاء ابنه قدم معاملة أفضل للأسرة الملكية اليهودية، فقام باخراج يهوياكين من السجن وتكريمه بمناسبة توليه الحكم حيث يقدم الملك أعمالاً خيِّرة، فصنع هذا المعروف بعد أن قدم يهوياكين ولاءه للملك الجديد.

عاش يهوياكين في السجن 37 عامًا، منذ عام 597 ق.م وكان في البداية يتطلع إليه رجال يهوذا إنه الملك الشرعي ليهوذا. كما يتطلعون إلى صدقيا كنائب لملك بابل وحاكم غير شرعي ليهوذا. ولكن إذ سُبي يهوذا نهائيًا وحُرقت المدينة بهيكلها وقصورها، ولم يعد هناك إلا فئة معدمة، لم يعد هناك خوف من تكريم يهوياكين في بابل، فقد استقر اليهود المسبيون في بابل كمن هم في وطنهم، وصارت لهم أعمالهم الحرة، لهذا أُخرج الملك يهوياكين من السجن وكُرم وحُسب ذلك معروفًا قُدم لكل اليهود المسبيين المستقرين هناك.  

يرى بعض الدارسين أن يهوياكين عومل في السجن معاملة حسنة.

ماذا يعني بـ "الملوك الذين معه"؟ ربما قصد الملوك الذين أخرجهم الملك من السجن مع يهوياكين وأقامهم ولاة، أو قصد بذلك الولاة المساعدين لملك بابل.

خُتم السفر بهذا الحدث لتأكيد عمل الله العجيب حتى في السبي، وإن التحرر من السبي ليس مستحيلاً على الله. لقد خرج يهوياكين من السجن وقد قارب الثمانين من عمره. عاش زمانًا في الضيق، لكن يدّ الله تعمل في الوقت المناسب لتكريمه.

<<

 

 

 

 


 

 

محتويات الجزء الأول

سفر كل عصر

مقدمة في سفر إرميا:

إرميا النبي وظروف الكتابة، قائمة تاريخية بعضر إرميا، الملوك المعاصرون لإرميا، غرض السفر: 1. الحاجة إلى التوبة، 2. إصلاح القلب الداخلي، 3. الله هو سيد التاريخ، 4. الله وشعبه، دور النبي في كتاباته، مميزات السفر، تأثره بهوشع النبي، سفر إرميا من الناحية اللغوية، مصر وبابل في سفر إرميا، إرميا في العهد الجديد، المسيّا في سفر إرميا، أقسام السفر.

دعوة إرميا ورسالته

الباب الأول: الدعوة للخدمة

مقدمة، ادراك الدعوة الإلهية، اتساع القلب بالحب، اتضاع النفس، شجاعة الخادم، الاختفاء في كلمة الله، الأمانة في العمل.

الباب الأول: نبوات ما قبل سقوط أورشليم "مع الوعد بالرجوع من السبي" (إر 2-33)

الأصحاحات 2-6: عتاب في الأذن

الأصحاح الثاني: سرّ الخصومة

فضائلها الأولى، مركزها لديه، عدم إهماله لها، عدم امتثالها حتى بالأمم،  سرّ ضعفها، ثمار خطاياها.

الأصحاح الثالث: الله يطلب عروسه

العريس يطلب مطلقته الزانية، خطة إلهية لعودتها، طريق التوبة، بركات الرجوع إلى الله.

الأصحاح الرابع: زينة العروس

التوبة وسيلة التزين، التمتع بختان القلب، ترك الأنبياء الكذبة، ادراك خطة الله وقبول التأديب، قبول الأنبياء الحقيقيين، الشبع والاستنارة، ترك البر الذاتي.

الأصحاح الخامس: سرّ التأديب

لم يجد بينهم بارًا واحدًا، لم يقبلوا التأديب الأولى، أساءوا استخدام عطاياه، قبلوا كلمات المخادعين، فقدوا البصيرة الداخلية، اصطادوا الآخرين، تجاوبوا مع الرعاة في الشر.

الأصحاح السادس: اقتراب التأديب

العدو على الأبواب، شر أورشليم هو السبب، أذنهم غلفاء، تركهم طريق الآباء، تقدماتهم بلا طاعة، أصرارهم على الشر.

الأصحاحات 7-10: عتاب علني في باب بيت الرب

الأصحاح السابع: تقديس البيت الداخلي

تسابيح بلا عمل، عبادة بلا قداسة، عدم الامتثال بشيلوه، طلب صلوات الغير بدون التوبة، تقدمات وذبائح لله والأوثان معًا، مرثاة على رفض الله بيته، مرثاة على رفض الله شعبه.

الأصحاح الثامن: شكلية في حفظ الشريعة

الخلط بين كلمة الله والعبادة الوثنية، حفظ الشريعة بدون التوبة، حفظ الشريعة بدون ثمر الروح، الحاجة إلى المسيح الكلمة.

الأصحاح التاسع: مرثاة على الجميع

بكاء النبي الدائم، عدم مبالاتهم بحالهم، انشغلوا بالمكر، صاروا في فراغ، رفضهم الشريعة، الدعوة لاقامة مرثاة على صهيون، الله واهب الحكمة والمعرفة، الدينونة بلا محاباه.

الأصحاح العاشر: العودة إلى الله

ترك الوثنية الباطلة وقبول الإله الحق، الخروج عن الأرضيات، قبول تأديبات الرب.

الأصحاحات 11-20: صراع إرميا النبي

الأصحاح الحادي عشر: العهد المكسور

كسر العهد الإلهي، ما لحبيبتي في بيتي؟!، إعترافات إرميا.

الأصحاح الثاني عشر: أعداء في الداخل

لماذا تُنجح طريق الأشرار؟، كبرياء الأردن، تدمير ميراث الله، تدمير جيران يهوذا.

الأصحاح الثالث عشر: مثلاً المنطقة والزق الممتلئ خمرًا

منطقة من كتان، مثال الزقاق الممتلئ خمرًا، دعوة للتوبة، ثمار الشر.

الأصحاح الرابع عشر: التأديب بالقحط والحاجة إلى مياه الروح

القحط والتطلع إلى العصر المسياني، القحط ودعاء الشعب، مسئولية الأنبياء الكذبة، حوار بين الله والنبي.

الأصحاح الخامس عشر: الشفاعة المرفوضة

الشفاعة المرفوضة، التأديب، انهيار نفسية إرميا إلى حين، الله يسند نبيه، سبي الشعب، تعزيات وسط الآلام، الله يشدد إرميا النبي.

الأصحاح السادس عشر: منعه من الزواج

حياة إرميا مرآة لحياة الشعب، اعتزال الحياة اليومية، خروج جديد، الفرح بالخلاص المسياني.

الأصحاح السابع عشر: خطايا يهوذا

الخطية المحتلة للقلب، الإتكال على ذراع بشر، القلب نجيس!، الارتباط بالأرضيات، الله مخلصنا منها، كسر السبت.

الأصحاح الثامن عشر: مثل الفخاري

إرميا والفخاري المحب، الفخاري المؤدب، الرغبة في الخلاص من إرميا.

الأصحاح التاسع عشر: مثل الإناء الخزفي

رسالة أمام شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة، خروجه إلى وادي ابن هنوم، رسالة صريحة عن خطاياهم، تأديبهم، كسر الإبريق الخزفي، وقوفه في دار بيت الرب.

الأصحاح العشرون: مقاومة فشحور له

إرميا في المقطرة، فشحور المرتعب، نار محرقة في قلب إرميا، مقاومة الناس ومساندة الرب، تسبحة وسط الآلام، لحظات ضعف بشري.

 

محتويات الجزء الثاني

الأصحاحات 21-33  "نبوات ما قبل السقوط"

الأصحاح الحادي والعشرون: قيادة جاحدة

الملك صدقيا، الملك صدقيا يطلب مشورة إرميا، إجابة إرميا: الله نفسه ضد يهوذا، نصيحة: الخضوع للتأديب الإلهي!، الحاجة إلى التوبة، أورشليم تؤله نفسها.

الأصحاح الثاني والعشرون: حاجة الملك إلى التوبة

حديث صريح مع يهوآحاز، اجروا حقًا وعدلاً، لا تبكوا ميتًا، الاعتداد بالذات (يهوياقيم)، ثمرة العصيان، تحطيم يهوياكين (كنياهو).

الأصحاح الثالث والعشرون: الرب راعينا وبرنا.

 نبوات مملوءة رجاءً، ويل للرعاة الأنانيين، أنا أرعى غنمي، الرب برنا، خروج جديد، نبوات ضد الأنبياء الكذبة.

الأصحاح الرابع والعشرون: سلَّتا التين.

ماذا وراء الرؤيا؟، رؤيا سلَّتى التين، التين الجيد، التين الرديء.

الأصحاح الخامس والعشرون: كأس خمر السخط

تاريخ النبوة، تأكيد الدمار، مدة الدمار، ملخص النبوات ضد الأمم، قضاء الرب  للمسكونة.

الأصحاحات 26-29 حوار إرميا مع الأنبياء الكذبة

الأصحاح السادس والعشرون: عظة الهيكل ونتائجها

إرميا في دار بيت الرب، القبض عليه ومحاكمته، صعود الرؤساء إلى بيت الرب، إرميا يحذرهم من سفك دمه، الرؤساء والشعب ضد الكهنة والأنبياء.

الأصحاح السابع والعشرون: نيـالروح القدس بابل

تحذير لرسل الملوك الغرباء، نصيحة لصدقيا الملك، حديث مع الكهنة والشعب.

الأصحاح الثامن والعشرون: إرميا يقف ضد حننيا

كلمات حننيا الكاذبة، إرميا يعلق على كلماته، حننيا يكسر النير الخشبي، الله يقيم نيرًا حديديًا، إرميا يقف ضد حننيا.

الأصحاح التاسع والعشرون: رسالة إلى المسبيين

رسالة إلى المسبيين، رسالة إلى شمعيا، رسالة من شمعيا إلى صفنيا، رسالة إلى المسبيين.

الأصحاحات 30-33 سفر تعزية "العودة وقيام مملكة يهوذا"

الأصحاح الثلاثون: عودة مجيدة

مقدمة لسفر التعزية، كارثة يعقوب وخلاصه، شفاء جراحات صهيون، اصلاح يعقوب، ادراك مقاصد الله.

الأصحاح الحادى والثلاثون: العهد الجديد

وعود لكل عشائر شعبه، عودة إسرائيل إلى أرضه، نهاية حزن راحيل، إصلاح إسرائيل ويهوذا، العهد الجديد، رباط لا ينحل، أورشليم الجديدة.

الأصحاح الثاني والثلاثون: شراء أرض أثناء السبي

شراء الأرض، رد الفعل للشراء، إجابة الله عليه، أمجاد الإصلاح المسياني.

الأصحاح الثالث والثلاثون: أورشليم... أنشودة فرح!

السماء قابلة الصلوات، أورشليم الحصينة، أورشليم المتمتعة بالشفاء والسلام، أورشليم وغفران الخطايا، أورشليم... أنشودة فرح، أورشليم مرعى الراعي الصالح، أورشليم وكرسي داود، أورشليم والعمل الكهنوتي، الأمانة في  العهد.

الأصحاح الرابع والثلاثون: العبودية عوض الحرية

رسالة حول مصير صدقيا، قطع العهد والحنث به، عهد الله معنا وعهودنا مع الناس.

الأصحاح الخامس والثلاثون: موقف الركابيين الأمناء

مقدمة في الركابيين، إرميا يختبر أمانة الركابيين، عدم أمانة الشعب، البقية المقدسة.

الأصحاح السادس والثلاثون: كلمة الرب لا تفنى

كتابة درج السفر، اعلان عن الصوم، قراءة للرؤساء، حرق الدرج، النسخة الثانية من الدرج.

الأصحاح السابع والثلاثون: صدقيا يستشير إرميا

مُلك صدقيا، صدقيا يلجأ إلي إرميا، رفع الحصار، نبوته عن استئناف الحصار، القبض على إرميا، طرحه في الجب، إطلاق إرميا، إرميا يطلب رحمة.

الأصحاح الثامن والثلاثون: إرميا في الجب

المطالبة بقتل إرميا، القاء إرميا في السجن، عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا، لقاء سري مع الملك، نبوة عن رحمة مشروطة، صدقيا يخشى الرؤساء، بقاء إرميا في الحبس.

الأصحاح التاسع والثلاثون: سقوط أورشليم في السبي

سقوط المدينة، أسر صدقيا، سبي الشعب، العناية بإرميا، رسالة إلى عبد ملك.

الأصحاحات 40-45 خبرات إرميا ونبواته بعد خراب أورشليم

الأصحاح الأربعون: إرميا مع جدليا في أورشليم

قرار إرميا، جدليا الحاكم، الكشف عن مؤامرة ملك بني عمون.

الأصحاح الحادي والأربعون: اغتيال جدليا والي أورشليم

 مصرع جدليا، فظائع أخرى، سبي البقية وإطلاق سراحها.

الأصحاح الثاني والأربعون: قد خدعتم أنفسكم!

طلب مشورة الله، إرميا يسأل الله، اليهود يعدون بالطاعة، الرسالة الإلهية: بركة  مشروطة، لعنة العصيان.

الأصحاح الثالث والأربعون: حمل إرميا إلى مصر قسرًا

الذهاب إلى مصر، التنبوء بغزو مصر.

الأصحاح الرابع والأربعون: نبواته في مصر

موجز الأحداث، التنديد والمحاكمة، الرد المخزي للبقية، رسالة إرميا الأخيرة.

الأصحاح الخامس والأربعون: حديث معزي مع باروخ

تاريخ الحديث، حالة احباط، رسالة رجاء.

إر 46-51 نبوات عن الأمم

الأصحاح السادس والأربعون: ارتعاب مصر الوثنية

دعوة إلى معركة، ارتعاب مصر، كبرياء مصر، يوم للسيد الرب، سقوط مصر، قضاء مصر، سبي وخراب، تعمير مصر، إصلاح إسرائيل الجديد.

الأصحاح السابع والأربعون: سيف الرب على الفلسطينيين  الوثنيين والقوات المتحالفة معهم

نبوات ضد الفلسطينيين، نبوات ضد صور وصيدا.

الأصحاح الثامن والأربعون: نبوات ضد موآب

الله الحيّ ضد كموش، دعوة للهروب، خراب موآب، حيثيات الحكم، مرثاة على موآب، الغزو البابلي، هروب موآب، إصلاح موآب

الأصحاح التاسع والأربعون: نبوات ضد الأمم

بنو عمون البنت المرتدة، آدوم المتشامخ، سوريا الهاربة المرتعدة، قيدار فاقدة الخيام، حاصور مسكن بنت آوي، عيلام صاحب القوس المنكسر

الأصحاح الخمسون: سقطت، سقطت أساسات بابل!!

الغزو الفارسي، تجميع إسرائيل، الغزو، عودة إسرائيل، قضاء على بابل، ضيق مشترك، قضاء عاجل، قضاء مستقبلي، غزو عاجل.

الأصحاح الحادي والخمسون: اهربوا من بابل!

ريح مهلكة، الله لن ينسى شعبه، اهربوا من وسط بابل، بابل كأس ذهب، جراحات لا تُشفي، نصيب يعقوب، عصا الرب للتأديب، حرمان من حجر الزاوية، جاء وقت الحصاد، شكوى إسرائيل، الله ينتقم لشعبه، اخرجوا من وسطها، الحكم، أمر بالعودة إلى المقادس، نهاية السبي البابلي، قراءة النبوات في بابل، سقوط بابل

 

الأصحاح الثاني والخمسون: سبي يهوذا

تمرد يهوذا، سقوط أورشليم، محاكمة صدقيا، خراب أورشليم، السبي النهائي ليهوذا، ترك بقية، الاستيلاء على غنى الهيكل، قتل الكهنة والرؤساء الترحيلات الثلاث، الأيام الأخيرة ليهوياكين.

 

<<

 

 


 

[1] In Jer. hom. 1: 4.

[2] New Westminster Dict. of the Bible, p. 457.

[3] NIV Bible Study, p. 1115.

[4] John Bright: The Anchor Bible, Jeremiah, 1986 p. XXXVI.

[5] Boyd's Bible Handbook, 1983, p. 286.

[6] John Guest: The Communicator's Commentary, Jeremiah, Lamentations, 1986, p.18.

[7] Unger's Survey of the Bible, 1981, p. 191.

[8] Interpreter's Concise Commentary, vol. 4 The major Prophets, 1983, p. 18.

[9] Peak's Comm. On the Bible, London 1920, p. 475

[10] Collegeville Bible Comm., 1989, p. 453.

[11] Henerietta Mears: What the Bible is all about, 1987, p. 198.

[12] Hallay's Bible Handbook, 1992, p. 309.

[13] William Holladay: Jeremiah 1, Philadelphia 1986, p. 4.

[14] In Jer. hom 1: 1.

[15] Ibid 1: 3.

[16] See A New Catholic Comm., p. 602.

[17] Collegeville, p. 456-7.

[18] Ibid., 454.

[19] Boyd's Bible Handbook, p. 286.

[20] Cf. J.A. Thompson: The Book of Jeremiah, Michigan 1981, p. 81f. (New International Comm. on the NT.).

[21] J. Muilenburg: A Study in Hebrew Rhetoric: Repetition and Style, VI, Supplement I, Copenhagen 1953, p. 98 f.

[22] Lundbom: Patterns of Poetic Balance in the Book of Jeremiah, Chicago 1967, p. 69 (Research).

[23] The Jerome Biblical Comm. , 1970, p. 304.

[24] Exposition of the Christian Faith.

[25] Ep. 24: 2.

[26] Lect. 12: 26.

[27] In Jer. hom. 1: 5 ترجمة جاكلين سمير كوستى 

[28] In Jer. hom 1: 11.

[29] J.A. Thompson, p.145.

[30] In Jer. hom 1: 8.   ترجمة جاكلين سمير كوستى

[31] Ibid 1: 10.

[32] The Collegerille Bible Comm., P. 458.

[33] De Sacerdotis 6: 4.

[34] Oration 1: 1.

[35] Pastoral Rule 1:1 7.

[36] Duties of Clergy 1: 17.

[37] In Jerm. hom. 1: 7.

[38] R. Davidson: Jeremiah, vol 1, Philadelplia, 1983 p.12.

[39] In Jerm. hom. 1: 13.

[40] Ibid.

[41] St. Cassian: Confer. 18: 13.

[42] In 1 Cor. Hom. 19.

[43] الدسقولية، باب 3.

[44] الحب الرعوى، 1965، ص 687.

[45] المرجع السابق، ص 700،701.

[46] المرجع السابق، ص 689.

[47] In Jerm. hom 1: 14.

[48] On Ps. 51: 11.

[49] Conf. 14: 3.

[50] Cat. Myst. 2: 4.

[51] Oratione 40: 4.

[52] Adv. Luc. F. 6.

[53] In Jer. hom. 1: 6.

[54] In Jer. hom. 1: 7.

[55] In Jer. 1: 14.

[56] In Jer. hom. 1: 15.

[57] Ibid 1: 16.

[58] كلمة "غنوسى" مأخوذة عن اليونانية، وتعنى "صاحب معرفة". للتعرف على البدع الغنوسية راجع كتابنا: آباء مدرسة الإسكندرية الأولون، 1980 .

[59] المرجع السابق، ص 160.

 

[60] In Exod. hom. 9: 4.

[61] cf. Thompson, p. 154.

[62] On Ps. hom. 34

[63] يرى بعض الدارسين أن النبي يتحدث في هذه الأصحاحات عن غزو السكيثيين ليهوذا، بينما يرى آخرون أنه يتحدث عن الكلدانيين.

[64] Robert Davidson: Jeremiah, vol 1, Philadelphia 1983, 21-23.

[65] John Guest: The Comunicator's Commnentary, Jeremiah, p.35.

[66] In Til. hom. 3.

[67] Adv. Haer., 3: 24: 1.

[68] Unity of the Church, 11.

[69] Ep 69: 1 (Oxford 70: 1).

[70] On Ps. hom. 25.

[71] Of the Holy Spirit, 1: 7.

[72] Duties of the Clergy, 3: 18.

[73] In Ps. hom., 92.

[74] Ambrose: Flight from the world, 9: 52.

[75] Sermon 103: 2.

[76] Isaac or the soul, 1: 1.

[77] In Num. hom.12.

[78] Ep. 108: 14.

[79] Paschal Letter 7.

[80] Cassian: Conf. 23: 9.

[81] In Gen. hom. 2: 6.

[82] In Jer. hom., 2: 1.

[83] On Ps. 56.

[84] On John, tr 80: 1; In Ps.80.

[85] Cat. Lect. 13: 29.

[86] In Rom. hom. 14.

[87] In Jer. hom 2.

[88] Ibid 3 (modified).

[89] In Jer. hom. 3.

[90] Source Christienne.

[91] Banquet of 10 Virgins 4: 6.

[92] In Exod. hom. 8: 5.

[93] Banquet of  Ten  Virgins 6: 1.

[94] In Hebr. hom. 15: 7.

[95] In Joan. hom. 74: 1.

[96] In Jer. hom. 4: 1.

[97] In Jer. hom. 4.

[98] Ibid 4: 2-6.

[99] Ep. to Theodore 1: 15.

[100] In Matt. hom. 67: 4.

[101] Ibid 3: 5.

[102] Against Pelagians: Prologue.

[103] للمؤلف: الحب الرعوى، 1965، ص 308.

[104] راجع: القديس كبريانوس: التوبة، ترجمة القمص تادرس يعقوب ملطى.

[105] Ep. 41: 3.

[106] In Jer. hom. 5: 1,2.

[107] جاء فى 2 مكابين 48: 2 أن إرميا النبى خبأ تابوت العهد والمذبح فى كهف لدى تدمير المدينة والهيكل.

[108] See In Jer. hom. 5: 3.

[109] In Jer. hom. 5: 5.

[110] Ibid 5: 6.

[111] Ibid 5: 7.

[112] Ibid 5: 8, 9.

[113] Ibid 10.

[114] Resisting the Temptation of the Deirl, hom. 2: 6.

[115] In 1 Cor., hom. 11.

[116] In Ps. 50 (51).

[117] Cassian: Confer. 13:8.

[118] In Jer. hom. 5:11.

[119] Ibid 5:12.

[120] In Jerm.hom. 5:12.

[121] Sermons on N.T, hom. 23:3.

[122] On Statues 4:2.

[123] In Jer. hom.. 5:13.

[124] Paschal Letter, 3.

[125] Of the Work of Monks 12.

[126] In Jer. hom. 5:14.

[127] Ibid 5:14.

[128] In Jer. hom.5.

[129] Ibid.

[130] Cassian: Conf. 13:9.

[131] Ibid 7:5.

[132] In Joan Hom., 13:3.

[133] In John. hom. 73:3.

[134] Stromata 6:8.

[135] Ibid.

[136] Ibid. 7:1.

[137] In Jer. hom. 6:1.

[138] Ibid 6:2.

[139] Ibid.

[140] Ibid 6.

[141] Ibid 6:3.

[142] Ibid 6:3.

[143] In Gen. hom. 5:4.

[144] Paschal Letter, 2.

[145] In Jer. hom. 7:1.

[146] In Jer. hom. 7:1, 2.

[147] In Exod. hom. 13:4.

[148] Ibid 7:3.

[149] Adv. Haer. 3: 19:1.

[150] In Exod. hom. 8:6.

[151] In Gen. hom. 3:5.

[152] St. Jerome, On Ps, hom. 42.

[153] St. Jerome, Ep 54:11.

[154] Paschal Letters, 2.

[155] مناظرات كاسيان 11:6.

[156] Cf. John Guest: The Communicator's Commentary, vol. 17, Texas 1988, p. 72-3.

[157] St.Jerome: Epistle 58:3.

[158] St. John Chrysostom: Conc. Stat. 17:11.

[159] In Matt. hom. 5:7, 8.

[160] In 2 Thess, hom. 5.

[161] In 1 Cor. hom. 8:8.

[162] Paschal Letters, 12.

[163] Ibid.

[164] On Prayer, 8:3.

[165] Epis. of Barnabas, 2.

[166] St. John Chrysostom. In 1 Cor., hom. 8:8.

[167] cf. The New International Comm. on the Old Testament, The Book of Jeremiah, michigan 1981, p.293.

[168] Paschal Letters, 2, 3.

[169] Paschal Letters, 2.

[170] The New Bible Commentary, Michigan 1970, p. 634.

[171] The Old Testament Library: Jeremiah, by Robert P. Carrol, Philadelphia 1986, p. 225; William L. Holladay: Jeremiah 1, Philadelphia 1986, p. 271.

[172] cf. New International Commentary on the Old Testament, Jeremiah, p. 300.

[173] للمؤلف: مناظرات يوحنا كاسيان، طبعة 1967، ص 315.

[174] St Chrys. On Exhort to Theodore 1:7.

[175] On Matt. hom., 26:7.

[176] In 1 Cor 23:6.

[177] In 1 Cor. hom. 23.

[178] Letters to the Fallen Theodore, 1:7.

[179] Ep 44:1.

[180] Cassian: Cof. 13:7.

[181] Tert. On Repentance 8.

[182] للمؤلف: الحب الإلهي، ص 730 الخ.

[183] Concerning Statues 12:6.

[184] The New Bible Commentary, p. 634.

[185] اشتهرت جلعاد شرقى نهو الأردن بالبلسم الذي يستخدم كدواء (تك 25:37).

 

[186] Ep. 46:5.

 [187] St. Basil. Ep 243:4.

[188] St. Chrysostom: An Exh. to Theodore 1:1.

[189] Ep 122:2.

[190] Poem 31:407.

[191] John Guest: The Communicator's Connentary p.88.

[192] cf. R.C. Clements: Jeremiah, 1988, p.60.

[193] Paschal Letters 9.

[194] Pastoral Rule 3:11.

[195] Cassian: Conferences, 23:1.

[196] Ibid 16:18.

[197] In Eph. hom. 14.

[198] The Ascetic Homiles, 48.

[199] Ibid.

[200] In Loc. PL 24:744.

[201] On Psalm 122.

[202] St. John Chrysostom: Concerning Statues, 2.

[203] St. Jerome: On Psalms, hom., 51.

[204] St. Jerome: Epistle 22:26.

[205] Epistle 22:6.

[206] St. Gregory Naz.: Preliminary Disc. against Eunomious, 7

[207] In Gen. hom. 3:2.

[208] ترشيش: هذا الإسم غالبًا مشتق من كلمة "رشش"، ُوجدت في االلغة الأكادية مرتبطة بالمعادن البراقه ومنتجات المناجم، لهذا اشتهر هذا الإسم بمعنى تكرير المعادن.

يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة ترشيش تعنى بحرًا أو تأملاً في الفرح أوجمالاً، وقد أراد يونان النبي أن ينزل إليها، أي إلى بحر حكمته البشرية وجمالها والفرح بها عوض الطاعة للوصية الإلهية الصعبة الخاصة بخلاص أهل نينوى (راجع كتابنا عن سفر يونان).

شعب ترشيش جاء عن ياوان (تك 10: 4)، وُيعتقد أنها ترتيسوس الواقعة في جنوب أسبانيا قرب جبل طارق، ولعلها هي قرطاجنة المدينة الواقعة شمال غرب أفريقيا. كانت غنية جدًا بالمعادن كالفضة المطرقة، والمصنوعة ألواحًا (إر 10: 9) والحديد والقصدير والرصاص. إن كانت شبا وددان تمثلان التجارة في الشرق، فإن ترشيش تمثل التجارة في الغرب، لهذا جاء في حزقيال النبي: "شبا وددان وتجار ترشيش وكل أشبالها يقولون لك: هل لسلبِ سلبٍ أنتَ جاءٍ؟! هل لغنم غنيمةٍ جمعت جماعتك لحمل الفضة والذهب؟! لأخذ الماشية والقنية لنهب نهبٍ عظيمٍ؟!" (38: 13).

[209] Cat. Lect., 3:5.

[210] De Baptismo, 2.

[211] ميمر عن المعمودية.

[212] أي أن موطن النفس كان في اللَّه، ثم بسقوطها جاءت في جسد الفساد.

[213] "السماء المنبسطة" بين الخير والشر تتمثل في كلمات الحكمة التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر.

[214] In Jer. hom. 8:1,2.

[215] In Jer. hom. 8:3,4.

[216] جاء في الرسالة الأولى والثانية إلى أهل تسالونيكى: "بولس وسلوانس وتيموثاوس إلى كنيسة التسالونيكيين".

[217] يرى العلامة أوريجينوس أن الحياة السماوية سوف تحمل درجات بحسب استحقاق كل واحد ومشاركته للسيد المسيح، وسيكون هناك تقدم مستمر من درجة إلى أخرى.

[218] Ibid 8:4-6.

[219] Ibid 8:7.

[220] Ibid.

[221] R.E. Clements: Jeremiah, Atlanta 1988, p.73.

[222] Ibid 73-75.

[223] In Jer. hom. 9: 1, 2.

[224] St. John Chrysostom: In Gal. ch. 3.

[225] Four Discources Against the Arians, 2: 4; Epist. 59 ad Epictetum; De Synodis, 45.

[226] Of the Christian Faith, 5, 14, 178.

[227] نحن نعلم أن "مصر" تمثل بالنسبة لأوريجينوس "هذا العالم" أو "الحياة المظلمة في هذا العالم".

[228] In Jer. hom. 9: 2.

[229] تسبحة الثلاثة فتية 27 .

[230] On Prayer, 3,: 14.

[231] In Jer. hom. 9: 2,3.

[232] Ibid 9: 4.

[233] In hom. hom 14.

[234] cf. William Holladay: Jeremiah, vol. 1, p. 358 ff.

[235] In Jer. hom. 10: 1

[236] cf. William Holladay: Jeremiah, vol. 1, p. 372.

[237] In Jer. hom. 10: 1

[238] Ibid 10: 2.

[239] Ibid 10: 3.

[240] On Prayer, 8: 2.

[241] In Jer. hom. 10: 4,5.

[242] In Jer. hom. 10: 5.

[243] In Jer. hom. 10: 6.

[244] In Jer. hom. 10: 7.

[245] In Jer. hom. 10: 8.

[246] In Jer. hom. 11: 1,2.

[247] In Jer. hom. 11: 3.

[248] William L Holladay: Jeremiah, vol. 1, p. 396.

[249] cf. J.A. Thompson: The Book of Jeremiah, Michgan 1981, p. 364-5.

[250] J. Bright: Jeremiah, N.Y. 1986, p. 94.

[251] Serm. on N. T. 28:2.

[252] In Matt. hom. 56:2.

[253] On Ps. hom 45.

[254] St. Jerome: On Ps. hom. 26. (see Com. on Jer. PL 24:769; Epist. 7:3 PL 22:340.

[255] In Jer. hom. 11:5.

[256] Simil. 9:16.

[257] De Baptismo 1.

[258] Ep. 1 ad Serap. 4.

[259] Adv. Eunom. 5.

[260] J. Bright: Jeremiah, N.Y. 1986, p. 94.

[261] Holladay, p.397.

[262] R. K. Harrison: Jeremiah and Lemantations (The Tyndale Old Testament Comm.), 1973, p. 99.

[263] cf. Thompson, p. 366.

[264] In Jer. hom. 12:1,2.

[265] Celements: Jeremiah, p. 86.

[266] In Jerem. 12:3,4.

[267] Ibid 12:5,6.

[268] In Jerem. 12:7,8.

[269] Ibid 12:9-12.

[270] In Num. hom. 15.

[271] In Jer. hom. 12:9-12.

[272] In Num. hom. 12.

[273] In Jer. hom. 12:13.

[274] In Exod. hom. 12:3.

[275] Holladay, p. 410.

[276] Holladay, p. 409.

[277] On Ps. hom. 3.

[278] John Guest: Jeremiah, p. 116-7.

[279] J. Bright: Jeremiah, 1965, p. 95.

[280] cf. John Bright: Jeremiah (The Anchor Bible, vol. 23), p. 102; Thompson: Jeremiah, p. 379.

[281] راجع كتابنا: حزقيال، 1993، تفسير الاصحاح 47، ص 426.

 

[282] Holladay: Jeremiah, vol.1, p. 431.

[283] PG 46:416 c.

[284] In Col. hom.6.

[285] In 1 Cor. hom., 7:2.

[286] In Matt. hom. 12:1.

[287] John Bright: Jeremiah, p. 101.

[288] St. Cassian: Conf. 21:14.

[289] Holladay, p. 634-5.

[290] تفسير مزمور 47(46).

[291] Holladay, Jeremiah, vol.1, Philadelphia 1986, p. 439.

[292] Thompson: The Book of Jeremiah, p. 387.

[293] On Ps 49 (48).

[294] On Ps 48, no. 4.

[295] On Lazarus and the Rich Man, Sermon 3.

[296] Ibid 4.

[297] On Prayer, 13:2.

[298] المؤلف: الحب الإلهى، الإسكندرية 1967، ص 43.

[299] R.E. Clements: Jeremiah, Atlanta 1988, p. 95.

[300] يتم هذا فى المعمودية حيث تتخلص النفس من القوات الشريرة.

[301] In Jer. hom. 13:1,2.

[302] In Jer. hom. 13:3.

[303] In Jer. hom. 14:5.

[304] In Jer. hom. 14:1.

[305] In Jer. hom. 14:5.

[306] In Jer. hom. 14:1.

[307] In Jer. hom. 14:3, 4.

[308] In Jer. hom. 15:1-3.

[309] In Jer. hom. 14:6.

[310] In Jer. hom. 15:1-3.

[311] In Jer. hom.14:7.

[312] In Jer. hom. 14:8.

[313] In Jer. hom. 14:9,10.

[314] In Jer. hom. 14:11.

[315] In Jer. hom. 14:12,13.

[316] John Guest: Jeremiah, p 129.

[317] In Jer. hom. 14:14.

[318] In Jer. hom. 14:15.

[319] In Jer. hom. 14:16.

[320] In Jer. hom. 14:16.

[321] In Jer. hom. 14:17.

[322] 12. المؤلف: الحب الرعوى ص 473، 474.

 

[323] In Jer. hom. 14:18.

[324] In Jer. hom. 14:18.

[325] In Gen. PG 53:36 D - 37A.

[326] In Matt. PG 58:715 A-B.

[327] The Sixth Instruction, 19.

[328] In 1 Cor. hom. 3:9.

[329] In Acts. hom. 18.

[330] In Matt. hom. 78:3.

[331] Journal of Biblical Literature 85, 401-435.

[332] Thomposon, Jeremiah, p. 404.

[333] Holladay, p. 469.

[334]  المؤلف: حزقيال، 1993، ص 248-249.

[335] للمؤلف: إشعياء 1990، ص 120.

 

[336] St. Jerome: Ep. 22:20, 21.

[337] Thompson, p. 404.

[338] Holladay, p. 470.

[339] Ibid.

[340] Thompson, p. 405.

[341] De Vaux: Ancient Israel, p. 59-60; Holladay, p. 471.

[342] Thomposon, p. 408.

[343] In Jer. hom. 16:1.

[344] In Jer. hom. 16:2.

[345] In Jer. hom. 16:3-4.

[346] Thomposon, p. 411.

[347] In Jer. hom. 16:5.

[348] St. Aug. harm. of gospels 1:26.

[349] In Jer. hom. 16:8.

[350] In Jer. hom. 16 9.

[351] In Jer. hom. 16:10.

[352] Holladay: Jeremiah, vol. 1, p. 495.

[353] Holladay, p. 487-8.

[354] R.E. Clements: Interpretation, Jeremiah, Atlanta 1988, p.104.

[355] In Gen. hom.  2:3.

[356] Sermons on New Testaments Lessons, 46:2.

[357] In Jer. hom 15:5.

[358] On Continence, 10.

[359] On Ps. 37.

[360] City of God, 15:18.

[361] On Christian Doctrine, 1:22.

[362] Enchiridion 114.

[363] On the Lapsed, 17.

[364] Holladay: Jeremiah, vol. 1, p. 495.

[365] R.E. Clements, Jeremiah, p. 107.

[366] On Matt. hom. 29:2.

[367] In Matt. hom. 29:2.

[368] Paschal Letters, 6.

[369]    قاموس الكتاب المقدس: (مجمع الكنائس في الشرق الأدنى)، ص 293،294 .

[370] Holladay, p. 498-9.

[371] Cf. St. Hyppolutus: Treatise on Antichrist, 55.

[372] Against Eunomius, 12:1.

[373] In Exod. 1:5.

[374] In Jer. hom. 17.

[375] الحيوانات (أوريجينوس).

[376] In Jer. hom 17:1.

[377] In Jer. hom. 17:2.

[378] In Jer. hom. 17.

[379] In Jer.hom. 17:3.

[380] In Jer. hom. 17:4.

[381] In Jer. hom 17:4.

[382] In Jer. hom.17.

[383] In Jer. hom. 17:5.

[384] Sermons on New Testaments Lessons, 11:2.

[385] In Jer. hom. 17:6.

[386] In Matt. hom. 11.

[387] On Ps. hom. 2.

[388] In Jer. hom. 17:6.

[389] St. John Cassian: Conferences.

[390] Ibid.

[391] Holladay, p. 510.

[392] رسالة برناباس 15: 6-7.

[393] De Principiis 4:3:2.

[394] City of God, 22:30.

[395] للمؤلف: المسيح فى سفر الأفخارستيا، 1973، ص225 .

[396] On Ps. hom. 21.

[397] In Jer. hom. 18:2.

[398] In Jer. hom. 18:1.

[399] In Jer. hom. 18:3.

[400] Cassian: Confer. 4:5.

[401] Methoduis: Banquet of 10 Virgins, 3:5.

[402] On Resurrection, 1:6.

[403] Instructions to Catechumens, 4.

[404] In Jer. hom. 18:4.

[405] In Jer. hom. 18:5.

[406] Conc. Statues hom. 5:16.

[407] In Jer. hom. 18:6.

[408] De verb Habents.

[409] De mut. nom. PG 51:143.

[410] Ad pop. PG 49:66,67.

[411] On the Statues, hom. 5:16.

[412] Tertulian: Adv. Marcion, 2:24.

[413] In Jer. hom. 18:8.

[414] In Jer. hom. 18:8.

[415] None can injure a man unless he injures himself, 2.

[416] Epistle 46:3.

[417] Holladay, Jeremiah, p. 523.

[418] Conc. Virgin. 1:5.

[419] In Jer. hom. 18:9.

[420] Cassian: Conference 2:24.

[421] In Jer. hom. 18:10.

[422] Thompson, Jeremiah, p. 440.

[423] Thompson: Jeremiah, p. 448.

[424] The Ninth Instruction.

[425] John Guest: Jeremiah, p. 151.

[426] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 539.

[427] Josephus: Wars of the Jews 6:3-4.

[428] Thompson, p. 452; J.A. Wilson: The Culture of Ancient Egypt, 1951, p. 56-58.

[429] In Jer. hom. 19:12.

[430] أى أن الذين لا يأخذون من نبوات إرميا سوى الجانب الحرفى، يفعلون مثل فشحور الذى ألقى النبى فى الجب السفلى.

[431] In Jer. hom. 19:13.

[432] Cf. Holladay: Jeremiah, p. 543-4.

[433] City of God 16:26.

[434] Paschal letters, 2:3.

[435] Thompson: Jeremiah, p. 455.

[436] Holladay, p. 552-3.

[437] St. Chrysostom: In Colos., hom. 4.

[438] Duties of the Clergy, 3:18.

[439] Paschal Letters, 3.

[440] Letter 18 b:2.

[441] Paschal Letters, 10.

[442] Dialogue, 117.

[443] Apology, 1:13.

[444] Letter 18a:6.

[445] St. Ambrose: On belief in the Resurrection, 2:125.

[446]  راجع قاموس الكتاب المقدس، ص 540-541 .

[447] R.C. Clements: Jeremiah, Atlanta Georgia, 1988, p. 125-6.

[448] Ibid, p.127.

[449] Josephus: Antiquities of the Jews, Grand Rapids, Mich., Baker Book House, 1984, vol. 3, p. 68.

[450] John Guest: Jeremiah, Texas 1988, p. 159.

[451] cf R.C. Clements, p 127 ; Holladay: Jeremiah, p. 570.

[452] Thompson: Jeremiah, p. 467.

[453] Holladay, p. 571.

[454] Ibid, p. 571.

[455] Works of Hyppolitus, 48.

[456] Ep. 54: 3 (Oxford 49.

[457] Select Demonstration 5: 2.

[458] R.C. Clements, p. 128.

[459] Holladay, p. 587.

[460] On Ps. 101, 1.

[461] الحب الرعوى، ص 326.

[462] Thompson, Jeremiah, p. 475.

[463] D.J. Wiseman: Chromicle of Chaldaean Kings, p. 63.

[464] See J. Bright: A History of Israel, p. 303, Thompson, p. 476.

[465] Thompson, Jeremiah, p. 478.

[466] Against Aruis, 16.

[467] Sermons on the N. T. Lessons, 19: 4.

[468] Holladay, Jeremiah, vol. 2, p. 595.

[469] Ibid, 597.

[470] John guest, p. 167.

[471] Ibid, 168.

[472] The Prayer of Job and David 5: 20.

[473] Strom. 4: 26.

[474] See Thompson: Jeremiah, p. 487.

[475] Institutes 4: 38.

[476] Thompson: Jeremiah, p. 489.

[477] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 620; 4 Q Flor 1.11; Q Bless 1.3-4.

[478] George F. Moore, Judaism in the First Centuries of the Christian Era, The Age of Tannaim, Cambridge, Harvard University; 1950-59, 2: 325.

[479] Thompson: Jeremiah, p. 490.

[480] In Matt. hom. 54: 8.

[481] R. E. Clements: Jeremiah, Atlanta 1988, p. 140; Thompson, Jeremiah, p. 493.

[482] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 628.

[483] St. Cyprian: Ep. 39 (Oxford 43: 5).

[484] St. Cyprian on the lapsed, 27.

[485] John Bright: Jeremiah, p. 152; Thompson: Jeremiah, p. 498.

[486] St. Iraeneus: Adv. Haer.

[487] St. Chrysostom: In Matt. hom., 54: 8.

[488] Letter to the Fallen Theodore 1: 8.

[489] Stromata 2: 2.

[490] St. Augustine: in Joan. 36: 8.

[491] St. Gergory Naz.: On his father's silence, 16.

[492] On Prayer 10: 2.

[493] In Gen. hom. 1: 7.

[494] In Gen. hom. 12: 1.

[495] St. Jerome: Ep., 122: 3.

[496] The Collegeville Bible Comm., p. 466.

[497] C. F. Keil. Jeremiah, Lamentations (Comm. on the Old Testament, vol. 8, p. 369.).

[498] Thompson: Jeremiah, p. 511.

[499] Paschal Letters 6.

[500] المؤلف: المسيح في سر الافخارستيا، ص 379، 441.

[501] In Joan. hom. 46.

[502] In Heb. hom. 16: 7.

[503] On Ps. 126.

[504] Letter 18 a: 6.

[505] Keil, p. 381.

[506] Thompson: Jeremiah, p. 517.

[507] Keil, p. 390.

[508] Thompson: Jeremiah, p. 523.

[509] New Jerome Bililical Comm., p. 286.

[510] In Luc. Ser. 148.

[511] Thompson: Jeremiah, p. 525.

[512] للمؤلف: الانجيل بحسب لوقا، 1985، ص 656.

[513] International Bible Comm., Zondervan Publishing House, 1986 , p. 780.

[514] In Matt. hom. 80: 4.

[515] Sermon 107: 4.

[516] Wiseman: Chronicles, 73-75.

[517] Cf. Keil, Jeremiah, p. 399.

[518]  معناه "إنسان الإله مردوخ".

[519]  نرجل اسم سوميرى معناه "حامى الملك" أو "ملك المدينة العظيمة"، وهو إله الشمس عند البابليين؛ كما انه إله الحرب وسيد العالم الآخر. كان نرجل شراصر أحد أمراء نبوخذ نصر، تزوج ابنته، ثم قتل أخوها ليتولى العرش (560-556 ق.م).

[520] The Bethany Parallel Comm. on the O.T., P.1591.

[521] Ep. 60: 17.

[522] In 1 Cor. hom. 83: 3.

[523] New Jerome Biblical Comm., p. 287.

[524] keil, p. 405.

[525] R.k. Harrison: zereemialr aiz lomentations, 1973, p. 131.

[526] هـ.آ. ايرنسايد: النبي الباكى تعريب: س. ف. باز، الأردن.

[527] City of God 19: 26.

[528] On Idolotry 15.

[529] The Statues 12: 16.

[530] St. Jerome Ep 22: 4.

[531] Keil, vol. 2, p. 2.

[532] الكلمة se-but ترجع إلى swbوتعني "عودة " وليس إلىsaba  أي "يسبي" Thampson: Jeremiah, p. 554.

[533] In Matt. hom. 57: 1.

[534] In Matt. hom 2: 6.

[535] مناظرات كاسيان 11: 6 .

[536] Sermon 130: 3.

[537] Keil, p.16.

[538] The Pastor, bok 1, vision 3.

[539] St. Gregory Thaum.: Four hom. 2.

[540] In Matt. hom 9: 2.

[541] Cassian: Confer. 20: 7.

[542] St. Ambrose: Conc. Repentance 2: 5.

[543] Thompson: Jeremiah, p. 576.

[544] Against Jovinianus 1: 32.

[545] St. Jerome, Aganist Javinions 1: 32.

[546] The Prayer of Job and David, 4: 3: 11.

[547] In Luc. Serm. 133.

[548] Tertullian: An Answer to the Jews 3.

[549] Tertullian: Adv. Marcion 4: 1.

[550] St. Clem. Alex: Exhort. 11.

[551] Stromata 6: 51.

[552] Funeral Oration on Meletuis

[553] St. Chrysostom: In 2 Tim. hom. 2.

[554] E.W. Nicholas: Jeremiah 26-52, p.79.

[555] St. Chrysostom: Concerning Statues, 19: 11.

[556] Thompson: Jeremiah, 589.

[557] Thompson: Jeremiah, p.588.

[558] On Ps. hom 8

[559] Cassian: Conference 3: 18.

[560] Thompson: Jermiah, p. 598

[561] St. Augustine: On Ps. 9.

[562] On Ps. 9.

[563] T. Bethany Parallel Comm. on O.T., p. 1609 (Adam Clarke).

[564] 170 نصًا عن حياة القداسة: 37.

[565] توجيهات منتخبة عن أحاديثه الأخري  8.

[566] مقالتان عن لناموس الروحي، 7.

[567] Paidagogos 1: 2: 6.

[568] Paidagogos 1: 2: 6

[569] I lid 1: 6: 41.

[570] Ibid 1: 6: 41, 42.

[571] Thompson, Jeremiah, p. 601

[572] Stromata 4: 25.

[573] Stromata 7: 7.

[574] R.K. Harrison: Jeremiah and Lamentations,  Illinios 1973, p.145.

[575] New Westminster Dict. of the Bible, 1969, p. 546; Unger’s Bible Dict., 1966,p. 639.

[576] Thompson: Jeremiah, p.608.

[577] See J. Bright: A History of Israel, p. 329; M.Noth: The History of Israel, p. 284.

[578] Westminster Dict of the Bible, p 81; Unger’s Bible Dict. , p. 111.

[579] قدَّمنا تفسيرًا آخر للأصحاح الخامس عشر في كتاب: "التكوين".

[580] Thompson, p. 613; W.F. Albright: Archiology of Palestine, 1960,  p. 160.

[581] Cassian: Conferences 21: 4.

[582] Thompson: Jeremiah, p. 620; D. Wiseman: Chronicles of Chaldaen Kings, p. 69.

[583] See Thompson, p. 620.

[584] Cf Thompson: Jeremiah, p. 623.

[585] المؤلف: مزمور 119. [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

[586] المرجع السابق.

[587] Antiq. 10: 9: 1.

[588] Josephus: Antiq. 10: 9: 1.

[589] St.  Jerome: On Isa. 30: 6,7.

[590] Syriac Apoc. Baruch 2: 1: 5: 5.

[591] Ibid 6: 7.

[592] The Jewish Encyclopedia, vol  2, p. 548.

[593] Ep. 31: 2.

[594] المؤلف: مزمور 119. [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

[595] للمؤلف: مز 119 [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

[596] Cf. Buhm: Das Buch Jeremiah, 1910, p. 310.

[597] للمؤلف: مز 119 [غنى كلمة اللَّه ولذتها].

[598] Thompson, Jeremiah, p. 643.

[599] Cf. Thompson: Jeremiah, p. 636-7.

[600] Hom, 54 on Ps. 143 (144).

[601] Comm. on Song, book 2: 1.

[602] الكلمة العبرية كالعربية تعني "عبد للملك" وليس للملوك.

[603] Comm. on Song. book 2: 1.

[604] نرجل اسم سوميري معناه "ملك المدينة العظيمة"، وهو إله الشمس عند البابليين، وكان يُوصف بالقوة والقدرة على التدمير مثل اشعة الشمس المحرقة (2 مل 30: 17). وكان نرجل أيضًا إله الحرب وسيد العالم الآخر، وهو مثل مارس في العالم الروماني.

[605] Pastoral Rule 3: 19

[606] Letter 7.

[607] Against Jovinanus 1: 33.

[608] يرى Keil أنه ليس من الضرورى أن يكون من دمٍ ملوكي، فقد يكون أحد الأشراف الملكيين، أي من طبقة الأشراف الذين كانوا في خدمة الملك (Keil, p. 131.).

[609] See K. kenyin: Archaehogy in the Holy land, London 1960, p. 390; Thompson, Jereniiah, p.653.

[610] W.F. Albright: Frim the Stone Age to chnistianity, 1946, p 246; g.e. Wright; Biblical Archaeo logy, lindin. 1962,p 177-9.

[611] Keil: Jeremiah, p. 130.

[612] Keil: Jeremiah, p. 136.

[613] المؤلف: الحب الأخوى 1964، ص 397. 

[614] المرجع السابق ص 398، 399.

[615] المرجع السابق ص 401.

[616] المرجع السابق ص 404.

[617] المرجع السابق ص 407.

[618] Keil: Jeremiah, p. 136.

[619] Keil: Jeremiah, p. 136.

[620] Derek Kindner: The Message of Jeremiah, p. 131.

[621] Ibid 132.

[622] Unger’s Bible Dictionary, 1966, p. 1068

[623] Ibid 132.

[624] Thompson, p. 672.

[625] A New Catholic Commentary on Holy Scripture, Nelson 1969, p. 621.

[626] Bethany Parallel Commentary on the Old Testament, p. 1628 (Adam Clarke).

[627] E.G. Krealing (Buttrick: Interpreter’s Dictionary of the Bible, vol. 2, p. 83-5.)

[628] In Rom. hom. 14.

[629] History 2: 161-63, 196; 4: 159.

[630] O. Eissfeldt: The Old Testament; An Intrdoduction, 1965, p. 354.

[631] R.K. Harrison: Jeremiah and Lamentation, Illinois 1973, p. 169.

[632] الحب الرعوى، ص 198، 199.

[633] Derek Kidner: The Message of Jeremiah, Illinois  1990, p. 137.

[634] In Num. Hom. 11: 14.

[635] On Ps. 83.

[636] Derek Kidner: The Message of Jeremiah, Illinois  1990, p. 137.

[637] راجع للمؤلف: إشعياء، ص 139.

[638] راجع تفسير إرميا 22: 8.

[639] Thompson: Jeremiah, p. 692.

[640] Thompson, p. 692.

[641] R.K. Harrison: Jeremiah and Lamentions, Illinois 1973, p. 173.

[642] Derek Kidner: The Message of Jeremiah, p. 140 - 1.

[643] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، ص 318-321.

[644] On Ps. Hom 15.

[645] PL. 25: 240.

[646] للمؤلف: حزقيال، 1993، ص 259.

[647] On Ps. hom. 34.

[648] بستان الرهبان، ص 441.

[649] Josephus:  Antiquities 10: 9: 7.

[650] Bethany Parrallel Commentary on the Old Testament, p. 1634.

[651] Bethany, p. 1634.

[652] Paschal Letters,  3.

[653] The Detailed Canons, Question 41.

[654] Pastoral rule, 3: 25.

[655] Cassian:  Conference, 20: 8

[656] Sermon On N.T. Lessons, 6: 9.

[657] المطران أبيفانيوس:  الأمانى الذهبية من مقالات اكليل القديس يوحنا ذهبي الفم، 1972، ص49.

[658] Thompson: Jeremiah, P. 716. 

[659] Thompson: Jeremiah, P. 716

[660] Ep. 22: 8.

[661] Fawzi Zayadine: Recent Excavations on the Citadel of Amman (Annual of the Dept. of Jordan, 17, 1973, p. 17 -53).

[662] للمؤلف: إشعيا، 1990، ص 308.

[663] Thompson: Jeremiah, P.721.

[664] R.K. Harrison: Jeremiah and Lamentations, p. 181.

[665] See Harrison, p.181.

[666] Hom. 30 on Ps. 103 (104).

[667] للمؤلف: إشعياء، 1990، ص191، 192.

[668] In Josh. hom 14: 2.

[669] Thompson: Jeremiah, p. 731.

[670] Augustine: Homilies on Psalms: Ps 26.

[671] حاولت بعض الطوائف تأكيد أن بابل الزانية هي الباباوية الرومانية وأن هناك سيكون مركز الدجال، لكن كثيرًا منهم نفوا هذا الفكر. ونحن لا نجد لهذا الفكر مكانًا.

[672] See Comm. on Song of Songs: Prolog.

[673] Letter 21: 11

[674] Sermon 132: 4.

[675] Sermon LI: 1. (translated by Jakline Samir Kosta).

[676] Ibid.

[677] Ibid.

[678] Ibid

[679] Ibid.

[680] Ibid.

[681] Ibid.

[682] Ibid.

[683] Ibid.

[684] Ibid,2.

[685] Ibid.

[686] Ibid.

[687] Ibid.

[688] Ibid.

[689] Ibid.

[690] Ibid, 2, 3.

[691] Ibid, 3.

[692] Ibid, 4.

[693] Ibid, 5,6.

[694] Thompson: Jeremiah, p.747.

[695] Sermon LII: 1.

[696] Sermon LII: 1.

[697] Sermon LII: 1.

[698] Sermon LII: 2.

[699] Ep. 108: 32.

[700] Sermon LII: 3.

[701] Sermon LII: 4.

[702] Sermon LII: 5.

[703] Sermon LII: 6.

[704] Hom. 11 on Ps. 77 (78).

[705] St. Jerome: On Ps. hom. 11.

[706] Hom. 62 on Ps 82 (82).

[707] Sermon LII: 7-11.

[708]   مناظرات يوحنا كاسيان 31: 7.

[709] Joseph 3: 17

[710] Gregory the Great: Pastoral Care 3: 13.

[711] Sermon LII: 12.

[712] Hom. 73 on Ps. 96 (97).

[713] Ibid

[714] Dahe’s Annotated Reference Bible, p. 797.

[715]  راجع تفسير إر 26: 25.

[716] Bethany Parallel Comm. on Old Testament, p.1648.

[717] Keil: Jeremiah, p.322.

[718] Thompson: Jeremiah, p. 774.

[719] Keil, p. 324.

[720] History of the People of Israel III, p. 748, (edition2).


 

[i] St. Jerome: Ep. 31:3.

[ii] The Bethany Parallel Comm. of the O.T., 1985, P. 1584.

 

 

الصفحة الرئيسية