إشعياء
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
كنت أقرأ كتابًا عن إشعياء النبي، وإذا بي أشعر كأن سفر إشعياء يسحب قلبي ليملأ أعماقي تعزية وسط المتاعب. وكانت المفاجأة العجيبة أنني اكتشف في الصباح أن تلك الليلة كانت عشية استشهاد إشعياء النبي، هذا ما دفعني أن أبدأ في دراسة السفر لنوال بركة كلمة الله مع إشعياء.
لقد أخذت بالمنهج الآبائي الدراسي ليصير مكملاً لسلسلة كتب الأب المحبوب القس لوقا سيداروس في ذات السفر الذي اتسم بمنهجه الوعظي وأسلوبه العذب.
الرب قادر أن يستخدم هذا العمل لمجد أسمه القدوس.
شيكاغو في سبتمبر 1988.
القمص تادرس يقوب ملطي
-
تُدعى الأسفار من إشعياء حتى ملاخي "أسفارًا نبوية". هذا لا يعني أن النبوة قد بدأت بإشعياء، إنما وجدت منذ بداية ظهور موسى النبي كأول قائد لشعب إسرائيل، وإن كان بعض الآباء يرون أن النبوة تمتد منذ بدء الحياة البشرية، فيحسبون آدم نفسه نبيًا.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الأسفار النبوية لا تقف عند عرض النبوات وإنما ضمت تاريخًا ونواميس وحكمة وشعرًا الخ...
الأنبياء:
لا يفهم تعبير "أنبياء" بمعنى أناس يتنبأون بأحداث مستقبلية بقدر ما تعني الكشف عن فكر الله وإرادته من جهة الإنسان، خاصة خلاصه الأبدي الذي يتحقق خلال السيد المسيح. لقد أقام الله أنبياءه كرجاله الذين يشهدون له بقوة وشجاعة بفعل روحه القدوس في وقت انحرفت فيه القيادات الدينية والمدنية من كهنة وملوك. فقد انشغل كثير من الكهنة بالسلطة والكرامة مع الانغماس في حياة الترف والبهرجة، لهذا اهتموا بإرضاء الملوك والعظماء على حساب خدمة النفوس، وانشغلوا بالحرف القاتل كتغطية للفساد الداخلي. أما الملوك والأشراف فانشغلوا بالمجد الباطل معتمدين على خطط بشرية متجاهلين عنصر الإيمان بالله والاتكال عليه... لهذا ظهر الأنبياء يقاومون فساد القيادات والشعب أيضًا؛ الأمر الذي أثار الكل ضدهم لاضطهادهم.
جاء الخط واضحًا في كل كتابات الأنبياء، وهو:
1. التوبة والرجوع إلى الله بالقلب لا بالممارسات الشكلية هو طريق علاج للمشاكل الداخلية والخارجية، الاجتماعية والسياسية والروحية.
2. فضح الأخطاء خاصة التي ترتكبها القيادات الدينية والمدنية لا للتشهير بهم وإنما لطلب العلاج الروحي الحق.
3. التنبوء عن أحداث محلية مستقبلية قريبة لتأكد تأديب الرب لهم بسبب فسادهم وعدم الثقة فيه، أو لتأكيد رجمته بسبب توبتهم، مثل السبي والرجوع منه.
4. التنبوء عن أحداث مستقبلية بعيدة مركزها مجيء المسيا المخلص، الذي يُقيم مظلة داود الساقطة، ويُقيم مملكة روحية تضم الشعوب والأمم.
5. الله وحده هو المخلص... والخلاص هو الموضوع الأوحد الذي يلزم أن يشغل فكر الكل.
نبوات الأنبياء مع كثرتها تشبه قيثارة يلعب على أوتارها روح الله القدوس الذي لا يخطئ العزف، فيقدم سيمفونية حب الله المعلن خلال عمل المسيح الخلاصي.
الأنبياء الكبار والصغار:
اعتاد الدارسون أن يقسموا أسفار الأنبياء إلى أنبياء كبار [إشعياء، إرميا، حزقيال، دانيال] وأنبياء صغار [بقية أسفار الأنبياء]، هذا التقسيم لا يقوم على أساس التمييز بين الأنبياء أنفسهم وإنما بين الأسفار حسب حجمها. يشبه البعض بعض أسفار الأنبياء الصغار بالقنابل الذرية الصغيرة في حجمها لكنها تحمل طاقات جبارة[1].
جدول
الفترة |
اسم النبي |
الملوك المعاصرين |
الظروف المحيطة |
غاية السفر |
مـا قـبل الـبي |
1. يونان 2. يوئيل 3. عاموس 4. هوشع 5. إشعياء 6. ميخا |
يربعام الثاني (مملكة إسرائيل). ربما عاصر الملك يوشيا. يربعام الثاني. عزيا، بوتام، آحاز، حزقيا [يهوذا]؛ يربعام 2. عزيا، بوتام، أحاز، حزقيا. بوتام، أحاز، حزقيا [يهوذا]. |
أُرسل إلى نينوى ليتوبوا. التوبة القائمة على تجديد القلب. الخطايا الجماعية. الله يطلب زوجته الخائنة لترجع إليه. الانجيل الخامس (العصر المسياني). يعلن التأديب مع نبوات مسيانية. |
الله للجميع: لليهود كما للأمم 4: 11. يوم الرب 3: 18. التأديب (نبي الويلات) 5: 13. هلم نرجع إلي الرب: لأنه أفترسنا فيشفينا 6: 1. القدوس المخلص 53: 5. من هو مثلك غافر الإثم ؟! 7: 18. |
بين سبي إسرائيل وسبي يهوذا |
7. ناحوم 8. صفنيا 9. أرميا 10. باروخ 11. حبقوق |
حزقيا [هرب إلى يهوذا عند سبي السامرة]. أوائل ملك يوشيا. يوشيا، يهوياكين، يكنيا، صدقيا. [عصر أرميا صديقه الشخصي]. كتب بعد معركة كرمشيش في أيام يهوياقيم. |
يتحدث عن إدانة نينوى ويطمئن شعبه. يتحدث عن قرب مجيء سبي يهوذا. يؤكد تحقق السبي ويطالب بالاصلاح القلبي. يبدو أنه سافر إلى المسيين ليسندهم. أسئلة حول تأديب الشعب بالكلدانيين. |
نهاية الشر 1: 8. الإله الغيور 1: 18. تأديبات الرب ممتزجة بحنوه 3: 12-13. الحفاظ على الإيمان 4: 1-3. الحوار مع الله 1: 3. |
سبي يهوذا |
12. دانيال 13. حزفيال |
خدم أيام ممالك: بابل، مادي، فارس، في السبي. عاصر دانيال. |
شهد أمام الملك الوثني بسيرته وحكمته. فتح باب الرجاء ببناء الهيكل المسياني. |
إدانة الظلمة بالنور 2: 22. مجد الرب 10: 4، 18. |
بعــد الســـبي |
14. حجي 15. زكريا 16. عوبديا 17. ملاخي |
داريوس الملك داريوس الملك |
التشجيع على البناء الداخلي للهيكل (القلب). تشجيع الشعب على اعادة بناء الهيكل. الله يؤدب أدوم لكبريائه، كراهيته. يعلن عن مجيء السيد المسيح بسبقه إيليا. |
بناء بيت الرب الداخلي 2: 15. غيرة الله 1: 14. كما فعلت يُفعل بك 1: 15. محبة الله العملية للبشرية 1: 11. |
في سفر إشعياء
دُعي إشعياء: "النبي الإنجيلي"، ودُعي سفره: "إنجيل إشعياء"، أو "الإنجيل الخامس". من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفاري خاصة "الصليب"؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة.
يقول القديس جيروم: [إني أتمثل في سفر إشعياء - عند قراءته - إنجيليًا يصف حياة يسوع المسيح، فضلاً عن كونه نبيًا يتكلم عن الأمور الآتية[2]].
يقول عنه H. A. Ironside: [أكثر من أي كتاب نبوي آخر، يحوى أكمل النبوات المسيانية التي وجدت في العهد القديم، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد[3]].
اهتم به آباء الكنيسة خاصة في حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائي وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ...[4].
بعد تحول القديس أغسطينوس إلى الإيمان المسيحي بفترة قليلة سأل القديس الأسقف الشيخ أمبروسيوس عما يقرأه، فأجابه"إشعياء"[5].
إشعياء:
كان إسم إشعياء شائعًا بين اليهود، فنجد في الكتاب المقدس على الأقل سبعة أشخاص يحملون هذا الاسم.
"إشعياء" يُقابل "يشعيا" (عز 7: 8؛ نح 11: 7؛ 1 أي 3: 21)؛ يعني "خلاص الله" أو "الله يُخلص". وقد جاء اسمه يكشف عن رسالته، فالسفر في مجمله يحمل خطًا واضحًا عن خلاص الله العجيب الذي يتحقق بمجيء المسيا الذبيح مقيم الملكوت وواهب المجد.
دُعي "إشعياء بن آموص" لتمييزه عن بقية الأشخاص الحاملين ذات الاسم. هذا ويرى الكثير من الدارسين أن آموص هنا غير عاموس النبي[6]، وبحسب التقليد اليهودي هو أخو أمصيا ملك يهوذا وأنه نبي أيضًا.
نشأ في أورشليم وعمل فيها (إش 7: 3؛ 22: 1، 15؛ 37: 2؛ 38: 5؛ 39: 3). على خلاف إرميا تزوج وأنجب أولادًا؛ إرميا مُنع من الزواج حتى لا تُعاني أسرته من الضيق المُرّ الذي يحل بالشعب ومن الفساد الذي حلّ بالجميع كوباءٍ معدٍ، أما إشعياء فتزوج ودُعيت زوجته: "النبية" (إش 8: 3) لا لممارستها النبوة وإنما لمشاركتها رجلها جهاده الروحي ومشاعره، فكانت خير رفيق له في تحقيق رسالته. أنجبت على الأقل ابنين حملا أسمين رمزيين؛ دُعى الأكبر "شآريشوب" معناه "البقية سترجع" (إش 7: 3)؛ والثاني "مهير شلال حاش بز" معناه "عجل النهب، اسرع الغنيمة" (إش 8: 3). وكان الاسمان متناسبين مع نبوات إشعياء كما سنرى.
اعتز إشعياء النبي بأسرته المقدسة في الرب، وأيضًا بتلاميذه الروحيين الذين حسبهم أبناء له وكأفراد أسرته، فقال: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل" (إش 8: 8). وقد استخدم الرسول بولس هذه العبارة كرمز لربنا يسوع الذي يقود تلاميذه إلى المجد (عب 2: 13).
ظروف إشعياء الدينية والاجتماعية والأخلاقية:
1. نشأ إشعياء - كأحد أعضاء العائلة الملكية - في أورشليم، في جوٍ أرستقراطي، يُجالس الملوك ويصادقهم، ويقدم لهم المشورة الصالحة. كان نبيًا في مملكة يهوذا، وربما كان يشغل مركزًا سياسيًا هامًا في البلاط الملكي، كما يظهر من إلمامه بالتيارات السياسية في ذلك الحين بجانب إلمامه بالتيارات الدينية والاجتماعية. فقد كشف عن جماعة أنصار التحالف مع مصر (إش 29: 15؛ 30: 1) واستطاع أن يطرد شَبْنَا من مركزه الخطير (إش 22: 15).
باشر عمله النبوي في السنة التي مات فيه عُزّيا ملك يهوذا (سنة 740) أو 739 ق.م)، هذا لا يعني أنه بدأ بعد موت الملك وإنما ربما قبل موته في ذات العام الذي مات فيه؛ وقد استمر في خدمته حتى وفاة حزقيا ( 697 أو 696 ق.م)، وبحسب التقليد اليهودي باشر عمله النبوي في عهد منسي بن حزقيا، بهذا تكون مدة عمله النبوي أكثر من 50 عامًا، يرى بعض الدارسين أنها بلغت الستين عامًا. انتهت حياته على الأرض بنشره بمنشار خشبي كأمر الملك منسي إمعانًا في تعذيبه كما جاء في التقليد اليهودي وبعض كتابات آباء الكنيسة[7]، وربما قَصدَه الرسول بولس عندما تحدث عن الذين نُشروا (عب 11: 37).
2. شاهد إشعياء في شوارع العاصمة – أورشليم - مركبات الملك والأسرة الملكية والعظماء المتعجرفين، يركبونها في زهو وغرور، خاصة نساؤهم المدللات في حياة ترف فاحش وبذخ شديد. تطلع إلى الولائم اليومية التي تُقام في القصر الملكي بغير انقطاع، تُدعى إليها القيادات العسكرية والمدنية والدينية، الكل يشرب الخمر بلا حساب لتتحول إلى مجالس هزء قانونها المداهنة والرياء. وفي نفس الوقت كان يُشاهد الأغنياء يدخلون الهيكل ليقدموا تقدمات وذبائح بلا حصر ليجدوا تكريمًا من القيادات الدينية الجشعة، ويخرج هؤلاء الأغنياء من الهيكل ليمارسوا الرجاسات الوثنية بالقرب من الهيكل! هذه هي صورة المدينة التي نُسبت لله وأُقيم فيها هيكله المقدس، بينما كانت صرخات الأرامل والأيتام والفقراء والمظلومين تدوي في أذني النبي بل ترتفع إلى عرش الله.
أُصيب يهوذا بالفساد، من جهة قياداته كما من جهة الشعب، "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 5-6).
يرى بعض الدارسين أن ما حلّ بيهوذا يصيب العالم الآن بشكل أو آخر مثل:
أ. تكتلات من أجل التمتع بالسلطة البشرية لا الاتكال على عمل الله (إش 8: 9-13).
ب. الجهل الروحي، فبينما تخضع الطبيعة غير العاقلة بالغريزة لصاحبها وراعيها يجهل الإنسان خالقه المعتنى بخلاصه وأبديته (إش 1: 2-4).
ج. فساد القيادات وانحلالها بتصرفات صبيانية غير ناضجة مع دخول العنصر النسائي بطريقة تسلطية منحرفة حتى في بعض القيادات الدينية (إش 3: 12)، وتفشِّى روح المداهنة والمجاملة وغير موضوعية الحق ذاته.
د. الأنانية ومحبة المال وما يتبع ذلك من ممارسة للظلم وحب الرشوة (إش 1: 23).
هـ. ميوعة الإيمان، يقبل الإنسان الدين وينكر عمل الله الخلاصي أو الالتزام بالحق أو الاعتراف بالدينونة الأبدية...
الظروف السياسية[8]:
عاش إشعياء النبي في وقت قيام القوى العظمى في العالم والصراع بينها. بدأ هذا الصراع بين مصر وأشور على السيطرة على العالم في ذلك الحين، وفي أيام إشعياء الأخيرة كان الصراع بين أشور وبابل، وكان مبدأ هذه الدول هو: "القوة هي الحق".
أما أثر هذا الصراع على إسرائيل (مملكة الشمال) ويهوذا فيظهر مما ورد في ملوك الثاني (15-17):
v قدم منحيم ملك إسرائيل فضة لفول الآشوري ليتركه في مملكته (2 مل 15: 19-20).
v في الأيام الأخيرة من عزيا حيث تسلم إشعياء رسالته، غلب تغلث فلاسر الآشوري فقح ملك إسرائيل (2 مل 15: 29)؛ وقام الأخير بتخريب جيش آحاز ملك يهوذا حيث قتل 120 ألفًا وحمل 200 ألفًا إلى السامرة كمسبيين، كما تحالف مع رَصِين ملك سوريا ضد يهوذا، وذلك لأسباب سياسية. فقد أرادا من يهوذا أن يتحالف معهما ويستندا على فرعون مصر لمقاومة أشور، لكن يهوذا رفض ذلك، مفضلاً الالتجاء إلى أشور ضدهما.
لا أريد الدخول في تفاصيل الأحداث السياسية، إنما ما حدث هو أن هوشع قتل فقح، وأن الأول خضع للجزية لأشور (2 مل 17: 3) غير أن شلمنأسَر الآشوري لم يثق فيه فسجنه وحاصر السامرة 3 سنوات ثم سبى إسرائيل (2 مل 17: 4 6)، وكان ذلك سنة 722 ق.م.
إن كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة في أنانية تحالفت مع آرام سوريا ضد يهوذا، فإن يهوذا من جانبه أخطأ فقد أرسل آحاز إلى تغلث فلاسر يقول له أنه عبده وابنه يطلب نجدة ضد سوريا و إسرائيل (2 مل 16: 7)، مقدمًا خزائن الهيكل والقصر هدية لأشور. وبالفعل سنده، لكن تغلث فلاسر احتقره فيما بعد ولم يسنده (2 أي 28: 20-21). بعد ذلك قام سنحاريب بجيش عظيم ليستولي على يهوذا في أيام حزقيا بن آحاز وقد سمح الله بتدمير كثير من المدن لكنه حافظ على أورشليم إلى حين.
عاش إشعياء النبي في هذا الجو بقلب ناري ملتهب حبًا نحو شعبه. فكانت نفسه مُتمرّة بسبب الانقسام بين أفرايم ويهوذا الذي بلغ أقصاه بتحالف إحداهما مع دول غريبة ضد الأخرى. هذا من جانب ومن جانب آخر فقد شاهد إشعياء يهوذا يرى بعينيه ما حدث للسامرة التي تبعد حوالي 35-40 ميلاً من أورشليم، وما حدث لها من خراب (إش 22: 1) ومع هذا ازداد يهوذا في الشر والعناد.
كان إشعياء - كرجل قومي - منشغلاً بأورشليم عاصمة يهوذا ومدينة الله، كانت مركز أحلامه وآماله، كثيرًا ما يتحدث عنها، لكنه في صراحة يصف نجاساتها وفجورها، معلنًا نضاله لا لأجل حمايتها سياسيًا فحسب وإنما لأجل تقديسها لحساب الله القدوس.
إشعياء، كرجل سياسي حكيم وبإرشاد روح الله القدوس، أدرك شئون عصره والأحوال التي كانت سائدة. فقد تنبأ عن سقوط دمشق والسامرة وامتداد سلطان أشور على الشرق الأوسط (إش 7)، كما امتد نظره - بروح النبوة - إلى مستقبل أبعد ليرى بابل وخطرها المحدق بيهوذا (إش 39)، وبروح الرجاء يعلن عن عودة الشعب كله - جميع الأسباط - من السبي البابلي.
رأى إشعياء في أشور (وبعد ذلك بابل) أداه تأديب إلهي لإسرائيل وأيضًا ليهوذا، ولم يكن بنو يهوذا قادرين على تصديق غزو أشور لأورشليم. لقد أكد النبي أن التاريخ كله والشعوب في يدّ الله يستخدمهم من أجل توبة شعبه ورجوعه إليه... وأنه لا علاج حتى لمشاكلهم السياسية بغير التوبة.
تمسك إشعياء بكلمة الحق في قوة وبسلطان الروح، ففي شجاعة يقول لآحاز الملك: "هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضًا؟!" (إش 7: 13)، كما وبخ الشعب كفاعلي شر (إش 1: 4)، ودعى العظماء "قضاة سدوم" (أش 1: 10)، وسخر بالأعداء الثائرين في وقت كانت فيه أورشليم ترتعب منهم حاسبًا إياهم كشعلة مدخنة (إش 7: 4)... ومع هذا نراه يئن قلبه لأنَّات موآب (إش 15: 5) ويرثى لسقوط بابل (إش 21: 4، 10؛ 22: 4).
سماته:
1. منذ القدم دُعى إشعياء بالنبي العظيم بسبب شخصيته وأعماله وكتاباته[9]. حمل في شخصيته شجاعة دانيال ورقة حس إرميا وآلام هوشع وثورة عاموس، وفاق الكل في قدرته الأدبية الفريدة على النقد المقدس اللاذع مع فتحه باب الرجاء على مصراعيه لا لشعبه وحده وإنما لكل بشر.
2. تحدث الله مع إشعياء النبي بالطرق الثلاثة الشائعة الخاصة بالإعلان الإلهي[10]:
أ. خلال الرؤيا المجيدة (إش 6)؛ وقد دُعى بالرائي (إش 30: 10). رأى السيد المسيح القادم وقد ملأ مجده الروحي كل العالم، فاهتزت السماء لتسبحه من أجل قداسته ومجده. هذه الرؤيا سيطرت على حياته وأفكاره وتصرفاته وكلماته؛ فنجد القداسة مع المجد هما الخط الواضح في السفر، مصدرهما ليس الذراع البشرى وإنما عمل المسيح الخلاصي. هذا الخط صبغ على السفر روح الرجاء بالرغم مما أعلنه عن بغض الله للخطية وسقوط الأمم تحت التأديبات القاسية بسببها.
ب. عمل الروح في حياة إشعياء، الذي أمسكه كما بيدٍ قوية (إش 8: 11)، وألهب حياته، فصارت كلمة الله أشبه بنار تلتهب في عظامه.
ج. الإعلان خلال الحديث الأبوي؛ فيتحدث رب الصباؤوت المهوب في أذني إشعياء كما يتحدث الصديق مع صديقه، يحدثه فمًا لفم (إش 8: 11؛ 20: 2؛ 22: 14)، ويعتبر هذا النوع أسمى أنواع الإعلانات الإلهية، إذ يقدم روح الصداقة الإلهية.
وكما تسلم النبي النبوة بهذه الوسائل الثلاثة، قدمها بدوره خلال ثلاث وسائل:
أ. الكرازة العلنية في الهواء الطلق من أجل توبة الجميع.
ب. العمل الرمزي؛ جاء في (إش 20: 2-3) أنه صار علامة وأعجوبة، فقد سار حافي القدمين عاريًا لمدة 3 سنوات ليؤكد ليهوذا سبيه وتسليمه للعبودية تحت نير أشور.
ج. خلال الكتابة بإعلان واضح في مكان عام مثل الهيكل للتحذير.
3. تمتع إشعياء بسّر الله في وقت طغت فيه الشكلية في العبادة على حياة القادة والشعب، واتسم الكل بالرياء مع فساد الحياة الداخلية. لقد فشل الكهنة والملوك في تحقيق رسالتهم في ذلك الحين لإصلاح إسرائيل ويهوذا، لذلك استمر الله يخدم شعبه خلال الأنبياء. جاء إشعياء ليعلن أنه لا طريق للإصلاح أو النصرة أو المجد إلاَّ خلال الحياة المقدسة؛ وأن الله القدوس يترفق بالخطاة ويشعر بضعفاتهم ويشتاق إلى خلاصهم.
لقد قدم إشعياء نبوات عن أحداث مقبلة، لكن غايته الأولى هي الاعلان عن فكر الله العامل عبر الزمن في الماضي والحاضر، والمستقبل، العامل خلال كل الشعوب حتى المقاومة له. وكأن هذا السفر يُجيب على الأسئلة التالية[11]:
v هل القوة تعطى الأمم "الحق"؟
v ما هو دور الله في العالم؟
v هل دينونة الله أو عقابه يعنى رفضه الإلهي للشعب؟
v ما هي طبيعة الاتكال عليه والثقة فيه؟
v ما هو مستقبل مملكة داود؟
4. يعتبر هذا السفر من أروع الكتابات النبوية في أسلوب أدبي رائع. فالسفر كله شعري باستثناء الأصحاحات (36-39)، يدعوه De Costa "هبة الشعر"[12].
لقد سمع بنفسه تسابيح السمائيين (إش 6) ورأى السماء والأرض مملؤتين من المجد الإلهي فاهتزت أعماقه لتسبح الرب، وسكب نفسه مستخدمًا بروح الله القدوس كل قدرته الأدبية الفائقة وبلاغة أسلوبه وغنى أفكاره ليهز كل نفس تستمع إليه لحساب ملكوت الله. قدم أنواعًا مختلفة من التسابيح تحمل حمدًا وفرحًا ووصايا ودموعًا وحزنًا ومجدًا لله! جاء كتابه حديثًا نبويًا فيه يسكب نفسه في نفوسنا بحب فائق، عجيب في لغته، عذب في تشبيهاته، يتحدث بلغة الحب والإخلاص بروح نبوي مستقبلي مع واقع يعيشه، معبرًا بصراحة وشجاعة عن أحاسيسه تجاه القيادات المدنية والدينية والشعب خاصة المحرومين والمظلومين، مما جعل كتاباته حية وفعالة.
قدم إشعياء الطبيعة غير العاقلة كالجبال والغابات والأنهار والوديان كلها تُشارك الإنسان حياته.
لم يترك تشبيهًا أو تصويرًا إلاَّ واستخدمه.
يذكر H. Bultema التعليقات التالية على لغة هذا السفر[13]:
[يستحيل على أية ترجمة (للسفر) إلى لغة أخرى أن تحتفظ بزهرة هذا الطابع دون ضرر] القديس جيروم.
[إن كانت لغة الوجدان ecstasy غريبة عليّ تمامًا، فإنني لن أتجاسر وأترجم شعرًا مثل إشعياء] Van Der Palm.
[( إشعياء ) فنان كامل في كلماته] Dillmann.
[إشعياء الملائكي والأمير] De Costa.
5. يتميز إشعياء بكثرة النبوات عن السيد المسيح، من جهة ميلاده من عذراء (7: 14)، لاهوته (9: 6)، من نسل يسّى (11: 1)، ممسوح لأجلنا (11: 2)، معلن الحق للأمم (42: 1)؛ يسلك بالوداعة (42: 2)، واهب الرجاء للكل (42: 3)، هروبه إلى مصر وإقامة مذبح كنيسة العهد الجديد هناك (19)؛ آلامه وصلبه (50: 6؛ 53: 1-12)؛ فتح طريق الفرح للمفديين بقيامته (35: 8-10)، إقامة عصر جديد مملوء سلامًا يجمع المؤمنين من اليهود والأمم معًا. كما أفاض عن العصر المسياني كعصر ملوكي داخلي يحمل بركات فائقة.
تحدث أيضًا عن الروح القدس وعطيته الفائقة في العصر المسياني (11: 2؛ 32: 15؛ 40: 7؛ 42: 1؛ 44: 3؛ 61: 1 الخ).
ليس في الكتاب المقدس مواجهة مع الصليب في أعماق أسراره أروع مما سجله إشعياء. أما مياه الروح القدس، مياه الخلاص التي نادى عنها السيد المسيح في يوم العيد العظيم "إن عطش أحد فليقبل إليّ" فقد سجلها العظيم في الأنبياء إشعياء في الأصحاح (55)[14].
إشعياء في العهد الجديد:
لسفر إشعياء أهميته الخاصة فقد حسبه ابن سيراخ "تعزية صهيون" ابن سيراخ
(48: 24)؛ وقد اقتبس منه كتّاب العهد الجديد - أغلبهم من اليهود - 21 نصًا مباشرًا بجانب تلميحات كثيرة[15].
منذ بدء انتشار المسيحية يُنظر إلى سفر إشعياء كسفر هام للشهادة عن شخص السيد المسيح (أع 8: 27 39؛ 1 بط 2: 22-25). وقد قرأ السيد المسيح في إشعياء مشيرًا إلى شخصه (مر 1: 11).
إشعياء والليتورجيات القبطية:
لما كان سفر إشعياء قد ركز على عمل السيد المسيح الخلاصي والكشف عن عصره الذي اتسم بعطية الروح (المشار إليه بالماء والمطر ) لهذا غالبًا ما تقرأ فصل من إشعياء في طقس باكر من كل أيام الصوم الكبير، وأيضًا في صلوات اللقان في خميس العهد وعيد الرسل والغطاس المجيد.
الفكر اللاهوتي عند إشعياء:
يرى بعض الدارسين أن منهج إشعياء اللاهوتي يمكن تقديمه تحت أربعة عناوين: "الله، البشرية والعالم، الخطية، الخلاص"[16]. ويمكن إجماله في العبارة التالية: [الله القدوس يُدين الخطية التي أفسدت البشرية تمامًا فسقط العالم كله تحت الدينونة، وقد حمل مخلصنا الدينونة في جسده ليُقيمنا فيه قديسين نتمجد معه].
جاء السفر يحمل مقابلات عجيبة مثل: المجد الإلهي - الانحطاط البشري؛ الدينونة الجامعة المرعبة - خلاص الله الفائق؛ تنزيه الله غير المدرك - عجز العبادة الوثنية؛ حكمة الله الشاملة - غباوة الأوثان؛ غنى عطايا الله - تدمير الخطية للبركات.
خلال هذه المقابلات وأمثالها يعلن الله عن حبه الخلاصي نحو الإنسان، ليرفعه إليه ويهبه ميراثًا لجبل قدسه (إش 57: 13)، مع حكمة ونصرة وأمجاد.
1. الله "قدوس إسرائيل"[17]...
كثيرًا ما يستخدم إشعياء النبي هذا الاسم "قدوس إسرائيل" الذي لم يُستخدم في الأسفار الأخرى سوى ست مرات (إر 50: 29؛ 51: 5؛ حز 39: 7؛ مز 71: 22؛ 78: 14، 89: 18).
استخدامه بكثرة خلال السفر كله يكشف عن وحدة السفر (إش 1: 4؛ 5: 19، 24؛ 10: 17، 20؛ 12: 6؛ 17: 7؛ 29: 19، 23؛ 30: 11، 12، 15؛ 31: 1؛ 37: 23؛ 41: 14، 16، 20؛ 43: 3، 14، 15؛ 45: 11؛ 47: 4؛ 48: 17؛ 49: 7 (مرّتان)؛ 54: 5؛ 55: 5؛ 60: 9، 14).
ماذا يعنى بقدوس إسرائيل في هذا السفر إلاَّ شخص السيد المسيح خالق إسرائيل وموحده ومجدده خلال عمله الخلاصي ليحميه ويمجده. في كل أصحاح من هذا السفر يتجلى السيد المسيح كمركز الحديث.
لقد رأى إشعياء في بدء عمله النبوي السيد المسيح المخلص جالسًا على عرش مجده والسارافيم يسبحونه: قدوس، قدوس، قدوس (إش 6). وقد شاهد القديس يوحنا في رؤياه الأربعة مخلوقات الحية حاملي العرش الإلهي ينشدون ذات التسبحة في السماء (رؤ 4: 8).
كما سبق فقلنا إن إشعياء تعلم ألا يفصل بين قداسة الله المطلقة وأمجاده الأبدية؛ أما دعوته الله "قدوس إسرائيل"، فلأنه القدوس الذي يقيم شعبًا مقدسًا له ليشاركه أمجاده الأبدية. هو قدوس في ذاته، لكن قداسته تمس علاقتنا به في صميمها.
تأكيد فكرة قداسة الله تُحطم الفكرة الوثنية التي سادت بان الله مجرد "بشر فائق Superhuman" أو "جد grand father عظيم في السماء". الله مختلف تمامًا عن خليقته، هو عال، يُغاير عالمه، هو القدوس وحده[18]... لكنه في نفس الوقت غير معتزل خليقته بل هو مقدسها.
بقدر ما أبرز النبي مدى فساد البشرية حتى الشعب الذي أختاره الرب، أكّد أمانة الله الواحد القدوس والقدير من جهة الخلاص (41: 14؛ 43: 3، 14-15؛ 47: 4؛ 48: 17 الخ )، ليهبهم شركة سماته (35: 8؛ 48: 2؛ 60: 14؛ 62: 12).
وبقدر ما أبرز بطلان الأوثان وعجزها أكّد أن القدير هو الخالق والمعين والقائد والدينان، في يده الزمن، وبقدرته يحرك الأمم لتحقيق إرادته المقدسة من جهة مؤمنيه.
2. البشرية والعالم:
نظرة إشعياء نحو البشرية والعالم انعكست على شخصيته، فقد آمن أن الإنسان الكائن العجيب موضع حب الله وتدبيره من أجله يحرك الله كل شيء ليقدسه بل يقوم بنفسه بخلاصه، وفي نفس الوقت يرى الإنسان في ذاته ضعيفًا كل الضعف، صار كلا شيء، حطم نفسه بنفسه، لا يقدر على الخلاص خارج العمل الإلهي.
هذا ما نراه في شخصية إشعياء نفسه، فقد وقف أمام الله يعلن: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إش 6: 5). لكنه إذ تمتع بلمسة من الجمرة التي قدمها أحد السارافيم من المذبح الإلهي ينطلق ليعمل بطاقات جبارة: حمل شخصية قوية جذابة تجمع روح النبوة مع اتساع الأفق، الحركة المستمرة للعمل مع عذوبة أسلوبه وسحر كلماته، يوبخ وينتهر بشجاعة مع فتح باب للرجاء، أمين لقوميته ومحب لكل البشرية، واقعي يدرك ما يحوط به في زمانه أما قلبه فمنطلق نحو المستقبل حتى يبلغ الأبدية عينها.
هكذا تكشف شخصية إشعياء النبي عن نظرته نحو الإنسان والعالم، أيضًا طريقة تعامله مع الغير تكشف ذات نظرته هذه. فهو لا ينشغل كثيرًا بالألقاب ولا بالمراكز، مدركًا أن القوة الحقيقية تنبع في اللقاء الخفي الداخلي مع الواحد القدوس، لذا لا يخف من الحديث بكل جرأة مع الملوك أو ضد الأمم وفي نفس الوقت بكل رقة وحنان مع الأيتام والأرامل والمظلومين... لقد عرف قيمة النفس البشرية مجردة عن الأمور الزمنية والشكليات الخارجية.
3. الخطية:
الخطية - في نظر إشعياء النبي - أيا كانت أشكالها هي "عصيان" ضد الواحد القدوس كما يظهر من افتتاحية السفر وختامه[19]. هذه النظرة واضحة في كل السفر، فإن القدوس يعمل لأجل تقديسنا لنشاركه سماته، وكل خطية أشبه بثورة ضده.
4. الخلاص:
إن كانت الأصحاحات الأولى (1-39) تؤكد كراهية الله للخطية وتأديب الخطاة العاصيين فإن الأصحاحات التالية (40-66) تعلن خلاص الله العجيب للخطاة من كل الأمم والشعوب.
الله الديان هو بعينه المخلص، يكشف الجراحات لا لتشهير بها وإنما لمعالجتها برقة وحنو مهما كلفه الثمن. لهذا في كل مرة يعلن حزمه ضد الخطية سرعان ما يكشف عن عمله الخلاصي ليبعث في النفس الرجاء المفرح. لقد تحدث إشعياء بفيض عن الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح (إش 43: 18، 19؛ 62: 2؛ 41: 15، 16؛ 65: 17 الخ...).
عبد يهوه (عبد الرب):
من أهم المشاكل التي تقف أمام النقاد هي تعبير "عبد يهوه" أو "عبد الرب" الذي أشير إليه في الأصحاحات ما بين (40-50) قرابة عشرين مرة: (إش 41: 8، 9؛ 42: 1، 19؛ 43: 10؛ 44: 1، 2، 21، 26؛ 45: 4؛ 48: 20؛ 49: 5، 6؛ 50: 10؛ 52: 13؛ 53: 11، 54: 17). وتتلخص المشكلة في أمرين:
1. أغلب الإشارات قدمته بكونه إسرائيل أو يعقوب.
2. تارة يظهر أنه عبد يهوه غير الأمين وتارة العبد المختار موضع سرور الأب، المتألم لأجل خلاص البشر.
من يكون هذا العبد ليهوه؟
1. في بداية العصر المسيحي وُجد بعض اليهود يفسرون "عبد يهوه" بكونه المسيا، لكن البعض الآخر رفضوا ذلك لأنهم لم يكونوا يتوقعون في المسيا ابن داود الذي يقيم المملكة الغالبة أن يتألم، لذا رأوا أن هذا العبد هو رمز لأمة اليهود[20]... هذا التفسير الأخير لا يقبله المنطق ولا يتفق مع ما ورد في السفر فقد أعلن النبي بوضوح أنه يتألم لأجل الخلاص، ويعمل من أجل ذلك (إش 49: 5-6؛ 53: 5-11)، فهل تألمت الأمة اليهودية من أجل خلاص العالم؟
2. حاول بعض النقاد تفسير هذا الشخص بكونه شخصية تاريخية أو فكرة أسطورية لتقديم مفهوم لاهوتي معين، وقد رفض C. R. North التفسيرين. عن الأول يتساءل: من يكون هذا الشخص التاريخي؟ هل هو النبي نفسه أم آخر؟! واضح أن الحديث لا ينطبق على شخصية تاريخية في العهد القديم. أما التفسير الثاني فغير مقبول لأن العهد القديم لم يستخدم قط الأساطير التي أتبعها الشرق الأدنى في ذلك الحين[21]. وقد رأى North أن ما ورد عن عبد يهوه إنما يجب تفسيره مسيانيًا، أي ينطبق على المسيا.
3. يرى البعض أن North قد ركز على تسابيح العبد (إش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13-53: 12) التي لم يذكر فيها العبد بكونه إسرائيل أو يعقوب إنما تركز على العمل الخلاصي لهذا قبل التفسير المسياني[22].
4. إن عدنا إلى الكتاب المقدس نجد فيلبس الرسول يفسر هذا العبد بكونه يسوع المسيح (أع 8: 30-35). فكيف يقدمه السفر تارة العبد غير الأمين وأخرى العبد المختار موضع سرور الآب. يُجيب Ironside[23] بأن إسرائيل هو عبد الله الذي لم يستطع أن يَخْلُص بنفسه فاحتاج إلى المختار من قِبَل يهوه العبد الذي جاء ليحقق رسالة الخلاص. آدم الأول قَبِل مشورة العدو فخل تحت العقوبة وصار في مذلٍة لتغرّبه عن الله لذا جاء آدم الثاني ليُحطم العدو ويقيم كنيسته (إسرائيل الجديد) ويعلن حضوره فيها (إش 8: 18؛ 12: 6؛ 30: 29؛ 31: 9).
إذن ما ورد عن عبد يهوه تارة يتحدث عن آدم الأول أو الإنسان الذي حطمته الخطية وتارة عن آدم الثاني ابن الإنسان الذي حطّم سلطانها.
هذا ويرى القديس أغسطينوس أن عبد يهوه يرمز للسيد المسيح، كما يُشير أحيانا إلى كنيسته، إسرائيل الجديد، بكونها العروس المتحدة به، وجسده المتمتع بخلاصه[24].
نسبة السفر لإشعياء ووحدته:
يحاول بعض النقاد المحدثين أن ينكروا وحدة السفر ونسبته بأكمله لإشعياء النبي. فيدّعى البعض أن إشعياء كتب القسم الأول منه (إش 1: 39)، وأن آخر اصطلحوا على تسميته "إشعياء الثاني" كتب بقية السفر. وادعى آخرون أن المدعو إشعياء الثاني كتب فقط الأصحاحات (40-55) بينما ثالث كتب الأصحاحات (56-66). وقد بدأت هذه النظرية (تجزئة السفر) بتعليقات J. C. Doderlein عام 1775م و J. G. Eichhorn عام (1780-1783). ومنذ بدء القرن العشرين بدأ بعض المفسرين يفصلون بين هذه الأجزاء ككتب مستقلة.
وأما حججهم في ذلك فهي:
1. الخلفية التاريخية: لا يقبل الناقدون إمكانية روح الله في الكشف عن المستقبل أمام رجال الله لبنيان الجماعة، ولا يدركون قول ابن سيراخ عن إشعياء أنه تحدث عن المستقبل (ابن سيراخ 48: 24). لذا يؤكدون أن كاتب الأصحاحات (40-60) كان معاصرًا للإمبراطورية البابلية وعن أنهيارها أمام كورش (إش 44: 28، 45: 1)...
كما سبق أن قلنا في مقدمات الكثير من أسفار العهد القديم أن المشكلة تقوم أساسًا على إنكار النقاد للنبوة ورفضهم للمعجزات الإلهية.
2. الخلفية الفكرية: يرى بعض النقاد أن الأصحاحات (1-39) تمثل كتابًا مستقلاً له فكر واحد هو تأديب شعب الله على خطاياهم خاصة اتكالهم على الذراع البشرية وانغماسهم في الرجاسات الوثنية كسائر الأمم المحيطة بهم، ثم فجأة تتحول الأصحاحات (40-66) إلى فكر آخر وإلى طابع مغاير، فيها يعلن الكاتب عن خلاص جديد خلال عهد جديد يقوم به الخالق المهتم بتجديد خلقته التي فسدت.
3. الخلفية اللغوية والأدبية: يرى بعض الدارسين أن الطابع اللغوي والأدبي في الأصحاحات (1-39) يختلف عما جاء في الأصحاحات (40-66).
الردّ على القائلين بإشعياء ثانٍ وثالث:
1. يقول[25]Bultema بأنه أمر غريب للغاية أن يُكتشف وجود إشعياء ثانٍ في تاريخ متأخر بواسطة بعض اللاهوتيين العقلانيين بينما لم يخبر بهذا الأمر أحد من حاخامات اليهود القدامى وآباء الكنيسة الأولى حتى الذين قادوا الحركة البروتستانتية لم يفكروا في هذا، فكيف كان إشعياء الثاني هذا مخفيًا عبر كل هذه العصور؟!
2. نسبت الترجمة السبعينية في القرن الثالث ق.م السفر كله لإشعياء النبي دون تجزئته.
3. يقدم لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس شهادة خارجية عن أصالة هذا الجزء (إش 40-66) ونسبته لإشعياء، وأنه كتب في وقت مبكر جدًا عن عصر كورش، إذ قال أن كورش نفسه قرأ ما ورد في سفر إشعياء فدهش وتحركت فيه رغبة قوية أن يحقق ما كتب عنه في هذا السفر[26]. واضح هنا أن يوسيفوس لم يعرف سوى إشعياء واحد.
لو أن الكاتب غير معروف في أيام كورش لكان هذا يعنى أحد أمرين، إما أن ما كتبه يوسيفوس عن كورش ليس بذي قيمة، أو أن كورش كان غبيًا خدعه اليهود.
4. نسب يشوع بن سيراخ السفر بأكمله إلى إشعياء النبي، وقد شهدت أسفار العهد الجديد لذلك باقتباس عبارات منه نسبتها إلى إشعياء النبي.
3. من جهة اختلاف الفكر بين أقسام السفر. فكما يقول Oswalt أن محاولة تجزئة السفر في العصر الحديث هي التي خلقت تجاهلاً لوحدة الفكر الذي يجرى في السفر كله[27]. وقد قدم لنا مثالاً لوحدة الفكر في السفر نقدمه هنا مع شيء من التصرف.
يُجيب السفر كله على تساؤلين هما:
ما هي طبيعة شعب الله؟
وما هو مصيرهم؟
في (إش 1-6): يعرض النبي المشكلة: الخطاة مدعوون، والحل هو رؤية الله.
وفي (إش 7-39): يكشف عن الاتكال على الله لا على الأمم المجاورة، وأنه عوض الاتكال عليهم في ضعف يلزم أن يدركوا رسالتهم ألا وهي أن يكونوا نورًا للأمم. وقد بدأ بنو يهوذا بالاتكال على الله لكنهم لم يستمروا.
وفي (إش 40-48): يُجيب على التساؤل: ما هو الحل لعدم استمرار يهوذا؟ حثهم على ذلك ولو بالتأديب والسبي. فالله يسمح بالسبي لكنه لا يزال يعلن "أنا هنا"، مجده يملأ السماء والأرض كما رأى إشعياء (إش 6).
وفي (إش 49-55): يُجيب على التساؤل: هل يمكن لإسرائيل الخاطئ أن يصير عبد يهوه؟ كما فعل الله بإشعياء مقدسًا شفتيه بالجمرة (إش 6) هكذا يفعل بالمؤمنين مقدسًا إياهم بعمله الخلاصي.
هنا يقدم مقابلة بين إسرائيل عبد يهوه والمسيا المخلص.
في إش (56-60): الله الذي يختار شعبه ويخلصهم من خطاياهم يبقى عاملاً حتى يتحقق مجده فيهم كما سبق ففعل مع إشعياء في الرؤيا (إش 6).
هكذا يظهر الخط واضحًا في السفر كله، خط خلاص الله العجيب الذي يحققه بدعوة الخطاة وتقديسهم خلال المسيا مخلص العالم.
4. ما يدعيه النقاد - أي نظرية تفتيت وحدة السفر - يواجه مشاكل كثيرة بلا حل، نذكر على سبيل المثال[28]:
أ. أن آراءهم تفقد الوحدة بصورة صارخة، فيرى Radday أن الأصحاحات (49-66) تمثل وحدة لغوية واحدة مقابل الأصحاحات (40-48)؛ فان كان هذا صحيحًا فانه يعارض فكرة إشعياء الثاني (40-55). هذا ويرى أن الأصحاحات (23-35) ليست من قلم إشعياء الأول وهذا يعارض فكر أغلب النقاد.
ب. لو كان هذا السفر هو من عمل ثلاثة أشخاص، فإنه يصعب جدًا تفسير كيف جاء السفر بشكله الحاضر. في كل المخطوطات السابقة للمسيحية لم تُوجد قط أجزاء منه قدمت ككتاب مستقل، إنما قدمت الأصحاحات الـ 66 كوحدة واحدة.
ج. يقول Morgalioth إنه لم تستطع هذه النظريات أن تقدم تفسيرًا لوجود مفاهيم مشتركة بين الأجزاء مثل (إش 1-7) مع (60-66؛ 7-12) مع (36-39)[29].
د. وجدت دراسات إحصائية لغوية للسفر تؤكد وحدته مثل عمل L. L. Adam[30].
فيما يلي أمثلة قليلة لتشابه الأفكار والأسلوب خلال الأجزاء التي يدعى النقاد أنها كُتبت مستقلة[31]:
* تسمية الله "قدوس إسرائيل" وردت 13 مرة في (إش 1-39)، 16 مرة في (إش 40-66)، بينما استعلمت 7مرات في بقية أسفار العهد القديم.
* تسمية الله "عزيز إسرائيل" في (إش 1: 24)، وأيضًا في (إش 29: 26؛ 60: 26).
* استخدام تعبير: "فم الرب تكلم" (إش 1: 20؛ 21: 17؛ 22: 25؛ 24: 3؛ 25: 8)؛ (40: 5؛ 58: 14).
* العلاقة بين الله و إسرائيل في الأصحاحات (1-39) مطابقة في الصور والأفكار بما ورد في الأصحاحات (40-66).
من جهة الأفكار:
أ. بنو إسرائيل أولاد الله وشعبه المحبوب (1: 2، 3؛ 2: 6؛ 3: 12)؛ ( 40: 11؛ 41: 8، 9؛ 43: 1،15 ).
ب. عصيانهم (1: 17، 23؛ 3: 12، 15؛ 5: 7، 23)؛ (59: 8، 13).
ج. سقوطهم في الوثنية (1: 29؛ 2: 8، 20؛ 31: 7)؛ ( 40: 19، 20؛ 41: 7؛ 44: 9-20؛ 57: 5).
د. سفك الدماء البريئة (1: 15، 21؛ 4: 4) (9: 3، 7).
هـ. رفض الله لهم لعصيانهم (1: 15؛ 2: 6؛ 3: 8؛ 4: 6)؛ (42: 18-25؛ 43: 28).
و. الحكم عليهم بالسبي (5: 13؛ 9: 11، 12؛ 14: 3)؛ (42: 22؛ 43: 5، 6؛ 45: 13).
ز. السبي إلى بابل بالذات (14: 2-4؛ 39: 6، 7)؛ (47: 6؛ 48: 20).
ح. الرب يُبقى له بقية (6: 13؛ 10: 20-22؛ 11: 12؛ 14: 1، 3)؛ (43: 1-6؛ 48: 9-20). فكرة البقية التي تخلص كخيط ذهبي خلال السفر كله.
ط. الوعد بالعودة وغرسهم في الأرض المقدسة (14: 1؛ 35: 10)؛ (44: 26؛ 45: 3؛ 51: 11).
ى. انضمام الأمم إليهم (11: 10؛ 25: 6)؛ (42: 6؛ 49: 6؛ 55: 5).
ك. الوعد بملك عظيم (9: 6، 7؛ 24: 23؛ 32: 1؛ 33: 17)؛ (42: 1-4؛ 49: 1-12).
ل. يملك في جبل الله المقدس (2: 2؛ 11: 9)؛ (56: 7، 57: 13؛ 65: 11).
م. يكون فاديًا ومخلصًا (1: 27؛ 25: 9-10؛ 35: 4)؛ (41: 14؛ 53: 5 12؛ 59: 20).
ن. استخدام الاسم الرمزي لمصر "رهب" في الجزئيين (إش 30: 7)؛ (إش 51: 9).
من جهة الصور والتشبيهات:
أ. كثرة استخدام صور النور والظلام كرمز للمعرفة والجهل؛ استخدم النور مجازيا 18 مرة على الأقل والظلام 6 مرات، وقابل بين الاثنين 9 مرات (إش 5: 20، 30؛ 13: 10)؛ (إش 42: 16؛ 50: 10؛ 58: 10؛ 59: 9؛ 60: 1-3).
ب. استخدم أيضًا العمى والصمم في حالات متشابهة (إش 6: 10؛ 29: 10، 18؛ 22: 3؛ 35: 5)؛ (إش 42: 7، 16، 18، 19؛ 43: 8؛ 44: 18؛ 56: 9).
ج. تصوير البشرية بالزهرة أو ورقة سرعان ما تذبل (إش 1: 30؛ 18: 15)؛ (إش 40: 7؛ 64: 6).
د. تشبيه الإصلاح براية (إش 11: 12؛ 18: 3)؛ (إش 49: 22؛ 62: 10؛ 66: 19).
هـ. دعوة المسيا الغصن أو القضيب (إش 11: 1، 2؛ 53: 2).
و. العصر المسياني كعصر ماء (إش 30: 25؛ 33: 21؛ 35: 6)؛ (إش 41: 17، 18؛ 43: 19، 20؛ 55: 1؛ 58: 11؛ 65: 12).
ز. تشبيه الله بالفخاري والإنسان بإناء خزفي (إش 29: 16)؛ (إش 45: 9؛ 64: 8).
ح. تشبيه أورشليم بخيمة ذات أوتاد (إش 32: 20)؛ (إش 54: 2).
ط. تشبيه تطهير إسرائيل بتنقية الفضة (إش 1: 25)؛ ( إش 48: 10).
هذه أمثلة قليلة من كثير من وجود تشبيهات وتعبيرات مشتركة بين الـ 39 أصحاحًا الأولى وبقية السفر... مما يدل على وحدة السفر وان الكاتب شخص واحد. هذا ويلاحظ أنه لا يخلو أصحاح في كل السفر من تشبيه حيّ وتصوير رائع خاصة في الأصل العبري الذي يعطى سمو اللغة رونقًا خاصًا لهذه التشبيهات والتصويرات.
مع هذا إن وُجد شيء من الاختلاف في الأسلوب بين ما ورد في (إش 1-39)؛ (إش 40-66) فانه أمر طبيعي لتطور الأسلوب بالنسبة لنفس الكاتب خلال حقبات حياته المختلفة، خاصة وأن مدة نبوته طويلة، تبلغ حوالي الستين عامًا.
5. كاتب كلا الجزئيين يظهر أنه صاحب معرفة كاملة بتاريخ شعبه.
6. كاتب الجزء الثاني (إش 40-66) ليس كما يدعى النقاد أنه إنسان يعيش في أرض السبى، إنما واضح أنه كان مقيمًا في الأراضي المقدسة، وكما يقول H. Bultema:
أ. بينما يكرر إرميا النبي إسم بابل أكثر من 160 مرة نجد هنا في هذه الأصحاحات السبعة والعشرين (إش 40-66) يُذكر ثلاث مرات فقط. كما لم يشر الكاتب إلى المدن المحيطة ببابل ولا إلى قٌراها أو حصونها. أما بالنسبة لكنعان فكثيرًا ما يُشير إليها وإلى بعض المناطق التي فيها.
ب. لا يُشير الكاتب إلى الأمم المحيطة ببابل بينما يُشير إلى جبال كنعان وتلالها وصخورها وكهوفها وطرقها الجبلية ووديانها.
ج. يتحدث عن حجارة لا توجد في بابل بل في كنعان (إش 48: 19؛ 57: 6؛ 62: 10؛ 51: 1؛ 50: 7).
د. بالنسبة للنباتات أشار إلى نوع واحد من أشجار بابل "الصفصاف" (إش 44: 4)؛ أما أشجار كنعان فيكررها مرات ومرات مثل الأرز والزيتون والصنوبر والآس والزان والسرو الخ...
هـ. بالنسبة للأخشاب، كان البابليون يستخدمون أشجار النخيل في البناء كما في الوقود بينما يُشير إشعياء إلى الأخشاب الكنعانية مثل الأرز والسرو وسنديان والصنوبر (إش 44: 13-16).
و. لم تذكر هذه الأصحاحات نوعًا واحدًا من محاصيل بابل إنما أشارت إلى المحاصيل التي تنمو في كنعان مثل البهرات والكتان والقصب.
ز. ورد بهذه الأصحاحات أكثر من 25 نوعًا من الحيوانات لا يوجد من بينها نوع واحد من الحيوانات الخاصة ببابل، وهكذا بالنسبة للطيور والأسماك.
ح. عندما تحدث عن الأصنام أشار إليها بكونها مُقامة تحت الأشجار (إش 57: 5-7) وفي الكهوف وعلى الجبال والتلال؛ هذا يناسب كنعان أما في بابل فوجدت الأصنام في هياكل ضخمة جميلة.
ط. في تشبيهاته المتعددة عبر السفر كله لم يشر إلى عجائب الدنيا في بابل مثل أسوار بابل الفريدة في سمكها، ومعبد بيل والقصر الملكي لـ Neriglisser و الحدائق المعلقة.
من هذا كله واضح أن الكاتب يعيش في كنعان وليس في بابل أرض السبي كما أدعى النقاد ليعزلوا الأصحاحات (40-46) عن بقية السفر بكون كاتبها إشعياء آخر في أرض السبي جاء في وقت متأخر عن إشعياء الأول.
التفسير الألفي لسفر إشعياء:
بينما ركز آباء الكنيسة الأولى على نبوات إشعياء النبي بكونها شهادة صادقة وأمينة عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، يحاول كثير من المفسرين المحدثين صبغه بالفكر الألفي، متطلعين إلى كثير من نبواته على أنها ستتحقق عندما يأتي الرب ليملك ألف سنة على الأرض قبل حلول الضيقة العظيمة.
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الآتي:
1. تفسير النبوات بطريقة حرفية، مثل إعادة مجد صهيون و أورشليم وغلبة المخلص على الأمم والشعوب المقاومة الخ... هذه المفاهيم ليست إنجيلية، فإن صهيون وأورشليم إنما هما كنيسة العهد الجديد، التي تدعى "إسرائيل الجديد". أما الغلبة على الأعداء فإشارة رمزية لغلبته على قوات الظلمة بالصليب.
2. عدم إدراكهم أن الرب قد ملك فعلاً بالصليب على القلوب وأنه أقام مملكته المملوءة فرحًا وسلامًا لا ينطق به.
3. إن الشيطان قد قُيد بالنسبة للمؤمنين بالصليب، وأننا قد أُعطينا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب. (راجع تفسيرنا لسفر الرؤيا ص 19).
أقسام السفر:
يرى علماء اليهود وآباء الكنيسة الأولى أن النبوات الواردة في هذا السفر جاءت حسب ترتيب إعلانها للنبي، وإن كان بعض النقاد الحديثين يرفضون هذا الرأي.
نبوات في أيام عزيا [ص 1-5].
نبوات في أيام يوثام [ص 6].
نبوات في أيام آحاز [ص 7-14].
نبوات في أيام حزقيا [ص 15-66].
ويمكن تقسيم السفر حسب موضوعه إلى ثلاثة أقسام متكاملة تبرز عمل الله الخلاصي. ففي القسم الأول يعلن النبي تأديب الله لكل البشرية - اليهود والأمم - لأن الطبيعة البشرية قد فسدت وصارت في حاجة إلى تدخل إلهي لتقديسها. وفي القسم الثاني يعلن الله القدوس عن إمكانية الغلبة على الأعداء (إبليس وجنوده) وعلى الموت وعلى الأنا بالله نفسه. هذا القسم تاريخي نبوي يظهر أن ما ننعم به من نصرة يتحقق بواسطة ابن داود الذي يموت ويقوم [قصة حزقيا الملك الذي أنعم عليه بـ 15 سنة كرمز لموت المسيح وقيامته]. وفي القسم الأخير يعلن الله القدوس عن تمتع البشرية بالخلاص في مفهومه الواسع، أي شركة المجد الإلهي خلال آلام المسيح وصلبه.
هذه الأقسام الثلاثة هي:
أولاً: القدوس المؤدب [ص 1-35].
1. نبوات خاصة بيهوذا وأورشليم [ص 1-12].
2. نبوات خاصة بالأمم المحيطة [ص 13-23].
3. نبوات خاصة بالعالم [ص 24-35].
ثانيًا: القدوس واهب النصرة [ص 36-39].
1. نصرة على الأعداء [ص 36-37].
2. نصرة على الموت [ص 38].
3. نصرة على الأنا [ص 39].
ثالثًا: القدوس المعزى بالخلاص [ص 40-66].
1. عزوا عزوا شعبي [ص 40-44].
2. هجوم كورش على بابل [ص 45-47].
3. أحاديث الخلاص [ص 48-59].
4. بناء مدينة الرب الجديدة [ص 60-66].
يرى البعض أن هذا السفر يمثل الكتاب المقدس كله بعهديه، القسم الأول منه (إش 1-39) يتحدث عن حال إسرائيل قديمًا وما بلغ إليه من فساد وحاجة العالم إلى مخلص إلهي وهو بهذا يمثل العهد القديم، أما الأصحاحات السبعة وعشرون (إش 40-66) فتُشير إلى أسفار العهد الجديد السبعة وعشرين تعالج سرّ الفداء بكل وضوح وتعلن الملكوت المسياني وعطية الروح القدس لإقامة مدينة الرب الجديدة.
القدوس المؤدب
[ص 1- ص 35]
الباب الأول
القدوس المؤدب
[ص 1- ص35]
غاية إشعياء النبي هو الكشف عن إنجيل الخلاص أو جذب البشرية كلها للتمتع بالمخلص القادر أن يصلح الطبيعة البشرية ويردها إلى صلاحها الذي خُلقت عليه بل ويرفعها إلى شركة المجد السماوي.
لكي يحقق هذا الهدف كان لابد أن يكشف عن مدى ما وصلت إليه الطبيعة البشرية من فساد، لهذا يبدأ سفره بالحديث عما بلغ إليه شعب الله، حاسبًا أن "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم؛ ويل للأمة الخاطئة" (إش 1: 3-4) لقد أصاب المرض الرأس (الملوك والرؤساء وكل القيادات المدنية). كما أصاب القلب (الكهنة والقيادات الدينية) وكل بقية الجسم (الشعب).
تمثلت مملكة إسرائيل بالأمم فقبلت رجاساتها، و أيضًا مملكة يهوذا صارت فيما بعد أشر من إسرائيل. استخدم الله أشور للتأديب فتعجرف على الله؛ أذله بقيام مملكة بابل فامتلأت بابل غطرسة ضد الرب، لذلك أرسل فارس ومادي يُحطمان بابل. على أى الأحوال يكشف إشعياء في نبواته أن جميع الأمم استحقت الدينونة: إسرائيل، يهوذا، أشور، مصر، بابل، فارس ومادي، أدوم، موآب الخ... وهكذا يُريد النبي أن يعلن أنه لا خلاص من هذا الدمار الذي جلبه الإنسان لنفسه إلاَّ بالتدخل الإلهي. لهذا وسط النبوات المّرة الخاصة بالتأديبات نجد خطين رئيسيين في هذه الأصحاحات بل وفي كل السفر، هما:
1. التطلع إلى المسيا المخلص: كلما تحدث النبي عما يحل بالأمم أو بالإنسانية يفتح باب الرجاء بالتنبؤ عن المخلص القادم يسوع المسيح بن يسّى.
2. الله يغضب على الخطية ولن يقبل الشركة مع الخطاة لأنه القدوس، وفي نفس الوقت يده ممدودة للخلاص لكي يقدس المقبلين إليه من كل الأمم. بمعنى آخر الله يكره الخطية لكنه يُحب الخطاة، يحب كل البشرية، ويفتح بابه للأمم. هذا ما يؤكده بكل وضوح في الأصحاح التاسع عشر حيث يعلن عن هروب السيد المسيح إلى مصر، واقامة مذبح للرب في وسطها، مؤكدًا "مبارك شعبي مصر".
لقد أبرز في هذه الأصحاحات (1-35) الآتي:
1. الله في تأديباته لا ينتقم لنفسه لكنه كطبيب يود أن يعالج ويشفي، لذا امتزجت التأديبات بإعلان الخلاص حتى لا يسقط السامعون في اليأس.
2. أعلن الله عن مجده لإشعياء (إش 6) وقداسته في نفس الوقت، ليؤكد للبشرية أنه لا شركة في المجد بدون القداسة، ولكي ينزع عنهم كل اتكال على ذراع بشري، فإننا إن تمجدنا إنما بقوة الله الممجد من السمائيين، وإن تقدسنا فخلال شركتنا مع الواحد القدوس.
3. الله في تأديباته هو صاحب الكرم المشتاق أن يجد ثمرًا في كرمة العزيز لديه جدًا، موضع رعايته الفائقة (إش 5).
4. يعقب الحديث عن الويلات (إش 10) نشيد الخلاص (إش 12)، ليؤكد رغبته في تحويل التأديب إلى تسبيح، وفرج حزن التوبة بفرح الخلاص.
5. الله يؤدب، لكن ليس خلال أوامر ونواه، وإنما بروح الحب والحوار، لا يكف السفر عن الكشف عن مقاصد الله من التأديب (إش 25-27)، مطالبًا بحوار ودّي بينه وبين الإنسان.
المحاكمة العظمى
يُفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه؛ فيها يقف الله مدعيًا وقاضيًا. لا يُريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم. يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودًا ضد شعبه. يعلن الاتهام وفي نفس الوقت يُقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة. يقف قاضيًا وديَّانًا وفي نفس الوقت طبيبًا ومخلصًا، يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة.
1. مقدمة السفر [1].
2. استدعاء الطبيعة [2].
3. استدعاء الحيوانات [3].
4. وصف لحال الشعب [4-9].
5. استدعاء القضاة [10].
6. الاتهام: "العبادة الشكلية" [11-15].
7. دعوة للتوبة [16-20].
8. عتاب من واقع الماضى [21-23].
9. الديَّان يتقدم كمخلص [24-31].
1. مقدمة السفر:
"رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا" [1].
تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذي يضم مجموعة رؤى ونبوات أُعلنت لإشعياء في ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ... لكنه يدعوها جميعًا "رؤيا"، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به.
الرؤى هنا ليست أحلامًا تمتع بها النبي أثناء نومه، وإنما هي إعلانات إلهية قدمت للنبي أثناء يقظته بينما كانت حواسه ساكنة بسبب قصورها وعجزها، ليقول النبي مع القديس يوحنا الرائي: "كنت في الروح" (رؤ 1: 10). وربما قصد بالرؤيا الوحي الإلهي الخاص بالنبوة.
هذه الرؤى "على يهوذا وأورشليم"، أي تخص مملكة يهوذا أو مملكة الجنوب (يهوذا وبنيامين) وتركز على العاصمة أورشليم بكونها مدينة الله بها هيكله المقدس؛ لكنها ضمت أيضًا نبوات عن مملكة الشمال (بقية الأسباط) وعن الممالك المجاورة التي لها علاقة بالشعب.
هذه الرؤى هي كلمة الله التي لا تمس يهوذا في القرن الثامن ق.م. فحسب وإنما تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله، وكما جاء في سفر التثنية: "الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب، ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم أحياء" (تث 5: 3)... إنها كلمة الله وإعلاناته لكل نفس بشرية!
2. استدعاء الطبيعة:
"إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم: ربيت بنين ونشأتهم. أما هم فعصوا عليّ" [2].
يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان، تُستدعى فيها الطبيعة الجامدة - السماء والأرض - لتشهد هذه المحاكمة.
ربما استدعى إشعياء النبي الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبي: "انصتي أيتها السموات فأتكلم، وتسمع الأرض أقوال فمي" (تث 32: 1). كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبي الذي يعتز به كل يهودي. ولعله أراد أن يؤكد مدى قساوة قلب الإنسان وعمى بصيرته لذا يستدعى الطبيعة الجامدة للشهادة ضده، الأمر الذي أوضحه معاصرة ميخا النبي: "اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أُسس الأرض الدائمة، فإن للرب خصومة مع شعبه" (مى 6: 2).
ربما تمَّ هذا الاستدعاء من ملاك من قبل الرب للشهادة على الإنسان في قساوة قلبه. ولعل الرب نفسه هو الذي حقق هذا الاستدعاء، إذ لم يستدع هيكله المقدس ولا شريعته لتشهد عليهم بل طلب الطبيعة الجامدة التي حققت مقاصد الله وتممّت رسالتها بالخضوع له، أما الإنسان ففسد تمامًا بسبب عصيانه.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق الآن استدعاء السماء (للشهادة) إذ لا يوجد إنسان يسمع ويشهد لهذه الأمور[32]].
يرى القديس القديس إكليمنضس السكندري ان الله يستدعي الغنوسيين، أي المؤمنين أصحاب المعرفة الإلهية السماوية (السماء) كما يستدعي من انشغلت قلوبهم بالزمنيات والأرضيات[33].
"ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ" [2].
الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنًا جامدًا، إنما هو "الحب" عينه، فريد في حبه لخليقته السماوية والأرضية، خاصة حبه نحو الإنسان. لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يُحثنا بلغتنا البشرية معبرًا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الاتحاد والشركة معه.
الله يعلم أنه ليس شيء يمكن أن يحزن الإنسان ويفقده طعم الحياة مثل شعوره بأنه قد فشل في تربية أولاده، خاصة إن قاموا ضده يعلنون العصيان عليه. مع الفارق الشاسع، يكشف الله عن مشاعرة نحو الإنسان الساقط: أنه ابن محبوب، يقدم له أبوه السماوي كل إمكانيات الحياة الفائقة، لكنه يُقابل الحب بالعصيان.
لقد دعى شعبه "الابن البكر" (خر 4: 22)، وهكذا يدعونا أولادًا له، إذ لم نأخذ روح العبودية بل روح التبني الذي به نصرخ أيها الآب أبانا (رو 8: 15).
يتوقع الله فينا أن نحمل روح النبوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التي كلفته الكثير، مقدمًا ابنه الوحيد الجنس ذبيحة ليقتنينا له أبناء في مياه المعمودية. يقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات: [كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط[34]].
يُحدثنا القديس كبريانوس عن التزامنا كأولاد لله نحو أبيهم، قائلاً: [إن كنا أولادًا لله، إن كنا بالفعل قد بدأنا أن نكون هياكله، إن كنا نتقبل روحه القدوس، يلزمنا أن نحيا بالقداسة والروحانية[35]].
يُعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم، فإن عصيان البنين أمرّ من عصيان الأجراء والعبيد، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التي يُسببها الأعداء.
يرى القديس إيريناؤس أن الله خلق الإنسان كابن له يمتثل به، ويتممٍ إرداته الإلهية من نحوه، لكنه إذ يمجد الله ويقبل مشورة عدو الخير يصير ابنًا لإبليس. لهذا دعى السيد المسيح مقاوميه "أبناء إبليس" (يو 8: 44)، ونفى عنهم أنتسابهم الروحي لإبراهيم (يو 8: 39).
v بحسب الطبيعة - حسب الخلقة - يُقال إننا ابناء الله، إذ نحن جميعًا خليقته. أما من جهة الطاعة والتعليم فلسنا جميعًا ابناء الله، إنما الذين يؤمنون به ويتممون إرادته وحدهم (أبناء). أما الذين لا يؤمنون ولا يطيعون إرادته فهم أبناء الشيطان وملائكته، لأنهم يفعلون أعمال الشيطان.
القديس إيريناؤس[36]
v عندما اضطهد الفريسيون ربنا ومخلصنا بكى بسبب هلاكهم القادم. لقد أساؤا معاملته، أما هو فلم يبادلهم ذلك ولا بالتهديد، حتى عندما استخفوا به وقتلوه، وإنما على العكس حزن على تجاسرهم... هذه الأمور جميعًا كانت أمام أعينهم في الكتب المقدسة، فقد تنبأ المرتل، قائلاً: "الأبناء الغرباء صنعوا بي باطلاً" (مز 18: 45). وقال إشعياء: "ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). لم يعودوا بعد شعب الله أو أمة مقدسة إنما صاروا ولاة سدوم وشعب عمورة (إش 1: 10). تعدوا خطية أهل سدوم كما تنبأ النبي: "سدوم تتبرر أمامكم" (راجع حز 16: 48؛ مرا 4: 6). فقد قاوم أهل سدوم ملائكة، أما هذا الشعب فهاجموا رب الكل وإله الجميع وملكهم، تجاسروا فقتلوا ملك الملائكة ولم يعرفوا أن المسيح الذي قتلوه يحيا حتى اليوم.
البابا أثناسيوس الرسولي[37]
3. استدعاء الحيوانات:
"الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم" [3].
إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر (خر 4: 22)؛ فكان يليق بالابن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرًا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ان الإنسان انحط إلى ما هو أقل من الحيوان، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السموات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوي[38].
لقد انحط الإنسان حتى قيل في سفر الأمثال: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان؛ تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6: 6).
عُرف الثور والحمار بغباؤهما إن قورنا ببقية الحيوانات ومع هذا إن جاعا يسيران بالغريزة نحو صاحبهما عند موضع الطعام كأنهما يطلبان منه أن يأكلا. أما إسرائيل فقد تمررت حياته بالسبي وصار جائعًا وعريانًا ومع هذا لم يرجع إلى الله أبيه الذي يرعاه ويهتم به، ما تُمارسه الحيوانات بالغريزة فاق تصرفات الإنسان العاقل في شره!
إن كان الإنسان قد انحط هكذا إلى ما هو أدنى من الحيوان، فقد وُلد كلمة الله المتجسد في مزود حتى إذ يقترب الإنسان كما إلى المزود يجد السيد المسيح مأكلاً له. يأكل فتنفتح بصيرته ليدرك أسرار الله خلال اتحاده بالابن الوحيد العارف بأسرار أبيه، إذ يقول: "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27).
هنا دعوة إلهية موجهة إلينا نحن الذين اقتنانا السيد المسيح بدمه، وقدم جسده ودمه طعامًا لنفوسنا، لذا لاق بنا أن نصغى إلى كلماته ونستجيب لدعوته.
يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين اليهود في العهد القديم والمؤمنين في العهد الجديد من جهة معرفة الله فيقول بأن الأولين عرفوا الله بفكرهم لكن ليس بحياتهم وخبرتهم وأعمالهم (تى 1: 16).
v خطأهم ليس في جهلهم (العقلي) وإنما في شرهم، في إرادتهم الشريرة، فإنهم حتى عندما عرفوا ذلك أختاروا أن يكونوا جهلاء[39].
v قبل الصليب حتى اليهود لم يعـرفوا (الآب)، إذ قيل: "إسرائيل لم يعرف"، أما بعـد
الصليب فجرى العالم كله إليه[40].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بلا شك كان سرّ ملكوت السموات محجوبًا في العهد القديم، وكان يجب أن ينكشف في ملء الزمان في العهد الجديد. يقول الرسول: "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4)... المسيح نفسه رُمِزَ إليه بالصخرة عندهم، أما لنا فأعلن عنه بالجسد.
القديس أغسطينوس[41]
v كيف لا تحسبه أمرًا مرعبًا إن كان الذين يعرفون الله (عقليًا) لم يدركوا الرب (عند مجيئه)، بينما يعرف الحيوانان الغبيان - الثور والحمار- من يقوتهما، وقد وُجد إسرائيل أكثر منهم غباوة؟!
القديس إكليمنضس السكندري[42]
v لقد كللوا يسوع ورفعوه إلى فوق شاهدين عن جهلهم.
القديس إكليمنضس السكندري[43]
4. وصف لحال الشعب:
بعد أن استدعى الطبيعة الجامدة والحيوانات غير العاقلة لتشهد محاكمة الله مع الإنسان، كشف عن الحال الذي بلغ إليه الشعب، كأنه عريضة اتهام، جاء فيها:
أولاً: وصفهم بسبع سِمات في [4]، وكأنه يقول مع عاموس النبي "من أجل ذنوب يهوذا الثلاثة والأربعة... من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة" (عا 2: 4، 6). الثلاثة تُشير إلى خطايا النفس الداخلية التي على صورة الثالوث، والأربعة تُشير إلى خطايا الجسد الظاهرة الذي أُخذ من الأرض (أربع جهات المسكونة). وكأن الشعب قد تدنس في الداخل والخارج، بخطايا خفية وظاهرة، في الجسد والروح.
السِّمات الأربع الأولى هنا تُشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة: "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلى الشر، أولاد مفسدين"؛ والسِّمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية: "تركوا الرب، أستهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى الوراء".
على أي الأحوال فإن رقم 7 يُشير إلى "التمام" Completeness، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحدّ.
يلاحظ أن إشعياء مغرم بالرقم 7 فكثيرًا ما يُقدم 7 سمات في وضعه للأمور المختلفة.
جاءت عريضة الاتهام تعلن هذه الخطايا، ملخصها:
أ. خطايا جماعية: "ويل للأمة الخاطئة" [4]. إن كانت خطية عاخان بن كرمى سببت هلاكًا للشعب (يش 7: 11) فكم بالحرى إن انحرفت الأمة كلها إلى الشر؟! لقد دبَّ الفساد في الكهنة كما في الشعب، في الأشراف كما في العامة، فصارت الحاجة إلى رجوع جماعي إلى الله مثلما فعل أهل نينوى. لقد دُعى هذا الشعب "الأمة المقدسة"، لكنه عزل نفسه عن القدوس فحمل سمة، "الأمة الخاطئة" مستخدمًا الكلمة العبرية goi، وهو تعبير خاص بالأمم لعدم التصاقها بالله. وكأن هذا الأمة انحرفت عن غايتها لتدخل في زمرة الأمم الغريبة عن الله.
ب. ثقل إثمهم: "الشعب الثقيل الإثم" [4]. إذ يتنبأ إشعياء النبي عن المخلص والخلاص كان لابد أن يبرز ثقل الخطية التي تنحنى تحت ثقلها النفوس... الله وحده يعرف ثقل هذا الإثم، فقد جاء كلمة الله المتجسد حمل الله الذي يحمل خطية العالم (يو 1: 29، 36).
تحت ثقل الخطية تنحنى النفس حتى تغوص كما في مياه العالم فتحمل طبيعة العالم لا السماء، لذا قيل عن فرعون وجنوده: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10)، وقيل عن الشر: "طُرح ثقل الرصاص على فمها" (زك 5: 8).
يرى القديس غريغوريوس النيصى[44] أن الإنسان الذي يسلك في الحياة الفاضلة يكون خفيف الوزن روحيًا، أما الإنسان الشرير فيكون ثقيلاً يغطس في المياه. الفضيلة خفيفة تجعل الإنسان كالسحابة مرتفعًا إلى فوق وكالحمامة التي تطير بأجنحتها الصغيرة (إش 9: 8). وقد تحدث العلامة أوريجانوس في ذلك باسهاب، مظهرًا كيف كاد بطرس أن يغرق بسبب الخطية (الشك) وإذ وهبه الرب إيمانًا سار على المياه[45].
ج. متأصلين في الشر: "نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين" [4]. دبَّت الخطية في حياة أسلافهم، فجاءت الأجيال متأصلة في الشر عن آبائهم وأجدادهم. وكما قال الرب للكتبة والفريسيين: "فاملأوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي" (مت 23: 32-33).
د. تركهم للرب مصدر القداسة: "تركوا الرب؛ استهانوا بقدوس إسرائيل؛ ارتدوا إلى الوراء" [4]. ليس شيء أشر من أن يترك الإنسان إلهه، مصدر حياته وسرّ قداسته. يقول الرب على لسان إرميا: "لأن شعبي عمل شرين؛ تركونىي أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنقسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءَ" (إر 2: 13).
إن كان إشعياء قد رأى الله القدوس (إش 6)، فهو "قدوس إسرائيل" مصدر تقديس مؤمنيه، يهبنا سماته عاملة فينا! لقد كرر النبي هذا التعبير 20 مرة.
هـ. مرض مستعصي: "علامَ تُضربون بعد؟! تزدادون زيغانًا، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم؛ من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت" [5-6].
بقوله: "علامَ تُضربون بعد؟!" يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقًا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه. فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم أزدادوا زيغانًا، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركًا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعي، إذ يقول: "لم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي، فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم، ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم" (مز 18: 11-12). وجاء في إرميا: "لماذا تخاصمونني؟!... لباطل ضربت بنيكم؛ لم يقبلوا تأديبًا" (إر 2: 30)، "ضربتهم فلم يتوجعوا. أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" (إر 5: 3).
الآن يتركهم الله لفسادهم الذي اختاروه بإرداتهم فيدبُّ المرض في جسمهم من الرأس إلى القلب إلى القدم. يدبّ في الفكر فيصيروا عاجزين عن التدبير، وأيضًا في القلب فتتنجس عواطفهم وأحاسيسهم الداخلية، حتى القدمين من أسفل فيصيروا عاجزين عن التحرك نحو الله في طريق ملكوته الملوكي. دبّ الفساد بالرؤساء والعظماء (الرأس) كما بالخدام والكهنة (القلب)، وبعامة الشعب (الجسد) حتى بالمحتقرين منهم (أسفل القدم).
صارت الجراحات قاتلة ونزف الدم غير متوقف... ليس من يتحرك لينقذ ويخلص، ولا من يُقدم زيت محبة ليلين الضربة القاسية!
أصاب الفساد الطبيعة البشرية ذاتها، وكما يقـول القديس كيرلس الأورشليمى:
[عظيم هو جرح طبيعة الإنسان، من القدم إلى الرأس لا توجد فيه صحة[46]].
و. خراب مطبق: "بلادكم خربة؛ مدنكم محرقة بالنار، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهي خربة كانقلاب الغرباء، فبقيت ابنة صهيون كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأةٍ، كمدينة محاصرة" [7-8].
يتحدث النبي هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الآشوري، حاسبًا ما سيحل بهم في المستقبل كأنه حاضر، لأنه أمر حادث لا محالة.
يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [عاش إشعياء منذ قرابة 1000 عام، وقد رأى صهيون كسقفية (للمواشي)؛ كانت المدينة في ذلك الوقت قائمة وجميلة بمنافعها العامة وملتحفة بالعظمة... لكنه يقول: "فبقيت ابنة صهيون كمظلة (سقفية للمواشي) في كرم، كخيمة في مقثأةٍ". الآن نجد الموضع مملوء بزراعة مقثأة. أنظر كيف ينير الروح القدس القديسين[47]].
الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، أرض الموعد التي وهبها الله لشعبه، والتي من أجلها احتمل الشعب السير في البرية أربعين سنة صارت خربة. استولى سنحاريب على 46 مدينة حصينة فصارت أورشليم مهددة بخطر مباشر "كمدينة محاصرة " و "كخيمة" أو "مظلة" من السهل احتلالها... لقد شاهد أهلها ما فعله الغرباء (الأشوريون) بمدنهم، حيث أشعلوا النار فيها، فكانت تأكل مخاصيلهم أمام أعينهم وهم عاجزون عن الحركة. صارت مدنهم خربة كانقلاب الغرباء، أي كما سبق انقلبت سدوم وعمورة، أو كما لو فاض عليها طوفان ماء شديد حطمها.
هذا الخراب الذي حلّ هو علامة على ما ارتكبه يهوذا من آثام، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه، وعدم طاعتهم لصوته، فقد قيل: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه... تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك؛ ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل" (تث 28: 15-16).
هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها: بالجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ... تُنتزع عنها كل حصانة وتصير كمظلة أو خيمة في العراء، فريسة سهلة في أيدى الخطية.
v هؤلاء هم الذين يدنسون أنفسهم ويحولونها عن كونها بيت الآب السماوي، أورشليم المقدسة، بيت الصلاة، إلى مغارة لصوص... يأخذون منها ما هو ثمين، ويسلبونها أفضل ما لديها لتصير كلا شيء.
العلامة أوريجانوس[48]
تعبير "بقيت ابنة صهيون" هنا يُشير إلى مركز شعب الله الذي حسبه شعبه الخاص، الابنة العذراء، والعروس المدللة، قد صارت متروكة "بقيت وحدها"؛ تشعر بالعزلة Loneliness والترك، وهذه أقس عقوبة على نفس الإنسان! هذه العقوبة جلبتها ابنة صهيون على نفسها بنفسها. كانت عروسًا مدللة فصارت مهجورة ومطّلقة. يقول العلامة أوريجانوس: [أظن أن الزوج (الله) قد كتب كتاب طلاق لعروسه القديمة، وأعطاها إياه في يدها، وطردها من بيته[49]].
وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له، بسببها لم يحطم شعبه الذي فسد، إذ قيل: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" [9]. وقد اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في (رو 9: 29). وكأن ما حدث في أيام إشعياء يتكرر في كل الأجيال حتى في العصر الرسولي حيث قبلت قلة أمينة من اليهود الإيمان بالسيد المسيح.
لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التي تتقدس له وسط الفساد الذي يحل بالكثيرين. هذه البقية هي "القطيع الصغير" الذي يسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1)؛ هذه البقية أبقاها رب الجنود لنفسه بكونها عمله، يهبها روحه القدوس لتقديسها له فتكون خميرة مقدسة تخمر العجين كله.
v أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بترخي الكثيرين؛ عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون (مت 20: 16).
القديس يوحنا كاسيان[50]
من أجل هذه البقية القليلة يقصر الله أيام الضيق خاصة في الأزمنة الأخيرة، إذ قيل: "من أجل المختارين تقصر تلك الأيام" (مت 24: 22).
5. استدعاء القضاة:
"اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة" [10]. في شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب "قضاة سدوم" ويلقب الشعب نفسه "شعب عمورة"، وذلك من أجل الظلم والفساد الذي اتسم به كل من الرؤساء والمرؤوسين.
لا نجد في كل السفر موقفًا واحدًا يشعر فيه النبي بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح في مجده (إش 6)، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس.
يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته.
6. الاتهام: العبادة الشكلية:
الاتهام الموجّه إليهم هنا خطير للغاية؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء؛ يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة؛ يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله،وحياتهم فاسدة.
هذا الاتهام مُوجّه ضد مُدّعى الإيمان عبر كل الأجيال، الذين يحفظون الحرف مع تجاهل للروح الداخلي، وكما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ 3: 17)، لأنه تشبّه بالفريسي القائل: "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار؛ اصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (لو 18: 11-12).
هذا الأتهام أثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة في حياة الكنيسة سواء في العهد الجديد أو القديم والالتزام بعدم الأنحراف عن هذه الغاية الإلهية:
أ. يقول القديس إيريناؤس: [يُظهر الله أنه ليس في حاجة إلى شيء (إش 1: 11)، إنما يحثهم وينصحهم كي يمارسوا هذه الأمور حتى يتبرر الإنسان ويقترب من الله[51]].
الله يريد من عبادتنا أن نقترب منه ونتحد به لنحمل طبيعته فينا، طبيعة الحب والرحمة. فهو يريد رحمة لا ذبيحة (هو 6: 6؛ مت 9: 13). لهذا يوبخ اليهود قائلاً بأنهم يبسطون أيديهم للصلاة بلجاجة فلا يُسمع لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا بارتكاب جرائم قتل (إش 1: 15)، عوض الحب حملوا كراهية وقتل للنفوس والأجساد، خاصة قتل الأنبياء والمتكلمين بكلمة الحق.
v لماذا هذه الانقسامات؟ لننا نحفظ العيد لكن بخميرة الخبث والشر، فنقسم كنيسة الله إلى أجزاء، نحفظ ما يخص أمورها الظاهرة بينما نستبعد الأمور الأفضل: الإيمان والحب. لقد سمعنا من الكلمات النبوية أن مثل هذه الأعياد والأصوام لا تُسر الرب.
القديس إيريناؤس[52]
v واضح لكل أحد أن التقوى التي تقود إلى العبادة والتكريم هي أقدم العلل وأعظمها، وان الشريعة نفسها تحث على العدل وتعلم الحكمة... بالدعوة إلى خالق العالم وأبيه.
القديس إكليمنضس السكندري[53]
ب. لقد قدموا ذبائح كثيرة ومحرقات في هيكل الرب، واختاروا المسمّنات، لكن الله لا يُسر بها، فإنه لم يطلب الذبائح في ذاتها لأنه غير محتاج إليها، إنما يطلبها كرمز لذبيحة السيد المسيح الفريدة، من أجل مصالحة الإنسان مع الله وتمتعه بالشركة معه. لكن الهدف ضاع منهم فإنه لما جاء المسيح الذبيحة رفضوه؛ قدموا الذبائح الحيوانية واحتفلوا بعيد الفصح وجحدوا الفصح الحقيقي، حمل الله الذي يحمل خطية العالم.
v في أيام الرب ظن اليهود أنهم يحتفلون بالفصح لكنهم فعلوا هذا باطلاً لأنهم اضطهدوا الرب. بشهادتهم لم يعد يحمل الفصح اسم الرب، إذ دعى فصح اليهود (يو 6: 4) لا فصح الرب... لأنهم جحدوا رب الفصح.
البابا أثناسيوس الرسولي[54]
v لقد أُبطلت هذه (الذبائح) جميعها حتى تتحقق شريعة ربنا يسوع المسيح الجديدة التي يتممها ليس تحت نير الالتزام (بل بإرداته إذ قدم نفسه فدية).
رسالة برناباس[55]
ج. كانوا يجتمعون للاحتفال بالأعياد الأسبوعية (السبوت) والشهرية والسنوية التي حسبها الرب أعياده هـو، يُسر بها لأنه يجتمع مع شعبه فيملأهم من فرحه الإلهي.
هذه المحافل صارت ثقلاً على الله تبغضها نفسه (إش 1: 14)، فلا يعود يحسبها محافله.
v لم ينسب الرب (هذه الممارسات التي حفظوها) إليه بل حسبها أعمال الخطاة (إذ هي مكروهة بالنسبة له)، سواء كانت الشهور الجديدة أو السبوت أو اليوم العظيم أو الأصوام أو الأعياد.
في الشريعة الخاصة بالسبت نقرأ في سفر الخروج: "... السبت هو راحة مقدسة للرب"... "كلوا، اليوم هو سبت للرب" (خر 16: 23، 28).
العلامة أوريجانوس[56]
د. في أكثر من موضع يؤكد الله لشعبه أنه حين أخرجهم من أرض العبودية لم يقدم لهم شرائع خاصة بالذبائح (إش 1: 12)، حتى لا يظنوا أنه يخرجهم عن عوز إلى عبادتهم أو تقدماتهم إنما ليتمتعوا هم به... يقول البابا أثناسيوس الرسولي إن الله أراد أن يسحبهم بعيدًا عن الأوثان ويجتذبهم إليه، مقدمًا لهم الشرائع في الوقت المناسب (بعد خروجهم)، ومع هذا نسوا الله الذي صنع معهم عجائب في مصر وعادوا يعبدون العجل (خر 16: 3). لقد جاءت الشرائع الخاصة بالذبائح بعد استلامهم الناموس حتى لا يقدموها للأوثان بل لله الحق. كان المطلوب منهم أن يتعلموا أولاً ترك الأوثان والاهتمام بوصايا الله وبعد ذلك تقديم الذبائح (إر 7: 22)[57].
v لا يقبل منكم الذبائح، ولا أمركم أولاً بتقديمها عن احتياج إليها إنما بسبب خطاياكم.
القديس يوستين الشهيد[58]
هـ. يقول: "من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري؟!" [12]. فقد أكثروا الدخول في الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر، فرآهم الله - في عدم توبتهم - أشبه بالحيوانات التي تدوس بيته وتدنسه! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صبّ غضب الله.
جاءوا بتقدمات كالبخور الذي يرمز إلى الصلاة، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه (إر 2: 27) صار بخورهم مكرهة للرب، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم.
v الأعمال التي تُمارس بطريقة تضاد إرادة الله، أو تقدم في غير وقار لائق لا تنفع شيئًا... الله غير محتاج إلى شيء، مادام لا شيء يجعله دنسًا! لقد بلغ إلى النهاية
بسبب تصرفاتهم المملوءة رياءً [11].
البابا أثناسيوس الرسولي[59]
v الرب إلهنا لا يُسر بحفظ مثل هذه الأمور؛ إن وجد بينكم إنسان حانث بقسمه أو لصًا فليكف عن هذا؛ وإن وجد زانيًا فليتب؛ وعندئذ يحفظ سبوت الله العذبة الحقة. إن كان لأحد أيد غير طاهرة فليغتسل ويتطهر.
الشهيد يوستين[60]
7. دعوة للتوبة:
فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرًا بشاعة الفساد الذي حلّ بهم دون أن يُحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوي السماوي قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التي خلفهم عليها. هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب، أما خطواتها فهي:
أ. الاغتسال: بقوله "اغتسلوا" [16] لا يقصد التطهيرات الناموسية، لأنه في اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجي للعبادة، إنما عنى اغتسال المعمودية[61] الذي فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا. هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية "حممتك بالماء" (حز 16: 9)، إذ جاء في نفس السفر "وأرشّ عليكم ماءً طاهرًا فتطهرّون من كل نجاساتكم... وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم" (حز 36: 25-26).
في العهد القديم لا يستطيع الكهنة أن يدخلوا الهيكل مالم يغتسلوا أولاً وإلاَّ يموتوا (خر 30: 19-21)، ويقول المرتل: "أغسل يديّ في النقاوة فأطوف بمذبحك يارب" (مز 26: 6). إنه غسل داخلي! يقول القديس الذهبي الفم: [ لا يقصد غسل الماء الذي مارسه اليهود وإنما غسل الضمير[62]].
"تنقوا" [16]، إن كنا بالمعمودية نلنا الإنسان الجديد، إنما نلنا إمكانية جديدة لنمارس الحياة الجديدة في المسيح، التي هي نقاوة القلب، كشرط لرؤية الله، إذ يقول
الرب: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5).
v إذ تدخلون الجرن الصالح العظيم المجد اجروا بوقار في سباق الصلاح. فإن ابن الله الوحيد الجنس هو حاضر هنا ومستعد ليخلصكم، قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). لقد أرتديتم ثوب معاصيكم الخشن ورُبطتم بحبال خطاياكم، الآن اسمعوا قول النبي: "اغتسلوا، تنقوا فتُمحى خطاياكم من أمام عيني" حتى ترنم جوقة الملائكة فوقكم قائلة: "طوبى للذي غفر اثمه وسُترت خطيته" (مز 32: 1). يا من تشعلون مشاعل الإيمان احفظوها في أيديكم غير مطفأة.
القديس كيرلس الأورشليمي[63]
v إذن إن كنا بالغتسال (في المعمودية) كما يقول النبي، في ذلك الجرن السرّي، تتطهر إرادتنا ويُنزع الشر عن نفوسنا، فإننا بهذا نصير أناسًا أفضل فنبلغ حالاً أحسن.
القديس غريغوريوس النيسي[64]
ب. "اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينيّ" [16]. إذ ينال الإنسان النقاوة التي بها يُعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهي، فيرفض كل ما هو شر، حتى لا يعرج بين الطريقين: الله والخطية.
نوالنا سر الاغتسال والتنقية يهبنا إمكانية إلهية للعمل الجاد في اكتشاف أنفسنا بالرب لندخل في غسل مستمر (بالتوبة) وتطهير من كل ما يتعلق بداخلنا من شر... نعترف لله بخطايانا فننعم بمصاعد مستمرة نحوه حتى نراه وجهًا لوجه.
v ها أنتم ترون أنه في سلطانكم أن تُودعوا في قلوبكم إما مَصاعد أي أفكارًا تخص الله أو مهابط أي أفكارًا منحطة نحو الجسديات والأرضيات.
الأب سيرينيوس[65]
نعترف بخطايانا ونعتزل شرنا فنرى الله فينا يعلن ذاته ومجده داخلنا. وكما يقول القديس أغسطينوس:[اظهر ذاتك لذاك الذي يعرفك فيكشف هو ذاته لك يا من لا تعرفه[66]].
"كفـوا عن فعل الشـر" [16]. إن كنا بالتوبة الصادقة نعزل الشـر عن عيني
الرب، فإن علامة إخلاصنا له أن نكف تمامًا عن كل عمل شرير. هذه عطية إلهية لكنها لا توهب دون طلبها بإيمان والحاح، مع جهاد ومثابرة.
v إنه يود أن يقدم فرصة للتوبة لكل محبوبيه، مُثبتًا إياها بإرادته القادرة إذن، فلنطع إرادته العظيمة الممجدة؛ وإذ نضرع طالبين رحمته وحنو ترفقه، تاركين كل عمل بطال وخصام وحسد يقود إلى الموت، نعود إليه ونلقي بأنفسنا في مراحمه.
القديس إكليمندس الروماني[67]
ج. "تعلموا فعل الخير" [17]: لا يكفي الجانب السلبي، أي نزع كل ما هو شر والكف عنه دائمًا وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابي، نحمل سمة المسيح الذي هو "الحق" فينا. نطلب "الحق" أي نطلب مسيحنا الحيّ ساكنًا فينا وعاملاً بنا، نمارس عمل المسيح محب البشر والمهتم بالمظلومين والمحتاجين والضعفاء. لهذا يوصينا "اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة". هذه هي التوبة الإيجابية التي خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر والظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملي والرحمة، خاصة تجاه العاجزين والأرامل.
v ليتنا نمد أيدينا نحن جميعًا - رجالاً ونساء - لهن، فلا نسقط تحت أحزان الترمل. لنتعهدهن فنعد لأنفسنا مخزنًا عظيمًا من الحنان، فإن دموع الأرامل تقدر أن تفتح السماء عينها. ليتنا لا نطأ عليهن فتزداد مصائبهن بل نساعدهن بكل وسيلة.
القديس يوحنا الذهبي الفم[68]
v أنظروا كيف أنه في كل موضع يحسب الله أعمال الرحمة العظيمة، فإنها تقف في صالح المخطئين.
القديس يوحنا الذهبي الفم[69]
د. الحب العملي تجاه المتألمين والمعوزين هو انعكاس طبيعي لخبرتنا مع الله المترفق بنا، الذي لا يتعالى علينا بل يطلب الحوار معه كأصدقاء له. يفتح أبواب مراحمه أمامنا نحن الخطاة، قائلاً: "هلم نتحاجج يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف" [18].
هذه دعوة إنجيلية صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب.
الله في حبه وإن كان قد أثبت دينونة بني يهوذا المرعبة لكنه سرعان ما يطلب المصالحة. أنه ليس كالإنسان يوجه العناد بالعناد، والغضب بالغضب، إنما يسكب زيتًا مرطبًا على الجراحات الملتهبة، ليرد كل نفس إليه .
الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه في حوار، بينما نجد أحيانًا بعض الأباطرة المسيحيين أغلقوا الباب أمام من أخطأوا، بل وأحيانًا نجد الرعاة حتى الوالدين يحملوا ذات الروح الغريب عن روح الله محب البشر.
الله يُريد أن يغسل دم خطايانا (القرمز والدودي) بدمه الطاهر فنصير كالثلج في البياض والصوف في النقاوة (نش 8: 5)، نصير ثوبه المضيىء كما في تجليه.
يرى البعض أن كلمة "نتحاجج Cheyene" هنا تعني نضع حدًا للتحاج، إذ يدرك الله أنه لم يعد أمام الإنسان ما ينطق به بسبب خطاياه التي صارت ظاهرة كاللون القرمزي الذي لا يُمحى، لهذا أراد أن يخرجه من المأزق ويفتح له باب الصفح الإلهي حتى لا يجرح مشاعره... حب إلهي عجيب!
بدعوته الموجهة إلينا لكي نتحاجج معه يسألنا أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، فإننا إذ ندرك خطايانا ونعترف بها فهو أمين وعادل لكي يغفرها لنا (1 يو 1: 9). نحكم على أنفسنا فلا يُحكم علينا.
v ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر، حتى وإن عبر إلى العادة في صنع الشر، نعم حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف... عظيمة هي قوة التوبة، فإنها على الأقل تجعلنا كالثلج، نبيض كالصوف، حتى وإن كانت قد ملكت الخطية علينا وصبغت نفوسنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم[70]
v إنه لا يذكر استحقاقاتنا الرديئة إنما لا يزال يتحنن علينا ويحثنا على التوبة[71].
v في سلطان الله وحده أن يهب مغفرة الخطايا وأن يتهمنا بالمعاصي إذ يأمرنا أن نغفر لإخوتنا التائبين كل يوم "فيغفر لنا" (مت 6: 14)[72].
القديس إكليمندس الروماني
هـ. تقديس الحرية الإنسانية: يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدًا، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختياريه؛ يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفي نفس الوقت يترك له حرية الاختيار، إذ يقول: "إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" [19-20].
v ها أنتم ترون أنه يجب علينا أولاً أن نطهر أنفسنا (أي نحمل إرادة مقدسة) وعندئذ يُطهرنا الله[73].
v نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو آلة للبر[74].
v يمكن للإنسان أن يتغير فجأة ويتحول من خزف إلى ذهب. ما يخص الفضيلة والرذيلة ليس (إلزاميًا) بالطبيعة، إنما يمكن تغييرة بسهولة... إنني أعلم أن الكل يرغبون أن يطيروا إلى السماء من الآن، لكن الحاجة إلى إظهار الرغبة بالعمل[75].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بقوله هذا [19] يبرهن أن القبول أو الرفض يعتمد علينا.
القديس إكليمنضس السكندري[76]
يلاحظ هنا أن خطوات التوبة الواردة في [16-17] سبع: خطوتان سلبيتان في عدد 16( الاغتسال والكف عن الشر) وخمس خطوات إيجابية وردت في العدد 17، يلزم ممارستها.
8. عتاب من واقع الماضي:
يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلاً وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها، بأسـلوب مملوء رثاء وحزنًا عميقًا. إشعياء النبي صريح كل الصـراحة، لكنه مملوء حبًا وعاطفة!
أ. كانت أورشليم "القرية الأمينة" [21]، وقد صارت "زانية". يشبهها بالعروس التي كانت مخلصة لعريسها السماوي، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها، وقد جرت وراء آخر (العبادة الوثنية) فتنجّست بزناها الروحي مع محبيها (حز 16: 25، 32، 36). كانت عذراء (إش 37) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات.
v يمكنك القول بأن الله الكلمة ترك مجمع اليهود كزانٍ، فارقه وأخذ لنفسه زوجة زنا من الأمم، لأن هؤلاء الذين كانوا "صهيون المدينة الأمينة" صاروا زناة، بينما أولئك صاروا مثل راحاب الزانية التي قبلت جاسوسي يشوع وخلُصَت هي وكل بيتها (يش 6: 5).
العلامة أوريجانوس[77]
ب. كانت "ملآنة حقًا، كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون" [21]. كانت مسكنًا للقدوس الذي هو "الحق" و "العدل"، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته، لكنها صارت مسكنًا للقتلة، لذا يقول الرب "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه" (مت 8: 10، لو 9: 58). حين تكون مقدسة تقول: "حبيبي لي، بين ثديي يبيت" (نش 1: 13)؛ لكنها متى تنجست يصير قلبها "بين ثدييها" مسكنًا للشر.
ج. تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلاً يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها. صار خمرها مغشوشًا بالماء [22] يحمل لون الخمر لكنه مغشوش ماءً... هذه صورة عن الأهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الاهتمام بالأعماق. مسيحنا يحول الماء خمرًا، أما الشرير فيحول الخمر ماءً.
الفضة تُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6)، والخمر يُشير إلي فرح الروح. الانسان الشكلي يتمسك بكلمة الله، وربما يحفظها عن ظهر قلب لكنه لا يحمل المسيح "كلمة الله" في قلبه ولا في سلوكه. له منظر الفرح الروحي وهو بعيد كل البعد عن الحياة السماوية المفرحة وشركة الملائكة والقديسين في الرب.
تشير الفضة إلى كنوز الغني، ويشير الخمر إلى الحب والعاطفة؛ فالشكلي في إيمانه يلجأ إلى حكمة العالم ككنز غاش له مظهر الفضة الثمينة وهو زغل؛ ويبدو مملوء حبًا وعاطفة بينما يحمل قلبه ماء (بلا حرارة).
يرى القديس إيريناؤس أن الشيوخ اعتادوا على خلط خمر وصايا الله البسيطة بماء التقليد البشري المضاد لكلمة الحق[78]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزى: [لسنا مثل الكثيرين القادرين على على افساد كلمة الحق ومزج الخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز 104: 15) بالماء، أي خلط تعليمنا بما هو مبتذل ورخيص ودنيَّ وبال وبلا طعم[79]].
د. "رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص" [23]، أي يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة. كان يليق بالرؤساء أن يدبروا أمور الشعب ويرعونهم، فإذا بهم يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتصبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة. يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية، ولا يبالون بالأيتام والأرامل، لأن المجد الزمني شغلهم عن التفكير فيهم. حوّلوا أورشليم "كنيسة المسيح" إلى بيت للظلم والقسوة والعنف.
عوض أن تكون القيادات مثالاً حيًا للشعب في الخضوع لكلمة الله وممارسة الحياة التقوية صاروا عثرة لهم. يقول القديس إيريناؤس: [بدأ الكتبة والفريسيون منذ عصور الناموس يحتقرون الله ولا يقبلوا كلمته، أي لم يؤمنوا بالمسيح[80]].
9. الديان يتقدم كمخلص:
أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدي، وإنما يقوم "رب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل" [24] كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حلّ بهم.
يلاحظ هنا الآتي:
أ. دعى الله بثلاثة ألقاب [السيد (يهوه)، رب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل]. يرى بعض الدارسين انها إشارة خفية عن الثالوث القدوس. فالآب غير المدرك ولا منظور (يهوه = أنا هو)، والكلمة الذي تجسد ليقود المعركة ضد عدو الخير واهبا لجنوده كل نصرة روحية، والروح القدس القدير الذي يعمل في المؤمنين ليشكلهم على صورة المسيح فيجدوا لهم نصيبًا في حضن الآب.
وحملت أورشليم 3 ألقاب: مدينة العدل، القرية الأمينة، صهيون تُفدى بالعدل [26-27].
ودُعى الأشرار بالقاب ثلاثة أيضًا: المذنبون، الخطاة، تاركو الرب [28].
ب. يحسب الله من يُتلف شعبه حملاً ثقيلاً (إش 23: 24)، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه: "أستريح من خصمائي، وأنتقم من أعدائي" [24].
تبقى أحشاء الرب تحنّ على شعبه حتى يُحطم الشر!
ج. "يُنقِّي أورشليم من الزغل كما بالبورق (ربما يقصد بوتاسا المعادن)"؛ إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر.
إنه ينقينا أيضًا بالتأديب ولو ظهر قاسيًا كالنار:
v مغبوط هو الإنسان الذي يُؤدب في هذه الحياة، فإن الرب لا يُعاقب عن أمرٍ ما مرتين (نا 1: 9 LXX)[81].
v لا يهذب الأب ابنه لو لم يكن يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات نوال الوعد. عندما ينزع الطبيب عنايته عن مريض يُحسب هذا علامة يأسه من شفائه[82].
القديس جيروم
v الله يوبخ لكي يُصلح، ويُصلح لكي يحفظنا له.
القديس كبريانوس[83]
د. "وأعيد قضاتك كما في الأول" [26]. إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان في بدء خلقته فيكون كقاضٍ حكيم.
هـ. يرد لأورشليم أو للنفس البشرية لقبها: "مدينة العدل القرية الأمينة" [26]. إذ تصير الكنيسة - أورشليم الجديدة - مدينة الله - عامود الحق وقاعدته، العروس الأمينة لعريسها. تمتلئ بالمفديين التائبين الحاملين برّ المسيح فيهم، أما تاركوا الرب أو رافضوه فليس لهم موضع في الكنيسة الحقيقية ولا نصيب لهم في الكنيسة السماوية. هؤلاء يمتلئون خزيًا لأنهم اشتهوا العالم - أشجار البطم - وحسبوه جنتهم فضاع العالم وضاعت آمالهم.
يشبّه العالم هنا بالبطمة، لأن اليهود اعتادوا أن يقيموا عبادة البعل والعشتاروت تحت شجرة البطمة.
يُشبه تاركو الرب بالبطمة التي ذبل ورقها، وبالجنة التي بلا ماء [29]، لماذا؟ خلق الله الإنسان كجنة يجد الرب فيها ثمرته حلوة في الداخل. كل ما يحمله الإنسان من طاقات وامكانيات وعواطف وغرائز هي عطايا إلهية أشبه بأشجار مغروسة في جنة يرويها ماء الروح القدس فتثمر بركات لا حصر لها. أما إن حُرِمت منه الروح فتجف وتحرق بالنار، وتتحول كما إلى مشاقة (نسالة كتان) [31]، أي ما تبقى من كتان بعد مشطة ليستخدم وقيدًا للنار.
جبل بيت الرب
في الأصحاحات (2–4) ركز إشعياء أنظاره على أورشليم - جبل بيت الرب - مع أنه لم يفارقها لكن حنينه إليها وشوقه إلى تقديسها لا يقل عن ذات حنين أنبياء السبي الذين عاشوا بالجسد في بابل أما قلوبهم فتعلقت بمدينة الله التي أصابها الخراب.
1. مقدمة [1].
2. جبل بيت الرب [2-5].
3. علة رفض الله شعبه [6-9].
4. بطلان الذراع البشري [10-22].
1. مقدمة:
"الأمور التي رآها إشعياء بن آموص من جهة يهوذا وأورشليم" [1]. كان قلب إشعياء مشغولاً بشعب الله (يهوذا) وبالمدينة المقدسة (أورشليم)، فقد امتلأ حزنًا على ما بلغ إليه الحال، رأى شعبًا ضربه الفساد، ومدينة تهدم هيكلها الروحي فأنتّ أحشاءه عليها.
أمام هذا الحب الخالص وهبه الله بصيرة وقدم له رؤى ونبوات لتعزيته وتعزية كل نفس جريحة من أجل البشرية، قدم له الله كلمته المحيية.
v جاء (الكلمة) إلى (هوشع وإشعياء وإرميا) فأنار الأنبياء بنور المعرفة، وجعلهم يرون أمورًا لم يفهموها في ذلك الحين.
العلامة أور يجين[84]
2. جبل بيت الرب:
ماذا قدم الله لإشعياء الجريح النفس؟ حمله بالروح إلى ملء الزمان ليرى يهوذا الجديد - السيد المسيح - وأورشليم الجديدة حيث يُبنى هيكل الرب ويُقام ملكوت الله في القلب... يرى الجماعة المقدسة قادمة من كل الأمم والشعوب لتعبد الرب بالروح والحق في المسيح يسوع مخلص العالم، لذا قال: "يكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم" [2].
يرى البعض أن هذه النبوة اقتبسها إشعياء عن ميخا النبي (4: 1-5)، أو ربما اقتبسها الإثنان عن مصدر سابق. لكن ما الذي يمنع الروح القدس من أن يهب ذات العطية - النبوة - للنبيين ولغيرهما إذ يجد فيهم القلب المخلص والملتهب نحو خلاص الإنسان وبنيانه، فيقدمها لإشعياء في أيام آحاز ولميخا في أيام حزقيا لتأكيد أن ما ينطق به الوحي لن يسقط[85].
سحب الرب قلب إشعياء إلى ملء الزمان ليرى السيد المسيح الذي يُقيم كنيسته عليه شخصيًا بكونه صخر الدهور، الجبل الذي رآه دانيال النبي المقطوع بغير أيدى الذي يملأ الأرض (دا 2: 34، 45)، الصخرة الحقيقية التي تفيض مياه الروح على شعبه (1 كو 10: 4) والتي لا تستطيع الحية أن تزحف عليه لتقترب إلى شعبه.
يقول القديس أغسطينوس: [الجبل كما تعلمنا الشهادة النبوية هي الرب نفسه[86]].
v توجد أيضًا جبال غير معروفه لأنها قائمة في مواضع معينة في الأرض... أما هذا الجبل فغير ذلك إذ ملأ كل وجه الأرض، عنه قيل "يكون ثابتًا في رأس الجبال" إنه جبل قائم فوق قمم كل الجبال، "تجرى إليه كل الأمم".
من يعجز عن إدراك ما هو هذا الجبل؟!
من هو هذا الذي يُحطم رأسه بمقاومة هذا الجبل؟!
من يجهل المدينة القائمة على الجبل؟!
لا تتعجبوا إن كات هذه المدينة مجهولة بالنسبة للذين يكرهون الاخوة، إذ يسلكون في الظلمة ولا يعرفون إلى أين يذهبون، لأن الظلمة أعمت أعينهم. إنهم لا يرون الجبل.
أُريدكم ألا تتعجبوا، فانهم بلا أعين؛ كيف؟ لأن الظلمة أعمتهم. برهن على ذلك؟ لأنهم يبغضون الاخوة!
القديس أغسطينوس[87]
أسس الرب كنيسته حين ارتفع على جبل التجربة (مت 4: 8) ليهبها روح الغلبة والنصرة على قوات الظلمة؛ ذهب بنفسه إلى الجبل، وكما يقول القديس جيروم: [لم يصعد كمن هو مُلزم أو من هو أسير، إنما أُقتيد باشتياق إلى المعركة]، وأيضًا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ذهب الشيطان إلى الإنسان (آدم) ليجربه، لكن إذ لا يستطيع الشيطان أن يُهاجم المسيح ذهب المسيح إليه].
أسس أيضًا كنيسته على جبل التعليم (مت 5: 1) حيث قدم لشعبه وصيته سرّ حياة. وأيضًا على جبل تابور حيث أعلن بهاءه ودخل بكنيسته إلى السموات عينها (لو 9: 41)، وأخيرًا على جبل الجلجثة حيث تنعم بعريسها الذبيح مخلص البشرية بدمه الثمين. على هذا الجبل بسط الرب يديه على الصليب ليجتذب إليه الكل (يو 12: 32)، لهذا يكمل النبي قائلاً: "وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب" [2-3].
معروف أن الشريعة صدرت من جبل سيناء للشعب اليهودي، لذا فهو يتحدث عن شريعة جديدة تصدر من أورشليم موجهة إلى المسكونة كلها.
v هذه الشريعة ليست ملكًا لأمة واحدة بل لكل الأمم، فإن شريعة الرب وكلمته لا تبقيان في صهيون وأورشليم بل تنتشران في كل المسكونة. لذلك يقول الشفيع نفسه لتلاميذه الخائفين: "هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير..." (لو 24: 44-47). هذا هو الطريق المسكوني لخلاص النفس الذي سبق أن أعلنه الملائكة والأنبياء القديسين[88]...
v هناك (في أورشليم) أخبر التلاميذ: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والأبن و الروح القدس" (مت 28: 19)[89].
v يتعين أن يُعطى (الروح القدس) بعد قيامة المسيح في ذات المدينة التي تبدأ فيها الشريعة الجديدة - أي العهد الجديد - فإن الشريعة الأولى، التي تدعى العهد القديم أُعطيت على جبل سيناء خلال موسى، أما هذه فأعطيت بالمسيح كما سبق التنبؤ عنها
"من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب"[90].
القديس أغسطينوس
ويلاحظ في هذه الكنيسة المؤسسة على جبل الجلجثة والمُنطلقة من أورشليم تحمل قوة الروح القدس الآتي:
أ. كنيسة ثابتة، تقوم على جبل بيت الرب الثابت [2]، يدعوها الرسول بولس "جبل صهيون" قائلاً: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 22-23). سرّ قوتها وثباتها هو الرب نفسه الذي يقدسها له ويرفعها إلى سمواته فتحمل سماته.
ب. عالية في رأس الجبال [2]؛ لقد صارت نور العالم، تجاهر بالحق علانية دون خوف (أع 16: 26). أعضاؤها قائمون بالجسد على الأرض أما قلوبهم وأفكارهم فمرتفعة كما فوق الجبال العالية تسبح في جو السماء. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يكفي انك لا تبقى على الأرض ولا تسكن الوديان ولا تبطىء في الأماكن المطمورة[91]].
ج. جذابة للأمم والشعوب [2-3]: أبوابها مفتوحة للجميع، تحمل أمومة حب نحو كل البشرية مستمدة من حب عريسها الجامع لكل البشر.
د. عملها المستمر أن تصعد بالبشر [3]. بالحب تنزل إليهم دون أن تفقد قدسيتها أو طبيعتها السماوية لكي ترفع الكل بروح الله القدوس إلى أورشليم العليا فيمارسوا الحياة الجديدة السماوية في المسيح يسوع.
هـ. رسالتها اعلان طريق الرب [3]، تحمل كلمته إلى كل نفس وتقدم وصيته ليعيشها كل مؤمن، فينعم بشريعة الحرية (غل 4: 26).
و. تعلن أحكام المسيح العادلة، حيث يخضع المؤمنون من كل الأمم لملكوته وسيادته، كسيادة روحية فريدة في نوعها.
ز. تهب سلامًا بين النفوس المقدسة له، إذ لا يرون لهم أعداء بشريين على كل وجه الخليقة. لهذا يقول: "فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناحل؛ لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد" [4]. المسيحي يمتلىء قلبه سلامًا حتى تجاه مقاوميه، فتتحول طاقاته الداخلية من الصراع إلى العمل البنَّاء، من أدوات حرب إلى أدوات انتاج للرخاء.
كلمة الله تُحوّل الأرض سماءً، فيحل السلام السمائي في حياة البشر، وتُقام مملكة السلام أو ملكوت الله المفرح في داخلهم التي لا تستطيع عداوة الناس ولا قسوة الأحداث أن تهزها.
v خرج من أورشليم إلى العالم رجال هم اثنا عشر بالعدد؛ كانوا أميين ليس لهم قدرة على الكلام، لكنهم بقوة الله أعلنوا لكل جنس البشر أنهم مرسلون من المسيح ليعلموا الجميع حكمة الله. ونحن الذين كنا قبلا نُقاتل بعضنا البعض ليس فقط امتنعنا عن الحرب ضد أعدائنا بل وصرنا لا نكذب ولا نخدع الذين يفحصوننا (للمحاكمة) ونموت بإرادتنا معترفين بالمسيح.
الشهيد يوستين[92]
ح. التمتع بالمسيح "نور الرب"، إذ سمع إشعياء النبي: "يا بيت يعقوب هلم نسلك في نور الرب" [5]. السيد المسيح الحاّل في كنيسته هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب 1: 3)، هو شمس البر والشفاء في أجنحتها (ملا 4: 2). يشرق على كنيسته فتصير هي ذاتها نورًا للعالم، تقدم النور للجالسين في ظلمة الخطية، تُقدم مسيحها لكل أحد.
هذه الدعوة الموجهة لبيت يعقوب للسلوك في نور الرب هي دعوة لرفع برقع الحرف عن الناموس لكي يكتشف بيت يعقوب "المسيا" المختفي وراء الكلمات، تتمتع بكلمة الله لا كوصايا حرفية وإنما كشركة مع المسيح النور الحقيقي.
من هم بيت يعقوب؟ يُجيب الشهيد يوستين: [يليق بنا هنا أن نلاحظ وجود نسلين ليهوذا، يوجد نسلان، كما يوجد بيتان ليعقوب؛ واحد مولود من لحم ودم والآخر من الإيمان والروح[93]].
3. علة رفض الله شعبه:
يُقارن النبي بين تصرفات شعبه المعاصرين له وتصرفات الأمم في المستقبل حيث يقبلون الايمان بالله المخلص ويدخلون ملكوت السلام وينعمون ببركات فائقة بسكناهم في جبل بيت الرب.
رفض بيت يعقوب الله عمليًا بالرغم من اهتامه الشديد بحرفية العبادة لذا رفضه الله، وكان ذلك رمزًا لرفض اليهود لشخص السيد المسيح تحت ستار دفاعهم عن الحق وغيرتهم على شريعة موسى.
قدم الله أربعة أسباب لرفض الشعب، وهي: التشبه بالغرباء، حبهم لغنى العالم، اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية، قبولهم العبادة الوثنية.
أ. التشبه بالغرباء: "امتلأوا من المشرق" [6].
لقد أفرزهم الله لنفسه ليمتلئوا من روحه ويحملوا حكمته السماوية ويكونوا شهود حق وخميرة مقدسة للعالم، لكنهم فتحوا أبوابهم للغرباء خاصة بني المشرق، يتعلمون منهم السحر والعبادة الوثنية والرجاسات عوض الشهادة أمامهم بعمل الله فيهم. من أجل المكسب المادي والانغماس في الرجاسات شجعوا الوثنيين على الإقامة في وسطهم، واختلطوا بهم (هو 7: 8)، وخانوا العهد الإلهي.
يقول أيضًا: "وهم عائفون كالفلسطينيين" [6]. عوض الرجوع إلى الله في كل أمورهم تشبهوا بالفلسطينيين في ذلك الوقت مُلتجئين إلى العيافة والعرافة، مخالفين الوصية الإلهية (لا 19: 26).
ب. انشغالهم بغنى العالم والماديات: "امتلأت أرضهم فضة وذهبًا ولا نهاية لكنوزهم". امتلأت قلوبهم بمحبة المال، فحسبوه قادرًا على إشباعهم، واحتل موضع الله في فكرهم وأحاسيسهم.
ج. اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية: "امتلأت أرضهم خيلاً ولا نهاية لمركباتهم" [7]. اتكلوا على الخيل والمركبات عوض الإيمان والرجوع إلى الله.
د. قبولهم العبادة الوثنية [8].
هذه هي الأسباب التي من أجلها رفض الله شعبه، أما ثمرة ذلك فهو الانحدار المستمر عوض النمو والصعود [9]. انهيار في كل جوانب الحياة عوض التقديس بالتمام بالرب الصاعد إلى السموات.
4. بطلان الذراع البشرى:
إن كان الله قد رفض شعبه فلأن شعبه مُصرّ على رفض الله بكل وسيلة، لكن الله يبقى في حبه مترفقًا بهم وبكل البشرية معلنًا خلاصه للإنسان.
إذ تعاظم الإنسان جدًا في عيني نفسه وتضخمت الأنا، يعلن الرب بهاءه فيتصاغر الإنسان ويطلب الخلاص. يدخل كما في صخرة ويختبىء في التراب أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته [10]. عندما ظهر الله لإبراهيم أدرك أب الآباء أنه تراب ورماد، وعندما رأى موسى مجد الرب ارتعب وارتعد، وهكذا التصقت نفس أيوب في التراب. ليس شيء يُحطم كبرياء الإنسان مثل ملاقاته مع الله. يتحطم الكبرياء ولا تتحطم نفسه بل تُشفي وتمتلئ رجاء في الرب.
ما هي الصخرة التي نختفي فيها أمام العظمة الإلهية إلاَّ السيد المسيح، إذ فيه نجد لأنفسنا ملجأ أمام العدل الإلهي. لذلك عندما اشتهي موسى النبي أن يرى المجد الإلهي قيل له: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش... هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة (المسيح صخرتنا) ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة (الاتحاد مع المسيح) واسترك بيدي حتى أجتاز" (خر 33: 20-21).
مادمنا نتكئ على مسيحنا الصخرة الحقيقية ونثبت فيه ونوجد كما في نقرة داخله نرى بهاء المجد الإلهي، أما إن اتكلنا على أنفسنا أو على الذراع البشري فإننا نهلك ونحرم من معاينة الله .
يُشبه النبي تشامخ الإنسان بالآتي:
أ. "أرز لبنان العالي المرتفع وكل بلوط باشان" [13] تُشير إلى الاتكال على غنى موارد الطبيعة، كما تُشير إلى الملوك والقادة المتعجرفين مثل رَبْشاقي.
ب. "الجبال والتلال الشامخة" [14]، تُشير إلى الصلابة والجمود، وربما تعني أيضًا الممالك الكبرى والممالك الصغرى التي قانونها الكبرياء مع العنف.
ج. "الأبراج العالية والأسوار المنيعة" [15]، تُشير إلى الاتكال على أعمال البر الذاتي، فالإنسان قادر أن يرتفع إلى فوق يُحصِّن ذاته ضد كل عدو؛ لعلها تُشير إلى المدن الحصينة.
د. "سفن ترشيش والزينات والأعلام المبهجة" [16]، تُشير إلى الانهماك بالتجارة والمال مع الترف والغنى على حساب الاهتمام بالنفس.
التشبيهات السابقة كلها تدور حول اعتداد الإنسان بذاته وبإمكانيات الطبيعة ومواردها مع تقدمه المستمر حاسبًا أنه قادر بنفسه على خلق جو من الشبع والفرح والسلام مع آمان واستقرار في العالم متجاهلاً الذراع الإلهي. لهذا فهو محتاج أن يتجلى الرب له ليكشف له عن زوال كل هذه الأمور خاصة في يوم الرب العظيم.
ارتبط الكبرياء بالعبادة الوثنية لهذا يؤكد النبي أنه عندما يكتشف الإنسان عجز الأوثان يلقي بها أمام الجرذان والخفافيش [20] مستخفًا بها، عوض أن يأخذها معه في أسفاره لمساندته. عوض تكريمها في أماكن للعبادة يلقى بها في أماكن ظلمة مهجورة تلهو بها الفئران والخفافيش.
أخيرًا يدرك الإنسان خطأ الاتكال على الذراع البشري، فيقول النبي: "كفوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة، لأنه ماذا يُحسب؟!" [22]. ليصمت كل إنسان مهما بلغت عظمته أو قدرته أو غناه، فإنه تخرج نسمة حياته فلا يكون بعد في العالم. تخرج روحه فيعود إلى التراب (مز 104: 29).
مجاعة مهلكة
خلق الله العالم بكل إمكانياته المدركة وغير المدركة من أجل سلام الإنسان وسعادته، حتى يفرح كل بشر بالله محبوبه، متكأ عليه، مشتاقًا أن ينعم بشركة حب أعمق. أما وقد انشغل الإنسان بالعطية لا العاطي استند على "كل سند خبز وكل سند ماء" [1]. صار الإنسان يفتخر بغناه وقدراته وكثرة خبراته وجماله عوض افتخاره بالرب واتكاله عليه. لهذا ينتزع الله العطايا ويحرم الإنسان من البركات الزمنية، لا للإنتقام منه ولا لإذلاله أو حرمانه وإنما لكي يرجع بقلبه إلى الله مصدر حياته وشبعه وسلامه وفرحه ومجده فينال في هذا العالم أضعافًا وفي العالم الآتي حياة أبدية؛ ينال الله نفسه نصيبًا له وميراثًا!
هنا يُهدد النبي بحدوث مجاعة وحرمان وتحطيم للإثنى عشر عمودًا التي تتكئ عليها الجماعة [للخبز والماء، الجبابرة (القادرين) ورجال الحرب، القضاة، الأنبياء، العرافين، الشيوخ، رؤساء الخمسين، المعتبرين، المُشيرين الماهرين بين الصناع، الحاذقين بالرقي]. لقد أنتزع الرب الموارد الطبيعية خلال المجاعة والطاقات البشرية خلال السبي حتى يرجعوا إليه.
1. انتزاع سند الخبز وسند الماء [1].
2. انتزاع القيادات الناضجة [2-15].
3. انتزاع إمكانيات الترف والتشامخ [16-26].
1. انتزاع سند الخبز وسند الماء:
"فانه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن وكل سند خبز وكل سند ماء" [1].
حين يسمح الله لأورشليم ولبني يهوذا، شعبه العروس، أن تصير في عوز إلى الخبز والماء إنما يُحطم السند والركن لعلها تعود فتفكر في الاتكاء على حبيبها (نش 8: 5) لتجد فيه شبعها وارتواءها.
لقد انتزع الله من شعبه رائحة اللحم والكُرَّات والبصل بإخراجهم من مصر لكنه
وهبهم المن السماوي في البرية وسار بهم إلى أرض تفيض عسلاً ولبنًا؛ حرمهم من مياه الترع ليُقدم لهم الصخرة التي تتبعهم تفيض ماءً، وكانت الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4). الله يحرمنا من السند الزمني ليصير هو سندنا وخبزنا السماوي والينبوع الحيّ الذي يروي نفوسنا بكل طاقاتها.
هنا يُهدد النبي بحدوث مجاعة كثمرة للعصيان (لا 26، تث 28)، وقد تحقق ذلك في التاريخ عند خراب السامرة وأورشليم.
ما هو أخطر، حدوث جوع لكلمة الله كما جاء في عاموس النبي: "هوذا أيام تأتي بقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).
v (كلمة الله) طعام للنفس، وحليها، وآمانها، ففي عدم الاستماع لها مجاعة وحرمان!
القديس يوحنا الذهبي الفم[94]
2. انتزاع القيادات الناضجة:
أقام الله لشعبه قيادات ناضجة قادرة على العمل مثل موسى العظيم في الأنبياء وداود الملك البار ودبورة النبية والقاضية الخ... لكن الشعب انحرف مع قياداته العسكرية والقضائية والمدنية والروحية. اتكلوا على الذراع البشري بقدراته وفكره وظنوا أنهم ينجحون ويتقدمون بالرغم مما حلَّ بهم وبقياداتهم من فساد. لهذا انتزع الله منهم القيادات الناضجة الحكيمة ليتركهم يقيموا لأنفسهم قيادات ضعيفة وعاجزة، فيدركوا حاجتهم إلى العون الإلهي حتى في التمتع بقيادات حيّة وقوية.
"(ينزع) الجبار (القدير) ورجل الحرب؛ القاضي والنبي والعرّاف (المتدبر) والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمُشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية (الحاذق في الخطابة)" [2-3].
ربما قصد بانتزاعهم ليس طردهم ولا موتهم وإنما تجريدهم مما وهبهم من قدرات وإمكانيات، فيضعف الجبابرة وينهار رجال الحرب أما العدو ويفقد القضاة الحكمة وتفسد بصيرة الأنبياء الكذبة الخ... بهذا يجني الشعب ثمرة اتكاله على الذراع البشري، إذ يجد نفسه منهارًا في الداخل والخارج.
هذا ما يحل بالإنسان الرافض لعمل الله فيه؛ تُنزع النعمة الإلهية (القدير) عنه؛ ويُحرم من الشركة مع السمائيين (رجال الحرب الروحيين) ليجد نفسه بلا عون إلهي ولا سند سماوي؛ ويفقد مواهب الروح من حكمة (القاضي) وتمييز (النبي)، ولا يستطيع أن يأخذ قرارًا (انتزاع المتدبر والشيخ)؛ ويشعر بالفشل حتى في عمله الزمني (انتزاع الماهر في الصناعة)؛ ويعجز حتى عن الكلام (انتزاع الحاذق في الخطابة). بمعنى آخر يفقد الإنسان حياته وقدراته حتى الطبيعية ليعيش في فراغ داخلي وفساد وفشل بالرغم مما يحمله من مظاهر القوة والحكمة والغنى والنجاح.
والآن إذ ينتزع الله القيادات الناضجة ويفقد الإنسان نعمة الله، ماذا يحدث؟
أ. "وأجعل صبيانًا رؤساء لهم وأطفالاً تتسلط عليهم" [4]. حين ملك رحبعام بن سليمان قَبِل مشورة الأحداث المتسرِّعة العنيفة والمتطرفة ورفض مشورة الشيوخ الحكيمة المتزنة والمملوءة حبًا وترفقًا (1 مل 12)، فانقسم الشعب وحلت الحروب الداخلية بين الأسباط، وسادت العداوة عوض الحب والوحدة.
الله محب للشباب، يسندهم ويطلب نموهم المستمر، لكن ماعناه هنا بالصبيان والأطفال هو عدم النضوج الروحي والفكري. لقد كان يوحنا المعمدان جنينًا ناضجًا روحيًا، شهد للسيد المسيح وهو بعد في أحشاء البتول مريم، بينما كان كثير من الكتبة والفريسيين والصدوقيين والكهنة ناضجين من جهة السن دون الروح، فكانوا يسلكون كصبيان، يطلبون قتل السيد المسيح والتخلص منه. هكذا نرى في تاريخ شعب الله منذ نشأته حتى اليوم كثير من الشباب قادة ناضجين بينما نجد رجالاً وشيوخًا سلكوا بروح الطفولة غير الناضجة. لذا يوصى الرسول جميع المؤمنين: "كونوا رجالاً" (1 كو 16: 13)، بمعنى النضوج والقوة الروحية، إذ يليق بكل المؤمنين: رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخًا وشبابًا أن يكونوا من جهة الروح رجالاً ناضجين.
يُعلق العلامة أوريجانوس على إحصاء الشعب الوارد في عدد 1 إذ شمل الرجال دون الأطفال أو النساء قائلاً: [يُعلمني النص الحالي أنه إذا اجتذت سذاجة الطفولة، أي توقفتُ عن أن يكون لي أفكار الطفولة، إذ "لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل" (1 كو 13: 11)، أقول قد صرت شابًا قادرًا على الغلبة على الشرير (1 يو 2: 13)، فظهرت كمستحق أن أكون بين الذين قيل عنهم إنهم يسيرون في قوة... وأُحسب أهلاً للتعداد الإلهي. لكن إن كان لأحد منا أفكارًا جسدانية متأرجحة... فلا يستحق أن يُحصى أمام الله
في سفر العدد الطاهر والمقدس[95]].
ربما يُشير إشعياء النبي إلى منسي الذي تولى الحكم وهو في سن الثانية عشرة عندما مات والده حزقيا.
ب. "ويظلم الشعب بعضهم بعضًا والرجل صاحبه، يتمرد الصبي على الشيخ والدنئ على الشريف" [5]. علامة فقدان القيادات السليمة الناضجة اختلال الموازين فيسود قانون الظلم ويحل روح الفوضى في حياة الجماعة كما في داخل الإنسان. إذ لا توجد قيادة صادقة ومخلصة يطلب كل إنسان ما لِذاته على حساب الغير، ويحسب كل واحد أنه أحكم وأفضل من غيره.
أقول حينما يفقد الإنسان قيادة الروح القدس يحل في داخله قانون الأنانية والظلم والتمرد، فيدخل في صراعات بلا حصر بين النفس والجسد وبين العقل والعاطفة والحواس، ويتمرد الجسد على النفس ليمتطى حياة الإنسان بكُلّيته ويقودها في شهوات جسدية مع خنوع واذلال للملذات الزمنية.
ج. الدخول في حالة يأس شديد، خلالها يرفض أي إنسان استلام مسئولية، فيمسك كل إنسان بأخيه ويقول له: "لك ثوب" علامة قبوله رئيسًا، لأن تسليم الثوب للغير هو رمز لتسليم الإنسان جسده تحت قيادة الغير. لكن بسبب ما حلّ بالبلد من خراب مع عجز الجميع عن التصرف يقول كل واحد: "لا تجعلوني رئيس شعب" [7]، معللاً ذلك بقوله: "لا أكون عاصبًا (اضمد الجراحات) وفي بيتي لا خبز ولا ثوب" [7]. هكذا صار الكل في جوع وعري، فمن يقبل الرئاسة؟ من يقدر أن يضمد جراحات شعب كهذا بينما هو نفسه لا يجد طعامًا أو ملبسًا؟ هذا ثمر طبيعي لمن يطلب مخلصًا بشريًا يظن أنه قادر على انقاذه وقيادة حياته دون الالتجاء إلى المخلص الإلهي الفريد. يقول المرتل: "لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني آدم حيث لا خلاص عنده" (مز 146: 3).
د. فقدان الحياء ومخافة الله، إذ صار لهم الوجه المكشوف الذي لا يخجل من ارتكاب الشر: "يُخبرون بخطيتهم كسدوم، ولا يخفونها" [9]. بلغت الخطورة أن أورشليم انحدرت في عثرات متكررة لا عن ضعف أو جهل وإنما عن عمد لإغاظة الرب [9]. ترتكب الشرور بالقول والفعل بلا خجل أو حياء. هذه هي صورة العالم في العصر الحديث إذ يشعر كثير من الشباب أن ما يمارسه من انحرافات في كل صورها هو حق طبيعي للإنسان.
يقول: "نظر وجوههم يشهد عليهم" [9]، فإن مجرد التطلع إلى وجوههم يكشف عن بصمات الخطية وحرمانهم من عمل النعمة عنهم، وكما يقول الكتاب: "أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس" (1 يو 3: 10).
إن كان الأشرار ظاهرين وقد صاروا أغلبية لكنه توجد قلة مقدسة للرب، لن يتجاهلها الله، لا تضيع ولا يصيبها ضررًا، لذا يقول النبي: "قولوا للصديق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم" [10]. في وسط الضيق الشديد يحفظ الرب صديقيه، ويحوّل كل الأمور التي تحل بهم إلى خيرهم ومجدهم. لقد عانى يوسف الصديق الكثير، وكانت أتعابه هي بعينها طريق مجده؛ فنراه يقول لاخوته: "أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد بي خيرًا" (تك 50: 20).
الله لا يُهلك البار مع الأثيم (تك 16: 25)، إنما يحفظ أبراره وقت التجربة، يخفيهم في مظلته في يوم الشر ويسترهم بستر خيمته (مز 27: 5)، يعرفهم إذ نقشهم على كفه (إش 49: 16).
يُعلق القديس يوستين على قول النبي: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لأنفسهم شرًا، قولوا للصديق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم" [9-10]: [حقًا إن يدكم مرتفعة لارتكاب الشر لأنكم قتلتم المسيح ولا تتوبون، إنما لا تزالوا تكرهون وتقتلون من يؤمنون به في الله أب الكل قدر ما تستطيعون، وتلعنوننا دون سبب، وتفعلون هكذا مع الذين يقفون في صفنا. أما نحن فجميعنا نُصلي لأجلكم ولأجل كل البشر كما علمنا مسيحنا رب الكل عندما أمرنا أن نُصلي حتى من أجل أعدائنا وأن نحب مبغضينا ونبارك لأعنينا[96]]. ويقول القديس كيرلس الأورشليمى: [قيدوا يسوع وجاءوا به إلى قاعة رئيس الكهنة. أتُريد أن تعرف أن هذا أيضًا قد كُتب عنه ونُطق به؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لأنفسهم شرًا قائلين: لنُقيد البار فإنه مسبب متاعب لنا"[97]].
لقد ظنوا أنهم يصنعون بالبار شرًا لكنهم كانوا يصنعون ذلك لأنفسهم فيجنون ثمر عملهم لا كعقوبة إلهية للانتقام وإنما كثمر طبيعي لتصرفاتهم وحياتهم. "ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تعمل به" [11]. "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد" (2 كو 9: 6).
هـ. حب السلطة لا رعاية الحب: الرؤساء الحقيقيون أشبه بآباء يحتضنون الكل أبناء لهم، يقدمون حياتهم مبذولة من أجل الشعب، لكن متى أُنتزعت نعمة الله يتحول الرؤساء - حتى الدينيون - إلى متسلطين، لا همّ لهم سوى الدفاع عن مراكزهم وسلطانهم بتبريرات متنوعة تحت ستار الدفاع عن الحق وهيبة المراكز القيادية والقدرة على بتر الشر. هؤلاء يتحولون من آباء باذلين إلى أطفال صغار تسيطر عليهم "الأنا"، أو إلى ما هو أشبه بنساء (رمز للضعف الجسماني) يطلبون السيطرة، إذ يقول: "شعبي ظالموه أولاد، ونساء يتسلطن عليه. يا شعبي مرشدوك مضلون ويبلعون طريق مسالكك" [12].
يرى بعض الدارسين أن هذا تحقق حرفيًا إذ تسلم بعض الصبيان الملك في يهوذا وقامت بعض النساء بأدوار خطيرة في تدبير الأمور. أما من الجانب الرمزي فالمرشدون هنا خاصة الكهنة والأنبياء تسلط عليهم روح التهور وحب السيطرة، فانحرفوا عن الحب الحقيقي والرعاية الأمينة. هؤلاء في نفاقهم يقولون للشرير أنت صِدّيق (أم 24: 24). وكما يقول الحكيم: "صار موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور" (جا 3: 16).
وسط هذا الفساد خاصة من جانب القيادات يتدخل الله من أجل البسطاء في شعبه، فينتصب لمحاكمتهم بكونهم الكرامين الذين أكلوا الكرم عوض الاهتمام به، موبخًا إياهم هكذا: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم؛ ألا يرعى الرعاة الغنم؟! تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم" (حز 34: 2-3). يسلبون حقوق البائسين كما سلبت ايزابل حقل نابوت اليرزعيلي (1 مل 21)؛ يسحقون الشعب ويطحنون وجوه البائسين [15].
3. انتزاع إمكانيات الترف مع التشامخ:
بعد الحديث عن محاكمة القيادات الفاسدة بدأ الحديث عن بنات صهيون المتشامخات، لعلهن كن وراء فساد هذه القيادات. فقد نسيت بنات صهيون انتسابهن لصهيون وللرب وسلكن كالوثنيات في عجرفة مع ترف ولهو.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم توجه هذه الكلمات إليهن وحدهن وإنما هي موجهة إلى كل امرأة تتشبه بهن. يقف بولس أيضًا كمتهم فيقول لتيموثاوس ألا تكون زينة النساء "بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن" (1 تى 2: 9). فإن لبس الذهب ضار في كل موضع خاصة عندما تدخل (المرأة) الكنيسة وتجتاز أمام الفقير. أتريد أن تكوني موضع اتهام؟ احملي مظهر القسوة وعدم الإنسانية[98]].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن حياتنا هي وقت للجهاد الروحي لا للترف في الملبس والتشامخ في المشي[99]. يليق بنا الآن أن نجاهد كما فمعركة روحية فلا نهتم بالمظاهر الخارجية إنما بنوال النصرة والغلبة فسيأتي حتمًا وقت المجد العلني.
مرة أخرى يُطلبنا ذات القديس أن نركز أنظارنا على مسيحنا فنهتم بالزينة الداخلية اللائقة به ولا نطلب الأمور الظاهرة. [لك المسيح عريسك أيتها العذراء، فلماذا تطلبين أن تجتذبي محبوبين بشريين؟![100]].
يُقدم لنا النبي بعض ملامح الخلاعة التي اتسمت بها بنات صهيون:
أ. التشامخ: "وقال الرب من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق..." [16]. لقد سيطر الكبرياء عليهن فصرن متشامخات، يمشين ممدودات الأعناق بعد أن نسين آباءهن وأمهاتهن الذين انحنت أعناقهن تحت نير العبودية في مصر.
"قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح، تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19).
ب. الغمز بالعيون [6]: انشغلن بأصطياد قلوب الرجال وأسرها كثمرة طبيعية لفراغ القلب الداخلي، فنصبن بعيونهن شباكًا للموت، إذ يقول الحكيم: "فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها" (جا 7: 26).
وجاءت كلمة "غامزات" في الأصل بمعنى يُجمّلن عيونهن بمسحوق أسود، إذ كان الشرقيون مغرمين بالعيون الواسعة المحاطة بدائرة سوداء[101].
ج. الخلاعة في المشي: "خاطرات في مشيهن، يخشخشن بأرجلهن" [16]، دلالة على فساد القلب الداخلي. يمشين في عجب وخيلاء ويضعن "خلاخيل" في أرجلهن أو أجراسًا في أحذيتهن للفت النظر إليهن.
ماذا يفعل الرب بهؤلاء البنات المتعجرفات السالكات في لهو وترف؟
أ. "يُصلّع الرب هامة بنات صهيون ويعري الرب عورتهن" [17]. الصلع أو القرعة بالنسبة للفتاة علامة القبح الشديد، فقد وهب الله المرأة الشعر تاج مجد لها لتعيش مكرمة ومحبوبة في الرب، يُعجب بها رجلها ويحبها ويكرمها فتشاركه الحياة الأسرية على قدم المساواة، بكونها الجسد الذي لا يستغنى عنه الرأس. لكنها إذ تخرج عن الناموس الطبيعي بروح الكبرياء واللهو تفقد حتى جمالها الطبيعي وكرامتها فتصير كمن أُصيبت بقرع.
تعرية عورتها كناية عن كشف فساد طبيعتها، أو إشارة إلى عُريها، ليس من يبسط ذيله عليها ويستر حياتها ويهبها اسمه لتحتمي فيه وترتبط به.
هذه هي حالة النفس البشرية الساقطة بالكبرياء، إذ تفقد عطايا الله لها، وينفضح فساد طبيعتها فتصير بلا جمال ولا قوة ولا كرامة، تسخر بها أتفه الخطايا ويلهو بها مجرد الخيال وأحلام اليقظة.
ب. انتزاع كل مظاهر الغنى والزينة من خلاخيل وضفائر وأهله وحلقان وأسوار وبراقع وعصائب وسلاسل ومناطق وحناجر الشمامات (خمارات - طُرَّح) واحراز ومرائي (ملابس شفافة للإثارة الجسدية) وقمصان (ملابس داخلية غالية) وعمائم وأزُر.
هكذا ينزع عنها الزينة الخارجية والملابس الداخلية لتصير في عرى وقبح... لعلها ترجع إلى الله وتطلب أن يستر عليها بنفسه فيصير الرب نفسه ملبسها الساتر عليها (غل 3: 27؛ كو 3: 10).
يسمح الله بهذا التأديب لبنات صهيون لكي تجد في المخلص سرّ زينتها ومجدها.
هنا يُشير إلى ما يحل ببنات صهيون خلال السبي، إذ يقول:
"فيكون عوض الطيب عفونة" [24]؛ بعد أن كن منشغلات بالطيب والروائح الذكية، ينفقن الكثير على ذلك، سُبين بواسطة العدو وحُملن إلى أرض غريبة ينهمكن في العمل دون راحة فتصير رائحة العرق كريهة. هذا ما حدث فعلاً، أما من الجانب الروحي فإن النفس المتكبرة تفقد زينتها الخارجية المخادعة فتنكشف عفونة طبيعتها وفقرها وعريها، لعلها تشعر بالحاجة إلى من يخلصها ويشبعها. وكما قيل لملاك (أسقف) كنيسة اللاودكيين:" لأنك تقول إني أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أُشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفى بالنار لكي تستغنى، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك، وكحل عينيك بكحل لكي تبصر (رؤ 3: 17-18).
يتحدث القديس غريغوريوس النزينزى عن تقديس حاسة الشم فينا حتى لا يتحول طيب الروح القدس فينا عنا فتصير لنا عفونة طبيعتنا الذاتية، قائلاً: [لنُشفى أيضًا من جهة الشم...، وبدلاً من أن يسكب علينا التراب عوض الروائح الذكية فلنشتم رائحة المسحة التي سُكبت علينا التي تقبلناها روحيًا فشَّكلتنا (من جديد) وغيرّتنا، فتخرج منا رائحة زكية[102]].
يقول النبي "عوض المنطقة حبل" [24]، بعد أن كانت بنات صهيون يتمنطقن بمناطق ذهبية مزخرفة ومُرصّعة بحجارة كريمة رُبطن بالحبال لسحبهن إلى السبي كمذلولات. صورة مؤلمة تكشف عن ثمر الخطية!
"وعوض الجدائل قرعة"، كعلامة للإذلال يُقص شعر الشريفات ليظهرهن قبيحات.
"عوض الديباج زنار المسح، وعوض الجمال كيّ" [24]... هكذا صارت ملابسهن المسوح عوض الثياب الفاخرة وظهر الكيّ على جبائهن أو أيديهن علامة العبودية... إذ كان العبيد من الجنسين يُختمون بختم معين بالكيّ ليعرف السيد من هم له.
في أختصار عبّر عن تحطيم حياتهن تمامًا لاتكالهن على المظاهر الخارجية وعلى الذراع البشري، لذا يقول: "رجالك يسقطون بالسيف، وأبطالك في الحرب، فتئن وتنوح أبوابها وهي فارغة تجلس على الأرض" [25-26]. مات الرجال وسُبيت النساء وصارت المدينة العظيمة كما في فراغ!
غصن الرب هو العلاج
في الأصحاحات السابقة قدم لنا الوحي الإلهي صورة مؤلمة لما بلغه الإنسان من فساد وانحلال بسبب الخطية حيث فقد الإنسان جماله وكرامته وأكله وشربه وزينته حتى حياته ذاتها، وصار العلاج الوحيد هو مجيء السيد المسيح "غصن الرب" يرد للإنسان جمال طبيعته وبشبعه لا بتقديم خيرات معينة بل بتقديم "نفسه" سرّ حياة وفرح وشبع.
1. الحاجة إلى المخلص [1].
2. غصن الرب [2].
3. البقية المقدسة [3-4].
4. حلول المسيح في وسط كنيسته [5].
5. كنيسة المسيح مظلة وملجأ [6].
1. الحاجة إلى المخلص:
"فتمسك سبع نساء برجل واحد في ذلك اليوم قائلات: نأكل خبزنا ونلبس ثيابنا، ليُدع فقط اسمك علينا، انزع عارنا" [1].
هؤلاء النساء السبع هم جميع الأمم من بينهم اليهود، فقد شعر الكل بفراغ شديد يجتاح الأعماق بسبب فساد الطبيعة البشرية. تجتمع هذه الأمم كعروس تطلب عريسها، تُريد اسمه لينزع عار فسادها، حينئذ تأكل خبزها وتلبس ثيابها. مسيحها أهم من كل احتياجاتها، فيه تجد كل الشبع والستر من العُري والحماية من كل عار.
هذا من الجانب الرمزي الروحي، أما من الجانب الحرفي فقد تنبأ إشعياء النبي عما كان سيحل بيهوذا حيث يتعرض لحروب طاحنة خلالها يُقتل عدد كبير من الرجال، فتشتاق كل إمرأة أن تجد لها رجلاً تحتمي تحت إسمه مهما كلفها الأمر. فهي مستعدة أن تُشاركها فيه ست نساء أخريات وهذا أمر لا تطيقه السيدة بطبيعتها؛ بل وتطلب من رجلها ألا يستلزم بشيء إنما تأكل وتشرب من تعبها هي الأمر الذي يُخالف الطبيعة نفسها... هذا كله لأنها تُريد أن تنجب منه فينزع عنها عارها (تك 30: 23، 1 صم 1: 11).
2. غصن الرب:
الآن، إن كانت البشرية بكل شعوبها (سبع نساء) اكتشفت حاجتها إلى المخلص، فها هو النبي يبشرها بمجيئه قائلاً: "في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدًا وثمر الأرض فخرًا وزينة للناجيّن من إسرائيل" [2].
يُقصد بـ "ذلك اليوم" ملء الزمان (غل 4: 4) الذي فيه تجسد ابن الله الوحيد الجنس، الذي دُعى "غصن الرب"، أو "الغصن" (إر 23: 5، 33: 15 ؛ زك 3: 8؛ 6: 12). هو غصن الرب وغصن برّ لداود، إذ هو المولود قبل كل الدهور أزليًا من ذات جوهر الآب وبتجسده وُلد من نسل داود.
بدخوله إلى العالم أعلن البهاء الإلهي والمجد الفائق على المؤمنين الغرباء البسطاء كما على المخلصين من اليهود. وكما قال سمعان الشيخ "نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل".
نبت هذا الغصن بتجسده، فحلّ في وسطنا ليعكس البهاء الإلهي على طبيعتنا، فيقول لكنيسته: "خرج لكِ أسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ بقول السيد الرب" (حز 16: 14).
كلمة "غصن" تُعادل أيضًا "ناصرة "، لذا يقول الإنجيلي: "لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه يُدعى ناصريًا" (مت 2: 23).
3. البقية المقدسة:
من الذي يتمتع بغصن الرب؟
"الذي يبقى في صهيون والذي يُترك في أورشليم" [3]. هؤلاء هم القلة التي قبلت الإيمان بالسيد المسيح من جماعة اليهود، بقوا في صهيون الروحية، في الكنيسة أورشليم الجديدة.
من الجانب الحرفي تُشير إلى البقية الباقية من السبي، أما من الجانب الروحي فهي القلة المقدسة، القطيع الصغير الذي لا يغادر قلبه صهيون ولا تفارق روحه أورشليم العليا. هذه البقية تحدث عنها كثير من الأنبياء (زك 13: 9)، وجُدت في كل عصر، ففي أيام إيليا النبي أعلن الرب أن له سبعة آلاف رجل لم يحنو ركبة لبعل بعد، وفي أثناء السبي وُجد دانيال ومعه الثلاثة فتية ضمن القلة المقدسة، وأيضًا استير ومردخاي، وبعد السبي نسمع أيضًا عن هذه القلة المقدسة (ملا 3: 6؛ 4: 2)، والسيد المسيح نفسه يتحدث عن القطيع الصغير الذي سّر الآب أن يعطيه الملكوت (لو 12).
في اختصار، كل نفس مخلصة ترفع قلبها إلى أورشليم العليا ترى الكنيسة المقدسة في الرب فتفرح وتسر من أجلها.
ارتبط قلب إشعياء بأورشليم عاصمة بلده ومدينة الله التي تضم هيكله المقدس، وقد دخل في مرارة من أجل ما حلّ بها من فساد. الآن إذ يعلن عن مجيء "غصن الرب" يرى أورشليم جديدة يسكنها قديسون في الرب القدوس، وينعمون بالحياة الأبدية. يقول: "يُسمى قدوسًا كل من كتب للحياة في أورشليم" [3].
الكنيسة - أيقونة السماء - هي عربون أورشليم العليا التي لا يدخلها شيء دنس أو نجس ولا كل من يصنع كذبًا، إنما يدخلها من غسل ثيابه وبيّضها في دم الحمل (رؤ 7: 14).
كأعضاء في الكنيسة المقدسة - أورشليم الجديدة - تمتعنا بمسحة روح الله القدوس، لنُتمم الوصية الإنجيلية: "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم قديسين في كل سيرة" (1 بط 1: 15).
من الذي يُقدس حياتنا؟ الرب نفسه إذ يقول النبي: "إذ غسل الرب قذر بنت صهيون ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الإحراق" [4]. أنه غسل أدناسنا في مياه المعمودية في استحقاقات دمه، ولا يزال يغسل كل ضعفاتنا بدمه الذي جرى من جنبه الطعون ممتزجًا بماء. إن كانت أيدينا قد تلطخت بالدم خلال خطايانا فانه يُقدم دمه كفارة عنا ليُقيمنا كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن بل مقدسة في كل شيء.
هذا الغسل أو التطهير يتحقق "بروح القضاء وروح الإحراق"؛ أما روح القضاء فتحقق برفعه على الصليب حاملاً ثمن خطايانا في جسده، متممًا العدل الإلهي من جهتنا فيه. وأما روح الإحراق، فيعني ما سبق فأعلنته الشريعة في سفر اللاويين عن "المحرقة" حيث تُحرق الذبيحة تمامًا إشارة إلى الحب الكامل... فذبيحة المسيح التي باسمنا هي "المحرقة" التي قُدمت علامة حبنا الكامل فيه نحو الآب. وربما قصد بروح الإحراق أيضًا الروح القدس الناري الذي حلَّ على الكنيسة لتقديسها وغسل كل عضو فيها.
v في آخر الأيام عندما جاء ملء زمان الحرية قام الكلمة بغسل قذر بنت صهيون بنفسه، إذ غسل بيديه أقدام التلاميذ (يو 13: 5).
القديس إيريناؤس[103]
v الحميم (بالمعمودية) الروحي الممتاز ينزع فساد النفس.
القديس إكليمنضس السكندري[104]
يُعلق القديس إكليمنضس السكندري على القول "نقَّى دم أورشليم" بالقول: [هنا دم الجريمة وقتل الأنبياء[105]]، فمن جحد المسيح إنما اشترك مع آبائه في قتل الأنبياء أما من قبله فقد تنقى في أعماقه وتقدس.
4. حلول المسيح وسط كنيسته:
تغتسل الكنيسة بروح القضاء وروح الإحراق أي خلال ذبيحة المحرقة الفريدة التي قدمها السيد المسيح وبعمل روح القدوس في مياه المعمودية فتطلب حلول عريسها الذبيح في وسطها، يستر عليها نهارًا كسحابة تظللهم ويقودها ليلاً كعمود دخان وعمود نار يضيئ لها الطريق. هكذا تعود الكنيسة بذاكرتها إلى خيمة الاجتماع في وسط البرية حيث كان الله يجتمع فيها مع شعبه، لكنها خيمة جديدة على مستوى مغاير لخيمة العهد القديم، وذلك منجهة:
أ. "على كل مكان" [5]، لم تعد الحضرة الإلهية أو الحلول الإلهي قاصرًا على خيمة أو على هيكل إنما يحل في كنيسته الممتدة في كل مكان، في المشارق والمغارب؛ يسكن في قلوب الكهنة واشعب، أبوابه مفتوحة لكل الشعوب والأمم أينما وُجدوا.
ب. "وعلى محفلها": يُشير هذا التعبير على عمل الله في الكنيسة كمحفل واحد، أو جماعة واحدة، يتمتع كل عضو فيها بعطية الحلول الإلهي لا كفرد منعزل وإنما كعضو حيَّ في الجماعة يرتبط مع بقية الأعضاء خلال المسيح رأس؛ له علاقته الشخصية مع الله التي تزيده اتحادًا مع اخوته.
ج. "يخلق... سحابة ودخانًا ولمعان نار ملتهبة"؛ يكون السيد المسيح هو سرّ حماية كنيسته واستنارتها.
د. بقوله: "لأن على كل مجد غطاء" يعني أن مجد ابنة الملك من داخل (مز 45)، مخفي فيها. من الخارج تُشارك مسيحها آلامه وصلبه وموته وقبره فيُقال عنها ما قيل عن عريسها: "لا صورة له ولا جمال فنظر إليه، ولا منظر فنشتهيه" (إش 53: 2)؛ وفي الداخل تُشاركه مجد قيامته.
النفس التي تدرك قيمة مجد مسيحها الداخلي وبهجة ملكوته فيها تغطيه لأنه ثمين... فقد اعتدنا أن نخفي ما هو ثمين ونحافظ عليه أما ما هو بلا قيمة فلا يحتاج إلى غطاء أو حفظ. الكنيسة في انشغالها بمسيحها الممجد تقول: "بين ثدييَّ يبيت" (نش 1: 13)... تُريده في أعماقها، مخفي في قلبها!
5. كنيسة المسيح مظلة وملجأ:
يحل الرب في كنيسته فيُقيم منها مظلة تقي النفوس المتألمة الجريحة من حر النهار، وتضمها من السيول والأمطار (إش 4: 6).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه المظلة هي سحابة القديسين العظيمة (عب 12: 1) قائلاً: [بإن تذكار القديسين يُقيم النفس التي تثقلت بالويلات ويردها، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة (الشمس) الساخنة جدًا والمحرقة[106]].
نشيد الكرمة
في الأصحاح السابق تلامس إشعياء النبي مع محبة الله الفائقة نحو شعبه والمعلنة خلال التجسد الإلهي من أجل تقديس البشرية بروح القضاء وروح الإحراق... بهذا انفتحت بصيرة النبي على حب الله لعروسه أو لكرمه فصار يتغنى بنشيد الكرمة، أو نشيد الحبيب للكرمة المشتهاة.
1. رعاية الله لكرمه [1-2].
2. محاكمة بين الله وكرمه [3-7].
3. عرض تفصيلي لخطايا إسرائيل [8-23].
4. تأديب إلهي [24-25].
5. الغزو الآشوري [26-30].
1. رعاية الله لكرمه:
"لأنشدنَّ عن حبيبي نشيد مُحِبِيَّ لكرمه. كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة، فنقبه ونقي حجارته وغرسه كرم سورق وبنى برجًا في وسطه ونقر فيه أيضًا معصرة، فانتظر أن يصنع عنبًا فصنع عنبًا رديًا (بريًا)" [1-2].
يعلن هذا النشيد قصة الحب الإلهي، حيث أحب الله الإنسان ولا يزال يحبه ويرعاه، ويبقى الله مستمرًا في حبه بينما يًقابل الإنسان الحب بالجفاف. تحققت هذه القصة مع أبوينا الأولين آدم وحواء، وتحققت أيضًا مع شعب الله في بداية نشأته، إذ يقول موسى النبي: "إن قِسْمَ الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه؛ وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خَرِب؛ أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه" (تث 32: 9-10). أخرج الله شعبه من العبودية لا ليهبه الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا فحسب وإنما ليقيم كنيسة العهد الجديد التي تملأ الأرض كلها، تنعم بملكوت الله الداخلي، وكما يقول المرتل: "كرمةَ من مصر نقلتَ، طردت أممًا وغرستها، هيأت قدامها فأصَّلتْ أصولها، فملأت الأرض" (مز 80: 8-9).
واضح أن "الكرمة" هنا تُشير إلى الشعب كله: مملكة إسرائيل ويهوذا؛ فماذا قدم الرب لشعبه المحبوب لديه؟
أ. أقامهم على "أكمة خصبة" [1]، إذ دخل بهم إلى كنعان التي تفيض لبنًا وعسلاً، فما يحل من جفاف وما يحدث من مجاعات لا يرجع إلى طبيعة الأرض أو ظروف المنطقة إنما هو ثمر لخطايا الشعب.
أقام الله كنيسة العهد الجديد على أكمة خصبة، فقد رفع قلبها كما إلى السماء لكي يتمتع أبناؤها بدسم الحياة السماوية، فيشبعون ولا يعتازون إلى شيء.
ب. "نقبه (سيَّجَ حوله)" [2]، هذا السياج هو الناموس الذي أحاط به الرب شعبه قديما حتى لا يختلط بالأمم الوثنية المحيطة به فينقل عنهم الرجاسات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الشريعة هي سياج، صُنعت من أجل الأمان (إش 8: 20)[107]]. يرى القديس أمبروسيوس أن السور هو "العناية الإلهية بحفظ الكرم من هجوم الوحش الروحي"[108]. ويرى القديس جيروم أنه حراسة الملائكة[109].
ج. "ونقَّى حجارته" [2]: تُشير الحجارة إلى العبادة الوثنية حيث كانت الأصنام الحجرية، هذه التي أنتزعها الرب من وسط شعبه أو انتزع شعبه منها ليعيش الكل في حياة تقوية لائقة. كما تُشير الحجارة أيضًا إلى طبيعة القسوة والعنف التي يريد ربنا يسوع أن ينتزعها من كل قلب بعمل روحه القدوس. جاء على لسان حزقيال النبي "انزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم" (حز 11: 9). هذا القلب الجديد والروح الجديد (حز 36: 26) إنما يتحقق بنوالنا الميلاد الروحي الجديد في مياه المعمودية المقدسة. يقول القديس كبريانوس: [إنها المعمودية التي فيها يموت الإنسان القديم ويولد الإنسان الجديد كما يعلن الرسول مؤكدًا أنه خلصنا بغسل التجديد (تى 3: 5)[110]].
د. "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" [2]، أي غرسه كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعب مختار نال عهدًا مع الله، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة؟!" (إر 2: 21).
أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة الله المتجسد ليُقدم نفسه كرم يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو 15: 5).
هـ. "وبنى برجًا في وسطه" [2]، يسكن فيه صاحب الكرم أو الرقيب لحراسة الكرم من هجمات اللصوص والحيوانات المفترسة. يرى بعض الدارسين أن البرج هو جماعة الأنبياء والكهنة وكل القيادات الروحية والمدنية التي كان يجب أن تسهر على الرعية وتحفظها من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم.
في العهد الجديد البرج هو مذبح الرب الذي يُقام داخل النفس، عليه يقدم المؤمن صلواته وأصوامه وعطاياه وكل حياته ذبيحة محرقة للرب، خلال اتحاده بالمسيح الذبيح. خلال هذا البرج الروحي تُحفظ كنيسة المسيح في كل قلب قوية وفعّالة، حيث يتمتع المؤمنون بشركة واتحاد مع الرب نفسه.
و. "ونقر فيه معصرة" [2]، لعصر العنب وعمل خمر الحب الذي يقدم للفرح الروحي. ما هذه المعصرة إلاَّ صليب ربنا يسوع المسيح الذي اجتاز المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الأمم (إش 63: 3). قدم دمه المبذول خمر حب يفرح كل قلب مؤمن.
يقول القديس أمبروسيوس: [حفر معصرة، لأن أسرار آلام المسيح تبدو كالخمر الجديد... وقد ظن الجمع أن التلاميذ سكارى حين نالوا الروح القدس (أع 2: 13). حفر حوض معصرة لكي يُسكب فيه الثمر الداخلي[111]].
يقول القديس ايريناؤس: [غرس الله كرم الجنس البشري عندما خلق آدم أولاً واختار الآباء، ثم أودعه في أيدي الكرامين عندما أقام التدبير الموسوي، وسيَّج حوله بتقديم تعاليم خاصة بعبادتهم له، وبنى برجًا باختياره أورشليم، وحفر معصرة إذ أعدَ وعاء للروح النبوي. وهكذا أرسل أنبياء قبل سبي بابل ثم أنبياء أكثر (أثناء السبي وبعده) يطلب الثمار[112]...].
ماذا قدم الكرم لصاحبه؟
"فانتظر أن يصنع عنبًا فصنع عنبًا رديًا (بريًا)" [2]. أنتظر الرب أن يجتني حُبًا مقابل الحب، وتربة وندامة مقابل غفران خطاياه، لكنه وجد قلوبًا متحجرة لا تصنع ثمارًا تليق بالتوبة. الكل زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، لذا كان يليق بكلمة الله أن ينزل إلينا ككرم جديد، هو وحده يغرسنا فيه فنأتي بثمر كثير (يو 15: 5).
v عندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: "كيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة؟" (إر 2: 21)، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟![113].
v انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية[114].
القديس أغسطينوس
v اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به.
القديس كيرلس الأورشليمي[115]
2. محاكمة بين الله وشعبه:
ليس أصعب من أن يدخل كائن ما في محاكمة مع ابن محبوب لديه، لكن أمام قساوة قلب الإنسان وجحوده طلب أن يقف أمام شعبه للحوار، متسائلاً: "ماذا يُصنع أيضًا لكرمي وأنا لم أصنعه؟!" [4]. والعجيب أنه ترك الحكم للطرف الآخر، لمقاوميه، حتى يحكموا بأنفسهم على أنفسهم. هذا هو أسلوب الله في تعامله معنا، يفضح أمامنا نفوسنا، ويكشف أمام أعيننا ضعفاتنا، ويترك لنا أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، ليس لأنه يُريد أن يغلب أو يعاقب وإنما لأنه يطلب رجوعنا إليه ودخولنا في علاقات حب وود معه.
ماذا كان يمكن أن يصنع الله معنا أكثر مما فعل؟! لقد خلقنا من العدم، وأقامنا على صورته ومثاله، وسلمنا الأرض بما عليها وما تحتها وما فوقها، وقدم الكواكب لحسابنا، وعندما فسدت طبيعتنا أرسل لنا ناموسه وأنبياءه وأخيرًا جاء بنفسه يكتب نشيد حبه بالدم في جسده على الصليب!
إذ لم يجد الكرم ما يُجيب به على الكرام العجيب في حبه، بدأ الكرام يعلن تأديباته حتى يتحرك الكرم، ألا وهي:
أ. "أنزع سياجه فيصير للرعى" [5]. أن كان ملاك الرب حال حول خائفيه (مز 34: 7)، بل والرب نفسه يكون سور نار حول شعبه (زك 2: 5)، فإن الله في محبته يتخلى عن المقاومين وينزع عنهم الحراسة السماوية ليدركوا ضعفهم، ويشعروا أنهم بلا سياج ولا سور، تدخل إليهم الحيوانات المفترسة لترعى كما في قفر أو في برية جرداء، لعلهم يرجعوا إلى الله ويطلبونه ملجأ لهم.
إن نُزعت نعمة الله عن الإنسان يصير بلا سياج، وتنفتح نفسه على محبة العالم، لتدخل قطعان خنازيره الدنسة وتخرج بلا عائق، ويصير قلبه مدوسًا بالشهوات النجسة وأفكاره هائمة في الرجاسات، وتنحدر حواسه إلى الشهوة الرديئة.
وكما يقول القديس إكليمنضس السكندري: [إن هذه الأمور (نزع السياج والسماح للأعداء بالدخول) يتحقق بسماح إلهي ليحولها للخير والبنيان. فإن [العناية الإلهية هي فن تأديبي[116]].
ب. "اجعله خرابًا لا يُقضب ولا ينقب" [6]. إذ يفارق الرب كرمه أي النفس البشرية تصير في فراغ وتُحسب خرابًا. يبكيها الرب كما بكى على أورشليم، قائلاً: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" ( مت 23: 38).
حين يثمر الكرم يقوم الكرام بالقضْب والنقب لكي يأتي بثمر أعظم، أما إذا أثمر عنبًا رديًا فلا يمد يده إليه. فان كان القضب والنقب يشيران إلى تأديبات الرب الحانية نحو أولاده، فإننا إذ نسلك معه في الطريق يمد يده إلينا كأولاد له يهتم بنا ويرعانا وأيضًا يؤدبنا حتى نزداد في ثمر الروح. فعدم القضب والنقب يشيران إلى عدم التأديب، وهذا هو أقسى أنواع العقوبة... التجاهل التام وعدم الاستحقاق حتى للتأديب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه حينما يتوقف الطبيب عن تقديم الدواء المُرّ أو استخدام المشرط هذا يعني أن حالة المريض ميؤس منها تمامًا.
ج. "فيطلع شوك وحسك" [6]. هذا ثمر اعتزال الإنسان الله وانفصاله عنه، إذ ينبت من عندياته شوكًا وحسكًا. يقول الرسول: "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" ( رو 2: 28).
ما هو هذا الشوك إلاَّ فقدان الإنسان سلامه ليحمل في داخله متاعب وهموم لا يقدر أن يُجابهها بنفسه وحده؟!
د. "وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرًا" [6]. يُشير المطر في العهد القديم إلى عطية الروح القدس[117]، فإن الإنسان الجاحد للرب الذي يطلب الانفصال عنه يخسر سكنى الروح فيه، فيتحول قلبه إلى قفر، لا يحمل ثمر الروح. لهذا عوض أن يثمر "الحق" إذا به يثمر "سفك دم"، وعوض "العدل" يثمر "صراخًا" [7].
يطلب الرب أن يجد فينا جنته المثمرة بالروح، حيث تُناجيه النفس قائلة: "ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" [16]. لكن حرمان النفس من المطر الروحي يحول الجنة المبهجة إلى موضع مرعب ليس فيه سوى سفك دم وصراخ مستمر!
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المطر في الكتاب المقدس يُشير إلى التعليم[118]. هكذا إذ يجحد الإنسان الله يحرم نفسه من التمتع بتعليم الرب في أعماقه؛ يقرأ كلمة الله وربما يدرسها لكنه لا ينعم بفاعليتها وعذوبتها في أعماقه. هذا ما أعلنه القديس أغسطينوس[119] في أول وعظة له على الإنجيل بحسب معلمنا متى البشير قائلاً: [إنه كان كعصفور صغير في عش، في كبرياء قلبه أراد الطيران بنفسه، دارسًا الكتاب المقدس بروح النقد، فسقط على الأرض وكان المارة أن يسحقوه تحت أقدامهم لولا نعمة الله التي انتشلته وردته إلى عش الإيمان حتى صار له جناحان يقدر بهما على الطيران.
يرى القديس أغسطينوس أن المطر هنا يُشير إلى الكرازة التي أنتقلت من الكرم (الشعب اليهودي) إلى الأمم[120].
يقول: "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا. فانتظر حقًا فإذا سفك دم وعدلاً فإذا صرخ" [7].
لقد قدم الله كل الإمكانيات لكل الجماعة: للكهنة واللاويين كما للشعب، للغني كما الفقير، للمتعلم كما للأمي لكي يثمر هذا الكرم "حقًا" و"عدلاً"، وقد جاء "الحق" متجسدًا من سبط يهوذا لكنهم سفكوا دمه وعوض العدل كان الصراخ: "أصلبه، أصلبه".
3. عرض تفصيلي لخطايا إسرائيل:
بعدما كشف الرب عن حبه لكرمه ورعايته الفائقة له، وكيف حرم الكرم نفسه من الثمر الحلو الروحي أو من الخمر المفرح فصنع أشواكًا ضفرت إكليلاً على رأس السيد المسيح، بدأ يستعرض أهم خطايا الشعب وثمرهم الردئ الذي جلب ويلات مُرّة عوض التمتع ببركات الرب وشركة أمجاده.
أ. "ويل للذين يَصِلون بيتًا ببيت، ويقرنون حقلاً بحقل، حتى لم يبق موضع، فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض" [8]. يعني بهذا أنهم انهمكوا في شراء البيوت والحقول بكل الطرق، في أنانية حتى لم يترك الواحد موضعًا لأخيه، خاصة الفقير والمحتاج. لقد ملكت قلة قليلة الأرض الزراعية والبيوت لتستغل عامة الشعب، وذلك على خلاف الناموس الذي طالب أن تبقى الأراضي موزعة بالتساوي (عد 33: 54) وأنه في سنة اليوبيل يعود للكل ملكيته (لا 25).
الأرض في كنعان هي عطية مجانية قُدمت للشعب كله ليعيش الجميع في رخاء يتمتع بما تفيضه من لبن وعسل، كأنها ملك للرب الذي يقدمها لهم. لكنهم بتصرفاتهم هذه ارتكبوا خطية الجشع وأيضًا الكبرياء مع العصيان وكسر الناموس. لذا انتزعت البركة وحلت اللعنة، فتصير البيوت خرابًا بسبب الموت أو السبي، ففي لحظة مات 185 ألفًا في الحرب. هذا ولا تثمر الحقول كالعادة، فعشرة فدادين كرم تنتج بثاَ (حوالي 27.5 كيلو جرام) عوض حوالي 500 بثًا؛ وحومر ( 283.5 كيلو جرام) البذار يصنع ايفه (عشر حومر حز 45: 11)، أي يبلغ المحصول عُشر البذار التي أُلقيت في الأرض.
ب. "ويل للمبكرين صباحًا يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تلهبهم الخمر" [11]. إن كان الويل الأول منصبًا عليهم بسبب الطمع والظلم فالثاني بسبب اللهو الزائد. صاروا يسكرون في الصباح المبكر عوض قيامهم للعمل وأيضًا يبقون حتى ساعة متأخرة بالليل، أي يسكرون نهارًا وليلاً. هكذا يكسرون الوصايا الإلهية: "الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء" (مز 104: 23). تحولت حياتهم عن الفرح الروحي الممتزج بجدية الحياة والعبادة إلى اللهو الممتزج برخاوة يستخدمون كل آلات الطرب [12] مع الانشغال بإقامة ولائم لإثارة مشاعرهم وأحاسيسهم للشر، متجاهلين الحياة التقوية في الرب. وكما يقول عاموس النبي: "الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدَّهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف؛ لذلك الآن يسبون في أول المسبيين ويزول صياح المتمددين" (عا 6: 6-7).
v أنظر كيف يلوم الله الترف أيضًا؛ فإنه لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرد التبذير. ها أنت تأكل بتخمة والمسيح ليس له ما هو ضروري. أنت تأكل كعكًا متنوعًا والمسيح ليس له الخبز الجاف. أنت تشرب خمرًا من Thasian ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن. أنت ترقد على فراش ناعم مطرز وهو يهلك بردًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم[121]
أما عمل اللهو فهو سبي الإنسان الداخلي عن معرفة الحق، ليعيش أسيرًا للجهالة، يجوع ويعطش داخليًا، ولا يوجد ما يشبعه أو يرويه. يقول النبي: "لذلك سبُى شعبي لعدم المعرفة وتصير شرفاؤه رجال جوع وعامته يابسين من العطش" [13]. يقول الحكيم: "لأن السكير والمسرف يفتقران والنوم يكسو الخرق" (أم 13: 21).
خلال اللهو يفقد الإنسان وعيه الداخلي لينحدر الهاوية، التي تفتح أبوابها على مصراعيها لتبتلع بغير حدود. بهذا يفقد الإنسان بهاءه وبهجته [14]، ويسقط في مذلة [15].
هذا هو الثمر المُرّ الذي يجتنيه السالكون في الباب الواسع، باب اللهو الدائم لاشباع الشهوات الزمنية. أما ما هو أخطر فهو هلاكهم الأبدي إذ يقول: "لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاهها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها" [14]. يصور الهاوية Sheol أشبه بانفتاح الأرض لابتلاع الأشرار كما حدث مع قورح جماعته... تنفتح لتطلب المزيد، تبتلعهم إلى الأعماق ليبقوا في الظلمة إلى الأبد.
هذا ما يحدث بالنسبة للمنشغلين بحياة الترف واللهو، أما بالنسبة لله رب الجنود فإنه يتمجد ويتقدس بإدانته للخطية بالعدل والبر [16].
ربما يتساءل البعض: ما هو حال البقية القليلة الأمينة للرب؟ يُجيب النبي: "ويرعى الخراف حيثما تُساق وخرب السمان تأكلها الغرباء" [17]. ترعى الخراف - القطيع الصغير - حيثما يقودها الراعي الصالح، يسوع المسيح، إذ يحفظها من الظلم والاضطهاد. هؤلاء يأكلون في هدوء وأمان دون أن يزعجهم أحد (خر 34: 14). عندما تخرب كنيسة العهد القديم برفض اليهود الإيمان بالسيد المسيح ترث الأمم (الغرباء) المواعيد والعهود والشريعة والنبوات الخ...
ج. "ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل، والخطية كأنه بربط العجلة" [18]. هذا الويل الثالث يحل بطالبي الخطية برغبة شديدة واجتهاد، يسعون إليها بمحض اختيارهم ويدفعون أنفسهم إليها دفعًا أو يسحبونها بقوة نحوهم. هؤلاء يحل بهم الخطر إذ يسقطون
في حبال الباطل ويرتبطون بعجلة الخطية ليصيروا ملاصقين لها.
إنهم يجتذبون الخطية كما بحبل، وإذ هي ثقيلة للغاية تنهار على رؤوسهم فتُحطمهم.
يرى بعض الآباء أن الأشرار ينحدرون من خطية إلى خطية وكأنهم يصنعون حبلاً طويلاً يسحبهم نحو الشر في عبودية... كل سقوط يؤدي إلى سقوط آخر وكل انحدار يُسبب انحدارًا أكثر، فعوض أن يفكر الشرير في الصعود ينهار أكثر فأكثر.
v حقًا، كل إنسان يضفر لنفسه حبلاً بخطاياه: "ويل للجاذبين الإثم بحبل طويل" [18 LXX].
من الذي يصنع حبلاً طويلاً؟ ذاك الذي يُضيف خطية إلى خطية.
كيف تُضاف خطية على أخرى؟ حينما نُغطي على خطية ارتكبت بخطية أخرى[122].
v عندما يُهدد (الأشرار) بقتل الأبرار، إنما يربطون أنفسهم بقيود، بحبل قوى خشن هو من عندياتهم[123].
v طوبى للذين بالعمل والأخلاق يرنمون تسابيح المصاعد (الدرجات)، وويل للذين يسحبون الخطية كحبل طويل (فينحدرون معها)[124].
القديس أغسطينوس
بجانب ما للخطية من خطورة أنها تسحب الإنسان إلى سلسلة من الخطايا، فتجعله أشبه بكُرَة تلهو بها الخطايا فإن الخطر الثاني هو أنها تبعث روح الاستخفاف والسخرية عوض رغبة الإنسان في التحرر منها، فيردد الأشرار: "ليسرع ليعجل عمله لكي نرى، وليقرب ويأتي مقصد قدوس إسرائيل لنعلم" [19]. إنهم يشكون في إمكانية قضاء الله، فيحسبون أنهم قادرون على مواجهته ببراهين وحجج. في استخفاف يرددون "قدوس إسرائيل" اللقب الذي استخدمه الأنبياء بالنسبة لرجائهم في مجيء المسيا المخلص... وكأنهم يضربون بهذا الرجاء عرض الحائط.
في كل عصر يوجد أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما بتأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق:
"ها هم يقولون لي: أين هي كلمة الرب؛ لتأتِ" (إر 17: 15).
" قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا" (حز 12: 22).
"سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين: أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3: 4).
د. "ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المُرّ حلوًا والحلو مرًا" [20]. يسقط الويل الرابع على الذين يخلطون بين الحق والباطل، الخير والشر، النور والظلمة، الحلاوة والمرارة، المعرفة والجهل. هؤلاء يعطون الخطية مسحة الفضيلة كأن يبرروا الغضب بالدفاع عن الحق أو إدانة الآخرين تحت ستار الرغبة في الإصلاح الخ...
يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هذا الويل هو تهديد ضد الكذابين والمتكبرين[125]. الله هو الحق وابليس هو الكذاب وأبو الكذابين، من يعرف إرادة الله يعرف الحق ويسلك في الخير، أما من يتجاهل الإرادة الإلهية فأنه يخرج من دائرة الحق ليعيش في الكذب، وبهذا يفقد قدرته على التمييز وإدراك الخير أو النور أو المعرفة الصادقة للسماويات والإلهيات.
هـ. ادعاء الحكمة والفهم مع الاستخفاف بآراء ومشورة الغير: "ويل للحكماء في أعين أنفسهم و الفهماء عند ذواتهم" [21].
v من ينشغل بذاتيته ولا يطلب مشورة الغير، إنما يحمل علامة الغباوة. قيل: "أرأيت رجلاً حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 26: 12).
القديس يوحنا الذهبي الفم[126]
و. الأبطال المفسدون لطاقاتهم: "ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزج المسكر" [22]. حينما تنشغل القيادات بالولائم والترف والسكر تفقد دورها الحقيقي؛ هكذا كثيرًا ما نفسد طاقاتنا بأنفسنا بانحرافنا عن هدفنا الجاد وانغماسنا في ملذات هذا العالم.
ز. أخذ الرشوة: "الذين يبررون الشرير من أجل الرشوة، وأما حق الصديقين فينزعونه منهم" [23].
4. تأديب إلهي:
بسبب الخطايا التي ارتكبها الشعب حمى غضب الرب كلهيب نار يحرق القش ليجعلهم أشبه بالغبار [24]. لقد سمح بتأديبهم بحزم شديد حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثهم ملقاة في الأزقة. هنا يعني ما حل بشعب الله خلال الغزو الآشوري العنيف.
وسط هذا اللهيب يقول: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [25]؛ لا يزال مملوء حبًا ينتظر عودة الإنسان إليه!
5. الغزو الآشوري:
يقدم لنا النبي وصفًا رهيبًا لجيش أشور في غزوه شعب الله. هذا الوصف يكشف عن غزو عدو الخير للنفس البشرية، بعنف وشراسة ومثابرة، وفي نفس الوقت يوبخ المؤمنين المتراخين؛ فالأشرار من أجل غنيمة زمنية لا يكلّون حتى يحققوا هدفهم بينما أولاد الله يتراخون في نوال شركة المجد الأبدي.
أ. "ليس فيهم رازح (متعب)" [27]. بالرغم من طول المسافة التي يقطعونها والصعوبات التي تواجههم لكنهم لا يشعرون بتعب من أجل رغبتهم القوية في التمتع بالغنيمة... بينما كثيرًا ما نتراخى نحن المؤمنون في جهادنا الروحي تحت دعوى الإرهاق أو التعب.
ب. "ولا عاثر" [27] بالرغم من وعورة الطريق؛ ربما لأن الله دعاهم لتأديب شعبه فسّهل لهم الطريق. كان أولى بنا نحن ألا نخاف وعورة الطريق فإننا مادمنا في يد مسيحنا "الطريق" لا نتعثر قط.
ج. "لا ينعسون ولا ينامون" [27] من أجل الهدف الزمني والشرير الموضوع أمامهم. أفما يليق بنا نحن المؤمنون ألا ننعس ولا ننام بل نبقى في يقظة الروح حتى نحقق غاية رسالتنا؟!
د. "ولا تنحل حزم أحقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم" [27]، أي جادين ومتشددين للعمل. لقد أوصانا الرب: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة" (لو 12: 35)، حتى نتمم خدمة الرب بقوة.
هـ. "سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم تُحسب كالصوان وبكراتهم كالزوبعة" [28]. مستعدين بأسلحتهم وعدتهم، كي يحاربوا بقوة ولمدة طويلة وبسرعة خاطفة فيحققوا الهدف. يليق بالمؤمنين أن يستعدوا ضد معركة إبليس بأسلحة الإيمان الروحية التي تحدث عنها الرسول بولس بأكثر توسع (أف 6).
و. "لهم زمجرة كاللبوة، ويزمجرون كالشبل، ويهرون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ" [29]. إنهم يحملون صورة سيدهم إبليس، الذي يجول كأسد زائر يلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8). كان يليق بالمؤمنين أن يصحوا ويسهروا مقاومين هذا العدو راسخين في الإيمان (1 بط 5: 8-9) القادر أن يُحطم العدو.
لقد تقدم الحمل - رب المجد يسوع - كأسد خارج منم سبط يهوذا (رؤ 5: 5) حتى لا يهزمنا إبليس بل نقاومه بالرب ونُحطم طاقاته.
ز. "يهرون عليهم في ذلك اليوم كهدير البحر" [30]، إذ يسقط عليهم الجيش بأصوات الجند كهدير البحر الذي لا يُقاوم، يكتسح ويبتلع كل ما هو أمامه... وكأنه لا أمل لهم في النجاة من أشور.
ح. أخيرًا يفقد الشعب كل رجاء فإنه "إن نظر إلى الأرض فهوذا ظلام الضيق والنور قد أظلم بسحبها" [30]. وقت الضيق يرفعون عيونهم لعلهم يجدون منفذًا للخلاص، لكن الظلام يُخيم على أفكارهم، وسحب الدخان الصاعدة من الحرائق تُحطم كل أمل عندهم. لقد رفضوا الله "النور الحقيقي" فملكت الظلمة على أعماقهم. لهذا يصرخ المرتل: "بنورك يارب نعاين النور" (مز 36: 9).
رؤيا إشعياء ودعوته
يسجل لنا إشعياء النبي رؤياه الشهيرة، إذ رأى الله القدوس جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، رآه في مجده الفائق تسبحه طغمة السيرافيم، وقد عُهد إليه بخدمة النبوة المقدسة.
يتساءل البعض: هل تمتع النبي بهذه الرؤيا قبل تنبؤه بما ورد في الأصحاحات السابقة أم جاءت بعدها؟ ولماذا لم يفتتح النبي السفر بها؟
1. رؤيا النبي في الهيكل [1-4].
2. تقديس فم إشعياء [5-7].
3. ارسالية إشعياء النبي [8-13].
1. رؤيا النبي في الهيكل:
"في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" [1].
تمتع النبي بهذه الرؤيا في سنة وفاة عزيا الملك، ربما بعدما أعلن نبواته السابقة والتي حملت تهديدًا للشعب، فقابلها الشعب بنفور واستخفاف، لهذا كشف له هذه الرؤيا ليعلنها للشعب مؤكدًا أنه يحمل رسالة إلهية، يقدم كلمة الله. ولعل هذه الرؤيا قد تحققت قبل النبوات وإنما أعلنها النبي بعد ذلك ليؤكد للشعب أن ما ينطق به ليس من عندياته، وذلك كما فعل القديس بولس حين أراد تأكيد رسوليته بالحديث عن الرؤيا التي شاهدها في بداية خدمته (2 كو 12).
ظهرت الرؤيا في سنة وفاة عزيا الملك الذي ملك علي يهوذا وهو ابن 16 سنة لمدة 52 عامًا وعمل المستقيم في عيني الرب، وقد نجح في كل أعماله: في الحروب وبناء مدن تعميرها الخ... لكنه إذ ارتفع اسمه جدًا سقط في الكبرياء وأراد أن يوقد للرب علي مذبح البخور فضربه الرب بالبرص وهو في الهيكل، وطرده الكهنة، وكان أبرصًا إلي يوم وفاته، معزولاً في بيت بعيد عن قصر الملك.
لعل إشعياء كان يتابع بفرح نجاح عـزيا مع استقامة قلبه ونموه في الروح لكنه
أغتم جدًا لسقوطه في أيامه الأخيرة، وموته هكذا معزولاً عن شعب الله، مطرودًا من هيكله المقدس، ممثلاً بطلان المجد الزمني.
تطلع النبي إلي الشعب في سنة موت عزيا ليراه منطرحًا كغنم بلا راعي، خاصة وأن الملك كان قد اعتزل الشعب زمانًا قبل موته بسبب برصه. ادرك إشعياء أن الشعب في حاجة إلي رعاية سماوية، لأن ذراع البشر يعجز عن اشباع احتياجات الشعب، وكما يقول المرتل: "لا تتكلوا علي الرؤساء ولا علي بني البشر الذين ليس عندهم خلاص، تخرج روحهم فيعودون إلي ترابهم" (مز 146: 3).
وسط هذه المرارة أعلن الرب هذه الرؤيا لإشعياء من أجل تعزيته: تحققت الرؤيا في الهيكل غالبًا في وقت انفرد فيه النبي للعبادة الخاصة، يصرخ إلي الله ليتسلم رعاية شعبه. ظهر له السيد جالسًا علي كرسي عالٍ، ومرتفع ليؤكد له أنه هو راعي شعبه السماوي، أفكاره تعلو عن أفكار البشر، وطرقه عن طرقهم. يجلس في الأعالي لكي يحمل كنيسته معه تشاركه أمجاده العلوية. رأى أذياله تملأ الهيكل، إذ حال في كنيسته ينتظر كل نفس تقبل إليه لتتمتع بالإتحاد معه. لقد رأى السيد المسيح في مجده (يو 12: 41) يملأ السماء والأرض بلاهوته ورعايته.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن إشعياء وغيره من الأنبياء لم يروا جوهر اللاهوت كما هو إنما يظهر الله لهم خلال تنازله قدر ما يحتملون الرؤيا وذلك من أجل محبته لخليقته؛ حتى بالنسبة للسمائيين وحاملي عرشه فان كل منهم يراه قدر احتماله أما الجوهر في ذاته أى في كماله المطلق فلا يمكن إدراكه[127].
v يصيح السيرافيم قائلين: قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت... إن القوات العلوية يأخذ منها الرعب كل مأخذ بغير انقطاع، فهي تدير وجهها وتبسط أجنحتها كحائط، يقيها من الاشعاع غير المحتمل الصادر من قبل الله، ومع ذلك فما تراه إنما هو صورة مصغرة للحقيقة...
بينما لا يقوى السيرافيم حتى علي مشاهدة الله الذي لا يتجلي لهم إلاَّ كتنازل منه حسب ضعفهم، نرى أناسًا تجاسرون متصورين في عقلهم الطبيعة عينها التي يعجز السيرافيم عن إدراكها. إنهم يزعمون أنهم قادرون علي التطلع إليها بوضوح وبغير حدود!
ارتعدي أيتها السموات واندهشي أيتها الأرض[128].
v حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مُدرَك، ولا يمكن الدنو منه. لهذا فهو يتنازل ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. الله الذي لا يحده مكان ولا يجلس علي عرش... من قبيل محبته لنا يظهر جالسًا علي عرش وتحيط به القوات السمائية[129].
v هذه (رؤى الأنبياء) إعلانات، كلها أمثلة عن تنازله، وليست رؤى لجوهره بالكشف عنه. لأنهم لو نظروا جوهره ذاته لما رأوه تحت أشكال مختلفة، إذ هو بسيط، بغير شكل ولا أعضاء ولا أساليب محددة، طبيعته لا تجلس ولا تقف ولا تمشي[130]...
القديس يوحنا الذهبي الفم
"السيرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطى وجهه وبأثنين يغطى رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود، مجده ملءُ كلِ الأرض" [2-3].
لعل ما يُعزى نفس الخادم هو أن يرتفع قلبه ليرى الخدمة الملائكية، فيتحقق أن كل متاعب الكنيسة وضعفاتها تنتهي يومًا ما لتشترك مع السمائيين في التسبيح أبديًا. وأن الكنيسة هنا - كأيقونة السماء - تتمتع بعربون الخدمة السمائية. ففي إحدى العظات القبطية تُعّرف الكنيسة أنها: [موضع تعزية، هي اجتماع الملائكة وموضع الشاروبيم والسيرافيم[131]]. قيل إن القديس باخوميوس المصري كان يرى الكنيسة مملؤة بالملائكة.
السيرافيم هم خدام العرش الإلهي، يحملون الرب بفرح وتهليل، يسبحونه بلا انقطاع. وكأن عمل كل خادم أو نبي في الكنيسة هو جذب كل نفس إلي الرب كعرش له يسكنه، ويقيم ملكوته داخله، فيصير أشبه بالساروف الناري السماوي. لكل ساروف 6 أجنحة، باثنين يُغطي وجهه علامة اتسامه بالمخافة الإلهية، لا يقدر أن يدرك كل البهاء الإلهي، وباثنين يُغطي رجليه علامة الحياء - إن صح هذا التعبير- وباثنين يطير مُحلقًا في السمويات. هكذا يليق بنا أن نتشبه بالساروف ننعم بالمخافة الإلهية في احتشام مع نمو دائم وارتفاع مستمر نحو السمويات.
أما بالنسبة للتسبحة الساروفيمية "الثلاث تقديسات" فقد وردت في كتابات العلامة أوريجانوس؛ وربما يرجع تاريخ استخدامها بالإسكندرية إلي تاريخ سابق[132]. جاء في التقليد الكنسي إن يوسف الرامي ونيقوديموس اللذين اهتما بجسد الرب بعد انزاله من علي الصليب سمعًا هذه التسبحة وهما يضعان الحنوط علي جسد الرب قبل دفنه.
يقول الساروفيم: "مجده ملء كل الأرض" [3]، لا يملأ السموات فحسب وإنما الأرض كلها. أنه حال علي الأرض ليُقيم من الأرض سماء. وكما يقول القديس إكليمندس السكندري إن الأرض تصير سماءً بالنسبة للمؤمن الحقيقي. إن كان جسدنا في أصله ترابًا، فقد قبل كلمة الله طبيعتنا البشرية ليُقدسها، فصار جسدنا ممجدًا فيه، لا نعود نستخف به لأنه يشارك النفس تعبدها لله وجهادها واكليلها.
يلاحظ في هذه التسبحة الآتي:
أ. أن كلمة "السيد" جاءت بالجمع Adonai وليس المفرد Adon. ربما لهذا السبب مع تكرار كلمة "قدوس" ثلاث مرات رأى القديس غريغوريوس أسقف نيصص[133] تُعلن عن مجد الثالوث، بينما ينسبها الرسول بولس للروح القدس (أع 28: 25-26)، والقديس يوحنا للإبن (يو 12: 41) بينما التقليد اليهودي قديمًا ينسبها للآب.
v بواسطة (السيرافيم) أُعلن سرّ الثالوث بوضوح، عندما نطقوا بتلك الصيحة العجيبة "قدوس" بكونها تحمل جمالاً مع مهابة لكل أقنوم من الثالوث.
القديس غريغوريوس النيصي[134]
ب. دُعى الله "رب الجنود"، وهو لقب الله في معركته ضد الشر أو ضد قوات الظلمة، له معنى تعليمي[135]، لم يظهر في أسفار موسى ويشوع والقضاة وأيوب والأمثال والجامعة، إنما ظهر بصورة نادرة في صموئيل وملوك وأخبار الأيام والمزامير؛ استخدم بكثرة في أسفار الأنبياء، ففي إرميا استخدم حوالي 80 مرة وحجي 14 مرة، وزكريا 50 مرة، وملاخي أكثر من 24 مرة. أول من استخدمه حنه أم صموئيل في تسبحة النصرة التي نطقت بها إذ شعرت بأن الله هو سرّ نصرتها في معركتها الداخلية.
ج. تُستخدم هذه التسبحة في القداس الإلهي علامة شركة المؤمنين مع السمائيين في العبادة علي مستوى سماوي، بروح الوحدة والانسجام معًا:
v ليتنا نجتمع معًا بضمائرنا في اتفاق ونصرخ إليه بغيرة كما بفم واحد، فنشترك في مواعيده العظمية المجيدة.
القديس اكليمندس الرومإني[136]
v لتدركوا بأية مهابة ومخافة ينطقون ذاك الأسم وهم يمجدونه ويسبحونه؛ أما أنتم فتدعونه في صلواتكم وطلباتكم برخاوة شديدة، مع أنه كان يجب أن تمتلئوا مهابة وأن تكونوا في سهر مع وقار.
القديس يوحنا الذهبي الفم[137]
v الأمور الجديدة تسير في تناسق مع القديمة، والقديمة مع الجديدة. هوذا الساروفان يقولان الواحد للآخر: قدوس قدوس قدوس رب الجنود. العهدان يسيران في نغم واحد، ولهما صوت واحد...
القديس أغسطينوس[138]
"فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانًا" [4].
اهتزت أساسات بيت الرب أمام صرخات الساروفيم التي تمجد الله القدوس وامتلأ البيت سحابًا كثيفًا علامة حلول مجد الله فيه. وعندما دخل السيد المسيح أورشليم اهتزت أيضًا المدينة (مت 21: 10). ونحن في حاجة أن يعلن الرب حلوله فينا، ليُقيم ملكوته داخلنا، نشترك مع السيرافيم تسبحتهم الأبدية فتهتز أعماق نفوسنا مع إشعياء النبي، ويُعلن مجد الرب فينا، وتتقدس أعماقنا فنحسب شهود حق لإنجيله.
2. تقديس فم إشعياء:
إذ نقف في حضرة الله القدوس يُعلن لنا مجده ونكتشف نحن نجاستنا، كما حدث مع إشعياء النبي. "فقلت: ويل ليّ أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ رأتا الملك رب الجنود" [5].
يعترف الرسول بولس أنه أول الخطاة (1 تى 1: 15) ليس لأنه يفكر في خطاياه ويحاول احصاءها، وإنما جاء ذلك ثمرة استنارته بروح الله القدوس الذي يفضح أعماقنا فنكتشف أننا كلا شيء أمام مجد الله، وأننا خطاة تمامًا أمام قداسته. لذلك عندما بدأ إبراهيم أب الآباء يتحدث مع الله قال: "إني قد شرعت أكلم المولي وأنا تراب ورماد" (تك 17: 27).
لعل إشعياء أراد أن يشترك مع السيرافيم في تسابيحهم لله فأدرك أنه نجس الشفتين، وإذ تطلع إلي جماعة السيرافيم في تهليلاتهم أدرك أنه ساكن بين شعب نجس الشفتين.
v بتنهدات يومية يحزن القديسون علي ضعف طبيعتهم، وبينما هم يبحثون في تغيير أفكارهم وإرادتهم وأعماق ضمائرهم الداخلية يصرخون متضرعين قائلين: "لا تدخل مع عبدك في المحاكمة فإنه لن يتبرر أمامك حيَّ"... وهكذا يدركون ضعف برّ الإنسان وعدم كماله مع الاحتياج الدائم إلي مراحم الله. لذلك يقول ذاك الذي أزال الله شرورة وخطاياه بجمر "كلمته الحيَّ" التي علي المذبح بعد رؤيته العجيبه لله وللسيرافيم العلويين وتمتعه بإعلان الأسرار الإلهية: "ويل لي إني هلكت لإني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين".
الأب ثيوناس[139]
v ها أنتم ترون كيف أن كل القديسين بالحق يعترفون لا عن الشعب وإنما بالأكثر عن أنفسهم إنهم خطاة، لكنهم لا ييأسوا قط من خلاصهم، إنما يتطلعون إلي التبرير الكامل بنعمة الرب ورحمته.
الأب ثيوناس[140]
شعوره بنجاسة شفتيه ونجاسة شفاه شعبه لم يُحطم نفسيته، إنما ملأه رجاء في الله الذي تمتع برؤيا بكونه "رب الجنود"، قادر أن يُقيم من البشرية جنودًا روحيين له. هذا تحقق له، إذ قال: "فطار إليّ واحد من السيرافيم وبيده جمرة أخذها بملقط من على المذبح، ومسّ بها فمي وقال: إن هذه مست شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك" [6-7].
جاء في قسمة القداس الكيرلسي: [وكما طهرّت شفتي عبدك إشعياء النبي إذ أخذ أحد السيرافيم جمرة بالملقط من علي المذبح وطرحها في فيّه، وقال له: إن هذه لمست شفتيك ترفع آثامك وتطهر من جميع خطاياك، هكذا نحن أيضًا الضعفاء الخطاة عبيدك الطالبين رحمتك تفضل طهر أنفسنا وأجسادنا وقلوبنا واعطنا هذه الجمرة الحقيقية المعطية الحياة للنفس والجسد والروح، التي هي الجسد المقدس والدم الكريم اللذان لمسيحك].
وفي صلاة أخرى للقسمة يقول الكاهن: [لإنيّ تقدمت للمس جسدك ودمك لشوقي في محبتك، فلا تحرقني بهما يا جابلي بل أحرق كافة الأشواك الخانقة لنفسي].
لقد حملت القديسة مريم كلمة الله متجسدًا فيها، الجمر الملتهب، الذي يُقدس البشرية بدمه الثمين.
3. ارسالية إشعياء النبي:
إذ رأى إشعياء النبي السيد جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، والسيرافيم يسبحونه، وقد تطهرت شفتيه الجمر الإلهي، اشتاق إلى الحياة السماوية والتسبيح الملائكي، لكنه في نفس الوقت اشتاق أن يرى شعبه متمتعًا بهذه الحياة العلوية، كأنه يقول مع الرسول بولس: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 24). هذا ما يعلنه النبي أيضًا بقوله: "ثم سمعت صوت السيد قائلاً: من أُرسل ومن يذهب لأجلنا؟ فقلت: هأنذا أرسلني" [8].
هذا هو المنظر الخامس من ذات الرؤيا الذي فيه دُعى للعمل النبوي، لحساب ملكوت الرب؛ هذه المناظر هي:
1. منظر السيد في مجده [1].
2. منظر السرافيم المسبحين له [3].
3. اهتزاز أساسات العتب وامتلاء البيت دخانًا [4].
4. تقديس شفتي النبي [5-7].
5. دعوة إشعياء بصوت الله نفسه [8 الخ].
جاءت الدعوة من الله القدير نفسه، وإذ آمن إشعياء بقدرة الله الخلاصية وعمله التقديسي، تقدم للعمل مدركًا أنه حيث هو ضعيف فهو بالرب قوي. عندما ندرك أننا لا شيء فلنؤمن بالله الكل في الكل، القادر بروحه القدوس أن يعمل بنا.
هنا يلزمنا التنويه أنه بينما المتكلم واحد: "من أُرسل؟" نجده يستخدم صيغة الجمع: "من يذهب لأجلنا؟" لتأكيد أنه الله الواحد الثالوث، أو المثلث الأقانيم.
قّبِل الله القدوس المثلث الأقانيم عرض إشعياء، وقال له: "اذهب" [9]. لقد أراد الله ألا يُرسل إشعياء من أجل نوال كرامة أو مجد، إنما ليدخل في مرارة مع شعب رافض الحق... فالخدمة ليست مراكز كنسية ولا كرامات إنما هي جهاد روحي من أجل غسل أقدام الآخرين وحثهم علي قبول الحق، وذلك خلال المذبح المقدس الذي يُقدس الشفتين الداخليتين ويهب كلمة الله الفعّالة في حياة الخادم والمخدومين.
وضع الرب كلماته علي فم النبي: "تسمعون سمعًا ولا تفهمون، وتبصرون أبصارًا ولا تعرفون" [9]. لقد وضع الرب في فم إشعياء نبوات كثيرة عن السيد المسيح وعمله الخلاصي؛ وقد تحققت عند مجيء السيد المسيح، لقد سمعوا ورأوا لكنهم لم يؤمنوا به، لأن بصيرتهم الداخلية قد أصابها العمى؛ وذلك علي عكس التلاميذ الذين قال لهم الرب: "طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع" (مت 13: 11-16).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الشعب: [إنهم يبصرون كيف يخرج الشياطين ويقولون: به شيطان؛ يبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكرون في قتله].
سبق لنا دراسة هذه النبوة أثناء شرحنا للإنجيل بحسب متى البشير الأصحاح 13، لذا اكتفي هنا بتعليق القديس أغسطينوس علي التساؤل: لماذا يُلام اليهود علي عدم إيمانهم مادام الله أعمى عيونهم؟
[إنهم لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء تنبأ عن ذلك، وقد تنبأ لأن الله سبق أن أخبره عما سيكون عليه حالهم. لكن إن سألت: ما هي علة عدم قدرتهم علي الإيمان أُجيب في الحال: إنهم لم يريدوا. الله رأى إرادتهم الفاسدة لذلك سبق أن أخبر النبي بذلك لأن المستقبل ليس مخفيًا عنه... الله أعماهم وأغلظهم بمجرد تركه إياهم وسحب معونته عنهم[141]].
يُجيب القديس إيريناؤس علي ذات السؤال قائلاً: [إنهم يصابون بالعمى بسبب عدم إيمانهم بالله، فإنهم يتطلعون إليه فلا يرونه، لأنه بالنسبة لهم كأنه غير موجود؛ ذلك كما أن الشمس - خليقته - تُصيب ضعاف البصر فلا ينظرون نورها. أما الذين يؤمنون به ويتبعونه فيهب أذهانهم استنارة أكمل وأعظم[142]].
هذا هو تفسير كلمات النبي: "غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفي" [10]. يلاحظ هنا أن الله لا ينسب الشعب إليه، بل يدعوه "هذا الشعب"، وهذه عادةً ما تحدث عندما يعلن الله غضبه عليهم فيحسبهم غير أهل للانتساب إليه بسبب غلاظة قلوبهم وثقل آذانهم وعمى أعينهم، أى بسبب العنف (القسوة)، والعصيان، والجهل الروحي.
هذه النبوة تُشير إلي جحد اليهود للسيد المسيح عند مجيئه، كما تُشير إلي جحد كلمات النبوة في أيام إشعياء فيسقطون تحت السبي ويحل بهم الخراب علي يديّ سنحاريب الآشوري.
حزن إشعياء النبي إذ أدرك ثقل المسئولية الملقاة عليه وما تنتظره من متاعب وآلام، كما حزن إذ أدرك ما سيحل بالشعب من دمار حتى تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر [11]، فصرخ: "إلى متى أيها السيد الرب؟" [11]. هل كان يسأل: إلي متى يبقى هذا الشعب في القساوة؟! أما يسأل: إلي متى أُعلن نبوات مُرّة هكذا وقاسية؟!
كشف له الرب عن حال الشعب بعد انكساره أمام سنحاريب، فأعلن أنه وإن بقى في البلاد العُشر [13] يعود فيقيم الشعب خلال هذه البقية ويجعل منهم زرعًا مقدسًا. بهذا يتنبأ عن السبي وما يحدث بعد السبي. وفي نفس الوقت تُعتبر نبوة عن سبي اليهود في جحودهم الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم، لكن في آخر الأيام تبقى بقية تعود للإيمان به. يقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلي أن يدخل ملوء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).
خلاص آحَاذ والخلاص المسيَاني
لكي نفهم ما ورد في هذا الأصحاح يلزمنا دراسة (2 مل 16، 2 أي 28)، حيث تكتشف حقيقة آحاز، كأشر ملوك يهوذا، عُرف بالرياء والجبن، أجاز ابنه في النار وقدم ذبائح للأوثان في المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء.
في بدء حكم آحاز تحالف آرام مع إسرائيل (أفرايم) ضد يهوذا، وقاما بالهجوم عليه فقتل وفَقْح ملك إسرائيل 120 ألفًا في يوم واحد بينما أسر رَصِين ملك آرام الكثيرين. أراد الاثنان فتح أورشليم لكن الله حفظها، وقد طمأن آحاز على لسان إشعياء بالرغم من فساد آحاز، معلنًا اهتمامه بخلاص شعبه ومدينته.
انتقل إشعياء من هذا الخلاص الزمني إلى الحديث عن الخلاص الأبدي الذي يُحققه عمانوئيل المسيا.
1. تحالف رَصِين ووفَقْح ضد آحاز [1].
2. خوف آحاز [2].
3. إشعياء يُطمئن آحاز [3-9].
4. آحاز يرفض طلب آية [10-13].
5. الآية الإلهية: عمانوئيل [14-16].
6. أشور الحليف يصير عدوًا [17-25].
1. تحالف رَصِين وفَقْح ضد آحاز:
في بدء حكم آحاز تحالف رَصِين ملك آرام مع فَقْح بن رَمَلْيا ملك إسرائيل ضد يهوذا [1]. هجم الأول من جهة شرق الأردن بينما اندفع الثاني بجيوشه من الشمال، وانهزم آحاز. صعدًا إلى أورشليم العاصمة لمحاصرتها، لكنهما لم يستطيعا اقتحامها. أما بسبب المعركة فهو اختلاف آحاز عن الملكين الآخرين سياسيًا؛ فقد رأى آحاز أن يتحالف مع أشور بينما رأى الملكان أن يتحالفا مع مصر.
وجد آحاز نفسه في مأزق، فطلب معونة فلاسِرَ ملك آشور، الذي أسرع نحو دمشق حيث قتل رَصِين (2 مل 16: 9)، وهكذا فعل أيضًا بالسامرة (2 مل 15: 29).
2. خوف آحاز:
إذ عرف آحاز أن آرام حَلّ في أفرايم (المملكة الشمالية أو إسرائيل) للتحالف معًا ضده "رجف قلبه وقلوب شعبه كرجَفَانِ شجر الوعْر قدام الريح" [2]. لقد أدرك آحاز وشعبه عدم قدرتهم على مواجهة آرام وإسرائيل، أما علة خوفهم الحقيقي فهو عدم إيمانهم بالله كسند لهم قادر أن يُحصنهم ويهبهم النصرة. لقد فقدوا سلامهم الداخلي بانعزالهم عن الله مصدر الغلبة والسلام.
3. إشعياء يُطمئن آحاز:
اضطرب آحاز جدًا، لأنه اسقط من حساباته عنصر الإيمان أو "الوجود الإلهي"، فلم يُنادِ بالتوبة والرجوع إلى الله، ولا ذهب إلى الهيكل ليضع الأمر بين يديْ الله، ولا أرسل إلى النبي يستشيره، إنما استخدم الوسائل البشرية من التجاء إلى آشور لحمايته، وخروجه إلى طرف قناة البركة العليا [3] غرب أورشليم على رأس وادي ابن هنوم يختبر مع رجال الدولة موارد المياه ليحولونها إلى المدينة تنتفع بها أثناء الحصار المرتقب ولحرمان العدو منها (2 أى 22: 3، 4؛ إش 22: 9-11) كما كان يُباشر تحصين المدينة قدر المستطاع.
مع هذا كله تدخل الله ليس من أجل آحاز وإنما من أجل القلة القليلة المقدسة من شعبه، ومن أجل داود عبده ومدينته العزيزة لديه. لقد طلب من إشعياء أن يخرج لملاقاة آحاز ومعه شآرياشوب ( = البقية سترجع) بكونه علامة وأعجوبة في إسرائيل (إش 8: 8)، مؤكدًا له: "احترز وأهدأ؛ لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبيْ هاتين الشُّعلتين المدخِّنتين بحمو غضب رَصِين وآرام وابن رمَلْيا" [4].
التقى النبي وابنه مع الملك عند البركة ليعلن الله للملك أن الخلاص لن يتم بالتخطيط البشري والإمكانيات الزمنية وإنما بعمل الله الفائق وعنايته نحو أولاده. التقى النبي مع الملك عند البركة ليؤكد له أن الله يُريد أن يتحدث مع البشرية أينما وجدوا، يلتقي مع لاوي عند مكان الجباية ومع زكا عند شجرة الجميز ومع السامرية عند بئر يعقوب الخ... هو يبحث عنا ويذهب إلينا أينما وجدنا مشتاقًا إلى خلاصنا أكثر من اشتياقنا نحن إليه.
طلب الله من آحاز ألا يخاف ولا يضعف قلبه، للأسباب:
أ. أن العدوّيْن "فَقْح ورَصِين " ليسا إلاَّ شعلتين مدخنتين [4]. هكذا يجد أولاد الله مقاومة وتحالفًا من الأعداء ضدهم لكن هذا كله لن يَزيد عن كونه شعلة مُدخّنة تعكّر الجو وتؤذى الأنف إلى حين، بلا نار ملتهبة لتحرق. عدو الخير قوي وجبار في المظهر لكنه يَصغْر جدًا ويضعف تمامًا أمامنا إن اختفينا في المسيح الغالب لإبليس وكل قواته.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم لثيؤدور الساقط:
[إن كان للشيطان هذه القدرة أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذى قبل[143]].
ب. عدم نجاح مؤامرة الأعداء: قام الملكان بمؤامرة شيطانية خفية لكن الله المدرك كل الخفيات أعلنها حتى يحتاط الملك آحاز بالرغم من شِّرهِ وغَبائِه. يقول الرب "لا تقوم، لا تكون" [7]. قد ينجح العدو في البداية حاسبًا أنه يُحقق أهدافه الشريرة، لكن الرب يُشتت المستكبرين بفكر قلوبهم (لو 1: 51).
ج. لن يقدر آرام أن يتوسع كما ظن إنما يلتزم حدوده: "لأن رأس آرام دمشق ورأس دمشق رَصِين" [8]. هكذا مهما حارب رَصِين فسيعود إلى دمشق ولا تتسع مملكته على حساب يهوذا كما يظن. أما بالنسبة لأفرايم ففي مدة 65 سنة ينكسر حتى لا يعود يُحسب شعبًا [8]، يرى البعض أنه في مدة 5، 6 سنوات أي 11 سنة، لأن سبي إسرائيل تحقق بعد 11 سنة من حديث إشعياء النبي (2 مل 17: 3، 6). وإن كان بعض الدارسين يرون أن النبي يُشير هنا إلى خراب إسرائيل بواسطة آسرحدون الذي جاء بقوم من بابل وكوث وعدا وحماة وسفروايم وأسكنهم في مدن السامرة عوضًا عن بنى إسرائيل ليقضي على أمة إسرائيل تمامًا (2 مل 17: 24).
ختم النبي حديثه بقوله: "إن لم تؤمنوا فلا تؤمنوا" [9]. فإنهم ما لم يؤمنوا بالوعد الإلهي ويثقوا فيه متكلين على ذراع الرب لن يثبتوا في هذه الظروف القاسية الصعبة. الإيمان هو الدرع (1 تس 5: 8) الذي يحمينا من ضربات العدو.
جاءت هذه العبارة في الترجمة السبعينية: "إن لم تؤمنوا فلا تفهموا" وقد علق عليها القديس أغسطينوس كثيرًا، فمن كلماته:
[لا تستطيعوا أن تنالوا الفهم ما لم يشرق الإيمان في القلب القائل مع النبي: "إن لم تؤمنوا بالتأكيد لن تفهموا"[144]].
[الإيمان يُبحث عنه وأما الفهم فيوجد، إذ يقول النبي: "ما لم تؤمنوا لا تفهموا"[145]].
[حسب تعليم الكنيسة الجامعة يليق بالعقل أن يتغذى أولاً بالإيمان البسيط حتى يقدر أن يفهم الأمور السماوية الأبدية[146]].
[إنكم (يُحدِّث الهراطقة) لم تتعلموا في ملكوت السموات - أي كنيسة المسيح الحقيقية الجامعة - وإلاَّ فإنكم كنتم قد نهلتم من كنز الكتب المقدسة، ما هو قديم وأيضًا ما هو جديد. يقول الرب نفسه: "من أجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلاً رب بيت يخرج من كنزه جددًا وعتقاء" (مت 13: 52)[147]].
يرى القديس أغسطينوس[148] أن الإنسان بالإيمان يرافقه السيد المسيح ليسير معه كل الطريق كما فعل مع تلميذي عمواس اللذين توسلا إليه أن يمكث معهما، فلما اتكأ معهما "انفتحت أعينهما وعرفاه" (لو 24: 31).
يعلق القديس إكليمنضس السكندري على ذات العبارة قائلاً: "هذا يعني أنه إن لم تؤمنوا بما تنبأ عنه الناموس وتتقبلوا تعليم الشريعة لن تفهموا العهد القديم الذي فسره (السيد المسيح) بمجيئه"[149]".
4. آحاز يرفض طلب آية:
قدم الله لآحاز كل امكانية للخلاص، لكن قلبه كان قد تقسى تمامًا فوثق في أشور لا الله. ومع ذلك فإن الله في حبه ولطفه عاد يتحدث معه خلال إشعياء النبي قائلاً: "اطلب لنفسك آية من الرب إلهك؛ عمق طلبك أو رفعه إلى فوق" [11]. وكأنه يقول له: لماذا تطلب عونًا من أشور الغريب، أنا هو إلهك مستعد أن أؤكد لك مواعيدي بآية من الأرض أو من السماء، فأنا إله السماء والأرض. أطلب ما تُريد وأنا أعطيك. أطلب أن تحدث زلزلة أو انشقاق للأرض كما حدث مع قورح وجماعته، أو اطلب بروقًا أو رعودًا أو أمطارًا أو علامة في الشمس كما حدث مع يشوع حيث توقفت الشمس. فانني وإن كنت لا أحب تقديم آيات للاستعراض إنما من أجل حبي لبيت داود ولكي تؤمن بيّ أعطيك سؤل قلبك. أما آحاز فقد صوّب نظره نحو أشور، رافضًا أية معونة من قِبَل الله، لذا رفض طلب آية منه، مبررًا ذلك بنص كتابي "لا أُجرب الرب" [12] (تث 6: 16). لم يقل هذا عن ثقة في الله وإنما رغبة في عدم التعامل معه.
هذا الفصل يُقرأ في باكر من الجمعة من الأسبوع الثاني من الصوم الكبير حيث تركز القراءات على "تجربة السيد المسيح". وكأن روح الرب يؤكد أنه في كل العصور يوجد أشرار يرغبون في تغطية شرورهم بنصوص كتابية، حتى الشيطان نفسه في حواره مع السيد المسيح عند التجربة استخدم ذات الأسلوب. ما أخطر إساءة استخدام كلمة الله!
كان آحاز مخادعًا في إجابته حتى على الرب، لهذا وبخه النبي قائلاً: "اسمعوا يا بيت داود؛ هل هو قليل عليكم أن تُضجروا الناس حتى تُضجروا إلهي أيضًا؟!" [13]. لقد تضجر الناس بسبب مظالم آحاز وأهل بيته وها هم كمن يضجرون الله بعدم إيمانهم به متكلين على أشور لا الرب.
5. الآية الإلهية: عمانوئيل:
رفض آحاز أن يطلب من الله آية ليطمئن أنه سيخلصه من أرام وإسرائيل، وها هو الرب يقدم نفسه آية لا لآحاز وإنما لكل البشرية لنطمئن أنه يخلصها لا من الأذرع البشرية وإنما من كل قوات الظلمة الشريرة، يرفعها فوق الأحداث الزمنية ويحملها معه إلى الأحضان الأبوية. وفي نفس الوقت يطمئن آحاز أن بيت داود لن يسقط تمامًا، إنما يأتي ابن داود "الآية العجيبة" القادر أن يُقيم خيمة داود الساقطة.
الآية التي يُريد الرب أن يهبها لكل مؤمن هي أنه يعطي ذاته "عمانوئيل". نحن لا نعمِّق الطلبة ولا نرفعها إلى فوق إنما كآحاز نخشى أن نطلب مع أنه ينتظر أن يهبنا ذاته؛ ينزل إلينا ليرفعنا إليه، فيكون هو نصيبنا الصالح الذي لن ينزع عنا. لهذا يقول القديس إيريناؤس: [ما قاله إشعياء: "رفّع إلى فوق وعمق إلى أسفل" يعني الإشارة إلى ذاك الذي نزل وصعد (اف 4: 10)[150]]. لنطلب هذه الآية العجيبة عمانوئيل النازل إلينا ليصعدنا إلى سمواته.
حقًا إنها آية فريدة، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لما كان ما هو مزمع أن يحدث أمرًا غريبًا لا يمكن لكثير من أن يصدقوه حتى عندما يتحقق لهذا أرسل أولاً وقبل كل شيء أنبياء يعلنون عن هذه الحقيقة[151]].
وبذات المعنى يقول الشهيد يوستين: [الأمور التي كانت تبدو غير معقولة بل ومستحيلة بالنسبة للبشر أعلن الله عنها بروح النبوة[152]...].
أ. "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" [14]. وكما يقول الشهيد يوستين في حواره مع تريفو (66): [من الواضح للجميع أنه لم يولد أحد في جنس إبراهيم من عذراء أو قيل عنه ذلك إلاَّ مسيحنا].
بتولية القديسة مريم حقيقة إنجيلية تخفي إيماننا في المسيح يسوع ابنها. فإن كلمة الله عند تجسده لم يبال بنوع الموضع الذي يضطجع فيه، أو الملابس التي يتقمط بها، أو الطعام الذي يقتات به، لكنه حدد بدقة "العذراء" التي تصير له أمًا[153].
الكلمة العبرية المستخدمة لعذراء هي "آلما Alma" وليس بتولية "ولا "ايسا"، فإن كلما "آلما" تعنى عذراء صغيرة يمكن أن تكون مخطوبة، أما "بتولية" فتعني عذراء غير مخطوبة بينما إيسا تعني سيدة متزوجة. وكأن كلمة "آلما" تُطابق حالة القديسة مريم تمامًا بكونها عذراء وفي نفس الوقت مخطوبة للقديس يوسف الذي كان بالنسبة لها مُدافعًا وشاهدًا أمينا على عفتها، بوجوده ينتزع كل ريب أو ظن حولها.
تحدث حزقيال النبي (44: 1-2) عن بتولية القديسة مريم:
v حزقيال شهد وأظهر لنا هذا، قائلاً:
إنيّ رأيت بابًا ناحية المشارق،
الرب المخلص دخل إليه،
وبقى مغلقًا جيدًا بحاله.
أبصالة آدم يوم الأحد
بتولية القديسة مريم هي برهان على إيماننا بالسيد المسيح أنه ليس من زرع بشر، أنه ليس من هذا العالم، بل هو ابن الله المتجسد، جاء إلينا من الأعالي. لقد حملت "عمانوئيل" الذي يعني "الله معنا"؛ نزل إلينا متجسدًا في الأحشاء البتولية لتحمل طبيعتنا ويصير واحدًا معنا، يحل في وسطنا، مقدسًا كل ما لنا.
v الذين أعلنوا أنه عمانوئيل المولود من البتول (إش 7: 14) أعلنوا أيضًا اتحاد كلمة الله بصنعة يديه.
إذ صار الكلمة جسدًا، وابن الله ابنا للإنسان، وافتتح الطاهر بنقاوة والأحشاء النقية معطيًا للبشرية تجديدًا في الله.
القديس ايريناؤس[154]
v فتح السيد المسيح مستودع الكنيسة المقدسة، ذلك المستودع الصامت، الذي بلا عيب، المملوء ثمرًا، حيث يولد شعب الله.
القديس أمبروسيوس[155]
v ميلادك الإلهي يارب قد وهب البشرية كلها ميلادًا... ولدتك البشرية حسب الجسد، وأنت ولدتها حسب الروح... المجد لك يا من صرت طفلاً لكي تجعل الكل جديدًا.
القديس مار إفرام السريإني[156]
v إننا نؤكد أن الابن وحيد الجنس قد صار إنسانًا... حتى إذ يولد من امرأة حسب الجسد يعيد الجنس البشري فيه من جديد.
القديس كيرلس الكبير[157]
ب. "زبدًا وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير" [16].
هنا يؤكد النبي ناسوت السيد المسيح، فمع كونه ليس من زرع بشر لكنه صار بحق ابن الإنسان، يُشاركنا أكلنا وتصرفاتنا ويشابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها (عب 2: 7).
الزبد والعسل هما طعام الصبية الصغار، فانه لن يبلغ الرجولة دفعة واحدة، إنما يجتاز مرحلة الصبوة، خلالها يعرف أن يرفض الشر ويختار الخير علامة نضوج نفسه وفكره. نراه في الثانية عشرة من عمره يجلس وسط المعلمين يسمعهم ويحاورهم حتى بهتوا من تعليمه (لو 2: 46-47).
هذا تحقق بالنسبة لربنا يسوع المسيح المولود وحده من العذراء؛ أما بالنسبة لما تم في أيام آحاز فقد أعلن الله عن ميلاد ابن لإشعياء، قيل عنه: "لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تْخلى الأرض التي أنت خاشِ من ملكيها" [16]. تحقق ذلك بكل دقة إذ هاجم ملك أشور دمشق بعد إعلان هذه النبوة بفترة قصيرة وقُتل رَصِين (2 مل 16: 9) كما قَتَل هوشع بن إيلة فَقْح بن رمليا وملك عوضًا عنه (2 مل 15: 30)، وأُعيد 200.000 أسيرًا بسرعة (شآرياشوب = البقية سترجع) وذلك لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروح الرب (2 مل 28: 8-15).
6. أشور الحليف يصير عدوًا:
إذ يتكئ آحاز على أشور كحليف له دون الرجوع إلى الرب لهذا يسمح الله أن ينقلب آشور عدوا ضد يهوذا، ويجتاز يهوذا مرارة لم يسبق له اجتيازها منذ انقسمت المملكة إلى مملكتين "إسرائيل ويهوذا" [17]، وفي نفس الوقت يرى أيامًا صعبة من جهة مصر فيصير يهوذا بين حجَرىْ رحا، لا بمعنى أن يتفق أشور ومصر ضده، وإنما يتصارع الاثنان ضد بعضهما ويكون يهوذا هو كبش الفداء للإثنين، في أرضه تحدث المعارك والصراعات.
"ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب (جيوش مصر) الذي في أقصى ترع مصر، وللنحل (جيوش أشور) الذي في أرض أشور، فتأتي وتحل جميعها في الأودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعى (أى تُغطى الجيوش كل بقاع يهوذا)" [18-19].
هذا ويصور الرب الخراب الذي يحققه أشور بموسى مستأجرة تحلق شعر الرأس وشعر الرجلين واللحية [20]. وكأن العدو يمد يده كما بموسى ليمسح كل ما لدى الملك وأهل بيته والعظماء (الرأس) وما لدى عامة الشعب (الرجلين) وأيضًا الكهنة (اللحية). هكذا يتحول أشور إلى موسى مخرب ومُحطم! حلق اللحية كان علامة المذلة إذ كان الأسرى يلتزمون بذلك لا إراديًا.
مرة أخرى يُعطي صورة لخراب يهوذا التي اشتهرت بتربية الأغنام، فكان كل إنسان يملك الكثير من الرؤوس، لكن بعد الخراب يصير للمقتدر عجلة بقر وشاتين [21]، وتتحول الكروم الجيدة إلى أرض للشوك والحسك [23]، إذ لا توجد أيدٍ عاملة بسبب الحرب...
مهير شلال حاش بز
في الأصحاح السابق تحدث الله مع آحاز الملك خلال إشعياء النبي الذي أعلن عن تدخل الله لانقاذ أورشليم من أرام و إسرائيل، وقد انجب النبي ابنه الأول شآرياشوب (=البقية سترجع) ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون سريعًا. الآن يتحدث الله مع الشعب في ذات الأمر وتحت نفس الظروف، وينجب النبي الابن الثاني المدعو مهير شلال حاش بز (=أسرِع إلى السلب، بادر إلى النهب) ليؤكد أن أشور قادم شريعًا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذًا أورشليم، وفي نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لاتكاله على أشور لا على الرب.
1. غلبة أشور على آرام وإسرائيل [1-4].
2. إنذار بني يهوذا [5-8].
3. بلاد عمانوئيل [9-10].
4. تشكيك وتعثّر في عمانوئيل [1-15].
5. البقية المقدسة [16-18].
6. الالتجاء إلى العرافين [19-22].
1. غلبة أشور على آرام وإسرائيل:
في الأصحاح السابق تحدث الرب مع آحاز المرتجف من آرام وإسرائيل، الآن يتحدث مع الشعب مؤكدًا خراب المملكتين اللتين تحالفتا معًا ضد يهوذا. بأمر إلهي أخذ إشعياء لوحًا كبيرًا كتب عليه بحروف واضحة "مهير شلال حاش بز" وتعني "أسرع إلى السلب، بادر إلى النهب". وضع إشعياء النبي اللوح في مكان ظاهر في الهيكل لكي يقرأه الكل، وقد شهد كاهنان عليه هما: أوريا وزكريا، أوريا كان رئيس كهنة في أيام آحاز ومشيره الروحي والمشترك معه في العبادة الوثنية. فقد أقام مذبحًا على شبه مذبح الآراميين رآه حزقيا في دمشق، ليُقدم الملك عليه ذبائح (2 مل 16: 10-16).
وقع الكاهنان على اللوح أو ختماه بختميهما كشاهدين موثوق فيهما إذ على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة (2 كو 13: 1)، شهدا أن ما كتبه كان قبل حدوث الأمر.
يعلن إشعياء النبي أنه عندما يبلغ ابنه مهير شلال حاش بز حوالي سنة واحدة من عمره تتحقق النبوة ضد آرام وإسرائيل، إذ يقول: "قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تُحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" [4]. وقد تم ذلك بواسطة تغلث فلاسر ملك أشور (2 مل 15: 29؛ 16: 9؛ 1 أى 5: 26).
2. إنذار بني يهوذا:
بعد أن أعلن الله خلاصه لمدينة أورشليم محطمًا آرام وإسرائيل اللذين تحالفا ضدها بدأ يسرد خطايا بني يهوذا وما سيحل عيهم من تأديبات. إن كان يدافع عنهم لكنه لا يدافع عن خطاياهم ولا يتستر عليها بل يطلب التوبة عنها والرجوع إليه .
يقول: "لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت وسُرّ برصين وابن رمليا" [6]. "شيلوه" مجرى مائي اسمه يعني "المرسل"، دعى في العهد الجديد "سلوام". نُحت هذا المجرى في الصخر، طوله بضعة آلاف من الأقدام، يقع جنوب غربي أورشليم، تنساب المياه فيه في هدوء، عليه تعتمد المدينة، كان رمزًا لبيت داود[158]. ماذا يعني رذل الشعب مياه هذا المجرى؟ لقد قارنوا بينه وبين نهري دمشق إبانه وفرفر، فرذلوه واستهانوا به. هذا يُشير إلى استخفافهم بما وهبهم الله "مملكة يهوذا" متطلعين إلى ما هو لدى الغير "الأذرع البشرية". لقد فقدوا إيمانهم بالله واهب النصرة وخشوا رصين وابن رمليا الغريبين والمقاومين ليهوذا ملتجئين إلى من ينقذهم منهما.
مياه شيلوه تُشير إلى قوة الروح الهادىء والوديع، مصدر التقديس وينبوع البر.
أيضًا "شيلوه" تعني "المرسل"، تُشير إلى السيد المسيح الذي أرسله الآب لخلاصنا، فرذله اليهود ورفضوا عمل روحه القدوس.
هم رفضوا مجرى الماء الهادىء طالبين المياه الغامرة القوية، لذلك يؤدبهم الرب بأن "يصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملك أشور وكل مجده" [7]. إن كان يهوذا يتكىء على أشور، فإنه سيأتي فعلاً ويخلصه، لكنه يعود فيما بعد يندفق عليه كنهر الفرات الذي أعجبوا به واشتهوه، يفيض على يهوذا ويغرقه [7]. لقد أنقذ تغلث فلاسر الآشوري يهوذا، لكن سنحاريب الآشوري هجم بقوة على يهوذا وبلغ إلى العنق وحاصر الرأس أورشليم، وكادت أن تسقط لولا تدخل الله: "يفيض ويعبر يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه (فرعي نهر الفرات) ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" [8].
هكذا يسمح الله بالتأديب فتحل التجارب كالسيل الجارف لكي تبلغ إلى أعناقنا، لكنه يحفظ الرأس (إيماننا بالسيد المسيح رأسنا) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك (لو 22: 32)، لأننا أرض عمانوئيل، ملك الرب.
يعلق القديس أغسطينوس على كلمات السيد المسيح: "كونوا حكماء كالحيات" (مت 10: 16)، قائلاً: [بإنه يلزمنا أن نتشبه بحكمة الحية التي تضع رأسها بين جسدها عندما يحدق بها الخطر، فتسقط الضربات على الجسد دون الرأس، إذ تعلم أنها لا تهلك مادامت رأسها سليمة. هكذا يليق بنا أن نحتفظ بإيماننا بالسيد المسيح ـ رأسنا ـ سليمًا مهما حلت بنا الضيقات فلا نهلك].
مهما حاول عدو الخير أن يبسط جناحيه في داخلنا [8] فإنه لا يصيبنا ضرر مادامت أرضنا بأكملها أرض عمانوئيل، أي مادامت حياتنا مستترة تحت ظل جناحي الرب، مادمنا نحمل فينا مملكة المسيح!
3. بلاد عمانوئيل:
بينما يتحدث النبي عن الأمور الجارية في عهده إذا بالرب يرفع أنظاره وأنظار المؤمنين نحو عمل المسيح الخلاصي. الله في حبه يترفق بشعب يهوذا فيُخلصهم من تحالف آرام وإسرائيل ضدهم، وفي نفس الوقت إذ يخطىء الشعب بالتجائه إلى أشور يصير أشور نفسه مقاومًا لهم. هذا ما سمح به الله، لكنه لم يسمح بإبادة يهوذا تمامًا، لأن منه يخرج السيد المسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا. يسمح بالغزو الآشوري يفيض حتى عنق يهوذا لكنه لا يصيب الرأس، إذ يتجسد كلمة الله من سبط يهوذا - من القديسة مريم - ويحل بيننا عمانوئيل الذي يُقيم من قلوبنا أرضًا أو مملكة له... هذا ما دفع النبي إلى الانتقال المفاجىء من مشكلة يهوذا في عصر النبي أو بعده بقليل إلى الحديث عن القوى المتحالفة ضد عمانوئيل، قائلاً:
"هيجوا أيها الشعوب وانكسروا واصنعوا يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة فلا تقوم. لأن الله معنا" [9-10].
لم يقف الأمر عند أشور الذي انهار حيث مات 185.000 رجلاً منهم في المعركة وإنما يعلن النبي عن سقوط كل قوى العالم المقاومة للحق: أشور يليها بابل ثم فارس ومادي والدولة الرومانية (إش 54: 17، مى 4: 13). وبالأكثر قصد قوات الظلمة الروحية المقاومة لمملكة المسيح. يعلن النبي أن هياج الأعداء وتحالفهم ومشوراتهم الشريرة ضد الكنيسة، موجهة ضد عمانوئيل الحال في وسطها، لهذا تنهار قوات الظلمة وتتمتع الكنيسة الحقيقية بالغلبة.
هذا الصوت النبوي يصرخ ضد كل مقاومي المسيح، معلنًا ما قاله الرب نفسه لشاول: "لماذا تضطهدني؟!... صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9: 4-5). ليفعل العدو كل ما في وسعه مقاومًا المؤمنين، فإنه إنما يُحطم نفسه.
4. تشكيك وتعثر في عمانوئيل:
يبدو أن البعض لم يصدق كلمات النبي وحسبوا ذلك فتنة سياسية أو خيانة وطنية ومقاومة للملك والسلطات، كي لا يلجأ يهوذا إلى أشور فيهلك على أيدي الآراميين وإسرائيل. لقد أمسك الرب كما بيد إشعياء ليشدده [11]. يرى البعض أن إشعياء نفسه-كإنسان- مال أحيانًا إلى رأي الملك ومشيريه والشعب، لكن الله مُصرّ أن يوضح له الطريق وإن كان مخالفًا لرأي الجماعة؛ كأنه قد أمسك بيده ليدخل به الطريق الضيق المرفوض. ولعل الرب أمسك بيده ليشدده من أجل الاتهامات الباطلة الموجهة ضده، ولكي لا يتوقف عن العمل النبوي بسبب ما يثيره هؤلاء القوم، إنما يُريده أن يُشدد الأيدي الأمينة بتقديسها للرب. وكأن الرب يمسك بأيدي إشعياء ليمسك الأخير بدوره أيادي المخلصين ويضعها في أيدي الله القدوس. لذا يقول: "لا تخافوا خوفه ولا ترهبوا، قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم" [12-13]. كل نفس أمينة في خدمة الرب تُقاوم، لكن الرب نفسه يسندها لا لكي تعمل فحسب وإنما لكي تسند الآخرين وتُشجعهم على العمل بروح الله القدوس، متطلعين لا إلى المقاومة بل إلى مساندة رب الجنود لهم.
ما أروع هذه الكلمات "لا تخافوا... قدسوا رب الجنود فهو خوفكم". لقد تكاتفت القوى الشريرة وتحالفت في تعالٍ وكبرياء، أما أولاد الله فيتحدوا معًا في الرب، يتحدوا تحت قيادة رب الجنود القدوس في حب وتقديس. هؤلاء لا يتكئون على أذرع بشرية ولا يريدون تحالفًا بين النور والظلمة وإنما يؤمنون بالغلبة والنصرة خلال التقديس أو الشركة مع الله القدوس.
ليس إشعياء وحده يُقاوم ولا أيضًا الأمناء من المؤمنين، إنما يصير "عمانوئيل" نفسه مُقاومًا وحجر صدمة لكثيرين: "ويكون مقدسًا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل وفخًا وشركًا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون فينكسرون ويعلقون فيلقطون"
[14-15].
إنه "مقدس" أو "حجر مقدس" بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم، هو "حجر الأساس" و"حجر زاوية" يربط المؤمنين من اليهود مع المؤمنين من الأمم كحائطين يلتقيان معًا فيه. وفي نفس الوقت هو حجر عثرة وصدمة لغير المؤمنين.
v متى قُدم (المسيح) في الكتاب المقدس كحجر يكون حجر عثرة لغير المؤمنين وحجر أساس للمؤمنين (إش 8: 14؛ 28: 16؛ دا 2: 34، 45؛ مت 21: 44؛ لو 20: 17؛ أع 5: 11؛ رو 9: 33 الخ...).
القديس أغسطينوس[159]
جاء السيد المسيح إلى خاصته وخاصته لم تقبله، لذا يقول "صخرة عثرة لبيتى"؛ مما يزيد جراحاته أن الرفض هو من بيته.
اقتبس القديس بطرس (1 بط 2: 8) هذه النبوة معلنًا إتمامها في شخص السيد المسيح.
5. البقية المقدسة لله:
إن كانت خاصة السيد المسيح أو أهل بيته قد رفضوه فصار لهم حجر عثرة لكن وُجدت بقية مقدسة قبلته مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر الخ... هذه البقية تُحسب خميرة مقدسة يستخدمها روح الله لتخمير العجين في العالم كله.
ما حدث مع السيد المسيح تم مع إشعياء بصورة باهتة بكونه رمزًا للمسيح، إذ صار له هو أيضًا تلاميذ أمناء.
"صُرّ الشهادة اختم الشريعة بتلاميذي" [16]. قبلت القلة المقدسة كلمات إشعياء النبي بكونها نبوات صادقة وكلمة إلهية، حاسبين كلماته إعلانًا عن فكر الله وإرادته المقدسة. هؤلاء دعاهم النبي تلاميذه و أيضًا "الأولاد الذين أعطانيهم الرب" [8]. هؤلاء يلزمهم أن يختموا أو يصروا على ما سمعوه، لأن هذه النبوات يجب أن تبقى محفوظة حتى أزمنة العهد الجديد، حيث تعلن للأطفال البسطاء (مت 11: 25). ختمها أيضًا يعني الالتزام بعدم الإضافة إليها أو الحذف منها.
ما ذكره إشعياء يبدو في عصره أنه أمر مستحيل يجب مقاومته لهذا كان يلزمه هو وتلاميذه أن يتسلحوا بالصبر للرب [17]. عاشوا في جو مقبض: الرب ساتر وجهه عن شعبه [17]، كأنه ليس شعبه ولا يعرفه مسلمًا إياهم لأذهانهم المرفوضة المخرَّبة، الأمر الذي أحزن قلب إشعياء وتلاميذه؛ وفي نفس الوقت يتطلع إليهم الشعب كغرباء عنهم وشواذ مملوئين حماقة. فبقوله: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل من عند رب الجنود" [18] يعني أن إشعياء وتلاميذه أشبه بآيات وعجائب بالنسبة للشعب، إذ يختلفون عن الكل في إيمانهم وسلوكهم وأفكارهم نحو الرب.
لقد حُسب تلاميذ إشعياء أولادًا له، وهو في هذا يحمل رمزًا للسيد المسيح الذي يشتاق أن يربط المؤمنين به برباط فريد أشبه برباط الأب مع أولاده.
v إنه أخ وصديق وعريس: "لا أعود أُسميكم عبيدًا... لكني قد سميتّكم أحباء" (يو15: 15). ويقول بولس: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)؛ "ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29). لم نعد فقط إخوته بل صرنا أولادًا له، إذ يقول: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" [18]، ليس هذا فقط بل وصرنا أعضاءه وجسده[160].
v هنا (عب 2: 13؛ إش 8: 18) يظهر (المسيح) نفسه أبًا كما أظهر نفسه قبلاً أخًا[161].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v [يتحدث مع طالبي العماد].
v تشارككم الملائكة الفرح، والمسيح نفسه رئيس الكهنة الأعظم... يُقدمكم جميعًا للآب قائلاً: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الله" ليحفظكم جميعًا موضع سرور نظرته.
القديس كيرلس الأورشليمي[162]
كما يتقدم إشعياء النبي بتلاميذه إلى الله كشهود حق، رمزًا لشخص السيد المسيح الذي يُقدم مؤمنيه للآب أعضاء جسده وأبناء للحق موضع سرور الآب، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نهتم بكل أحد خاصة أفراد الأسرة لنقدمهم لله أحباء له. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لنفكر جديًا في زوجاتنا وأولادنا وخدمنا، مدركين أننا بهذا نقيم لأنفسنا تدبيرًا حسنًا (سهلاً) ويصير تعاملنا معهم وديعًا ورقيقًا[163]].
6. الالتجاء إلى العرافين:
شعر الشعب كأن الله قد حجب وجهه عنهم لهذا بدأوا يطالبون المسئولين - ربما من بينهم بعض تلاميذ إشعياء - أن يلجأوا إلى أصحاب التوابع والعرافين لطلب المشورة والتعرف على الأمور المستقبلة. يدعوهم النبي "المشقشقين والهامسين" [19]، لأنهم يتكلمون بصوت خافت كما من عالم آخر ليتقنوا تمثيل دورهم.
ماذا يعني الالتجاء إلى العرافة؟ فقدان الإنسان كل ملجأ أو عون له، ذلك كما حدث مع شاول الملك. شعر أنه في عزلة عن الله، وعن أنبيائه، حتى الشعب تراجع عنه فلجأ إلى الموتى يسألهم خلال صاحبة العرافة.
كان يليق ببني يهوذا - قادة وشعبًا - أن يلجأوا إلى الله ويستشيروا أنبياءه ويسمعوا كلمة الله التي تُنير وسط الظلام [20]، فينالوا مشورة صالحة ومعرفة لإرادة الله وعونًا ونعمة، أما أن يلجأوا إلى العرافة بكل صورها وإلى سؤال الموتى، فهذا يعني أنهم رفعوا أعينهم إلى فوق فوجدوا السماء غاضبة [21] وتطلعوا إلى الأرض فإذا بالظلام الدامس حالّ بها.
في اختصار سقط بنو يهوذا في خطيتين خطيرتين هما: الالتجاء إلى التحالف البشري عوض الاتكال على الله، والرجوع إلى العرافة والموتى عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة استنارة وقوة.
هذه الصورة المؤلمة تعلن عن حقيقة هامة: الحاجة إلى مخلص إلهي!
المولود العجيب
إذ يشتد الظلام ينبلج الفجر لتشرق الشمس على الجالسين في الظلمة، هكذا خُتم الأصحاح السابق بصورة قاتمة عن الشعب الذي صار في ضيق شديد وظلمة، لذا جاء هذا الأصحاح يحدثنا عن مجيء المسيا "شمس البر" الذي يبدد الظلمة، والذي يمد يده بالحب منتظرًا رجوع الكل إليه .
1. نور أشرق في الظلمة [1-5].
2. المولود العجيب [6-7].
3. اليد الممدودة [8-12].
4. تأديب الرب لهم [13-21].
1. نور أشرق في الظلمة:
جاء ختام الأصحاح السابق قاتمًا للغاية، لهذا بدأ هذا الأصحاح بكلمة "ولكن"... فإن الله لا يترك شعبه هكذا، لكنه يُريد أن يشرق عليهم بنوره.
"ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" [1-2]. وقد تمت هذه النبوة بظهور السيد المسيح وكرازته في جليل الأمم. يقول الإنجيلي: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم؛ الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا" (مت 4: 14-16). اتسمت هذه المنطقة بالضعة، فيقول نثنائيل: "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو 1: 46). لعل هذا يرجع إلى أن هذه البقعة. (جليل الأمم) تقع على حدود الأمم، فكانت معرضة للغزوات، وبسبب اختلاطها بالأمم الوثنية المجاورة أخذت الكثير عن العادات الوثنية وظلت فترات طويلة في انحلال روحي، لذلك وضعها النبي: "الشعب الجالس في الظلمة".
منطقة الجليل عبارة عن دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، وكان اليهود فيها قليلي العدد، أكثر سكانها من الفينيقيين واليونانيين والعرب، لهذا سُميت "جليل الأمم"، جاء إليها السيد المسيح، معلم البشرية وشمس البر، ليُضيىء على الجالسين في الظلمة. أما منطقة كفر ناحوم التي تعني "المُعزي" فتعتبر من أهم مناطق الجليل، وهي قلعة رومانية كان بها حامية من قواد الرومان.
v سكن في الجليل حتى يرى الجالسون في الظلمة نورًا عظيمًا.
القديس غريغوريوس النزينزي[164]
v فليرَ الجالسون في ظلمة الجهل نور كمال المعرفة العظيم؛ الأمور القديمة عبرت، هوذا الكل قد صار جديدًا (1 كو 5: 17)؛ الحرف انتهي وتقدم الروح، الظلال هربت وجاء إليهم الحق.
القديس غريغوريوس النزينزي[165]
v بالإيمان يخرجون من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة.
القديس أغسطينوس[166]
v يشرق نور اللوغوس الذي هو الحياة في ظلام نفوسنا، يأتي إلى حيث يوجد رؤساء هذه الظلمة المقاومين لجنس البشر لإخضاعهم للظلمة، هؤلاء الرؤساء لا يثبتون في قوتهم إذ يشرق عليهم النور الذي جاء ليجعل من البشر ابناءً للنور.
العلامة أوريجانوس[167]
الله لا يسمح للظلمة أن تدوم إنما يشرق بنوره... فماذا يحدث؟
أ. "أكثرت الأمة" [3]؛ بالرغم من سقوطها تحت التأديب بضربات قاسية لكنها تنمو وتكثر برحمة الله ونعمته.
ب. "عظمت الفرح" [3] تفرح الأمة كما في يوم الحصاد أو يوم التمتع بغنيمة، وكأن سرّ فرحها هو الحصاد الكثير والغلبة أو النصرة على عدو الخير.
الفرح هو سمة كنيسة العهد الجديد المتهللة بالحياة الإنجيلية وسط الآلام، تفرح من أجل حصادها المستمر لنفوس كثيرة لحساب ملكوت الله، وتتمتع بغنيمة النصرة على عدو الخير. حياتها تهليل مسـتمر من أجل النفوس التائبة والمتمتعة بالخلاص ومن أجل
نصراتها غير المنقطعة.
ج. التمتع بحرية مجيدة: "لأن نير ثقلة وعصا كتفه وقضيب مسخره كسرتهن كما في يوم مديان" [4]. تتحرر من النير الثقيل والعصا وقضيب السخرة، كرمز للحرية والخلاص من عبودية إبليس خلال الصليب، فلم يعد لإبليس أو قواته سلطان على المؤمن المتمتع بحرية مجد أولاد الله.
2. المولود العجيب:
سر تمتع الأمة بالنمو المستمر والفرح الدائم مع الحرية المجيدة هو مجيء المسيا كمخلص وغالب ومنتصر باسم البشرية ضد الأعداء. جاء ابن الله متأنسًا ليحمل نير الصليب باسمنا فيهبنا كل امكانيات الخلاص. إذ يقول النبي: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى إبنًا، وتكون الرئاسة على كتفه ويُدعى إسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد، غيرة رب الجنود تصنع هذا" [6-7].
كانت البشرية المؤمنة تترقب التجسد الإلهي حيث يأتي إبن الله الذي هو الخالق واهب الحياة ومجدها ليقيم طبيعتنا الميتة الفاسدة إلى صلاحها الذي خُلقت عليه، باعادة خلقتها وتجديدها المستمر فيهبها استمرارية الحياة مع الفرح والحرية.
أ. "لأنه يولد وُلد وتُعطى ابنًا"، أي يتأنس فيصير ابن الله ابن الإنسان، ويُحسب ولدًا، يحمل طبيعتنا الناسوتية حقيقة في كمال صورتها بغير انفصال عن لاهوته ودون امتزاج أو خلط أو تغير. يُشاركنا حياتنا البشرية ماعدا الخطية ويبقى كما هو "ابن الله"... يقول الرسول: "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس" (عب 3: 14).
v صار إنسانًا في جسد خلاصنا، لكي يكون لديه ما يُقدمه عنا خلاصًا لجميعنا.
البابا أثناسيوس الرسولي[168]
v من هو هذا الذي يُريدنا أن نشاركه في لحمه ودمه؟ إنه بالتأكيد ابن الله! كيف صار شريكًا لنا إلاَّ باللحم؟ وكيف كسر قيود الموت إلاَّ بموته الجسدي؟ فإن احتمال المسيح للموت أمات الموت.
القديس أمبروسيوس[169]
ب. "وتكون الرئاسة على كتفه"، فقد ملك على خشبة كقول المرتل، خشبة الصليب التي حملها على كتفه بكونها عرش حبه الإلهي.
v تكون الرئاسة على كتفه، إذ دخل مملكته بحمله الصليب.
العلامة أوريجانوس[170]
v هذه تعني قوة الصليب، لأنه استخدم كتفيه عندما صُلب لحمله الصليب.
الشهيد يوستين[171]
ج. "يُدعى اسمه عجيبًا"، لأنه فائق الإدراك؛ أُعطى اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسمه كل ركبة ممن في السماء وممن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 9-11).
أدراك التلاميذ والرسل قوة اسم "يسوع"، به كانوا يكرزون، وبه كانوا يشفون مرضى ويخرجون شياطين ويقيمون موتى.
تكشف لنا كتابات العلامة أوريجانوس عن اعتزاز الكنيسة الأولى باسم يسوع كسّر قوة يتمسك به المؤمن ليعيش غالبًا ومنتصرًا على الخطية والشيطان وكل قوات الظلمة. فمن كلماته: [باسمه كثيرًا ما تُطرد الشياطين من البشر، خاصة إن رُدد بطريقة سليمة وبكل ثقة. عظيم هو اسم يسوع، الذي له فاعليته حتى إن استخدمه الأشرار أحيانًا. اسم يسوع يشفي المتألمين ذهنيًا، ويطرد أرواح الظلمة، ويهب شفاءً للمرضى[172]]. كما يعلن عن أن ألقابه تكشف عن نعمة المتعددة الغنيمة، إذ يقول: [بالرغم من أن المسيح واحد في جوهره لكن له ألقاب كثيرة تُشير إلى سلطانه وأعماله، يفهم أنه النعمة والبر والسلام والحياة والحق والكلمة[173]...].
د. "مشيرًا"، بكونه "حكمة الله" (1 كو 1: 24)، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم (1 كو 2: 3). جاءت الترجمة السبعينية "رسول المشورة العظيمة"... ما هي هذه المشورة العظيمة التي أرسله الآب من أجلها؟ اعلان السّر الإلهي للبشر، والكشف عن الآب الذي لا يعرفه إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له.
v دُعى ابن الله هكذا (رسول المشورة العظيمة) من أجل الأمور التي علمّها خاصة وأنه أعلن للبشر عن الآب، إذ يقول: "أظهرت اسمك للناس" (يو 17: 6)... أعلن اسمه بالكلمات والأعمال.
القديس يوحنا الذهبي الفم[174]
v ليست معرفة بدون إيمان، ولا إيمان بدون معرفة... الابن هو المعلم الحقيقي عن الآب؛ إننا نؤمن بالابن لكي نعرف الآب، الذي معه أيضًا الابن. مرة أخرى، لكي نعرف الآب يلزمنا أن نؤمن بالابن، إنه ابن الآب. معرفة الآب والابن، بطريقة الغنوسي الحقيقي، إنما هي بلوغ للحق بواسطة الحق... حقًا، قليلون هم الذين يؤمنون ويعرفون.
القديس إكليمندس الاسكندري[175]
v أُرسل الكلمة الإلهي كطبيب للخطاة، وكمعلم للأسرار الإلهية الذين هم أنقياء بلا خطية.
العلامة أوريجانوس[176]
هـ. "إلهًا قديرًا": إله حق من إله حق، واحد مع الآب في الجوهر، القادر وحده أن يُجدد طبيعتنا بكونه الخالق، والشفيع الذي يقدر وحده أن يكفر عن خطايا العالم كله.
و. "أبًا أبديًا": يلحق اللقب "إله قدير" بـ "أب أبدي"، ليعلن أن قدرة السيد المسيح، الإله الحق ليست في إبراز جبروت وعظمة إنما بالحرى في تقديم أبوّة حب فريدة نحو البشرية، خلالها ننعم بقدرة المسيح فينا. أنه الخالق القدير الذي يُعطي ذاته لمؤمنيه كأعضاء جسده وكابناء له فيحملون إمكانياته فيهم. بمعنى آخر في المسيح يسوع تُعلن قدرة الله الغير مدركة مع حبه العملي الفائق، لنقول مع الرسول: "استطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويني".
ز. "رئيس السلام"، هو ملك السلام (1 تس 5: 33)، الذي يُقدم لنا دمه من أجل مصالحتنا مع الآب، فنحمل سلامًا داخليًا معه (رو 5: 1)، سلامًا مع الله ومع أنفسنا ومع إخوتنا، محطمين سياج العداوة الداخلية والخارجية.
إنه ابن داود، "رئيس وملك"، لا على مستوى الأرض والزمن، وإنما لكي يملك أبديًا على كرسي داود أبيه (لو 1: 32-33) على مستوى القلب الداخلي والأبدية، ليس لمملكته ولا لسلامه حدود [7].
يملك بالحق والبر، إذ يخفينا فيه فنصير سالكين بالحق، حاملين بره. أما علة ذلك فهي "غيرة رب الجنود تصنع هذا"، يغير على البشرية بكونه العريس السماوي المتحد بعروسه.
في اختصار يعلن إشعياء النبي عن هذا المولود العجيب القدير، الذي لا يخلص آحاز من مقاومة أعدائه إنما يُقيم مملكة جديدة أساسها كرسي داود، مملكة سلام حقيقي يمتد إلى الشعوب والأمم ولا يكون لسلامه نهاية [7]، إذ يهبنا ذاته سرّ سلام أبدي.
v أنظروا لقد أُعطى لنا ابن الله.
بعد قليل يقول: "وللسلام لا نهاية" [7].
للرومان حدود (نهاية) أما مملكة ابن الله فبلا حدود.
فارس ومادي لهما حدود، وأما الابن فليس له حدود.
يقول بعد ذلك: "على كرسي داود وعلى مملكته..."، القديسة العذراء هي من نسل داود.
القديس كيرلس الأورشليمي[177]
3. اليد الممدودة:
كلمة الله في محبته غير المحدودة يتنازل ليصير إنسانًا لكي يضىء للجالسين في الظلمة، يشرق عليهم بنوره الإلهي واهبًا إياهم نور المعرفة، مقدمًا لهم حياته سرّ فرح وتهليل ونصرة مستمرة، أما الإنسان - فعلى العكس - يتشامخ بالكبرياء، حاسبًا في نفسه أنه قادر بذراعه البشري على تحقيق الخلاص. هذا ما حدث في أيام إشعياء النبي وما يحدث عبر العصور، فقد تشامخ بيت يعقوب رافضين مشورته النبوية، وأيضًا في أيام السيد المسيح حيث جحدوا الإيمان به... ومع هذا كله تبقى يدّ الله ممدودة بالحب تنظر رجوع الإنسان إليه.
في هذا الفصل ثلاثة أبيات شعرية في العبرية تنهي بالعبارة: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [12، 17، 20] (أيضًا إش 10: 4).
يرى البعض أن هذه اليد الإلهية الممدودة علامة على دعوة الله للإنسان كي يقترب إليه ويلتقي معه ويتحد به. وأيضًا علامة حماية الله له، وكأنه يؤكد له أنه مهما بلغت العقبات فيد القدير ممدودة لتخلصه من كل شر وتنقذه من المرارة والضيق. كما هي علامة على التأديب الإلهي النابع عن الحب، يمد يده ليضغط على الإنسان فيرجع إلى نفسه ويطلب الله معينه. هذه العلامات الثلاث قد تحققت خلال تجسد الكلمة، حيث يدعونا إلى البنوة لله، ويُقدم لنا الخلاص المجاني، ويحمل أجرة الخطية في جسده ليجتذبنا إليه. اليدّ الإلهية رمز للكلمة الإلهي الذي نزل إلينا ليعلن حب الآب ويصالحنا معه بدمه ثمنًا لخطايانا ومعاصينا.
الله - في محبته - سمح بالضيق لمملكة إسرائيل (أفرايم) لكن عوض التوبة تشامخوا بالأكثر. هذا ما كشفه النبي بقوله: "القائلون بكبرياء وبعظمة قلب، قد هبط اللبن فنبني بحجارة منحوتة؛ قطع الجميز فنستخلفه بأرز" [10]. يرى البعض أن النبي يتحدث هنا عن الزلزلة التي حدثت في أيام عزيا، والتي يبدو أنها كانت عامة (عا 1: 1؛ زك 14: 5)؛ بسببها سقطت معظم بيوت السامرة وأفرايم وكثرت الضحايا، فصاروا يتهكمون على قضاء الله معلنين أنه وإن كان قد سمح بهدم بيوتهم المصنوعة من اللبن وسقوط أشجار الجميز، فإنهم يقيمون قصورًا مصنوعة من الحجارة المنحوتة ويغرسون أشجار أرز لا يقدر الزلزال أن يهدمها أو يزيلها. وكأنهم بهذا يكررون ما فعله الإنسان عندما شرع في بناء برج بابل ليكون رأسه في السماء (تك 11: 3-4).
يرد إشعياء النبي على ذلك باعلان تأديب الله الأكثر شدة، فإنهم ماداموا لم يرتعدوا بالزلزلة فسيسمح بهياج العدو "رصين" ملك آرام، ويهيج أيضًا أعدائه (ربما قصد أشور الذي هاجم إسرائيل وفيما بعد انقلب على يهوذا). أنه يسمح بهياج الأمم ضد إسرائيل ليفترسوهم تمامًا، كما يفترس وحش غنمًا ويبتلعه: "فيأكلون إسرائيل بكل الفم" [12]؛ لكن تبقى مراحم الله تنتظر رجوعهم، إذ يكمل حديثه: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [12].
4. تأديبات الرب لهم:
يبقى الشعب متحجر القلب لهذا: "يقطع الرب مع إسرائيل الرأس والذنب، النخل والأسل (الحلفاء أو القش) في يوم واحد" [14].
أ. ينتزع رؤساء الشعب مهما كانت منزلتهم (الرأس، النخل).
ب. ينتزع الأنبياء الكذبة (الذنب، الأسل).
ج. إبادة المرشدين لأنهم مضلون [16].
د. لا يرق للفتيان بسبب صغر سنهم، ولا للأيتام أو الأرامل مع أنه "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 68: 5)... فقد اشترك الكل معًا في الشر مع عناد وعجرفة وحماقة [17]. كان الملوك الأشوريون في غاية القسوة: تغلَثْ فَلاسِر لم يترفق بالصغار ولا بالأرامل أو الأيتام في أفرايم.
هـ. يتحول الشعب كله إلى أشبه بغابة تحترق بنار الغضب الإلهي [19]، ليس لأن الله ينتقم لنفسه وإنما لأن فجورهم نار مدمرة [18].
ز. تتحول الأمة إلى حالة من الفوضى قانونها العنف والظلم وعدم التشبع، تسودها حروب أهلية دموية مدمرة: "لا يشفق الإنسان على أخيه، يلتهم على اليمين فيجوع، ويأكل على الشمال فلا يشبع، يأكلون كل واحد لحم ذراعه (أى جاره أو قريبه)" [19-20]... هذه صورة بشعة لمجتمع شريعته الحرب والعنف والأنانية مع الجشع. يُفني الواحد الآخر (غل 5: 15)، وكما يقول حجي النبي: "زرعتم كثيرًا ودخلتم قليلاً، تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون، والأخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس مثقوب" (حج 1: 6)، علامة خلو حياتهم من بركة الرب ونعمته.
ح. لا يقف التطاحن على الأفراد وإنما يتسلل إلى الأسباط نفسها فيتحالف سبط مع آخر ضد ثالث وهكذا: "مَنسَّي أفرايم وأفرايم مَنسَّي، وهما معًا على يهوذا" [21].
"مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [21].
هجوم آشور على يهوذا ومعاقبة آشور
يحوي هذا الأصحاح ويْليْن، الويل الأول ضد رؤساء الشعب بسبب شرهم، والثاني ضد آشور لأن الله سمح له بغزو يهوذا للتأديب فإذا به ينتفخ على الله ويجدف عليه، حاسبًا أن آلهته غلبت إله إسرائيل.
يرى البعض أن هذا الأصحاح كُتب في السنوات الأولى من حكم حزقيا ملك يهوذا، بعد سقوط السامرة في سرجون ملك آشور (10: 11).
1. الويل الأول ضد القيادات [1-4].
2. الويل الثاني ضد آشور [5-19].
3. الناجون من إسرائيل [20-23].
4. لا تخف يا شعبي [24-27].
5. الغزو الآشوري ليهوذا [28-32].
6. سقوط آشور [33-34].
1. الويل الأول ضد القيادات:
يرى البعض أن الويل الموجه ضد القيادات هنا هو تكملة لما ورد في الأصحاح السابق عن كبرياء إسرائيل، ويدللون على ذلك أنه انتهي أيضًا بالعبارة التي تكررت قبلاً: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" (إش 9: 12، 17، 21؛ 10: 4). بهذا يكون الحديث موجهًا ضد قيادات الأسباط العشرة (إسرائيل). غير أن تكملة الحديث موجه إلى أورشليم عاصمة يهوذا لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا ينطبق على قيادات المملكتين لأنهما تشابهتا في الشر.
يكشف الله تصرفات القادة الجائرة، التي تتركز في القضاء بالباطل والحكم بالظلم [1]، يصدون الضعفاء عن التمتع بحقوقهم المسلوبة، ويسلبون حق البائسين خاصة الأيتام والأرامل [2]. وكما يقول الحكيم: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تُجرى تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معزٍ لهم ومن يد ظالميهم قهر" (جا 4: 1).
الآن إذ يُدرك إشعياء عدل الله خاصة في دفاعه عن الضعفاء يسأل هؤلاء القادة:
"وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد؟ إلى من تهربون للمعونة؟ وأين تتركون مجدكم؟ إما يجثون بين الأسرى وإما يسقطون تحت القتلى" [3-4]. العقاب قادم لا محالة خاصة تجاه القيادات الدينية والمدنية، هذا أمر مفروغ منه وحقيقة لا يمكن تجاهلها. وكما سبق فقال: "ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به" (إش 3: 11). لا يجدون معونة، لأن الذي يعيننا في الحكم هو رحمتنا وترفقنا بالغير. تزول أمجادهم لأنها ارتبطت بالزمن لا بالله، لهذا منهم من يسقط أسيرًا ليجثو في مذلة بين الأسرى، ومنهم من يُقتل عندما يهاجمهم آشور، فيسقط تحت جثث الآخرين. لقد داسوا حق الضعفاء فيطأهم الغير تحت أقدامهم.
مع هذا كله لا زال الله يمد يد محبته ليُخلصهم من شرهم: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [4].
2. الويل الثاني ضد آشور:
سبق أن تحدث النبي عن قوة آشور العسكرية وجبروته ونصرته حتى على شعب الله، كما أكد أن ما حل بالشعب هو بسماح إلهي للتأديب، لكن آشور تعظم على الله وحسب بغلبته هذه أنه غلب إله هذا الشعب وأذله... لهذا يعود الرب فيؤدب آشور نفسه المتعالي والمتعجرف.
اعتاد إشعياء النبي أن يتحدث بجرأة وصراحة فبينما يدعو آشور قضيب غضب الله وعصاهم هي سخط الرب [5] لكون آشور أداة لتحقيق تأديبات الرب، نجده يدعو شعب الله "أمة منافقة" و "شعب سخط الله" [6]، لأن هذا الشعب قد حمل صورة العبادة من الخارج بينما دبّ الفساد في حياتهم الداخلية. هذا ما دفعه إلى دعوة الشعب بأسماء ممقوته وأن يعلن أن الله يُسلمهم لآشور للنهب والغنيمة لكي يطأهم آشور بالأقدام فيصيرون مدوسين كطين الأزقة... من يستخف بالحياة المقدسة في الرب إنما يسلم حياته للفساد والضياع وينهار ليسخر به عدو الخير ويطأه تحت قدميه.
لم يدرك آشور هذه الحقيقة أنه مجرد أداة للتأديب [7] إنما في كبرياء قال: "أليست رؤسائي جميعًا ملوكًا؟!" [8]، بمعنى أن الولاة الذين يقيمهم ملك آشور تحت قيادته هم جميعًا ملوك، فماذا يكون مركزه هو؟! إنه ملك ملوك!
قال أيضًا: "أليست كلنو مثل كرمشيش؟! أليست حماة مثل أرفاد؟! أليست السامرة مثل دمشق؟!" [9]. يرى الدارسون أن المتحدث هنا سنحاريب الآشوري المفتخر بانتصاراته بجانب أنتصارات سرجون السابق له بكونها انتصارات لحساب آشور ككل، تكشف عن عدم جدوى مقاومة الزحف الآشوري.
ربما يقصد بكلنو "كلنة" المذكورة مع حماة وجت في (عا 6: 2) والتي يظن أنها كولاني أو كولانهو الحديثة التي تبعد مسافة 6 أميال من أرفاد بالقرب من حلب.
كركميش: عاصمة الحثيين الشرقية، غربي نهر الفرات عند فرضة في النهر وشمالي مكان التقائه بساجور. موقعها تجاري ممتاز، غنية جدًا. استوفي آشور ناصر بال (885 - 860 ق.م.) منها جزية كبيرة جدًا، واستولى عليها سرجون عام 717 ق.م.، وبسقوطها سقطت الإمبراطورية الحثية. دعاها الرومان كركيسيوم، في موقعها الآن جرابلس.
أرفاد: مدينة في آرام تبعد حوالي 13 ميلاً شمال حماة، في موضعها الآن "تل أرفاد". استولى عليها الآشوريون في القرن التاسع قبل الميلاد، لكنها ثارت ضدهم ثم عادوا فاستولوا عليها عدة مرات، وهم يفخرون بغلبتهم عليها.
هكذا لم تقف أمام آشور أعظم مدن الحثيين أو الأراميين، فهل تقف أمامه مدن يهوذا وإسرائيل؟! لقد حسب آشور نفسه أنه غلب آلهة الأمم وأوثانها التي تحميها فلن يقف إله إسرائيل أو يهوذا قدامه [10-11]، ظانًا أنه على ذات مستوى هذه الأصنام.
لقد سمح الله له بذلك، لكنه يعود فيؤدب آشور على سخريته به: "فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك آشور وفخر رفعة عينيه، لأنه قال: بقدرة يدي صنعت وبحكمتي، لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش وكما يجمع بيض مهجور أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف" [13-14].
هكذا ظن آشور أنه بقدرته وحكمته صنع أعمالاً خارقة: حكم ملوكًا ونقل الشعوب، دمر وقتل واغتنى، في غزواته يتطلع إلى الشعوب كعش طائر لا حول له ولا قوة، ينهب ما فيه من بيض مهجور... لم يوجد من يقف أمامه أو ينطق بكلمة.
لم يدرك آشور أنه كان فأسًا أو منشارًا يستخدمه الله للتأديب، فتشامخت الأداة على من يستعملها. لذلك يقوم الله بتأديبه هكذا:
أ. يرسل على "سِمانه"، أي أبطال جيشه الجبابرة، هزالاً [16].
ب. يوقد تحت "مجده"، أي جيشه، وقيدًا كوقيد النار [16]، فتلتهمه ليصير رمادًا. يصير الله "نور إسرائيل" نارًا آكلة لآشور، والقدوس لهيبًا يُحطم العدو [17]. بمعنى آخر الله الذي هو نور للمؤمنين وسرّ تقديس لحياتهم يكون نارًا آكلة ولهيبًا للأشرار المقاومين.
ج. يُفني جيشه فيبقى عدد قليل (أشجار وعرة) يستطيع صبي أن يكتب اسماءهم [19]، هذا من جهة العدد أما من جهة القوة فيفقدون طاقتهم النفسية والجسدية ويكونون كمسلول يذوب [18].
3. الناجون من إسرائيل:
كثيرًا ما تحدث الأنبياء عن "البقية" التي تخلص، قصدوا بها القلة القليلة التي تبقى أمينة للرب وسط انهيار القيادات الدينية وفساد القضاة والرؤساء والشعب أيضًا. هذه البقية التي تنجو من فساد الجماعة ورجاساتهم، يخلصون من الضيق الشديد وقت التجربة المُرّة (رؤ 3: 10). هذه البقية التي تنجو من ظلم آشور لا تفرح بعودتها إلى أورشليم إنما بما هو أعظم، تفرح بلقائها مع الله القدير نفسه [21].
اقتبس الرسول بولس قول إشعياء النبي [22 و 23 Lxx] قائلاً: "وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص، لأنه متمم أمر وقاض بالبر، لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به على الأرض" (رو 9: 27-28).
جاء هذا القول في إشعياء [ 22، 23 Lxx] وكان يحمل نبوة عن المسبيين إذ كانوا كثيرين جدًا بالنسبة للقلة القليلة التي تنجو من الأسر... وأن الله سمح بذلك، بل وقضى بهذا التأديب لأجل البر. طبق الرسول هذه النبوة بصورة أشمل على العصر المسياني حيث يؤسر عدد كبير جدًا من اليهود تحت الجحود رافضين الايمان بالمسيا، وقليلون هم الذين يخلصون بقبولهم المسيا المخلص، وقد سمح الله بذلك لأجل البر، ليفتح الباب للأمم[178].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه يعني أنني لا أهتم بالجمع (بالعدد الضخم)، ولا أتأثر بالجنس (اليهود)، وإنما أخلص من يتقدمون كمستحقين للخلاص. إنه لم يذكر "كرمل البحر" بلا سبب. إنما ليذكرهم بالوعد القديم (تك 22: 17؛ 32: 12) الذين جعلوا أنفسهم غير أهل له. لماذا ترتبكون إذن إن كان الوعد لا يتحقق (للكل) إذ أظهر كل الأنبياء أنه ليس الجميع يخلصون؟ عندئذ يظهر الرسول أيضًا طريق الخلاص... "لأنه متمم أمر وقاض (بسرعة) بالبر، لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به (سريعًا) على الأرض" (رو 9: 28)... هذا الأمر هو الإيمان الذي يحمل خلاصًا في كلمات قليلة: "لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامة من الأموات خلصت" (رو 10: 9). ها أنتم ترون أن الرب متمم كلمة قليلة على الأرض، والعجيب أن هذه الكلمة القليلة لا تحمل خلاصًا فحسب بل وبرًا[179]]. كما يقول: [لئلا تظن أن الله يهتم بالعدد الضخم فقط يقول: "وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص"[180]]. ويقول القديس أغسطينوس: [هذه هي البقية من تلك الأمة التي تؤمن بالمسيح[181]].
4. لا تخف يا شعبي:
يرى بعض الدارسين أن النبوة هنا تُشير إلى الحدث التالي: عندما رفض حزقيا بن آحاز وخليفته دفع الجزية هاجم سنحاريب الآشوري يهوذا بجيش قوي وحاصر أورشليم وكان على وشك استلام المدينة، لكن الله أمر بخلاصها. قُتل الجيش وهرب سنحاريب حيث قتله أبناؤه.
أشارت النبوة هنا إلى أمر هام وهو أن الله هو العامل في كل الأجيال. الله لا يكف عن أن يوصي شعبه بعدم الخوف، فهو الأب الملتزم بحياتنا وخلاصنا ونموّنا وسلامنا، يعمل في كل العصور بذراع رفيعة لخلاص مؤمنيه. إن كان خروج بني إسرائيل أو خلاصهم من العبودية يُحسب أمرًا فائقًا يكشف عن رعاية الله لمؤمنيه، فانه في أيام حزقيا يكرر خروجهم أو خلاصهم على مستوى أقوى وسط المرارة التي يُعاني منها الكل.
يُطالب الله شعبه ألا يخاف من آشور فإنه سيبُاد، إذ يُقيم الله عليه سوطًا [26]، يضربه بملاكه ضربة قاتلة (2 أى 32: 21)، كما سبق فضرب غراب أمير مديان (قض 7: 25؛ مز 83: 11)، وكما ضرب فرعون وجنوده في بحر سوف خلال عصا موسى [26]. هكذا يُبيد الله آشور لينزع هذا النير عن كتف شعبه [27] وعن عنقه بسبب السمانة (الدهن)، لأجل المسحة المقدسة التي نالها داود الملك وبنوة من بعده.
الأمر الثاني هو أن الممسوح أو المسيا القدير يهب راحة للأرض كلها وسلامًا خلال ملكه الطوباوي... هذا هو الخط الرئيسي في السفر كله، بل في الكتاب المقدس بعهديه.
5. الغزو الآشوري ليهوذا:
قبل الحديث عن سقوط آشور تحدث النبي عن الغزو الآشوري ليهوذا ليوضح قدارته الحربية الجبارة وسرعة تقدمه نحو أورشليم العاصمة مع ضعف مقاومة يهوذا بل وانعدامها، وكيف ارتعب يهوذا وارتعد [28-32]. قدم النبي وصفًا شاعريًا يكشف عن مرارة مدن يهوذا، لكن آشور يتوقف عند نوب (مدينة للكهنة تقع في شمال أورشليم)، ربما ليستريح الجيش ويستعد لمواجهة أورشليم. لقد وقف سنحاريب هناك ليرفع يده ويمدها مهددًا أورشليم [32]، فظهر كشجرة شامخة متعجرفة. هدد بسحق أورشليم ولم يدرك أن الله قد سمح بسحقه هو ولينزع عنه أغصانه التي يتشامخ بها.
في هذه النبوة لا يقصد الله سنحاريب وحده إنما عنى كل تحرك شرير مقاوم لكنيسة الله أو لأحد أولاده.
6. سقوط آشور:
يعلن الله تحطيم آشور تمامًا، فإنه يقضب أغصانه بل وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينزل مجده إلى التراب [33-34]، هذه هي ثمرة الكبرياء!.
المسيا والعصر المسياني
لم يكن ممكنًا لإشعياء النبي أن ينحصر في الأحداث المعاصرة له ولا الخاصة بالمستقبل القريب بالنسبة له وإنما اتجه نحو الخلاص الأبدي، ليرى عمل الله العجيب لا بسقوط آشور ولا بعودة القلة الأمينة إلى يهوذا، وإنما بسقوط عدو الخير إبليس واجتماع المؤمنين من اليهود والأمم كأعضاء في جسد واحد يتمتعون بالملكوت المسياني العجيب.
1. ظهور ابن يسى [1].
2. المخلص وروح الرب [2].
3. أعمال المخلص [3-4].
4. سمات العصر المسياني [5-9].
5. سلام بين الشعوب [10-16].
1. ظهور ابن يسى:
في الأصحاح التاسع تحدث عن المخلص بكونه المولود العجيب: "لأنه يولد لنا ولد... ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا" (إش 9: 6)، أما هنا فيؤكد ناسوته بكونه الملك ابن يسى: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" [1]. لم يقل ابن داود مع أنه شرعًا هو ابن داود، لكنه أراد تقديمه بصورة متواضعة جدًا، كقضيب وغصن من يسى الذي عاش ومات قليل الشأن. والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدًا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقراء للغاية.
بينما يتحدث الوحي في الأصحاح السابق عن آشور - يمثل عدو الكنيسة - كأغصان مرتفعة وقوية (إش 10: 33) يظهر المسيا كقضيب أو غصن متواضع. أراد أن يسحق الكبرياء محطم البشرية باتضاعه. وكما تقول عنه الكنيسة في جمعة الصلبوت: "أظهر بالضعف (الصليب) ما هو أعظم من القوة".
v هذا هو المسيح، فقد حُبل به بقوة الله بواسطة العذراء من نسل يعقوب، أب يهوذا، وأب اليهود، من نسل يسى...
الشهيد يوستين[182]
2. المخلص وروح الرب:
"ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" [2].
إذ جاء السيد المسيح ممثلاً للبشرية حلّ عليه الروح القدس الذي ليس بغريب عنه، لأنه روحه. حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا؛ بالنسبة له حلول أقنومي، واحد معه في ذات الجوهر مع الآب، حلول بلا حدود. أما بالنسبة لنا فهي عطية مجانية ونعمة تُمنح لنا في المسيح يسوع قدر ما تحتمل طبيعتنا ليعمل على تجديدها المستمر. لذا قيل عن السيد المسيح "فيه سُرّ أن يحل كل الملء" (كو 1: 19، 2: 9)، ومن ملئه الذي يملأ الكل ينال جميع المؤمنين نعمة فوق نعمة (يو 1: 16).
كلمة الله هو الحكمة عينها والفهم والقوة... فحلول الروح القدس ليس حلولاً زمنيًا بل هو اتحاد أزلي بين الأقانيم الثلاثة. بالتجسد الإلهي قَبِل ربنا يسوع ظهور الروح القدس حاّلا عليه لكي يهبنا نحن فيه، كأعضاء جسده، عطية الروح القدس واهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب.
ربما يسأل البعض: لماذا حلّ الروح القدس على السيد المسيح عند عماده؟ نُجيب[183]: الروح القدس هو الذي شكّل ناسوت السيد المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهي. ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته، لهذا لم يكن الناسوت قط في معزل عن الروح القدس، ولا في حاجة إلى تجديد الروح له، لأنه لم يسقط قط في خطية ولا كان للإنسان القديم موضع فيه، إنما طلب السيد أن يعتمد "لكي يكمل كل بر"، أي يقدم لنا برًا جديدًا نحمله فينا خلال جسده المقدس. حلول الروح عليه في الحقيقة كان لأجل الإنسانية التي تتقدس فيه، فتقبل روحه القدوس.
في هذا يقول القديس غريغوريوس النيسي: [اليوم اعتمد (يسوع) من يوحنا لكي يظهر الذي تدنس، ولكي يجعل الروح ينحدر من فوق فيرفع الإنسان إلى السماء، ويقيم الساقط الذي انحدر وصار في عار. لقد أصلح المسيح كل الشرور، فأخذ البشرية الكاملة لكي يخلص البشرية، ولكي يصبح مثالاً لكل واحدٍ منا. لذلك فهو يقدس باكورة وثمار كل عمل يقوم به لكي يترك لعبيده غيرة حسنة بلا شك في اقتفاء أثره[184]].
يتحدث القديس غريغوريوس النزينزي عن عمل الروح القدس في حياتنا كينبوع صلاحنا، قائلاً:
[يُدعى روح الله وروح المسيح... وهو نفسه الرب.
روح النبوة والحق والحرية،
روح الحكمة والفهم والمشورة والقدرة والمعرفة والصلاح ومخافة الله.
إنه صانع كل هذه الأمور،
يملأ الكل بجوهره ويحوي كل الأشياء،
يملأ العالم في جوهره ومع هذا فلا يمكن للعالم أن يدرك قوته.
صالح ومستقيم، ملوكي بطبيعته وليس بالتبني.
يُقدس ولا يتقدس،
يقيس ولا يُقاس،
يهب شركة ولا يحتاج إلى شركة،
يملأ ولا يُملأ،
يحوى ولا يُحوى،
يورث ويمجد... مع الآب والابن.
هو أصبع الله، نار كالله (الآب)...
الروح الخالق الذي يخلق من جديد بالمعمودية والقيامة.
هو روح العالم بكل شيء، يهب حيث يشاء،
يرشد ويتكلم ويرسل ويفرز ويحزن،
يعلن وينير ويحييّ، أو بالحري هو ذات النور والحياة.
يخلق هياكل ويؤله (يعطي شركة مع الله)،
يهب كمالاً حتى قبل العماد (كما في حادث كرنيليوس أع 10: 9)،
تطلبه بعد العماد كعطية... يفعل فينا العمل الإلهي،
ينقسم في ألسنة ناريِّة مُقسِّمًا المواهب،
يقيم الرسل والأنبياء والإنجيليين والرعاة والمعلمين.
يُفهم بطرق متعددة، واضح، وينخس القلوب...[185]].
3. أعمال المخلص:
"ولذّته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه" [3-4].
أ. يُقدم لنا السيد المسيح صورة حيّة عن التعامل مع الآخرين، وهي ألا تقوم على المظاهر الخارجية المجردة، وألا تكون حواسّنا هي الحكم خاصة الشم والنظر والسمع.
يقول "لذته His breath تكون في مخافة الرب" [3]. حاسة الشم هي أسرع حاسة في حياة الإنسان، يلزم أن تمتص مع بقية الحواس بالمخافة الإلهية. هنا يجب أن نميز بين ثلاثة أنواع من الخوف: خوف العبيد، خوف الأجراء، وخوف البنين. فالعبيد يخافون سادتهم لئلا يقتلوهم، والأجراء يخافون العاملين لديهم لئلا يحرموهم الأجر أو المكافأة، أما الأبناء فيخافون لئلا تجرح مشاعر آبائهم. هذا الخوف السامي الذي يهبه روح الرب لنا حتى نهاب الله ليس خشية العقوبة ولا الحرمان من المكافأة وإنما لأننا أبناء لا نريد أن نجرح مشاعر محبته.
ب. "لا يقضي بحسب نظر عينيه" [3]، إنما حسب الأعمال الداخلية بكونه فاحص القلوب والعارف بالأفكار والنيات. يأخذ السيد المسيح موقفًا مضادًا لما حدث في أيام إشعياء إذ كان القضاة يحكمون حسب الوجوه. هذه الضربة "المحاباة" كثيرًا ما تُصيب الملتزمين بمسئوليات قيادية، وقد وقف الرب حازمًا ضد هذا الوباء، فكان يوبخ القيادات الدينية التي أُصيبت بالمحاباة والرياء مثل الفريسيين والصدوقيين والكتبة، بينما كان يدعو الأطفال إليه بلطف ويترفق بالخطاة والعشارين.
ج. رفض الوشايات البشرية: "لا يحكم بحسب سمع أذنيه" [3].
د. اهتمامه بالمساكين والبائسين والمظلومين [4].
هـ. "ويضرب الأرض بقضيب فمه" [4]. جاء رب المجد يضرب بكلمته (قضيب فمه) أو بسيف فمه (رؤ 2: 16؛ 19: 6)، سيف الكلمة ذي الحدين (عب 4: 3) كل من التصق بمحبة الأرضيات فصار أرضًا. غايته أن يُحطم فينا محبة الزمنيات ليرفع كل طاقاتنا نحو السمويات.
جاء لكي يُميت الرياء والنفاق بروحه القدوس (نفخة شفتيه)، فيعيش المؤمنون بالروح القدس العامل في داخلهم دون أن ينشغلوا بالمظاهر الخادعة.
و. "ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه" [5]. كان الأغنياء في الشرق يلبسون منطقة مزركشة بالخيوط الذهبية كزينة علامة العظمة والبهاء ولكيما ترفع الثوب الفضفاض. أما الفقراء خاصة العبيد فيلبسون منطقة زهيدة تساعد الانسان على سرعة الحركة في خدمته لسيده وضيوفه، كما تستخدم المنطقة أثناء السفر لرفع الثياب، ويستخدمها الجند... على أي الأحوال جاء ربنا يسوع المسيح إلى العالم ملكًا روحيًا يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله بكونه القدوس واهب الحياة القدسية، وجاء كخادم يتمنطق لكي يغسل الأقدام البشرية حتى يُطهر كل من يقبل إليه.
كثيرًا ما يُشبّه البر بالثوب أو المنطقة، إذ ببر المسيح نستتر ونتحرك للعمل والجهاد (أى 29: 14؛ مز 109: 18، 19، أف 6: 13- 17؛ رؤ 19: 8).
4. سمات العصر المسياني:
بعد أن تحدث عن عمل السيد المسيح استطرد ليتحدث عن العصر المسياني، مقدمًا لنا صورة حية عنه أبرزها اتسام البشرية المؤمنة بالاتحاد معًا في جسد واحد، يحملون طبيعة الحب والسلام، فتختفي من حياتهم كل ثورة أو عنف أو حب لسفك الدماء والقتل أو التخريب والتدمير.
يصوّر هذا العصر قائلاً:
"فيسكن الذئب مع الخروف" [6]؛ لا يوجد تضاد أعظم من هذا، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه. يعيش صاحب القلب الذئبي المحب للافتراس مع الإنسان الوديع كالحمل، يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق. لم يعد من كان ذئبًا يهدد الحمل، ولا الحمل يخشى من كان قبلاً من فئة الذئاب، إذ صار الكل قطيعًا واحدًا يحمل الخليقة الجديدة التي في المسيح يسوع.
"ويربض النمر مع الجدي" [6]. الأول حيوان يترقب الفريسة ليُهاجمها غدرًا والثانى يلهو بلا اكتراث فهو مثير للنمر كي ينقض عليه... لكن طبيعة العنف والافتراس قد نُزعت عن النمر ليربض مع الجدي.
"والعجل والشبل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقها" [7]. قطيع عجيب غير متجانس، تحت قيادة عجيبة. من يتخيل صبيًا صغيرًا يقود عجلاً في رفقته شبلاً ومسمنًا! هذا الصبي الصغير يُشير إلى القيادات الروحية الكنسية التي تستطيع بروح البساطة أن تخلق بروح الرب من المؤمنين القادمين من أمم وشعوب مختلفة والذين يحملون مواهب متعددة قطيعًا وديعًا يخضع بورح الإنجيل كما لصبي صغير.
حقًا إن القيادات الوديعة- كالصبي- التي لا تعرف حب السيطرة تعرف أن تحول الأشبال إلى قطعان وذلك بعمل روح الرب.
"والبقرة والدبة ترعيان" [7]. يرى القديس إكليمندس الاسكندري[186] أن البقرة تُشير إلى اليهود لأنها من الحيوانات التي تحت النير وهي طاهرة حسب الشريعة بينما الدبة تُشير إلى الأمم والشعوب الوثنية إذ هي مفترسة (عنيفة) وبحسب الناموس غير طاهرة. وكأنه من سمات العصر المسياني أن يجتمع أعضاء من أصل يهودي مع آخرين من أصل أممي في "رعية" واحدة، تحت قيادة الراعي الواحد الصالح.
لما كانت الدبة مع اتسامها بالافتراس إلاَّ أنها بطيئة الحركة لذا فإن البقرة الحلوب تُحسب فريسة ثمينة وسهلة تقدر على افتراسها دون أن تفلت منها، على عكس الثور الصغير. مع هذا الإغراء نجد مصالحة عجيبة بينهما وصداقة بينهما كما بين صغارهما، إذ قيل: "تربض أولادهما معًا" [7]. هذا ما حدث فعلاً إذ جاءت الأجيال التالية في كنيسة العهد الجديد لا تحمل تمييزًا بين من هم من أصل يهودي أو أممي.
"والأسد كالبقر يأكل تبنًا" [7]، إذ فقد طبعه الوحشي وتغيرت طبيعته فصار كالحيوان المستأنس لا يطلب لحمًا بل تبنًا.
"ويلعب الرضيع على سرب الصل" [8]؛ لا يعود الرضيع ينزعج لأنه قد بطل سم الصلِّ.
"ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان" [8]. يمد الفطيم يده إلى فم الأفعوان ولا يُصاب بشيء.
في اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة، فتحمل الكنيسة كلها - خدامًا ومخدومين - روح الحب والوحدة. بهذا لا يُصيب الكنيسة - جبل قدس الرب - فساد "لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب" [9]، لا معرفة فلسفية عقلانية بحتة، إنما معرفة التلاقي والاتحاد والخبرة العملية للحياة الجديدة في الرب. هذه المعرفة الروحية تملأ حياة المؤمنين كأمر طبيعي تتحقق بتجسد كلمة الرب الذي جاء يُعرفنا الحق، وبعمل روحه القدوس، فصارت المعرفة تملأ الأرض "كما تُغطي المياه البحر" [9]. يقول رب المجد نفسه: "إنه مكتوب في الأنبياء: ويكون الجميع متعلمين من الله" (يو 6: 45؛ إش 54: 13؛ إر 31: 34؛ مى 4: 2؛ عب 8: 10؛ 10: 16).
يحدثنا القديس مقاريوس الكبير عن هذه المعرفة الروحية العملية، قائلاً: [إذ تتحد (النفس) مع الروح المُعزي بألفة لا توصف، وتختلط بالروح تمامًا تُحسب أهلاً أن تصير هي نفسها روحًا، باختلاطها معه حينئذ تصير كلها نورًا وكلها عينًا وكلها روحًا وكلها فرحًا وكلها راحة وكلها بهجة وكلها محبة وكلها أحشاء وكلها صلاحًا ورأفات[187]].
5. سلام بين الشعوب:
أ. جاء السيد المسيح ليُقيم ملكوته من كل الأمم والشعوب، واهبًا سلامًا للمؤمنين الحقيقيين "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسَّى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" [10]. اقتبس الرسول بولس هذه النبوة عندما تحدث عن تمجيد الأمم لله من أجل رحمته عليهم (رو 15: 6، 12) مبينًا أن قوله "في ذلك اليوم" تحقق بمجيء المسيا الذي ضم الأمم في ملكوته. لقد صار رب المجد يسوع "راية" تجمع حولها أبناء الله المتفرقين إلى واحد (يو 11: 52)، فصاروا رعية واحدة لراعٍ واحد. صار السيد راية تعلن الحب الإلهي في أعمق صوره برفعه على الصليب باسطًا يديه ليضم العالم كله في أحضانه (يو 12: 32)، كارزًا بفرح إنجيل الخلاص الذي ردّ للإنسان كرامته الأولى وغلبته على قوات الظلمة، فاتحًا لهم أبواب الفردوس.
يقول "إياه تطلب الأمم"؛ إنه مشتهى الشعوب، بحث عنه اليونانيون (يو 12: 20-21)؛ وأرسل قائد المئة كرينليوس الأممي إلى بطرس لكي يسمع عن السيد المسيح (أع 10).
"ويكون محله مجدًا"؛ جاء في الترجمة اليسوعية "يكون مثواه مجدًا"؛ لعله يقصد أن صليبه الذي كان عارًا صار بقيامته مجدًا، إذ صار قبره الفارغ مقدسًا للمؤمنين فيه يدركون حقيقة مسيحهم واهب الحياة والقيامة.
ب. ضم السيد المسيح إلى كنيسته البقية التي قبلت الخلاص، وقد جاءت من أماكن متفرقة (أع 2؛ يع 1: 1؛ 1بط 1: 1)؛ لذلك يقول النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن السيد يُعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فِتْروس (مصر العليا) ومن كوش ومن عيلام (مملكة في شرق نهر دجلة وشمال شرقي الخليج الفارسي) ومن شنعار (سهل بابل) ومن حماة ومن جزائر البحر" [11]. تحققت هذه النبوة في عيد العنصرة وأيضًا خلال خدمة الرسل وعبر الأجيال، وستتحقق مرة أخرى بصورة أوسع في الأيام الأخيرة حينما يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح كقول الرسول بولس (رو 11: 11-27). في ذلك اليوم ينضم قابلوا الإيمان القادمون من اليهود إلى الكنيسة التي سبق أن ضمت الأمم ويكون الكل أعضاء في جسد واحد: "ويرفع راية للأمم ويجمع منفييّ إسرائيل ويضم مُشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض" [ 12].
يحاول بعض المفسرين أن يحسبوا ذلك مجدًا لأمة إسرائيل بطريقة حرفية[188]، إنما هنا إعلان عن مجد الكنيسة التي تضم من الأمم واليهود معًا تجمع الكل من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها دون تمييز في الجنس... إذ يصير الكل كنيسة واحدة تحمل راية مسيحها الواحد.
ح. يُقدم الاتحاد الذي تم بين إسرائيل (أفرايم) ويهوذا عند عودتهم من السبي بعد أن استحكمت النزاعات بل والعداوة بينهما قرونًا طويلة صورة للاتحاد بين الأمم واليهود [13].
في القديم كان الفلسطينيون وبنو المشرق وأدوم وعمون وموآب ومصر مقاومين للشعب لذا وهب الله شعبه إمكانية النصرة عليهم [14-16]، أما في العهد الجديد فتكون الغلبة لا بانتصارات حرببية وإنما بقبول هذه الأمم للإيمان الحيّ فتصير أدوات للبناء لا للمقاومة والهدم. الله الذي سبق فحول البحر لخلاص شعبه إذ أجازهم فيه بعد أن فتح لهم فيه طريقًا للعبور هكذا يجفف كل مقاومة في قلوب الأمم لينفتح طريق الملكوت المسياني.
بمعنى آخر الذي أصعد شعبه من مصر مجتازًا بهم وسط مياه البحر الأحمر، هو الذي يعبر بهم من آشور بعد السبي [16]، وهو الذي يعبر بالأمم إلى ملكوته بالرغم من كل العقبات والصعوبات التي تقف أمامهم.
تسبحة المفديين
اجتاز إشعياء النبي حالة الضيق التي أصابت نفسه بسبب ما بلغ إليه الشعب من فساد، الأمر الذي لأجله سمح الله بتأديبه بواسطة آشور وتلامس مع عمل الله الخلاصي لا بإعادة المسبيين إلى يهوذا وإنما ما هو أعظم: ظهور ابن يسى راية للأمم يجمع بحبه الفائق مؤمنيه من كل الشعوب ليتمتعوا بسلامه السماوي. لم يكن أمام النبي إلاَّ أن يُسجل على لسان هؤلاء المفديين بدم المخلص تسبحة مفرحة تعتبر امتدادًا للنبوة الواردة في الأصحاح السابق التي تشدو بمجد المسيح وشخصه وعمله وملكوته وشعبه.
1. مراحم الله وسط غضبه [1].
2. يهوه سر خلاصنا وقوتنا وفرحنا [2-3].
3. الشهادة لأعمال الله [4-6].
1. مراحم الله وسط غضبه:
"وتقول في ذلك اليوم: أحمدك يارب لأنه إذ غضبت عليّ ارتدَّ غضبك فتُعزيني" [1].
تبدأ الترنيمة الجديدة التي ينطق بها كل من يتمتع بعمل السيد المسيح الخلاصي بالكلمات: "وتقول في ذلك اليوم". أي يوم هذا؟ إنه يوم الصليب أو يوم الكفارة العظيم الذي فيه نحمد الرب الذي حوّل الغضب إلى خلاص وتعزية ومجد. لقد تجسم الغضب الإلهي على الخطية التي نرتكبها بصلب السيد المسيح - كلمة الله المتجسد - ليرفعنا من الغضب إلى المجد. ظهرت تعزيات الله العجيبة إذ حررنا لا من السبي البابلي وإنما من أسر إبليس وجنوده وأعماله الشريرة ليملك البر فينا.
هكذا نُقدم الحمد والشكر لله لا كالفريسي الذي وقف في الهيكل مفتخرًا على الآخرين، وإنما كاللص اليمين المطرود خارج المحلة من أجل خطاياه فيجد في صحبته المسيح الرب مصلوبًا لأجله، يفتح له أبواب الفردوس. هكذا يرتد غضب الله علينا إلى تعزيات سماوية إلهية فائقة. في ذلك اليوم صار هو نفسه سلامنا (أف 2: 14)، وفيه صالح الله العالم لنفسه (2 كو 5: 19).
2. يهوه سرّ خلاصنا وقوتنا وفرحنا:
"هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأنه ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا، فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" [2-3].
اقتبست الكنيسة القبطية جزءًا من هذه التسبحة لتنشدها للرب المصلوب في يومي خميس العهد وجمعة الصلبوت، وهو: "قوتي وتسبحتي (ترنيمتي) هو الرب، وقد صار لي خلاصًا. الله هو سر قوتنا وتسبيحنا وخلاصنا! في وسط مشاركة الكنيسة عريسها آلامه تسبح وتنشد؛ أما تسبحتها أو أنشودتها فهو المسيح نفسه، هو كل شيء بالنسبة لها.
بالمسيح المصلوب عرفنا الهتاف (مز 89: 15)؛ هتاف الغلبة على إبليس وأعماله الشريرة! هتاف الخلاص الذي به ننتقل من الشمال إلى اليمين ننعم بشركة الملكوت السماوي المفرح.
بالصليب تفجَّر ينبوع دم وماء من الجنب المطعون لنتقدس ونتطهر، ولكن نشرب ونفرح، إذ وجدنا ينبوع خلاصنا الأبدي.
هنا يدعو الله "ياه يهوه"؛ "ياه" هي اختصار للإسم "يهوه"، وكأن التسبحة تكرر هذا اللقب الإلهي "يهوه" لتأكيد أنه الله السمردي غير المتغير، يتكىء عليه المؤمن فيجد فيه قوته وفرحه وخلاصه إلى الأبد، فيطمئن على الدوام دون تخّوف. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن شئت أن يكون فرحك ثابتًا باقيًا، التصق بالله السرمدي، ذاك الذي لا يعتريه تغيير، بل يستمر ثابتًا على حال واحد إلى الأبد[189]].
3. الشهادة لأعمال الله:
يرى البعض أن العبارات السابقة [1-3] تمثل تسبحة مستقلة عن العبارات التالية [4-6] التي تمثل تسبحة ثانية. على أي الأحوال إن كانت الأولى تعلن انبعاث الحمد والتسبيح في النفس خلال التمتع بخلاص الرب، فإن الثانية مكملة لها تعلن الالتزام بالشهادة لله المخلص أمام الأمم. فما نختبره خلال اتحادنا مع الله مخلصنا يثير فينا شوقًا نحو تمتع الغير بذات الخلاص. "وتقولون في ذلك اليوم: احمدوا الرب، ادعوا باسمه، عرِّفوا بين الشعوب بأفعاله، ذكّروا بأن اسمه قد تعالى. رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا، ليكن هذا معروفًا في كل الأرض. صوِّتي واهتفي يا ساكنة صهيون، لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك" [4-6].
كيف نكرز بالرب؟
أ. بالتبشير: "عرفوا بين الشعوب بأفعاله"، وكما يقول الرب لتلاميذه: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 16: 5). كل مؤمن يلتزم بالشهادة لمخلصه، إذ نرى المرتل داود وهو يعلن توبته في المزمور الخمسين يقول: "امنحني بهجة خلاصك فأعلم الخطاة طرقك".
ب. بالفرح المقدس: "رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا، ليكن هذا معروفًا في كل الأرض". ليست شهادة للمخلص أعظم من تلامس الغير مع فرحنا الداخلي بالرب الذي يجتاز كل الأحداث والمتاعب. يقول المرتل: "حينئذ امتلأت أفواهنا فرحًا وألسنتنا ترنمًا، حينئذ قالوا بين الأمم: إن الرب قد عظم الصنيع معنا" (مز 26: 2).
صوت التهليل الداخلي يشهد لسكني القدوس فينا!
الفرح المقدس يعلن عن ملكوت الله المفرح في داخلنا. جاء في سيرة القديس أبوللو الكاهن بطيبة على حدود هرموبوليس (أشمونين)، أن وجهه كان دائم البشاشة، مجتذبًا بذلك كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة في الداخل، ومشبعة للقلب بالرب نفسه. كثيرًا ما كان يُردد القول: [لماذا نُجاهد ووجوهنا عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين والعويل للخطاة (الأشرار)، أما الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات[190]].
وحيّ من جهة بابل
إذ تحدث النبي عن السيد المسيح وأمجاد عصره خشى أن يفهم البعض أن هذا الأمر يتم في عهده أو في المستقبل القريب لذلك تنبأ عن بابل وما سيحل بالشعب خلال السبي البابلي ثم العودة من السبي.
قبل مجيء السيد المسيح تظهر مملكة بابل بكل عنفوانها لتتحطم، ويأتي المسيا ليملك ولا يكون لملكه نهاية. يتكرر الأمر بالنسبة لمجيئه الأخير حيث تظهر مملكة الدجال كمملكة بابل تُقاوم الكنيسة وتسود العالم لكنها تنهار ليأتي رب المجد على السحاب.
بابل وغيرها من الأمم العنيفة إنما تُمثل المقاومة لله ولكنيسته... وقد جاء الوحي هنا يعلن أن كل القوى المُعادية لله ومسيحه وشعبه لن تدوم بل تنهار.
1. وحي من جهة بابل [1].
2. دعوة الأمم لمقاتلة بابل [2-5].
3. يوم خراب بابل [6].
1. وحي من جهة بابل:
"وحي من جهة بابل رآه إشعياء بن آموص" [1].
أراد النبي تأكيد أنه هو كاتب النبوة، تمتع بها من جهة بابل. أما تأكيده أنه هو الذي رآها فذلك لسببين:
أ. إن كان إشعياء قد تنبأ بخصوص يهوذا وأورشليم لكنه يتحدث هنا عن مصير الأمم المجاورة مؤكدًا أن الله إله القديسين هو بعينه إله جميع الأمم.
ب. لم يكن لبابل حسبان في ذلك الوقت، فكان يصعب على السامع أو القارىء أن يُصدق ما يقال عنها من هذه النبوات.
جاءت كلمة "وحي" بالعبرية massâh وقد تُرجمت في الترجوم والفولجاتا والنسخة السريانية بمعنى "حمل" أو "ثقل burden"، ربما لأن النبي نفسه بسبب رقته كان يشعر بثقل شديد مرارة من جهة ما سيحل بهذه الأمم من متاعب وتأديبات إلهيه. فإن كانت هذه التأديبات عن استحقاق وستؤول في النهاية للخير لكن النبي كرجل الله لا يقف شامتًا بل متألمًا. بهذا الروح عاشت الكنيسة الأولى تؤدب لكن في حب وترفق لا تغلق باب التوبة أمام الخطاة حتى بالنسبة لمنكري الإيمان. وقد حسبت أمثال نوفاتيوس هراطقة من أجل قسوتهم على الخطاة. وكما يقول القديس أمبروسيوس في رده عليه: [بهذا حكموا على فساد تعليمهم، إذ بإنكارهم سلطان الحل أنكروا سلطانهم للربط أيضًا... ماذا أقول أيضًا عن عجرفتهم المتزايدة؟ فإن إرادتهم تُناقض إرادة روح الرب الذي يميل إلى الرحمة لا إلى القسوة... إنهم يفعلون ما لا يريده. لأنه هو الديان ومن حقه أن يعاقب، نجده برحمته يعفو!... يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة. لذلك قيل: "أُريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6)، فكيف يقبل الله تقدماتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله إنه لا يشاء موت الخاطىء مثل أن يرجع (حز 18: 32)؟[191]].
يظن بعض الدارسين أن ما ورد عن بابل في الأصحاحين (13، 14) ليس من وضع إشعياء النبي، وحجتهم في ذلك:
أ. أن بابل كانت مرتبطة بصداقة مع يهوذا (إش 39)، فكيف يعلن عن نبوة قاسية ضدها؟!
ب. كانت بابل خاضعة لآشور في ضعف.
ج. يبدو من الحديث أن إسرائيل كان مسبيًا لبابل أثناء إعلان النبوة.
يُرد على ذلك بأن النبي كان يتحدث عن المستقبل بروح النبوة، فيُشير إلى تأديب إسرائيل بواسطة آشور ثم موقف بابل فيما بعد عندما تحطم آشور وتصير مملكة عظمى، وسبي الشعب ثم عودته، وأخيرًا مجيء المخلص عمانوئيل في ملء الزمان. يتكلم النبي عن المستقبل كحاضر يعيشه، وهذا أمر طبيعي اعتاده الأنبياء لتأكيد أن ما يعلنون عنه يتم تحقيقه بدقة. هذا ولا نتجاهل أن النبي الذي قدم تفاصيل دقيقة عن شخص السيد المسيح وحياته وعمله الخلاصي وسِمات عصره يستطيع أن يتنبأ عن قيام دولة بابل وسبي الشعب بواسطتها الأمر الذي تم بعد حوالى 100 عام من إعلان النبوة. وقد ردد إرميا النبي فيما بعد - أثناء العصر البابلي - ذات صرخات إشعياء .
أخيرًا فإن حديث النبي عن الرجوع من السبي (إش 11) وتهديده بالسبي البابلي (إش 39) يدل على أن موضوع السبي البابلي لم يكن بعيدًا عن ذهن إشعياء النبي.
2. دعوة الأمم لمقاتلة بابل:
لم تكن بابل قد ظهرت عظمتها بعد، لكن النبي يراها قادمة، عاصمتها مدينة عتاة، لهذا يبدأ نبوته عنها بتحريض الرب للأمم كي تتجمهر ضد بابل وتقتحم أبوابها وتذل كبرياءها، قائلاً:
"أقيموا راية على جبل أقرع" [2]. هكذا يصدر الله أمرًا بمحاربة بابل فيدعو الأمم أن تقيم راية الحرب على جبل خالٍ من كل شجر أو نباتات حتى يمكن لكل الجيش أن يراها. كانت العادة في القديم أن يجمع بعض الجنود حطبًا ويوقدونه ليلاً على الجبل علامة بدء الحرب؛ لذا فإن وجودهم على جبل خالٍ من الأشجار يُساعد سرعة انتباه الجيش لبدء الحرب.
"ارفعوا صوتًا إليهم" [2]، أي اضربوا بالأبواق لأجل تحميس الجيوش.
"أشيروا باليد ليدخلوا أبواب العتاة (الأشراف)" [2]، أي يلوحون بالأيدي لتشجيع الهمم من أجل اقتحام مدينة الأحرار الأشراف في شجاعة وإقدام.
ما هي بابل إلاَّ النفس المتعجرفة التي يلزمنا أن نقتحمها لا برايات الحرب ولا بأصوات الأبواق ولا بالتلويح بأيادٍ بشرية وإنما برفع راية الحب التي لمسيحنا المصلوب لتقول: "علمه فوقي محبة" (نش 2: 4). لنضرب ببوق الإنجيل المفرح للنفوس، ولنمد يد الحب العملي لنسند النفس الضعيفة التي أذلها الكبرياء... هكذا نقتحم النفس بروح الرب العامل فينا فنجتذبها لحساب ملكوته السماوي خلال الحرب الروحية الفعّالة بالنعمة الإلهيه وليس بالعمل البشري.
الحديث هنا أعظم من أن يكون خاصًا بدعوة فارس ومادي لاقتحام الإمبراطورية العظيمة بابل، إنما هو دعوة تمس خلاص النفس الأبدي. لهذا يكمل قائلاً: "أنا أوصيت مقدسي ودعوت أبطالي لأجل غضبي مفتخري عظمتي، صوت جمهور على الجبال شبه قوم كثيرين، صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة. رب الجنود يعرضُ جيش الحرب. يأتون من أرض بعيدة من أقصي السموات الرب وأدوات سخطه ليُخرب الأرض" [3-5].
يلاحظ في هذا النص:
أولاً: من هم هؤلاء المقدسين والأبطال المنتسبون لله الذين يُستخدمون في هذه المعركة؟ يرى البعض أنهم القيادات العسكرية لفارس ومادي، فقد دعيت لمعركة مقدسة، ليسوا لأنهم في حياتهم أو إيمانهم قديسون وإنما لأن الله دعاهم دون أن يدروا لتحقيق أهدافه المقدسة، ووهبهم قوة للعمل واستخدمهم لتحقيق أمور ليست في أفكارهم. لقد حُسبوا أبطال الله بالرغم من عدم إيمانهم به، كما دُعى كورش الوثني مسيح الرب الذي أمسك الله بيمينه ليدوس أمامه أممًا الخ... (إش 45: 1).
هكذا هو صلاح الله العجيب، إذ يحّول طاقات وأعمال حتى الأشرار لحساب نمو ملكوته وبنيان النفوس.
إن كان الله قد دعا مقتحمي بابل الوثنيين مقدسيه وأبطاله، فماذا يكون حال أولاده "الجنود الروحيين" الذين بحق هي قديسوا الرب إذ هم مفرزون للعمل الروحي القدسي، الذين يُحاربون ضد إبليس وكل أعماله الشريرة من أجل تقديس أعماقهم وتقديس الغير بكسبهم بالحب الإلهي؛ كما يدعوهم "أبطاله" لأنهم يحملون قوته ويعملون بروحه القدوس؛ وأيضًا يحسبهم "مفتخري عظمته" إذ يحققون مجد اسم الله العظيم.
يرى الآباء القديسون أن المعمودية هي دخول إلى الجندية الروحية حيث يُختم طالب العماد بختم الروح ويُحسب جنديًا روحيًا لحساب مملكة الرب.
v يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم.
القديس كيرلس الأورشليمي[192]
v كما يُطبع الختم على الجند، هكذا يُطبع الروح القدس على المؤمنين.
القديس يوحنا الذهبي الفم[193]
v من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعطى له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية.
القديس غريغوريوس النيصي[194]
ثانيًا: ما هو صوت الجمهور القائم على الجبال شبه قوم كثيرين، "صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة، رب الجنود يعرض جيش الحرب" (إش 43: 4)، إلاَّ صوت الكنيسة المجتمعة معًا بروح الحب والوحدة على الجبال المقدسة تتمتع بالحياة العلوية، تسكن على قمم الوصايا المباركة لا عند السفح، تجتمع من ممالك أمم كثيرة كجيش بألوية (نش 6: 10)... إنها كنائس متعددة لها ثقافات متباينة لكنها خلال الإيمان الواحد والفكر الواحد تعيش كجيش روحي سماوي... هذه هي سمة الكنيسة الحقيقية: كنيسة سماوية! لذا يقول الرسول بولس: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).
v كم من كثيرين هاجموا الكنيسة فهلك الذين هاجموها، أما هي فحلقت في السماء.
v الكنيسة هي رجاؤك، خلاصك، وملجأك. إنها أعلى من السماء وأوسع من المسكونة.
القديس يوحنا الذهبي الفم[195]
"يأتون من الأرض بعيدة من أقصي السموات الرب وأدوات سخطه ليُخرب كل الأرض" [5]. تجتمع الكنيسة من أرض بعيدة، إذ كان أغلب أعضائها وثنيين مرتبطين بالعالم، غرباء عن بيت الله، لكنهم صاروا سماء الرب ومقدسه، يخربون الأفكار الزمنية أو محبة الأرضيات ليحملوا الآخرين إلى خبرة الحياة السماوية. وكأن تخريب الأرض يعني تحطيم انغلاق القلب على الزمنيات لينفتح على السماء. وكما يقول القديس إكليمندس الاسكندري إن الأرض تصير بالنسبة للمؤمن (الغنوسي) سماءً.
هذا من الجانب الرمزي، أما من الجانب الحرفي فقد دعا الله الأمم من فارس ومادي وغيرهما ليستخدمهم لتخريب كل أرض بابل العظيمة.
3. يوم خراب بابل:
يصور لنا النبي يوم خراب بابل المرهب على أيدي فارس ومادي بكونه يوم الرب الذي فيه يعلن غضبه على بابل المقاومة له ولأولاده.
لقد تحقق ذلك على يديّ كورش الذي لم يكن قاسيًا لكن جيشه كان عنيفًا متوحشًا همجيًا؛ لذلك خرب الجند بابل ليس من أجل سلبها كنوزها قدر ما كان ذلك رغبة في سفك الدماء.
يرى البعض أن ما ورد هنا تحقق فعلاً في أيام كورش ولكن بصورة جزئية، غير أنه سيتحقق بصورة أشمل في الأيام الأخيرة كما جاء في سفر الرؤيا (رؤ 17) عن دينونة الزانية العظيمة الجالسة على مياه كثيرة، بابل العظيمة أم الزواني.
أقول إن هذه النبوة تعلن عما يتم بالنسبة لمملكة إبليس ليس فقط في الأيام الأخيرة وإنما في قلب كل إنسان يقبل الإيمان بالسيد المسيح كملك يُقيم أورشليمًا جديدة فيه عوض بابل الزانية، أي يُقيم مدينته المقدسة عوض مملكة إبليس.
أ. يقول النبي: "ولولوا لأن يوم الرب قادم كخراب من القادر على كل شيء، لذلك ترتخي كل الأيادي" [6]، فلا يقووا على حمل السلاح. لقد صارت مملكة بابل سيدة العالم كله؛ قد أطال الله أناته عليها عشرات السنوات، والبابليون يتمادون في كبرياء قلوبهم وعجرفتهم ضد الرب نفسه، لذلك إذ يسقطون تحت غضبه ترتخي أياديهم العنيفة الحاملة للسلاح، فيصيرون في ضعف شديد وموضع سخرية.
هذه هي صورة عدو الخير كما كشفها القديس يوحنا الذهبي الفم في رسالته إلى صديقه ثيؤدور الساقط، موضحًا له أن إبليس يظهر عنيفًا للغاية وذا قوة وجبروت لكننا إذ نحمل مسيحنا يضعف وينهار. وفي مقال عن: "سلطان الإنسان على مقاومة الشيطان يقول: [الشيطان شرير، وأنا أسلّم بذلك، لكنه شرير بالنسبة لذاته وليس بالنسبة لنا مادمنا حذرين، لأن هكذا هي طبيعة الشر، إنها مهلكة بالنسبة للذين يتمسكون به وحدهم"[196]].
ب. "ويذوب قلب كل إنسان، فيرتاعون" [7-8]. هكذا ينتاب الكل حالة من الرعدة والخوف، من رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال؛ يصير الكل منهارًا ليس من يسند أخاه بل كل واحد يُحطم نفسه كما يُحطم من هم حوله!
سر رعدتهم حرمانهم من مخافة الله، فمن يخاف الله لا يخاف إنسانًا ولا أحداثًا بل يمتلىء فرحًا وسلامًا، لذا قيل: "رأس الحكمة مخافة الله". يقول القديس مار إفرآم السرياني: [لتكن خشية الله في قلبك أيها الحبيب مثل السلاح بيد الجندي[197]].
ج. "يتلوُّون من الألم كالوالدة وهي في حالة طلق" [8]، فقد حملوا في داخلهم ثمر شر يلدونه مرارة المُرّ. والعجيب أن الكتاب المقدس يشبه آلام الأشرار بآلام الطلق وأيضا آلام المؤمنين (يو 16: 20)، الأولون يئنون في يأس وبرعدة لأنهم يلدون ريحًا (إش 26: 18)، أما الآخرون فيفرحون وسط الحزن الخارجي لأنهم ينجبون إنسانًا في العالم (يو 16: 20).
د. تصير "وجوهكم وجوه لهيب" [8]، محمرة خجلاً بسبب انكسارهم الشديد وجنبهم، كما تبهت أحيانًا وجوههم [8]، إذ تصفر بسبب الخوف.
هـ. "تصير أرضهم خرابًا ليس من يمشي عليها" [9]، كرمز لما يحل بالجسد (الأرض) من فقدان لكل حيوية حقيقية. من يُقاوم الرب من أجل شهوات الجسد يفقد حتى جسده وتخرب نفسه الداخلية، إذ قيل: "لذلك أُزلزل السموات (النفس) وتُتزعزع الأرض (الجسد) من مكانها في سخط" [13]. ربما يُشير هنا أيضًا إلى ثورة الطبيعة ضد من يعصي خالقها. وكأن من يعصي الرب تعصاه الطبيعة ذاتها!
و. يحل بهم الظلام "فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها، تظلم الشمس عند طلوعها، والقمر لا يلمع بضوءه" [10]. هذا يُشير إلى ظلمة الجهل التي تحل بالإنسان المقاوم لله، فإنه لا يرى نور الكواكب جميعها بما فيها الشمس والقمر. لا يرى شمس البر، أي الإيمان بالمسيح القادر أن يهبه حكمة ومعرفة، ولا يرى نور القمر أي الحياة الكنسية المستنيرة بالرب بكونها القمر الحامل انعكاسات نور الشمس، ولا يتمتع بنور الكواكب الأخرى أو الشركة مع القديسين الذين يضيئون ككواكب منيرة.
ز. يموت الرجال في الحرب، وإذ اعتادت النساء في بابل على الحياة الخليعة لذا يطلبن رجلاً لتحقيق شهواتهن الرديئة فيصعب عليهم وجوده: "وأجعل الرجل أعز من الذهب الابريز والإنسان أعز من ذهب أوفير (ربما مقاطعة في الجنوب الشرقي من العربية أو مكان في الساحل الغربي للهند)" [12]. أيضًا يُشير ذلك إلى قلة الأيدي العاملة بسبب الحرب مع عودة المسبيين وتحرر الأمم من السلطان البابلي.
ح. فقدان القيادة والرعاية: "ويكونون كظبى طريد وكغنم بلا من يجمعها، يلتفتون كل واحد إلى شعبه، ويهربون كل واحد إلى أرضه" [14]. يقصد هنا أنه يوم انكسار بابل يفقد الجيش القيادة فيهرب الجنود المأجورون أو المسخرون من الأمم كل إلى بلده.
هذه هي حال النفس البعيدة عن الله فإنها تفقد قيادتها الداخلية، ليعيش الإنسان كطريد أو كغنم بلا راع يجمعها... يحمل في داخله صراعات مُرّة وتشتيت فكر مع تحطيم للطاقات الداخلية.
ط. بطش بالكل دون تمييز بين عسكري أو مدني، رجل أو إمرأة أو طفل [15]. هنا يصّور ما يفعله مادي ضد بابل، فإن الماديين لا يحطمونها لاقتناء غنى [17] وإنما لتحطيم كل طاقات بابل، فلا يبالون بفتى صغير ولا بجنين في بطن أمه [18]، إنهم يخربون كل مواردها فتصير كسدوم وعمورة اللتين احترقتا بنار من السماء.
ى. تصير بابل قفرًا أبديًا، لا يسكنها إعرابي يرعى غنمه ولا يربض فيها رعاة خوفًا من الحيوانات المفترسة التي تسكنها (إش 30: 20-21). تصير خرابًا يسكن البوم ما تبقى من المنازل، ويوجد بها بنات النعام ومعز الوحش وبنات آوي والذئاب.
يقول الأب سيرينوس: [يجب ألا نأخذ كل هذه الأسماء بطريقة عشوائية، إنما تُشير إلى شراسة (الشياطين) وجنونهم تحت رمز الوحوش المفترسة، بكونها ضارة وخطيرة... وأكثر منها شرًا[198]].
إنها صورة للنفس التي تستسلم لعدو الخير فيستخدمها لحساب ملكوت الظلمة، يملأها شرًا ويحولها إلى معمل للفساد:
"تربض هناك وحوش القفر" [21]... يسكنها العنف والشراسة ومحبة سفك الدماء البريئة بلا سبب.
"يملأ البوم بيوتهم" [21]، حيث يتشاءم غالبية الشرقيين من أصواتها... وكأنه لا تُسمع في داخل الإنسان الشرير سوى أصوات اليأس والتشاؤم الذي يكشف عن فراغ داخلي.
"تسكن هناك بنات النعام" [21]، أي مملوءة نجاسة (لا 11: 16؛ تث 14: 15)، صوتها كالنحيب (مى 1: 8) لا يدخل إليها الفرح السماوي، طبعها جاف لا تحب بيضها (مرا 4: 3)؛ تدفن رأسها في الرمال متى رأت صيادًا يقترب إليها، وكان يُظن أنها تفعل ذلك لأنها تحسب أنه بذلك لا يراها الصياد لكن ظهر حديثًا أنها تفعل ذلك لأنها أجبن من أن ترى نفسها تقع ضحية للصيادين.
"ترقص هناك معز الوحش" [21]. ربما يعني الوعل، لا يوجد إلاَّ في الأماكن المقفرة. هكذا ترقص وتلهو الشياطين في النفس الشريرة إذ تجد فيها موضعًا لها.
"وتصيح بنات آوي (حيوان أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب) في قصورهم والذئاب في هياكل التنعم" [22]... أي تتحول القصور والهياكل من أماكن للتنعم إلى مأوي للحيوانات الشرسة.
هذا كله حل ببابل "بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين" [19]، المدينة الذهبية (إش 14: 4)، الغنية في كنوزها (إر 51: 13)، فخر كل الأرض (إر 51: 41)، شُبهت بالرأس الذهبي في التمثال المذكور في سفر دانيال. تحققت فيها النبوات كما وردت بطريقة حرفية، إذ يذكر التاريخ أن كورش هدم جزءًا كبيرًا من أسوار بابل وأبنيتها، وبعد 20 عامًا قام داريوس بهدم بقية الأسوار ونزع أبوابها النحاسية مع صلب ثلاثة ألاف من عظمائها. يُقال إن طول سور بابل كان 60 ميلاً، 15 ميلاً من كل جانب، ارتفاعه 300 قدم وسمكه 80 قدمًا، يمكن لست مركبات أن تسير بجوار بعضها على السور[199].عمقه في الأرض 35 قدمًا حتى لا يحفر العدو طريقًا لنفسه تحته، ومُقام على السور 250 برجًا للمراقبة والحراسة، وبه 100 بوابة نحاسية ضخمة لامعة.
بالفعل تحولت بابل إلى خراب، وقد حاول اسكندر الأكبر أن يعيد مجدها لكنه مات قبل تنفيذ مشروعاته. استخدمت حجارتها في بناء بغداد وإصلاح الترع وإقامة الكثير من المرافق العامة.
أخيرًا فقد أكد النبي أن ما يقوله يتحقق سريعًا: "ووقتها قريب المجيء وأيامها لا تطول" [22]. فقد بدأ نجم بابل يتألق عام 606 ق.م.، وسقطت في يد فارس ومادي عام 536 ق.م.، بينما جاءت النبوة في القرن الثامن ق.م.
لقد بقيت بابل رمزًا لكل نفس متكبرة عاصية كما جاء في سفر الرؤيا، وقد قيل: "إنه في ساعة واحدة جاءت دينونتك" (رؤ 18: 10).
سقوط بابل
يكمل النبي حديثه عن تأديب بابل وغيرها من الممالك المقاومة لله ولشعبه، موضحًا أن غاية الله من هذا التأديب ليس سقوط بابل أو غيرها إنما تقديم راحة لشعبه بعدما تأدب بالسبي. يُريد تأكيد تحقيق وعود الله وعهوده مع شعبه الذي أذلته بابل.
يظهر الله كقائد للمعركة ضد بابل يقوم بتخريبها، لأنها بعجرفتها وكبريائها تُشير إلى عدو الخير إبليس. أما ملكها فهو أداة للشيطان وممثل أو رمز له.
1. ترفق الله بشعبه [1-3].
2. هجو على ملك بابل [4-21].
3. خراب بابل [22-23].
4. خراب آشور [24-27].
5. خراب فلسطين [28-32].
1. ترفق الله بشعبه:
الله الذي سمح لشعبه بالمذلة خلال السبي البابلي هو نفسه الله الرحوم الذي اختاره شعبًا خاصًا له [1]. لقد سبق أن أخرجه من مصر وحرره من فرعون وجاء به إلى أرض الموعد بذراع رفيعة، والآن يحقق خروجًا آخر إذ يحرره من السبي ويرده إلى أرضه ليس فارغًا ولا في ضعف، إنما في قوة يجتذب الغرباء إليهم ليصيروا دخلاء يُشاركونهم ذات الإيمان والعبادة؛ كما يهب شعبه قوة فيسبون من سبقوا أن سبوهم، ويتسلطون على من سبقوا أن ظلموهم؛ بهذا يستريح الشعب من التعب والعبودية [4].
يرى القديس يوحنا كاسيان أن ما حدث قديمًا مع هذا الشعب إنما هو رمز لما يحدث مع المؤمن الذي يتقبل "كلمة الرب" القادر أن يسير أمامه ويحرره من جور "الشهوات الشريرة" وتسلطها على جسده هذه التي تأسره كما في قضبان الرذيلة وتعزله عن المعرفة الخفية[200].
إننا محتاجون إلى عمل الله الدائم معنا، ليخرج بنا لا من عبودية فرعون ولا من
سبي البابليين إنما ليعتقنا خلال الصليب بروحه القدوس من أسر الخطية، ينطلق بنا من الظلمة إلى النور، لنعيش في حرية مجد أولاد الله .
هذه الصورة الرائعة لمحبة الله نحو مؤمنيه تعلن بقوة في طقس المعمودية حيث يخلع الإنسان ثياب العبودية والأسر ويعترف أنه يجحد الشيطان وكل جنوده ويرفض عبوديته الداخلية، متقبلاً الدهن المقدس ليحمل بهاء الروح فيه... ينزل إلى المعمودية ليتمتع بالعضوية في جسد المسيح فيصير قادرًا على الحياة الجديدة الغالبة للموت والظلمة، ليُسبح الله قائلاً: "بنورك يارب نعاين النور" (مز 36: 9).
v يدهن الله ملامحكم ويختم عليها بعلامة الصليب. بهذه الطريقة يكبح الله كل جنون الشرير، فلا يجسر إبليس على التطلع إلى منظر كهذا، إذ يُصيب عينيه العمى بالتطلع إلى وجوهكم، ويكون كمن يتطلع إلى أشعة الشمس فيثب هاربًا...
لتعرفوا مرة أخرى أن الله بنفسه هو الذي يدهنكم خلال يد الكاهن، وليس إنسان. أصغ إلى كلمات بولس القائل:" الله هو الذي يثبتكم في المسيح الذي مسحنا".
بعد أن يدهن كل أعضائكم بهذا الدهن تصيرون في أمان قادرين أن تُفحموا الحية ولا يصيبكم ضرر.
v في كمال ظلمة الليل يخلع الكاهن ثوبك كمن يقودك إلى السماء عينها خلال الطقس، ويدهن كل جسدك بزيت الزيتون الذي للروح لكي تكون أعضاؤك قوية لا تغلبها السهام التي يوجهها العدو ضدك .
القديس يوحنا الذهبي الفم[201]
2. هجو على ملك بابل:
يتحدث النبي باسم الشعب المتحرر من سلطان بابل فيهجو ملكها واصفًا إياه هكذا:
أ. "الظالم" [4]. إن كانت بابل قد دُعيت مدينة الذهب بسبب غناها الفاحش، فإن هذا الغنى قد تحقق خلال ظلم ملكها وغطرسته؛ هذا الظلم لن يدوم، وهذه الغطرسة لابد أن تنكسر: "كيف باد الظالم بادت المغطرسة. قد كسر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين" [4-5].
في كل عصر يوجد من يظلم بغطرسة مقاومًا الحق ومضطهدًا أتقياء الرب، لكن الظلم ينتهي والمُذلين يرتفعون. هذا ما حدث في أيام القديس يوحنا الذهبي الفم حين قاوم أتروبيوس الكنيسة وألغى حقها في حماية اللاجئين إليها، وبسبب سوء تصرفاته واستغلاله للسلطة ثار الجيش عليه وطلب إعدامه، فلجأ إلى الكاتدرائية التي كانت بالقرب من القصر، وذهب إلى المذبح وتعلق بالعامود، وظن الشعب أن ذهبي الفم ينتقم لنفسه وللكنيسة منه لكن القديس رفض معلنًا رحمته ومحبته حتى للأعداء[202]... انتهي الأمر بهروبه من الكنيسة وقتله بالسيف في خلقيدونية. وقد جاء في عظته الثانية على أتروبيوس ما يكشف عن ضعف كل ظلم بالنسبة لأولاد الله .
[من يُريد فليطردني خارجًا، ومن يُريد فليرجمني وليبغضني؛ فإن دسائس الأعداء ضدي هي الدعامات لنوال إكليل النصرة، وكثرة جزاءاتي تتوقف على عدد جراحاتي.
لهذا لا أخاف من مؤامرات الأعداء، إنما أخاف أمرًا واحدًا وهو الخطية. فإن كان أحد لا يقدر أن يجبرني على الخطية فليقم العالم كله بحرب ضدي، لأن مثل هذه الحرب تجعلني بالأكثر ممجدًا.
أُريد أن ألقنك درسًا وهو ألا تخاف من خداعات ذوي السطوة، لكن خف من سطوة الخطية. لا يضرك أحد إن لم تضر أنت نفسك بنفسك.
إن كنت لا تخطىء فإن عشرات الألوف من السيوف تهددك، لكن الله ينتشلك منها حتى لا تقترب إليك. ولكنك إن كنت ترتكب شرًا فإنك وإن كنت داخل فردوس فستُطرد منه].
ب. "الضارب الشعوب بسخطٍ ضربة بلا فتور، المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك" [6]. لم يتوقف عن الضرب لذا كسر الرب عصاه؛ ولم يمسك عن اضطهاد الشعوب، يكتم أنفاس الناس ويحجر على حريتهم، لهذا استحق أن يسقط في مذلة. وكما قيل: "كما فعلت يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو 15).
بسبب هذه السمات عندما سقطت بابل استراحت الأرض وهتفت ترنمًا [7]، وقيل ليعقوب: "ويكون في يوم يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التي استعبدت بها" [3]. تحققت هذه الراحة جزئيًا بعودة الشعب من السبي، لكن "بقيت راحة لشعب الله" (عب 4: 9)، هي الدخول إلى الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع بكونه "سبتنا الحقيقي" و "راحتنا الأبدية".
يحاول أصحاب الفكر الألفي أن يفسروا هذه الراحة بكونها تمتع بهذا الحكم الألفي حيث يطلبون راحة زمنية على الأرض تحت حكم المسيح بطريقة مادية[203]، غير أن الذي ذاق راحة المسيح وتعزيات الروح القدس يدرك بحق كيف نال راحة فائقة في هذا العالم هي عربون الراحة السماوية.
v كل البشر رأوا الله قد خطب طبيعتنا، والشيطان رأى ذلك وتقهقر. رأى العربون وارتعب منسحبًا، رأى ملابس الرسل فهرب (أع 19: 11). يا لقوة الروح القدس!...
تأمل ماذا فعل الروح؟ لقد وجد الأرض مملوءة من الشياطين فجعلها سماءً.
القديس يوحنا الذهبي الفم[204]
لقد أدرك الآباء أن التمتع بالعماد هو دخول إلى الراحة، وتذوق للحياة الفردوسية:
v ها أنتم الآن في بهو القصر، ستُقادون حالاً للملك[205].
v حالاً سيُفتح الفردوس لكل واحد منكم[206].
القديس كيرلس الأورشليمي
بسقوط بابل شمت السرو (الملك) وأيضًا أرز لبنان (الرؤساء)؛ قائلين: "منذ اضطجعتَ لم يصعد علينا قاطع" [8]، بمعنى منذ نمتَ في القبر لم تعد توجد يد تؤذينا؛ فقد اعتاد الأعداء أن يقطعوا الأشجار في الحروب لمقاومة البلاد التي يستولون عليها ولاستخدامها كوقود، أو للبناء كما فعل نبوخذ نصر... على أي الأحوال، فإن الحروب مبددة للموارد الطبيعية.
لقد اضطجع السيد المسيح على الصليب بالجسد لكن الذي تحطمت قوته وصُلبت إمكانياته هو إبليس... فصرنا بالصليب أحرارًا من عبودية العدو، قادرين أن ندوس على قوته تحت أقدامنا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تخف من الشيطان حتى ولو كان روحًا بلا جسد، فليس شيء أضعف منه[207]].
لم يقف الأمر عند استهزاء الملوك بملك بابل، إنما يصوره النبي وهو منحدر في الهاوية يستقبله ملوك الأرض والعظماء - ربما الذين سبق أن اضطهدهم - يقومون عن كراسيهم في الهاوية لا لتكريمه وإنما للاستهزاء به وللسخرية منه، لكي يجلس على كراسيهم كما فعل وهو على الأرض. يقولون له باستخفاف:
"أأنت أيضًا قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا؟!" [10]؛ كنا نحسبك إلهًا خالدًا كما ادعيت، ولم نتخيل أنك تموت في مذلة مثلنا!
"أهبط إلى الهاوية فخرك رنة أعوادك؟! تحتك تُفرش الرمة، وغطاؤك الدود" [11]. كنت تفترش الحرير وتتطيب بأثمن الأطياب، فكيف نزلت إلى الهاوية كمخدع لك تفترش الرمة وتتغطى بالدود؟
"كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟! كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟! وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، ارفع كُرسيِّيَ فوق كواكب الله، وأجلس على جيل الاجتماع في أقصي الشمال، أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي" [14].
لقد تشبهت بإبليس سيدك الذي كان كوكبًا عظيمًا ومرموقًا بين السمائيين "زهرة بنت الصبح"، فتشامخ على الله خالقه، وظن أنه يقدر أن يرتفع على مستوى الله نفسه بل ويصير أعظم منه، فسقط ليصير ظلامًا عوض النور إذ عزل نفسه بنفسه عن الله مصدر النور. أردت أن تجلس على جبل صهيون (مز 48: 2)، جبل الله المقدس، حسبت نفسك كالله في العظمة فتعاليت فوق السحاب!
هذا هو سر هلاك ملك بابل، سقوطه في الكبرياء وتشامخه لا على الملوك المحيطين به فحسب وإنما حتى على الله نفسه، فصار أداة للشيطان يحمل سمته "الكبرياء"؛ هذه هي خطية أبوينا الأولين حين كانا في الفردوس؛ وأيضًا خطية ملك صور الذي صار رمزًا للشيطان (حز 28: 12-16)، وأيضًا سمة الدجال أو ضد المسيح أو إنسان الخطية إذ قيل عنه: "المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 3-4).
يقول القديس يوحنا كاسيان:
[كان كبرياء القلب وحده كفيلاً أن يطرح من السماء إلى الأرض بقوة عظيمة هكذا متحلية بسمات قديرة كهذه؛ فإن سقوط (إبليس) العظيم جدًا يلزمنا أن ندرك أي حذر
يجب أن نكون عليه نحن المحاطون بضعف الجسد من كل جانب...
لقد أنتفخ فظن أنه في غير حاجة إلى العون الإلهي ليستمر في النقاوة التي كان عليها، وظن في نفسه أنه يشبه الله . بهذا حسب أنه غير محتاج إلى أحد، متكلاً على قوة إرادته الذاتية التي بها يقدر أن يمد نفسه بكل ما هو ضروري لتحقيق الفضيلة واستمرارية البركة الكاملة. هذا الفكر وحده هو علة سقوطه الأول[208]].
"هكذا إذ يعرف الله الخالق طبيب الكل أن الكبرياء هي علة كل الشرور ورأسها لهذا يحرص أن يُشفي الضد بالضد، فما هلك بواسطة الكبرياء يُصلح بواسطة الاتضاع"... يقول واحد: "أصير مثل العلي" [14]، أما الآخر: "إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد... وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 6-8). يقول واحد: "أرفع كُرسيِّيَ فوق كواكب الله"، بينما يقول الآخر: "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 28). واحد يقول: "أنهاري هي لي وأنا أصنعها" (حز 29: 3 Lxx) والآخر: "لست أفعل شيئًا من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال" (يو 5: 30، 14: 10)[209]].
يقول القديس مار إفرآم السرياني: [في الإنسان المتواضع تستريح روح الحكمة]، [إذ ظهرت في أعين اخوتك كالذهب النقي فاحسب نفسك مثل إناء لا يُحتاج إليه، فتفلت من الكبرياء الممقوتة من الله والناس]، [المتكبر مثل شجرة مرتفعة وبهِّية لا ثمر فيها... والحسود مثل ثمر بهي من ظاهره وتالف من داخله[210]].
هكذا تُحدد الكبرياء الإنسان إلى الهاوية، لذا يُحدث النبي ملك بابل قائلاً: "انحدرتَ إلى الهاوية إلى أسافل الجب" [15]. لقد سقطت من قمة جبل أحلامك، وهبطت من سحاب خيالك، لتعيش في الهاوية مع إبليس سيدك.
أين جبروتك يا من زلزلت الأرض وزعزعت الممالك [16] ببطشك؟! حولت العالم إلى قفر وهدمت المدن لكي تسبي سكانها [17]؟!
أين عزك ومجدك؟ فإن كل ملوك الأرض اضجعوا بالكرامة، حتى أولئك الذين أذللتهم وعذبتهم، فقد ماتوا في بيوتهم ورُفعت صلوات عنهم وحنطت بعض أجسادهم، "وأما أنت طرحت من قبرك كغصن أشنع" (توجد بعض النباتات سامة جدًا وبعضها يضر الجلد لذا متى سقط منها فرع في الخلاء لا يجسر أحد أن يقترب إليه)، كلباس القتلى المضروبين بالسيف الهابطين إلى حجارة الجب (أي بلا قيمة، لا يُفكر أحد فيك كما لا يُفكر أحد في ثياب قتلى الحرب أثناء المعركة)، كجثة مدوسة (يطأها الإنسان تحت قدميه)" [19].
هذه النبوة تُشير إلى ذبح بليشاصَّر ليلة دخول الماديين بابل حيث لم ينشغل أحد بجثمان الملك وسط الخراب الذي حل بالمدينة.
هكذا فقد ملك بابل كل شيء، بل وقُتل شعبه وبنوه [20-21] بكبرياء قلبه؛ خسر المدينة الملوكية والنسل الملوكي.
3. خراب بابل:
بسبب الكبرياء ينتزع الله من بابل اسمها، ولا يترك فيها بقية ولا ذُرية (إر 51: 62)، لتكون مثلاً أمام العالم كله. تصير خرابًا (إش 13) يسكنها القنفذ وآجام مياه [23].
يرى بعض الدارسين أن القنفذ هنا "قفد بالعبرية" لا يقصد به حيوان القنفذ المعروف بشوكه الطويل وإنما طائر من الطيور التي تأوى إلى الأماكن المهجورة، وحجتهم في هذا أن القنفذ لا يأوى إلى آجام المياه، غير أن القائلين بأن ترجمة "قفد" تعني حيوان القنفذ يقولون بأن الخراب يحل بالبلد فيصير قسم منها آجام مياه والآخر مأوى للقنفذ. على أي الأحوال فإن المدينة الملوكية العظيمة تتحول إلى مسكن سواء للحيوانات أو الطيور التي تسكن القفر، وتُحسب دنسة مملوءة رجاسات، تحتاج إلى الكنس بمكنسة الهلاك، أي الإبادة التامة للخلاص من رجاساتها، حتى لا تفسد من حولها.
4. خراب آشور:
يذكر النبي ما سيحل بآشور وفلسطين لكي يتأكد السامعون صدق النبوة الخاصة ببابل والتي ستتم بعد حوالي 200 عامًا من إعلانها.
لقد تعدى آشور أرض يهوذا بلا مبرر، وجدف على الله، لهذا يسمح له الله بالدخول إلى أرض يهوذا وجبالها بكونها أرض الله وجباله وهناك يُحطمه، في المواضع المقدسة التي انتهكها [24-25]، فتصير آشور مثلاً أمام كل الأمم التي تفكر في الاعتداء [26].
يكشف الله عن خطته في تأديبه للأشرار، ألا وهي أنه يتركهم يُتممون إرادتهم الشريرة بكامل حريتهم، فيجنون ثمر شرهم فسادًا وهلاكًا، كأن الخطية تحمل عقوبتها فيها كما أن الحياة المقدسة في الرب تحمل مجدها داخلها. لهذا قيل: "قد حلف رب الجنود قائلاً: إنه كما قصدتَ يصير وكما نويتَ يثبت" [24].
5. خراب فلسطين:
"في سنة وفاة الملك آحاز كان هذا الوحي: لا تفرحي يا جميع فلسطين لأن القضيب الضار بك انكسر، فإنه من أصل الحية يخرج أفعوان، وثمرته تكون ثعبانًا سامًا طيارًا" [28-20].
كانت فلسطين في ذلك الحين مكونة من عدة إمارات، لهذا يُخاطبها قائلاً: "يا جميع فلسطين". يطلب منها ألا تفرح لأن القضيب الضار بها قد انكسر. يرى البعض أن هذا القضيب هو تغلث فلاسر الذي استولى على مدن فلسطينية، وقد مات قبل آحاز بسنة أو سنتين، فسيخلفه شلمناصَّر وسرجون وسنحاريب وهم أشر منه.
يرى غالبية الدارسين أن القضيب المكسور هو عزيا الذي ضرب الفلسطينيين بقسوة ففرحوا بموته (2 أى 26: 6). وأن أصل الحية هو بيت داود حيث يأتي حزقيا الملك الذي ضربهم ضربة أقسى من عزيا جده (2 مل 18: 8)، واستعبدهم.
أما الحية الطائرة فهي مثل الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية، ترمز لشخص السيد المسيح المصلوب، الحامل سم خطايانا في جسده ليبيده بموته المحييّ. هكذا ينتقل النبي من خلاص شعب الله من الأعداء البشريين إلى خلاصهم الأبدي من إبليس عدو الخير وذلك خلال الصليب.
يعلن النبي أن فلسطين تواجه مجاعة قاسية [30]، وحربًا مدمرة فتتحول مدنهم إلى دخان بينما في النهاية يحمي الرب شعبه ويترفق ببائسيه [32].
الله - في صلاحه – لا يمنع الشر ولا يلزم الأشرار على التوبة، لكنه في النهاية يُتمم خطة خلاصه لمؤمنيه المتكلين عليه، محولاً كل الأمور لبنيانهم.
وحيّ من جهَة موآب
يقدم إشعياء النبي نبوات تخص بعض الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل تتحقق سريعًا حتى يتأكد الشعب من أمرين: صدق نبوات إشعياء النبي فيما يخص المستقبل البعيد مثل السبي والرجوع منه ومجيء المسيا وأعماله الخلاصية، وأن الله هو إله الأرض كلها، ضابط الكرة الأرضية ومحرك الشعوب.
في هذا الأصحاح يبرز النبي تحطيم موآب على يديْ ملك أشور سرحدون أو سنحاريب بطريقة قاضية، الأمر الذي لأجله صرخ قلب النبي مشتاقًا إلى رجوعهم إلى الله وخلاصهم عوض الدمار الذي حلّ بهم بسبب جحد الإيمان.
1. سرعة تحقيق النبوة [1].
2. تحطيم المدن العظمى [2-5].
3. حلول مجاعة [6-9].
1. سرعة تحقيق النبوة:
"وحي من جهة موآب. إنه في ليلة خربت عار موآب وهلكت. إنه في ليلة خربت قير موآب وهلكت" [1].
جاء الموآبيون من نسل لوط، لذا فهم يمتّون بصلة قرابة لإسرائيل، سكنوا شرق البحر الميت، وكانت بلادهم تنقسم إلى بلاد موآب وعربات موآب وهذه كانت في وادي الأردن مقابل أريحا. سمح بنو رأوبين للموآبيين بالسكنى في مدنهم وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش، كما وجدت علاقات طيبة أحيانًا بين موآب وإسرائيل، فقد تغربت نُعمى هناك ورجعت ومعها راعوث، وعندما قاوم شاول داود أودع الأخير والديه لدى ملك موآب، ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح عداوه تجاه إسرائيل ويهوذا، فكثيرًا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم.
يتنبأ إشعياء النبي عن خراب المدن الكبرى في موآب، وقد تحققت هذه النبوة حرفيًا وبدقة خلال ثلاث سنوات من إعلانها (إش 16: 14)، وقد حلّ الخراب على يدىْ ملك آشور فجأة وبطريقة غير متوقعة.
"عار": اسم سامي معناه "مدينة"؛ تبعد هذه المدينة حوالي 14 ميلاً جنوبي نهر أرنون (عد 21: 15؛ 22: 36)، سميت أيضًا عروعير (تث 2: 36)، دعاها الإغريق عريوبوليس نسبة إلى إله الحرب "اريس"، ودعاها اليهود "ربة موآب"، وهي خربة الربة.
"قير" اسم سامي معناه "سور" أو "مدينة ذات أسوار"، تبعد حوالي أحد عشر ميلاً شرقي الجزء الجنوبي من البحر الميت، موضعها اليوم مدينة كرك في الأردن.
هلكت المدينتان عار وقير في ليلة واحدة، وليس في يوم واحد أو نهار واحد. فإنه إذ يغيب شمس البر عن النفس البشرية التي تشبه مدينة عظيمة مسوّرة، يحل بها ظلام الشر والجهل وتفقد كل ما تعبته لسنوات طويلة ليحل بها الخراب. لذلك يقول القديس بولس: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة، فلا ننم إذًا كالباقين بل لنسهر ونصح، لأن الذين ينامون فبالليل ينامون، والذين يسكرون فبالليل يسكرون" (1 تس 5: 5-6).
v من يشبه ذاك الواحد الجلي الذي يسهر ويصلي في الخفاء، تحيطه هالة من النور الخفي وسط الظلمة الخارجية، أما الشرير فكابن للظلمة يسلك، إنه يقف في ضياء النهار، ومع أن النور يكسوه من الخارج لكن الظلمة تكتنفه من الداخل.
أيها الأحباء، ليتنا لا ننخدع بأننا ساهرون، لأن من لا يسهر بالبر، فسهره لا يُحسب له!
القديس مار إفرآم السرياني[211]
v إذ يترك الإنسان (محبة) العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءًا وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب (مت 13: 43).
القديس غريغوريوس النيسى[212]
2. تحطيم المدن العظمى:
يصور إشعياء النبي ما حلّ بالمدن الكبرى في موآب بجانب عار وقير، فيقول:
"إلى البيت Bajith وديبون يصعدون إلى المرتفعات للبكاء" [2]. إذ حل الخراب بموآب لجأ الكثيرون إلى الآلهة الوثنية يصرخون بدموع وعويل لعلها تستطيع أن
تنقذهم، لكن بلا جدوى، وذلك كما فعل أنبياء وكهنة البعل في أيام إيليا النبي.
لقد لجأوا إلى "البيت"؛ ويرى البعض Bajith تعني "هيكلاً"، أو "بيت" bayit أي "بيت الإله كموش أو هيكل الإله" أو bat بمعنى "بنت" أو "ابنة" أي "أبنة المدينة" أو سكانها[213].
"ديبون" اسم موآبي يعني "مرتفعات" أو "هزالاً" أو "انحلالاً". وهي مدينة تبعد ثلاثة أميال شمال نهر أرنون، شمال غربي عرعير، تُسمى بالعربية "ذيبان"، فيها وجد مرتفع الإله كموش الموآبي.
يُترجم البعض "البيت وديبون" "بيت ديبون" أو "ابنة ديبون"، كأن الموآبيين قد هربوا إلى هيكل الإله كموش أو بيته في ديبون، يبكون وينوحون على ما حلّ بهم من خراب.
"تولول موآب على نبو وعلى ميدبا" [2].
لقد خربت "نبو"، بالقرب من الجبل العظيم نبو، شرقي الأردن في نهاية جنوب البحر الميت، وهو الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه مشتاقًا أن يعبر إلى أرض الأحياء وينعم بكنعان السماوية، وقد مات هناك (تث 34). كانت نبوة محصنة بالجبل العظيم، مركز دفاع للموآبيين، لكنها ضاعت وخربت فصارت علة للولولة. في ذات الموضع الذي تهلل فيه موسى ولول الموآبيون؛ ما يُفرح قلب المؤمن يُحطم نفس الجاحد عديم الإيمان!
ولولوا أيضًا على "ميدبا"، معناها "مياه الراحة"، تُسمى حاليًا "مادبا"، تبعد حوالي 5 أميال جنوب شرقي نبو، 14ميلاً شرقي بحر لوط، دعيت هكذا لأن بها بركة في الجنوب طولها وعرضها 360 قدمًا كما توجد بها برك أصغر في الشرق والشمال.
يقول النبي "في كل رأس منها قرعة، كل لحية مجزوزة، في أزقتها يأتزرون بمسح، على سطوحها وفي ساحاتها يولول كل واحد منها سيالاً بالبكاء" [2-3]. هذه جميعها علامات الحزن الشديد (إر 48: 37؛ 2 صم 3: 31؛ إر 4: 8؛ 41: 5؛ مرا 2: 10). قرع الرأس يُشير إلى المذلة، إذ اعتاد الغالبون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح؛ وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحي وكرامته، والاتزار بالمسح علامة اليأس الشديد، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلي.
هذه هي صورة النفس التي تعتزل إلهها ليسبيها العدو الشرير؛ تفقد حريتها وجمالها وسلطانها وكرامتها وفرحها، لتصير أشبه بأمة قبيحة ذليلة منكسرة، لا تجد راحة لا في الأزقة ولا على السطوح (حيث يضع الوثنيون آلهتهم) ولا في الساحات؛ أينما وجدت لا تشعر بالراحة.
"وتصرخ حشبون والعالة، يسمع صوتهما إلى ياهص، لذلك يصرخ متسلحو موآب، نفسها ترتعد فيها" [4]. كأن الموآبيين قد هربوا من مدينة إلى مدينة، وكان صراخهم يسمع من بعيد، من مدن بعيدة؛ صراخ سكان حشبون والعاله يدوى في ياهص.
"حشبون" اسم موآبي معناه "حسبان" أو "تدبير"، وهي مدينة سيحون ملك الأموريين، أخذها الموآبيون من سبط لاوي (يش 21: 29، أى 6: 81)، تُعرف حاليًا باسم "حسبان"، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق، تقع نحو سبعة أميال ونصف شمال مادبا[214].
"العاله"، كلمة عبرية ربما تعني "الله صعد"، تبعد حوالي ميلين شمال حشبون، تُسمى حاليًا "العال"، تقع على تل.
وتعتبر المدينتان في أقصى الشمال، كانتا موضع نزاع بين إسرائيل وموآب.
أما "ياهص" فكلمة عبرية تعني "موضعًا مدوسًا"، تُسمى "يهصه"، يُقال إنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر، تبعد حوالي 10 أو 12 ميلاً جنوب حشبون.
لم يحتمل إشعياء النبي أن يرى ما يحل بهذه المدن العظيمة، وكيف تحول شعبها إلى الصراخ المستمر، حتى صارت موآب ترتعد في داخلها: "نفسها ترتعد فيها" [4]، لذلك يقول "يصرخ قلبي من أجل موآب" [5]. لا يقف شامتًا في الأعداء، إنما يشاركهم مرارتهم، مشتاقًا إلى رجوعهم عن عداوتهم وتمتعهم بالخلاص. هذه هي سمة رجال الله: الحب الداخلي الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقاومين لهم!
v لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شره، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوكم لا بسبب طبيعته البشرية وإنما بسبب خطيته!
القديس أغسطينوس[215]
v لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء... فإن صلينا مـن
أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشارين، أما إن أحببنا أعداءنا وصلينا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر.
القديس يوحنا الذهبي الفم[216]
يقول النبي: "يصرخ قلبي من أجل موآب، الهاربين منها إلى صوغر كعِجْلة ثلاثية لأنهم يصعدون في عقبة اللوحيث بالبكاء، لأنهم في طريق حورونايم يرفعون صراخ الانكسار" [5].
جاءت كلمة "الهاربين" في العبرية في صيغة المفرد؛ وكأن إشعياء النبي يصور لنا الهاربين من أقصى الشمال إلى صوغر في الجنوب، المدينة الصغيرة التي لجأ إليها لوط عند حرق سدوم وعمورة، أشبه بعجلة واحدة عمرها ثلاث سنوات قد هربت كما من النير الثقيل الذي لم تعتد عليه. صاروا كشخص واحد ليس من يسنده ولا من يعزيه، يهرب إلى الأماكن الصغيرة (صوغر) فلا يجد له ملجأ.
أما اللوحيث وحورونايم فلا يعرف موضعهما، إنما غالبًا ما كانا بجوار صوغر.
3. حلول المجاعة:
لا يقف الأمر عند خراب المدن والهزيمة المنكرة والهروب والصراخ وإنما يحل بموآب مجاعة كثمرة طبيعية للهزيمة في الحرب وتحطيم الموارد الطبيعية والبشرية، أو ربما كعلامة من علامات ثورة الطبيعة نفسها ضدهم. يقول النبي: "لأن مياه نمريم تصير خربة، لأن العشب يبس، الكلأ فنى، الخضرة لا توجد، لذلك الثروة التي اكتسبوها وذخائرهم يحملونها إلى عبر وادي الصفصاف" [6-7].
"نمريم" اسم سامي معناه "مياه صافية"، وهي ينابيع في وادي نميرة في الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الميت. والمعنى هنا أن جماهير اللاجئين تكون عظيمة فلا تستطيع الواحة أن تكفيهم هم وحيواناتهم، لذا يتركون حيواناتهم ويأخذون ما يستطيعون حمله من ثروة وذخائر ليكملوا الطريق لعلهم يصيرون في غير عوز، لكنهم لا يقدرون أن يحملوا كل احتياجاتهم[217]. ويرى بعض الدارسين أنه بجانب ما يحل ببلادهم من مجاعة يقوم الأعداء بالاستيلاء على ثروتهم وذخائرهم ويحملونها إلى بلادهم ليتركوا موآب خرابًا.
تتحول موآب كلها إلى موضع صراخ وولولة، يدوي الصراخ في كل تخومها، يُسمع في الجنوب في وادي نميرة حتى اجلايم بجوار قير وبير ايليم في الشمال. وتتحول مياه ديمون إلى دم [9] بسبب كثرة سفك الدماء في تلك الليلة الشهيرة [ديمون أو ديبون ومعناها دم، غالبًا ما يقصد مياه نهر أرنون]، فلا يجد أحد ما يروى ظمأه.
البقية التي تنجو تصير كما في حالة رعب، تواجه أسدًا مفترسًا لا يمكن مقاومته [9]!
في اختصار تفقد موآب مدنها العظمى، وحقولها، ومياهها، وسلامها لتصير في خراب تام.
خضوع موآب ليهوذا
في أيام حزقيا يُقدم إشعياء النبي مشورة لموآب أن تفي بالجزية التي تعهدت بها أمام يهوذا فترسل إليه حملان، وهي جزية مناسبة لأن موآب مشهورة بقطعانها (عد 32: 4). قدمت موآب فيما بعد جزية أيضًا لإسرائيل (2 مل 3: 4). بهذه المشورة تتمتع موآب بالحماية عوض أن تصير كطائر تائه لا يجد عشًا. وإذ خشى النبي ألا تقبل موآب مشورته كشف لها جراحاتها المهلكة ألا وهي الكبرياء.
هذه دعوة مقدمة لكل نفس كي تخضع للسيد المسيح الملك الخارج من سبط يهوذا، لكي تقدم حياتها كحمل ذبيح من أجل الرب، فتنعم بالسلام الداخلي عوض أن يُحطمها جحود الإيمان والكبرياء.
1. مشورة للخضوع ليهوذا [1-5].
2. الكبرياء محطم للإنسان [6].
3. ولولة على موآب [7-14].
1. مشورة للخضوع ليهوذا:
سبق أن رأينا قلب إشعياء النبي يتحرك بحنان شديد نحو موآب فصار يصرخ من أجلهم. الآن يُقدم للموآبيين مشورة صالحة لإصلاح حالهم وتمتعهم بعلاقات طيبة مع بني يهوذا وتذوقهم للسلام والحماية، بتقديم الجزية (حملان) لحزقيا الملك؛ كرمز لدعوة الأمم إلى الخضوع للسيد المسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا، فإنه لا سلام ولا حياة أبدية دون قبوله ملكًا في حياتنا الداخلية.
في نهاية الأصحاح السابق قيل: "على الناجين من موآب أسدًا وعلى بقية الأرض" (إش 15: 9)، ويرى البعض أن الأسد ربما يكون حزقيا، أو السيد المسيح الأسد الخارج من سبط يهوذا ليملك على الأمم روحيًا[218].
يتقدم النبي نفسه ليعلن استعداده أن يكون وسيطًا أو شفيعًا لدى يهوذا عن موآب، مطالبًا الموآبيين بدفع الجزية: "أرسلوا خرفان حاكم الأرض من سالع نحو البرية إلى جبل ابنة صهيون، ويحدث أنه كطائر تائه كفراخ منفّرة تكون بنات موآب في معابر أرنون" [1-2].
"سالع" Sala اسم عبري معناه "صخرة"، دعاة اليونانيون بترا Petra والتي تحمل ذات المعنى، إذ هو موقع حصين في أرض أدوم؛ كان الأدوميون يهربون إليه أثناء الحصار العسكري كقلعة طبيعية حصينة لا تُقهر، لأنها قائمة على قمة جبل (عو 2)، تُسمى حاليًا أم البيَّارة.
كأن النبي يدعو الموآبيين الذين التجاؤا إلى أدوم وتحصنوا في سالع أن يتقدموا مع بقية الموآبيين الذين في البرية ليهوذا، وأن يقدموا الحملان في أورشليم "جبل ابنة صهيون".
إنها دعوة لكل إنسان ألا يظن في الذراع البشري أو الإمكانيات الطبيعية ملجأ له. إنما يكمن سلامه في بلوغه أورشليم، وتقديم حياته ذبيحة حب لابن داود، الأسد الخارج من سبط يهوذا. جاء الأسد كحمل ليصلب خارج أورشليم حتى نتقدم نحن كحملان - ذبائح حية - نُشاركه آلامه، فندخل إلى أورشليمه السماوية.
v "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1)...
ربما يُقال: كيف يصير الجسد ذبيحة؟ دع العين لا تنظر الشر، فتصير ذبيحة! لا ينطق لسانك بدنس فيصير ذبيحة! لا تمارس يدك عملاً محرمًا فتصير محرقة كاملة!... بهذا لا نحتاج إلى سكين أو مذبح أو نار، بالحرى نحتاج إلى هذه كلها لكنها ليست مصنوعة بالأيدي، إنما تأتينا من فوق. نحتاج إلى نار علوية، وسكين كهذه؛ مذبحنا هو اتساع السماء.
إن كان إيليا إذ قدم ذبيحة منظورة نزلت نار من فوق التهمت كل الماء والخشب والحجارة، فكم بالأكثر يحدث هذا بالنسبة لك؟!
القديس يوحنا الذهبي الفم[219]
v أحضر تقدماتك ... تقدمات نفسك!
القديس جيروم[220]
خارج السيد المسيح يرى النبي بنات موآب تعبرن نهر أرنون كطائر تائه ليس له عش يستقر فيه، أو كفراخ منفرة تفتقر إلى ظل الجناحين والدفء والحماية [2]، أما بقبوله فنصير تحت جناحي صليبه، نجد راحتنا وسلامنا وشبعنا الداخلي.
يُقدم النبي أيضًا مشورة لشيوخ يهوذا، مطالبًا إياهم أن يستقبلوا الموآبيين اللاجئين إليهم ليقدموا لهم ظلاً وسط الظهيرة، فيصير لهم الوقت كأنه ليل للراحة من شمس التجارب والضيقات؛ وأن يستروا المطرودين والهاربين إليهم بدون خداع، فلا يسلموا عبيدًا للأعداء [3-4].
يليق برجال يهوذا أن يحملوا رمزًا للسيد المسيح الملجأ الحقيقي، فيفتحوا قلوبهم ومدنهم للهاربين، ويستقبلوهم بإخلاص؛ بهذا تعلن مملكة المسيح القائمة على كرسي الرحمة أبديًا: "فيثبت الكرسى بالرحمة، ويجلس عليه بالأمانة في خيمة داود قاضٍ ويطلب الحق ويبادر بالعدل" [5].
هكذا يُقدم لنا النبي نصًا مسيانيًا، معلنًا أن الكنيسة - خيمة داود - هي موضع النجاة، يملك فيها المسّيا ليجتذب الأمم إليه فيجدوا فيه الحق ويتمتعوا بالمراحم الإلهية، مترنمين: "العدل والحق قاعدة كرسيك؛ الرحمة والأمانة تتقدمان وجهك... لأن الرب مجننا وقدوس إسرائيل ملكنا" (مز 89: 14، 18).
2. الكبرياء محطم للإنسان:
قدم إشعياء النبي المشورة الصالحة لموآب، كما قدم دانيال النبي مشورته أيضًا لنبوخذ نصَّر (دا 4: 27)... وقد كشف في نفس الوقت عن ضعفهم الروحي أي الكبرياء كعائق لهم عن قبول المشورة. "قد سمعنا بكبرياء موآب المتكبرة جدًا عظمتها وكبريائها وصلفها بُطل افتخارها" [6]. لقد سمع النبي عن كبرياء الموآبيين وتشامخهم الزائد وكلماتهم الفارغة (الباطلة)!
الكبرياء محطم للإنسان كما للأمم، يحرم صاحبه من قبول المشورة الصالحة، ويفقده التمتع بنعمة الله ورحمته.
3. ولولة على موآب:
لم يسمع قادة موآب لصوت إشعياء النبي بسبب كبريائهم واعتدادهم برأيهم لهذا سقطوا تحت العقوبات المُرّة واستحقوا الويلات التي يُلاحظ فيها الآتي:
أ. حدوث ولولة شاملة: "لذلك تولول موآب على موآب كلها يولول" [7]؛ إذ صارت الولولة سمة عامة في كل موآب.
ب. شملت الولولة أكبر المدن مثل قير حارسة [7] التي ضُربت، وأيضًا الحقول التي ذبلت كحقول حشبون وكرمة سبمة Sibmah ويعزير [8-9]؛ شملت المدن والقرى؛ المتعلمين والجهال، الأغنياء والفقراء الخ...
اشتهرت حشبون وسبمه ويعزير بغنى كرومها.
ج. تحولت أفراح الحصاد إلى بكاء ونوح؛ عوض صيحات العيد المبهجة سُمعت صرخات المعركة المُرّة [10].
د. انطلق الموآبيون إلى المرتفعة للصلاة في هيكل الإله كموش بلا جدوى [12].
هـ. تحدد ميعاد العقوبة بثلاث سنوات خلالها تنهار موآب أمام سنحاريب ملك آشور، ويذل الموآبيين ويتحطم مجدهم [14].
هذه هي نهاية الإنسان المتكبر، يصير كموآب تحل الولولة بحياته ككل، في الأمور الكبيرة وأيضًا الصغيرة، لا يعرف الفرح الداخلي ولا بهجة القلب، أعياده تتحول إلى أحزان، عبادته تكون بلا نفع، ينهار يومًا فيومًا ليفقد مجده تمامًا.
وسط هذه الصورة القاتمة يكشف إشعياء النبي عن جانبين مبهجين: الأول مشاركة النبي بنى موآب متاعبهم، إذ يقول: "لذلك ترن أحشائي كعود من أجل موآب وبطني من أجل قير حارس" [11]. لا تحتمل أحشاؤه الداخلية أن تنظر نفوسًا متألمة حتى وإن كانت آلامها ثمرة خطاياها.
الجانب الثاني وجود بقية قليلة جدًا وضعيفة للغاية [14]، ففي القديم تمتعت راعوث الموآبية بالخلاص، إذ جاءت تحتمي تحت ظل الله، وفي العهد الجديد جاء الأمم إلى الإيمان ليتمتعوا بالحياة الجديدة في المسيح يسوع.
وحيّ من وجه دمشق وآفرايم
ليس عند الله محاباة، فإن كان يؤدب الأمم الوثنية مثل موآب لجحدها الإيمان وعجرفتها وتجديفها عليه فإنه يؤدب إسرائيل (أو آفرايم- العشرة أسباط) لأنها تحالفت مع آرام أو سوريا (عاصمتها دمشق) ضد يهوذا متكئين على فرعون مصر ضد آشور. لهذا سمح الله لملك آشور أن يهجم على آرام وآفرايم ويغلبها سريعًا.
هذا وقد وجدت علاقات بين دمشق (آرام) وإسرائيل منذ القدم. لقد أوكل إبراهيم الذي في صلبه إسرائيل كل بيته في يدي عبده لعازر الدمشقي؛ وفي أيام أليشع النبي جاء نعمان السرياني لينعم بالشفاء من برصه في مياه الأردن، كما جاءت المرأة الكنعانية السورية إلى السيد المسيح تطلب منه شفاء ابنتها، وكرز التلاميذ في دمشق، وظهر السيد المسيح لشاول الطرسوسي بالقرب من دمشق.
1. تدمير دمشق [1-2].
2. هزيمة آفرايم [3-11].
3. هجوم الأعداء [12-13].
1. تدمير دمشق:
تعتبر من أعرق المدن، ورد ذكرها في أيام إبراهيم (تك 14: 15)؛ غزاها داود الملك وأقام فيها حامية (2 صم 8: 5-6؛ 1 أى 18: 5-6). قام رزون وتمكن من تأسيس المملكة السورية ودامت الحرب بينها وبين إسرائيل زمانًا طويلاً لكنهما تحالفا معًا فيما بعد ضد يهوذا وآشور. وقد تعرضت للهزيمة عدة مرات، ففي سنة 843 ق.م. هاجم شلمناصَّر دمشق وهزم ملكها حزائيل، كما هاجمها تغلث فلاسر سنة 732 ق.م.، وقتل ملكها رصين وقاد شعبها إلى السبي (2 مل 16: 5-9؛ إش 7: 1-8؛ عا 1: 3-5). انتقلت بعد ذلك من الآشوريين إلى الكلدانيين ثم إلى الفرس فاليونانيين المقدونيين فالرومان على يدي ميتللوس عام 64 ق.م. لتصير سوريا مقاطعة رومانية عام 63 ق.م.
إن كانت دمشق قد تحالفت مع آفرايم ضد يهوذا، فقد حلت العقوبة على دمشق وآفرايم معًا. وهما يمثلان قوى العالم الشريرة المقاومة للحق كما جاء في سفر الرؤيا: "ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأُعطيت أن تحرق الناس بنار، فاحترق الناس احتراقًا عظيمًا وجدفوا على اسم الله الذي له سلطان على هذه الضربات ولم يتوبوا ليعطوه مجدًا" (رؤ 16: 19).
"هوذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم؛ مدن عروعير متروكة، تكون للقطعان فتربض وليس من يخيف" [1-2].
كانت دمشق مزدهرة جدًا حتى حاصرها تغلث فلاسر الآشوري وقتل ملكها وسبى شعبها فصارت أشبه برجمة خربة.
أما عروعير، فتوجد 3 مدن على الأقل تحمل ذات الاسم [عروعير اسم موآبي معناه "عارية" أو "عرى"]، وهي: مدينة في موآب تُسمى حاليًا عراعير، تبعد حوالي اثنى عشر ميلاً شرقي البحر الميت، جنوبي ديبان بقليل، وشمال نهر أرنون؛ وقرية في القسم الجنوبي من اليهودية (1 صم 30: 28) تسمى حاليًا عرعارة على بعد اثنى عشر ميلاً جنوب شرق بئر سبع، والثالثه وهي المقصودة هنا[221] مدينة في جلعاد بالقرب من ربة التي هي ربة عمون (يش 30: 25، قض 11: 33) عمان عاصمة الأردن.
دمشق وعروعير يمثلان النفس المتشامخة على الله والمتحالفة مع الغير ضد كنيسته، فإنه وإن كان الله يتركها زمانًا لتظهر قوية وناجحة ومزدهرة، لكنها تعود فتنهار من جانبين:
أ. تتحول من مدينة عظيمة إلى رجمة خربة، أي تفقد حياتها، لأنها تعتزل الله نفسه مصدر الحياة.
ب. تتحول كعروعير من مسكن للناس (مع الله) إلى مرعى للقطعان والحيوانات، وكأن مقاومتنا للحق تفقدنا كرامتنا وتحول حياتنا إلى ملهى لكل حيوان، فنحمل الطبيعة الحيوانية الجسدانية. لهذا يُسبّح القديس مار إفرآم السرياني طفل المزود قائلاً: [المجد لذاك الذي نظر إلينا كيف أننا قبلنا أن نُشابه الوحوش في هياجنا وجشعنا، فنزل إلينا وصار واحدًا منا حتى نصير نحن سمائيين[222]].
2. هزيمة آفرايم:
تزعمت دمشق فكرة التحالف ضد يهوذا لهذا استحقت أن تُعاقب أولاً، وإذ ضعفت إسرائيل وخضعت للمشورة استحقت هي أيضًا التأديب القاسي مع فتح باب الرجاء أمامها وإعلان وجود بقية أمينة ومخلصة تتمتع بخلاص الله.
تقدم النبوّة الثمرة الطبيعية للتحالف الشرير الذي فيه اتكاء على الذراع البشري والفكر الإنساني البحت مع تجاهل العمل الإلهي، هذه الثمرة هي عقوبة طبيعية يسقط تحتها الإنسان في شره:
أ. فقدان الحصانة: "يزول الحصن من آفرايم" [3]؛ "في ذلك اليوم تصير مدنه الحصينة كالردم في الغاب والشوامخ التي تركوها من وجه بني إسرائيل فصارت خرابًا" [9].
إن كان الله إله خلاصنا هو صخرة حصننا [10] فإن اعتزالنا إياه ورفضنا لعمله هو زوال للحصن الحقيقي... عندئذ لا تقدر الحصون أن تحمي مدينتنا الداخلية بل تصير كردم في وسط الغاب بلا قيمة وكشوامخ متروكة لها المظهر الخارجي دون قوة العمل!
الله هو حصننا الذي فيه نلتجىء فتستريح أعماقنا، عندئذ لا تقدر كل قوى الظلمة أن تتسلل إلينا.
ب. فقدان المجد الداخلي: "ويكون في ذلك اليوم أن مجد يعقوب يُذل" [4]. إن كان مجد ابنة الملك من الداخل (مز 45)، فإن سر مجدها هو مسيحها الساكن فيها، الذي يُقيم ملكوته داخلها. بالمسيح يسوع نتمجد ليس فقط أمام الناس وإنما أيضًا أمام الآب، إذ يقول القديس جيروم: [تطلع إلينا، فإنك ترى ابنك الساكن فينا[223]].
ج. فقدان القوة: "وسمان لحمه تهزل" [4]، لهذا يقول السيد المسيح: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
v لا نقدر أن نجري في طريق الله ما لم نكن محمولين على أجنحة الروح[224].
v ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[225].
v لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تُفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[226].
القديس يوحنا الذهبي الفم
د. فقدان الثمر، فقد عرف وادي رفايم بخصوبة أرضه ووفرة ثماره ومحصولاته، لكن بسبب الأعداء لا يتبقى لآفرايم إلاَّ أن يلتقط السنابل الساقطة وراء الحصادين ويجمع ما تبقى في رأس الفروع من شجر الزيتون حبتين أو ثلاث فقط [5-6] أي يصيروا كالفقراء الذين ليس لهم ما يحصدونه (تث 24: 20).
إنهم يُسيّجون الحقول ويزرعون ولكن في وقت الحصاد يأتي العدو ليغتصب تاركًا لهم ما يسقط منه على الأرض، فتتحول أعياد الحصاد إلى أزمنة للكآبة وعدم الرجاء [11]. بمعنى آخر يفقدون تعب جهادهم ويخسرون فرحهم وسلامهم.
الآن نتساءل: لماذا يسمح الله لآفرايم بهذا الذل؟
لكي يرجع إلى الله خالقه عوض مشاركة الأراميين مشوراتهم الشريرة وعبادتهم الوثنية ورجاساتهم الدنسة، إذ يقول:"في ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل، ولا يلتفت إلى المذابح صنعه يديه، ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السواري Asherahs والشماسات hammanum " [7-8].
السواري هنا تعني التماثيل والصور الخاصة بإلهة الحب والجمال (عشتار) المقابلة لأفروديت[227]، إذ كانت توضع على سواري (أشبه بأعمدة من خشب). تُحسب هذه الإلهة زوجة ورفيقة للإله بعل، لذا يُحاط مذبحه بمجموعة من الأشجار أو السواري تحمل تماثيل الإلهة إشارة إلى خصوبتها[228].
كانت هذه السواري والأشجار تحمل معاني جنسية إباحية لذا اختلطت العبادة بالنجاسة كجزء لا يتجزأ منها (خر 34: 13؛ تث 16: 21؛ قض 6: 25؛ 2 أى 34: 4-7؛ مى 5: 14). سمح الله بتأديب شعبه لكي لا يُدنس نظرته للجنس بل يرتفع بقلبه وفكره نحو الله الذي فوق الجنس والذي يهبنا قدسية للحياة الزوجية والعلاقات الجسدية[229].
أما بالنسبة للشماسات[230] فقد ترجم البعض الكلمة العبرية بمعنى آلهة الشمس sun-gods والبعض ترجمها بعل هامان وهو إله الشمس السرياني، كما ترجمها آخرون "مذبح البخور" حيث كان يُقدم البخور لإله الشمس، لذا جاء هذا التعبير خاصًا بالعبادة الوثنية متمايزًا عن البخور المقدس الذي يُقدم في الهيكل.
3. هجوم الأعداء:
يشبه الأعداء بالبحر الذي لا يمكن مقاومته... فقد سمح الله للشعوب الكثيرة أن تنزل على آفرايم كمياه كثيرة تغرقه، ومع هذا فإن الله قد وضع للبحر حدًا. يسمح له أن يغرق إلى حدّ معين وإلى حين، إذ يحفظ القلة الأمينة من أولاده من ثورة البحر وهياجه.
في تصوير رائع يقول: "آه ضجيج شعوب كثيرة... قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا وتُطرد كعصافة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة، في وقت المساء إذا رعب، قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا" [12-14].
يسمح الله للأعداء أن يهجموا كمياه بحار غزيرة لا يقف أحد أمامها، لكنه إذ ينتهرها تصير كعاصفة في مهب الريح على الجبال ليس لها موضع استقرار ولا قدرة على المقاومة، أو كعجلة مدحرجة أمام زوبعة لا يمكن إيقافها. عدونا عنيف للغاية متى تركنا أنفسنا بين يديه سحبنا في دوامته لنغرق في أعماق بحره، لكننا متى اختفينا في الرب يصير العدو كلا شيء أمامنا، ينسحب كعصافة أمام ريح الروح القدس الناري، ويتدحرج أمام كلمة الله الفعّال.
لذلك يقول: "في وقت المساء رعب" [14]، بمعنى أنه متى غاب شمس البر عن حياتنا تحل الظلمة فينا ونصير كما في المساء ليجد العدو له فينا موضعًا فيرعبنا، أما قبل الصبح، أي في الفجر، حيث يشرق فينا مسيحنا يصير العدو كلا شيء ويُحسب غير موجود. هذا هو نصيبه فقد سبق أن نهبنا حياتنا وسلبنا مجدنا لكنه يعود فيتحطم أمام الساكن فينا.
كوش تقدم هدية الله
يعتبر هذا الأصحاح من أكثر الأصحاحات غموضًا في الكتاب المقدس. يرى قلة من الدارسين أن الحديث هنا يخص آشور أما الغالبية فترى أن الحديث أما الغالبية فترى أن الحديث إما يخص مصر أو أثيوبيا. وقد رفض البعض نسبته إلى مصر بحجة أن الوحي الخاص بمصر جاء في الأصحاح التالي مبتدئًا بالقول "وحي من جهة مصر" (إش 19: 1).
يُقصد بكوش جنوب مصر، حاليًا النوبة والسودان وأثيوبيا، وكان ملكها القدير ترهاقة (2 مل 19: 9) قد ملك على كوش ومصر؛ هذا بعث برسل على سفن صغيرة مصنوعة من حلف البردي إلى يهوذا طالبًا التحالف معه ضد سنحاريب ملك آشور.
لقد أراد النبي أن يؤكد أن كان كوش يطلب تحالفًا ضد قوى آشور المتزايدة، فإن كوش ومعها مصر ستأتي إلى أورشليم مع بقية الأمم لتتعبد خاضعة لرب الجنود. بمعنى آخر الله لا يحتاج إلى تحالفات بشرية ضد قوى الشر إنما هو حصن منيع لكل الأمم التي تترجاه وتتعبد له .
1. إرسالية من كوش [1-6].
2. كوش تقدم هدية لله [7].
1. إرسالية من كوش:
يوجه النبي حديثه إلى كوش قائلاً: "يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش" [1].
ماذا يقصد بأرض حفيف الأجنحة؟
أ. يرى البعض أنها إشارة إلى السلطان الإمبراطوري الذي كان يبسط جناحيه على كل أرض كوش وما حولها. وقد استخدم الكتاب المقدس هذا التشبيه مرارًا كثيرة، فقيل عن ملك آشور "يكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" (إش 8: 8). كما شبه ملك آشور بنسر عظيم ذي منكبين (حز 17).
ب. يرى بعض الدارسين أن حفيف الأجنحة يُشير إلى سلطان مصر وعظمتها، وآخرون يروا إنها بريطانيا العظمى التي حملت أمجادًا عظيمة عبر البحار وآخرون حسبوها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتخذ النسر شعارًا لها[231].
ج. يُشير حفيف الأجنحة إلى الحشرات، لذا فهي ترمز إلى كوش كبلاد تشتهر بحشراتها الطائرة؛ خاصة وأن الكلمة العبرية هنا silsal استخدمت في (تث 28: 42) عن الحشرات (الصرصر)[232].
د. كلمة sel تعني "ظلاً"، لذا فهي تُشير إلى بلاد قريبة من خط الاستواء حيث يكون الظل مضاعفًا (أو ذات أهمية لشدة الحر)[233].
هـ. اعتمد البعض في تفسيرهم على ما جاء في الترجمة السبعينية والترجوم أن حفيف الأجنحة يُشير إلى السفن؛ وكأن النبي يقول بأن سفن أثيوبيا تبحر باسطة شراعاتها كأجنحة الحشرات. اعتاد البحارة أن يدعو الشراع جناحًا[234].
على أي الأحوال بعث ملك أثيوبيا رسلاً خلال سفنه المصنوعة من البردي، وكان على عجلة، لأن العدو على الأبواب ويمثل خطرًا على العالم كله في ذلك الحين. لقد عُرف الأثيوبيون بقدرتهم على التجسس على مواقع الأعداء وتحركاتهم بواسطة سفنهم الصغيرة السريعة، لهذا لم يتوان الملك في التحرك ليدعو يهوذا إلى التحالف ضد خطر آشور المتزايد.
كانت إرسالية الملك هي للتحالف، لكنها ليست إرسالية سلام، وإنما إرسالية دعوة للحرب ضد آشور وثورة ضد سنحاريب، الأمر الذي تترقبه كل الشعوب، إذ قيل: "يا جميع سكان المسكونة وقاطني الأرض عندما ترتفع الراية (راية الحرب) على الجبال تنظرون، وعندما يُضرب بالبوق تسمعون" [3].
ليت رسل الإنجيل يحملون ذات الغيرة التي لملك أثيوبيا ورسله، فقد دعوا للانطلاق كي يتحالف الكل معًا لا ضد آشور وإنما ضد عدو الخير حين ترتفع راية الصليب ويُضرب بوق كلمة الله، فتدور المعركة الروحية تحت قيادة الكلمة الإلهية المتجسد المصلوب، يحملنا فيه ويخفينا في جنبه المطعون واهبًا إيانا روح الغلبة والنصرة. لقد دخل المعركة خلال تجربته على الجبل وانتصر باسمنا ولحسابنا، وبقى يُجاهد من أجلنا حتى أكمل جهادة بالصليب.
v أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر حين جُرب هو.
الأب سرابيون[235]
v يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلم أولاده كيف يحاربون.
القديس أغسطينوس[236]
يقول النبي: "اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدًا، أمة قوة وشدة ودوس قد خرقت الأنهار أرضها" [2].
يرى البعض أن الوصف هناك ينطبق على الأثيوبيين أو الآشورين أو الماديين... لكن الإرسالية كانت موجهة إلى شعب الله الذي دُعى "شعب مخوف"، لأن إلهه إله مخوف (خر 23: 27؛ 34: 10، تث 28: 58؛ يش 2: 9؛ مز 139: 14). إنه شعب مخوف منذ كان، أي منذ بداية نشأته، إذ خرج من مصر بيد قوية وذراع رفيعة. أما قوله "قد خرقت الأنهار أرضها" [2] فيُشير إلى خطورة موقفها، لأن العدو مزمع أن يُهاجمها فيكون كنهر جارف، ووصفها "أمة طويلة (ممدودة) وجرداء (حادة)" [2]، جاء في الترجمة السبعينية "أمة مسحوقة وممزقة"... إذ يسحب العدو الشعب كالغنم ويجرونهم إلى السبي فيصيروا مسحولين.
إن كان النبي يطلب من الشعب ألا يقبل إرسالية ملك كوش للتحالف معًا، فما هو موقف الله من هجمات آشور على شعبه؟
"لأنه هكذا قال لي الرب: "إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر الصافي على البقل، كغيم الندى في حرّ الحصاد" [4]. يبدو كأن الله هادئًا ساكنًا لا يعبأ بأمورنا، وقد يترك الله ملك آشور المتجبر يدمر ويهلك ويُحطم مدنًا حتى يبلغ إلى أبواب أورشليم عندئذ يعلن الله عن دوره الخفي ويرد ملك آشور خائبًا محطمًا كبرياءه وجيشه.
الله ضابط الكل يهتم بكل صغيرة وكبيرة، لكن في طول أناته نظنه قد نسينا أو لا يعبأ بحالنا، فنقول مع المرتل: "لا تتركنا إلى الغاية (كثيرًا)"، فإنه حتى فيما يبدو كأنه تركنا إنما هو يدير الأمر لخلاصنا وبنياننا.
يُشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية تضع يديها في يديْ الطفل الصغير لكي تُدربه على المشي؛ وفجأة تنزع يديها عنه فيسقط ليرفع عينيه نحوها يُعاتبها بدموعه، أما هي فتعود تمسك بيديه... بهذا يتدرب على المشي. إنها تتركه من يديها لكنها لن تتركه عن فكرها أو قلبها.
ما ندعوه تركًا هو رعاية، فإن الله ينظر إلينا وسط ضيقتنا فيحول المّر إلى حرّ يعطى نضوجًا للبقول، أو كغيم في حرّ الحصاد يُعطي رطوبة وظلاً... من الظاهر آلام ومن الداخل بنيان وراحة!
يرى أيضًا في الضيقات نوعًا من "تقليم الشجر" أي نزع الفروع الزائدة حتى تأتي الشجرة بثمر متكاثر [5].
أخيرًا بعد أن سمح لسنحاريب بالنصرة على كثير من مدن يهوذا حطمه وحطم جيشه قبل دخوله أورشليم، فصارت جثثهم مأكلاً للوحوش والطيور الجارحة [6]، إذ مات في يوم واحد 185 ألفًا من جيش سنحاريب.
2. كوش تقدم هدية لله:
إن كانت كوش أو مصر أو غيرها من الأمم يحسبون أنهم قادرون على حماية شعب الله من آشور فستكتشف الأمم جميعًا أنها في حاجة إلى الخارج من سبط يهوذا لكي يحميهم من إبليس وكل أعماله الشريرة؛ فتأتي الأمم التي كانت مضروبة بالتشامخ في خضوع لتقدم هدية لرب الجنود [7] في جبل صهيون، أي في كنيسته.
رأى إشعياء النبي أعدادًا بلا حصر من الملوك والرؤساء والعظماء يأتون إلى أورشليم يسجدون للملك الحقيقي الذي لم يحمل على رأسه إكليلاً زمنيًا بل إكليل شوك. رأى المؤمنين كملوك روحيين يخضعون لملك الملوك رب المجد يسوع الخارج من سبط يهوذا.
مبارك شعبي مصر
في الأصحاح السابق حث النبي ملك كوش ومصر على تقديم هدية لرب الجنود في جبل صهيون عوض أن يبعث برسله طالبًا التحالف مع شعب الله ضد آشور. أما في هذا الأصحاح فيقدم وحيًا من جهة مصر بكونها تمثل بفرعونها عنف العالم وقسوته، وبخصوبة أرضها إغراءات العالم وترفه، وبأوثانها وهياكلها الاتكال على الحكمة البشرية والقدرات الإنسانية... لقد رأى النبي الرب نفسه قادمًا إلى مصر محمولاً على يديْ القديسة مريم، السحابة البيضاء الخفيفة السريعة ، يأتي في طفولته ليُحطم ببساطته أوثانها وحكماءها وسحرتها، وليقيم مذبحًا له في وسطها، وعمودًا عند تخومها. نبوة صريحة عما حدث بخصوص العائلة المقدسة وأيضًا عن إقامة الكنيسة المسيحية الحية في مصر كشعب مبارك للرب.
1. هروب العائلة المقدسة [1].
2. تأديب مصر [2-17].
3. إقامة مذبح للرب [18-25].
1. هروب العائلة المقدسة:
لا نجد بلدًا يتحدث عنه الكتاب المقدس مثل مصر وذلك بعد كنعان، والسبب في هذا أن إسرائيل كأمة وكشعب أقامت في مصر، وعاش اليهود هناك حوالي 400 سنة وأخيرًا خرجوا بذراع رفيعة. بخروجهم خلال دم الحملان صاروا رمزًا للعالم كله المتحرر من عبودية إبليس خلال دم المسيح الذبيح الفريد. صارت مصر تمثل قوة العالم بصفة عامة وبيت العبودية الذي يخلص شعبه منه.
افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة مفرحة تخص مصر، قائلاً: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها" [1].
يرى القديس كيرلس الكبير أن السحابة الخفيفة السريعة (الترجمة السبعينية) هي القديسة مريم التي قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس (مت 2: 13- 15)... بدخوله ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية، وذاب قلب المصريين حبًا ليقبلوه ساكنًا فيهم؛ إذ يقول: [السحابة المتألقة التي حملت الرب يسوع إلى مصر هي أمه العذراء مريم التي فاقت السحاب نقاء وطهرًا. أما المذبح الذي أٌقيم للرب في وسط أرض مصر فهي الكنيسة المسيحية التي قامت على أنقاض الهياكل الوثنية على أثر تزلزل أوثانها وانهيار برابيها أمام وجه الرب يسوع[237]]. لهذا تسبح الكنيسة في عيد دخول السيد المسيح مصر، قائلة: [افرحي وتهللي يا مصر مع بنيها وكل تخومها، لأنه قد أتى إليك محب البشر، الكائن قبل كل الدهور].
إن كانت مصر بفرعونها وعبادتها الوثنية مثلت العالم الوثني القديم في عنفه ورجاساته لكنها أيضًا كانت ملجأ للكثيرين خاصة في فترات الجوع، فجاء إليها أبونا إبراهيم (تك 12: 10)، واستقبلت يوسف المُضطهد من إخوته ليصير الرجل الثاني بعد فرعون يقدم من مخازنها لكل البلاد المحيطة بها، وإليها جاء أبونا يعقوب وبنوه حيث بدأت نواة شعب الله القديم والأسباط الاثنى عشر في داخلها؛ وظهر أول قائد لهم هو موسى العظيم في الأنبياء يسنده أول رئيس كهنة. ومن بين الأنبياء الذين جاءوا إلى مصر أرميا النبي الذي حث الشعب ألا يهربوا إلى مصر فأرغموه على مرافقتهم في رحلتهم إليها (إر 41: 1؛ 43: 7) وقد نطق بنبواته الأخيرة في تحفنيس في مصر (إر 43: 8-44). أما مجيء السيد المسيح السماوي إلى أرضنا فقد أقام كنيسته فيها تصطبغ بروح البركة الربانية، فجاءت عبادتها وطقوسها وألحانها تحمل نغم الحياة السماوية.
مصر، التي امتلأت بالعبادة الوثنية حيث أقامت عجل أبيس والقطط والتماسيح والضفادع... آلهة، استقبلت رب المجد فيها فأقام من قلوب المصريين مقدسًا له. تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية في فترة وجيزة. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة الإسكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول، وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوني. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها لتسحب قلب الكنيسة إلى البرية، فتمارس الحياة الداخلية الملائكية في نفس الوقت الذي فيه انفتحت أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين، وكان الخطر يلاحق الكنيسة حيث يختلط العمل الروحي الكنسي بالسلطة الزمنية والسياسية. حملت كنيسة مصر صليب عريسها عبر الأجيال وقدمت أعدادًا بلا حصر من الشهداء والمعترفين، فاستشهدت أحيانًا مدن بأسرها وتسابق الكثيرون على نوال أكاليل الاستشهاد بفرح وبهجة قلب[238]...
2. تأديب مصر:
هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعني التغطية على شرورها، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع عنها كل ضعف (مملكة الشر) ويقيم ما هو جديد (ملكوت الله). مجيء الرب إليها يعني هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها.
لقد أبرز ثمار الرجاسات القديمة، ألا وهي:
أولاً: قيام حروب أهلية، "وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة، وتهراق روح مصر" [2-3]. هذه ثمرة طبيعية لاعتزالها الله واهب السلام الداخلي والحب والوحدة، إذ تحدث حروب على مستوى الأشخاص حتى بين الأصدقاء وعلى مستوى المدن والممالك [إذ وجدت مملكة في مصر العليا وأخرى في مصر السفلى]. الشر يُحطم النفس الداخلية ويدخل بها إلى حالة يأس وإحباط.
اعتزالنا الله يفقدنا انسجامنا الداخلي، فتتحول حياتنا الداخلية إلى أرض معركة، فيصارع الجسد ضد الروح، ولا تنسجم الطاقات الداخلية معًا... فيصير القلب جحيمًا لا يُطاق. وعلى العكس عندما يتسلم روح الله القيادة يخضع الإنسان بكليته له فيعيش في انسجام وتناغم، يسند الجسد النفس في تعبدها، وتتقدس الحواس والعواطف لتعمل معًا مع الفكر النقي بإرادة مقدسة صالحة في الرب.
ثانيًا: فقدان الحكمة الحقيقية، فقد عرف المصريون كشعب ذكي جدًا[239]، ويشهد الكتاب المقدس أن موسى قد تهذب بكل حكمة المصريين (أع 7: 20)، لكن اعتزالهم الله أفقدهم كل شيء فلم تسعفهم حكمتهم ولا علمهم وحضارتهم فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة: "وأفني مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين" [3].
ثالثًا: المعاناة من حكام عتاة [4] يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد. فإذ تتقسى قلوب الشعب ببعدهم عن الله واهب اللطف والصلاح يسمح لهم بقيادات عنيفة، حتى كما يفعلون يُفعل بهم.
عندما يتقسى قلبنا الداخلي نحو الغير لا نتوقع إلاَّ أن يُكال لنا من ذات الكيل الذي به نكيل للغير، لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة. هذا ما يحدث حتى في حياتنا اليومية في العمل والأسرية وحياتنا الشخصية... فإن من يقسو على والديه نجد جسده عنيفًا في حربه الشهوانية ضد النفس. ما نزرعه للغير إنما نحصده في حياتنا الشخصية.
رابعًا: المعاناة من حالة جفاف، "وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر ويتلف القصب والأسل... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصًا في النيل ينوحون... ويخزى الذين يعملون الكتان المُمشط والذين يحيكون الانسجة البيضاء، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس" [5-10].
كأن الشر يحمل ثمرة المرّ حتى في حياة الإنسان اليومية واحتياجاته الضرورية، إذ يجف نهر النيل [لا يزال يُدعى في كثير من بلدان الصعيد "البحر"] فلا يجد الناس ماءً للشرب وأيضًا للزراعة كما يفقد صيادو السمك عملهم لينوحوا بلا جدوى؛ ويؤثر ذلك على الصناعة والتجارة... فينسحق العظماء الذين هم عُمد مصر وتكتئب نفوس العبيد العاملين لدى الأغنياء.
خلال الشر يدب الخراب والفساد في الموارد الطبيعية (المياه) والطاقات البشرية من كل الطبقات! يفقد الإنسان الماء الذي يروي نفسه، والسمك الذي يشبعه داخليًا، وثياب الكتان التي تستر أعماقه، وسلامه الداخلي؛ وهكذا يُعاني من العطش والجوع والعري والخزي!
خامسًا: فقدان الحكماء والمشيرين، فلا يُعاني الإنسان فقط من حالة حرمان مادي وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه. لذا قيل: "إن رؤساء صُوعن أغبياء، حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية. كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر" [11-12].
عوض الحكمة التي عرفت بها مصر حلت الغباوة حتى في صُوعن، عاصمة شمال مصر القديمة. لقد قيل: "وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر" (1 مل 4: 30)... لكن هذه الحكمة تزول باعتزال الإنسان إلهه مصدر الحكمة، لذا يقدم الحكماء مشيرو فرعون مشورة بهيمية، أي أفكارًا جسدانية (1 كو 2). أما علامة حرمانهم من الحكمة، فهي عجز الحكماء عن إدراك خطة الله رب الجنود من جهة مصر (إش 18: 12)؛ فكيف يثق شعب الله إذن في مشورة فرعون الخاصة بالتحالف معًا ضد آشور؟!
"رؤساء نوف انخدعوا وأضل مصر وجوه أسباطها" [13]. هذه كارثة مصر أنها قبلت الضلالة على أنها حكمة، فقد أنخدع رؤساء عاصمة مصر العليا (جنوبي مصر) منوف (ممفيس) بواسطة الحكماء الشرفاء، الذين يقابلون الأنبياء الكذبة المنافقين الذين كثيرًا ما تحدث عنهم إرميا النبي.
سادسًا: فقدان الوعي والدخول في حالة سكر؛ "مزج الرب في وسطها روح غىّ فأضلوا مصر في كل عملها كترنح السكران في قيئه" [14].
لما كانت الخطية مُسكرة تُفقد الإنسان وعيه وهدفه في الحياة لهذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال ليترنح كالسكران بلا هدف. لا يكون له عمل جاد لبنائه وبناء الغير، سواء كان عظيمًا أو محتقرًا، نخلة أو أسلة (حلفاء). وهذا هو أخطر ما يصل إليه الإنسان، إذ يفقد بذلك كيانه الإنساني ليعيش أشبه بميت، لا طعم للحياة عنده.
سابعًا: الارتباك بحالة من الخوف، "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود الذي يقضي به عليها" [16]. فرعون الذي يُحسب نفسه منقذًا لإسرائيل ويهوذا من يد آشور في عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا [17].
كأن الرب يشجع يهوذا ألا يرتعب من كلمات فرعون ولا يدخل معه في تحالف كما في إسرائيل وآرام، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام آشور بل أمام يهوذا نفسه.
3. إقامة مذبح للرب:
بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة (الجفاف) وارتباك في اقتصادياتها (الزراعة والصناعة) وعجز في الطاقات البشرية القيادية بل ودخول في حالة من اللاوعي والسكر مع الخوف والارتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة، فإن الله يتدخل ليشفي جراحاتها ويخلصها، مقدمًا لها البركات التالية:
أ. لغة جديدة: "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس" [18]. ما هذه المدن الخمسة إلاَّ حواس المؤمن؛ فإذ يُقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس في يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول: "لغتك تظهرك" (مت 26: 73؛ مر 14: 70).
يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ليس فقط أثناء اشتراكه في سر الأفخارستيا وكل الليتورجيات الكنسية الحّية، وإنما أيضًا أثناء عبادته الخاصة، بل وفي خلال حياته اليومية حتى في لحظات أكله وشربه ونومه. هذا هو عمل روح الله القدوس في حياتنا يحملنا إلى السماء لنختبرها في أعماقنا وتصير لغتنا كنعانية أي سماوية، لغة الحب والفرح الداخلي. نشارك السمائيين ليتروجياتهم وفرحهم الدائم، ولا نكون شعبًا "غامض اللغة" (حز 3: 5).
ب. القسم باسم رب الجنود؛ ماذا يعني: "تحلف لرب الجنود" [18]؟
كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان باسمه؛ فعوض القسم بالآلهه الوثنية يقبل الأمم - وعلى رأسهم مصر - الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون باسمه، حاسبين ذلك سرّ قوتهم.
ج. دعوة إحدى المدن "مدينة شمس" [8]، يقصد بها "هليوبوليس" التي كانت مركزًا لعبادة الشمس، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذي يشرق على الجالسين في الظلمة.
جاءت في الترجمة السبعينية "المدينة البارة" إذ تحمل برّ المسيح فينا.
د. إقامة مذبح للرب: "في ذلك الوقت يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها" [19]. يقصد بهذا مذبح كنيسة العهد الجديد، إذ كان مذبح العهد القديم في أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها. لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالي ستة شهور في الموضع الذي أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق، وهو يعتبر في وسط مصر، فيه أُقيمت كنيسة للرب وتقدم عليه ذبيحة الأفخارستيا، التي هي تمتع بذبيحة الصليب عينها.
أما العمود الذي في تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذي جاء إلى الإسكندرية (على تخم مصر) يكرز بالإنجيل، ويُقيم مذبح كنيسة العهد الجديد، لكي يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم، ويكون الرب نفسه محاميًا وشفيعًا ومنقذًا لهم [20].
هـ. المعرفة الروحية: "فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم" [21]. اهتم الصريون بالمعرفة الروحية، واقيمت مدرسة الإسكندرية لهذه الغاية، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب في ابنه يسوع المسيح بروحه القدوس.
امتزجت المعرفة بالعبادة، إذ يكمل النبي: "ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به " [21].
لعل أروع من كتب عن ارتباط المعرفة بالعبادة كما بالسلوك الإنجيلي في الحياة اليومية هو القديس إكليمندس الاسكندري، إذ جاء هذا الفكر خطًا ذهبيًا في كل كتاباته[240]. فمن كلماته عن المعرفة (الغنوسية):
[هذه هي العلامات التي تميز غنوسيتنا: أولاً التأمل، ثم تنفيذ الوصايا، وأخيرًا تعليم الصالحين. متى وُجدت هذه السمات في إنسان ما يُحسب غنوسيًا كاملاً. إذ فقد الإنسان إحدى هذه السمات تعطلت غنوسيته[241]].
و. شفاء داخلي: "ويضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم" [22].
يسمح الله بضربها أي بتأديبها عن الضعف الذي فيها لكي تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفي جراحات النفس ويرد لها سلامها... جاء مسيحنا طبيبًا ودواءً في نفس الوقت:
v مبارك هو "الطبيب" الذي نزل وبتر بغير ألم، شفى جراحاتنا بداء غير مرير، فقد أظهر ابنه "دواء" يشفي الخطاة!
القديس مار إفرآم السرياني[242]
جاء الرب إلى مصر وضرب أوثانها ليجد المصريون فيه وحدة سر شفائهم.
ز. إذ كان الصراع العالمي في ذلك الحين قائم بين آشور ومصر، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع، فإن مجيء رب المجد يسوع يُعطي للكل سلامًا، ويشعر الكل - في المسيح يسوع - أن الأرض للرب ولمسيحه، وليست مركزًا للنزاع، ويشترك الكل معًا في العبادة.
في تصوير رائع لهذا السلام يقول النبي: "في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجىء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور، ويعبد المصريون مع الآشوريون. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولآشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبي مصر وعمل يدي آشور وميراثي إسرائيل" [24].
ماذا يعني "في ذلك اليوم" التي تكررت حوالي خمس مرات في الأعداد [18-25]، إلاَّ ملء الزمان الذي فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات، جاء بكونه "الطريق" الذي فيه تجتمع الأمم لتتمتع بروح الوحدة الروحية وفيض البركة.
ماذا يعني اجتماع مصر وآشور وإسرائيل معًا في التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدي؟ أنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التي ضمت الأعداء معًا بروح الحب والوحدة. لقد كانت إسرائيل في ذلك الحين في صراع بين التحالف مع مصر أو آشور القوتين العالميتين المتضادتين في ذلك الحين. لكن مجيء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء في كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهي، فدعى المصريون شعب الله، وآشور عمل يديه، وإسرائيل ميراثه.
خضوع مصر لآشور
في الوقت الذي فيه يعلن الله عن خطته من جهة مصر بل ومن جهة كل الأمم ممثلة في مصر أنه يُقيم مملكته الروحية في وسطها ويهبها بركته يعود فيؤكد لبني يهوذا أنه يجب ألا يتكلوا على مصر لحمايتهم من آشور فإن مصر نفسه (وكوش) يسبيها آشور، حتى لا يثقوا في الأذرع البشرية.
1. سبي مصر وكوش [1-4].
2. انهيار يهوذا [5-6].
1. سبي مصر وكوش:
كان بعض النقاد يظنون أن سرجون Sargon ملك آشور الذي أرسل ترتان إلى أشدود هو شلمناصَّر أو سنحاريب. بينما أنكر البعض وجود ملك بهذا الإسم في آشور، لكن كما يقول Bultema[243] إن الله جعل الحجارة تنطق ليخجل غير المؤمنين، فقد عُرف اليوم أن سرجون من أقوى ملوك آشور، وأنه هو أب سنحاريب، اغتصب العرش من شلمناصَّر الخامس وخلفه.
كلمة "سرجون" تعني "معَّين بواسطة الله" أو "الملك البار"؛ استخدم هذا الإسم للتغطية على اغتصابه العرش.
"ترتان" ليس إسم شخص وإنما في الغالب كان لقبًا خاصًا بقيادة الجيش.
أرسل سرجون رئيس جيشه إلى أشدود قاصدًا سوا ملك مصر (2 مل 17: 4)، إذ تعتبر أشدود التي على حدود الفلسطينين مفتاحًا للدخول إلى مصر.
كشفت الدراسات الحديثة أن سوا Sua ليس اسمًا لفرعون، وإنما هو اختصار لإسم قائد كتيبة في الدلتا يُدعى Siba، أو هو اختصار لإسم مدينة في غرب الدلتا تُسمى Sais استخدمها تافنخت Tefnakhte لاقامته[244].
إذ هزم آشور آرام وآفرايم حان الوقت لضرب فرعون، لذا أرسل الملك قائده إلى أشدود فافتتحها، وهو نفس القائد الذي استخدمه سنحاريب في حصار أورشليم.
أراد الله أن يحرك مشاعر شعبه ويغير قلوبهم ويؤنبهم على اتكالهم على مصر وكوش لذا طلب من نبيَّه أن يمشي أمام الشعب عريانًا حافي القدمين لمدة ثلاث سنوات ليكون هو نفسه نبوة عما سيحل بمصر وكوش حين يسبيهما آشور ويقود عُظمائهما للسبي عبيدًا عراة حفاة الأقدام ومكشوفي الأستاه. صار إشعياء نفسه آية وأعجوبة [3] يستهزىء به كل ناظريه من أجل ما حلّ به، وذلك لأجل خلاص شعبه ومنعهم من الاتكال على فرعون مصر.
كان إشعياء في آلامه وعريه يحمل ظلاً لآلام السيد المسيح الذي احتمل العُري لكي يسترنا ببره، حمل جراحات شعبه في جسده لكي يشفينا. سار إشعياء كعبد لا يرتدي الثوب الخارجي ولا ينتعل حذاءً صورة لسيده الذي صار كعبد (في 2: 7) لكي يُحررنا من نير العبودية.
2. انهيار يهوذا:
إذ يخضع فرعون مصر لآشور يرتعب بنو يهوذا، ويتحطم رجاؤهم وتذل مصر فخرهم، قائلين: "هوذا هكذا ملجأنا الذي هربنا إليه للمعونة لننجو من ملك آشور فكيف نسلم نحن؟! [6].
هذه هى نهاية كل من يتكل على ذراع بشري!
إنهيار بابل أمام فارس ومادي
إن كان الله من أجل محبته لشعبه سمح بسبي المصريين بواسطة آشور حتى يرتجف بنو يهوذا المتكلين على فرعون وجيشه؛ فأنه من أجل محبته أيضًا يسمح بتأديب بابل التي تسبي شعبه، بواسطة فارس (ركاب حمير) ومادي (ركاب جمال) حتى تنهار بابل دون أن تتحرك أوثانها لإنقاذها. وهكذا يعمل الله وسط الأمم كما في البيدر لفرز الحنطة (المؤمنين) عن التبن، حارسًا أولاده من الأشرار.
1. انهيار بابل [1-10].
2. نبوة عن آدوم [11-12].
3. نبوة عن العرب [13-16].
1. انهيار بابل:
يشير إشعياء النبي إلى بابل باسم رمزي غريب: "وحي من جهة برية البحر" [1]. لقد دعى بابل المدينة الذهبية فخر الأمم برية من أجل شرها الذي حولها إلى حالة من القفر؛ كما دُعيت "برية البحر" من أجل موقعها على نهر الفرات، أو لكونها عاصمة أعظم من أمة بين الأمم، فالمياه تُشير إلى الشعوب الكثيرة، فصارت هي برية جافة وسط الشعوب.
يعتقد اليهود أن الشياطين تسكن ثلاثة مناطق من العالم: البراري القاحلة، المياه، الهواء؛ لذا حارب السيد المسيح إبليس خلال تجربته على الجبل في البرية وغلب، وحاربه في مياه الأردن كما في عرينه وغلب، وأيضًا حاربه في الهواء حين ارتفع على الصليب وانتصر. أما بابل فُدعيت "برية البحر" لتاكيد أنها صارت موضع الشيطان الساكن في البرية وأيضًا في البحر. رآها القديس يوحنا اللاهوتي امرأة زانية جالسة على مياه كثيرة (رؤ 17: 1).
رأى إشعياء النبي جيش كورش القادم لتحقيق خطة الله من جهة بابل أشبه بزوابع في الجنوب، كعاصفة قادمة من البرية من أرض مخوفة [1].
الزوابع أو الرياح العنيفة التي في الجنوب تعني أنها ساخنة، بعكس القادمة من
الشمال فهي باردة؛ وكأن جيش كورش يشبه رياح ساخنة عنيفة تصاحبها عاصفة من البرية مشحونة بالرمال تردم الحقول وتفسد المحاصيل وتضر البيوت والطرق وتسبب امراضًا خاصة للعيون. بمعنى آخر تُحطم امكانيات الإنسان ومسكنه وبصيرته. هذا على عكس الرياح الجنوبية الساخنة والهادئة فأنها تسبب نضوجًا للمحاصيل، لهذا تقول العروس: "استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب، هبّي على جنتي فتقطر اطيابها؛ ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16).
لم يحتمل النبي في رقته العجيبة حتى بالنسبة للأعداء أن يرى ما يحل بابل من خراب ونهب [2]، فيقول: "لذلك امتلأت حقواي وجعًا واخذني مخاض كمخاض الوالدة، تلويت حتى لا أسمع، اندهشت حتى لا أنظر، تاه قلبي، بغتني رعب، ليلة لذتي جعلها لي رعدة" [3-4].
يبدو أنه رأى هذه الرؤيا في الليل [4]، إذ تحولت ليلة لذته بالصلاة إلى رعدة... وربما يتحدث هنا باسم البابليين الذين تحولت ليلة الوليمة والفرح إلى رعدة بسبب اقتحام كورش العاصمة؛ فقد رأى المائدة الملوكية معدة والحراس يلهون في الأكل والشرب مع أنه كان يليق بالرؤساء أن يمسحوا المجن بالدهن لكي يقاتلوا كورش.
لم يحتمل النبي أن يرى بابل برجالها العظماء تلهو في غير اكتراث ليقتحم العدو الأبواب التي صارت بلا حراسة فتاه قلب النبي وامتلأ رعبًا ووجعًا. أقول كيف لا نئن نحن أيضًا من أجل الخدام الذين ينشغلون عن الجهاد الروحي بالشكليات والرسميات والولائم ليتركوا كنيسة الله ورعيته كما بغير حراسة يقظة.
تبقى كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم بخصوص الرعاية خالدة.
[إني أب مملوء حنوًا. اسمعوا ما يطلبه بولس: "يا أولادي الصغار الذين أتمخض بهم" (غلا 4: 19). كل أم تصرخ وهي تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضًا[245]].
[ليتكم تستطيعون معاينة النيران الملتهبة في قلبي لتعرفوا إني احترق أكثر من سيدة شابة تئن بسبب ترملها المبكر، فإني لست أظنها تحزن على زوجها ولا يحزن أب على ابنه، كحزني أنا على هذا الجمهور الحاضر هنا[246]]...
جاءت الدعوة الإلهية للنبي: "اذهب أقم الحارس، ليخبر بما رأى" [6]، فقد دعى النبي في القديم "حارسًا" أو "رقيبًا" كما دعى "رائيًا". عمل النبي أن يُراقب من البرج المرتفع ويحرس النفوس بكلمة الله كما أن يرى بالبصيرة الروحية ليعلن إرادة الله وخطته الخلاصية.
وقف حبقوق النبي رقيبًا، إذ يقول: "على مرصدي أقف، وعلى الحصن أنتصب، وأُراقب لأرى ماذا يقول لي" (حب 2: 1)؛ كما دعى حزقيال النبي رقيبًا في أكثر من موضع (حز 3: 17؛ 33: 2، 6، 7).
رأى إشعياء فارس (ركاب حمير) ومادي (ركاب جمال) قادمين ليغتصبوا بابل؛ رأى وسمع بإصغاء شديد [7] فإن الأمر جاد وخطير يمس حياة شعبه. لم يقف عند الرؤية والاستماع وإنما صار يزأر كالأسد [8] ليعلن خطة الله نحو سقوط بابل وخلاص شعب الله.
"سقطت سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض. يا دياستي وبني بيدري. ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به" [9-10].
تكرار التعبير مرتين مثل" سقطت سقطت بابل" هو إحدى سمات هذا السفر (أش 21: 9؛ 24: 4، 16؛ 28: 13، 29: 1؛ 40: 1، 9؛ 43: 11 الخ... )، ربما لأن الحديث في هذا السفر الخلاصي موجه إلى الأمم كما إلى اليهود، دعوة الخلاص جماعية لقبول إله الكل والتغلب على الشر. فانه يليق هنا بكل إنسان - سواء من أصل أممي أو يهودي. أن يطمئن أن بابل التي أسرت قلبه بالشهوات وأكسبته عنفًا، تنهار أمام خلاص الله لتقوم أورشليم السماوية في قلبه. لتنهار كل أوثان بابل ليقوم الرب في القلب ويعلن ملكوته. هذا والتكرار أيضًا يعني نوعًا من التأكيد. وبجانب ذلك فإن التكرار مرتين يحمل رمزًا للحب الذي يجعل من الاثنين واحدًا كما يقول القديس أغسطينوس. بالحب تسقط بابل الداخلية وتنهار مملكة إبليس الذي لا يحتمل الحب، وبه نتمتع بالحياة الإنجيلية كوصية الرب: "بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي إن كان لكم حب بعض لبعض" (يو 13: 35).
يرى النبي العالم أشبه بالبيدر فيه تُداس المحصولات ثم تُذرَّى لفصل الحنطة المخفية وسط التبن... إنها حنطة الرب نفسه التي لا تهلك بل تُفرز عن التبن.
يتحدث القديس أغسطينوس عن السبي البابلي والخلاص منه، قائلاً:
[يقول الرسول: "فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10: 1). يلزمنا أن نعرف سبينا وعندئذ خلاصنا؛ يليق بنا أن نعرف بابل التي أُسرنا فيها، وأورشليم التي تئن للرجوع إليها. فإن هاتين المدينتين - من جهة الحرف - هما مدينتان واقعيتان.
"بابل" معناها "ارتباك" (بلية)؛ وأورشليم "رؤية سلام"!...
هاتان المدينتان قد بنيتا في وقت معين لتكونا رمزًا لمدينتين تبقيان إلى نهاية العالم... عندما يجلس البعض على اليمين والآخر على اليسار، أورشليم تكون على اليمين وبابل على اليسار...
نوعان من الحب يُوجدان هاتين المدينتين: حب الله يُوجد أورشليم، وحب العالم يُوجد بابل. لهذا يسأل كل واحد نفسه: ما الذي يحبه؟ وعندئذ يعرف أية مدينة هي وطنه. إن وجد بابل وطنه فليقتلع عنه الطمع وليزرع المحبة، أما إن وجد أورشليم وطنه ليحتمل السبي مترجيًا الحرية...
الآن، ليتنا أيها الأخوة نسمع عن هذه المدينة التي نحن مواطنون فيها؛ لنسمع عنها ونتغني بها ونشتاق إليها[247]].
هكذا يتطلع القديس أغسطينوس إلى أولاد الله الذين ارتبطوا بالحب الإلهي كمواطنين لأورشليم العليا، مدينة الحب الأبدي؛ يعيشون هنا في جهاد ضد بابل التي لا تتوقف عن بذل كل طاقاتها لسبي أولاد الله وحرمانهم من وطنهم السماوي، إذ سلموا انفسهم بانفسهم للسبي حين قبلوا الخطية؛ وقد جاء المخلص يفتح باب الرجاء لهم ليهبهم حرية مجد أولاد الله.
في نظرة مملوءة رجاء يعلق القديس أغسطينوس على قول النبي: "إذا ما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل المتعزين" (مز 126: 1)، قائلاً: [كان الإنسان مواطنًا في أورشليم، لكنه بيع تحت الخطية فصار سائحًا (بلا مدينة)...
" بابل" معناها "ارتباك"... فان أمور هذه الحياة الحاضرة البشرية كلها ارتباك بكونها لا تنتمي لله. في وسط هذا الارتباك، في هذه الأرض البابلية أُسرت صهيون، ولكن "ردّ الرب سبي صهيون" فصرنا "مثل المتعزين"، أي فرحنا لأننا تقبلنا تعزية...
أننا نحزن على ما نحن عليه الآن، لكننا متعزون في رجاء. سيعبر الحاضر الذي لحزننا ويأتي الفرح الأبدي، فلا تكون هناك حاجة إلى تعزية حيث لا نُصاب بضيقة ما[248]].
2. نبوة عن أدوم:
"وحيّ من جهة دومة، صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من ليل، يا حارس ما من ليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضًا ليل. إن كنتم تطلبون فأطلبوا، ارجعوا تعالوا" [11-12].
يدعو النبي آدم باسم نبوي سري "دومة" Dumah وهو اختصار لـ Idumea. إن كان إسم "أدوم" معناه "دموي" أو "ترابي"، بكون ادوم يمثل الأشرار محبي سفك الدماء، المرتبطين بمحبة الزمنيات الأرضيات والجسديات، فإن اسم "دومة" معناه "صمت" أو "سكوت الموت"...
وقف النبي على المحرس كل الليالي [8]، إذ ساد العالم نوعًا من الظلمة الداخلية، يترقب مجيء شمس البر لينتزع ظلمة الليل ويحل الصباح. الآن يسمع صوتًا ربما من السماء أو من بقية الأنبياء ورجال الله: "يا حارس ما من ليل "... لقد جاء ملء الزمان وأشرق نور الصباح؛ لتصمت الأمم ولتمت عن إنسانها القديم لتتمتع بنور الحياة؛ لتطلب الآن فتجد نورها خلال إيمانها بالسيد المسيح، لترجع إلى الله مخلصها وتأتي إليه فتجده باسطًا يديه بالحب العملي ليحتضنها.
يُكرر "يا حارس ما من ليل" مرتين لأن الحديث مع النبي خاص باليهود كما بالأمم، وأيضًا خاص بمؤمني العهدين القديم والجديد كي يتمتع الكل بالخلاص وهم في سكون يتأملون عمل الله معهم.
3. نبوة عن بلاد العرب:
جاء الأصل Ereb وليس Arabia، وهو يعني "مساءً"، إذ يتحدث عن كل قاطني الظلمة.
هنا يُحدِّث قبائل ديدان وقيدان، القاطنة جنوب شرقي أدوم، هؤلاء استقبلوا الهاربين من السيف، والذين سلموا أنفسهم مقابل التمتع بماء للشرب أو خبز للأكل...
إذ عاشت هذه القبائل في ظلمة الوثنية صارت عاجزة عن أن تقدم عونًا حقيقيًا للهاربين إليها، لأن أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة (مت 15: 14؛ لو 6: 39).
حصار أورشليم
يتنبأ إشعياء النبي عن حصار أورشليم وسبي أشرافها، وذلك لأنهم اهتموا بالتحصينات العسكرية وتدبير المؤنة خاصة المياه ولم يضعوا عنصر الله والرجوع إليه في حسبانهم. عوض التوبة الصادقة عاشوا في ترف زائد، ولسان حالهم "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" حتى في لحظات الحصار ذاتها.
يبرز النبي تأديبات الله للأشرار المتكلين على الذراع البشري والمنشغلين بالزمنيات وفي نفس الوقت يفتح باب الرجاء على مصراعيه ليعلن ظهور المخلص الذي يسكن في أورشليم الجديدة الحرة والتي لا تقدر قوات والظلمة أن تُحاصرها.
1. حصار أورشليم [1-7].
2. حسابات بشرية للخلاص [8-11].
3. تجاهل التوبة [12-14].
4. عزل شبنا [15-19].
5. إقامة الياقيم عوض شبنا [20-25].
1. حصار أورشليم:
"وحيّ من جهة وادي الرؤيا. فما لك أنك صعدت جميعًا على السطوح" [1].
v ماذا يقصد بوادي الرؤيا؟
أ. يرى الدارسون اليهون أن هذا اللقب يليق بأورشليم لأنها المدينة التي فيها وهب الله خدامه رؤى واعلانات[249]. ولعل الوحي استخدم هذا اللقب لييقظ فيهم البصيرة التي انطمست. أورشليم هذه التي سمح الله بحصارها هى مدينته التي أقام فيها هيكله ليعلن ذاته ومملكته وأمجاد سماوته فيها فتكون سرّ بركة للبشرية، لكن فساد شعبها أطمس بصيرتها.
ب. قيل عنها "وادي الرؤيا" مع أن أورشليم لم تُقم على وادي بل على جبال، لكن وجود جبال مرتفعة حولها يجعلها بالنسبة لهذه الجبال أشبه بوادي. على أي الأحوال لقد أراد الله أن يُقيم من مدينته جبلاً عاليًا ثابتًا لكن فساد شعبها أنزلها لتصير واديًا.
يتساءل البعض: أي حصار يتحدث عنه النبي هنا؟[250].
هل هو الحصار الذي قام به سنحاريب أم حصار آسرحدون في أيام منسي؟ أم هو حصار نبوخذنصَّر أم تيطس؟!
يرى البعض أنه حصار سنحاريب، وإن كان من الجانب الروحي ينطبق على كل حصار سقطت فيه أورشليم، وبالأكثر ينطبق على الحصار الذي يحل بأورشليمنا الداخلية، القلب والفكر والنفس.
v الصعود على السطوح [1]: لم يكن يتوقع الشعب أن الله الذي يحب مدينته ويعلن عن وجوده خاصة داخل قدس الأقداس حيث يترآى مجده في الشاكيناه (تابوت العهد) يسمح بحصار مدينته بواسطة الوثنين لذا صعودا على السطوح لينظروا بأنفسهم ما حلّ بالمدينة من الخارج.
لعل صعودهم إلى السطح يُشير إلى اهتمامهم بالخارج دون الداخل، وبالمظاهر دون الأعماق؛ عوض الدخول إلى بيت نفوسهم الداخلية لاكتشاف سرّ ضعفهم اهتموا بما هو على السطح. لهذا يوبخهم النبي قائلاً:
"يا ملآنة من الجلبة، المدينة العجاجة، القرية المفتخرة (الفرحة)" [2]. هذه سمات خارجية، إذ صارت أورشليم متمثلة بعواصم البلاد المحيطة بها تفتخر وتفرح بالمظاهر الصاخبة عوض الرجوع الخفي الصامت نحو الله سرّ فخرها وقوتها وبهجتها.
v "قتلاكِ ليس هم قتلى السيفِ ولا موتى الحرب. جميع رؤسائك هربوا معًا، أسروا بالقسى، كل الموجودين بك أسروا معًا. من بعيد فروا. لذلك قلت اقتصروا عني فأبكي بمرارة. لا تلحّوا بتعزيتي عن خراب بنت شعبي" [2-4].
رأى إشعياء ما وصلت إليه مدينة إلهة المحبوبة جدًا إليه فطلب ألا يُعزيه أحد بسبب شدة مرارة نفسه. رأى جيش أورشليم خارجًا في الحقول تحت قيادة رؤساء لم يموتوا بالسيف وإنما بسبب الخوف هربوا فلحق بهم العدو وأسرهم وأذلهم.
"قتلاك ليس هم قتلى السيف"... فقد طعن الشعب نفسه بنفسه بسهام الشهوات النارية، وعزلوا أنفسهم بأنفسهم عن الله مصدر حياتهم، وهكذا سقطت نفوسهم قتلى قبل أن يحل الخراب الخارجي. رأى النبي ما هو أخطر من سنحاريب وجيشه، الاستسلام للخطايا والرجاسات وجحد الإيمان عمليًا. فإن الخطية "طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء، طرق الهاوية بيتها هابطة إلى خدور الموت" (أم 7: 26-27).
لم يكن أمام النبي إلاَّ أن ينسكب بدموع أمام الله؛ هذا ما يفعله كل قائد روحي حكيم يرى شعب الله ينحرف أو نفوسًا تهلك، فيقول مع إرميا النبي: "يا ليت رأسي ماء وعينى ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى بنت شعبي" (إر 9: 1). رب الأنبياء نفسه "نظر إلى المدينة وبكى عليها" (لو 19: 41).
v لست أنكر أن أورشليم الأولى قد خربت بسبب شر سكانها، لكنني أتساءل: ألا يليق بك البكاء على أورشليمك الروحية؟!
إن أخطأ أحد بعد قبوله أسرار الحق، فإنه يُبكي عليه، لأنه كان من أورشليم ولم يعد بعد...
ليُبك على أورشليمنا، لأنه بسبب الخطية يُحيط بها الأعداء (الأرواح الشريرة) بمترسة ويحاصرونها ولا يتركون فيها حجرًا على حجر.
العلامة أوريجانوس[251]
v بكى (السيد) على أورشليم إذ أراد لها الطوباوية - كما قلت - بقبولها الإيمان به وترحيبها بالسلام مع الله. هذا هو ما دعاهم إليه بإشعياء قائلاً:" لنصنع معه سلامًا" (إش 27: 5 الترجمة السبعينية)... لنصنع سلامًا مع الله بالإيمان.
القديس كيرلس الكبير[252]
v لا يكف مخلصنا عن البكاء حتى الآن خلال مختاريه متى رأى إنسانًا يترك الحياة الصالحة ويسلك في الطريق الشرير.
البابا غريغوريوس (الكبير)[253]
لقد عاش أهل أورشليم خاصة القيادات المدنية والدينية في ترف وتدليل، يقضون لياليهم في حفلات وأكل وشرب بينما وقف إشعياء ينذر ويُحذر. الآن يقف الشعب على السطوح يرون الخراب بأعينهم أما إشعياء فينكسر قلبه حزنًا ومرارة، يدخل إلى مخدعه يبكي بدموع غزيرة لعل الله يترأف على شعبه. عاش جريئًا وصريحًا في توجيهاته ومحبًا رقيقًا في مشاعره.
يصف إشعياء ما حلّ بأورشليم من شغب ودوس وارتباك وصراخ [5]، فقد حلّ اليأس بالمدينة كلها، لا يعرف أحد كيف يتصرف أو إلى أين يذهب. ربما نادى البعض بتقوية الأسوار وآخرون نادوا بالهروب إلى الجبال وجماعة أخرى فضلت الاستسلام. تحولت أورشليم من وادي الرؤيا الإلهية واهب السلام إلى وادٍ مربك ومحطم للنفس... وقد دعى إشعياء هذا اليوم "يوم رب الجنود" [5]، إذ هو يوم تأديبه لشعبه.
2. حسابات بشرية للخلاص:
ما هو موقف يهوذا مما حدث لأورشليم؟ لقد تجاهلوا "ستر العلي" الذي يحميهم ويحصنهم، كقول المرتل:" الساكن في ستر العلي، يستريح في ظل إله السماء" (مز 91: 1)، "احتمي بستر جناحيك" (مز 61: 4). بهذا تخلت النعمة عنهم وانكشفوا أمام العدو في ضعف. "ويكشف ستر يهوذا فتنظر في ذلك اليوم إلى أسلحة بيت الوعر" [8].
يرى البعض أن "الستر" هنا يُشير إلى الحجاب الذي اعتادت النساء الشريفات أن يلبسنه ليخفين وجوههن. فقد تطلع النبي إلى يهوذا كعروس روحيه لله، رفضت عريسها وفقدت طهارتها وعفتها ونزعت حجابها في غير حياء، يشتهيها الغرباء، وتسلم جسدها لهم. هذه الصورة تنطبق على يهوذا عندما بدأت الأسوار تنهدم وصارت أورشليم كوجه مكشوف يطمع الغرباء فيها.
حاول يهوذا ايجاد حل للمشكلة لكنه عوض الرجوع إلى الله استخدم حسابات بشرية محضة لتحقيق الخلاص؛ منها:
أ. اندفاع الشعب إلى "بيت الوعر" الذي بناه سليمان الحكيم (1 مل 7: 2 الخ) الذي وضع فيه أسلحة ذهبية، سرقها شيشق ملك مصر فاستعاض عنها رحبعام بأسلحة نحاسية. لقد كان البيت مملوء أسلحة، لكنها لا تقدر أن تسند الشعب وتحميه ضد الأعداء.
ب. الاهتمام بمياه البركة السفلى وتحويل المياه من خارج الأسوار إلى داخل المدينة حتى لا ينتفع منها الأعداء خارج الأسوار ولا يتعرض الشعب المحاصر للظمأ ونقص المياه.
ج. بدأت الأسوار تتشقق ففكروا في هدم بيوتهم وتحويل الردم إلى ناحية السور لحمايته من الانهيار. لم يفكروا في الله السور الحقيقي الذي لا يقدر العدو أن يقترب منه؛ الله الذي يُقيم نعمته لحراسة أسوارنا الداخلية فلا تنهدم، إذ قيل: "بإلهي تسورت أسوارًا" (مز 18: 29)، "هوذا على كفي نقشتك. أسوارك أمامي دائمًا" (إش 49: 16).
3. تجاهل التوبة:
الله في حبه لنا يدعونا إلى التوبة لنبكي وننوح على خطايانا، فننعم بسلام داخلي فائق وفرح أبدي لا ينقطع، لكن الإنسان في قصر نظره يُريد أن يتمتع باللذة المؤقتة والترف الزمني حاسبًا أنه يموت غدًا.
"ودعا السيد رب الجنود في ذلك اليوم إلى البكاء والنوح والقرعة والتنطق بالمسح. فهوذا بهجة وفرح ذبح بقر ونحر غنم أكل لحوم وشرب خمر لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" [12-13].
v يتجه هؤلاء الأشرار نحو قتل أنفسهم بكل أنواع الشهوات... نعم فإنهم حتى عندما يعيشون يكونون في عار، إذ يحسبون بطونهم إلهتهم، وعندما يموتون يتعذبون.
البابا أثناسيوس الرسولي[254]
4. عزل شبنا:
اختلفت الآراء من جهة مركز شبنا في قصر حزقيا الملك، هنا يبدو أنه المسئول عن خزينة الملك وفي (2 مل 18: 37) دُعى بالكاتب، ويرى البعض أنه مشيرًا للملك أو كبير حجاب القصر أو وزيرًا... على أي الأحوال كان ذا سلطان عظيم. ويبدو أنه كان غريب الجنس. أراد أن يخلد ذكراه فنحت لنفسه قبرًا عظيمًا في ذات الصخرة التي دفن فيها ملوك يهوذا. كان رجلاً شريرًا فوبخه إشعياء ودعاه "خزي بيت الملك" كما تنبأ عن عزله وإقامة الياقيم عوضًا عنه، وقد تحقق ذلك حوالي سنة 701 ق.م.
أما شره فيُنصب أولاً في عدم تصديقه لكلمات إشعياء النبي للشعب بأنه سيُسبى، وأن إقامته القبر علامة عدم تصديقه أو عدم إيمانه بنبوات إشعياء[255]. أما الجانب الآخر للشر فهو حبه للعظمة فقد أراد أن يُدفن مع الملوك، واخيرًا أنه لم يكن مخلصًا للملك فقد أساء استخدام ثقة الملك فيه. لهذا كله صدر الحكم الإلهي بعزله وحرمانه من الدفن فيما شيدته يداه وعوض تمتعه بالمركبات الفخمة يُلِقى به في مدينة غريبة كأنه بكـرة يلقيـها طفل ويلهو بها بلا عائق.
يرى كثيرون أن شبنا يرمز لضد المسيح الذي يظهر في آخر الأيام أو لإنسان الخطية الذي بكبريائه يود لا أن يدفن في مقبرة ملوك يهوذا نسل داود، وإنما أن يتربع في هيكل الرب ويقيم نفسه إلها (2 تس 2: 4). أما الياقيم فيُشير إلى السيد المسيح الذي يُحطم ضد المسيح وينتزع عنه جبروته لكي يُخلص المختارين.
يلاحظ هنا أن النبي لم يقل عن شبنا أن حزقيا الملك يعزله. وإنما يقول: "هوذا الرب يطرحك طرحًا يارجل ويُغطيك تغطية، يلفك لفَّ لفيفة (أى يقذفك بدفع قوي) كالكرة إلى أرض واسعة الطرفين... واطردك من منصبك ومن مقامك يَحُطُّكَ" [17-19].
5. إقامة الياقيم عوض شبنا:
جاء الحديث هنا [20-25] يفتح باب الرجاء أمام كل نفس يُحاول عدو الخير أن يُحطمها، إذ لابد لشبنا أن يزول وينتهي ويحتل الياقيم موضعه. سيحمل ضد المسيح أو النبي الكذاب أو إنسان الخطية سلطانًا وقوة لكنه حتما ينهار لتعلن مملكة المسيح إلى الأبد.
جاءت النبوة هنا واضحة بأن الياقيم رمز للسيد المسيح .
أ. "والبسه ثوبك وأشُدُةُ بمنطقتك وأجعل سلطانك في يده، فيكون أبًا لسكان أورشليم ولبيت يهوذا" [21].
كان شبنا معتزًا بالثوب والمنطقة مع السلطان، يأمر وينهى بكونه الرجل الثاني، موضع ثقة الملك، يتصرف بروح السلطة والعجرفة. لكنه إذ يحتل الياقيم موضعه يأخذ ثوبه ومنطقته لكنه يحمل روح الأبوة الحانية تجاه شعب الله. "ضد المسيح" صاحب سلطة مع عنف وقسوة، أما "المسيح" فحب وحنان وأبوة روحية فائقة. ما يميز أولاد الله عن أولاد أبليس، هو الحب المملوء حنوًا مقابل السلطة المملوءة عنفًا.
قيل عن السيد المسيح: "الرب قد ملك؛ لبس الجلال، لبس الرب القدرة، ائتزر بها" (مز 93: 1). وقد رآه إشعياء النبي لابسًا ثيابًا محمرة كدائس المعصرة (إش 63: 1-3). إذ لبس كنيسته التي صبغها بدمه الثمين فتقدست وحملت بهاءه.
لقد تمنطق ليغسل الأقدام ويخدم بروح الحب والاتضاع.
ب. "وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يغلق، ويغلق وليس من يفتح" [22]. من الذي له المفتاح إلاَّ "القدوس الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ 3: 7). أنه السيد المسيح. الذي يشجع كنيسته قائلاً لها بإنه وحده يفتح لها أبواب السماء ويغلق عليها فلا يقدر إبليس وكل قواته أن يقتربوا إليها. أما المفتاح الذي يفتح به ويغلق فهو: "سلطان الحلّ والربط" الذي وهبه الرب لعروسه خلال تلاميذه (مت 16: 19) كما يقول القديسان كيرلس الكبير وجيروم؛ والصليب الذي به يفتح ربنا يسوع فردوسه ويغلق به ابواب الجحيم عنا كقول القديس يوحنا الذهبي الفم؛ وأيضًا فهم الكتاب المقدس خاصة النبوات التي كانت مختومة قبلاً وغير مدركة كقول القديس غريغوريوس صانع العجائب[256]. أيضًا يقول العلامة أوريجانوس: [كل عمل مكتوب يحتاج إلى اللوغوس الذي أغلق عليه لكي يفتحه، "يغلق وليس من يفتح" وعندما يفتح لا يقدر أحد أن يُشكك فيما يقدمه من شرح[257]].
لا نعجب من القول "وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه"، لأن هذا المفتاح هو الصليب الذي حمله ابن داود على كتفه ليحقق خلاصنا.
ج. "وأثبته وتدًا في موضع أمين ويكون كرسي مجد لبيت أبيه، ويعلقون عليه كل مجد بيت أبيه الفروع والقضبان، كل آنية صغيرة من آنية الطسوس إلى آنية القناني جميعًا" [23-24].
في المناطق الريفية الفقيرة لا يجد الإنسان موضعًا في بيته لكثير من احتياجاته وممتلكاته فيقوم بتعليقها على مسامير في الحائط من ملابس وأدوات مطبخ وغسيل الخ... الآن يرى النبي أن المسيا المخلص هو هذا المسمار أو الوتد المثبت في موضع أمين ليقوم المؤمن بتعليق كل ممتلكاته واحتياجاته عليه، وذلك في الكنيسة "بيت أبيه". هذه صورة رمزية تعني اتكال المؤمن على السيد المسيح الحال في كنيسته والحامل لكل أتعابنا. عليه يضع الملوك الأمناء أكاليل مملكتهم وعليه يضع الفقير احتياجاته البسيطة. انه سند العظماء والفقراء بلا تمييز.
كل إناء - أيا كانت قيمته - يُعلق عليه يصير إناء للكرامة. فيقول المؤمن مع الرسول بولس: "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا" (2 كو 4: 7).
هذا عن الإيمان بالسيد المسيح، الوتد الثابت في الكنيسة بيت الآب، فماذا يعني بزوال الوتد [25]؟
يرى البعض أن هذا الزوال يعني به رفض اليهود للمسيح المصلوب فيزول من وسطهم هؤلاء الذين لديهم النبوات عنه ومعهم الرموز، فيتحطمون. ويرى البعض أنه يُشير هنا إلى ما حسبه اليهود في ذلك الحين وتدًا أمينًا ثابتًا (شبنا أو غيره)، فيقارن بين الإيمان بالمسيا المخلص والاتكال على الطرق البشرية للخلاص.
إنقلاب صور وتجديدها
صور تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الإنحلال والفساد، لأنها بلد تُجاري مفتوح للغرباء. يصور النبي ما يحل بها من دمار تام لتكابد مع شعب الله المخطىء ذات التأديبات كقول الرسول بولس: "شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر اليهودي أولاً ثم اليوناني" (رو 2: 9). لكن هذا التأديب لا يبقى إلى الأبد إنما يُقدم الله الخلاص للكل و تتمتع صور بالتجديد في المسيح يسوع المخلص العالم.
1. انقلاب صور [1-14].
2. تجديد صور [15-18].
1. انقلاب صور:
سبق لنا الحديث عن صور في تفسيرنا لسفر حزقيال (حز 26)[258].
كلمة "تصور" tsor تعني "صخرة"، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلاَّ أن القديس جيروم يرى أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[259]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه.
يرى Keith و Urquhart أن ما ورد في هذا الفصل عن صور قد تحقق حرفيًا[260].
لقد سقطت صور تحت الحصار عدة مرات منها: حاصرها شلمناصَّر لمدة خمس سنوات ولم يقدر أن يستولى عليها؛ وحاصرها نبوخذنصَّر لمدة 13 سنة دون جدوى؛ وحاصرها أسكندر الاكبر وافتتحها بعد سبعة شهور سنة 332 ق.م. وقام بتدميرها. حاصرها أيضًا انطيخونس Antigonus كما حوصرت في العصور الوسطى عدة مرات بواسطة الصليبيين. وتعتبر صور هذه المسئولة عن قيام الحرب العالمية الأولى التي مات فيها قرابة 40 مليون شخصًا، إذ اشتعلت بسبب محاولة المانيا إنشاء سكة حديد بين برلين وبغداد لتنمية التجارة مع بلاد الشرق الأوسط[261].
ما ورد هنا لا يخص حصارًا معينًا لصور، وإنما يمثل ما يحل بكل نفس تتشبه بصور من جهة ارتباكها بالغنى مع الرجاسات.
يصف النبي حصار صور قائلاً:" وحيّ من جهة صور؛ ولولي يا سفن ترشيش لأنها خربت حتى ليس بيت حتى ليس مدخل من أرض كتيم أُعلن لهم" [1]. هنا يبرز أثر الخراب الذي حلّ بصور على بحارة السفن التجارية العائدة من ترشيش ويبدو أنهم لم يكونوا قد سمعوا عن انهيار المدينة فذهلوا إذ لم يجدوا مدخلاً للمدينة فقد تهدمت أسوارها، ولا وجدوا بيتًا واحدًا. لقد انتشر الخبر لفداحته حتى بلغ كتيم أي جزيرة قبرص كرمز لسماع دول أوربا جميعها عن هذا الحدث. ويرى البعض أن هذا الحصار تم بواسطة الجيش المقدوني، جيش الأسكندر الأكبر، القادم من جزيرة قبرص.
يدعو النبي المدن المجاورة لتندب حال صور، فقد كانت مصدر خير لها خلال التجارة والآن قد تدمرت تمامًا وفقدت بعض المدن الكثير من الربح.
سمع تجار صيدون (تعني "صيد السمك" تبعد حوالي 22 ميلاً شمال صور وتعتبر المدينة الأم لصور فقد جاءت تندب حال ابنتها)، جاء التجار الذين اعتادوا أن يجولوا في شوارعها وقد اصابتهم الدهشة لما حلّ بها فلم يستطيعوا أن ينطقوا بكلمة بل حلّ بهم الحزن الشديد. أما المصريون سكان وادي النيل فحزنوا لأن صور كانت مركزًا هامًا لاستيراد غلاتهم ومحاصيلهم مقابل استيراد بضائع صور. يُشير النبي إلى نهر النيل بكلمة "شيحور" وتعني "اضطرابًا" (إش 22: 3).
هكذا تحزن صيدون على ابنتها الذليلة بل المنهارة صورة، هذه التي كانت كعروس البحر الأبيض المتوسط أو كملكة متوّجة انعشت بلاد كثيرة في أفريقيا وأوربا، الآن صارت أشبه بفتاة عانس تئن من العزلة، بلا زوج ولا بنين، فقدت بلادًا كثيرة التي كانت أشبه ببنين لها [4].
حزنت مصر لأنها فقدت مركزًا هامًا لتصدير غلاتها، وربما لأنها خشيت أن يحل بها ما حلّ بصور. هذا ما حدث في أيام نبوخذنصَّر الذي نهب ثروة فرعون بعد حصاره صور (حز 29: 17-20).
يطلب النبي من البقية الباقية في صور أن يرحلوا إلى ترشيش وهي مدينة قديمة في أسبانيا وأحد مستعمرات صور المزدهرة، رحلوا وهم مولولين لأنهم هاربون كلاجئين. يرى البعض أن النبي نطق بذلك كنـوع من السخرية بسكان صور المتعجرفين
منذ القدم، ها هم يرحلون في رعب وخوف ليعيشوا غرباء ولاجئين.
يقدم النبي سؤالاً لاهوتيًا يثير السامعين على البحث عن الأجابة، وهو: "من قضى بهذا على صور المتوّجة، التي تجارها رؤساء، متسببوها موقروا الأرض؟" بمعنى آخر من الذي قضى على صور الملكة المتوّجة والتي جعلت من مستعمراتها أمراء ورؤساء ومن تجارها أشرافًا موقرين في كل المسكونة؟! لقد كانت ملكة غنية أفاضت بالغنى والترف والكرامة مع الكبرياء على الدول التي كانت تتعامل معها فمن الذي حكم عليها هكذا؟
رب الجنود هو الذي قضى بذلك [9] لينزل بكبريائها إلى الحضيض ويهين كل تجارها أصحاب الوقار والكرامة الزمنية. هذا ما عناه عاموس النبي حين قال: "هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟!" (عا 3: 6). يقول الأب ثيؤدور: [حينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية. فالطبيب يقوم بقطع أو كي الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحتهم، ومع هذا يرى غير القادرين على الاحتمال أن ذلك شر[262]].
الله قضى بذلك، لكن علة الخراب هو الكبرياء والمجد الباطل، الخطية هي التي تفسد الإنسان كما الأمم، أما حكم الله إنما هو إعلان عما يجلبة الإنسان لنفسه بنفسه.
يشبه النبي صور الهاربة بعد الخراب بامرأة فقدت كل شيء تجتار نهر النيل وليس لديها منطقة تربط بها ثيابها؛ أو تشبه مياه النيل عند المصب فانها تتدفق على البحر وليس من يقدر أن يوقفها، هكذا هرب أهل صور من مدينتهم المحطمة بلا قوة ولا قدرة وكأن المياه تجرفهم نحو البحر [10]، لذا يدعوها "المتهتكة العذراء بنت صيدون" [12].
مدّ الرب يده بالغضب على البحر، أي أمر الممالك أن تثور ضد فينيقية (كنعان) لتخرب حصونها [11]، وتحطم كبريائها فلا تعود تفتخر [12] وعوض كونها ملكة تصير عذراء متهتكة، تهرب إلى كيثم (قبرص) ولا تجد راحة... ماذا يعني هذا؟
أ. مدّ الرب يده داعيًا للتوبة، لكن صور لم تستجب للنداء، فصارت اليد ممدودة للعقاب. لقد بسط أيضًا رب المجد يديه على الصليب بالحب، فمن آمن وجد في الصليب قوة الله للخلاص، ومن جحده صار تحت الدينونة.
ب. كان أمام صور أن تهرب إلى كتيم... لكنها لم تجد راحة، فإن سلام الإنسان لا يتوقف على الموقع الذي يوجد فيه وإنما على أعماق النفس الداخلية. راحة الإنسان لا في تغيير مكانه أو عمله أو ظروفه الاجتماعية وإنما في رجوعه إلى الله مخلصه الذي يُنادي: "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا اُريحكم" (مت 11: 28). وكما يقول القديس يوحنا سابا: [طوبى لذاك الذي يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجري له الحياة ليتنعم].
إذ عرف الله أن صور لن تسمع لهذا الصوت طلب منها أن تتعظ مما حدث للكلدانيين بواسطة ملك أشور، فقد حوّل قصورها إلى ردم.
2. تجديد صور:
الله في حبه للبشر لا يترك الإنسان في فساده لكنه يُقدم له كل امكانية للخلاص. لهذا بعدما صوّر النبي مدى الخراب الذي حلّ بصور عاد لكي يتحدث عن تجديدها بالرب المخلص.
تُترك مستعبدة لبابل 70 عامًا وهي تُقابل السبعين عامًا التي تنبأ عنها إرميا النبي بخصوص سبي إسرائيل البابلي (إر 29: 10)، وكأن الأمم تشترك مع إسرائيل في هذه المذلة لأنه قد أغلق على الكل معًا في العصيان (رو 11: 32) لكي ينعم الكل بالمخلص ويُرحم الجميع. لقد أتهمت أورشليم بأنها زانية (إش 1: 21) وها هي صور تحمل ذات الإتهام [16].
الفترة من السنة الأولى لمُلك نبوخذنصَّر حتى كورش هي 70 سنة تمامًا، خلالها خدمت الأمم بابل.
يصف النبي صور بامرأة زانية تُغني في الأماكن العامة لتجتذب الرجال إليها؛ هكذا فعلت صور بتجارتها التي ارتبطت بالفساد، لكنها بعدما طافت العالم كما لو كان مدينة واحدة تطوف فيها الزانية سقطت تحت سيطرة بابل 70 عامًا في مذلة لا تمارس فيها تجارتها ولا تبعث بالفساد في الدول الأخرى حتى صارت منسية. نساها العالم لكن الله لن ينساها بل يحوّل ذلها إلى مجد، فبعدما كانت تجارتها مرتبطة بالفساد تعود فترتبط بالحياة المقدسة في الرب، يصير تجارتها شهودًا لإنجيل الخلاص، إذ تدخل مع الأمم في الإيمان لتمارس الحياة الإنجيلية وتكرز بها. بعدما كانت في جوع وعري ليس خلال السبي البابلي وإنما خلال عبودية الخطية صارت في حضرة الرب تأكل من خبز الحياة فلا تجوع، وتنعم بلباس المعمودية فلا تتعرى، كقول الرسول: "لأنكم كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27). هذا ما عناه النبي بالقول: "وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب؛ لا تُخزن ولا تُكنز بل تكون تجارتها للمقيمين أمام الرب لأكلٍ إلى الشبع وللباسٍ فاخرٍ" [18].
تدنيس الأرض
في الأصحاحات السابقة أبرز النبي فاعلية الخطية في حياة الأمم والشعوب مقدمًا نبوات عن سبع أمم لتأكيد فساد كل الشعوب حتى شعبه الخاص يهوذا وآفرايم. الآن يتحدث في الأصحاحات (24-27) عن نبوات عامة تخص الأرض كلها، ليظهر شمولية الفساد. وفي حديثه يشرق بعبارات تبعث الرجاء وتفتح طريق الخلاص.
تبدأ النبوات بإعلان أن الأرض ذاتها التي خلقها الله بصلاحه من أجل سعادة الإنسان قد فسدت، واحتاجت أن يفرغها الله ليُجددها. هذا ما حدث بالجسد (لأن الأرض تُشير إلى الجسد الترابي)، فالخطية حطمت قدراته وامكانيته بل وطبيعة الأمور التي خلقها الله صالحة لتعمل لبنيان الإنسان والجماعة، لقد صرنا محتاجين إلى تجديد خلقتنا، أي الولادة الجديدة فيتقدس الجسد مع النفس بكل الطاقات والقدرات الداخلية.
1. ضربات عامة [1-13].
2. فرح المؤمنين بالرب [14-16].
3. تسبيح مع رعب [17-23].
1. ضربات عامة:
يشّبه النبي الأرض كلها بإناء كل ما بداخله قد فسد لذا يقوم صاحبه بتفريغه تمامًا بأن يقلبه رأسًا على عقب، فيقول: "هوذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبدد سكانها. وكما يكون الشعب هكذا الكاهن؛ كما العبد هكذا سيده؛ كما الأَمة هكذا سيدتها؛ كما الشاري هكذا البائع؛ كما المقرض هكذا المقترض؛ وكما الدائن هكذا المديون" [1-2].
هكذا أغلق على الجميع في العصيان، واستحق الكل الموت، واحتاج الجميع إلى مخلص قادر على تجديد طبيعتهم، يشترك في هذا الكاهن مع الشعب، العظيم مع المحتقر، الغني مع الفقير. هذا الأمر يحتاج كما إلى تفريغ الأرض لتعود إلى ما قبل خلقة العالم - خالية وخاوية - فيُعيد الرب نفسه خلقتها .
هذا هو الأساس اللاهوتي للخلاص، أن الخليقة قد فسدت تمامًا واحتاجت إلى صانعها لتجديد خلقتها، وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [هذا يشبه صورة لإنسان رسمت على لوحة، ثم حدث أن تشوهت بأصباغ خارجية، فصار لزامًا أن يحضر صاحب الصورة مرة أخرى لتجديد صورة الوجه على ذات الخشب (اللوحة)[263]].
ماذا فعلت الخطية أو العصيان بالبشرية؟ لقد اقتربت البشرية إلى نيران الغضب الإلهي فاحترقت، أما سرّ الاحتراق فهو إرادة الإنسان العاصية التي تسحبه نحو الهلاك.
يقدم إشعياء النبي تشبيهًا يكشف عن حال البؤس التي وصلت إليه البشرية، فقد اعتاد الناس في فترة حصاد الكروم أن يقيموا حفلات مبهجة، يشربون الخمر ويغنون بفرح ويقدمون تقدمات للفقراء. جاء وقت الجني فاذ بالكروم تعلن حدادها إذ لا تحمل عنبًا، أصحاب الدفوف يتوقفون عن الضرب بها، ليس من يُغني ولا من يفرح فقد هرب كل سرور من على وجه الأرض وحلّ الدمار بنار غضب الله فصار كل ما في العالم رمادًا [7-12]. هكذا يشبّه العالم بمدينة محترقة تحولت رمادًا وحقول حزينة جافة لا تحمل ثمرًا. يشبّهه بشجرة زيتون نفضت أوراقها وصارت عارية بلا ثمر ولا أوراق [13]، وككرمة بعد انتزاع كل عناقيدها منها.
يليق بالكاهن أن يدرك حاجته للخلاص مثله مثل الشعب [2] وكما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [بالحقيقة لا يوجد تمييز بين الشعب والكهنة...[264]].
2. فرح المؤمنين بالرب:
وسط هذا الدمار الذي أفقد البشرية سلامها الداخلي وفرحها توجد بقية مقدسة تعلن بهجتها وفرحها بالرب بواسطة التسبيح والترنم.
"هم يرفعون أصواتهم ويترنمون، لأجل عظمة الرب يصوتون من البحر.
لذلك في المشارق مجدوا الرب. في جزائر البحر مجدوا إسم الرب إله إسرائيل.
من أطراف الأرض سمعنا ترنيمة: مجدًا للبار" [14-16].
يتحدث هنا عن البقية القليلة في العالم التي قبلت الإيمان ورجعت إلى الله، هؤلاء يعيشون في المشارق أي يتمتعون بشمس البر المشرق عليهم (ملا 4: 3). ولئلا يظن بالمشارق هنا مجرد مكان قال: "في جزائر البحر مجدوا اسم الرب" ليؤكد أن الساكنين في الغرب (جزائر البحر الأبيض غرب أورشليم) يتمتعون بالخلاص مع الشرقيين.
موضوع التسبيح هو "مجدًا (للمسيح) البار!".
3. تسبيح مع رعدة:
الخلاص الذي يقدمه الله للبشرية يلهب قلب المؤمنين فرحًا وتهليلاً، ويبعث رعبًا بالنسبة لغير المؤمنين الجاحدين وأيضًا للشياطين.
لقد أدرك عدو الخير أن نهبًا قد تم بالنسبة له، فقد اجتذب الصليب الكثير من النفوس التي استعبدها العدو، وحطمت القيامة كل قوات الظلمة وفتحت أبواب الفردوس.
يرى النبي عدو الخير أشبه بوحش بري سقط في الشباك في حفرة، وفتح فاه يندب حاله في يأس مع خوف ورعدة [16-18]. ارتعب عندما رأى نفسه ينحدر نحو الهاوية كما في حفرة عميقة للغاية، بينما وقفت السماء والأرض تشهدان للصليب: "ميازيب من العلاء انفتحت، وأسس الأرض تزلزلت؛ انسحقت الأرض انسحاقًا، تشققت الأرض تشققًا، تزعزعت الأرض تزعزعًا" [18-19]، "في ذلك اليوم يخجل القمر وتخزى الشمس لأن رب الجنود قد ملك على جبل صهيون في أورشليم" [23].
هكذا تشهد الطبيعة عن ثقل الخطية التي حملها السيد المسيح عنا، كأنها كتلة ثقيلة للغاية دُفعت نحو الأرض فشققتها وزعزعتها واثارت فيها زلازل حتى خجل القمر وخزيت الشمس مما فعلته الخطية. هذا ومن جانب آخر وقفت الطبيعة كما في خزي وخجل أمام ما فعله الإنسان بمخلصه وفاديه.
بالصليب دخلنا في المُلك الروحي (رؤ 20) حيث يملك رب الجنود على جبل صهيون في أورشليم [23]؛ يملك بالصليب على قلوب المؤمنين، مقيدًا إبليس ولك جنوده الروحيين كأسرى حتى يأتي وقت الارتداد [22]، إذ شهر بهم جهارًا (كو 2: 15)، واهبًا إيانا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو.
منظر الصليب حطم العدو، معلنًا المجد الإلهي أمام الشيوخ [23]، فقد عاين الرسل قوة الخلاص وأدركوها في حياتهم كما في كرازتهم.
تسبحة شكر من أجل الملكوت
بنهاية الأصحاح السابق ينتهي الجزء الخاص بتهديدات إشعياء النبي بالخراب الذي يحل بالأمم بسبب البعد عن الله وعصيانه ومقاومته، أما الأصحاحات 25-27 فتُقدم تسابيح الخلاص وتعلن مقاصد الله من جهة التأديب، كما تكشف عن مدى اشتياق الله نحو كرمه المشتهاه ودعوته شعبه للتمتع بالوليمة العظيمة وتحطيم قوى إبليس.
الأصحاح 25 يمثل تسبحة من أجل عمل الله مع شعبه الذي يردهم من السبي ويهلك أعداءهم (من بينهم موآب)، كرمز لعمله الخلاصي في العهد الجديد حيث يُقيم ملكوته، واهبًا الحرية لشعبه والغلبة على قوات الظلمة.
يدخل بنا هذا الأصحاح والأصحاح التالي إلى ملكوت العهد الجديد حيث يظهر الرب قادمًا ليُقيم مملكته السماوية في حياة البشر. هذا ما أعلنه القديس يوحنا المعمدان في بدء خدمته قائلاً: "توبوا فأنه قد اقترب منكم ملكوت السموات"، أما الملك نفسه فقال: "ملكوت الله داخلكم" (لو 7: 21).
لقد رفض الجاحدون الملك المسيا، ومع هذا فلا يكف الملك عن أن يدعو كل البشرية إلى ملكوته قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). إنها دعوة مفتوحة للجميع عبر كل الأجيال.
1. تسبحة حمد لله [1-5].
2. وليمة العهد الجديد [6-9].
3. هلاك موآب [10-12].
1. تسبحة حمد لله:
انفتحت عينا إشعياء النبي على ملكوت المسيح ففاض قلبه تهليلاً وانطلق لسانه يُسبح الله من أجل عمله الخلاصي؛ بعدما تنبأ عن التأديبات المُرّة صار مرتلاً يُقدم مزامير حمد لله. أما سرّ تسبيحه وحمده لله فهو:
أ. تحقيق كلمات الله ومواعيده الأمينة الصادقة: "يارب أنت إلهي أُعظمك، أحمد إسمك لأنك صنعت عجبًا، مقاصدك منذ القديم أمانة وصدق" [1]. لقد ادرك النبي أن سرّ الخلاص يكمن في مواعيد الله الأمينة وعمل يديه العجيبة. لهذا يعلق القديس إيرناؤس على هذه التسبحة قائلاً: [نرى هنا أننا لا نخلص بأنفسنا بل بعون الله[265]].
نسبح الله ونحمده من أجل مقاصده الإلهية الأزلية العجيبة، فمنذ القديم مهتم بخلاصنا، قبل أن نوجد، لأننا كنا في فكره، موضع حبه.
ب. إبادة الشر (بابل): "لأنك جعلت مدينة رجمة، قرية حصينة ردمًا، قصر أعاجم أن لا تكون مدينة، لا يبُنى إلى الأبد" [2].
خلاصنا بالذراع الإلهي يتحقق بالقضاء على الشر، أي على مدينة بابل المتعجرفة والمملؤة ارتباكًا، المحتضنة بضد المسيح. وكأن سرّ تسبيحنا هو قيام مملكة المسيح الذي يُلازمه انهيار مملكة إبليس المقاوم للحق وتحطيم لمدينته وهدم لقصره.
لعل المدينة هنا تُشير إلى سيطرة عدو الخير على الجماعة، والقرية تُشير إلى سيطرته على جماعة أقل مثل الأسرة، والقصر يُشير إلى تملكه على القلب، فان عدو الخير يعمل على كل المستويات ليملك خلال الجماعة أو الأسرة أو الفرد... ومسيحنا أيضًا يُقاومه على كل المستويات ليهدم كل أثر لمملكته.
أما دعوة النفس التي يُسيطر عليها العدو "قصر الأعاجم" أو "قصر الغرباء" فلأن عدو الخير بملائكته يحتلون النفس كغرباء وأعاجم، يملكون ما ليس لهم؛ إنها خليقة الله الصالحة التي تسللوا إليها.
لعل أيضًا هدم المدينة أو القرية أو القصر يُشير إلى هدم إنساننا القديم بكل أعماله لأجل التجديد المستمر لإنساننا الداخلي على صورة خالقه (2 كو 4: 16).
ج. الكرازة: مما يفرح القلب ويملأه تسبيحًا أن قيام مملكة المسيح الداخلية مع هدم مملكة عدو الخير فينا يصحبه شهادة أو كرازة لعمل الله وإنجيل خلاصه، فتُجتذب نفوس كثيرة لتقوم كنيسة قوية لا من جهة العدد وإنما من حيث مسيحها القدير الحالّ فيها. يقول النبي: "لذلك يكرمك شعب قوي، وتخاف منك قرية أمم عُتاة" [3].
تتهلل نفوسنا بشعب الله القوي الذي يحمل فيه قوة قيامته الغالبة للموت، فيعيشون كنفوس عتاة (جبابرة بأس) يمارسون المخافة الإلهية. وكما قيل عنهم: "فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على اقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" (حز 37: 10)، "مرهبة كجيش بألوية" (نش 6: 10).
حينما تنهار فينا مدينة بابل وتتحطم قرية إبليس الحصينة ويخرب قصره، يملك الرب ليُقيم منا شعبًا قويًا مرهبًا للعدو... ما هو هذا الشعب المرهب إلاَّ تقديس النفس والجسد والفكر والكلمات والعواطف حتى ظل الإنسان؟! ألم تهرب الأمراض من ظل بطرس الرسول (أع 5: 15)؟! ألم تخرج الشياطين والأرواح الشريرة لمجرد رؤية عصائب الرسول بولس؟!
د. إنصاف المظلومين: "لأنك كنت حصنًا للمسكين، حصنًا للبائس في ضيقه، ملجأ من السيل، ظلاً من الحرّ، إذ كانت نفخة العتاة كسيل على حائط كحر في يبس (جفاف) تخفض ضجيج الأعاجم..." [4-5].
تئن البشرية من قانون الظلم الذي سادها منذ دخلت إليها الخطية لهذا يتقدم الله نفسه كسرّ تعزية عملية، يسند كل نفس جريحة، مقدمًا نفسه قوة وحصنًا للمسكين والبائس وقت الضيق، ملجأ من السيول (العواصف)، وظلاً من الحر بينما تكون نفخة الإنسان الجبار مثل عاصفة ضد حائط. وكأن الله في حبه الفائق ورعايته الأبوية يُقدم نفسه لمؤمنيه حسب احتياجاتهم، يصير لهم كل شيء من أجل سلامهم وبنيانهم وشبعهم، فهو القوة والحصن والملجأ والسحابة المظلمة والخبز النازل من السماء الخ...
2. وليمة العهد الجديد:
يتقدم كلمة الله المخلص إلى كل نفس ليكون هو المشبع لاحتياجاتها وواهبها السلام والقوة ضد العدو الشرير، فتتمتع النفس بالحياة الجديدة في المسيح كوليمة مفرحة دائمة. هذه الوليمة في حقيقتها هي الحياة الإنجيلية المشبعة والمقدمة لكل الشعوب، يصفها هنا هكذا:
أ. وليمة عامة: "ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب وليمة..." [6]. لقد انفتح الباب على مصراعيه لجميع الشعوب لتتمتع بكلمة الله وعهوده ومواعيده وشرائعه وأعماله الخلاصية، خاصة الشركة في الأفخارستيا (جسد الرب ودمه)، ولم تعد عطايا الله حكرًا على شعب معين أو جنس خاص.
يعلن السيد المسيح عمومية الدعوة بقوله: "اذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس" (مت 22: 9).
ب. وليمة دسمة، دعاها "وليمة سمائن" [6]. ما هذه الوليمة الدسمة أو العيد الدسم إلاَّ سرّ الافخارستيا، حيث يشترك المؤمنون من كل الشعوب مع السمائيين في التسبيح، وتنفتح أبواب السماء أمامهم، أو قل تصير الكنيسة سماء ليتمتع المؤمنون بجسد الرب المبذول ودمه الكريم خلاصًا وشبعًا لهم؟!
v ["الرب راعيّ فلا يعوزني شيء..." (مز 23)]
اسمعوا عن ما هية الأسرار التي نلتموها. اسمعوا داود ماذا يقول لكم؟... كيف استهل مزموره بأنه لم يعد في عوز إلى شيء؟ لماذا؟ لأن من يتناول جسد المسيح لا يعود يجوع بعد.
القديس أمبروسيوس[266]
v الذين حرموا من البركات الأرضية بسبب صغر سنهم تُعطى لهم المواهب السماوية بغنى للملء، فيحق لهم الترنم بفرح، قائلين: "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء" (مز 23: 1).
القديس ديديموس الضرير[267]
v هذه المائدة هي عضد نفوسنا، رباط ذهننا، أساس رجائنا، خلاصنا ونورنا وحياتنا.
v عندما ترى المائدة معدة قدامك قل لنفسك:
من أجل جسده لا أعود أكون ترابًا ورمادًا، ولا أكون سجينا بل حرًا!
من أجل هذا (الجسد) أترجى السماء، واتقبل الخيرات السماوية، والحياة الخالدة، ونصيب الملائكة، والمناجاة مع المسيح.
سُمّر هذا الجسد بالمسامير وجُلد، ولا يعود يقدر عليه الموت!
إنه الجسد الذي لُطخ بالدماء وطعن، ومنه خرج الينبوعان المخلصان العالم: ينبوع الدم وينبوع الماء.
القديس يوحنا الذهبي الفم[268]
ج. وليمة مفرحة روحيًا: "وليمة خمر على دردىٍّ، سمائن مُمِخَّةِ دردىٍّ مُصفَّي" [6]. يشير الخمر إلى الفرح الروحي، أما كونه مصفى أو نقيًا فيعني أنه لا يُفقد وعي الإنسان ويُسكره إنما يهبه بهجة روحية.
v تسكرنا كأس الرب بطريقةٍ ما كما شرب نوح كأس خمر مسكر في سفر التكوين، ولكن سكر كأس الرب ودمه ليس كسكر خمر العالم... فان كأس الرب يجعل شاربيه عقلاء ويرد افكارهم إلى الحكمة الروحية؛ تنقل الإنسان من تذوق العالم إلى فهم الله... أنها تُحرر النفس وتنزع عنها الغم... أنها تهب راحة للنفس إذ تقدم لها فرح الصلاح الإلهي عوض كآبة القلب القاتم بسبب ثقل أحمال الخطية.
الشهيد كبريانوس[269]
د. وليمة سماوية: خلالها يُكشف الغطاء ويُنزع حجاب الحرف ليدخل المشتركون إلى السماء عينها ويتعرفون على أسرارها التي كانت محتجبة عن كل بني البشر. "ويفنى في هذا الجيل وجه النقاب، النقاب الذي على كل الشعوب، والغطاء المُغطى به على كل الأمم" [7].
v الشعب الذي تطهر وامتلأ بالمواهب العجيبة يبدأ بالسير نحو المذبح قائلين: "إلى بيت الله نذهب، الله يُفرح شبابنا..." إنهم يسرعون تجاه الوليمة السماوية.
القديس أمبروسيوس[270]
v في كل مرة نخدم ليتورجيا هذه الذبيحة، يليق بنا أن نحسب أنفسنا كمن هم في السماء.
الأب ثيؤدور[271]
هـ. وليمة واهبة الحياة: "يُبلع الموت إلى الأبد" [8].
v بواسطة (هذه الذبيحة) ننتظر نحن المائتون بالطبع عدم الموت، ونحن الفاسدون عدم الفساد، وعوض الأرض وشرورها ننال بركات السماء ومباهجها.
الأب ثيؤدور[272]
v لئلا ننتفخ ظانين أن الحياة هي من عندياتنا، ونتعجرف على الله... فإنه يلزمنا أن نعرف بالخبرة أننا ننال الحياة الأبدية لا من طبعنا بل بقوة هذا الكائن الأسمى "الأفخارستيا".
القديس ايريناؤس[273]
و. وليمة مجيدة: "ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض لأن الرب قد تكلم" [8]. إذ يهب مؤمنيه راحة فيه خلال الحياة المقدسة أو خلال تمتعهم ببر المسيح. أن كانت الدموع قد تسللت إلى البشرية كلها خلال عصيانها فان اتحادنا مع الله في ابنه بالروح القدس يهبنا ثباتًا في المسيح المطيع للآب، فينتزع عنا ثقل عصياننا ويُجفف دموعنا الداخلية، واهبًا النفس أمجادًا في الداخل نختبرها في حياتنا الزمنية كعربون للمجد الأبدي السماوية.
حياتنا جهاد وصراع ضد قوات الظلمة، معركة دائمة أرضها القلب الداخلي، لكن مسيحنا يهبنا الغلبة والنصرة، يضمد كل جرح ويمسح كل دمعة.
v المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان.
حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار.
القديس كيرلس الأسكندرى[274]
3. هلاك موآب:
إذ يتهلل المؤمنون الغالبون للحزن والمرارة والدموع بل وللموت خلال وليمة الخلاص المجانية يقولون: "هوذا هذا إلهنا انتظرناه فَخَلَّصنَا" [9]. يكمن فرحنا في خلاصنا من أعدائنا، أي من إبليس وكل جنوده وكل أعماله الشريرة. فإن مجد أولاد الله يرافقه خزي لقوات الظلمة التي رمز إليها هنا بموآب. "ويُداس موآب في مكانه كما يُداس التبن في ماء المزبلة، فيبسط يديه فيه كما يبسط السابح ليسبح، فيضع كبرياءه مع مكايد يديه، وصَرْح ارتفاع أسوارك يَخفضه، يضعه، يُلصقه بالأرض إلى التراب" [10-11].
إن كانت قوات الظلمة قد تشامخت على أولاد الله وحسبت أنها قادرة على اذلالهم، فان الله بالصليب هدم حصونها ونزل بها إلى الهاوية، واهبًا ايانا سلطانا ان ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات الظلمة، ندوسها كما يُداس التبن لاستخدامه في مواد البناء (في عمل الطوب اللبن). وكأن تلك القوات التي كانت سبب هلاكنا تتحول خلال عمل الله الخلاصي إلى اداة محتقرة وذليلة تحت الأقدام تُستخدم لبنيان نفوسنا؛ إذ بدون إبليس ما كنا نُكلل.
أما سرّ هلاك العدو فهو كبرياؤه، إذ حسب نفسه محصنًا بأسوار منيعة، لكن الله يهدم هذه الأسوار حتى الأرض ليُفضح ضعف العدو ويُكشف حقيقة عجزه أمام إلهنا.
تسبحَة القيَامَة
التسبحة السابقة هي تقدمة شكر يرفعها المفديون لله من أجل بركات الخلاص التي وهبها الله لشعبه، أما هذه التسبحة فهي "مزمور القيامة" [19]، خلاله يعلن الشعب ثقته في الله .
يتطلع إشعياء النبي إلى خروج الشعب من السبي حاملين روح الغلبة والنصرة بينما تسقط بابل وكل أسوارها الفريدة حتى الأرض [12] كصورة حية للقيامة من الأموات، لهذا ينطلق لسانه بالتسبيح مؤكدًا الثقة في الله واهبًا الحياة والقيامة.
يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا عن القيامة من الأموات [19] هو أول نص صريح في العهد القديم عن القيامة[275].
1. مزمور للحث على الثقة بالله [1-4].
2. انهيار العدو [5-6].
3. مساندة الرب لصدّيقيه [7-16].
4. دخول شعبه في الضيق [17-19].
5. الله مخلص شعبه [20-21].
1. مزمور للحث على الثقة بالله:
يبدأ المزمور بالمقدمة: "في ذلك اليوم يُغنى بهذه الأغنية في أرض يهوذا" [1]. إنها أغنية العهد الجديد؛ لم يكن ممكنًا لرجال العهد القديم أن يتغنوا بها، لذا يقول "في ذلك اليوم". ما تمتع به الشعب القديم من بركات كالعودة من السبي لا يبعث فرحًا دائمًا إلاَّ من حيث كونه رمزًا للخلاص المبهج الذي تحقق بردنا من سبي الخطية خلال عمل الصليب.
هذا المزمور هو تسبحة لأورشليم مدينة الله بسبب ما تمتعت به من قوة وحصانة مع أبواب مفتوحة وبرّ لسكانها وأمانة وسلام...
"لنا مدينة قوية" [1]، يقصد بها أورشليم رمز أورشليم السماوية، وأيضًا كنيسة العهد الجديد بكونها مدينة الله التي يسكنها الرب نفسه مع شعبه.
"يجعل الخلاص أسوارًا ومترسة" [1]؛ أعمال الله الخلاصية هي أسوار المدينة وأدواتها الحربية، فلا يقدر عدو الخير أن يقتحمها. له أن يحاربها ويحاول اغراءها لكنه لن يستطيع أن يغلبها مادامت أمينة للرب.
كثيرًا ما تحدّث آباء الكنيسة - خاصة القديس أغسطينوس - عن حياتنا الداخلية ككنيسة المسيح، مدينة الرب السماوية. هذه المدينة في جوهرها هي سكنى الله - الحب - مع الناس؛ الحب هو مؤسسها، وهو كنزها، وهو لغتها وشريعتها... مدينة الرب هي مدينة الحب!
v إذ يصير لك كمال المعرفة وإذ تصبح عرش الله بالحب تصير سماءً!
السماء التي نراها بأعيننا حين ننظر إلى فوق ليست ثمينة جدًا عند الله؛ النفوس القديسة هي سماء الله...
كل نفس هي صهيون...
واضح أن صهيون هي مدينة الله؛ وما هي مدينة الله إلاَّ الكنيسة المقدسة؟! إذ يحب البشر بعضهم بعضًا ويحبون الله الساكن فيهم يصيرون مدينة الله... فقد كُتب بصراحة: "الله محبة" (1 يو 4: 8). من يمتلىء حبًا يمتلىء من الله[276].
v لقد تعلمنا أنه توجد مدينة الله، مؤسسها أوحى لنا بالحب الذي يجعلنا نشتهي المواطنة فيها[277].
القديس أغسطينوس
بالحب أقام الله كل نفس لتصير مدينته الحصينة وسمواته المقدسة، اقامها عروسه السماوية المتحدة معه لها ذات امكانيات عريسها المخلص الذي صعد إلى السموات وانفتحت أمامه الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد (مز 24: 7-10). هي أيضًا عروسه الحاملة بره وامانته، تنفتح أمامها أبواب السماء لتجلس عن يمين عريسها الملك وفي احضانه، لا تقدر قوة ما أن تحرمها من العبور في السمويات حتى تبلغ عرشه. إنها كأستير الملكة التي اجتازت كل أبواب القصر لتبلغ إلى الملك الذي يمد قضيب ملكه الذهبي لها كي تدخل إليه فيلاطفها ويستمع إلى طلبتها.
هذه المشاعر النبوية تمتع بها إشعياء ربما حين رأى بالروح الراجعين من السبي يدخلون أبواب أورشليم المفتوحة أمامهم، وهم داخلين كما في موكب نصرة أو موكب عيد مفرح في الرب. لقد قال: "افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة" [2].
v "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" (مز 24: 7)؛ لنذهب باستقامة إلى السماء.
ليت بوق النبي يضرب عاليًا: "ارفعوا أنتم يا رؤساء الهواء الأبواب التي اقمتموها في أذهان البشر..."
القديس أغسطينوس[278]
يعلق القديس أمبروسيوس على العبارة "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد" (مز 24: 7)، قائلاً:
[لقد وجدوا أنه يلزم أن يُعد أمام وجه هذا "المنتصر" الجديد طريقًا جديدًا، لأنه هو دائمًا كما كان أعظم من غيره، ولكن لأن أبواب البر التي هي أبواب العهدين القديم والجديد، التي فيها تنفتح السموات، هي أبواب دهرية، لذلك فهي بالحق لا تتغير، لكنها ارتفعت لأن الداخل فيها ليس إنسانًا بل العالم كله في شخص مخلص الكل...
إذ أدرك (الملائكة) اقتراب رب الكل، أول قاهر للموت، والمنتصر الوحيد، أمروا الجنود (السمائيين) أن يرفعوا الأبواب قائلين في هيام وتعبد... "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد"[279]].
هكذا إذ تنفتح السماء أمام المؤمنين المتحدين بربنا يسوع فيرتفعوا معه إلى سمواته، يعيشون هنا في سلام حقيقي وثقة بالمخلص. لذا يقول النبي:
"ذوي الرأي الممكن تحفظه سالمًا سالمًا لأنه عليه متوكل" [3]. تعبير رائع عن الطمأنينة الأكيدة التي يهبها الله لمؤمنيه المخلصين له، فيعطيهم سلامًا يتبعه سلام حتى يبلغوا إلى النصرة النهائية من أجل اتكالهم عليه.
يقصد بذوي الرأي الممكن أصحاب الهدف الثابت أو أصحاب الفكر المتزن غير المتزعزع الذين لا تفقدهم عواصف الأحداث ثقتهم في الله مخلصهم، يهوه صخر الدهور (إش 26: 4؛ مز 18: 31): "توكلوا على الرب إلى الأبد لأن في ياه (يهوه) الرب صخر الدهور" [4].
v بئس الشعب الذي يتحول عن الله... أما السلام الخاص بنا فننعم به الآن مع الله بالإيمان، ونتمتع به أبديًا معه بالعيان.
القديس أغسطينوس[280]
v ينبغي على كل أحد أن يصلح ذاته، ولذاته يسالم، ولا يكون انقسام في ضميره. لأنه إذا اصطلح إنسان مع جميع العالم وهو منقسم على ذاته فصلحه بلا منفعه. أما الذي يُصلح نفسه ويسالم ذاته فهو كمن سالم العالم جميعًا، ويكون مشرفًا في عيني سيد الكل.
v اشفق يارب على النفس التي اشتعلت بحبك، لأنها هي مسكن السلام، فلا تترك أثرًا للخطية في الضمير مكان سكناك، بل احرقه بنار حبك.
القديس يوحنا التبايسي[281]
2. انهيار العدو:
"لأنه يخفض سكان العلاء" [5-6].
إن كانت بابل قد تشامخت وظنت أنها في العلاء فسينزل الرب بها حتى التراب ليجعلها مدوسة باقدام المساكين الذين سبق فوطأتهم بقدميها. هذه هي نهاية كل متكبر مقاوم للحق، إذ يشرب من ذات الكأس التي قدمها للغير.
عمل الله الدائم هو تمجيد أورشليم الذليلة المتضعة وإقامتها مدينة خاصة به؛ والنزول ببابل المتشامخة. وكما قالت القديسة مريم: "أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين" (لو 1: 53).
v عرفتني طرق الاتضاع، خلالها يعود البشر إلى الحياة، إذ سقطوا بسبب الكبرياء.
القديس أغسطينوس[282]
v بالكبرياء نستند على الرياح، وبه نزج بأنفسنا إلى اللجة، فلا تقبل مرض الكبرياء لئلا يسرقك العدو...