إشعياء

 

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

كنت أقرأ كتابًا عن إشعياء النبي، وإذا بي أشعر كأن سفر إشعياء يسحب قلبي ليملأ أعماقي تعزية وسط المتاعب. وكانت المفاجأة العجيبة أنني اكتشف في الصباح أن تلك الليلة كانت عشية استشهاد إشعياء النبي، هذا ما دفعني أن أبدأ في دراسة السفر لنوال بركة كلمة الله مع إشعياء.

لقد أخذت بالمنهج الآبائي الدراسي ليصير مكملاً لسلسلة كتب الأب المحبوب القس لوقا سيداروس في ذات السفر الذي اتسم بمنهجه الوعظي وأسلوبه العذب.

الرب قادر أن يستخدم هذا العمل لمجد أسمه القدوس.

شيكاغو في سبتمبر 1988.

القمص تادرس يقوب ملطي

 


 

-

- الأنبياء

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (ادانة الأعداء)

- مقدمة في سفر إشعياء

 

الأصحاح الخامس والثلاثون (بركات مملكة المسيح)

- الباب الأول الأصحاحات [1-35]

 

- الباب الثاني الأصحاحات [36- 39]

الأصحاح الأول (المحاكمة العظمى)

 

الأصحاح السادس والثلاثون (اثارة سنحاريب)

الأصحاح الثاني (جبل بيت الرب)

 

الأصحاح السابع والثلاثون (التجاء حزقيال)

الأصحاح الثالث (مجاعة مهلكة)

 

الأصحاح الثامن والثلاثون (مرض حزقيال وشفاؤه)

الأصحاح الرابع (غصن الرب هو العلاج)

 

الأصحاح التاسع والثلاثون (حزقيال يكشف ذخائره)

الأصحاح الخامس (نشيد الكرمة)

 

- الباب الثالث الأصحاحات [40-66]

الأصحاح السادس (رؤيا إشعياء ودعوته)

 

الأصحاح الأربعون (عزوا عزوا شعبي)

الأصحاح السابع (خلاص آحاز والخلاص المسياني)

 

الأصحاح الحادي والأربعون (خلاص من المشرق)

الأصحاح الثامن (مهير شلال حاش بز)

 

الأصحاح الثاني والأربعون (العبد المختار)

الأصحاح التاسع (المولود العجيب)

 

الأصحاح الثالث والأربعون (ليس غيري مخلص)

الأصحاح العاشر (هجوم آشور على يهوذا)

 

الأصحاح الرابع والأربعون (انسكاب الروح)

الأصحاح الحادي عشر (المسيا والعصر المسياني)

 

الأصحاح الخامس والأربعون (كورش والخلاص)

الأصحاح الثاني عشر (تسبحة المفديين)

 

الأصحاح السادس والأربعون (الله حامل اثقالنا)

الأصحاح الثالث عشر (وحي من جهة بابل)

 

الأصحاح السابع والأربعون (انهيار بابل)

الأصحاح الرابع عشر (سقوط بابل)

 

الأصحاح الثامن والأربعون (الخروج الجديد)

الأصحاح الخامس عشر (وحي من جهة موآب)

 

الأصحاح التاسع والأربعون (ارسالية الخلاص)

الأصحاح السادس عشر (خضوع موآب ليهوذا)

 

الأصحاح الخمسون (بذلت ظهري للضاربين)

الأصحاح السابع عشر (وحي من جهة دمشق وأفرايم)

 

الأصحاح الحادي والخمسون (الشعب المفدي)

الأصحاح الثامن عشر (كوش تقدم هدية لله)

 

الأصحاح الثاني والخمسون (بهجة الخلاص)

الأصحاح التاسع عشر (مبارك شعبي مصر)

 

الأصحاح الثالث والخمسون (المسيح المصلوب)

الأصحاح العشرون (خضوع مصر لآشور)

 

الأصحاح الرابع والخمسون (دعوة الكنيسة للترنم)

الأصحاح الحادي والعشرون (انهيار بابل)

 

الأصحاح الخامس والخمسون(دعوة عامة)

الأصحاح الثاني والعشرون (حصار أورشليم)

 

الأصحاح السادس والخمسون(بيت الصلاة)

الأصحاح الثالث والعشرون (انقلاب صور وتجديدها)

 

الأصحاح السابع والخمسون(الرجاسات كعائق للخلاص)

الأصحاح الرابع والعشرون (تدنيس الأرض)

 

الأصحاح الثامن الخمسون (الصوم المرفوض)

الأصحاح الخامس والعشرون (تسبحة شكر)

 

الأصحاح التاسع والخمسون (العصيان)

الأصحاح السادس والعشرون (تسبحة القيامة)

 

الأصحاح الستون (المدينة المنيرة)

الأصحاح السابع والعشرون (تحطيم لويثان)

 

الأصحاح الحادي والستون (الحياة الجديدة)

الأصحاح الثامن والعشرون (انهيار السامرة)

 

الأصحاح الثاني والستون (الكنيسة عروس المسيح)

الأصحاح التاسع والعشرون (ويل لأريئيل)

 

الأصحاح الثالث والستون (المسيح دائس المعصرة)

الأصحاح الثلاثون (الاتكال على فرعون)

 

الأصحاح الرابع والستون (تضرعات)

الأصحاح الحادي والثلاثون (الاتكال البشر)

 

الأصحاح الخامس والستون(السموات الجديدة)

الأصحاح الثاني والثلاثون (المسيح واهب السلام)

 

الأصحاح السادس والستون (أورشليم الجديدة)

الأصحاح الثالث والثلاثون (الغزو الآشوري)

 

 


 
الأنبياء

تُدعى الأسفار من إشعياء حتى ملاخي "أسفارًا نبوية". هذا لا يعني أن النبوة قد بدأت بإشعياء، إنما وجدت منذ بداية ظهور موسى النبي كأول قائد لشعب إسرائيل، وإن كان بعض الآباء يرون أن النبوة تمتد منذ بدء الحياة البشرية، فيحسبون آدم نفسه نبيًا.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الأسفار النبوية لا تقف عند عرض النبوات وإنما ضمت تاريخًا ونواميس وحكمة وشعرًا الخ...

الأنبياء:

لا يفهم تعبير "أنبياء" بمعنى أناس يتنبأون بأحداث مستقبلية بقدر ما تعني الكشف عن فكر الله وإرادته من جهة الإنسان، خاصة خلاصه الأبدي الذي يتحقق خلال السيد المسيح. لقد أقام الله أنبياءه كرجاله الذين يشهدون له بقوة وشجاعة بفعل روحه القدوس في وقت انحرفت فيه القيادات الدينية والمدنية من كهنة وملوك. فقد انشغل كثير من الكهنة بالسلطة والكرامة مع الانغماس في حياة الترف والبهرجة، لهذا اهتموا بإرضاء الملوك والعظماء على حساب خدمة النفوس، وانشغلوا بالحرف القاتل كتغطية للفساد الداخلي. أما الملوك والأشراف فانشغلوا بالمجد الباطل معتمدين على خطط بشرية متجاهلين عنصر الإيمان بالله والاتكال عليه... لهذا ظهر الأنبياء يقاومون فساد القيادات والشعب أيضًا؛ الأمر الذي أثار الكل ضدهم لاضطهادهم.

جاء الخط واضحًا في كل كتابات الأنبياء، وهو:

1. التوبة والرجوع إلى الله بالقلب لا بالممارسات الشكلية هو طريق علاج للمشاكل الداخلية والخارجية، الاجتماعية والسياسية والروحية.

2. فضح الأخطاء خاصة التي ترتكبها القيادات الدينية والمدنية لا للتشهير بهم وإنما لطلب العلاج الروحي الحق.

3. التنبوء عن أحداث محلية مستقبلية قريبة لتأكد تأديب الرب لهم بسبب فسادهم وعدم الثقة فيه، أو لتأكيد رجمته بسبب توبتهم، مثل السبي والرجوع منه.

4. التنبوء عن أحداث مستقبلية بعيدة مركزها مجيء المسيا المخلص، الذي يُقيم مظلة داود الساقطة، ويُقيم مملكة روحية تضم الشعوب والأمم.

5. الله وحده هو المخلص... والخلاص هو الموضوع الأوحد الذي يلزم أن يشغل فكر الكل.

نبوات الأنبياء مع كثرتها تشبه قيثارة يلعب على أوتارها روح الله القدوس الذي لا يخطئ العزف، فيقدم سيمفونية حب الله المعلن خلال عمل المسيح الخلاصي.

الأنبياء الكبار والصغار:

اعتاد الدارسون أن يقسموا أسفار الأنبياء إلى أنبياء كبار [إشعياء، إرميا، حزقيال، دانيال] وأنبياء صغار [بقية أسفار الأنبياء]، هذا التقسيم لا يقوم على أساس التمييز بين الأنبياء أنفسهم وإنما بين الأسفار حسب حجمها. يشبه البعض بعض أسفار الأنبياء الصغار بالقنابل الذرية الصغيرة في حجمها لكنها تحمل طاقات جبارة[1].

جدول

الفترة

اسم النبي

الملوك المعاصرين

الظروف المحيطة

غاية السفر

 

مـا قـبل الـبي

1. يونان

2. يوئيل

3. عاموس

4. هوشع

5. إشعياء

6. ميخا

يربعام الثاني (مملكة إسرائيل).

ربما عاصر الملك يوشيا.

يربعام الثاني.

عزيا، بوتام، آحاز، حزقيا [يهوذا]؛ يربعام 2.

عزيا، بوتام، أحاز، حزقيا.

بوتام، أحاز، حزقيا [يهوذا].

أُرسل إلى نينوى ليتوبوا.

التوبة القائمة على تجديد القلب.

الخطايا الجماعية.

الله يطلب زوجته الخائنة لترجع إليه.

الانجيل الخامس (العصر المسياني).

يعلن التأديب مع نبوات مسيانية.

الله للجميع: لليهود كما للأمم 4: 11.

يوم الرب 3: 18.

التأديب (نبي الويلات) 5: 13.

هلم نرجع إلي الرب: لأنه أفترسنا فيشفينا 6: 1.

القدوس المخلص 53: 5.

من هو مثلك غافر الإثم ؟! 7: 18.

 

بين سبي إسرائيل وسبي يهوذا

7. ناحوم

8. صفنيا

9. أرميا

10. باروخ

11. حبقوق

حزقيا [هرب إلى يهوذا عند سبي السامرة].

أوائل ملك يوشيا.

يوشيا، يهوياكين، يكنيا، صدقيا.

[عصر أرميا صديقه الشخصي].

كتب بعد معركة كرمشيش في أيام يهوياقيم.

يتحدث عن إدانة نينوى ويطمئن شعبه.

يتحدث عن قرب مجيء سبي يهوذا.

يؤكد تحقق السبي ويطالب بالاصلاح القلبي.

يبدو أنه سافر إلى المسيين ليسندهم.

أسئلة حول تأديب الشعب بالكلدانيين.

نهاية الشر 1: 8.

الإله الغيور 1: 18.

تأديبات الرب ممتزجة بحنوه 3: 12-13.

الحفاظ على الإيمان 4: 1-3.

الحوار مع الله 1: 3.

 

سبي

يهوذا

12. دانيال

13. حزفيال

خدم أيام ممالك: بابل، مادي، فارس، في السبي.

عاصر دانيال.

شهد أمام الملك الوثني بسيرته وحكمته.

فتح باب الرجاء ببناء الهيكل المسياني.

إدانة الظلمة بالنور 2: 22.

مجد الرب 10: 4، 18.

 

بعــد الســـبي

14. حجي

15. زكريا

16. عوبديا

17. ملاخي

داريوس الملك 

داريوس الملك 

التشجيع على البناء الداخلي للهيكل (القلب).

تشجيع الشعب على اعادة بناء الهيكل.

الله يؤدب أدوم لكبريائه، كراهيته.

يعلن عن مجيء السيد المسيح بسبقه إيليا.

بناء بيت الرب الداخلي 2: 15.

غيرة الله 1: 14.

كما فعلت يُفعل بك 1: 15.

محبة الله العملية للبشرية 1: 11.


 
مقدمة

في سفر إشعياء

دُعي إشعياء: "النبي الإنجيلي"، ودُعي سفره: "إنجيل إشعياء"، أو "الإنجيل الخامس". من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفاري خاصة "الصليب"؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة.

يقول القديس جيروم: [إني أتمثل في سفر إشعياء - عند قراءته - إنجيليًا يصف حياة يسوع المسيح، فضلاً عن كونه نبيًا يتكلم عن الأمور الآتية[2]].

يقول عنه H. A. Ironside: [أكثر من أي كتاب نبوي آخر، يحوى أكمل النبوات المسيانية التي وجدت في العهد القديم، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد[3]].

اهتم به آباء الكنيسة خاصة في حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائي وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ...[4].

بعد تحول القديس أغسطينوس إلى الإيمان المسيحي بفترة قليلة سأل القديس الأسقف الشيخ أمبروسيوس عما يقرأه، فأجابه"إشعياء"[5].

إشعياء:

كان إسم إشعياء شائعًا بين اليهود، فنجد في الكتاب المقدس على الأقل سبعة أشخاص يحملون هذا الاسم.

"إشعياء" يُقابل "يشعيا" (عز 7: 8؛ نح 11: 7؛ 1 أي 3: 21)؛ يعني "خلاص الله" أو "الله يُخلص". وقد جاء اسمه يكشف عن رسالته، فالسفر في مجمله يحمل خطًا واضحًا عن خلاص الله العجيب الذي يتحقق بمجيء المسيا الذبيح مقيم الملكوت وواهب المجد.

دُعي "إشعياء بن آموص" لتمييزه عن بقية الأشخاص الحاملين ذات الاسم. هذا ويرى الكثير من الدارسين أن آموص هنا غير عاموس النبي[6]، وبحسب التقليد اليهودي هو أخو أمصيا ملك يهوذا وأنه نبي أيضًا.

نشأ في أورشليم وعمل فيها (إش 7: 3؛ 22: 1، 15؛ 37: 2؛ 38: 5؛ 39: 3). على خلاف إرميا تزوج وأنجب أولادًا؛ إرميا مُنع من الزواج حتى لا تُعاني أسرته من الضيق المُرّ الذي يحل بالشعب ومن الفساد الذي حلّ بالجميع كوباءٍ معدٍ، أما إشعياء فتزوج ودُعيت زوجته: "النبية" (إش 8: 3) لا لممارستها النبوة وإنما لمشاركتها رجلها جهاده الروحي ومشاعره، فكانت خير رفيق له في تحقيق رسالته. أنجبت على الأقل ابنين حملا أسمين رمزيين؛ دُعى الأكبر "شآريشوب" معناه "البقية سترجع" (إش 7: 3)؛ والثاني "مهير شلال حاش بز" معناه "عجل النهب، اسرع الغنيمة" (إش 8: 3). وكان الاسمان متناسبين مع نبوات إشعياء كما سنرى.

اعتز إشعياء النبي بأسرته المقدسة في الرب، وأيضًا بتلاميذه الروحيين الذين حسبهم أبناء له وكأفراد أسرته، فقال: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل" (إش 8: 8). وقد استخدم الرسول بولس هذه العبارة كرمز لربنا يسوع الذي يقود تلاميذه إلى المجد (عب 2: 13).

ظروف إشعياء الدينية والاجتماعية والأخلاقية:

1. نشأ إشعياء - كأحد أعضاء العائلة الملكية - في أورشليم، في جوٍ أرستقراطي، يُجالس الملوك ويصادقهم، ويقدم لهم المشورة الصالحة. كان نبيًا في مملكة يهوذا، وربما كان يشغل مركزًا سياسيًا هامًا في البلاط الملكي، كما يظهر من إلمامه بالتيارات السياسية في ذلك الحين بجانب إلمامه بالتيارات الدينية والاجتماعية. فقد كشف عن جماعة أنصار التحالف مع مصر (إش 29: 15؛ 30: 1) واستطاع أن يطرد شَبْنَا من مركزه الخطير (إش 22: 15).

باشر عمله النبوي في السنة التي مات فيه عُزّيا ملك يهوذا (سنة 740) أو 739 ق.م)، هذا لا يعني أنه بدأ بعد موت الملك وإنما ربما قبل موته في ذات العام الذي مات فيه؛ وقد استمر في خدمته حتى وفاة حزقيا ( 697 أو 696 ق.م)، وبحسب التقليد اليهودي باشر عمله النبوي في عهد منسي بن حزقيا، بهذا تكون مدة عمله النبوي أكثر من 50 عامًا، يرى بعض الدارسين أنها بلغت الستين عامًا. انتهت حياته على الأرض بنشره بمنشار خشبي كأمر الملك منسي إمعانًا في تعذيبه كما جاء في التقليد اليهودي وبعض كتابات آباء الكنيسة[7]، وربما قَصدَه الرسول بولس عندما تحدث عن الذين نُشروا (عب 11: 37).

2. شاهد إشعياء في شوارع العاصمة أورشليم - مركبات الملك والأسرة الملكية والعظماء المتعجرفين، يركبونها في زهو وغرور، خاصة نساؤهم المدللات في حياة ترف فاحش وبذخ شديد. تطلع إلى الولائم اليومية التي تُقام في القصر الملكي بغير انقطاع، تُدعى إليها القيادات العسكرية والمدنية والدينية، الكل يشرب الخمر بلا حساب لتتحول إلى مجالس هزء قانونها المداهنة والرياء. وفي نفس الوقت كان يُشاهد الأغنياء يدخلون الهيكل ليقدموا تقدمات وذبائح بلا حصر ليجدوا تكريمًا من القيادات الدينية الجشعة، ويخرج هؤلاء الأغنياء من الهيكل ليمارسوا الرجاسات الوثنية بالقرب من الهيكل! هذه هي صورة المدينة التي نُسبت لله وأُقيم فيها هيكله المقدس، بينما كانت صرخات الأرامل والأيتام والفقراء والمظلومين تدوي في أذني النبي بل ترتفع إلى عرش الله.

أُصيب يهوذا بالفساد، من جهة قياداته كما من جهة الشعب، "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 5-6).

يرى بعض الدارسين أن ما حلّ بيهوذا يصيب العالم الآن بشكل أو آخر مثل:

أ. تكتلات من أجل التمتع بالسلطة البشرية لا الاتكال على عمل الله (إش 8: 9-13).

ب. الجهل الروحي، فبينما تخضع الطبيعة غير العاقلة بالغريزة لصاحبها وراعيها يجهل الإنسان خالقه المعتنى بخلاصه وأبديته (إش 1: 2-4).

ج. فساد القيادات وانحلالها بتصرفات صبيانية غير ناضجة مع دخول العنصر النسائي بطريقة تسلطية منحرفة حتى في بعض القيادات الدينية (إش 3: 12)، وتفشِّى روح المداهنة والمجاملة وغير موضوعية الحق ذاته.

د. الأنانية ومحبة المال وما يتبع ذلك من ممارسة للظلم وحب الرشوة (إش 1: 23).

هـ. ميوعة الإيمان، يقبل الإنسان الدين وينكر عمل الله الخلاصي أو الالتزام بالحق أو الاعتراف بالدينونة الأبدية...

الظروف السياسية[8]:

عاش إشعياء النبي في وقت قيام القوى العظمى في العالم والصراع بينها. بدأ هذا الصراع بين مصر وأشور على السيطرة على العالم في ذلك الحين، وفي أيام إشعياء الأخيرة كان الصراع بين أشور وبابل، وكان مبدأ هذه الدول هو: "القوة هي الحق".

أما أثر هذا الصراع على إسرائيل (مملكة الشمال) ويهوذا فيظهر مما ورد في ملوك الثاني (15-17):

v     قدم منحيم ملك إسرائيل فضة لفول الآشوري ليتركه في مملكته (2 مل 15: 19-20).

v     في الأيام الأخيرة من عزيا حيث تسلم إشعياء رسالته، غلب تغلث فلاسر الآشوري فقح ملك إسرائيل (2 مل 15: 29)؛ وقام الأخير بتخريب جيش آحاز ملك يهوذا حيث قتل 120 ألفًا وحمل 200 ألفًا إلى السامرة كمسبيين، كما تحالف مع رَصِين ملك سوريا ضد يهوذا، وذلك لأسباب سياسية. فقد أرادا من يهوذا أن يتحالف معهما ويستندا على فرعون مصر لمقاومة أشور، لكن يهوذا رفض ذلك، مفضلاً الالتجاء إلى أشور ضدهما.

لا أريد الدخول في تفاصيل الأحداث السياسية، إنما ما حدث هو أن هوشع قتل فقح، وأن الأول خضع للجزية لأشور (2 مل 17: 3) غير أن شلمنأسَر الآشوري لم يثق فيه فسجنه وحاصر السامرة 3 سنوات ثم سبى إسرائيل (2 مل 17: 4 6)، وكان ذلك سنة 722 ق.م.

إن كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة في أنانية تحالفت مع آرام سوريا ضد يهوذا، فإن يهوذا من جانبه أخطأ فقد أرسل آحاز إلى تغلث فلاسر يقول له أنه عبده وابنه يطلب نجدة ضد سوريا و إسرائيل (2 مل 16: 7)، مقدمًا خزائن الهيكل والقصر هدية لأشور. وبالفعل سنده، لكن تغلث فلاسر احتقره فيما بعد ولم يسنده (2 أي 28: 20-21). بعد ذلك قام سنحاريب بجيش عظيم ليستولي على يهوذا في أيام حزقيا بن آحاز وقد سمح الله بتدمير كثير من المدن لكنه حافظ على أورشليم إلى حين.

عاش إشعياء النبي في هذا الجو بقلب ناري ملتهب حبًا نحو شعبه. فكانت نفسه مُتمرّة بسبب الانقسام بين أفرايم ويهوذا الذي بلغ أقصاه بتحالف إحداهما مع دول غريبة ضد الأخرى. هذا من جانب ومن جانب آخر فقد شاهد إشعياء يهوذا يرى بعينيه ما حدث للسامرة التي تبعد حوالي 35-40 ميلاً من أورشليم، وما حدث لها من خراب (إش 22: 1) ومع هذا ازداد يهوذا في الشر والعناد.

كان إشعياء - كرجل قومي - منشغلاً بأورشليم عاصمة يهوذا ومدينة الله، كانت مركز أحلامه وآماله، كثيرًا ما يتحدث عنها، لكنه في صراحة يصف نجاساتها وفجورها، معلنًا نضاله لا لأجل حمايتها سياسيًا فحسب وإنما لأجل تقديسها لحساب الله القدوس.

إشعياء، كرجل سياسي حكيم وبإرشاد روح الله القدوس، أدرك شئون عصره والأحوال التي كانت سائدة. فقد تنبأ عن سقوط دمشق والسامرة وامتداد سلطان أشور على الشرق الأوسط (إش 7)، كما امتد نظره - بروح النبوة - إلى مستقبل أبعد ليرى بابل وخطرها المحدق بيهوذا (إش 39)، وبروح الرجاء يعلن عن عودة الشعب كله     - جميع الأسباط - من السبي البابلي.

رأى إشعياء في أشور (وبعد ذلك بابل) أداه تأديب إلهي لإسرائيل وأيضًا ليهوذا، ولم يكن بنو يهوذا قادرين على تصديق غزو أشور لأورشليم. لقد أكد النبي أن التاريخ كله والشعوب في يدّ الله يستخدمهم من أجل توبة شعبه ورجوعه إليه... وأنه لا علاج حتى لمشاكلهم السياسية بغير التوبة.

تمسك إشعياء بكلمة الحق في قوة وبسلطان الروح، ففي شجاعة يقول لآحاز الملك: "هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضًا؟!" (إش 7: 13)، كما وبخ الشعب كفاعلي شر (إش 1: 4)، ودعى العظماء "قضاة سدوم" (أش 1: 10)، وسخر بالأعداء الثائرين في وقت كانت فيه أورشليم ترتعب منهم حاسبًا إياهم كشعلة مدخنة (إش 7: 4)... ومع هذا نراه يئن قلبه لأنَّات موآب (إش 15: 5) ويرثى لسقوط بابل (إش 21: 4، 10؛ 22: 4).

سماته:

1. منذ القدم دُعى إشعياء بالنبي العظيم بسبب شخصيته وأعماله وكتاباته[9]. حمل في شخصيته شجاعة دانيال ورقة حس إرميا وآلام هوشع وثورة عاموس، وفاق الكل في قدرته الأدبية الفريدة على النقد المقدس اللاذع مع فتحه باب الرجاء على مصراعيه لا لشعبه وحده وإنما لكل بشر.

2. تحدث الله مع إشعياء النبي بالطرق الثلاثة الشائعة الخاصة بالإعلان الإلهي[10]:

أ. خلال الرؤيا المجيدة (إش 6)؛ وقد دُعى بالرائي (إش 30: 10). رأى السيد المسيح القادم وقد ملأ مجده الروحي كل العالم، فاهتزت السماء لتسبحه من أجل قداسته ومجده. هذه الرؤيا سيطرت على حياته وأفكاره وتصرفاته وكلماته؛ فنجد القداسة مع المجد هما الخط الواضح في السفر، مصدرهما ليس الذراع البشرى وإنما عمل المسيح الخلاصي. هذا الخط صبغ على السفر روح الرجاء بالرغم مما أعلنه عن بغض الله للخطية وسقوط الأمم تحت التأديبات القاسية بسببها.

ب. عمل الروح في حياة إشعياء، الذي أمسكه كما بيدٍ قوية (إش 8: 11)، وألهب حياته، فصارت كلمة الله أشبه بنار تلتهب في عظامه.

ج. الإعلان خلال الحديث الأبوي؛ فيتحدث رب الصباؤوت المهوب في أذني إشعياء كما يتحدث الصديق مع صديقه، يحدثه فمًا لفم (إش 8: 11؛ 20: 2؛ 22: 14)، ويعتبر هذا النوع أسمى أنواع الإعلانات الإلهية، إذ يقدم روح الصداقة الإلهية.

وكما تسلم النبي النبوة بهذه الوسائل الثلاثة، قدمها بدوره خلال ثلاث وسائل:

أ.  الكرازة العلنية في الهواء الطلق من أجل توبة الجميع.

ب. العمل الرمزي؛ جاء في (إش 20: 2-3) أنه صار علامة وأعجوبة، فقد سار حافي القدمين عاريًا لمدة 3 سنوات ليؤكد ليهوذا سبيه وتسليمه للعبودية تحت نير أشور.

ج. خلال الكتابة بإعلان واضح في مكان عام مثل الهيكل للتحذير.

3. تمتع إشعياء بسّر الله في وقت طغت فيه الشكلية في العبادة على حياة القادة والشعب، واتسم الكل بالرياء مع فساد الحياة الداخلية. لقد فشل الكهنة والملوك في تحقيق رسالتهم في ذلك الحين لإصلاح إسرائيل ويهوذا، لذلك استمر الله يخدم شعبه خلال الأنبياء. جاء إشعياء ليعلن أنه لا طريق للإصلاح أو النصرة أو المجد إلاَّ خلال الحياة المقدسة؛ وأن الله القدوس يترفق بالخطاة ويشعر بضعفاتهم ويشتاق إلى خلاصهم.

لقد قدم إشعياء نبوات عن أحداث مقبلة، لكن غايته الأولى هي الاعلان عن فكر الله العامل عبر الزمن في الماضي والحاضر، والمستقبل، العامل خلال كل الشعوب حتى المقاومة له. وكأن هذا السفر يُجيب على الأسئلة التالية[11]:

v   هل القوة تعطى الأمم "الحق"؟

v   ما هو دور الله في العالم؟

v   هل دينونة الله أو عقابه يعنى رفضه الإلهي للشعب؟

v   ما هي طبيعة الاتكال عليه والثقة فيه؟

v   ما هو مستقبل مملكة داود؟

4. يعتبر هذا السفر من أروع الكتابات النبوية في أسلوب أدبي رائع. فالسفر كله شعري باستثناء الأصحاحات (36-39)، يدعوه De Costa "هبة الشعر"[12].

لقد سمع بنفسه تسابيح السمائيين (إش 6) ورأى السماء والأرض مملؤتين من المجد الإلهي فاهتزت أعماقه لتسبح الرب، وسكب نفسه مستخدمًا بروح الله القدوس كل قدرته الأدبية الفائقة وبلاغة أسلوبه وغنى أفكاره ليهز كل نفس تستمع إليه لحساب ملكوت الله. قدم أنواعًا مختلفة من التسابيح تحمل حمدًا وفرحًا ووصايا ودموعًا وحزنًا ومجدًا لله! جاء كتابه حديثًا نبويًا فيه يسكب نفسه في نفوسنا بحب فائق، عجيب في لغته، عذب في تشبيهاته، يتحدث بلغة الحب والإخلاص بروح نبوي مستقبلي مع واقع يعيشه، معبرًا بصراحة وشجاعة عن أحاسيسه تجاه القيادات المدنية والدينية والشعب خاصة المحرومين والمظلومين، مما جعل كتاباته حية وفعالة.

قدم إشعياء الطبيعة غير العاقلة كالجبال والغابات والأنهار والوديان كلها تُشارك الإنسان حياته.

لم يترك تشبيهًا أو تصويرًا إلاَّ واستخدمه.

يذكر H. Bultema التعليقات التالية على لغة هذا السفر[13]:

[يستحيل على أية ترجمة (للسفر) إلى لغة أخرى أن تحتفظ بزهرة هذا الطابع دون ضرر] القديس جيروم.

[إن كانت لغة الوجدان ecstasy غريبة عليّ تمامًا، فإنني لن أتجاسر وأترجم شعرًا مثل إشعياء] Van Der Palm.

[( إشعياء ) فنان كامل في كلماته] Dillmann.

[إشعياء الملائكي والأمير] De Costa.

5. يتميز إشعياء بكثرة النبوات عن السيد المسيح، من جهة ميلاده من عذراء  (7: 14)، لاهوته (9: 6)، من نسل يسّى (11: 1)، ممسوح لأجلنا (11: 2)، معلن الحق للأمم (42: 1)؛ يسلك بالوداعة (42: 2)، واهب الرجاء للكل (42: 3)، هروبه إلى مصر وإقامة مذبح كنيسة العهد الجديد هناك (19)؛ آلامه وصلبه (50: 6؛ 53: 1-12)؛ فتح طريق الفرح للمفديين بقيامته (35: 8-10)، إقامة عصر جديد مملوء سلامًا يجمع المؤمنين من اليهود والأمم معًا. كما أفاض عن العصر المسياني كعصر ملوكي داخلي يحمل بركات فائقة.

تحدث أيضًا عن الروح القدس وعطيته الفائقة في العصر المسياني (11: 2؛ 32: 15؛ 40: 7؛ 42: 1؛ 44: 3؛ 61: 1 الخ).

ليس في الكتاب المقدس مواجهة مع الصليب في أعماق أسراره أروع مما سجله إشعياء. أما مياه الروح القدس، مياه الخلاص التي نادى عنها السيد المسيح في يوم العيد العظيم "إن عطش أحد فليقبل إليّ" فقد سجلها العظيم في الأنبياء إشعياء في الأصحاح (55)[14].

إشعياء في العهد الجديد:

لسفر إشعياء أهميته الخاصة فقد حسبه ابن سيراخ "تعزية صهيون" ابن سيراخ

(48: 24)؛ وقد اقتبس منه كتّاب العهد الجديد - أغلبهم من اليهود - 21 نصًا مباشرًا بجانب تلميحات كثيرة[15].

منذ بدء انتشار المسيحية يُنظر إلى سفر إشعياء كسفر هام للشهادة عن شخص السيد المسيح (أع 8: 27 39؛ 1 بط 2: 22-25). وقد قرأ السيد المسيح في إشعياء مشيرًا إلى شخصه (مر 1: 11).

إشعياء والليتورجيات القبطية:

لما كان سفر إشعياء قد ركز على عمل السيد المسيح الخلاصي والكشف عن عصره الذي اتسم بعطية الروح (المشار إليه بالماء والمطر ) لهذا غالبًا ما تقرأ فصل من إشعياء في طقس باكر من كل أيام الصوم الكبير، وأيضًا في صلوات اللقان في خميس العهد وعيد الرسل والغطاس المجيد.

الفكر اللاهوتي عند إشعياء:

يرى بعض الدارسين أن منهج إشعياء اللاهوتي يمكن تقديمه تحت أربعة عناوين: "الله، البشرية والعالم، الخطية، الخلاص"[16]. ويمكن إجماله في العبارة التالية: [الله القدوس يُدين الخطية التي أفسدت البشرية تمامًا فسقط العالم كله تحت الدينونة، وقد حمل مخلصنا الدينونة في جسده ليُقيمنا فيه قديسين نتمجد معه].

جاء السفر يحمل مقابلات عجيبة مثل: المجد الإلهي - الانحطاط البشري؛ الدينونة الجامعة المرعبة - خلاص الله الفائق؛ تنزيه الله غير المدرك - عجز العبادة الوثنية؛ حكمة الله الشاملة - غباوة الأوثان؛ غنى عطايا الله -  تدمير الخطية للبركات.

خلال هذه المقابلات وأمثالها يعلن الله عن حبه الخلاصي نحو الإنسان، ليرفعه إليه ويهبه ميراثًا لجبل قدسه (إش 57: 13)، مع حكمة ونصرة وأمجاد.

1. الله "قدوس إسرائيل"[17]...

كثيرًا ما يستخدم إشعياء النبي هذا الاسم "قدوس إسرائيل" الذي لم يُستخدم في الأسفار الأخرى سوى ست مرات (إر 50: 29؛ 51: 5؛ حز 39: 7؛ مز 71: 22؛ 78: 14، 89: 18).

استخدامه بكثرة خلال السفر كله يكشف عن وحدة السفر (إش 1: 4؛ 5: 19، 24؛ 10: 17، 20؛ 12: 6؛ 17: 7؛ 29: 19، 23؛ 30: 11، 12، 15؛ 31: 1؛ 37: 23؛ 41: 14، 16، 20؛ 43: 3، 14، 15؛ 45: 11؛ 47: 4؛ 48: 17؛ 49: 7 (مرّتان)؛ 54: 5؛ 55: 5؛ 60: 9، 14).

ماذا يعنى بقدوس إسرائيل في هذا السفر إلاَّ شخص السيد المسيح خالق إسرائيل وموحده ومجدده خلال عمله الخلاصي ليحميه ويمجده. في كل أصحاح من هذا السفر يتجلى السيد المسيح كمركز الحديث.

لقد رأى إشعياء في بدء عمله النبوي السيد المسيح المخلص جالسًا على عرش مجده والسارافيم يسبحونه: قدوس، قدوس، قدوس (إش 6). وقد شاهد القديس يوحنا في رؤياه الأربعة مخلوقات الحية حاملي العرش الإلهي ينشدون ذات التسبحة في السماء (رؤ 4: 8).

كما سبق فقلنا إن إشعياء تعلم ألا يفصل بين قداسة الله المطلقة وأمجاده الأبدية؛ أما دعوته الله "قدوس إسرائيل"، فلأنه القدوس الذي يقيم شعبًا مقدسًا له ليشاركه أمجاده الأبدية. هو قدوس في ذاته، لكن قداسته تمس علاقتنا به في صميمها.

تأكيد فكرة قداسة الله تُحطم الفكرة الوثنية التي سادت بان الله مجرد "بشر فائق Superhuman" أو "جد grand father عظيم في السماء". الله مختلف تمامًا عن خليقته، هو عال، يُغاير عالمه، هو القدوس وحده[18]... لكنه في نفس الوقت غير معتزل خليقته بل هو مقدسها.

بقدر ما أبرز النبي مدى فساد البشرية حتى الشعب الذي أختاره الرب، أكّد أمانة الله الواحد القدوس والقدير من جهة الخلاص (41: 14؛ 43: 3، 14-15؛ 47: 4؛ 48: 17 الخ )، ليهبهم شركة سماته (35: 8؛ 48: 2؛ 60: 14؛ 62: 12).

وبقدر ما أبرز بطلان الأوثان وعجزها أكّد أن القدير هو الخالق والمعين والقائد والدينان، في يده الزمن، وبقدرته يحرك الأمم لتحقيق إرادته المقدسة من جهة مؤمنيه.

2. البشرية والعالم:

نظرة إشعياء نحو البشرية والعالم انعكست على شخصيته، فقد آمن أن الإنسان الكائن العجيب موضع حب الله وتدبيره من أجله يحرك الله كل شيء ليقدسه بل يقوم بنفسه بخلاصه، وفي نفس الوقت يرى الإنسان في ذاته ضعيفًا كل الضعف، صار كلا شيء، حطم نفسه بنفسه، لا يقدر على الخلاص خارج العمل الإلهي.

هذا ما نراه في شخصية إشعياء نفسه، فقد وقف أمام الله يعلن: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إش 6: 5). لكنه إذ تمتع بلمسة من الجمرة التي قدمها أحد السارافيم من المذبح الإلهي ينطلق ليعمل بطاقات جبارة: حمل شخصية قوية جذابة تجمع روح النبوة مع اتساع الأفق، الحركة المستمرة للعمل مع عذوبة أسلوبه وسحر كلماته، يوبخ وينتهر بشجاعة مع فتح باب للرجاء، أمين لقوميته ومحب لكل البشرية، واقعي يدرك ما يحوط به في زمانه أما قلبه فمنطلق نحو المستقبل حتى يبلغ الأبدية عينها.

هكذا تكشف شخصية إشعياء النبي عن نظرته نحو الإنسان والعالم، أيضًا طريقة تعامله مع الغير تكشف ذات نظرته هذه. فهو لا ينشغل كثيرًا بالألقاب ولا بالمراكز، مدركًا أن القوة الحقيقية تنبع في اللقاء الخفي الداخلي مع الواحد القدوس، لذا لا يخف من الحديث بكل جرأة مع الملوك أو ضد الأمم وفي نفس الوقت بكل رقة وحنان مع الأيتام والأرامل والمظلومين... لقد عرف قيمة النفس البشرية مجردة عن الأمور الزمنية والشكليات الخارجية.

3. الخطية:

الخطية - في نظر إشعياء النبي - أيا كانت أشكالها هي "عصيان" ضد الواحد القدوس كما يظهر من افتتاحية السفر وختامه[19]. هذه النظرة واضحة في كل السفر، فإن القدوس يعمل لأجل تقديسنا لنشاركه سماته، وكل خطية أشبه بثورة ضده.

4. الخلاص:

إن كانت الأصحاحات الأولى (1-39) تؤكد كراهية الله للخطية وتأديب الخطاة العاصيين فإن الأصحاحات التالية (40-66) تعلن خلاص الله العجيب للخطاة من كل الأمم والشعوب.

الله الديان هو بعينه المخلص، يكشف الجراحات لا لتشهير بها وإنما لمعالجتها برقة وحنو مهما كلفه الثمن. لهذا في كل مرة يعلن حزمه ضد الخطية سرعان ما يكشف عن عمله الخلاصي ليبعث في النفس الرجاء المفرح. لقد تحدث إشعياء بفيض عن الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح (إش 43: 18، 19؛ 62: 2؛ 41: 15، 16؛ 65: 17 الخ...).

عبد يهوه (عبد الرب):

من أهم المشاكل التي تقف أمام النقاد هي تعبير "عبد يهوه" أو "عبد الرب" الذي أشير إليه في الأصحاحات ما بين (40-50) قرابة عشرين مرة: (إش 41: 8، 9؛ 42: 1، 19؛ 43: 10؛ 44: 1، 2، 21، 26؛ 45: 4؛ 48: 20؛ 49: 5، 6؛ 50: 10؛ 52: 13؛ 53: 11، 54: 17). وتتلخص المشكلة في أمرين:

1. أغلب الإشارات قدمته بكونه إسرائيل أو يعقوب.

2. تارة يظهر أنه عبد يهوه غير الأمين وتارة العبد المختار موضع سرور الأب، المتألم لأجل خلاص البشر.

من يكون هذا العبد ليهوه؟

1. في بداية العصر المسيحي وُجد بعض اليهود يفسرون "عبد يهوه" بكونه المسيا، لكن البعض الآخر رفضوا ذلك لأنهم لم يكونوا يتوقعون في المسيا ابن داود الذي يقيم المملكة الغالبة أن يتألم، لذا رأوا أن هذا العبد هو رمز لأمة اليهود[20]... هذا التفسير الأخير لا يقبله المنطق ولا يتفق مع ما ورد في السفر فقد أعلن النبي بوضوح أنه يتألم لأجل الخلاص، ويعمل من أجل ذلك (إش 49: 5-6؛ 53: 5-11)، فهل تألمت الأمة اليهودية من أجل خلاص العالم؟

2. حاول بعض النقاد تفسير هذا الشخص بكونه شخصية تاريخية أو فكرة أسطورية لتقديم مفهوم لاهوتي معين، وقد رفض C. R. North التفسيرين. عن الأول يتساءل: من يكون هذا الشخص التاريخي؟ هل هو النبي نفسه أم آخر؟! واضح أن الحديث لا ينطبق على شخصية تاريخية في العهد القديم. أما التفسير الثاني فغير مقبول لأن العهد القديم لم يستخدم قط الأساطير التي أتبعها الشرق الأدنى في ذلك الحين[21]. وقد رأى North أن ما ورد عن عبد يهوه إنما يجب تفسيره مسيانيًا، أي ينطبق على المسيا.

3. يرى البعض أن North قد ركز على تسابيح العبد (إش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13-53: 12) التي لم يذكر فيها العبد بكونه إسرائيل أو يعقوب إنما تركز على العمل الخلاصي لهذا قبل التفسير المسياني[22].

4. إن عدنا إلى الكتاب المقدس نجد فيلبس الرسول يفسر هذا العبد بكونه يسوع المسيح (أع 8: 30-35). فكيف يقدمه السفر تارة العبد غير الأمين وأخرى العبد المختار موضع سرور الآب. يُجيب Ironside[23]  بأن إسرائيل هو عبد الله الذي لم يستطع أن يَخْلُص بنفسه فاحتاج إلى المختار من قِبَل يهوه العبد الذي جاء ليحقق رسالة الخلاص. آدم الأول قَبِل مشورة العدو فخل تحت العقوبة وصار في مذلٍة لتغرّبه عن الله لذا جاء آدم الثاني ليُحطم العدو ويقيم كنيسته (إسرائيل الجديد) ويعلن حضوره فيها (إش 8: 18؛ 12: 6؛ 30: 29؛ 31: 9).

إذن ما ورد عن عبد يهوه تارة يتحدث عن آدم الأول أو الإنسان الذي حطمته الخطية وتارة عن آدم الثاني ابن الإنسان الذي حطّم سلطانها.

هذا ويرى القديس أغسطينوس أن عبد يهوه يرمز للسيد المسيح، كما يُشير أحيانا إلى كنيسته، إسرائيل الجديد، بكونها العروس المتحدة به، وجسده المتمتع بخلاصه[24].

نسبة السفر لإشعياء ووحدته:

يحاول بعض النقاد المحدثين أن ينكروا وحدة السفر ونسبته بأكمله لإشعياء النبي. فيدّعى البعض أن إشعياء كتب القسم الأول منه (إش 1: 39)، وأن آخر اصطلحوا على تسميته "إشعياء الثاني" كتب بقية السفر. وادعى آخرون أن المدعو إشعياء الثاني كتب فقط الأصحاحات (40-55) بينما ثالث كتب الأصحاحات (56-66). وقد بدأت هذه النظرية (تجزئة السفر) بتعليقات J. C. Doderlein عام 1775م و J. G. Eichhorn عام (1780-1783). ومنذ بدء القرن العشرين بدأ بعض المفسرين يفصلون بين هذه الأجزاء ككتب مستقلة.

وأما حججهم في ذلك فهي:

1. الخلفية التاريخية: لا يقبل الناقدون إمكانية روح الله في الكشف عن المستقبل أمام رجال الله لبنيان الجماعة، ولا يدركون قول ابن سيراخ عن إشعياء أنه تحدث عن المستقبل (ابن سيراخ 48: 24). لذا يؤكدون أن كاتب الأصحاحات (40-60) كان معاصرًا للإمبراطورية البابلية وعن أنهيارها أمام كورش (إش 44: 28، 45: 1)...

كما سبق أن قلنا في مقدمات الكثير من أسفار العهد القديم أن المشكلة تقوم أساسًا على إنكار النقاد للنبوة ورفضهم للمعجزات الإلهية.

2. الخلفية الفكرية: يرى بعض النقاد أن الأصحاحات (1-39) تمثل كتابًا مستقلاً له فكر واحد هو تأديب شعب الله على خطاياهم خاصة اتكالهم على الذراع البشرية وانغماسهم في الرجاسات الوثنية كسائر الأمم المحيطة بهم، ثم فجأة تتحول الأصحاحات (40-66) إلى فكر آخر وإلى طابع مغاير، فيها يعلن الكاتب عن خلاص جديد خلال عهد جديد يقوم به الخالق المهتم بتجديد خلقته التي فسدت.

3. الخلفية اللغوية والأدبية: يرى بعض الدارسين أن الطابع اللغوي والأدبي في الأصحاحات (1-39) يختلف عما جاء في الأصحاحات (40-66).

الردّ على القائلين بإشعياء ثانٍ وثالث:

1. يقول[25]Bultema بأنه أمر غريب للغاية أن يُكتشف وجود إشعياء ثانٍ في تاريخ متأخر بواسطة بعض اللاهوتيين العقلانيين بينما لم يخبر بهذا الأمر أحد من حاخامات اليهود القدامى وآباء الكنيسة الأولى حتى الذين قادوا الحركة البروتستانتية لم يفكروا في هذا، فكيف كان إشعياء الثاني هذا مخفيًا عبر كل هذه العصور؟!

2. نسبت الترجمة السبعينية في القرن الثالث ق.م السفر كله لإشعياء النبي دون تجزئته.

3. يقدم لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس شهادة خارجية عن أصالة هذا الجزء (إش 40-66) ونسبته لإشعياء، وأنه كتب في وقت مبكر جدًا عن عصر كورش، إذ قال أن كورش نفسه قرأ ما ورد في سفر إشعياء فدهش وتحركت فيه رغبة قوية أن يحقق ما كتب عنه في هذا السفر[26]. واضح هنا أن يوسيفوس لم يعرف سوى إشعياء واحد.

لو أن الكاتب غير معروف في أيام كورش لكان هذا يعنى أحد أمرين، إما أن ما كتبه يوسيفوس عن كورش ليس بذي قيمة، أو أن كورش كان غبيًا خدعه اليهود.

4. نسب يشوع بن سيراخ السفر بأكمله إلى إشعياء النبي، وقد شهدت أسفار العهد الجديد لذلك باقتباس عبارات منه نسبتها إلى إشعياء النبي.

3. من جهة اختلاف الفكر بين أقسام السفر. فكما يقول Oswalt أن محاولة تجزئة السفر في العصر الحديث هي التي خلقت تجاهلاً لوحدة الفكر الذي يجرى في السفر كله[27]. وقد قدم لنا مثالاً لوحدة الفكر في السفر نقدمه هنا مع شيء من التصرف.

يُجيب السفر كله على تساؤلين هما:

ما هي طبيعة شعب الله؟

وما هو مصيرهم؟

في (إش 1-6): يعرض النبي المشكلة: الخطاة مدعوون، والحل هو رؤية الله.

وفي (إش 7-39): يكشف عن الاتكال على الله لا على الأمم المجاورة، وأنه عوض الاتكال عليهم في ضعف يلزم أن يدركوا رسالتهم ألا وهي أن يكونوا نورًا للأمم. وقد بدأ بنو يهوذا بالاتكال على الله لكنهم لم يستمروا.

وفي (إش 40-48): يُجيب على التساؤل: ما هو الحل لعدم استمرار يهوذا؟ حثهم على ذلك ولو بالتأديب والسبي. فالله يسمح بالسبي لكنه لا يزال يعلن "أنا هنا"، مجده يملأ السماء والأرض كما رأى إشعياء (إش 6).

وفي (إش 49-55): يُجيب على التساؤل: هل يمكن لإسرائيل الخاطئ أن يصير عبد يهوه؟ كما فعل الله بإشعياء مقدسًا شفتيه بالجمرة (إش 6) هكذا يفعل بالمؤمنين مقدسًا إياهم بعمله الخلاصي.

هنا يقدم مقابلة بين إسرائيل عبد يهوه والمسيا المخلص.

في إش (56-60): الله الذي يختار شعبه ويخلصهم من خطاياهم يبقى عاملاً حتى يتحقق مجده فيهم كما سبق ففعل مع إشعياء في الرؤيا (إش 6).

هكذا يظهر الخط واضحًا في السفر كله، خط خلاص الله العجيب الذي يحققه بدعوة الخطاة وتقديسهم خلال المسيا مخلص العالم.

4. ما يدعيه النقاد - أي نظرية تفتيت وحدة السفر - يواجه مشاكل كثيرة بلا حل، نذكر على سبيل المثال[28]:

أ. أن آراءهم تفقد الوحدة بصورة صارخة، فيرى Radday أن الأصحاحات   (49-66) تمثل وحدة لغوية واحدة مقابل الأصحاحات (40-48)؛ فان كان هذا صحيحًا فانه يعارض فكرة إشعياء الثاني (40-55). هذا ويرى أن الأصحاحات (23-35) ليست من قلم إشعياء الأول وهذا يعارض فكر أغلب النقاد.

ب. لو كان هذا السفر هو من عمل ثلاثة أشخاص، فإنه يصعب جدًا تفسير كيف جاء السفر بشكله الحاضر. في كل المخطوطات السابقة للمسيحية لم تُوجد قط أجزاء منه قدمت ككتاب مستقل، إنما قدمت الأصحاحات الـ 66 كوحدة واحدة.

ج. يقول Morgalioth إنه لم تستطع هذه النظريات أن تقدم تفسيرًا لوجود مفاهيم مشتركة بين الأجزاء مثل (إش 1-7) مع (60-66؛ 7-12) مع (36-39)[29].

د. وجدت دراسات إحصائية لغوية للسفر تؤكد وحدته مثل عمل L. L. Adam[30].

فيما يلي أمثلة قليلة لتشابه الأفكار والأسلوب خلال الأجزاء التي يدعى النقاد أنها كُتبت مستقلة[31]:

* تسمية الله "قدوس إسرائيل" وردت 13 مرة في (إش 1-39)، 16 مرة في (إش 40-66)، بينما استعلمت 7مرات في بقية أسفار العهد القديم.

* تسمية الله "عزيز إسرائيل" في (إش 1: 24)، وأيضًا في (إش 29: 26؛ 60: 26).

* استخدام تعبير: "فم الرب تكلم" (إش 1: 20؛ 21: 17؛ 22: 25؛ 24: 3؛ 25: 8)؛ (40: 5؛ 58: 14).

* العلاقة بين الله و إسرائيل في الأصحاحات (1-39) مطابقة في الصور والأفكار بما ورد في الأصحاحات (40-66).

من جهة الأفكار:

أ. بنو إسرائيل أولاد الله وشعبه المحبوب (1: 2، 3؛ 2: 6؛ 3: 12)؛ ( 40: 11؛ 41: 8، 9؛ 43: 1،15 ).

ب. عصيانهم (1: 17، 23؛ 3: 12، 15؛ 5: 7، 23)؛ (59: 8، 13).

ج. سقوطهم في الوثنية (1: 29؛ 2: 8، 20؛ 31: 7)؛ ( 40: 19، 20؛ 41: 7؛ 44: 9-20؛ 57: 5).

د. سفك الدماء البريئة (1: 15، 21؛ 4: 4) (9: 3، 7).

هـ. رفض الله لهم لعصيانهم (1: 15؛ 2: 6؛ 3: 8؛ 4: 6)؛ (42: 18-25؛ 43: 28).

و. الحكم عليهم بالسبي (5: 13؛ 9: 11، 12؛ 14: 3)؛ (42: 22؛ 43: 5، 6؛ 45: 13).

ز. السبي إلى بابل بالذات (14: 2-4؛ 39: 6، 7)؛ (47: 6؛ 48: 20).

ح. الرب يُبقى له بقية (6: 13؛ 10: 20-22؛ 11: 12؛ 14: 1، 3)؛ (43: 1-6؛ 48: 9-20). فكرة البقية التي تخلص كخيط ذهبي خلال السفر كله.

ط. الوعد بالعودة وغرسهم في الأرض المقدسة (14: 1؛ 35: 10)؛ (44: 26؛ 45: 3؛ 51: 11).

ى. انضمام الأمم إليهم (11: 10؛ 25: 6)؛ (42: 6؛ 49: 6؛ 55: 5).

ك. الوعد بملك عظيم (9: 6، 7؛ 24: 23؛ 32: 1؛ 33: 17)؛ (42: 1-4؛ 49: 1-12).

ل. يملك في جبل الله المقدس (2: 2؛ 11: 9)؛ (56: 7، 57: 13؛ 65: 11).

م. يكون فاديًا ومخلصًا (1: 27؛ 25: 9-10؛ 35: 4)؛ (41: 14؛ 53: 5 12؛ 59: 20).

ن. استخدام الاسم الرمزي لمصر "رهب" في الجزئيين (إش 30: 7)؛ (إش 51: 9).

من جهة الصور والتشبيهات:

أ. كثرة استخدام صور النور والظلام كرمز للمعرفة والجهل؛ استخدم النور مجازيا 18 مرة على الأقل والظلام 6 مرات، وقابل بين الاثنين 9 مرات (إش 5: 20، 30؛ 13: 10)؛ (إش 42: 16؛ 50: 10؛ 58: 10؛ 59: 9؛ 60: 1-3).

ب. استخدم أيضًا العمى والصمم في حالات متشابهة (إش 6: 10؛ 29: 10، 18؛ 22: 3؛ 35: 5)؛ (إش 42: 7، 16، 18، 19؛ 43: 8؛ 44: 18؛ 56: 9).

ج. تصوير البشرية بالزهرة أو ورقة سرعان ما تذبل (إش 1: 30؛ 18: 15)؛ (إش 40: 7؛ 64: 6).

د. تشبيه الإصلاح براية (إش 11: 12؛ 18: 3)؛ (إش 49: 22؛ 62: 10؛ 66: 19).

هـ. دعوة المسيا الغصن أو القضيب (إش 11: 1، 2؛ 53: 2).

و. العصر المسياني كعصر ماء (إش 30: 25؛ 33: 21؛ 35: 6)؛ (إش 41: 17، 18؛ 43: 19، 20؛ 55: 1؛ 58: 11؛ 65: 12).

ز. تشبيه الله بالفخاري والإنسان بإناء خزفي (إش 29: 16)؛ (إش 45: 9؛ 64: 8).

ح. تشبيه أورشليم بخيمة ذات أوتاد (إش 32: 20)؛ (إش 54: 2).

ط. تشبيه تطهير إسرائيل بتنقية الفضة (إش 1: 25)؛ ( إش 48: 10).

هذه أمثلة قليلة من كثير من وجود تشبيهات وتعبيرات مشتركة بين الـ 39 أصحاحًا الأولى وبقية السفر... مما يدل على وحدة السفر وان الكاتب شخص واحد. هذا ويلاحظ أنه لا يخلو أصحاح في كل السفر من تشبيه حيّ وتصوير رائع خاصة في الأصل العبري الذي يعطى سمو اللغة رونقًا خاصًا لهذه التشبيهات والتصويرات.

مع هذا إن وُجد شيء من الاختلاف في الأسلوب بين ما ورد في (إش 1-39)؛ (إش 40-66) فانه أمر طبيعي لتطور الأسلوب بالنسبة لنفس الكاتب خلال حقبات حياته المختلفة، خاصة وأن مدة نبوته طويلة، تبلغ حوالي الستين عامًا.

5. كاتب كلا الجزئيين يظهر أنه صاحب معرفة كاملة بتاريخ شعبه.

6. كاتب الجزء الثاني (إش 40-66) ليس كما يدعى النقاد أنه إنسان يعيش في أرض السبى، إنما واضح أنه كان مقيمًا في الأراضي المقدسة، وكما يقول H. Bultema:

أ. بينما يكرر إرميا النبي إسم بابل أكثر من 160 مرة نجد هنا في هذه الأصحاحات السبعة والعشرين (إش 40-66) يُذكر ثلاث مرات فقط. كما لم يشر الكاتب إلى المدن المحيطة ببابل ولا إلى قٌراها أو حصونها. أما بالنسبة لكنعان فكثيرًا ما يُشير إليها وإلى بعض المناطق التي فيها.

ب. لا يُشير الكاتب إلى الأمم المحيطة ببابل بينما يُشير إلى جبال كنعان وتلالها وصخورها وكهوفها وطرقها الجبلية ووديانها.

ج. يتحدث عن حجارة لا توجد في بابل بل في كنعان (إش 48: 19؛ 57: 6؛ 62: 10؛ 51: 1؛ 50: 7).

د. بالنسبة للنباتات أشار إلى نوع واحد من أشجار بابل "الصفصاف" (إش 44: 4)؛ أما أشجار كنعان فيكررها مرات ومرات مثل الأرز والزيتون والصنوبر والآس والزان والسرو الخ...

هـ. بالنسبة للأخشاب، كان البابليون يستخدمون أشجار النخيل في البناء كما في الوقود بينما يُشير إشعياء إلى الأخشاب الكنعانية مثل الأرز والسرو وسنديان والصنوبر (إش 44: 13-16).

و. لم تذكر هذه الأصحاحات نوعًا واحدًا من محاصيل بابل إنما أشارت إلى المحاصيل التي تنمو في كنعان مثل البهرات والكتان والقصب.

ز. ورد بهذه الأصحاحات أكثر من 25 نوعًا من الحيوانات لا يوجد من بينها نوع واحد من الحيوانات الخاصة ببابل، وهكذا بالنسبة للطيور والأسماك.

ح. عندما تحدث عن الأصنام أشار إليها بكونها مُقامة تحت الأشجار (إش 57: 5-7) وفي الكهوف وعلى الجبال والتلال؛ هذا يناسب كنعان أما في بابل فوجدت الأصنام في هياكل ضخمة جميلة.

ط. في تشبيهاته المتعددة عبر السفر كله لم يشر إلى عجائب الدنيا في بابل مثل أسوار بابل الفريدة في سمكها، ومعبد بيل والقصر الملكي لـ Neriglisser و الحدائق المعلقة.

من هذا كله واضح أن الكاتب يعيش في كنعان وليس في بابل أرض السبي كما أدعى النقاد ليعزلوا الأصحاحات (40-46) عن بقية السفر بكون كاتبها إشعياء آخر في أرض السبي جاء في وقت متأخر عن إشعياء الأول.

التفسير الألفي لسفر إشعياء:

بينما ركز آباء الكنيسة الأولى على نبوات إشعياء النبي بكونها شهادة صادقة وأمينة عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، يحاول كثير من المفسرين المحدثين صبغه بالفكر الألفي، متطلعين إلى كثير من نبواته على أنها ستتحقق عندما يأتي الرب ليملك ألف سنة على الأرض قبل حلول الضيقة العظيمة.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الآتي:

1. تفسير النبوات بطريقة حرفية، مثل إعادة مجد صهيون و أورشليم وغلبة المخلص على الأمم والشعوب المقاومة الخ... هذه المفاهيم ليست إنجيلية، فإن صهيون وأورشليم إنما هما كنيسة العهد الجديد، التي تدعى "إسرائيل الجديد". أما الغلبة على الأعداء فإشارة رمزية لغلبته على قوات الظلمة بالصليب.

2. عدم إدراكهم أن الرب قد ملك فعلاً بالصليب على القلوب وأنه أقام مملكته المملوءة فرحًا وسلامًا لا ينطق به.

3. إن الشيطان قد قُيد بالنسبة للمؤمنين بالصليب، وأننا قد أُعطينا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب. (راجع تفسيرنا لسفر الرؤيا ص 19).

أقسام السفر:

يرى علماء اليهود وآباء الكنيسة الأولى أن النبوات الواردة في هذا السفر جاءت حسب ترتيب إعلانها للنبي، وإن كان بعض النقاد الحديثين يرفضون هذا الرأي.

          نبوات في أيام عزيا                   [ص 1-5].

          نبوات في أيام يوثام                   [ص 6].

          نبوات في أيام آحاز                   [ص 7-14].

          نبوات في أيام حزقيا                  [ص 15-66].

ويمكن تقسيم السفر حسب موضوعه إلى ثلاثة أقسام متكاملة تبرز عمل الله الخلاصي. ففي القسم الأول يعلن النبي تأديب الله لكل البشرية - اليهود والأمم - لأن الطبيعة البشرية قد فسدت وصارت في حاجة إلى تدخل إلهي لتقديسها. وفي القسم الثاني يعلن الله القدوس عن إمكانية الغلبة على الأعداء (إبليس وجنوده) وعلى الموت وعلى الأنا بالله نفسه. هذا القسم تاريخي نبوي يظهر أن ما ننعم به من نصرة يتحقق بواسطة ابن داود الذي يموت ويقوم [قصة حزقيا الملك الذي أنعم عليه بـ 15 سنة كرمز لموت المسيح وقيامته]. وفي القسم الأخير يعلن الله القدوس عن تمتع البشرية بالخلاص في مفهومه الواسع، أي شركة المجد الإلهي خلال آلام المسيح وصلبه.

هذه الأقسام الثلاثة هي:

أولاً: القدوس المؤدب                                    [ص 1-35].

1. نبوات خاصة بيهوذا وأورشليم              [ص 1-12].

2. نبوات خاصة بالأمم المحيطة                [ص 13-23].

3. نبوات خاصة بالعالم                        [ص 24-35].

ثانيًا: القدوس واهب النصرة                    [ص 36-39].

1. نصرة على الأعداء                         [ص 36-37].

2. نصرة على الموت                          [ص 38].

3. نصرة على الأنا                            [ص 39].

ثالثًا: القدوس المعزى بالخلاص                         [ص 40-66].

1. عزوا عزوا شعبي                           [ص 40-44].

2. هجوم كورش على بابل                     [ص 45-47].

3. أحاديث الخلاص                            [ص 48-59].

4. بناء مدينة الرب الجديدة                     [ص 60-66].

يرى البعض أن هذا السفر يمثل الكتاب المقدس كله بعهديه، القسم الأول منه (إش 1-39) يتحدث عن حال إسرائيل قديمًا وما بلغ إليه من فساد وحاجة العالم إلى مخلص إلهي وهو بهذا يمثل العهد القديم، أما الأصحاحات السبعة وعشرون (إش 40-66) فتُشير إلى أسفار العهد الجديد السبعة وعشرين تعالج سرّ الفداء بكل وضوح وتعلن الملكوت المسياني وعطية الروح القدس لإقامة مدينة الرب الجديدة.

 

<<
 

 

الباب الأول

 

 

 

 

القدوس المؤدب

 [ص 1- ص 35]

 

 


 

الباب الأول

القدوس المؤدب

[ص 1- ص35]

غاية إشعياء النبي هو الكشف عن إنجيل الخلاص أو جذب البشرية كلها للتمتع بالمخلص القادر أن يصلح الطبيعة البشرية ويردها إلى صلاحها الذي خُلقت عليه بل ويرفعها إلى شركة المجد السماوي.

لكي يحقق هذا الهدف كان لابد أن يكشف عن مدى ما وصلت إليه الطبيعة البشرية من فساد، لهذا يبدأ سفره بالحديث عما بلغ إليه شعب الله، حاسبًا أن "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم؛ ويل للأمة الخاطئة" (إش 1: 3-4) لقد أصاب المرض الرأس (الملوك والرؤساء وكل القيادات المدنية). كما أصاب القلب (الكهنة والقيادات الدينية) وكل بقية الجسم (الشعب).

تمثلت مملكة إسرائيل بالأمم فقبلت رجاساتها، و أيضًا مملكة يهوذا صارت فيما بعد أشر من إسرائيل. استخدم الله أشور للتأديب فتعجرف على الله؛ أذله بقيام مملكة بابل فامتلأت بابل غطرسة ضد الرب، لذلك أرسل فارس ومادي يُحطمان بابل. على أى الأحوال يكشف إشعياء في نبواته أن جميع الأمم استحقت الدينونة: إسرائيل، يهوذا، أشور، مصر، بابل، فارس ومادي، أدوم، موآب الخ... وهكذا يُريد النبي أن يعلن أنه لا خلاص من هذا الدمار الذي جلبه الإنسان لنفسه إلاَّ بالتدخل الإلهي. لهذا وسط النبوات المّرة الخاصة بالتأديبات نجد خطين رئيسيين في هذه الأصحاحات بل وفي كل السفر، هما:

1. التطلع إلى المسيا المخلص: كلما تحدث النبي عما يحل بالأمم أو بالإنسانية يفتح باب الرجاء بالتنبؤ عن المخلص القادم يسوع المسيح بن يسّى.

2. الله يغضب على الخطية ولن يقبل الشركة مع الخطاة لأنه القدوس، وفي نفس الوقت يده ممدودة للخلاص لكي يقدس المقبلين إليه من كل الأمم. بمعنى آخر الله يكره الخطية لكنه يُحب الخطاة، يحب كل البشرية، ويفتح بابه للأمم. هذا ما يؤكده بكل وضوح في الأصحاح التاسع عشر حيث يعلن عن هروب السيد المسيح إلى مصر، واقامة مذبح للرب في وسطها، مؤكدًا "مبارك شعبي مصر".

لقد أبرز في هذه الأصحاحات (1-35) الآتي:

1. الله في تأديباته لا ينتقم لنفسه لكنه كطبيب يود أن يعالج ويشفي، لذا امتزجت التأديبات بإعلان الخلاص حتى لا يسقط السامعون في اليأس.

2. أعلن الله عن مجده لإشعياء (إش 6) وقداسته في نفس الوقت، ليؤكد للبشرية أنه لا شركة في المجد بدون القداسة، ولكي ينزع عنهم كل اتكال على ذراع بشري، فإننا إن تمجدنا إنما بقوة الله الممجد من السمائيين، وإن تقدسنا فخلال شركتنا مع الواحد القدوس.

3. الله في تأديباته هو صاحب الكرم المشتاق أن يجد ثمرًا في كرمة العزيز لديه جدًا، موضع رعايته الفائقة (إش 5).

4. يعقب الحديث عن الويلات (إش 10) نشيد الخلاص (إش 12)، ليؤكد رغبته في تحويل التأديب إلى تسبيح، وفرج حزن التوبة بفرح الخلاص.

5. الله يؤدب، لكن ليس خلال أوامر ونواه، وإنما بروح الحب والحوار، لا يكف السفر عن الكشف عن مقاصد الله من التأديب (إش 25-27)، مطالبًا بحوار ودّي بينه وبين الإنسان.

<<


الأصحاح الأول

المحاكمة العظمى

يُفتتح هذا السفر بإعلان الله عن محاكمة شعبه؛ فيها يقف الله مدعيًا وقاضيًا. لا يُريد أن يحكم عليهم دون إعطائهم فرصة للدفاع عن أنفسهم. يستدعى الطبيعة الجامدة والأحداث الجارية حتى القضاة الظالمين شهودًا ضد شعبه. يعلن الاتهام وفي نفس الوقت يُقدم فرصة للحوار ويفتح باب العفو إن رجعوا إليه بالتوبة. يقف قاضيًا وديَّانًا وفي نفس الوقت طبيبًا ومخلصًا، يفتح ذراعيه للنفوس الساقطة.

1. مقدمة السفر                      [1].

2. استدعاء الطبيعة                  [2].

3. استدعاء الحيوانات                [3].

4. وصف لحال الشعب               [4-9].

5. استدعاء القضاة                   [10].

6. الاتهام: "العبادة الشكلية"                    [11-15].

7. دعوة للتوبة                      [16-20].

8. عتاب من واقع الماضى           [21-23].

9. الديَّان يتقدم كمخلص              [24-31].

1. مقدمة السفر:

"رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا" [1].

تعتبر هذه العبارة مقدمة للسفر كله الذي يضم مجموعة رؤى ونبوات أُعلنت لإشعياء في ظروف مختلفة أيام عزيا العظيم ويوثام الملك الصالح وآحاز بعهده المظلم وحزقيا ومنسى الخ... لكنه يدعوها جميعًا "رؤيا"، لأنها وإن كانت رؤى متباينة إنما تمثل وحدة واحدة، لها هدف واحد هو إعلان الله عن فكره ومشيئته وخطته الخلاصية من أجل بنيان الجماعة المقدسة أو لتقديس البشرية المؤمنة به.

الرؤى هنا ليست أحلامًا تمتع بها النبي أثناء نومه، وإنما هي إعلانات إلهية قدمت للنبي أثناء يقظته بينما كانت حواسه ساكنة بسبب قصورها وعجزها، ليقول النبي مع القديس يوحنا الرائي: "كنت في الروح" (رؤ 1: 10). وربما قصد بالرؤيا الوحي الإلهي الخاص بالنبوة.

هذه الرؤى "على يهوذا وأورشليم"، أي تخص مملكة يهوذا أو مملكة الجنوب (يهوذا وبنيامين) وتركز على العاصمة أورشليم بكونها مدينة الله بها هيكله المقدس؛ لكنها ضمت أيضًا نبوات عن مملكة الشمال (بقية الأسباط) وعن الممالك المجاورة التي لها علاقة بالشعب.

هذه الرؤى هي كلمة الله التي لا تمس يهوذا في القرن الثامن ق.م. فحسب وإنما تمس حياة كل إنسان يشتاق نحو خلاص نفسه وتمتعه بالشركة مع الله، وكما جاء في سفر التثنية: "الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب، ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم أحياء" (تث 5: 3)... إنها كلمة الله وإعلاناته لكل نفس بشرية!

2. استدعاء الطبيعة:

"إسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم: ربيت بنين ونشأتهم. أما هم فعصوا عليّ" [2].

يبدأ السفر بمحاكمة عظمى طرفاها الله والإنسان، تُستدعى فيها الطبيعة الجامدة - السماء والأرض - لتشهد هذه المحاكمة.

ربما استدعى إشعياء النبي الطبيعة كما سبق ففعل موسى النبي: "انصتي أيتها السموات فأتكلم، وتسمع الأرض أقوال فمي" (تث 32: 1). كأن إشعياء يؤكد لشعبه أن ما ينطق به إنما هو امتداد لكلمات موسى النبي الذي يعتز به كل يهودي. ولعله أراد أن يؤكد مدى قساوة قلب الإنسان وعمى بصيرته لذا يستدعى الطبيعة الجامدة للشهادة ضده، الأمر الذي أوضحه معاصرة ميخا النبي: "اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أُسس الأرض الدائمة، فإن للرب خصومة مع شعبه" (مى 6: 2).

ربما تمَّ هذا الاستدعاء من ملاك من قبل الرب للشهادة على الإنسان في قساوة قلبه. ولعل الرب نفسه هو الذي حقق هذا الاستدعاء، إذ لم يستدع هيكله المقدس ولا شريعته لتشهد عليهم بل طلب الطبيعة الجامدة التي حققت مقاصد الله وتممّت رسالتها بالخضوع له، أما الإنسان ففسد تمامًا بسبب عصيانه.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق الآن استدعاء السماء (للشهادة) إذ لا يوجد إنسان يسمع ويشهد لهذه الأمور[32]].

يرى القديس القديس إكليمنضس السكندري ان الله يستدعي الغنوسيين، أي المؤمنين أصحاب المعرفة الإلهية السماوية (السماء) كما يستدعي من انشغلت قلوبهم بالزمنيات والأرضيات[33].

"ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ" [2].

الله لا يحمل مشاعر إنسانية لكنه ليس كائنًا جامدًا، إنما هو "الحب" عينه، فريد في حبه لخليقته السماوية والأرضية، خاصة حبه نحو الإنسان. لهذا إذ يتحدث معنا نحن البشر يُحثنا بلغتنا البشرية معبرًا عن حبه كما بمشاعر إنسانية حتى يمكننا التلامس معه واختبار الاتحاد والشركة معه.

الله يعلم أنه ليس شيء يمكن أن يحزن الإنسان ويفقده طعم الحياة مثل شعوره بأنه قد فشل في تربية أولاده، خاصة إن قاموا ضده يعلنون العصيان عليه. مع الفارق الشاسع، يكشف الله عن مشاعرة نحو الإنسان الساقط: أنه ابن محبوب، يقدم له أبوه السماوي كل إمكانيات الحياة الفائقة، لكنه يُقابل الحب بالعصيان.

لقد دعى شعبه "الابن البكر" (خر 4: 22)، وهكذا يدعونا أولادًا له، إذ لم نأخذ روح العبودية بل روح التبني الذي به نصرخ أيها الآب أبانا (رو 8: 15).

يتوقع الله فينا أن نحمل روح النبوة المتجاوبة مع أبوة الله الفريدة الحانية التي كلفته الكثير، مقدمًا ابنه الوحيد الجنس ذبيحة ليقتنينا له أبناء في مياه المعمودية. يقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات: [كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط[34]].

يُحدثنا القديس كبريانوس عن التزامنا كأولاد لله نحو أبيهم، قائلاً: [إن كنا أولادًا لله، إن كنا بالفعل قد بدأنا أن نكون هياكله، إن كنا نتقبل روحه القدوس، يلزمنا أن نحيا بالقداسة والروحانية[35]].

يُعاتب الله أولاده من أجل عصيانهم، فإن عصيان البنين أمرّ من عصيان الأجراء والعبيد، جراحات الأحباء خاصة البنين أقسى من تلك التي يُسببها الأعداء.

يرى القديس إيريناؤس أن الله خلق الإنسان كابن له يمتثل به، ويتممٍ إرداته الإلهية من نحوه، لكنه إذ يمجد الله ويقبل مشورة عدو الخير يصير ابنًا لإبليس. لهذا دعى السيد المسيح مقاوميه "أبناء إبليس" (يو 8: 44)، ونفى عنهم أنتسابهم الروحي لإبراهيم (يو 8: 39).

v   بحسب الطبيعة - حسب الخلقة - يُقال إننا ابناء الله، إذ نحن جميعًا خليقته. أما من جهة الطاعة والتعليم فلسنا جميعًا ابناء الله، إنما الذين يؤمنون به ويتممون إرادته وحدهم (أبناء). أما الذين لا يؤمنون ولا يطيعون إرادته فهم أبناء الشيطان وملائكته، لأنهم يفعلون أعمال الشيطان.

القديس إيريناؤس[36]

v    عندما اضطهد الفريسيون ربنا ومخلصنا بكى بسبب هلاكهم القادم. لقد أساؤا معاملته، أما هو فلم يبادلهم ذلك ولا بالتهديد، حتى عندما استخفوا به وقتلوه، وإنما على العكس حزن على تجاسرهم... هذه الأمور جميعًا كانت أمام أعينهم في الكتب المقدسة، فقد تنبأ المرتل، قائلاً: "الأبناء الغرباء صنعوا بي باطلاً" (مز 18: 45). وقال إشعياء: "ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). لم يعودوا بعد شعب الله أو أمة مقدسة إنما صاروا ولاة سدوم وشعب عمورة (إش 1: 10). تعدوا خطية أهل سدوم كما تنبأ النبي: "سدوم تتبرر أمامكم" (راجع حز 16: 48؛ مرا 4: 6). فقد قاوم أهل سدوم ملائكة، أما هذا الشعب فهاجموا رب الكل وإله الجميع وملكهم، تجاسروا فقتلوا ملك الملائكة ولم يعرفوا أن المسيح الذي قتلوه يحيا حتى اليوم.

البابا أثناسيوس الرسولي[37]

3. استدعاء الحيوانات:

"الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم" [3].

إن كان الله قد دعى إسرائيل ابنه البكر (خر 4: 22)؛ فكان يليق بالابن أن يعرف أباه ويدرك أسراره ويتجاوب مع مقاصده وإرادته، لكن الإنسان خلال عصيانه انحط منحدرًا إلى ما هو أدنى من الحيوانات العجماوات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ان الإنسان انحط إلى ما هو أقل من الحيوان، فأخذ السيد المسيح طبيعتنا وصعد إلى السموات ليرفع طبيعتنا إلى ما هو سماوي[38].

لقد انحط الإنسان حتى قيل في سفر الأمثال: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان؛ تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6: 6).

عُرف الثور والحمار بغباؤهما إن قورنا ببقية الحيوانات ومع هذا إن جاعا يسيران بالغريزة نحو صاحبهما عند موضع الطعام كأنهما يطلبان منه أن يأكلا. أما إسرائيل فقد تمررت حياته بالسبي وصار جائعًا وعريانًا ومع هذا لم يرجع إلى الله أبيه الذي يرعاه ويهتم به، ما تُمارسه الحيوانات بالغريزة فاق تصرفات الإنسان العاقل في شره!

إن كان الإنسان قد انحط هكذا إلى ما هو أدنى من الحيوان، فقد وُلد كلمة الله المتجسد في مزود حتى إذ يقترب الإنسان كما إلى المزود يجد السيد المسيح مأكلاً له. يأكل فتنفتح بصيرته ليدرك أسرار الله خلال اتحاده بالابن الوحيد العارف بأسرار أبيه، إذ يقول: "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27).

هنا دعوة إلهية موجهة إلينا نحن الذين اقتنانا السيد المسيح بدمه، وقدم جسده ودمه طعامًا لنفوسنا، لذا لاق بنا أن نصغى إلى كلماته ونستجيب لدعوته.

يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين اليهود في العهد القديم والمؤمنين في العهد الجديد من جهة معرفة الله فيقول بأن الأولين عرفوا الله بفكرهم لكن ليس بحياتهم وخبرتهم وأعمالهم (تى 1: 16).

v    خطأهم ليس في جهلهم (العقلي) وإنما في شرهم، في إرادتهم الشريرة، فإنهم حتى عندما عرفوا ذلك أختاروا أن يكونوا جهلاء[39].

v    قبل الصليب حتى اليهود لم يعـرفوا (الآب)، إذ قيل: "إسرائيل لم يعرف"، أما بعـد

الصليب فجرى العالم كله إليه[40]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v    بلا شك كان سرّ ملكوت السموات محجوبًا في العهد القديم، وكان يجب أن ينكشف في ملء الزمان في العهد الجديد. يقول الرسول: "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4)... المسيح نفسه رُمِزَ إليه  بالصخرة عندهم، أما لنا فأعلن عنه بالجسد.

القديس أغسطينوس[41]

v    كيف لا تحسبه أمرًا مرعبًا إن كان الذين يعرفون الله (عقليًا) لم يدركوا الرب (عند مجيئه)، بينما يعرف الحيوانان الغبيان - الثور والحمار- من يقوتهما، وقد وُجد إسرائيل أكثر منهم غباوة؟! 

القديس إكليمنضس السكندري[42]

v    لقد كللوا يسوع ورفعوه إلى فوق شاهدين عن جهلهم.

القديس إكليمنضس السكندري[43]

4. وصف لحال الشعب:

بعد أن استدعى الطبيعة الجامدة والحيوانات غير العاقلة لتشهد محاكمة الله مع الإنسان، كشف عن الحال الذي بلغ إليه الشعب، كأنه عريضة اتهام، جاء فيها:

أولاً: وصفهم بسبع سِمات في [4]، وكأنه يقول مع عاموس النبي "من أجل ذنوب يهوذا الثلاثة والأربعة... من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة" (عا 2: 4، 6). الثلاثة تُشير إلى خطايا النفس الداخلية التي على صورة الثالوث، والأربعة تُشير إلى خطايا الجسد الظاهرة الذي أُخذ من الأرض (أربع جهات المسكونة). وكأن الشعب قد تدنس في الداخل والخارج، بخطايا خفية وظاهرة، في الجسد والروح.

السِّمات الأربع الأولى هنا تُشير إلى الخطايا الجسدية الظاهرة: "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلى الشر، أولاد مفسدين"؛ والسِّمات الثلاثة الأخيرة تمثل الخطايا الداخلية: "تركوا الرب، أستهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى الوراء".

على أي الأحوال فإن رقم 7 يُشير إلى "التمام" Completeness، وكأن خطاياهم قد بلغت إلى تمام الحدّ.

يلاحظ أن إشعياء مغرم بالرقم 7 فكثيرًا ما يُقدم 7 سمات في وضعه للأمور المختلفة.

جاءت عريضة الاتهام تعلن هذه الخطايا، ملخصها:

أ. خطايا جماعية: "ويل للأمة الخاطئة" [4]. إن كانت خطية عاخان بن كرمى سببت هلاكًا للشعب (يش 7: 11) فكم بالحرى إن انحرفت الأمة كلها إلى الشر؟! لقد دبَّ الفساد في الكهنة كما في الشعب، في الأشراف كما في العامة، فصارت الحاجة إلى رجوع جماعي إلى الله مثلما فعل أهل نينوى. لقد دُعى هذا الشعب "الأمة المقدسة"، لكنه عزل نفسه عن القدوس فحمل سمة، "الأمة الخاطئة" مستخدمًا الكلمة العبرية goi، وهو تعبير خاص بالأمم لعدم التصاقها بالله. وكأن هذا الأمة انحرفت عن غايتها لتدخل في زمرة الأمم الغريبة عن الله.

ب.  ثقل إثمهم: "الشعب الثقيل الإثم" [4]. إذ يتنبأ إشعياء النبي عن المخلص والخلاص كان لابد أن يبرز ثقل الخطية التي تنحنى تحت ثقلها النفوس... الله وحده يعرف ثقل هذا الإثم، فقد جاء كلمة الله المتجسد حمل الله الذي يحمل خطية العالم (يو 1: 29، 36).

تحت ثقل الخطية تنحنى النفس حتى تغوص كما في مياه العالم فتحمل طبيعة العالم لا السماء، لذا قيل عن فرعون وجنوده: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10)، وقيل عن الشر: "طُرح ثقل الرصاص على فمها" (زك 5: 8).

يرى القديس غريغوريوس النيصى[44] أن الإنسان الذي يسلك في الحياة الفاضلة يكون خفيف الوزن روحيًا، أما الإنسان الشرير فيكون ثقيلاً يغطس في المياه. الفضيلة خفيفة تجعل الإنسان كالسحابة مرتفعًا إلى فوق وكالحمامة التي تطير بأجنحتها الصغيرة (إش 9: 8). وقد تحدث العلامة أوريجانوس في ذلك باسهاب، مظهرًا كيف كاد بطرس أن يغرق بسبب الخطية (الشك) وإذ وهبه الرب إيمانًا سار على المياه[45].

ج. متأصلين في الشر: "نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين" [4]. دبَّت الخطية في حياة أسلافهم، فجاءت الأجيال متأصلة في الشر عن آبائهم وأجدادهم. وكما قال الرب للكتبة والفريسيين: "فاملأوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي" (مت 23: 32-33).

د. تركهم للرب مصدر القداسة: "تركوا الرب؛ استهانوا بقدوس إسرائيل؛ ارتدوا إلى الوراء" [4]. ليس شيء أشر من أن يترك الإنسان إلهه، مصدر حياته وسرّ قداسته. يقول الرب على لسان إرميا: "لأن شعبي عمل شرين؛ تركونىي أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنقسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماءَ" (إر 2: 13).

إن كان إشعياء قد رأى الله القدوس (إش 6)، فهو "قدوس إسرائيل" مصدر تقديس مؤمنيه، يهبنا سماته عاملة فينا! لقد كرر النبي هذا التعبير 20 مرة.    

هـ. مرض مستعصي: "علامَ تُضربون بعد؟! تزدادون زيغانًا، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم؛ من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط، وضربة طرية لم تعصر ولم تلين بالزيت" [5-6].   

بقوله: "علامَ تُضربون بعد؟!" يعلن الله أن هذا الشعب قد رفض النبوة لله لذا لم يعد مستحقًا أن يكون موضع اهتمام الله وتأديبه. فقد سبق فأدبهم كأبناء له لكنهم أزدادوا زيغانًا، لذا يود أن يوقف التأديبات الأبوية تاركًا إياهم لنوال ثمر فسادهم الطبيعي، إذ يقول: "لم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي، فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم، ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم" (مز 18: 11-12). وجاء في إرميا: "لماذا تخاصمونني؟!... لباطل ضربت بنيكم؛ لم يقبلوا تأديبًا" (إر 2: 30)، "ضربتهم فلم يتوجعوا. أفنيتهم وأبوا قبول التأديب" (إر 5: 3).

الآن يتركهم الله لفسادهم الذي اختاروه بإرداتهم فيدبُّ المرض في جسمهم من الرأس إلى القلب إلى القدم. يدبّ في الفكر فيصيروا عاجزين عن التدبير، وأيضًا في القلب فتتنجس عواطفهم وأحاسيسهم الداخلية، حتى القدمين من أسفل فيصيروا عاجزين عن التحرك نحو الله في طريق ملكوته الملوكي. دبّ الفساد بالرؤساء والعظماء (الرأس) كما بالخدام والكهنة (القلب)، وبعامة الشعب (الجسد) حتى بالمحتقرين منهم (أسفل القدم).

صارت الجراحات قاتلة ونزف الدم غير متوقف... ليس من يتحرك لينقذ ويخلص، ولا من يُقدم زيت محبة ليلين الضربة القاسية!

أصاب الفساد الطبيعة البشرية ذاتها، وكما يقـول القديس كيرلس الأورشليمى:

[عظيم هو جرح طبيعة الإنسان، من القدم إلى الرأس لا توجد فيه صحة[46]].

و. خراب مطبق: "بلادكم خربة؛ مدنكم محرقة بالنار، أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهي خربة كانقلاب الغرباء، فبقيت ابنة صهيون كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأةٍ، كمدينة محاصرة" [7-8].

يتحدث النبي هنا عما سيحل بيهوذا بعد غزو سنحاريب الآشوري، حاسبًا ما سيحل بهم في المستقبل كأنه حاضر، لأنه أمر حادث لا محالة.

يقول القديس كيرلس الأورشليمى: [عاش إشعياء منذ قرابة 1000 عام، وقد رأى صهيون كسقفية (للمواشي)؛ كانت المدينة في ذلك الوقت قائمة وجميلة بمنافعها العامة وملتحفة بالعظمة... لكنه يقول: "فبقيت ابنة صهيون كمظلة (سقفية للمواشي) في كرم، كخيمة في مقثأةٍ". الآن نجد الموضع مملوء بزراعة مقثأة. أنظر كيف ينير الروح القدس القديسين[47]].

الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، أرض الموعد التي وهبها الله لشعبه، والتي من أجلها احتمل الشعب السير في البرية أربعين سنة صارت خربة. استولى سنحاريب على 46 مدينة حصينة فصارت أورشليم مهددة بخطر مباشر "كمدينة محاصرة " و "كخيمة"  أو "مظلة" من السهل احتلالها... لقد شاهد أهلها ما فعله الغرباء (الأشوريون) بمدنهم، حيث أشعلوا النار فيها، فكانت تأكل مخاصيلهم أمام أعينهم وهم عاجزون عن الحركة. صارت مدنهم خربة كانقلاب الغرباء، أي كما سبق انقلبت سدوم وعمورة، أو كما لو فاض عليها طوفان ماء شديد حطمها.

هذا الخراب الذي حلّ هو علامة على ما ارتكبه يهوذا من آثام، وحتمية طبيعية لتركهم الله مقدسهم وارتدادهم عنه، وعدم طاعتهم لصوته، فقد قيل: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه... تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك؛ ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل" (تث 28: 15-16).

هكذا كل نفس لا تلتصق بالله مقدسها يحل الخراب بكل مدنها: بالجسد والنفس والفكر والقلب مع كل الأحاسيس والمشاعر الخ... تُنتزع عنها كل حصانة وتصير كمظلة أو خيمة في العراء، فريسة سهلة في أيدى الخطية.

v    هؤلاء هم الذين يدنسون أنفسهم ويحولونها عن كونها بيت الآب السماوي، أورشليم المقدسة، بيت الصلاة، إلى مغارة لصوص... يأخذون منها ما هو ثمين، ويسلبونها أفضل ما لديها لتصير كلا شيء.

العلامة أوريجانوس[48]

تعبير "بقيت ابنة صهيون" هنا يُشير إلى مركز شعب الله الذي حسبه شعبه الخاص، الابنة العذراء، والعروس المدللة، قد صارت متروكة "بقيت وحدها"؛ تشعر بالعزلة Loneliness والترك، وهذه أقس عقوبة على نفس الإنسان! هذه العقوبة جلبتها ابنة صهيون على نفسها بنفسها. كانت عروسًا مدللة فصارت مهجورة ومطّلقة. يقول العلامة أوريجانوس: [أظن أن الزوج (الله) قد كتب كتاب طلاق لعروسه القديمة، وأعطاها إياه في يدها، وطردها من بيته[49]].

وسط هذا الخراب المطبق يجد الله بقية قليلة أمينة تشهد له، بسببها لم يحطم شعبه الذي فسد، إذ قيل: "لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" [9]. وقد اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في (رو 9: 29). وكأن ما حدث في أيام إشعياء يتكرر في كل الأجيال حتى في العصر الرسولي حيث قبلت قلة أمينة من اليهود الإيمان بالسيد المسيح.

لا يهتم الله بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التي تتقدس له وسط الفساد الذي يحل بالكثيرين. هذه البقية هي "القطيع الصغير" الذي يسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 1)؛ هذه البقية أبقاها رب الجنود لنفسه بكونها عمله، يهبها روحه القدوس لتقديسها له فتكون خميرة مقدسة تخمر العجين كله.

v    أنظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بترخي الكثيرين؛ عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون (مت 20: 16).

القديس يوحنا كاسيان[50] 

من أجل هذه البقية القليلة يقصر الله أيام الضيق خاصة في الأزمنة الأخيرة، إذ قيل: "من أجل المختارين تقصر تلك الأيام" (مت 24: 22).

5. استدعاء القضاة:

"اسمعوا كلام الرب ياقضاة سدوم، اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة" [10]. في شجاعة بلا خوف ولا مداهنة يدعو إشعياء قضاة الشعب "قضاة سدوم" ويلقب الشعب نفسه "شعب عمورة"، وذلك من أجل الظلم والفساد الذي اتسم به كل من الرؤساء والمرؤوسين.

لا نجد في كل السفر موقفًا واحدًا يشعر فيه النبي بالخوف أو الضعف سوى عند رؤيته للسيد المسيح في مجده (إش 6)، إذ يخشى إشعياء الله لا الناس.

يرى أن العلاج الوحيد للقضاة كما للشعب هو كلمة الرب وشريعته.

6. الاتهام: العبادة الشكلية:

الاتهام الموجّه إليهم هنا خطير للغاية؛ فإنه لم ينسب إليهم الإلحاد ولا ممارسة العبادة الوثنية إنما ينسب إليهم الرياء؛ يمارسون العبادة لله بدقة شديدة مع حرفية قاتلة؛ يقدمون الكثير من الذبائح والتقدمات ويحفظون الأعياد أما قلوبهم فبعيدة عن الله،وحياتهم فاسدة.

هذا الاتهام مُوجّه ضد مُدّعى الإيمان عبر كل الأجيال، الذين يحفظون الحرف مع تجاهل للروح الداخلي، وكما قيل لملاك كنيسة اللاودكيين: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ 3: 17)، لأنه تشبّه بالفريسي القائل: "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار؛ اصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (لو 18: 11-12).

هذا الأتهام أثار آباء الكنيسة للكشف عن غاية العبادة في حياة الكنيسة سواء في العهد الجديد أو القديم والالتزام بعدم الأنحراف عن هذه الغاية الإلهية:

 أ. يقول القديس إيريناؤس: [يُظهر الله أنه ليس في حاجة إلى شيء (إش 1: 11)، إنما يحثهم وينصحهم كي يمارسوا هذه الأمور حتى يتبرر الإنسان ويقترب من الله[51]].

الله يريد من عبادتنا أن نقترب منه ونتحد به لنحمل طبيعته فينا، طبيعة الحب والرحمة. فهو يريد رحمة لا ذبيحة (هو 6: 6؛ مت 9: 13). لهذا يوبخ اليهود قائلاً بأنهم يبسطون أيديهم للصلاة بلجاجة فلا يُسمع لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا بارتكاب جرائم قتل (إش 1: 15)، عوض الحب حملوا كراهية وقتل للنفوس والأجساد، خاصة قتل الأنبياء والمتكلمين بكلمة الحق.

v    لماذا هذه الانقسامات؟ لننا نحفظ العيد لكن بخميرة الخبث والشر، فنقسم كنيسة الله إلى أجزاء، نحفظ ما يخص أمورها الظاهرة بينما نستبعد الأمور الأفضل: الإيمان والحب. لقد سمعنا من الكلمات النبوية أن مثل هذه الأعياد والأصوام لا تُسر الرب.

القديس إيريناؤس[52]

v    واضح لكل أحد أن التقوى التي تقود إلى العبادة والتكريم هي أقدم العلل وأعظمها، وان الشريعة نفسها تحث على العدل وتعلم الحكمة... بالدعوة إلى خالق العالم وأبيه.

القديس إكليمنضس السكندري[53]

ب. لقد قدموا ذبائح كثيرة ومحرقات في هيكل الرب، واختاروا المسمّنات، لكن الله لا يُسر بها، فإنه لم يطلب الذبائح في ذاتها لأنه غير محتاج إليها، إنما يطلبها كرمز لذبيحة السيد المسيح الفريدة، من أجل مصالحة الإنسان مع الله وتمتعه بالشركة معه. لكن الهدف ضاع منهم فإنه لما جاء المسيح الذبيحة رفضوه؛ قدموا الذبائح الحيوانية واحتفلوا بعيد الفصح  وجحدوا الفصح الحقيقي، حمل الله الذي يحمل خطية العالم.

v    في أيام الرب ظن اليهود أنهم يحتفلون بالفصح لكنهم فعلوا هذا باطلاً لأنهم اضطهدوا الرب. بشهادتهم لم يعد يحمل الفصح اسم الرب، إذ دعى فصح اليهود (يو 6: 4) لا فصح الرب... لأنهم جحدوا رب الفصح. 

البابا أثناسيوس الرسولي[54]

v    لقد أُبطلت هذه (الذبائح) جميعها حتى تتحقق شريعة ربنا يسوع المسيح الجديدة التي يتممها ليس تحت نير الالتزام (بل بإرداته إذ قدم نفسه فدية).

رسالة برناباس[55]

ج. كانوا يجتمعون للاحتفال بالأعياد الأسبوعية (السبوت) والشهرية والسنوية التي حسبها الرب أعياده هـو، يُسر بها لأنه يجتمع مع شعبه فيملأهم من فرحه الإلهي.

هذه المحافل صارت ثقلاً على الله تبغضها نفسه (إش 1: 14)، فلا يعود يحسبها محافله.

v   لم ينسب الرب (هذه الممارسات التي حفظوها) إليه بل حسبها أعمال الخطاة (إذ هي مكروهة بالنسبة له)، سواء كانت الشهور الجديدة أو السبوت أو اليوم العظيم أو الأصوام أو الأعياد.

في الشريعة الخاصة بالسبت نقرأ في سفر الخروج: "... السبت هو راحة مقدسة للرب"... "كلوا، اليوم هو سبت للرب" (خر 16: 23، 28).

العلامة أوريجانوس[56]

د. في أكثر من موضع يؤكد الله لشعبه أنه حين أخرجهم من أرض العبودية لم يقدم لهم شرائع خاصة بالذبائح (إش 1: 12)، حتى لا يظنوا أنه يخرجهم عن عوز إلى عبادتهم أو تقدماتهم إنما ليتمتعوا هم به... يقول البابا أثناسيوس الرسولي إن الله أراد أن يسحبهم بعيدًا عن الأوثان ويجتذبهم إليه، مقدمًا لهم الشرائع في الوقت المناسب (بعد خروجهم)، ومع هذا نسوا الله الذي صنع معهم عجائب في مصر وعادوا يعبدون العجل (خر 16: 3). لقد جاءت الشرائع الخاصة بالذبائح بعد استلامهم الناموس حتى لا يقدموها للأوثان بل لله الحق. كان المطلوب منهم أن يتعلموا أولاً ترك الأوثان والاهتمام بوصايا الله وبعد ذلك تقديم الذبائح (إر 7: 22)[57].

v   لا يقبل منكم الذبائح، ولا أمركم أولاً بتقديمها عن احتياج إليها إنما بسبب خطاياكم.

القديس يوستين الشهيد[58]

هـ. يقول: "من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري؟!" [12]. فقد أكثروا الدخول في الهيكل ليقدموا ذبائح بلا حصر، فرآهم الله - في عدم توبتهم - أشبه بالحيوانات التي تدوس بيته وتدنسه! تحول تقديم الذبائح عن المصالحة مع الله إلى صبّ غضب الله.

جاءوا بتقدمات كالبخور الذي يرمز إلى الصلاة، لكنهم إذ أعطوا الرب القفا لا الوجه (إر 2: 27) صار بخورهم مكرهة للرب، لأنه حمل رائحة ريائهم وعدم توبتهم.

v    الأعمال التي تُمارس بطريقة تضاد إرادة الله، أو تقدم في غير وقار لائق لا      تنفع شيئًا... الله غير محتاج إلى شيء، مادام لا شيء يجعله دنسًا! لقد بلغ إلى النهاية

بسبب تصرفاتهم المملوءة رياءً [11].

البابا أثناسيوس الرسولي[59]

v    الرب إلهنا لا يُسر بحفظ مثل هذه الأمور؛ إن وجد بينكم إنسان حانث بقسمه أو لصًا فليكف عن هذا؛ وإن وجد زانيًا فليتب؛ وعندئذ يحفظ سبوت الله العذبة الحقة. إن كان لأحد أيد غير طاهرة فليغتسل ويتطهر.

الشهيد يوستين[60]

7. دعوة للتوبة:

فضحهم الله أمام أنفسهم مظهرًا بشاعة الفساد الذي حلّ بهم دون أن يُحطمهم باليأس أو يجرح نفوسهم إنما بالحب الأبوي السماوي قدم لهم العلاج ليستر عليهم ويردهم إلى طبيعتهم الصالحة التي خلفهم عليها. هذا العلاج هو التوبة النابعة عن الإيمان والممتزجة بالحب، أما خطواتها فهي:

أ. الاغتسال: بقوله "اغتسلوا" [16] لا يقصد التطهيرات الناموسية، لأنه في اتهامه لهم يطلب ألا يقفوا عند الشكل الخارجي للعبادة، إنما عنى اغتسال المعمودية[61] الذي فيه نخلع الإنسان العتيق لنحمل فينا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا. هذا ما عناه الرب بقوله للنفس البشرية "حممتك بالماء" (حز 16: 9)، إذ جاء في نفس السفر "وأرشّ عليكم ماءً طاهرًا فتطهرّون من كل نجاساتكم... وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم" (حز 36: 25-26).

في العهد القديم لا يستطيع الكهنة أن يدخلوا الهيكل مالم يغتسلوا أولاً وإلاَّ يموتوا (خر 30: 19-21)، ويقول المرتل: "أغسل يديّ في النقاوة فأطوف بمذبحك يارب" (مز 26: 6). إنه غسل داخلي! يقول القديس الذهبي الفم: [ لا يقصد غسل الماء الذي مارسه اليهود وإنما غسل الضمير[62]].

"تنقوا" [16]، إن كنا بالمعمودية نلنا الإنسان الجديد، إنما نلنا إمكانية       جديدة لنمارس الحياة الجديدة في المسيح، التي هي نقاوة القلب، كشرط لرؤية الله، إذ يقول

الرب: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5).

v    إذ تدخلون الجرن الصالح العظيم المجد اجروا بوقار في سباق الصلاح. فإن ابن الله الوحيد الجنس هو حاضر هنا ومستعد ليخلصكم، قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الاحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). لقد أرتديتم ثوب معاصيكم الخشن ورُبطتم بحبال خطاياكم، الآن اسمعوا قول النبي: "اغتسلوا، تنقوا فتُمحى خطاياكم من أمام عيني" حتى ترنم جوقة الملائكة فوقكم قائلة: "طوبى للذي غفر اثمه وسُترت خطيته" (مز 32: 1). يا من تشعلون مشاعل الإيمان احفظوها في أيديكم غير مطفأة.

القديس كيرلس الأورشليمي[63]

v    إذن إن كنا بالغتسال (في المعمودية) كما يقول النبي، في ذلك الجرن السرّي، تتطهر إرادتنا ويُنزع الشر عن نفوسنا، فإننا بهذا نصير أناسًا أفضل فنبلغ حالاً أحسن.

القديس غريغوريوس النيسي[64]

ب. "اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينيّ" [16]. إذ ينال الإنسان النقاوة التي بها يُعاين الله يقدر أن يميز أعمال الشر عن العمل الإلهي، فيرفض كل ما هو شر، حتى لا يعرج بين الطريقين: الله والخطية.

نوالنا سر الاغتسال والتنقية يهبنا إمكانية إلهية للعمل الجاد في اكتشاف أنفسنا بالرب لندخل في غسل مستمر (بالتوبة) وتطهير من كل ما يتعلق بداخلنا من شر... نعترف لله بخطايانا فننعم بمصاعد مستمرة نحوه حتى نراه وجهًا لوجه.

v   ها أنتم ترون أنه في سلطانكم أن تُودعوا في قلوبكم إما مَصاعد أي أفكارًا تخص الله أو مهابط أي أفكارًا منحطة نحو الجسديات والأرضيات.

الأب سيرينيوس[65]

نعترف بخطايانا ونعتزل شرنا فنرى الله فينا يعلن ذاته ومجده داخلنا. وكما يقول القديس أغسطينوس:[اظهر ذاتك لذاك الذي يعرفك فيكشف هو ذاته لك يا من لا تعرفه[66]].

"كفـوا عن فعل الشـر" [16]. إن كنا بالتوبة الصادقة نعزل الشـر عن عيني

الرب، فإن علامة إخلاصنا له أن نكف تمامًا عن كل عمل شرير. هذه عطية إلهية لكنها لا توهب دون طلبها بإيمان والحاح، مع جهاد ومثابرة.

v   إنه يود أن يقدم فرصة للتوبة لكل محبوبيه، مُثبتًا إياها بإرادته القادرة إذن، فلنطع إرادته العظيمة الممجدة؛ وإذ نضرع طالبين رحمته وحنو ترفقه، تاركين كل عمل بطال وخصام وحسد يقود إلى الموت، نعود إليه ونلقي بأنفسنا في مراحمه.

القديس إكليمندس الروماني[67]

ج. "تعلموا فعل الخير" [17]: لا يكفي الجانب السلبي، أي نزع كل ما هو شر والكف عنه دائمًا وإنما هنا يوجد التزام بالعمل الإيجابي، نحمل سمة المسيح الذي هو "الحق" فينا. نطلب "الحق" أي نطلب مسيحنا الحيّ ساكنًا فينا وعاملاً بنا، نمارس عمل المسيح محب البشر والمهتم بالمظلومين والمحتاجين والضعفاء. لهذا يوصينا "اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة". هذه هي التوبة الإيجابية التي خلالها نرجع إلى الله لا لنكف عن الشر والظلم فحسب وإنما لنمد أيدينا بالحب العملي والرحمة، خاصة تجاه العاجزين والأرامل.

v   ليتنا نمد أيدينا نحن جميعًا - رجالاً ونساء - لهن، فلا نسقط تحت أحزان الترمل. لنتعهدهن فنعد لأنفسنا مخزنًا عظيمًا من الحنان، فإن دموع الأرامل تقدر أن تفتح السماء عينها. ليتنا لا نطأ عليهن فتزداد مصائبهن بل نساعدهن بكل وسيلة. 

القديس يوحنا الذهبي الفم[68]

v   أنظروا كيف أنه في كل موضع يحسب الله أعمال الرحمة العظيمة، فإنها تقف في صالح المخطئين.

القديس يوحنا الذهبي الفم[69]

د. الحب العملي تجاه المتألمين والمعوزين هو انعكاس طبيعي لخبرتنا مع الله المترفق بنا، الذي لا يتعالى علينا بل يطلب الحوار معه كأصدقاء له. يفتح أبواب مراحمه أمامنا نحن الخطاة، قائلاً: "هلم نتحاجج يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت كالدودى تصير كالصوف" [18].

هذه دعوة إنجيلية صريحة تعلن عن شوق الله نحو خلاص كل إنسان يقبل الشركة مع القدوس خلال الصليب.

الله في حبه وإن كان قد أثبت دينونة بني يهوذا المرعبة لكنه سرعان ما يطلب المصالحة. أنه ليس كالإنسان يوجه العناد بالعناد، والغضب بالغضب، إنما يسكب زيتًا مرطبًا على الجراحات الملتهبة، ليرد كل نفس إليه .

الله يطلب من الإنسان أن يدخل معه في حوار، بينما نجد أحيانًا بعض الأباطرة المسيحيين أغلقوا الباب أمام من أخطأوا، بل وأحيانًا نجد الرعاة حتى الوالدين يحملوا ذات الروح الغريب عن روح الله محب البشر.

الله يُريد أن يغسل دم خطايانا (القرمز والدودي) بدمه الطاهر فنصير كالثلج في البياض والصوف في النقاوة (نش 8: 5)، نصير ثوبه المضيىء كما في تجليه.

يرى البعض أن كلمة "نتحاجج Cheyene" هنا تعني نضع حدًا للتحاج، إذ يدرك الله أنه لم يعد أمام الإنسان ما ينطق به بسبب خطاياه التي صارت ظاهرة كاللون القرمزي الذي لا يُمحى، لهذا أراد أن يخرجه من المأزق ويفتح له باب الصفح الإلهي حتى لا يجرح مشاعره... حب إلهي عجيب!

بدعوته الموجهة إلينا لكي نتحاجج معه يسألنا أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، فإننا إذ ندرك خطايانا ونعترف بها فهو أمين وعادل لكي يغفرها لنا (1 يو 1: 9). نحكم على أنفسنا فلا يُحكم علينا.

v   ليته لا ييأس أحد من نفسه حتى وإن بلغ أقصى الشر، حتى وإن عبر إلى العادة في صنع الشر، نعم حتى وإن حمل طبيعة الشر نفسها لا يخف... عظيمة هي قوة التوبة، فإنها على الأقل تجعلنا كالثلج، نبيض كالصوف، حتى وإن كانت قد ملكت الخطية علينا وصبغت نفوسنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم[70]

v   إنه لا يذكر استحقاقاتنا الرديئة إنما لا يزال يتحنن علينا ويحثنا على التوبة[71].

v   في سلطان الله وحده أن يهب مغفرة الخطايا وأن يتهمنا بالمعاصي إذ يأمرنا أن نغفر لإخوتنا التائبين كل يوم "فيغفر لنا" (مت 6: 14)[72].

القديس إكليمندس الروماني

هـ. تقديس الحرية الإنسانية: يفتح الله أبواب محبته أمام الجميع لكنه لا يلزم أحدًا، فهو يطلب قلب الإنسان كتقدمة اختياريه؛ يقدم له الطريق ويهبه إمكانية العمل وفي نفس الوقت يترك له حرية الاختيار، إذ يقول: "إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" [19-20].

v   ها أنتم ترون أنه يجب علينا أولاً أن نطهر أنفسنا (أي نحمل إرادة مقدسة) وعندئذ يُطهرنا الله[73].

v   نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو آلة للبر[74].

v   يمكن للإنسان أن يتغير فجأة ويتحول من خزف إلى ذهب. ما يخص الفضيلة والرذيلة ليس (إلزاميًا) بالطبيعة، إنما يمكن تغييرة بسهولة... إنني أعلم أن الكل يرغبون أن يطيروا إلى السماء من الآن، لكن الحاجة إلى إظهار الرغبة بالعمل[75].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بقوله هذا [19] يبرهن أن القبول أو الرفض يعتمد علينا.

القديس إكليمنضس السكندري[76]

يلاحظ هنا أن خطوات التوبة الواردة في [16-17] سبع: خطوتان سلبيتان في عدد 16( الاغتسال والكف عن الشر) وخمس خطوات إيجابية وردت في العدد 17، يلزم ممارستها.

8. عتاب من واقع الماضي:

يقارن هنا بين ما كانت عليه أورشليم قبلاً وما صارت عليه خلال انحرافها وفسادها، بأسـلوب مملوء رثاء وحزنًا عميقًا. إشعياء النبي صريح كل الصـراحة، لكنه مملوء حبًا وعاطفة!

 أ. كانت أورشليم "القرية الأمينة" [21]، وقد صارت "زانية". يشبهها بالعروس التي كانت مخلصة لعريسها السماوي، تحفظ وصاياه وتعلن بهاءه ومجده خلال حياتها، وقد جرت وراء آخر (العبادة الوثنية) فتنجّست بزناها الروحي مع محبيها (حز 16: 25، 32، 36). كانت عذراء (إش 37) تتحد مع عريسها واهب القداسة لكنها تركته واتحدت بالرجاسات.

v   يمكنك القول بأن الله الكلمة ترك مجمع اليهود كزانٍ، فارقه وأخذ لنفسه زوجة زنا من الأمم، لأن هؤلاء الذين كانوا "صهيون المدينة الأمينة" صاروا زناة، بينما أولئك صاروا مثل راحاب الزانية التي قبلت جاسوسي يشوع وخلُصَت هي وكل بيتها (يش 6: 5).

العلامة أوريجانوس[77]

ب. كانت "ملآنة حقًا، كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون" [21]. كانت مسكنًا للقدوس الذي هو "الحق" و "العدل"، يبيت الرب فيها إذ يجد فيها راحته، لكنها صارت مسكنًا للقتلة، لذا يقول الرب "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه" (مت 8: 10، لو 9: 58). حين تكون مقدسة تقول: "حبيبي لي، بين ثديي يبيت" (نش 1: 13)؛ لكنها متى تنجست يصير قلبها "بين ثدييها" مسكنًا للشر.

ج. تسرب الزيف إليها فصارت فضتها زغلاً يحمل لمعان الفضة ومنظرها لكنه لا يحمل مادة الفضة ولا قيمتها. صار خمرها مغشوشًا بالماء [22] يحمل لون الخمر لكنه مغشوش ماءً... هذه صورة عن الأهتمام بشكليات العبادة وحرفية تنفيذ الوصايا بالمظاهر الخارجية دون الاهتمام بالأعماق. مسيحنا يحول الماء خمرًا، أما الشرير فيحول الخمر ماءً.

الفضة تُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6)، والخمر يُشير إلي فرح الروح. الانسان الشكلي يتمسك بكلمة الله، وربما يحفظها عن ظهر قلب لكنه لا يحمل المسيح "كلمة الله" في قلبه ولا في سلوكه. له منظر الفرح الروحي وهو بعيد كل البعد عن الحياة السماوية المفرحة وشركة الملائكة والقديسين في الرب.

تشير الفضة إلى كنوز الغني، ويشير الخمر إلى الحب والعاطفة؛ فالشكلي في إيمانه يلجأ إلى حكمة العالم ككنز غاش له مظهر الفضة الثمينة وهو زغل؛ ويبدو مملوء حبًا وعاطفة بينما يحمل قلبه ماء (بلا حرارة).

يرى القديس إيريناؤس أن الشيوخ اعتادوا على خلط خمر وصايا الله البسيطة بماء التقليد البشري المضاد لكلمة الحق[78]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزى: [لسنا مثل الكثيرين القادرين على على افساد كلمة الحق ومزج الخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز 104: 15) بالماء، أي خلط تعليمنا بما هو مبتذل ورخيص ودنيَّ وبال وبلا طعم[79]].

د. "رؤساؤك متمردون ولغفاء اللصوص" [23]، أي يؤاكلون اللصوص ويحفظون ثيابهم أثناء السرقة. كان يليق بالرؤساء أن يدبروا أمور الشعب ويرعونهم، فإذا بهم يحولون الرعاية إلى سلطة وعناء، قد لا يسرقون لكنهم يتركون عدو الخير بجنوده يسرقون الشعب ويغتصبون قلوبهم وهم غير مبالين بسبب حبهم للسلطة. يحبون الرشوة والعطايا المادية أو الأدبية، ولا يبالون بالأيتام والأرامل، لأن المجد الزمني شغلهم عن التفكير فيهم. حوّلوا أورشليم "كنيسة المسيح" إلى بيت للظلم والقسوة والعنف.

عوض أن تكون القيادات مثالاً حيًا للشعب في الخضوع لكلمة الله وممارسة الحياة التقوية صاروا عثرة لهم. يقول القديس إيريناؤس: [بدأ الكتبة والفريسيون منذ عصور الناموس يحتقرون الله ولا يقبلوا كلمته، أي لم يؤمنوا بالمسيح[80]].

9. الديان يتقدم كمخلص:     

أمام هذه الصورة البشعة لا يقف الله مكتوف الأيدي، وإنما يقوم "رب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل" [24] كقائد للجنود السماوية اعتزت يده بالقوة من أجل خلاص شعبه مما حلّ بهم.

يلاحظ هنا الآتي:

أ. دعى الله بثلاثة ألقاب [السيد (يهوه)، رب الجنود، عزيز (قدير) إسرائيل]. يرى بعض الدارسين انها إشارة خفية عن الثالوث القدوس. فالآب غير المدرك ولا منظور (يهوه = أنا هو)، والكلمة الذي تجسد ليقود المعركة ضد عدو الخير واهبا لجنوده كل نصرة روحية، والروح القدس القدير الذي يعمل في المؤمنين ليشكلهم على صورة المسيح فيجدوا لهم نصيبًا في حضن الآب.

وحملت أورشليم 3 ألقاب: مدينة العدل، القرية الأمينة، صهيون تُفدى بالعدل [26-27].

ودُعى الأشرار بالقاب ثلاثة أيضًا: المذنبون، الخطاة، تاركو الرب [28].

ب. يحسب الله من يُتلف شعبه حملاً ثقيلاً (إش 23: 24)، فلا يكف عن مقاومة الشر حتى يستريح ويستريح معه شعبه: "أستريح من خصمائي، وأنتقم من أعدائي" [24].

تبقى أحشاء الرب تحنّ على شعبه حتى يُحطم الشر!

ج. "يُنقِّي أورشليم من الزغل كما بالبورق (ربما يقصد بوتاسا المعادن)"؛ إذ يعيد خلقة الطبيعة البشرية ليرد للكنيسة جمالها الأصيل كما بنار الروح القدس المطهر.

إنه ينقينا أيضًا بالتأديب ولو ظهر قاسيًا كالنار:

v   مغبوط هو الإنسان الذي يُؤدب في هذه الحياة، فإن الرب لا يُعاقب عن أمرٍ ما مرتين (نا 1: 9 LXX)[81].

v   لا يهذب الأب ابنه لو لم يكن يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات نوال الوعد. عندما ينزع الطبيب عنايته عن مريض يُحسب هذا علامة يأسه من شفائه[82].

القديس جيروم

v   الله يوبخ لكي يُصلح، ويُصلح لكي يحفظنا له.

القديس كبريانوس[83]

د. "وأعيد قضاتك كما في الأول" [26]. إذ يعيد الإنسان إلى كرامته وتعقله كما كان في بدء خلقته فيكون كقاضٍ حكيم.

هـ. يرد لأورشليم أو للنفس البشرية لقبها: "مدينة العدل القرية الأمينة" [26]. إذ تصير الكنيسة - أورشليم الجديدة - مدينة الله - عامود الحق وقاعدته، العروس الأمينة لعريسها. تمتلئ بالمفديين التائبين الحاملين برّ المسيح فيهم، أما تاركوا الرب أو رافضوه فليس لهم موضع في الكنيسة الحقيقية ولا نصيب لهم في الكنيسة السماوية. هؤلاء يمتلئون خزيًا لأنهم اشتهوا العالم - أشجار البطم - وحسبوه جنتهم فضاع العالم وضاعت آمالهم.

يشبّه العالم هنا بالبطمة، لأن اليهود اعتادوا أن يقيموا عبادة البعل والعشتاروت تحت شجرة البطمة.

يُشبه تاركو الرب بالبطمة التي ذبل ورقها، وبالجنة التي بلا ماء [29]، لماذا؟ خلق الله الإنسان كجنة يجد الرب فيها ثمرته حلوة في الداخل. كل ما يحمله الإنسان من طاقات وامكانيات وعواطف وغرائز هي عطايا إلهية أشبه بأشجار مغروسة في جنة يرويها ماء الروح القدس فتثمر بركات لا حصر لها. أما إن حُرِمت منه الروح فتجف وتحرق بالنار، وتتحول كما إلى مشاقة (نسالة كتان) [31]، أي ما تبقى من كتان بعد مشطة ليستخدم وقيدًا للنار.

<<
الأصحاح الثاني

جبل بيت الرب

في الأصحاحات (2–4) ركز إشعياء أنظاره على أورشليم - جبل بيت الرب - مع أنه لم يفارقها لكن حنينه إليها وشوقه إلى تقديسها لا يقل عن ذات حنين أنبياء السبي الذين عاشوا بالجسد في بابل أما قلوبهم فتعلقت بمدينة الله التي أصابها الخراب.

1. مقدمة                            [1].

2. جبل بيت الرب                     [2-5].

3. علة رفض الله شعبه              [6-9].

4. بطلان الذراع البشري             [10-22].

1. مقدمة:

"الأمور التي رآها إشعياء بن آموص من جهة يهوذا وأورشليم" [1]. كان قلب إشعياء مشغولاً بشعب الله (يهوذا) وبالمدينة المقدسة (أورشليم)، فقد امتلأ حزنًا على ما بلغ إليه الحال، رأى شعبًا ضربه الفساد، ومدينة تهدم هيكلها الروحي فأنتّ أحشاءه عليها.

أمام هذا الحب الخالص وهبه الله بصيرة وقدم له رؤى ونبوات لتعزيته وتعزية كل نفس جريحة من أجل البشرية، قدم له الله كلمته المحيية.

v   جاء (الكلمة) إلى (هوشع وإشعياء وإرميا) فأنار الأنبياء بنور المعرفة، وجعلهم يرون أمورًا لم يفهموها في ذلك الحين.

العلامة أور يجين[84]

2. جبل بيت الرب:

ماذا قدم الله لإشعياء الجريح النفس؟ حمله بالروح إلى ملء الزمان ليرى يهوذا الجديد - السيد المسيح - وأورشليم الجديدة حيث يُبنى هيكل الرب ويُقام ملكوت الله في القلب... يرى الجماعة المقدسة قادمة من كل الأمم والشعوب لتعبد الرب بالروح والحق في المسيح يسوع مخلص العالم، لذا قال: "يكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه  كل الأمم" [2].

يرى البعض أن هذه النبوة اقتبسها إشعياء عن ميخا النبي (4: 1-5)، أو ربما اقتبسها الإثنان عن مصدر سابق. لكن ما الذي يمنع الروح القدس من أن يهب ذات العطية - النبوة - للنبيين ولغيرهما إذ يجد فيهم القلب المخلص والملتهب نحو خلاص الإنسان وبنيانه، فيقدمها لإشعياء في أيام آحاز ولميخا في أيام حزقيا لتأكيد أن ما ينطق به الوحي لن يسقط[85].

سحب الرب قلب إشعياء إلى ملء الزمان ليرى السيد المسيح الذي يُقيم كنيسته عليه شخصيًا بكونه صخر الدهور، الجبل الذي رآه دانيال النبي المقطوع بغير أيدى الذي يملأ الأرض (دا 2: 34، 45)، الصخرة الحقيقية التي تفيض مياه الروح على شعبه (1 كو 10: 4) والتي لا تستطيع الحية أن تزحف عليه لتقترب إلى شعبه.

يقول القديس أغسطينوس: [الجبل كما تعلمنا الشهادة النبوية هي الرب نفسه[86]].

v    توجد أيضًا جبال غير معروفه لأنها قائمة في مواضع معينة في الأرض... أما هذا الجبل فغير ذلك إذ ملأ كل وجه الأرض، عنه قيل "يكون ثابتًا في رأس الجبال" إنه جبل قائم فوق قمم كل الجبال، "تجرى إليه كل الأمم".

من يعجز عن إدراك ما هو هذا الجبل؟!

من هو هذا الذي يُحطم رأسه بمقاومة هذا الجبل؟!

من يجهل المدينة القائمة على الجبل؟! 

لا تتعجبوا إن كات هذه المدينة مجهولة بالنسبة للذين يكرهون الاخوة، إذ يسلكون في الظلمة ولا يعرفون إلى أين يذهبون، لأن الظلمة أعمت أعينهم. إنهم لا يرون الجبل.

أُريدكم ألا تتعجبوا، فانهم بلا أعين؛ كيف؟ لأن الظلمة أعمتهم. برهن على ذلك؟ لأنهم يبغضون الاخوة!

القديس أغسطينوس[87]

أسس الرب كنيسته حين ارتفع على جبل التجربة (مت 4: 8) ليهبها روح الغلبة والنصرة على قوات الظلمة؛ ذهب بنفسه إلى الجبل، وكما يقول القديس جيروم: [لم يصعد كمن هو مُلزم أو من هو أسير، إنما أُقتيد باشتياق إلى المعركة]، وأيضًا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ذهب الشيطان إلى الإنسان (آدم) ليجربه، لكن إذ لا يستطيع الشيطان أن يُهاجم المسيح ذهب المسيح إليه].

أسس أيضًا كنيسته على جبل التعليم (مت 5: 1) حيث قدم لشعبه وصيته سرّ حياة. وأيضًا على جبل تابور حيث أعلن بهاءه ودخل بكنيسته إلى السموات عينها (لو 9: 41)، وأخيرًا على جبل الجلجثة حيث تنعم بعريسها الذبيح مخلص البشرية بدمه الثمين. على هذا الجبل بسط الرب يديه على الصليب ليجتذب إليه الكل (يو 12: 32)، لهذا يكمل النبي قائلاً: "وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب" [2-3].

معروف أن الشريعة صدرت من جبل سيناء للشعب اليهودي، لذا فهو يتحدث عن شريعة جديدة تصدر من أورشليم موجهة إلى المسكونة كلها.

v   هذه الشريعة ليست ملكًا لأمة واحدة بل لكل الأمم، فإن شريعة الرب وكلمته لا تبقيان في صهيون وأورشليم بل تنتشران في كل المسكونة. لذلك يقول الشفيع نفسه لتلاميذه الخائفين: "هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير..." (لو 24: 44-47). هذا هو الطريق المسكوني لخلاص النفس الذي سبق أن أعلنه الملائكة والأنبياء القديسين[88]...

v   هناك (في أورشليم) أخبر التلاميذ: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والأبن و الروح القدس" (مت 28: 19)[89].

v   يتعين أن يُعطى (الروح القدس) بعد قيامة المسيح في ذات المدينة التي تبدأ فيها الشريعة الجديدة - أي العهد الجديد - فإن الشريعة الأولى، التي تدعى العهد القديم أُعطيت على جبل سيناء خلال موسى، أما هذه فأعطيت بالمسيح كما سبق التنبؤ عنها

"من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب"[90].

القديس أغسطينوس

ويلاحظ في هذه الكنيسة المؤسسة على جبل الجلجثة والمُنطلقة من أورشليم تحمل قوة الروح القدس الآتي:

أ. كنيسة ثابتة، تقوم على جبل بيت الرب الثابت [2]، يدعوها الرسول بولس "جبل صهيون" قائلاً: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 22-23). سرّ قوتها وثباتها هو الرب نفسه الذي يقدسها له ويرفعها إلى سمواته فتحمل سماته.

ب. عالية في رأس الجبال [2]؛ لقد صارت نور العالم، تجاهر بالحق علانية دون خوف (أع 16: 26). أعضاؤها قائمون بالجسد على الأرض أما قلوبهم وأفكارهم فمرتفعة كما فوق الجبال العالية تسبح في جو السماء. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يكفي انك لا تبقى على الأرض ولا تسكن الوديان ولا تبطىء في الأماكن المطمورة[91]].

ج. جذابة للأمم والشعوب [2-3]: أبوابها مفتوحة للجميع، تحمل أمومة حب نحو كل البشرية مستمدة من حب عريسها الجامع لكل البشر.

د. عملها المستمر أن تصعد بالبشر [3]. بالحب تنزل إليهم دون أن تفقد قدسيتها أو طبيعتها السماوية لكي ترفع الكل بروح الله القدوس إلى أورشليم العليا فيمارسوا الحياة الجديدة السماوية في المسيح يسوع.

هـ. رسالتها اعلان طريق الرب [3]، تحمل كلمته إلى كل نفس وتقدم وصيته ليعيشها كل مؤمن، فينعم بشريعة الحرية (غل 4: 26).

و. تعلن أحكام المسيح العادلة، حيث يخضع المؤمنون من كل الأمم لملكوته وسيادته، كسيادة روحية فريدة في نوعها.

ز. تهب سلامًا بين النفوس المقدسة له، إذ لا يرون لهم أعداء بشريين على كل وجه الخليقة. لهذا يقول: "فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناحل؛ لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد" [4]. المسيحي يمتلىء قلبه سلامًا حتى تجاه مقاوميه، فتتحول طاقاته الداخلية من الصراع إلى العمل البنَّاء، من أدوات حرب إلى أدوات انتاج للرخاء.

كلمة الله تُحوّل الأرض سماءً، فيحل السلام السمائي في حياة البشر، وتُقام مملكة السلام أو ملكوت الله المفرح في داخلهم التي لا تستطيع عداوة الناس ولا قسوة الأحداث أن تهزها.

v   خرج من أورشليم إلى العالم رجال هم اثنا عشر بالعدد؛ كانوا أميين ليس لهم قدرة على الكلام، لكنهم بقوة الله أعلنوا لكل جنس البشر أنهم مرسلون من المسيح ليعلموا الجميع حكمة الله. ونحن الذين كنا قبلا نُقاتل بعضنا البعض ليس فقط امتنعنا عن الحرب ضد أعدائنا بل وصرنا لا نكذب ولا نخدع الذين يفحصوننا (للمحاكمة) ونموت بإرادتنا معترفين بالمسيح.

الشهيد يوستين[92]

ح. التمتع بالمسيح "نور الرب"، إذ سمع إشعياء النبي: "يا بيت يعقوب هلم نسلك في نور الرب" [5]. السيد المسيح الحاّل في كنيسته هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب 1: 3)، هو شمس البر والشفاء في أجنحتها (ملا 4: 2). يشرق على كنيسته فتصير هي ذاتها نورًا للعالم، تقدم النور للجالسين في ظلمة الخطية، تُقدم مسيحها لكل أحد.

هذه الدعوة الموجهة لبيت يعقوب للسلوك في نور الرب هي دعوة لرفع برقع الحرف عن الناموس لكي يكتشف بيت يعقوب "المسيا" المختفي وراء الكلمات، تتمتع بكلمة الله لا كوصايا حرفية وإنما كشركة مع المسيح النور الحقيقي.

من هم بيت يعقوب؟ يُجيب الشهيد يوستين: [يليق بنا هنا أن نلاحظ وجود نسلين ليهوذا، يوجد نسلان، كما يوجد بيتان ليعقوب؛ واحد مولود من لحم ودم والآخر من الإيمان والروح[93]].

3. علة رفض الله شعبه:

يُقارن النبي بين تصرفات شعبه المعاصرين له وتصرفات الأمم في المستقبل حيث يقبلون الايمان بالله المخلص ويدخلون ملكوت السلام وينعمون ببركات فائقة بسكناهم في جبل بيت الرب.

رفض بيت يعقوب الله عمليًا بالرغم من اهتامه الشديد بحرفية العبادة لذا رفضه الله، وكان ذلك رمزًا لرفض اليهود لشخص السيد المسيح تحت ستار دفاعهم عن الحق وغيرتهم على شريعة موسى.

قدم الله أربعة أسباب لرفض الشعب، وهي: التشبه بالغرباء، حبهم لغنى العالم، اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية، قبولهم العبادة الوثنية.

أ. التشبه بالغرباء: "امتلأوا من المشرق" [6].

لقد أفرزهم الله لنفسه ليمتلئوا من روحه ويحملوا حكمته السماوية ويكونوا شهود حق وخميرة مقدسة للعالم، لكنهم فتحوا أبوابهم للغرباء خاصة بني المشرق، يتعلمون منهم السحر والعبادة الوثنية والرجاسات عوض الشهادة أمامهم بعمل الله فيهم. من أجل المكسب المادي والانغماس في الرجاسات شجعوا الوثنيين على الإقامة في وسطهم، واختلطوا بهم (هو 7: 8)، وخانوا العهد الإلهي.

يقول أيضًا: "وهم عائفون كالفلسطينيين" [6]. عوض الرجوع إلى الله في كل أمورهم تشبهوا بالفلسطينيين في ذلك الوقت مُلتجئين إلى العيافة والعرافة، مخالفين الوصية الإلهية (لا 19: 26).

ب. انشغالهم بغنى العالم والماديات: "امتلأت أرضهم فضة وذهبًا ولا نهاية لكنوزهم". امتلأت قلوبهم بمحبة المال، فحسبوه قادرًا على إشباعهم، واحتل موضع الله في فكرهم وأحاسيسهم.

ج. اتكالهم على إمكانياتهم العسكرية: "امتلأت أرضهم خيلاً ولا نهاية لمركباتهم" [7]. اتكلوا على الخيل والمركبات عوض الإيمان والرجوع إلى الله.

د. قبولهم العبادة الوثنية [8].

هذه هي الأسباب التي من أجلها رفض الله شعبه، أما ثمرة ذلك فهو الانحدار المستمر عوض النمو والصعود [9]. انهيار في كل جوانب الحياة عوض التقديس بالتمام بالرب الصاعد إلى السموات.

4. بطلان الذراع البشرى:

إن كان الله قد رفض شعبه فلأن شعبه مُصرّ على رفض الله بكل وسيلة، لكن الله يبقى في حبه مترفقًا بهم وبكل البشرية معلنًا خلاصه للإنسان.

إذ تعاظم الإنسان جدًا في عيني نفسه وتضخمت الأنا، يعلن الرب بهاءه فيتصاغر الإنسان ويطلب الخلاص. يدخل كما في صخرة ويختبىء في التراب أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته [10]. عندما ظهر الله لإبراهيم أدرك أب الآباء أنه تراب ورماد، وعندما رأى موسى مجد الرب ارتعب وارتعد، وهكذا التصقت نفس أيوب في التراب. ليس شيء يُحطم كبرياء الإنسان مثل ملاقاته مع الله. يتحطم الكبرياء ولا تتحطم نفسه بل تُشفي وتمتلئ رجاء في الرب.

ما هي الصخرة التي نختفي فيها أمام العظمة الإلهية إلاَّ السيد المسيح، إذ فيه نجد لأنفسنا ملجأ أمام العدل الإلهي. لذلك عندما اشتهي موسى النبي أن يرى المجد الإلهي قيل له: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش... هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة (المسيح صخرتنا) ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة (الاتحاد مع المسيح) واسترك بيدي حتى أجتاز" (خر 33: 20-21).

مادمنا نتكئ على مسيحنا الصخرة الحقيقية ونثبت فيه ونوجد كما في نقرة داخله نرى بهاء المجد الإلهي، أما إن اتكلنا على أنفسنا أو على الذراع البشري فإننا نهلك ونحرم من معاينة الله .

يُشبه النبي تشامخ الإنسان بالآتي:

أ. "أرز لبنان العالي المرتفع وكل بلوط باشان" [13] تُشير إلى الاتكال على غنى موارد الطبيعة، كما تُشير إلى الملوك والقادة المتعجرفين مثل رَبْشاقي.

ب. "الجبال والتلال الشامخة" [14]، تُشير إلى الصلابة والجمود، وربما تعني أيضًا الممالك الكبرى والممالك الصغرى التي قانونها الكبرياء مع العنف.

ج. "الأبراج العالية والأسوار المنيعة" [15]، تُشير إلى الاتكال على أعمال البر الذاتي، فالإنسان قادر أن يرتفع إلى فوق يُحصِّن ذاته ضد كل عدو؛ لعلها تُشير إلى المدن الحصينة.

د. "سفن ترشيش والزينات والأعلام المبهجة" [16]، تُشير إلى الانهماك بالتجارة والمال مع الترف والغنى على حساب الاهتمام بالنفس.

التشبيهات السابقة كلها تدور حول اعتداد الإنسان بذاته وبإمكانيات الطبيعة ومواردها مع تقدمه المستمر حاسبًا أنه قادر بنفسه على خلق جو من الشبع والفرح والسلام مع آمان واستقرار في العالم متجاهلاً الذراع الإلهي. لهذا فهو محتاج أن يتجلى الرب له ليكشف له عن زوال كل هذه الأمور خاصة في يوم الرب العظيم.

ارتبط الكبرياء بالعبادة الوثنية لهذا يؤكد النبي أنه عندما يكتشف الإنسان عجز الأوثان يلقي بها أمام الجرذان والخفافيش [20] مستخفًا بها، عوض أن يأخذها معه في أسفاره لمساندته. عوض تكريمها في أماكن للعبادة يلقى بها في أماكن ظلمة مهجورة تلهو بها الفئران والخفافيش.

أخيرًا يدرك الإنسان خطأ الاتكال على الذراع البشري، فيقول النبي: "كفوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة، لأنه ماذا يُحسب؟!" [22]. ليصمت كل إنسان مهما بلغت عظمته أو قدرته أو غناه، فإنه تخرج نسمة حياته فلا يكون بعد في العالم. تخرج روحه فيعود إلى التراب (مز 104: 29).

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

مجاعة مهلكة

خلق الله العالم بكل إمكانياته المدركة وغير المدركة من أجل سلام الإنسان وسعادته، حتى يفرح كل بشر بالله محبوبه، متكأ عليه، مشتاقًا أن ينعم بشركة حب أعمق. أما وقد انشغل الإنسان بالعطية لا العاطي استند على "كل سند خبز وكل سند ماء" [1]. صار الإنسان يفتخر بغناه وقدراته وكثرة خبراته وجماله عوض افتخاره بالرب واتكاله عليه. لهذا ينتزع الله العطايا ويحرم الإنسان من البركات الزمنية، لا للإنتقام منه ولا لإذلاله أو حرمانه وإنما لكي يرجع بقلبه إلى الله مصدر حياته وشبعه وسلامه وفرحه ومجده فينال في هذا العالم أضعافًا وفي العالم الآتي حياة أبدية؛ ينال الله نفسه نصيبًا له وميراثًا!

هنا يُهدد النبي بحدوث مجاعة وحرمان وتحطيم للإثنى عشر عمودًا التي تتكئ عليها الجماعة [للخبز والماء، الجبابرة (القادرين) ورجال الحرب، القضاة، الأنبياء، العرافين، الشيوخ، رؤساء الخمسين، المعتبرين، المُشيرين الماهرين بين الصناع، الحاذقين بالرقي]. لقد أنتزع الرب الموارد الطبيعية خلال المجاعة والطاقات البشرية خلال السبي حتى يرجعوا إليه.

1. انتزاع سند الخبز وسند الماء               [1].

2. انتزاع القيادات الناضجة                     [2-15].

3. انتزاع إمكانيات الترف والتشامخ [16-26].

1. انتزاع سند الخبز وسند الماء:

"فانه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن وكل سند خبز وكل سند ماء" [1].

حين يسمح الله لأورشليم ولبني يهوذا، شعبه العروس، أن تصير في عوز إلى الخبز والماء إنما يُحطم السند والركن لعلها تعود فتفكر في الاتكاء على حبيبها (نش 8: 5) لتجد فيه شبعها وارتواءها.

لقد انتزع الله من شعبه رائحة اللحم والكُرَّات والبصل بإخراجهم من مصر لكنه

وهبهم المن السماوي في البرية وسار بهم إلى أرض تفيض عسلاً ولبنًا؛ حرمهم من مياه الترع ليُقدم لهم الصخرة التي تتبعهم تفيض ماءً، وكانت الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4). الله يحرمنا من السند الزمني ليصير هو سندنا وخبزنا السماوي والينبوع الحيّ الذي يروي نفوسنا بكل طاقاتها.

هنا يُهدد النبي بحدوث مجاعة كثمرة للعصيان (لا 26، تث 28)، وقد تحقق ذلك في التاريخ عند خراب السامرة وأورشليم.

ما هو أخطر، حدوث جوع لكلمة الله كما جاء في عاموس النبي: "هوذا أيام تأتي بقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).

v   (كلمة الله) طعام للنفس، وحليها، وآمانها، ففي عدم الاستماع لها مجاعة وحرمان!   

القديس يوحنا الذهبي الفم[94]

2. انتزاع القيادات الناضجة:

أقام الله لشعبه قيادات ناضجة قادرة على العمل مثل موسى العظيم في الأنبياء وداود الملك البار ودبورة النبية والقاضية الخ... لكن الشعب انحرف مع قياداته العسكرية والقضائية والمدنية والروحية. اتكلوا على الذراع البشري بقدراته وفكره وظنوا أنهم ينجحون ويتقدمون بالرغم مما حلَّ بهم وبقياداتهم من فساد. لهذا انتزع الله منهم القيادات الناضجة الحكيمة ليتركهم يقيموا لأنفسهم قيادات ضعيفة وعاجزة، فيدركوا حاجتهم إلى العون الإلهي حتى في التمتع بقيادات حيّة وقوية.

"(ينزع) الجبار (القدير) ورجل الحرب؛ القاضي والنبي والعرّاف (المتدبر) والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمُشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية (الحاذق في الخطابة)" [2-3].

ربما قصد بانتزاعهم ليس طردهم ولا موتهم وإنما تجريدهم مما وهبهم من قدرات وإمكانيات، فيضعف الجبابرة وينهار رجال الحرب أما العدو ويفقد القضاة الحكمة وتفسد بصيرة الأنبياء الكذبة الخ... بهذا يجني الشعب ثمرة اتكاله على الذراع البشري، إذ يجد نفسه منهارًا في الداخل والخارج.

هذا ما يحل بالإنسان الرافض لعمل الله فيه؛ تُنزع النعمة الإلهية (القدير) عنه؛ ويُحرم من الشركة مع السمائيين (رجال الحرب الروحيين) ليجد نفسه بلا عون إلهي ولا سند سماوي؛ ويفقد مواهب الروح من حكمة (القاضي) وتمييز (النبي)، ولا يستطيع أن يأخذ قرارًا (انتزاع المتدبر والشيخ)؛ ويشعر بالفشل حتى في عمله الزمني (انتزاع الماهر في الصناعة)؛ ويعجز حتى عن الكلام (انتزاع الحاذق في الخطابة). بمعنى آخر يفقد الإنسان حياته وقدراته حتى الطبيعية ليعيش في فراغ داخلي وفساد وفشل بالرغم مما يحمله من مظاهر القوة والحكمة والغنى والنجاح.

والآن إذ ينتزع الله القيادات الناضجة ويفقد الإنسان نعمة الله، ماذا يحدث؟

أ. "وأجعل صبيانًا رؤساء لهم وأطفالاً تتسلط عليهم" [4]. حين ملك رحبعام بن سليمان قَبِل مشورة الأحداث المتسرِّعة العنيفة والمتطرفة ورفض مشورة الشيوخ الحكيمة المتزنة والمملوءة حبًا وترفقًا (1 مل 12)، فانقسم الشعب وحلت الحروب الداخلية بين الأسباط، وسادت العداوة عوض الحب والوحدة.

الله محب للشباب، يسندهم ويطلب نموهم المستمر، لكن ماعناه هنا بالصبيان والأطفال هو عدم النضوج الروحي والفكري. لقد كان يوحنا المعمدان جنينًا ناضجًا روحيًا، شهد للسيد المسيح وهو بعد في أحشاء البتول مريم، بينما كان كثير من الكتبة والفريسيين والصدوقيين والكهنة ناضجين من جهة السن دون الروح، فكانوا يسلكون كصبيان، يطلبون قتل السيد المسيح والتخلص منه. هكذا نرى في تاريخ شعب الله منذ نشأته حتى اليوم كثير من الشباب قادة ناضجين بينما نجد رجالاً وشيوخًا سلكوا بروح الطفولة غير الناضجة. لذا يوصى الرسول جميع المؤمنين: "كونوا رجالاً" (1 كو 16: 13)، بمعنى النضوج والقوة الروحية، إذ يليق بكل المؤمنين: رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخًا وشبابًا أن يكونوا من جهة الروح رجالاً ناضجين.

يُعلق العلامة أوريجانوس على إحصاء الشعب الوارد في عدد 1 إذ شمل الرجال دون الأطفال أو النساء قائلاً: [يُعلمني النص الحالي أنه إذا اجتذت سذاجة الطفولة، أي توقفتُ عن أن يكون لي أفكار الطفولة، إذ "لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل" (1 كو 13: 11)، أقول قد صرت شابًا قادرًا على الغلبة على الشرير (1 يو 2: 13)، فظهرت كمستحق أن أكون بين الذين قيل عنهم إنهم يسيرون في قوة... وأُحسب أهلاً للتعداد الإلهي. لكن إن كان لأحد منا أفكارًا جسدانية متأرجحة... فلا يستحق أن يُحصى أمام الله

في سفر العدد الطاهر والمقدس[95]].  

ربما يُشير إشعياء النبي إلى منسي الذي تولى الحكم وهو في سن الثانية عشرة عندما مات والده حزقيا.

ب. "ويظلم الشعب بعضهم بعضًا والرجل صاحبه، يتمرد الصبي على الشيخ والدنئ على الشريف" [5]. علامة فقدان القيادات السليمة الناضجة اختلال الموازين فيسود قانون الظلم ويحل روح الفوضى في حياة الجماعة كما في داخل الإنسان. إذ لا توجد قيادة صادقة ومخلصة يطلب كل إنسان ما لِذاته على حساب الغير، ويحسب كل واحد أنه أحكم وأفضل من غيره.

أقول حينما يفقد الإنسان قيادة الروح القدس يحل في داخله قانون الأنانية والظلم والتمرد، فيدخل في صراعات بلا حصر بين النفس والجسد وبين العقل والعاطفة والحواس، ويتمرد الجسد على النفس ليمتطى حياة الإنسان بكُلّيته ويقودها في شهوات جسدية مع خنوع واذلال للملذات الزمنية.

ج. الدخول في حالة يأس شديد، خلالها يرفض أي إنسان استلام مسئولية، فيمسك كل إنسان بأخيه ويقول له: "لك ثوب" علامة قبوله رئيسًا، لأن تسليم الثوب للغير هو رمز لتسليم الإنسان جسده تحت قيادة الغير. لكن بسبب ما حلّ بالبلد من خراب مع عجز الجميع عن التصرف يقول كل واحد: "لا تجعلوني رئيس شعب" [7]، معللاً ذلك بقوله: "لا أكون عاصبًا (اضمد الجراحات) وفي بيتي لا خبز ولا ثوب" [7]. هكذا صار الكل في جوع وعري، فمن يقبل الرئاسة؟ من يقدر أن يضمد جراحات شعب كهذا بينما هو نفسه لا يجد طعامًا أو ملبسًا؟ هذا ثمر طبيعي لمن يطلب مخلصًا بشريًا يظن أنه قادر على انقاذه وقيادة حياته دون الالتجاء إلى المخلص الإلهي الفريد. يقول المرتل: "لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني آدم حيث لا خلاص عنده" (مز 146: 3).

د. فقدان الحياء ومخافة الله، إذ صار لهم الوجه المكشوف الذي لا يخجل من ارتكاب الشر: "يُخبرون بخطيتهم كسدوم، ولا يخفونها" [9]. بلغت الخطورة أن أورشليم انحدرت في عثرات متكررة لا عن ضعف أو جهل وإنما عن عمد لإغاظة الرب [9]. ترتكب الشرور بالقول والفعل بلا خجل أو حياء. هذه هي صورة العالم في العصر الحديث إذ يشعر كثير من الشباب أن ما يمارسه من انحرافات في كل صورها هو حق طبيعي للإنسان.

يقول: "نظر وجوههم يشهد عليهم" [9]، فإن مجرد التطلع إلى وجوههم يكشف عن بصمات الخطية وحرمانهم من عمل النعمة عنهم، وكما يقول الكتاب: "أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس" (1 يو 3: 10).

إن كان الأشرار ظاهرين وقد صاروا أغلبية لكنه توجد قلة مقدسة للرب، لن يتجاهلها الله، لا تضيع ولا يصيبها ضررًا، لذا يقول النبي: "قولوا للصديق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم" [10]. في وسط الضيق الشديد يحفظ الرب صديقيه، ويحوّل كل الأمور التي تحل بهم إلى خيرهم ومجدهم. لقد عانى يوسف الصديق الكثير، وكانت أتعابه هي بعينها طريق مجده؛ فنراه يقول لاخوته: "أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد بي خيرًا" (تك 50: 20).

الله لا يُهلك البار مع الأثيم (تك 16: 25)، إنما يحفظ أبراره وقت التجربة، يخفيهم في مظلته في يوم الشر ويسترهم بستر خيمته (مز 27: 5)، يعرفهم إذ نقشهم على كفه (إش 49: 16).

يُعلق القديس يوستين على قول النبي: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لأنفسهم شرًا، قولوا للصديق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم" [9-10]: [حقًا إن يدكم مرتفعة لارتكاب الشر لأنكم قتلتم المسيح ولا تتوبون، إنما لا تزالوا تكرهون وتقتلون من يؤمنون به في الله أب الكل قدر ما تستطيعون، وتلعنوننا دون سبب، وتفعلون هكذا مع الذين يقفون في صفنا. أما نحن فجميعنا نُصلي لأجلكم ولأجل كل البشر كما علمنا مسيحنا رب الكل عندما أمرنا أن نُصلي حتى من أجل أعدائنا وأن نحب مبغضينا ونبارك لأعنينا[96]]. ويقول القديس كيرلس الأورشليمى: [قيدوا يسوع وجاءوا به إلى قاعة رئيس الكهنة. أتُريد أن تعرف أن هذا أيضًا قد كُتب عنه ونُطق به؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لأنفسهم شرًا قائلين: لنُقيد البار فإنه مسبب متاعب لنا"[97]].

لقد ظنوا أنهم يصنعون بالبار شرًا لكنهم كانوا يصنعون ذلك لأنفسهم فيجنون ثمر عملهم لا كعقوبة إلهية للانتقام وإنما كثمر طبيعي لتصرفاتهم وحياتهم. "ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تعمل به" [11]. "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد" (2 كو 9: 6).

هـ. حب السلطة لا رعاية الحب: الرؤساء الحقيقيون أشبه بآباء يحتضنون الكل أبناء لهم، يقدمون حياتهم مبذولة من أجل الشعب، لكن متى أُنتزعت نعمة الله يتحول الرؤساء - حتى الدينيون - إلى متسلطين، لا همّ لهم سوى الدفاع عن مراكزهم وسلطانهم بتبريرات متنوعة تحت ستار الدفاع عن الحق وهيبة المراكز القيادية والقدرة على بتر الشر. هؤلاء يتحولون من آباء باذلين إلى أطفال صغار تسيطر عليهم "الأنا"، أو إلى ما هو أشبه بنساء (رمز للضعف الجسماني) يطلبون السيطرة، إذ يقول: "شعبي ظالموه أولاد، ونساء يتسلطن عليه. يا شعبي مرشدوك مضلون ويبلعون طريق مسالكك" [12].

يرى بعض الدارسين أن هذا تحقق حرفيًا إذ تسلم بعض الصبيان الملك في يهوذا وقامت بعض النساء بأدوار خطيرة في تدبير الأمور. أما من الجانب الرمزي فالمرشدون هنا خاصة الكهنة والأنبياء تسلط عليهم روح التهور وحب السيطرة، فانحرفوا عن الحب الحقيقي والرعاية الأمينة. هؤلاء في نفاقهم يقولون للشرير أنت صِدّيق (أم 24: 24). وكما يقول الحكيم: "صار موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور" (جا 3: 16).

وسط هذا الفساد خاصة من جانب القيادات يتدخل الله من أجل البسطاء في شعبه، فينتصب لمحاكمتهم بكونهم الكرامين الذين أكلوا الكرم عوض الاهتمام به، موبخًا إياهم هكذا: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم؛ ألا يرعى الرعاة الغنم؟! تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم" (حز 34: 2-3). يسلبون حقوق البائسين كما سلبت ايزابل حقل نابوت اليرزعيلي (1 مل 21)؛ يسحقون الشعب ويطحنون وجوه البائسين [15].

3. انتزاع إمكانيات الترف مع التشامخ:

بعد الحديث عن محاكمة القيادات الفاسدة بدأ الحديث عن بنات صهيون المتشامخات، لعلهن كن وراء فساد هذه القيادات. فقد نسيت بنات صهيون انتسابهن لصهيون وللرب وسلكن كالوثنيات في عجرفة مع ترف ولهو.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم توجه هذه الكلمات إليهن وحدهن وإنما هي موجهة إلى كل امرأة تتشبه بهن. يقف بولس أيضًا كمتهم فيقول لتيموثاوس ألا تكون زينة النساء "بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن" (1 تى 2: 9). فإن لبس الذهب ضار في كل موضع خاصة عندما تدخل (المرأة) الكنيسة وتجتاز أمام الفقير. أتريد أن تكوني موضع اتهام؟ احملي مظهر القسوة وعدم الإنسانية[98]].

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن حياتنا هي وقت للجهاد الروحي لا للترف في الملبس والتشامخ في المشي[99]. يليق بنا الآن أن نجاهد كما فمعركة روحية فلا نهتم بالمظاهر الخارجية إنما بنوال النصرة والغلبة فسيأتي حتمًا وقت المجد العلني.

مرة أخرى يُطلبنا ذات القديس أن نركز أنظارنا على مسيحنا فنهتم بالزينة الداخلية اللائقة به ولا نطلب الأمور الظاهرة. [لك المسيح عريسك أيتها العذراء، فلماذا تطلبين أن تجتذبي محبوبين بشريين؟![100]].

يُقدم لنا النبي بعض ملامح الخلاعة التي اتسمت بها بنات صهيون:

أ. التشامخ: "وقال الرب من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق..." [16]. لقد سيطر الكبرياء عليهن فصرن متشامخات، يمشين ممدودات الأعناق بعد أن نسين آباءهن وأمهاتهن الذين انحنت أعناقهن تحت نير العبودية في مصر.      

"قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح، تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19).

ب. الغمز بالعيون [6]: انشغلن بأصطياد قلوب الرجال وأسرها كثمرة طبيعية لفراغ القلب الداخلي، فنصبن بعيونهن شباكًا للموت، إذ يقول الحكيم: "فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها" (جا 7: 26).

وجاءت كلمة "غامزات" في الأصل بمعنى يُجمّلن عيونهن بمسحوق أسود، إذ كان الشرقيون مغرمين بالعيون الواسعة المحاطة بدائرة سوداء[101].   

ج. الخلاعة في المشي: "خاطرات في مشيهن، يخشخشن بأرجلهن" [16]، دلالة على فساد القلب الداخلي. يمشين في عجب وخيلاء ويضعن "خلاخيل" في أرجلهن أو أجراسًا في أحذيتهن للفت النظر إليهن.

ماذا يفعل الرب بهؤلاء البنات المتعجرفات السالكات في لهو وترف؟

أ. "يُصلّع الرب هامة بنات صهيون ويعري الرب عورتهن" [17]. الصلع أو القرعة بالنسبة للفتاة علامة القبح الشديد، فقد وهب الله المرأة الشعر تاج مجد لها لتعيش مكرمة ومحبوبة في الرب، يُعجب بها رجلها ويحبها ويكرمها فتشاركه الحياة الأسرية على قدم المساواة، بكونها الجسد الذي لا يستغنى عنه الرأس. لكنها إذ تخرج عن الناموس الطبيعي بروح الكبرياء واللهو تفقد حتى جمالها الطبيعي وكرامتها فتصير كمن أُصيبت بقرع.

تعرية عورتها كناية عن كشف فساد طبيعتها، أو إشارة إلى عُريها، ليس من يبسط ذيله عليها ويستر حياتها ويهبها اسمه لتحتمي فيه وترتبط به.      

هذه هي حالة النفس البشرية الساقطة بالكبرياء، إذ تفقد عطايا الله لها، وينفضح فساد طبيعتها فتصير بلا جمال ولا قوة ولا كرامة، تسخر بها أتفه الخطايا ويلهو بها مجرد الخيال وأحلام اليقظة.

ب. انتزاع كل مظاهر الغنى والزينة من خلاخيل وضفائر وأهله وحلقان وأسوار وبراقع وعصائب وسلاسل ومناطق وحناجر الشمامات (خمارات - طُرَّح) واحراز ومرائي (ملابس شفافة للإثارة الجسدية) وقمصان (ملابس داخلية غالية) وعمائم وأزُر.

هكذا ينزع عنها الزينة الخارجية والملابس الداخلية لتصير في عرى وقبح... لعلها ترجع إلى الله وتطلب أن يستر عليها بنفسه فيصير الرب نفسه ملبسها الساتر عليها (غل 3: 27؛ كو 3: 10).

يسمح الله بهذا التأديب لبنات صهيون لكي تجد في المخلص سرّ زينتها ومجدها.

هنا يُشير إلى ما يحل ببنات صهيون خلال السبي، إذ يقول:

"فيكون عوض الطيب عفونة" [24]؛ بعد أن كن منشغلات بالطيب والروائح الذكية، ينفقن الكثير على ذلك، سُبين بواسطة العدو وحُملن إلى أرض غريبة ينهمكن في العمل دون راحة فتصير رائحة العرق كريهة. هذا ما حدث فعلاً، أما من الجانب الروحي فإن النفس المتكبرة تفقد زينتها الخارجية المخادعة فتنكشف عفونة طبيعتها وفقرها وعريها، لعلها تشعر بالحاجة إلى من يخلصها ويشبعها. وكما قيل لملاك (أسقف) كنيسة اللاودكيين:" لأنك تقول إني أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أُشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفى بالنار لكي تستغنى، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك، وكحل عينيك بكحل لكي تبصر (رؤ 3: 17-18).

يتحدث القديس غريغوريوس النزينزى عن تقديس حاسة الشم فينا حتى لا يتحول طيب الروح القدس فينا عنا فتصير لنا عفونة طبيعتنا الذاتية، قائلاً: [لنُشفى أيضًا من جهة الشم...، وبدلاً من أن يسكب علينا التراب عوض الروائح الذكية فلنشتم رائحة المسحة التي سُكبت علينا التي تقبلناها روحيًا فشَّكلتنا (من جديد) وغيرّتنا، فتخرج منا رائحة زكية[102]].  

يقول النبي "عوض المنطقة حبل" [24]، بعد أن كانت بنات صهيون يتمنطقن بمناطق ذهبية مزخرفة ومُرصّعة بحجارة كريمة رُبطن بالحبال لسحبهن إلى السبي كمذلولات. صورة مؤلمة تكشف عن ثمر الخطية!

"وعوض الجدائل قرعة"، كعلامة للإذلال يُقص شعر الشريفات ليظهرهن قبيحات.

"عوض الديباج زنار المسح، وعوض الجمال كيّ" [24]... هكذا صارت ملابسهن المسوح عوض الثياب الفاخرة وظهر الكيّ على جبائهن أو أيديهن علامة العبودية... إذ كان العبيد من الجنسين يُختمون بختم معين بالكيّ ليعرف السيد من هم له.

في أختصار عبّر عن تحطيم حياتهن تمامًا لاتكالهن على المظاهر الخارجية وعلى الذراع البشري، لذا يقول: "رجالك يسقطون بالسيف، وأبطالك في الحرب، فتئن وتنوح أبوابها وهي فارغة تجلس على الأرض" [25-26]. مات الرجال وسُبيت النساء وصارت المدينة العظيمة كما في فراغ!

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع

غصن الرب هو العلاج

في الأصحاحات السابقة قدم لنا الوحي الإلهي صورة مؤلمة لما بلغه الإنسان من فساد وانحلال بسبب الخطية حيث فقد الإنسان جماله وكرامته وأكله وشربه وزينته حتى حياته ذاتها، وصار العلاج الوحيد هو مجيء السيد المسيح "غصن الرب" يرد للإنسان جمال طبيعته وبشبعه لا بتقديم خيرات معينة بل بتقديم "نفسه" سرّ حياة وفرح وشبع.

1. الحاجة إلى المخلص                        [1].

2. غصن الرب                                 [2].

3. البقية المقدسة                              [3-4].

4. حلول المسيح في وسط كنيسته            [5].

5. كنيسة المسيح مظلة وملجأ                 [6].

1. الحاجة إلى المخلص:

"فتمسك سبع نساء برجل واحد في ذلك اليوم قائلات: نأكل خبزنا ونلبس ثيابنا، ليُدع فقط اسمك علينا، انزع عارنا" [1].

هؤلاء النساء السبع هم جميع الأمم من بينهم اليهود، فقد شعر الكل بفراغ شديد يجتاح الأعماق بسبب فساد الطبيعة البشرية. تجتمع هذه الأمم كعروس تطلب عريسها، تُريد اسمه لينزع عار فسادها، حينئذ تأكل خبزها وتلبس ثيابها. مسيحها أهم من كل احتياجاتها، فيه تجد كل الشبع والستر من العُري والحماية من كل عار.

هذا من الجانب الرمزي الروحي، أما من الجانب الحرفي فقد تنبأ إشعياء النبي عما كان سيحل بيهوذا حيث يتعرض لحروب طاحنة خلالها يُقتل عدد كبير من الرجال، فتشتاق كل إمرأة أن تجد لها رجلاً تحتمي تحت إسمه مهما كلفها الأمر. فهي مستعدة أن تُشاركها فيه ست نساء أخريات وهذا أمر لا تطيقه السيدة بطبيعتها؛ بل وتطلب من رجلها ألا يستلزم بشيء إنما تأكل وتشرب من تعبها هي الأمر الذي يُخالف الطبيعة نفسها... هذا كله لأنها تُريد أن تنجب منه فينزع عنها عارها (تك 30: 23، 1 صم 1: 11).

2. غصن الرب:

الآن، إن كانت البشرية بكل شعوبها (سبع نساء) اكتشفت حاجتها إلى المخلص، فها هو النبي يبشرها بمجيئه قائلاً: "في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدًا وثمر الأرض فخرًا وزينة للناجيّن من إسرائيل" [2].

يُقصد بـ "ذلك اليوم" ملء الزمان (غل 4: 4) الذي فيه تجسد ابن الله الوحيد الجنس، الذي دُعى "غصن الرب"، أو "الغصن" (إر 23: 5، 33: 15 ؛ زك 3: 8؛ 6: 12). هو غصن الرب وغصن برّ لداود، إذ هو المولود قبل كل الدهور أزليًا من ذات جوهر الآب وبتجسده وُلد من نسل داود.

بدخوله إلى العالم أعلن البهاء الإلهي والمجد الفائق على المؤمنين الغرباء البسطاء كما على المخلصين من اليهود. وكما قال سمعان الشيخ "نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل".

نبت هذا الغصن بتجسده، فحلّ في وسطنا ليعكس البهاء الإلهي على طبيعتنا، فيقول لكنيسته: "خرج لكِ أسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ بقول السيد الرب" (حز 16: 14).

كلمة "غصن" تُعادل أيضًا "ناصرة "، لذا يقول الإنجيلي: "لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه يُدعى ناصريًا" (مت 2: 23).

3. البقية المقدسة:

من الذي يتمتع بغصن الرب؟

"الذي يبقى في صهيون والذي يُترك في أورشليم" [3]. هؤلاء هم القلة التي قبلت الإيمان بالسيد المسيح من جماعة اليهود، بقوا في صهيون الروحية، في الكنيسة أورشليم الجديدة.

من الجانب الحرفي تُشير إلى البقية الباقية من السبي، أما من الجانب الروحي فهي القلة المقدسة، القطيع الصغير الذي لا يغادر قلبه صهيون ولا تفارق روحه أورشليم العليا. هذه البقية تحدث عنها كثير من الأنبياء (زك 13: 9)، وجُدت في كل عصر، ففي أيام إيليا النبي أعلن الرب أن له سبعة آلاف رجل لم يحنو ركبة لبعل بعد، وفي أثناء السبي وُجد دانيال ومعه الثلاثة فتية ضمن القلة المقدسة، وأيضًا استير ومردخاي، وبعد السبي نسمع أيضًا عن هذه القلة المقدسة (ملا 3: 6؛ 4: 2)، والسيد المسيح نفسه يتحدث عن القطيع الصغير الذي سّر الآب أن يعطيه الملكوت (لو 12).

في اختصار، كل نفس مخلصة ترفع قلبها إلى أورشليم العليا ترى الكنيسة المقدسة في الرب فتفرح وتسر من أجلها.

ارتبط قلب إشعياء بأورشليم عاصمة بلده ومدينة الله التي تضم هيكله المقدس، وقد دخل في مرارة من أجل ما حلّ بها من فساد. الآن إذ يعلن عن مجيء "غصن الرب" يرى أورشليم جديدة يسكنها قديسون في الرب القدوس، وينعمون بالحياة الأبدية. يقول: "يُسمى قدوسًا كل من كتب للحياة في أورشليم" [3].

الكنيسة - أيقونة السماء - هي عربون أورشليم العليا التي لا يدخلها شيء دنس أو نجس ولا كل من يصنع كذبًا، إنما يدخلها من غسل ثيابه وبيّضها في دم الحمل (رؤ 7: 14).

كأعضاء في الكنيسة المقدسة - أورشليم الجديدة - تمتعنا بمسحة روح الله القدوس، لنُتمم الوصية الإنجيلية: "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم قديسين في كل سيرة" (1 بط 1: 15).

من الذي يُقدس حياتنا؟ الرب نفسه إذ يقول النبي: "إذ غسل الرب قذر بنت صهيون ونقى دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وروح الإحراق" [4]. أنه غسل أدناسنا في مياه المعمودية في استحقاقات دمه، ولا يزال يغسل كل ضعفاتنا بدمه الذي جرى من جنبه الطعون ممتزجًا بماء. إن كانت أيدينا قد تلطخت بالدم خلال خطايانا فانه يُقدم دمه كفارة عنا ليُقيمنا كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن بل مقدسة في كل شيء.

هذا الغسل أو التطهير يتحقق "بروح القضاء وروح الإحراق"؛ أما روح القضاء فتحقق برفعه على الصليب حاملاً ثمن خطايانا في جسده، متممًا العدل الإلهي من جهتنا فيه. وأما روح الإحراق، فيعني ما سبق فأعلنته الشريعة في سفر اللاويين عن "المحرقة" حيث تُحرق الذبيحة تمامًا إشارة إلى الحب الكامل... فذبيحة المسيح التي باسمنا هي "المحرقة" التي قُدمت علامة حبنا الكامل فيه نحو الآب. وربما قصد بروح الإحراق أيضًا الروح القدس الناري الذي حلَّ على الكنيسة لتقديسها وغسل كل عضو فيها.

v   في آخر الأيام عندما جاء ملء زمان الحرية قام الكلمة بغسل قذر بنت صهيون بنفسه، إذ غسل بيديه أقدام التلاميذ (يو 13: 5). 

القديس إيريناؤس[103]

v   الحميم (بالمعمودية) الروحي الممتاز ينزع فساد النفس.

القديس إكليمنضس السكندري[104]

يُعلق القديس إكليمنضس السكندري على القول "نقَّى دم أورشليم" بالقول: [هنا دم الجريمة وقتل الأنبياء[105]]، فمن جحد المسيح إنما اشترك مع آبائه في قتل الأنبياء أما من قبله فقد تنقى في أعماقه وتقدس.

4. حلول المسيح وسط كنيسته:

تغتسل الكنيسة بروح القضاء وروح الإحراق أي خلال ذبيحة المحرقة الفريدة التي قدمها السيد المسيح وبعمل روح القدوس في مياه المعمودية فتطلب حلول عريسها الذبيح في وسطها، يستر عليها نهارًا كسحابة تظللهم ويقودها ليلاً كعمود دخان وعمود نار يضيئ لها الطريق. هكذا تعود الكنيسة بذاكرتها إلى خيمة الاجتماع في وسط البرية حيث كان الله يجتمع فيها مع شعبه، لكنها خيمة جديدة على مستوى مغاير لخيمة العهد القديم، وذلك منجهة:

أ. "على كل مكان" [5]، لم تعد الحضرة الإلهية أو الحلول الإلهي قاصرًا على خيمة أو على هيكل إنما يحل في كنيسته الممتدة في كل مكان، في المشارق والمغارب؛ يسكن في قلوب الكهنة واشعب، أبوابه مفتوحة لكل الشعوب والأمم أينما وُجدوا.

ب. "وعلى محفلها": يُشير هذا التعبير على عمل الله في الكنيسة كمحفل واحد، أو جماعة واحدة، يتمتع كل عضو فيها بعطية الحلول الإلهي لا كفرد منعزل وإنما كعضو حيَّ في الجماعة يرتبط مع بقية الأعضاء خلال المسيح رأس؛ له علاقته الشخصية مع الله التي تزيده اتحادًا مع اخوته.

ج. "يخلق... سحابة ودخانًا ولمعان نار ملتهبة"؛ يكون السيد المسيح هو سرّ حماية كنيسته واستنارتها.

د. بقوله: "لأن على كل مجد غطاء" يعني أن مجد ابنة الملك من داخل (مز 45)، مخفي فيها. من الخارج تُشارك مسيحها آلامه وصلبه وموته وقبره فيُقال عنها ما قيل عن عريسها: "لا صورة له ولا جمال فنظر إليه، ولا منظر فنشتهيه" (إش 53: 2)؛ وفي الداخل تُشاركه مجد قيامته.

النفس التي تدرك قيمة مجد مسيحها الداخلي وبهجة ملكوته فيها تغطيه لأنه ثمين... فقد اعتدنا أن نخفي ما هو ثمين ونحافظ عليه أما ما هو بلا قيمة فلا يحتاج إلى غطاء أو حفظ. الكنيسة في انشغالها بمسيحها الممجد تقول: "بين ثدييَّ يبيت" (نش 1: 13)... تُريده في أعماقها، مخفي في قلبها!

5. كنيسة المسيح مظلة وملجأ:

يحل الرب في كنيسته فيُقيم منها مظلة تقي النفوس المتألمة الجريحة من حر النهار، وتضمها من السيول والأمطار (إش 4: 6).

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه المظلة هي سحابة القديسين العظيمة (عب 12: 1) قائلاً: [بإن تذكار القديسين يُقيم النفس التي تثقلت بالويلات ويردها، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة (الشمس) الساخنة جدًا والمحرقة[106]].

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الخامس

نشيد الكرمة

في الأصحاح السابق تلامس إشعياء النبي مع محبة الله الفائقة نحو شعبه والمعلنة خلال التجسد الإلهي من أجل تقديس البشرية بروح القضاء وروح الإحراق... بهذا انفتحت بصيرة النبي على حب الله لعروسه أو لكرمه فصار يتغنى بنشيد الكرمة، أو نشيد الحبيب للكرمة المشتهاة.

1. رعاية الله لكرمه                           [1-2].

2. محاكمة بين الله وكرمه                     [3-7].

3. عرض تفصيلي لخطايا إسرائيل             [8-23].

4. تأديب إلهي                                  [24-25].

5. الغزو الآشوري                             [26-30].

1. رعاية الله لكرمه:

"لأنشدنَّ عن حبيبي نشيد مُحِبِيَّ لكرمه. كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة، فنقبه ونقي حجارته وغرسه كرم سورق وبنى برجًا في وسطه ونقر فيه أيضًا معصرة، فانتظر أن يصنع عنبًا فصنع عنبًا رديًا (بريًا)" [1-2].

يعلن هذا النشيد قصة الحب الإلهي، حيث أحب الله الإنسان ولا يزال يحبه ويرعاه، ويبقى الله مستمرًا في حبه بينما يًقابل الإنسان الحب بالجفاف. تحققت هذه القصة مع أبوينا الأولين آدم وحواء، وتحققت أيضًا مع شعب الله في بداية نشأته، إذ يقول موسى النبي: "إن قِسْمَ الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه؛ وجده في أرض قفر وفي خلاء  مستوحش خَرِب؛ أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه" (تث 32: 9-10). أخرج الله شعبه من العبودية لا ليهبه الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا فحسب وإنما ليقيم كنيسة العهد الجديد التي تملأ الأرض كلها، تنعم بملكوت الله الداخلي، وكما يقول المرتل: "كرمةَ من مصر نقلتَ، طردت أممًا وغرستها، هيأت قدامها فأصَّلتْ أصولها، فملأت الأرض" (مز 80: 8-9).

واضح أن "الكرمة" هنا تُشير إلى  الشعب كله: مملكة إسرائيل ويهوذا؛ فماذا قدم الرب لشعبه المحبوب لديه؟

أ. أقامهم على "أكمة خصبة" [1]، إذ دخل بهم إلى كنعان التي تفيض لبنًا وعسلاً، فما يحل من جفاف وما يحدث من مجاعات لا يرجع إلى طبيعة الأرض أو ظروف المنطقة إنما هو ثمر لخطايا الشعب.

أقام الله كنيسة العهد الجديد على أكمة خصبة، فقد رفع قلبها كما إلى السماء لكي يتمتع أبناؤها بدسم الحياة السماوية، فيشبعون ولا يعتازون إلى شيء.

ب. "نقبه (سيَّجَ حوله)" [2]، هذا السياج هو الناموس الذي أحاط به الرب شعبه قديما حتى لا يختلط بالأمم الوثنية المحيطة به فينقل عنهم الرجاسات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الشريعة هي سياج، صُنعت من أجل الأمان (إش 8: 20)[107]]. يرى القديس أمبروسيوس أن السور هو "العناية الإلهية بحفظ الكرم من هجوم الوحش الروحي"[108].  ويرى القديس جيروم أنه حراسة الملائكة[109].

ج. "ونقَّى حجارته" [2]: تُشير الحجارة إلى العبادة الوثنية حيث كانت الأصنام الحجرية، هذه التي أنتزعها الرب من وسط شعبه أو انتزع شعبه منها ليعيش الكل في حياة تقوية لائقة. كما تُشير الحجارة أيضًا إلى طبيعة القسوة والعنف التي يريد ربنا يسوع أن ينتزعها من كل قلب بعمل روحه القدوس. جاء على لسان حزقيال النبي "انزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم" (حز 11: 9). هذا القلب الجديد والروح الجديد (حز 36: 26) إنما يتحقق بنوالنا الميلاد الروحي الجديد في مياه المعمودية المقدسة. يقول القديس كبريانوس: [إنها المعمودية التي فيها يموت الإنسان القديم ويولد الإنسان الجديد كما يعلن الرسول مؤكدًا أنه خلصنا بغسل التجديد (تى 3: 5)[110]].

د. "غرسه كرم سورق (كرمًا مختارًا)" [2]، أي غرسه كرمًا من أفضل أنواع الكروم، كشعب مختار نال عهدًا مع الله، لكي يحمل "الحق" فيه، كقول الرب: "وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها، فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة؟!" (إر 2: 21).

أما بالنسبة لكنيسة العهد الجديد فقد جاء "الحق" نفسه، كلمة الله المتجسد ليُقدم نفسه كرم يحملنا فيه أغصانًا حية تأتي بثمر كثير (يو 15: 5).

هـ. "وبنى برجًا في وسطه" [2]، يسكن فيه صاحب الكرم أو الرقيب لحراسة الكرم من هجمات اللصوص والحيوانات المفترسة. يرى بعض الدارسين أن البرج هو جماعة الأنبياء والكهنة وكل القيادات الروحية والمدنية التي كان يجب أن تسهر على الرعية وتحفظها من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم.

في العهد الجديد البرج هو مذبح الرب الذي يُقام داخل النفس، عليه يقدم المؤمن صلواته وأصوامه وعطاياه وكل حياته ذبيحة محرقة للرب، خلال اتحاده بالمسيح الذبيح. خلال هذا البرج الروحي تُحفظ كنيسة المسيح في كل قلب قوية وفعّالة، حيث يتمتع المؤمنون بشركة واتحاد مع الرب نفسه.

و. "ونقر فيه معصرة" [2]، لعصر العنب وعمل خمر الحب الذي يقدم للفرح الروحي. ما هذه المعصرة إلاَّ صليب ربنا يسوع المسيح الذي اجتاز المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الأمم (إش 63: 3). قدم دمه المبذول خمر حب يفرح كل قلب مؤمن.

يقول القديس أمبروسيوس: [حفر معصرة، لأن أسرار آلام المسيح تبدو كالخمر الجديد... وقد ظن الجمع أن التلاميذ سكارى حين نالوا الروح القدس (أع 2: 13). حفر حوض معصرة لكي يُسكب فيه الثمر الداخلي[111]]. 

يقول القديس ايريناؤس: [غرس الله كرم الجنس البشري عندما خلق آدم أولاً واختار الآباء، ثم أودعه في أيدي الكرامين عندما أقام التدبير الموسوي، وسيَّج حوله بتقديم تعاليم خاصة بعبادتهم له، وبنى برجًا باختياره أورشليم، وحفر معصرة إذ أعدَ وعاء للروح النبوي. وهكذا أرسل أنبياء قبل سبي بابل ثم أنبياء أكثر (أثناء السبي وبعده) يطلب الثمار[112]...].

ماذا قدم الكرم لصاحبه؟

"فانتظر أن يصنع عنبًا فصنع عنبًا رديًا (بريًا)" [2]. أنتظر الرب أن يجتني حُبًا مقابل الحب، وتربة وندامة مقابل غفران خطاياه، لكنه وجد قلوبًا متحجرة لا تصنع ثمارًا تليق بالتوبة. الكل زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، لذا كان يليق بكلمة الله أن ينزل إلينا ككرم جديد، هو وحده يغرسنا فيه فنأتي بثمر كثير (يو 15: 5).

v     عندما يقول: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1) يميز نفسه دون شك عن تلك التي وجه إليها الكلمات: "كيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة؟" (إر 2: 21)، إذ كيف يمكن لكرمة حقيقية يُنتظر أن تصنع عنبًا فصنعت شوكًا؟![113].

v     انتظرت أن تصنع ثمرًا فوجدت خطية[114].

القديس أغسطينوس

v     اشتقت أن تعطى (الكرمة) خمرًا فأخرجت شوكًا. ها أنتم ترون الإكليل الذي أتزين به.

القديس كيرلس الأورشليمي[115]

2. محاكمة بين الله وشعبه:

ليس أصعب من أن يدخل كائن ما في محاكمة مع ابن محبوب لديه، لكن أمام قساوة قلب الإنسان وجحوده طلب أن يقف أمام شعبه للحوار، متسائلاً: "ماذا يُصنع أيضًا لكرمي وأنا لم أصنعه؟!" [4]. والعجيب أنه ترك الحكم للطرف الآخر، لمقاوميه، حتى يحكموا بأنفسهم على أنفسهم. هذا هو أسلوب الله في تعامله معنا، يفضح أمامنا نفوسنا، ويكشف أمام أعيننا ضعفاتنا، ويترك لنا أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا، ليس لأنه يُريد أن يغلب أو يعاقب وإنما لأنه يطلب رجوعنا إليه ودخولنا في علاقات حب وود معه.

ماذا كان يمكن أن يصنع الله معنا أكثر مما فعل؟! لقد خلقنا من العدم، وأقامنا على صورته ومثاله، وسلمنا الأرض بما عليها وما تحتها وما فوقها، وقدم الكواكب لحسابنا، وعندما فسدت طبيعتنا أرسل لنا ناموسه وأنبياءه وأخيرًا جاء بنفسه يكتب نشيد حبه بالدم في جسده على الصليب!

إذ لم يجد الكرم ما يُجيب به على الكرام العجيب في حبه، بدأ الكرام يعلن تأديباته حتى يتحرك الكرم، ألا وهي:

أ. "أنزع سياجه فيصير للرعى" [5]. أن كان ملاك الرب حال حول خائفيه (مز 34: 7)، بل والرب نفسه يكون سور نار حول شعبه (زك 2: 5)، فإن الله في محبته يتخلى عن المقاومين وينزع عنهم الحراسة السماوية ليدركوا ضعفهم، ويشعروا أنهم بلا سياج ولا سور، تدخل إليهم الحيوانات المفترسة لترعى كما في قفر أو في برية جرداء، لعلهم يرجعوا إلى الله ويطلبونه ملجأ لهم.

إن نُزعت نعمة الله عن الإنسان يصير بلا سياج، وتنفتح نفسه على محبة العالم، لتدخل قطعان خنازيره الدنسة وتخرج بلا عائق، ويصير قلبه مدوسًا بالشهوات النجسة وأفكاره هائمة في الرجاسات، وتنحدر حواسه إلى الشهوة الرديئة.

وكما يقول القديس إكليمنضس السكندري: [إن هذه الأمور (نزع السياج والسماح للأعداء بالدخول) يتحقق بسماح إلهي ليحولها للخير والبنيان. فإن [العناية الإلهية هي فن تأديبي[116]].

ب. "اجعله خرابًا لا يُقضب ولا ينقب" [6]. إذ يفارق الرب كرمه أي النفس البشرية تصير في فراغ وتُحسب خرابًا. يبكيها الرب كما بكى على أورشليم، قائلاً: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" ( مت 23: 38).

حين يثمر الكرم يقوم الكرام بالقضْب والنقب لكي يأتي بثمر أعظم، أما إذا أثمر عنبًا رديًا فلا يمد يده إليه. فان كان القضب والنقب يشيران إلى تأديبات الرب الحانية نحو أولاده، فإننا إذ نسلك معه في الطريق يمد يده إلينا كأولاد له يهتم بنا ويرعانا وأيضًا يؤدبنا حتى نزداد في ثمر الروح. فعدم القضب والنقب يشيران إلى عدم التأديب، وهذا هو أقسى أنواع العقوبة... التجاهل التام وعدم الاستحقاق حتى للتأديب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه حينما يتوقف الطبيب عن تقديم الدواء المُرّ أو استخدام المشرط هذا يعني أن حالة المريض ميؤس منها تمامًا.

ج. "فيطلع شوك وحسك" [6]. هذا ثمر اعتزال الإنسان الله وانفصاله عنه، إذ ينبت من عندياته شوكًا وحسكًا. يقول الرسول: "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" ( رو 2: 28).

ما هو هذا الشوك إلاَّ فقدان الإنسان سلامه ليحمل في داخله متاعب وهموم لا يقدر أن يُجابهها بنفسه وحده؟!

د. "وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرًا" [6]. يُشير المطر في العهد القديم إلى عطية الروح القدس[117]، فإن الإنسان الجاحد للرب الذي يطلب الانفصال عنه يخسر سكنى الروح فيه، فيتحول قلبه إلى قفر، لا يحمل ثمر الروح. لهذا عوض أن يثمر "الحق" إذا به يثمر "سفك دم"، وعوض "العدل"  يثمر "صراخًا" [7].

يطلب الرب أن يجد فينا جنته المثمرة بالروح، حيث تُناجيه النفس قائلة: "ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" [16]. لكن حرمان النفس من المطر الروحي يحول الجنة المبهجة إلى موضع مرعب ليس فيه سوى سفك دم وصراخ مستمر‍!

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المطر في الكتاب المقدس يُشير إلى التعليم[118]. هكذا إذ يجحد الإنسان الله يحرم نفسه من التمتع بتعليم الرب في أعماقه؛ يقرأ كلمة الله وربما يدرسها لكنه لا ينعم بفاعليتها وعذوبتها في أعماقه. هذا ما أعلنه القديس أغسطينوس[119] في أول وعظة له على الإنجيل بحسب معلمنا متى البشير قائلاً: [إنه كان كعصفور صغير في عش، في كبرياء قلبه أراد الطيران بنفسه، دارسًا الكتاب المقدس بروح النقد، فسقط على الأرض وكان المارة أن يسحقوه تحت أقدامهم لولا نعمة الله التي انتشلته وردته إلى عش الإيمان حتى صار له جناحان يقدر بهما على الطيران.

يرى القديس أغسطينوس أن المطر هنا يُشير إلى الكرازة التي أنتقلت من الكرم (الشعب اليهودي) إلى الأمم[120].

يقول: "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا. فانتظر حقًا فإذا سفك دم وعدلاً فإذا صرخ" [7].

لقد قدم الله كل الإمكانيات لكل الجماعة: للكهنة واللاويين كما للشعب، للغني كما الفقير، للمتعلم كما للأمي لكي يثمر هذا الكرم "حقًا" و"عدلاً"، وقد جاء "الحق" متجسدًا من سبط يهوذا لكنهم سفكوا دمه وعوض العدل كان الصراخ: "أصلبه، أصلبه".

3. عرض تفصيلي لخطايا إسرائيل: 

بعدما كشف الرب عن حبه لكرمه ورعايته الفائقة له، وكيف حرم الكرم نفسه من الثمر الحلو الروحي أو من الخمر المفرح فصنع أشواكًا ضفرت إكليلاً على رأس السيد المسيح، بدأ يستعرض أهم خطايا الشعب وثمرهم الردئ الذي جلب ويلات مُرّة عوض التمتع ببركات الرب وشركة أمجاده.

أ. "ويل للذين يَصِلون بيتًا ببيت، ويقرنون حقلاً بحقل، حتى لم يبق موضع، فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض" [8]. يعني بهذا أنهم انهمكوا في شراء البيوت والحقول بكل الطرق، في أنانية حتى لم يترك الواحد موضعًا لأخيه، خاصة الفقير والمحتاج. لقد ملكت قلة قليلة الأرض الزراعية والبيوت لتستغل عامة الشعب، وذلك على خلاف الناموس الذي طالب أن تبقى الأراضي موزعة بالتساوي (عد 33: 54) وأنه في سنة اليوبيل يعود للكل ملكيته (لا 25).

الأرض في كنعان هي عطية مجانية قُدمت للشعب كله ليعيش الجميع في رخاء يتمتع بما تفيضه من لبن وعسل، كأنها ملك للرب الذي يقدمها لهم. لكنهم بتصرفاتهم هذه ارتكبوا خطية الجشع وأيضًا الكبرياء مع العصيان وكسر الناموس. لذا انتزعت البركة وحلت اللعنة، فتصير البيوت خرابًا بسبب الموت أو السبي، ففي لحظة مات 185 ألفًا في الحرب. هذا ولا تثمر الحقول كالعادة، فعشرة فدادين كرم تنتج بثاَ (حوالي 27.5 كيلو جرام) عوض حوالي 500 بثًا؛ وحومر ( 283.5 كيلو جرام) البذار يصنع ايفه (عشر حومر حز 45: 11)، أي يبلغ المحصول عُشر البذار التي أُلقيت في الأرض.

ب. "ويل للمبكرين صباحًا يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تلهبهم الخمر" [11]. إن كان الويل الأول منصبًا عليهم بسبب الطمع والظلم فالثاني بسبب اللهو الزائد. صاروا يسكرون في الصباح المبكر عوض قيامهم للعمل وأيضًا يبقون حتى ساعة متأخرة بالليل، أي يسكرون نهارًا وليلاً. هكذا يكسرون الوصايا الإلهية: "الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء" (مز 104: 23). تحولت حياتهم عن الفرح الروحي الممتزج بجدية الحياة والعبادة إلى اللهو الممتزج برخاوة يستخدمون كل آلات الطرب [12] مع الانشغال بإقامة ولائم لإثارة مشاعرهم وأحاسيسهم للشر، متجاهلين الحياة التقوية في الرب. وكما يقول عاموس النبي: "الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدَّهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف؛ لذلك الآن يسبون في أول المسبيين ويزول صياح المتمددين" (عا 6: 6-7).

v     أنظر كيف يلوم الله الترف أيضًا؛ فإنه لا يدينهم هنا على طمع اقترفوه وإنما لمجرد التبذير. ها أنت تأكل بتخمة والمسيح ليس له ما هو ضروري. أنت تأكل كعكًا متنوعًا والمسيح ليس له الخبز الجاف. أنت تشرب خمرًا من Thasian ولا تمنح المسيح كأس ماء بارد خلال من هو ظمآن. أنت ترقد على فراش ناعم مطرز وهو يهلك بردًا. 

القديس يوحنا الذهبي الفم[121]

أما عمل اللهو فهو سبي الإنسان الداخلي عن معرفة الحق، ليعيش أسيرًا للجهالة، يجوع ويعطش داخليًا، ولا يوجد ما يشبعه أو يرويه. يقول النبي: "لذلك سبُى شعبي لعدم المعرفة وتصير شرفاؤه رجال جوع وعامته يابسين من العطش" [13]. يقول الحكيم: "لأن السكير والمسرف يفتقران والنوم يكسو الخرق" (أم 13: 21).

خلال اللهو يفقد الإنسان وعيه الداخلي لينحدر الهاوية، التي تفتح أبوابها على مصراعيها لتبتلع بغير حدود. بهذا يفقد الإنسان بهاءه وبهجته [14]، ويسقط في مذلة [15].

هذا هو الثمر المُرّ الذي يجتنيه السالكون في الباب الواسع، باب اللهو الدائم لاشباع الشهوات الزمنية. أما ما هو أخطر فهو هلاكهم الأبدي إذ يقول: "لذلك وسعت الهاوية نفسها وفغرت فاهها بلا حد فينزل بهاؤها وجمهورها وضجيجها والمبتهج فيها" [14]. يصور الهاوية Sheol أشبه بانفتاح الأرض لابتلاع الأشرار كما حدث مع قورح جماعته... تنفتح لتطلب المزيد، تبتلعهم إلى الأعماق ليبقوا في الظلمة إلى الأبد.

هذا ما يحدث بالنسبة للمنشغلين بحياة الترف واللهو، أما بالنسبة لله رب الجنود فإنه يتمجد ويتقدس بإدانته للخطية بالعدل والبر [16].

ربما يتساءل البعض: ما هو حال البقية القليلة الأمينة للرب؟ يُجيب النبي: "ويرعى الخراف حيثما تُساق وخرب السمان تأكلها الغرباء" [17]. ترعى الخراف    - القطيع الصغير - حيثما يقودها الراعي الصالح، يسوع المسيح، إذ يحفظها من الظلم والاضطهاد. هؤلاء يأكلون في هدوء وأمان دون أن يزعجهم أحد (خر 34: 14). عندما تخرب كنيسة العهد القديم برفض اليهود الإيمان بالسيد المسيح ترث الأمم (الغرباء) المواعيد والعهود والشريعة والنبوات الخ...

ج. "ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل، والخطية كأنه بربط العجلة" [18]. هذا الويل الثالث يحل بطالبي الخطية برغبة شديدة واجتهاد، يسعون إليها بمحض اختيارهم ويدفعون أنفسهم إليها دفعًا أو يسحبونها بقوة نحوهم. هؤلاء يحل بهم الخطر إذ يسقطون

في حبال الباطل ويرتبطون بعجلة الخطية ليصيروا ملاصقين لها.

إنهم يجتذبون الخطية كما بحبل، وإذ هي ثقيلة للغاية تنهار على رؤوسهم فتُحطمهم.

يرى بعض الآباء أن الأشرار ينحدرون من خطية إلى خطية وكأنهم يصنعون حبلاً طويلاً يسحبهم نحو الشر في عبودية... كل سقوط يؤدي إلى سقوط آخر وكل انحدار يُسبب انحدارًا أكثر، فعوض أن يفكر الشرير في الصعود ينهار أكثر فأكثر.

v     حقًا، كل إنسان يضفر لنفسه حبلاً بخطاياه: "ويل للجاذبين الإثم بحبل طويل" [18 LXX].

من الذي يصنع حبلاً طويلاً؟ ذاك الذي يُضيف خطية إلى خطية.  

كيف تُضاف خطية على أخرى؟ حينما نُغطي على خطية ارتكبت بخطية أخرى[122].

v     عندما يُهدد (الأشرار) بقتل الأبرار، إنما يربطون أنفسهم بقيود، بحبل قوى خشن هو من عندياتهم[123].

v     طوبى للذين بالعمل والأخلاق يرنمون تسابيح المصاعد (الدرجات)، وويل للذين يسحبون الخطية كحبل طويل (فينحدرون معها)[124].

القديس أغسطينوس

بجانب ما للخطية من خطورة أنها تسحب الإنسان إلى سلسلة من الخطايا، فتجعله أشبه بكُرَة تلهو بها الخطايا فإن الخطر الثاني هو أنها تبعث روح الاستخفاف والسخرية عوض رغبة الإنسان في التحرر منها، فيردد الأشرار: "ليسرع ليعجل عمله لكي نرى، وليقرب ويأتي مقصد قدوس إسرائيل لنعلم" [19]. إنهم يشكون في إمكانية قضاء الله، فيحسبون أنهم قادرون على مواجهته ببراهين وحجج. في استخفاف يرددون "قدوس إسرائيل" اللقب الذي استخدمه الأنبياء بالنسبة لرجائهم في مجيء المسيا المخلص... وكأنهم يضربون بهذا الرجاء عرض الحائط.

في كل عصر يوجد أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما بتأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق:

"ها هم يقولون لي: أين هي كلمة الرب؛ لتأتِ" (إر 17: 15).

" قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا" (حز 12: 22).

"سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين: أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3: 4).

د. "ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المُرّ حلوًا والحلو مرًا" [20]. يسقط الويل الرابع على الذين يخلطون بين الحق والباطل، الخير والشر، النور والظلمة، الحلاوة والمرارة، المعرفة والجهل. هؤلاء يعطون الخطية مسحة الفضيلة كأن يبرروا الغضب بالدفاع عن الحق أو إدانة الآخرين تحت ستار الرغبة في الإصلاح الخ...

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هذا الويل هو تهديد ضد الكذابين والمتكبرين[125]. الله هو الحق وابليس هو الكذاب وأبو الكذابين، من يعرف إرادة الله يعرف الحق ويسلك في الخير، أما من يتجاهل الإرادة الإلهية فأنه يخرج من دائرة الحق ليعيش في الكذب، وبهذا يفقد قدرته على التمييز وإدراك الخير أو النور أو المعرفة الصادقة للسماويات والإلهيات.

هـ. ادعاء الحكمة والفهم مع الاستخفاف بآراء ومشورة الغير: "ويل للحكماء في أعين أنفسهم و الفهماء عند ذواتهم" [21].

v     من ينشغل بذاتيته ولا يطلب مشورة الغير، إنما يحمل علامة الغباوة. قيل: "أرأيت رجلاً حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 26: 12).

القديس يوحنا الذهبي الفم[126]

و. الأبطال المفسدون لطاقاتهم: "ويل للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزج المسكر" [22]. حينما تنشغل القيادات بالولائم والترف والسكر تفقد دورها الحقيقي؛ هكذا كثيرًا ما نفسد طاقاتنا بأنفسنا بانحرافنا عن هدفنا الجاد وانغماسنا في ملذات هذا العالم.

ز. أخذ الرشوة: "الذين يبررون الشرير من أجل الرشوة، وأما حق الصديقين فينزعونه منهم" [23].

4. تأديب إلهي:

بسبب الخطايا التي ارتكبها الشعب حمى غضب الرب كلهيب نار يحرق القش ليجعلهم أشبه بالغبار [24]. لقد سمح بتأديبهم بحزم شديد حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثهم ملقاة في الأزقة. هنا يعني ما حل بشعب الله خلال الغزو الآشوري  العنيف.

وسط هذا اللهيب يقول: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [25]؛ لا يزال مملوء حبًا ينتظر عودة الإنسان إليه!

5. الغزو الآشوري: 

يقدم لنا النبي وصفًا رهيبًا لجيش أشور في غزوه شعب الله. هذا الوصف يكشف عن غزو عدو الخير للنفس البشرية، بعنف وشراسة ومثابرة، وفي نفس الوقت يوبخ المؤمنين المتراخين؛ فالأشرار من أجل غنيمة زمنية لا يكلّون حتى يحققوا هدفهم بينما أولاد الله يتراخون في نوال شركة المجد الأبدي.

أ. "ليس فيهم رازح (متعب)" [27]. بالرغم من طول المسافة التي يقطعونها والصعوبات التي تواجههم لكنهم لا يشعرون بتعب من أجل رغبتهم القوية في التمتع بالغنيمة... بينما كثيرًا ما نتراخى نحن المؤمنون في جهادنا الروحي تحت دعوى الإرهاق أو التعب.

ب. "ولا عاثر" [27] بالرغم من وعورة الطريق؛ ربما لأن الله دعاهم لتأديب شعبه فسّهل لهم الطريق. كان أولى بنا نحن ألا نخاف وعورة الطريق فإننا مادمنا في يد مسيحنا "الطريق" لا نتعثر قط.

ج. "لا ينعسون ولا ينامون" [27] من أجل الهدف الزمني والشرير الموضوع أمامهم. أفما يليق بنا نحن المؤمنون ألا ننعس ولا ننام بل نبقى في يقظة الروح حتى نحقق غاية رسالتنا؟!

د. "ولا تنحل حزم أحقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم" [27]، أي جادين ومتشددين للعمل. لقد أوصانا الرب: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة" (لو 12: 35)، حتى نتمم خدمة الرب بقوة.

هـ. "سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم تُحسب كالصوان وبكراتهم كالزوبعة" [28]. مستعدين بأسلحتهم وعدتهم، كي يحاربوا بقوة ولمدة طويلة وبسرعة خاطفة فيحققوا الهدف. يليق بالمؤمنين أن يستعدوا ضد معركة إبليس بأسلحة الإيمان الروحية التي تحدث عنها الرسول بولس بأكثر توسع (أف 6).

و. "لهم زمجرة كاللبوة، ويزمجرون كالشبل، ويهرون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ" [29]. إنهم يحملون صورة سيدهم إبليس، الذي يجول كأسد زائر يلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8‎). كان يليق بالمؤمنين أن يصحوا ويسهروا مقاومين هذا العدو راسخين في الإيمان (1 بط 5: 8‎-9) القادر أن يُحطم العدو.

لقد تقدم الحمل - رب المجد يسوع - كأسد خارج منم سبط يهوذا (رؤ 5: 5) حتى  لا يهزمنا إبليس بل نقاومه بالرب ونُحطم طاقاته.

ز. "يهرون عليهم في ذلك اليوم كهدير البحر" [30]، إذ يسقط عليهم الجيش بأصوات الجند كهدير البحر الذي لا يُقاوم، يكتسح ويبتلع كل ما هو أمامه... وكأنه لا أمل لهم في النجاة من أشور.

ح. أخيرًا يفقد الشعب كل رجاء فإنه "إن نظر إلى الأرض فهوذا ظلام الضيق والنور قد أظلم بسحبها" [30]. وقت الضيق يرفعون عيونهم لعلهم يجدون منفذًا للخلاص، لكن الظلام يُخيم على أفكارهم، وسحب الدخان الصاعدة من الحرائق تُحطم كل أمل عندهم. لقد رفضوا الله "النور الحقيقي" فملكت الظلمة على أعماقهم. لهذا يصرخ المرتل: "بنورك يارب نعاين النور" (مز 36: 9).

<<


 

الأصحاح السادس

رؤيا إشعياء ودعوته

يسجل لنا إشعياء النبي رؤياه الشهيرة، إذ رأى الله القدوس جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، رآه في مجده الفائق تسبحه طغمة السيرافيم، وقد عُهد إليه بخدمة النبوة المقدسة.

يتساءل البعض: هل تمتع النبي بهذه الرؤيا قبل تنبؤه بما ورد في الأصحاحات السابقة أم جاءت بعدها؟ ولماذا لم يفتتح النبي السفر بها؟

1. رؤيا النبي في الهيكل             [1-4].

2. تقديس فم إشعياء                 [5-7].

3. ارسالية إشعياء النبي             [8-13].

1. رؤيا النبي في الهيكل:

"في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" [1].

تمتع النبي بهذه الرؤيا في سنة وفاة عزيا الملك، ربما بعدما أعلن نبواته السابقة والتي حملت تهديدًا للشعب، فقابلها الشعب بنفور واستخفاف، لهذا كشف له هذه الرؤيا ليعلنها للشعب مؤكدًا أنه يحمل رسالة إلهية، يقدم كلمة الله. ولعل هذه الرؤيا قد تحققت قبل النبوات وإنما أعلنها النبي بعد ذلك ليؤكد للشعب أن ما ينطق به ليس من عندياته، وذلك كما فعل القديس بولس حين أراد تأكيد رسوليته بالحديث عن الرؤيا التي شاهدها في بداية خدمته (2 كو 12).

ظهرت الرؤيا في سنة وفاة عزيا الملك الذي ملك علي يهوذا وهو ابن 16 سنة لمدة 52 عامًا وعمل المستقيم في عيني الرب، وقد نجح في كل أعماله: في الحروب وبناء مدن تعميرها الخ... لكنه إذ ارتفع اسمه جدًا سقط في الكبرياء وأراد أن يوقد للرب علي مذبح البخور فضربه الرب بالبرص وهو في الهيكل، وطرده الكهنة، وكان أبرصًا إلي يوم وفاته، معزولاً في بيت بعيد عن قصر الملك.

لعل إشعياء كان يتابع بفرح نجاح عـزيا مع استقامة قلبه ونموه في الروح لكنه

أغتم جدًا لسقوطه في أيامه الأخيرة، وموته هكذا معزولاً عن شعب الله، مطرودًا من هيكله المقدس، ممثلاً بطلان المجد الزمني.

تطلع النبي إلي الشعب في سنة موت عزيا ليراه منطرحًا كغنم بلا راعي، خاصة وأن الملك كان قد اعتزل الشعب زمانًا قبل موته بسبب برصه. ادرك إشعياء أن الشعب في حاجة إلي رعاية سماوية، لأن ذراع البشر يعجز عن اشباع احتياجات الشعب، وكما يقول المرتل: "لا تتكلوا علي الرؤساء ولا علي بني البشر الذين ليس عندهم خلاص، تخرج روحهم فيعودون إلي ترابهم" (مز 146: 3).

وسط هذه المرارة أعلن الرب هذه الرؤيا لإشعياء من أجل تعزيته: تحققت الرؤيا في الهيكل غالبًا في وقت انفرد فيه النبي للعبادة الخاصة، يصرخ إلي الله ليتسلم رعاية شعبه. ظهر له السيد جالسًا علي كرسي عالٍ، ومرتفع ليؤكد له أنه هو راعي شعبه السماوي، أفكاره تعلو عن أفكار البشر، وطرقه عن طرقهم. يجلس في الأعالي لكي يحمل كنيسته معه تشاركه أمجاده العلوية. رأى أذياله تملأ الهيكل، إذ حال في كنيسته ينتظر كل نفس تقبل إليه لتتمتع بالإتحاد معه. لقد رأى السيد المسيح في مجده (يو 12: 41) يملأ السماء والأرض بلاهوته ورعايته.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن إشعياء وغيره من الأنبياء لم يروا جوهر اللاهوت كما هو إنما يظهر الله لهم خلال تنازله قدر ما يحتملون الرؤيا وذلك من أجل محبته لخليقته؛ حتى بالنسبة للسمائيين وحاملي عرشه فان كل منهم يراه قدر احتماله أما الجوهر في ذاته أى في كماله المطلق فلا يمكن إدراكه[127].

v   يصيح السيرافيم قائلين: قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت... إن القوات العلوية يأخذ منها الرعب كل مأخذ بغير انقطاع، فهي تدير وجهها وتبسط أجنحتها كحائط، يقيها من الاشعاع غير المحتمل الصادر من قبل الله، ومع ذلك فما تراه إنما هو صورة مصغرة للحقيقة...

بينما لا يقوى السيرافيم حتى علي مشاهدة الله الذي لا يتجلي لهم إلاَّ كتنازل منه حسب ضعفهم، نرى أناسًا تجاسرون متصورين في عقلهم الطبيعة عينها التي يعجز السيرافيم عن إدراكها. إنهم يزعمون أنهم قادرون علي التطلع إليها بوضوح وبغير حدود!

ارتعدي أيتها السموات واندهشي أيتها الأرض[128].

v   حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مُدرَك، ولا يمكن الدنو منه. لهذا فهو يتنازل ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. الله الذي لا يحده مكان ولا يجلس علي عرش... من قبيل محبته لنا يظهر جالسًا علي عرش وتحيط به القوات السمائية[129]

v   هذه (رؤى الأنبياء) إعلانات، كلها أمثلة عن تنازله، وليست رؤى لجوهره بالكشف عنه. لأنهم لو نظروا جوهره ذاته لما رأوه تحت أشكال مختلفة، إذ هو بسيط، بغير شكل ولا أعضاء ولا أساليب محددة، طبيعته لا تجلس ولا تقف ولا تمشي[130]...

القديس يوحنا الذهبي الفم

"السيرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطى وجهه وبأثنين يغطى رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود، مجده ملءُ كلِ الأرض" [2-3].

لعل ما يُعزى نفس الخادم هو أن يرتفع قلبه ليرى الخدمة الملائكية، فيتحقق أن كل متاعب الكنيسة وضعفاتها تنتهي يومًا ما لتشترك مع السمائيين في التسبيح أبديًا. وأن الكنيسة هنا - كأيقونة السماء - تتمتع بعربون الخدمة السمائية. ففي إحدى العظات القبطية تُعّرف الكنيسة أنها: [موضع تعزية، هي اجتماع الملائكة وموضع الشاروبيم والسيرافيم[131]]. قيل إن القديس باخوميوس المصري كان يرى الكنيسة مملؤة بالملائكة.

السيرافيم هم خدام العرش الإلهي، يحملون الرب بفرح وتهليل، يسبحونه بلا انقطاع. وكأن عمل كل خادم أو نبي في الكنيسة هو جذب كل نفس إلي الرب كعرش له يسكنه، ويقيم ملكوته داخله، فيصير أشبه بالساروف الناري السماوي. لكل ساروف 6 أجنحة، باثنين يُغطي وجهه علامة اتسامه بالمخافة الإلهية، لا يقدر أن يدرك كل البهاء الإلهي، وباثنين يُغطي رجليه علامة الحياء - إن صح هذا التعبير- وباثنين يطير مُحلقًا في السمويات. هكذا يليق بنا أن نتشبه بالساروف ننعم بالمخافة الإلهية في احتشام مع نمو دائم وارتفاع مستمر نحو السمويات.

أما بالنسبة للتسبحة الساروفيمية "الثلاث تقديسات" فقد وردت في كتابات العلامة أوريجانوس؛ وربما يرجع تاريخ استخدامها بالإسكندرية إلي تاريخ سابق[132]. جاء في التقليد الكنسي إن يوسف الرامي ونيقوديموس اللذين اهتما بجسد الرب بعد انزاله من علي الصليب سمعًا هذه التسبحة وهما يضعان الحنوط علي جسد الرب قبل دفنه.

يقول الساروفيم: "مجده ملء كل الأرض" [3]، لا يملأ السموات فحسب وإنما الأرض كلها. أنه حال علي الأرض ليُقيم من الأرض سماء. وكما يقول القديس إكليمندس السكندري إن الأرض تصير سماءً بالنسبة للمؤمن الحقيقي. إن كان جسدنا في أصله ترابًا، فقد قبل كلمة الله طبيعتنا البشرية ليُقدسها، فصار جسدنا ممجدًا فيه، لا نعود نستخف به لأنه يشارك النفس تعبدها لله وجهادها واكليلها.

يلاحظ في هذه التسبحة الآتي:

أ. أن كلمة "السيد" جاءت بالجمع Adonai وليس المفرد Adon. ربما لهذا السبب مع تكرار كلمة "قدوس" ثلاث مرات رأى القديس غريغوريوس أسقف نيصص[133]  تُعلن عن مجد الثالوث، بينما ينسبها الرسول بولس للروح القدس (أع 28: 25-26)، والقديس يوحنا للإبن (يو 12: 41) بينما التقليد اليهودي قديمًا ينسبها للآب.

v   بواسطة (السيرافيم) أُعلن سرّ الثالوث بوضوح، عندما نطقوا بتلك الصيحة العجيبة "قدوس" بكونها تحمل جمالاً مع مهابة لكل أقنوم من الثالوث.

القديس غريغوريوس النيصي[134]

ب. دُعى الله "رب الجنود"، وهو لقب الله في معركته ضد الشر أو ضد قوات الظلمة، له معنى تعليمي[135]، لم يظهر في أسفار موسى ويشوع والقضاة وأيوب والأمثال والجامعة، إنما ظهر بصورة نادرة في صموئيل وملوك وأخبار الأيام والمزامير؛ استخدم بكثرة في أسفار الأنبياء، ففي إرميا استخدم حوالي 80 مرة وحجي 14 مرة، وزكريا 50 مرة، وملاخي أكثر من 24 مرة. أول من استخدمه حنه أم صموئيل في تسبحة النصرة التي نطقت بها إذ شعرت بأن الله هو سرّ نصرتها في معركتها الداخلية.

ج. تُستخدم هذه التسبحة في القداس الإلهي علامة شركة المؤمنين مع السمائيين في العبادة علي مستوى سماوي، بروح الوحدة والانسجام معًا:

v   ليتنا نجتمع معًا بضمائرنا في اتفاق ونصرخ إليه بغيرة كما بفم واحد، فنشترك في مواعيده العظمية المجيدة.

القديس اكليمندس الرومإني[136]

v   لتدركوا بأية مهابة ومخافة ينطقون ذاك الأسم وهم يمجدونه ويسبحونه؛ أما أنتم فتدعونه في صلواتكم وطلباتكم برخاوة شديدة، مع أنه كان يجب أن تمتلئوا مهابة وأن تكونوا في سهر مع وقار.

القديس يوحنا الذهبي الفم[137]

v   الأمور الجديدة تسير في تناسق مع القديمة، والقديمة مع الجديدة. هوذا الساروفان يقولان الواحد للآخر: قدوس قدوس قدوس رب الجنود. العهدان يسيران في نغم واحد، ولهما صوت واحد...

القديس أغسطينوس[138]

"فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانًا" [4].

اهتزت أساسات بيت الرب أمام صرخات الساروفيم التي تمجد الله القدوس وامتلأ البيت سحابًا كثيفًا علامة حلول مجد الله فيه. وعندما دخل السيد المسيح أورشليم اهتزت أيضًا المدينة (مت 21: 10). ونحن في حاجة أن يعلن الرب حلوله فينا، ليُقيم ملكوته داخلنا، نشترك مع السيرافيم تسبحتهم الأبدية فتهتز أعماق نفوسنا مع إشعياء النبي، ويُعلن مجد الرب فينا، وتتقدس أعماقنا فنحسب شهود حق لإنجيله.

2. تقديس فم  إشعياء:

إذ نقف في حضرة الله القدوس يُعلن لنا مجده ونكتشف نحن نجاستنا، كما حدث مع إشعياء النبي. "فقلت: ويل ليّ أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ رأتا الملك رب الجنود" [5].

يعترف الرسول بولس أنه أول الخطاة (1 تى 1: 15) ليس لأنه يفكر في خطاياه ويحاول احصاءها، وإنما جاء ذلك ثمرة استنارته بروح الله القدوس الذي يفضح أعماقنا فنكتشف أننا كلا شيء أمام مجد الله، وأننا خطاة تمامًا أمام قداسته. لذلك عندما بدأ إبراهيم أب الآباء يتحدث مع الله قال: "إني قد شرعت أكلم المولي وأنا تراب ورماد" (تك 17: 27).

لعل إشعياء أراد أن يشترك مع السيرافيم في تسابيحهم لله فأدرك أنه نجس الشفتين، وإذ تطلع إلي جماعة السيرافيم في تهليلاتهم أدرك أنه ساكن بين شعب نجس الشفتين.

v   بتنهدات يومية يحزن القديسون علي ضعف طبيعتهم، وبينما هم يبحثون في تغيير أفكارهم وإرادتهم وأعماق ضمائرهم الداخلية يصرخون متضرعين قائلين: "لا تدخل مع عبدك في المحاكمة فإنه لن يتبرر أمامك حيَّ"... وهكذا يدركون ضعف برّ الإنسان وعدم كماله مع الاحتياج الدائم إلي مراحم الله. لذلك يقول ذاك الذي أزال الله شرورة وخطاياه بجمر "كلمته الحيَّ" التي علي المذبح بعد رؤيته العجيبه لله وللسيرافيم العلويين وتمتعه بإعلان الأسرار الإلهية: "ويل لي إني هلكت لإني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين".

الأب ثيوناس[139]

v   ها أنتم ترون كيف أن كل القديسين بالحق يعترفون لا عن الشعب وإنما بالأكثر عن أنفسهم إنهم خطاة، لكنهم لا ييأسوا قط من خلاصهم، إنما يتطلعون إلي التبرير الكامل بنعمة الرب ورحمته.

الأب ثيوناس[140]

شعوره بنجاسة شفتيه ونجاسة شفاه شعبه لم يُحطم نفسيته، إنما ملأه رجاء في الله الذي تمتع برؤيا بكونه "رب الجنود"، قادر أن يُقيم من البشرية جنودًا روحيين له. هذا تحقق له، إذ قال: "فطار إليّ واحد من السيرافيم وبيده جمرة أخذها بملقط من على المذبح، ومسّ بها فمي وقال: إن هذه مست شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك" [6-7].

جاء في قسمة القداس الكيرلسي: [وكما طهرّت شفتي عبدك إشعياء النبي إذ أخذ أحد السيرافيم جمرة بالملقط من علي المذبح وطرحها في فيّه، وقال له: إن هذه لمست شفتيك ترفع آثامك وتطهر من جميع خطاياك، هكذا نحن أيضًا الضعفاء الخطاة عبيدك الطالبين رحمتك تفضل طهر أنفسنا وأجسادنا وقلوبنا واعطنا هذه الجمرة الحقيقية المعطية الحياة للنفس والجسد والروح، التي هي الجسد المقدس والدم الكريم اللذان لمسيحك].

وفي صلاة أخرى للقسمة يقول الكاهن: [لإنيّ تقدمت للمس جسدك ودمك لشوقي في محبتك، فلا تحرقني بهما يا جابلي بل أحرق كافة الأشواك الخانقة لنفسي].

لقد حملت القديسة مريم كلمة الله متجسدًا فيها، الجمر الملتهب، الذي يُقدس البشرية بدمه الثمين.

3. ارسالية إشعياء النبي:

إذ رأى إشعياء النبي السيد جالسًا علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، والسيرافيم يسبحونه، وقد تطهرت شفتيه الجمر الإلهي، اشتاق إلى الحياة السماوية والتسبيح الملائكي، لكنه في نفس الوقت اشتاق أن يرى شعبه متمتعًا بهذه الحياة العلوية، كأنه يقول مع الرسول بولس: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 24). هذا ما يعلنه النبي أيضًا بقوله: "ثم سمعت صوت السيد قائلاً: من أُرسل ومن يذهب لأجلنا؟ فقلت: هأنذا أرسلني" [8].

هذا هو المنظر الخامس من ذات الرؤيا الذي فيه دُعى للعمل النبوي، لحساب ملكوت الرب؛ هذه المناظر هي:

1. منظر السيد في مجده [1].

2. منظر السرافيم المسبحين له [3].

3. اهتزاز أساسات العتب وامتلاء البيت دخانًا [4].

4. تقديس شفتي النبي [5-7].

5. دعوة إشعياء بصوت الله نفسه [8 الخ].

جاءت الدعوة من الله القدير نفسه، وإذ آمن إشعياء بقدرة الله الخلاصية وعمله التقديسي، تقدم للعمل مدركًا أنه حيث هو ضعيف فهو بالرب قوي. عندما ندرك أننا لا شيء فلنؤمن بالله الكل في الكل، القادر بروحه القدوس أن يعمل بنا.

هنا يلزمنا التنويه أنه بينما المتكلم واحد: "من أُرسل؟" نجده يستخدم صيغة الجمع: "من يذهب لأجلنا؟" لتأكيد أنه الله الواحد الثالوث، أو المثلث الأقانيم.

قّبِل الله القدوس المثلث الأقانيم عرض إشعياء، وقال له: "اذهب" [9]. لقد أراد الله ألا يُرسل إشعياء من أجل نوال كرامة أو مجد، إنما ليدخل في مرارة مع شعب رافض الحق... فالخدمة ليست مراكز كنسية ولا كرامات إنما هي جهاد روحي من أجل غسل أقدام الآخرين وحثهم علي قبول الحق، وذلك خلال المذبح المقدس الذي يُقدس الشفتين الداخليتين ويهب كلمة الله الفعّالة في حياة الخادم والمخدومين.  

وضع الرب كلماته علي فم النبي: "تسمعون سمعًا ولا تفهمون، وتبصرون أبصارًا ولا تعرفون" [9]. لقد وضع الرب في فم  إشعياء نبوات كثيرة عن السيد المسيح وعمله الخلاصي؛ وقد تحققت عند مجيء السيد المسيح، لقد سمعوا ورأوا لكنهم لم يؤمنوا به، لأن بصيرتهم الداخلية قد أصابها العمى؛ وذلك علي عكس التلاميذ الذين قال لهم الرب: "طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع" (مت 13: 11-16).

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الشعب: [إنهم يبصرون كيف يخرج الشياطين ويقولون: به شيطان؛ يبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكرون في قتله].

سبق لنا دراسة هذه النبوة أثناء شرحنا للإنجيل بحسب متى البشير الأصحاح 13، لذا اكتفي هنا بتعليق القديس أغسطينوس علي التساؤل: لماذا يُلام اليهود علي عدم إيمانهم مادام الله أعمى عيونهم؟

[إنهم لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء تنبأ عن ذلك، وقد تنبأ لأن الله سبق أن أخبره عما سيكون عليه حالهم. لكن إن سألت: ما هي علة عدم قدرتهم علي الإيمان أُجيب في الحال: إنهم لم يريدوا. الله رأى إرادتهم الفاسدة لذلك سبق أن أخبر النبي بذلك لأن  المستقبل ليس مخفيًا عنه... الله أعماهم وأغلظهم بمجرد تركه إياهم وسحب معونته عنهم[141]].

يُجيب القديس إيريناؤس علي ذات السؤال قائلاً: [إنهم يصابون بالعمى بسبب عدم إيمانهم بالله، فإنهم يتطلعون إليه فلا يرونه، لأنه بالنسبة لهم كأنه غير موجود؛ ذلك كما أن الشمس - خليقته - تُصيب ضعاف البصر فلا ينظرون نورها. أما الذين يؤمنون به ويتبعونه فيهب أذهانهم استنارة أكمل وأعظم[142]].

هذا هو تفسير كلمات النبي: "غلظ قلب هذا الشعب  وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفي" [10]. يلاحظ هنا أن الله لا ينسب الشعب إليه، بل يدعوه "هذا الشعب"، وهذه عادةً ما تحدث عندما يعلن الله غضبه عليهم فيحسبهم غير أهل للانتساب إليه بسبب غلاظة قلوبهم وثقل آذانهم وعمى أعينهم، أى بسبب العنف (القسوة)، والعصيان، والجهل الروحي.

هذه النبوة تُشير إلي جحد اليهود للسيد المسيح عند مجيئه، كما تُشير إلي جحد كلمات النبوة في أيام إشعياء فيسقطون تحت السبي ويحل بهم الخراب علي يديّ سنحاريب الآشوري.

حزن إشعياء النبي إذ أدرك ثقل المسئولية الملقاة عليه وما تنتظره من متاعب وآلام، كما حزن إذ أدرك ما سيحل بالشعب من دمار حتى تصير المدن خربة بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر [11]، فصرخ: "إلى متى أيها السيد الرب؟" [11]. هل كان يسأل: إلي متى يبقى هذا الشعب في القساوة؟! أما يسأل: إلي متى أُعلن نبوات مُرّة هكذا وقاسية؟!

كشف له الرب عن حال الشعب بعد انكساره أمام سنحاريب، فأعلن أنه وإن بقى في البلاد العُشر [13] يعود فيقيم الشعب خلال هذه البقية ويجعل منهم زرعًا مقدسًا. بهذا يتنبأ عن السبي وما يحدث بعد السبي. وفي نفس الوقت تُعتبر نبوة عن سبي اليهود في جحودهم الإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم، لكن في آخر الأيام تبقى بقية تعود للإيمان به. يقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلي أن يدخل ملوء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).

<<

 

 

الأصحاح السابع

خلاص آحَاذ والخلاص المسيَاني

لكي نفهم ما ورد في هذا الأصحاح يلزمنا دراسة (2 مل 16، 2 أي 28)، حيث تكتشف حقيقة آحاز، كأشر ملوك يهوذا، عُرف بالرياء والجبن، أجاز ابنه في النار وقدم ذبائح للأوثان في المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء.

في بدء حكم آحاز تحالف آرام مع إسرائيل (أفرايم) ضد يهوذا، وقاما بالهجوم عليه فقتل وفَقْح ملك إسرائيل 120 ألفًا في يوم واحد بينما أسر رَصِين  ملك آرام الكثيرين. أراد الاثنان فتح أورشليم لكن الله حفظها، وقد طمأن آحاز على لسان إشعياء بالرغم من فساد آحاز، معلنًا اهتمامه بخلاص شعبه ومدينته.

انتقل إشعياء من هذا الخلاص الزمني إلى الحديث عن الخلاص الأبدي الذي يُحققه عمانوئيل المسيا.

1. تحالف رَصِين ووفَقْح ضد آحاز   [1].

2. خوف آحاز                       [2].

3. إشعياء يُطمئن آحاز              [3-9].

4. آحاز يرفض طلب آية             [10-13].

5. الآية الإلهية: عمانوئيل [14-16].

6. أشور الحليف يصير عدوًا         [17-25].

1. تحالف رَصِين وفَقْح ضد آحاز:

في بدء حكم آحاز تحالف رَصِين ملك آرام مع فَقْح بن رَمَلْيا ملك إسرائيل ضد يهوذا [1]. هجم الأول من جهة شرق الأردن بينما اندفع الثاني بجيوشه من الشمال، وانهزم آحاز. صعدًا إلى أورشليم العاصمة لمحاصرتها، لكنهما لم يستطيعا اقتحامها. أما بسبب المعركة فهو اختلاف آحاز عن الملكين الآخرين سياسيًا؛ فقد رأى آحاز أن يتحالف مع أشور بينما رأى الملكان أن يتحالفا مع مصر.

وجد آحاز نفسه في مأزق، فطلب معونة فلاسِرَ ملك آشور، الذي أسرع نحو دمشق حيث قتل رَصِين  (2 مل 16: 9)، وهكذا فعل أيضًا بالسامرة (2 مل 15: 29).

2. خوف آحاز:

إذ عرف آحاز أن آرام حَلّ في أفرايم (المملكة الشمالية أو إسرائيل) للتحالف معًا ضده "رجف قلبه وقلوب شعبه كرجَفَانِ شجر الوعْر قدام الريح" [2]. لقد أدرك آحاز وشعبه عدم قدرتهم على مواجهة آرام وإسرائيل، أما علة خوفهم الحقيقي فهو عدم إيمانهم بالله كسند لهم قادر أن يُحصنهم ويهبهم النصرة. لقد فقدوا سلامهم الداخلي بانعزالهم عن الله مصدر الغلبة والسلام.

3. إشعياء يُطمئن آحاز:

اضطرب آحاز جدًا، لأنه اسقط من حساباته عنصر الإيمان أو "الوجود الإلهي"، فلم يُنادِ بالتوبة والرجوع إلى الله، ولا ذهب إلى الهيكل ليضع الأمر بين يديْ الله، ولا أرسل إلى النبي يستشيره، إنما استخدم الوسائل البشرية من التجاء إلى آشور لحمايته، وخروجه إلى طرف قناة البركة العليا [3] غرب أورشليم على رأس وادي ابن هنوم يختبر مع رجال الدولة موارد المياه ليحولونها إلى المدينة تنتفع بها أثناء الحصار المرتقب ولحرمان العدو منها (2 أى 22: 3، 4؛ إش 22: 9-11) كما كان يُباشر تحصين المدينة قدر المستطاع.

مع هذا كله تدخل الله ليس من أجل آحاز وإنما من أجل القلة القليلة المقدسة من شعبه، ومن أجل داود عبده ومدينته العزيزة لديه. لقد طلب من إشعياء أن يخرج لملاقاة آحاز ومعه شآرياشوب ( = البقية سترجع) بكونه علامة وأعجوبة في إسرائيل (إش 8: 8)، مؤكدًا له: "احترز وأهدأ؛ لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبيْ هاتين الشُّعلتين المدخِّنتين بحمو غضب رَصِين وآرام وابن رمَلْيا" [4].

التقى النبي وابنه مع الملك عند البركة ليعلن الله للملك أن الخلاص لن يتم بالتخطيط البشري والإمكانيات الزمنية وإنما بعمل الله الفائق وعنايته نحو أولاده. التقى النبي مع الملك عند البركة ليؤكد له أن الله يُريد أن يتحدث مع البشرية أينما وجدوا، يلتقي مع لاوي عند مكان الجباية ومع زكا عند شجرة الجميز ومع السامرية عند بئر يعقوب الخ... هو يبحث عنا ويذهب إلينا أينما وجدنا مشتاقًا إلى خلاصنا أكثر من اشتياقنا نحن إليه.

طلب الله من آحاز ألا يخاف ولا يضعف قلبه، للأسباب:

أ. أن العدوّيْن "فَقْح ورَصِين " ليسا إلاَّ شعلتين مدخنتين [4]. هكذا يجد أولاد الله مقاومة وتحالفًا من الأعداء ضدهم لكن هذا كله لن يَزيد عن كونه شعلة مُدخّنة تعكّر الجو وتؤذى الأنف إلى حين، بلا نار ملتهبة لتحرق. عدو الخير قوي وجبار في المظهر لكنه يَصغْر جدًا ويضعف تمامًا أمامنا إن اختفينا في المسيح الغالب لإبليس وكل قواته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم لثيؤدور الساقط:         

[إن كان للشيطان هذه القدرة أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر؛ فكم بالأكثر جدًا يكون الله قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذى قبل[143]].

ب. عدم نجاح مؤامرة الأعداء: قام الملكان بمؤامرة شيطانية خفية لكن الله المدرك كل الخفيات أعلنها حتى يحتاط الملك آحاز بالرغم من شِّرهِ وغَبائِه. يقول الرب "لا تقوم، لا تكون" [7]. قد ينجح العدو في البداية حاسبًا أنه يُحقق أهدافه الشريرة، لكن الرب يُشتت المستكبرين بفكر قلوبهم (لو 1: 51).

ج. لن يقدر آرام أن يتوسع كما ظن إنما يلتزم حدوده: "لأن رأس آرام دمشق ورأس دمشق رَصِين" [8]. هكذا مهما حارب رَصِين فسيعود إلى دمشق ولا تتسع مملكته على حساب يهوذا كما يظن. أما بالنسبة لأفرايم ففي مدة 65 سنة ينكسر حتى لا يعود يُحسب شعبًا [8]، يرى البعض أنه في مدة 5، 6 سنوات أي 11 سنة، لأن سبي إسرائيل تحقق بعد 11 سنة من حديث إشعياء النبي (2 مل 17: 3، 6). وإن كان بعض الدارسين يرون أن النبي يُشير هنا إلى خراب إسرائيل بواسطة آسرحدون الذي جاء بقوم من بابل وكوث وعدا وحماة وسفروايم وأسكنهم في مدن السامرة عوضًا عن بنى إسرائيل ليقضي على أمة إسرائيل تمامًا (2 مل 17: 24).

ختم النبي حديثه بقوله: "إن لم تؤمنوا فلا تؤمنوا" [9]. فإنهم ما لم يؤمنوا بالوعد الإلهي ويثقوا فيه متكلين على ذراع الرب لن يثبتوا في هذه الظروف القاسية الصعبة. الإيمان هو الدرع (1 تس 5: 8) الذي يحمينا من ضربات العدو.

جاءت هذه العبارة في الترجمة السبعينية: "إن لم تؤمنوا فلا تفهموا" وقد علق عليها القديس أغسطينوس كثيرًا، فمن كلماته:

[لا تستطيعوا أن تنالوا الفهم ما لم يشرق الإيمان في القلب القائل مع النبي: "إن لم تؤمنوا بالتأكيد لن تفهموا"[144]].

[الإيمان يُبحث عنه وأما الفهم فيوجد، إذ يقول النبي: "ما لم تؤمنوا لا تفهموا"[145]].

[حسب تعليم الكنيسة الجامعة يليق بالعقل أن يتغذى أولاً بالإيمان البسيط حتى يقدر أن يفهم الأمور السماوية الأبدية[146]].

[إنكم (يُحدِّث الهراطقة) لم تتعلموا في ملكوت السموات - أي كنيسة المسيح الحقيقية الجامعة - وإلاَّ فإنكم كنتم قد نهلتم من كنز الكتب المقدسة، ما هو قديم وأيضًا ما هو جديد. يقول الرب نفسه: "من أجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلاً رب بيت يخرج من كنزه جددًا وعتقاء" (مت 13: 52)[147]]. 

يرى القديس أغسطينوس[148] أن الإنسان بالإيمان يرافقه السيد المسيح ليسير معه كل الطريق كما فعل مع تلميذي عمواس اللذين توسلا إليه أن يمكث معهما، فلما اتكأ معهما "انفتحت أعينهما وعرفاه" (لو 24: 31).

يعلق القديس إكليمنضس السكندري على ذات العبارة قائلاً: "هذا يعني أنه إن لم تؤمنوا بما تنبأ عنه الناموس وتتقبلوا تعليم الشريعة لن تفهموا العهد القديم الذي فسره (السيد المسيح) بمجيئه"[149]".

4. آحاز يرفض طلب آية:

قدم الله لآحاز كل امكانية للخلاص، لكن قلبه كان قد تقسى تمامًا فوثق في أشور لا الله. ومع ذلك فإن الله في حبه ولطفه عاد يتحدث معه خلال إشعياء النبي قائلاً: "اطلب لنفسك آية من الرب إلهك؛ عمق طلبك أو رفعه إلى فوق" [11]. وكأنه يقول له: لماذا تطلب عونًا من أشور الغريب، أنا هو إلهك مستعد أن أؤكد لك مواعيدي بآية من الأرض أو من السماء، فأنا إله السماء والأرض. أطلب ما تُريد وأنا أعطيك. أطلب أن تحدث زلزلة أو انشقاق للأرض كما حدث مع قورح وجماعته، أو اطلب بروقًا أو رعودًا أو أمطارًا أو علامة في الشمس كما حدث مع يشوع حيث توقفت الشمس. فانني وإن كنت لا أحب تقديم آيات للاستعراض إنما من أجل حبي لبيت داود ولكي تؤمن بيّ أعطيك سؤل قلبك. أما آحاز فقد صوّب نظره نحو أشور، رافضًا أية معونة من قِبَل الله، لذا رفض طلب آية منه، مبررًا ذلك بنص كتابي "لا أُجرب الرب" [12] (تث 6: 16). لم يقل هذا عن ثقة في الله وإنما رغبة في عدم التعامل معه.

هذا الفصل يُقرأ في باكر من الجمعة من الأسبوع الثاني من الصوم الكبير حيث تركز القراءات على "تجربة السيد المسيح". وكأن روح الرب يؤكد أنه في كل العصور يوجد أشرار يرغبون في تغطية شرورهم بنصوص كتابية، حتى الشيطان نفسه في حواره مع السيد المسيح عند التجربة استخدم ذات الأسلوب. ما أخطر إساءة استخدام كلمة الله!

كان آحاز مخادعًا في إجابته حتى على الرب، لهذا وبخه النبي قائلاً: "اسمعوا يا بيت داود؛ هل هو قليل عليكم أن تُضجروا الناس حتى تُضجروا إلهي أيضًا؟!" [13]. لقد تضجر الناس بسبب مظالم آحاز وأهل بيته وها هم كمن يضجرون الله بعدم إيمانهم به متكلين على أشور لا الرب.

5. الآية الإلهية: عمانوئيل: 

رفض آحاز أن يطلب من الله آية ليطمئن أنه سيخلصه من أرام وإسرائيل، وها هو الرب يقدم نفسه آية لا لآحاز وإنما لكل البشرية لنطمئن أنه يخلصها لا من الأذرع البشرية وإنما من كل قوات الظلمة الشريرة، يرفعها فوق الأحداث الزمنية ويحملها معه إلى الأحضان الأبوية. وفي نفس الوقت يطمئن آحاز أن بيت داود لن يسقط تمامًا، إنما يأتي ابن داود "الآية العجيبة" القادر أن يُقيم خيمة داود الساقطة.

الآية التي يُريد الرب أن يهبها لكل مؤمن هي أنه يعطي ذاته "عمانوئيل". نحن لا نعمِّق الطلبة ولا نرفعها إلى فوق إنما كآحاز نخشى أن نطلب مع أنه ينتظر أن يهبنا ذاته؛ ينزل إلينا ليرفعنا إليه، فيكون هو نصيبنا الصالح الذي لن ينزع عنا. لهذا يقول القديس إيريناؤس: [ما قاله إشعياء: "رفّع إلى فوق وعمق إلى أسفل" يعني الإشارة إلى ذاك الذي نزل وصعد (اف 4: 10)[150]]. لنطلب هذه الآية العجيبة عمانوئيل النازل إلينا ليصعدنا إلى سمواته.

حقًا إنها آية فريدة، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لما كان ما هو مزمع أن يحدث أمرًا غريبًا لا يمكن لكثير من أن يصدقوه حتى عندما يتحقق لهذا أرسل أولاً وقبل كل شيء أنبياء يعلنون عن هذه الحقيقة[151]].

وبذات المعنى يقول الشهيد يوستين: [الأمور التي كانت تبدو غير معقولة بل ومستحيلة بالنسبة للبشر أعلن الله عنها بروح النبوة[152]...].

أ. "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" [14]. وكما يقول الشهيد يوستين في حواره مع تريفو (66): [من الواضح للجميع أنه لم يولد أحد في جنس إبراهيم من عذراء أو قيل عنه ذلك إلاَّ مسيحنا].

بتولية القديسة مريم حقيقة إنجيلية تخفي إيماننا في المسيح يسوع ابنها. فإن كلمة الله عند تجسده لم يبال بنوع الموضع الذي يضطجع فيه، أو الملابس التي يتقمط بها، أو الطعام الذي يقتات به، لكنه حدد بدقة "العذراء" التي تصير له أمًا[153].

الكلمة العبرية المستخدمة لعذراء هي "آلما Alma" وليس بتولية "ولا "ايسا"، فإن كلما "آلما" تعنى عذراء صغيرة يمكن أن تكون مخطوبة، أما "بتولية" فتعني عذراء غير مخطوبة بينما إيسا تعني سيدة متزوجة. وكأن كلمة "آلما" تُطابق حالة القديسة مريم تمامًا بكونها عذراء وفي نفس الوقت مخطوبة للقديس يوسف الذي كان بالنسبة لها مُدافعًا وشاهدًا أمينا على عفتها، بوجوده ينتزع كل ريب أو ظن حولها.

تحدث حزقيال النبي (44: 1-2) عن بتولية القديسة مريم:

v   حزقيال شهد وأظهر لنا هذا، قائلاً:

إنيّ رأيت بابًا ناحية المشارق،

الرب المخلص دخل إليه،

وبقى مغلقًا جيدًا بحاله.

أبصالة آدم يوم الأحد

بتولية القديسة مريم هي برهان على إيماننا بالسيد المسيح أنه ليس من زرع بشر، أنه ليس من هذا العالم، بل هو ابن الله المتجسد، جاء إلينا من الأعالي. لقد حملت "عمانوئيل" الذي يعني "الله معنا"؛ نزل إلينا متجسدًا في الأحشاء البتولية لتحمل طبيعتنا ويصير واحدًا معنا، يحل في وسطنا، مقدسًا كل ما لنا.  

v   الذين أعلنوا أنه عمانوئيل المولود من البتول (إش 7: 14) أعلنوا أيضًا اتحاد كلمة الله بصنعة يديه.

إذ صار الكلمة جسدًا، وابن الله ابنا للإنسان، وافتتح الطاهر بنقاوة والأحشاء النقية معطيًا للبشرية تجديدًا في الله.

القديس ايريناؤس[154]

v   فتح السيد المسيح مستودع الكنيسة المقدسة، ذلك المستودع الصامت، الذي بلا عيب، المملوء ثمرًا، حيث يولد شعب الله.

القديس أمبروسيوس[155]

v   ميلادك الإلهي يارب قد وهب البشرية كلها ميلادًا... ولدتك البشرية حسب الجسد، وأنت ولدتها حسب الروح... المجد لك يا من صرت طفلاً لكي تجعل الكل جديدًا.

القديس مار إفرام السريإني[156]

v   إننا نؤكد أن الابن وحيد الجنس قد صار إنسانًا... حتى إذ يولد من امرأة حسب الجسد يعيد الجنس البشري فيه من جديد.

القديس كيرلس الكبير[157]

ب. "زبدًا وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير" [16].

هنا يؤكد النبي ناسوت السيد المسيح، فمع كونه ليس من زرع بشر لكنه صار بحق ابن الإنسان، يُشاركنا أكلنا وتصرفاتنا ويشابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها (عب 2: 7).

الزبد والعسل هما طعام الصبية الصغار، فانه لن يبلغ الرجولة دفعة واحدة، إنما يجتاز مرحلة الصبوة، خلالها يعرف أن يرفض الشر ويختار الخير علامة نضوج نفسه وفكره. نراه في الثانية عشرة من عمره يجلس وسط المعلمين يسمعهم ويحاورهم حتى بهتوا من تعليمه (لو 2: 46-47).

هذا تحقق بالنسبة لربنا يسوع المسيح المولود وحده من العذراء؛ أما بالنسبة لما تم في أيام آحاز فقد أعلن الله عن ميلاد ابن لإشعياء، قيل عنه: "لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تْخلى الأرض التي أنت خاشِ من ملكيها" [16]. تحقق ذلك بكل دقة إذ هاجم ملك أشور دمشق بعد إعلان هذه النبوة بفترة قصيرة وقُتل رَصِين  (2 مل 16: 9) كما قَتَل هوشع بن إيلة فَقْح بن رمليا وملك عوضًا عنه (2 مل 15: 30)، وأُعيد 200.000 أسيرًا بسرعة (شآرياشوب = البقية سترجع) وذلك لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروح الرب (2 مل 28: 8-15).

6. أشور الحليف يصير عدوًا:

إذ يتكئ آحاز على أشور كحليف له دون الرجوع إلى الرب لهذا يسمح الله أن ينقلب آشور عدوا ضد يهوذا، ويجتاز يهوذا مرارة لم يسبق له اجتيازها منذ انقسمت المملكة إلى مملكتين "إسرائيل ويهوذا" [17]، وفي نفس الوقت يرى أيامًا صعبة من جهة مصر فيصير يهوذا بين حجَرىْ رحا، لا بمعنى أن يتفق أشور ومصر ضده، وإنما يتصارع الاثنان ضد بعضهما ويكون يهوذا هو كبش الفداء للإثنين، في أرضه تحدث المعارك والصراعات.

"ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب (جيوش مصر) الذي في أقصى ترع مصر، وللنحل (جيوش أشور) الذي في أرض أشور، فتأتي وتحل جميعها في الأودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعى (أى تُغطى الجيوش كل بقاع يهوذا)" [18-19].

هذا ويصور الرب الخراب الذي يحققه أشور بموسى مستأجرة تحلق شعر الرأس وشعر الرجلين واللحية [20]. وكأن العدو يمد يده كما بموسى ليمسح كل ما لدى الملك وأهل بيته والعظماء (الرأس) وما لدى عامة الشعب (الرجلين) وأيضًا الكهنة (اللحية). هكذا يتحول أشور إلى موسى مخرب ومُحطم! حلق اللحية كان علامة المذلة إذ كان الأسرى يلتزمون بذلك لا إراديًا.

مرة أخرى يُعطي صورة لخراب يهوذا التي اشتهرت بتربية الأغنام، فكان كل إنسان يملك الكثير من الرؤوس، لكن بعد الخراب يصير للمقتدر عجلة بقر وشاتين [21]، وتتحول الكروم الجيدة إلى أرض للشوك والحسك [23]، إذ لا توجد أيدٍ عاملة بسبب الحرب...

<<

 


 

الأصحاح الثامن

مهير شلال حاش بز

في الأصحاح السابق تحدث الله مع آحاز الملك خلال إشعياء النبي الذي أعلن عن تدخل الله لانقاذ أورشليم من أرام و إسرائيل، وقد انجب النبي ابنه الأول شآرياشوب (=البقية سترجع) ليؤكد أن المسبيين من يهوذا يرجعون سريعًا. الآن يتحدث الله مع الشعب في ذات الأمر وتحت نفس الظروف، وينجب النبي الابن الثاني المدعو مهير شلال حاش بز (=أسرِع إلى السلب، بادر إلى النهب) ليؤكد أن أشور قادم شريعًا ليسلب آرام وينهب إسرائيل منقذًا أورشليم، وفي نفس الوقت ينذر شعب يهوذا لاتكاله على أشور لا على الرب.

1. غلبة أشور على آرام وإسرائيل            [1-4].

2. إنذار بني يهوذا                             [5-8].

3. بلاد عمانوئيل                              [9-10].

4. تشكيك وتعثّر في عمانوئيل                 [1-15].

5. البقية المقدسة                              [16-18].

6. الالتجاء إلى العرافين                       [19-22].

1. غلبة أشور على آرام وإسرائيل:

في الأصحاح السابق تحدث الرب مع آحاز المرتجف من آرام وإسرائيل، الآن يتحدث مع الشعب مؤكدًا خراب المملكتين اللتين تحالفتا معًا ضد يهوذا. بأمر إلهي أخذ إشعياء لوحًا كبيرًا كتب عليه بحروف واضحة "مهير شلال حاش بز" وتعني "أسرع إلى السلب، بادر إلى النهب". وضع إشعياء النبي اللوح في مكان ظاهر في الهيكل لكي يقرأه الكل، وقد شهد كاهنان عليه هما: أوريا وزكريا، أوريا كان رئيس كهنة في أيام آحاز ومشيره الروحي والمشترك معه في العبادة الوثنية. فقد أقام مذبحًا على شبه مذبح الآراميين رآه حزقيا في دمشق، ليُقدم الملك عليه ذبائح (2 مل 16: 10-16).

وقع الكاهنان على اللوح أو ختماه بختميهما كشاهدين موثوق فيهما إذ على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة (2 كو 13: 1)، شهدا أن ما كتبه كان قبل حدوث الأمر.

يعلن إشعياء النبي أنه عندما يبلغ ابنه مهير شلال حاش بز حوالي سنة واحدة من عمره تتحقق النبوة ضد آرام وإسرائيل، إذ يقول: "قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تُحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" [4]. وقد تم ذلك بواسطة تغلث فلاسر ملك أشور (2 مل 15: 29؛ 16: 9؛ 1 أى 5: 26).

2. إنذار بني يهوذا:

بعد أن أعلن الله خلاصه لمدينة أورشليم محطمًا آرام وإسرائيل اللذين تحالفا ضدها بدأ يسرد خطايا بني يهوذا وما سيحل عيهم من تأديبات. إن كان يدافع عنهم لكنه لا يدافع عن خطاياهم ولا يتستر عليها بل يطلب التوبة عنها والرجوع إليه .

يقول: "لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت وسُرّ برصين وابن رمليا" [6]. "شيلوه" مجرى مائي اسمه يعني "المرسل"، دعى في العهد الجديد "سلوام". نُحت هذا المجرى في الصخر، طوله بضعة آلاف من الأقدام، يقع جنوب غربي أورشليم، تنساب المياه فيه في هدوء، عليه تعتمد المدينة، كان رمزًا لبيت داود[158]. ماذا يعني  رذل الشعب مياه هذا المجرى؟ لقد قارنوا بينه وبين نهري دمشق إبانه وفرفر، فرذلوه واستهانوا به. هذا يُشير إلى استخفافهم  بما وهبهم الله "مملكة يهوذا" متطلعين إلى ما هو لدى الغير "الأذرع البشرية". لقد فقدوا إيمانهم بالله واهب النصرة وخشوا رصين وابن رمليا الغريبين والمقاومين ليهوذا ملتجئين إلى من ينقذهم منهما.

مياه شيلوه تُشير إلى قوة الروح الهادىء والوديع، مصدر التقديس وينبوع البر.

أيضًا "شيلوه" تعني "المرسل"، تُشير إلى السيد المسيح الذي أرسله الآب لخلاصنا، فرذله اليهود ورفضوا عمل روحه القدوس.

هم رفضوا مجرى الماء الهادىء طالبين المياه الغامرة القوية، لذلك يؤدبهم الرب بأن "يصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملك أشور وكل مجده" [7]. إن كان يهوذا يتكىء على أشور، فإنه سيأتي فعلاً ويخلصه، لكنه يعود فيما بعد يندفق عليه كنهر الفرات الذي أعجبوا به واشتهوه، يفيض على يهوذا ويغرقه [7]. لقد أنقذ تغلث فلاسر الآشوري يهوذا، لكن سنحاريب الآشوري هجم بقوة على يهوذا وبلغ إلى العنق وحاصر الرأس أورشليم، وكادت أن تسقط لولا تدخل الله: "يفيض ويعبر يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه (فرعي نهر الفرات) ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" [8].

هكذا يسمح الله بالتأديب فتحل التجارب كالسيل الجارف لكي تبلغ إلى أعناقنا، لكنه يحفظ الرأس (إيماننا بالسيد المسيح رأسنا) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك (لو 22: 32)، لأننا أرض عمانوئيل، ملك الرب.

يعلق القديس أغسطينوس على كلمات السيد المسيح: "كونوا حكماء كالحيات" (مت 10: 16)، قائلاً: [بإنه يلزمنا أن نتشبه بحكمة الحية التي تضع رأسها بين جسدها عندما يحدق بها الخطر، فتسقط الضربات على الجسد دون الرأس، إذ تعلم أنها لا تهلك مادامت رأسها سليمة. هكذا يليق بنا أن نحتفظ بإيماننا بالسيد المسيح ـ رأسنا ـ سليمًا مهما حلت بنا الضيقات فلا نهلك].    

مهما حاول عدو الخير أن يبسط جناحيه في داخلنا [8] فإنه لا يصيبنا ضرر مادامت أرضنا بأكملها أرض عمانوئيل، أي مادامت حياتنا مستترة تحت ظل جناحي الرب، مادمنا نحمل فينا مملكة المسيح!

3. بلاد عمانوئيل:

بينما يتحدث النبي عن الأمور الجارية في عهده إذا بالرب يرفع أنظاره وأنظار المؤمنين نحو عمل المسيح الخلاصي. الله في حبه يترفق بشعب يهوذا فيُخلصهم من تحالف آرام وإسرائيل ضدهم، وفي نفس الوقت إذ يخطىء الشعب بالتجائه إلى أشور يصير أشور نفسه مقاومًا لهم. هذا ما سمح به الله، لكنه لم يسمح بإبادة يهوذا تمامًا، لأن منه يخرج السيد المسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا. يسمح بالغزو الآشوري يفيض حتى عنق يهوذا لكنه لا يصيب الرأس، إذ يتجسد كلمة الله من سبط يهوذا - من القديسة مريم - ويحل بيننا عمانوئيل الذي يُقيم من قلوبنا أرضًا أو مملكة له... هذا ما دفع النبي إلى الانتقال المفاجىء من مشكلة يهوذا في عصر النبي أو بعده بقليل إلى الحديث عن القوى المتحالفة ضد عمانوئيل، قائلاً:

"هيجوا أيها الشعوب وانكسروا واصنعوا يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة فلا تقوم. لأن الله معنا" [9-10].

لم يقف الأمر عند أشور الذي انهار حيث مات 185.000 رجلاً منهم في المعركة وإنما يعلن النبي عن سقوط كل قوى العالم المقاومة للحق: أشور يليها بابل ثم فارس ومادي والدولة الرومانية (إش 54: 17، مى 4: 13). وبالأكثر قصد قوات الظلمة الروحية المقاومة لمملكة المسيح. يعلن النبي أن هياج الأعداء وتحالفهم ومشوراتهم الشريرة ضد الكنيسة، موجهة ضد عمانوئيل الحال في وسطها، لهذا تنهار قوات الظلمة وتتمتع الكنيسة الحقيقية بالغلبة.

هذا الصوت النبوي يصرخ ضد كل مقاومي المسيح، معلنًا ما قاله الرب نفسه لشاول: "لماذا تضطهدني؟!... صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 9: 4-5). ليفعل العدو كل ما في وسعه مقاومًا المؤمنين، فإنه إنما يُحطم نفسه.

4. تشكيك وتعثر في عمانوئيل:               

يبدو أن البعض لم يصدق كلمات النبي وحسبوا ذلك فتنة سياسية أو خيانة وطنية ومقاومة للملك والسلطات، كي لا يلجأ يهوذا إلى أشور فيهلك على أيدي الآراميين وإسرائيل. لقد أمسك الرب كما بيد إشعياء ليشدده [11]. يرى البعض أن إشعياء نفسه-كإنسان- مال أحيانًا إلى رأي الملك ومشيريه والشعب، لكن الله مُصرّ أن يوضح له الطريق وإن كان مخالفًا لرأي الجماعة؛ كأنه قد أمسك بيده ليدخل به الطريق الضيق المرفوض. ولعل الرب أمسك بيده ليشدده من أجل الاتهامات الباطلة الموجهة ضده، ولكي لا يتوقف عن العمل النبوي بسبب ما يثيره هؤلاء القوم، إنما يُريده أن يُشدد الأيدي الأمينة بتقديسها للرب. وكأن الرب يمسك بأيدي إشعياء ليمسك الأخير بدوره أيادي المخلصين ويضعها في أيدي الله القدوس. لذا يقول: "لا تخافوا خوفه ولا ترهبوا، قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم" [12-13]. كل نفس أمينة في خدمة الرب تُقاوم، لكن الرب نفسه يسندها لا لكي تعمل فحسب وإنما لكي تسند الآخرين وتُشجعهم على العمل بروح الله القدوس، متطلعين لا إلى المقاومة بل إلى مساندة رب الجنود لهم.      

ما أروع هذه الكلمات "لا تخافوا... قدسوا رب الجنود فهو خوفكم". لقد تكاتفت القوى الشريرة وتحالفت في تعالٍ وكبرياء، أما أولاد الله فيتحدوا معًا في الرب، يتحدوا تحت قيادة رب الجنود القدوس في حب وتقديس. هؤلاء لا يتكئون على أذرع بشرية ولا يريدون تحالفًا بين النور والظلمة وإنما يؤمنون بالغلبة والنصرة خلال التقديس أو الشركة مع الله القدوس.

ليس إشعياء وحده يُقاوم ولا أيضًا الأمناء من المؤمنين، إنما يصير "عمانوئيل" نفسه مُقاومًا وحجر صدمة لكثيرين: "ويكون مقدسًا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل وفخًا وشركًا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون فينكسرون ويعلقون فيلقطون"

[14-15].

إنه "مقدس" أو "حجر مقدس" بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم، هو "حجر الأساس" و"حجر زاوية" يربط المؤمنين من اليهود مع المؤمنين من الأمم كحائطين يلتقيان معًا فيه. وفي نفس الوقت هو حجر عثرة وصدمة لغير المؤمنين.

v   متى قُدم (المسيح) في الكتاب المقدس كحجر يكون حجر عثرة لغير المؤمنين وحجر أساس للمؤمنين (إش 8: 14؛ 28: 16؛ دا 2: 34، 45؛ مت 21: 44؛ لو 20: 17؛ أع 5: 11؛ رو 9: 33 الخ...).

القديس أغسطينوس[159]

جاء السيد المسيح إلى خاصته وخاصته لم تقبله، لذا يقول "صخرة عثرة لبيتى"؛ مما يزيد جراحاته أن الرفض هو من بيته.

اقتبس القديس بطرس (1 بط 2: 8) هذه النبوة معلنًا إتمامها في شخص السيد المسيح.

5. البقية المقدسة لله:

إن كانت خاصة السيد المسيح أو أهل بيته قد رفضوه فصار لهم حجر عثرة لكن وُجدت بقية مقدسة قبلته مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر الخ... هذه البقية تُحسب خميرة مقدسة يستخدمها روح الله لتخمير العجين في العالم كله.

ما حدث مع السيد المسيح تم مع إشعياء بصورة باهتة بكونه رمزًا للمسيح، إذ صار له هو أيضًا تلاميذ أمناء.

"صُرّ الشهادة اختم الشريعة بتلاميذي" [16]. قبلت القلة المقدسة كلمات إشعياء النبي بكونها نبوات صادقة وكلمة إلهية، حاسبين كلماته إعلانًا عن فكر الله وإرادته المقدسة. هؤلاء دعاهم النبي تلاميذه و أيضًا "الأولاد الذين أعطانيهم الرب" [8]. هؤلاء يلزمهم أن يختموا أو يصروا على ما سمعوه، لأن هذه النبوات يجب أن تبقى محفوظة حتى أزمنة العهد الجديد، حيث تعلن للأطفال البسطاء (مت 11: 25). ختمها أيضًا يعني الالتزام بعدم الإضافة إليها أو الحذف منها.

ما ذكره إشعياء يبدو في عصره أنه أمر مستحيل يجب مقاومته لهذا كان يلزمه هو وتلاميذه أن يتسلحوا بالصبر للرب [17]. عاشوا في جو مقبض: الرب ساتر وجهه عن شعبه [17]، كأنه ليس شعبه ولا يعرفه مسلمًا إياهم لأذهانهم المرفوضة المخرَّبة، الأمر الذي أحزن قلب إشعياء وتلاميذه؛ وفي نفس الوقت يتطلع إليهم الشعب كغرباء عنهم وشواذ مملوئين حماقة. فبقوله: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل من عند رب الجنود" [18] يعني أن إشعياء وتلاميذه أشبه بآيات وعجائب بالنسبة للشعب، إذ يختلفون عن الكل في إيمانهم وسلوكهم  وأفكارهم نحو الرب.

لقد حُسب تلاميذ إشعياء أولادًا له، وهو في هذا يحمل رمزًا للسيد المسيح الذي يشتاق أن يربط المؤمنين به برباط فريد أشبه برباط الأب مع أولاده.

v   إنه أخ وصديق وعريس: "لا أعود أُسميكم عبيدًا... لكني قد سميتّكم أحباء" (يو15: 15). ويقول بولس: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)؛ "ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29). لم نعد فقط إخوته بل صرنا أولادًا له، إذ يقول: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" [18]، ليس هذا فقط بل وصرنا أعضاءه وجسده[160].

v   هنا (عب 2: 13؛ إش 8: 18) يظهر (المسيح) نفسه أبًا كما أظهر نفسه قبلاً أخًا[161].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v    [يتحدث مع طالبي العماد].

v   تشارككم الملائكة الفرح، والمسيح نفسه رئيس الكهنة الأعظم... يُقدمكم جميعًا للآب قائلاً: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الله" ليحفظكم جميعًا موضع سرور نظرته.

القديس كيرلس الأورشليمي[162] 

كما يتقدم إشعياء النبي بتلاميذه إلى الله كشهود حق، رمزًا لشخص السيد المسيح الذي يُقدم مؤمنيه للآب أعضاء جسده وأبناء للحق موضع سرور الآب، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نهتم بكل أحد خاصة أفراد الأسرة لنقدمهم لله أحباء له. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لنفكر جديًا في زوجاتنا وأولادنا وخدمنا، مدركين أننا بهذا نقيم لأنفسنا تدبيرًا حسنًا (سهلاً) ويصير تعاملنا معهم وديعًا ورقيقًا[163]].

6. الالتجاء إلى العرافين:

شعر الشعب كأن الله قد حجب وجهه عنهم لهذا بدأوا يطالبون المسئولين - ربما من بينهم بعض تلاميذ إشعياء - أن يلجأوا إلى أصحاب التوابع والعرافين لطلب المشورة والتعرف على الأمور المستقبلة. يدعوهم النبي "المشقشقين والهامسين" [19]، لأنهم يتكلمون بصوت خافت كما من عالم آخر ليتقنوا تمثيل دورهم.

ماذا يعني الالتجاء إلى العرافة؟ فقدان الإنسان كل ملجأ أو عون له، ذلك كما حدث مع شاول الملك. شعر أنه في عزلة عن الله، وعن أنبيائه، حتى الشعب تراجع عنه فلجأ إلى الموتى يسألهم خلال صاحبة العرافة.

كان يليق ببني يهوذا - قادة وشعبًا - أن يلجأوا إلى الله ويستشيروا أنبياءه ويسمعوا كلمة الله التي تُنير وسط الظلام [20]، فينالوا مشورة صالحة ومعرفة لإرادة الله وعونًا ونعمة، أما أن يلجأوا إلى العرافة بكل صورها وإلى سؤال الموتى، فهذا يعني أنهم رفعوا أعينهم إلى فوق فوجدوا السماء غاضبة [21] وتطلعوا إلى الأرض فإذا بالظلام الدامس حالّ بها.

في اختصار سقط بنو يهوذا في خطيتين خطيرتين هما: الالتجاء إلى التحالف البشري عوض الاتكال على الله، والرجوع إلى العرافة والموتى عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة استنارة وقوة.

هذه الصورة المؤلمة تعلن عن حقيقة هامة: الحاجة إلى مخلص إلهي!

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح التاسع

المولود العجيب

إذ يشتد الظلام ينبلج الفجر لتشرق الشمس على الجالسين في الظلمة، هكذا خُتم الأصحاح السابق بصورة قاتمة عن الشعب الذي صار في ضيق شديد وظلمة، لذا جاء هذا الأصحاح يحدثنا عن مجيء المسيا "شمس البر" الذي يبدد الظلمة، والذي يمد يده بالحب منتظرًا رجوع الكل إليه .

1. نور أشرق في الظلمة             [1-5].

2. المولود العجيب                   [6-7].

3. اليد الممدودة                      [8-12].

4. تأديب الرب لهم                   [13-21].

1. نور أشرق في الظلمة:

جاء ختام الأصحاح السابق قاتمًا للغاية، لهذا بدأ هذا الأصحاح بكلمة "ولكن"... فإن الله لا يترك شعبه هكذا، لكنه يُريد أن يشرق عليهم بنوره.

"ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" [1-2]. وقد تمت هذه النبوة بظهور السيد المسيح وكرازته في جليل الأمم. يقول الإنجيلي: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم؛ الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا" (مت 4: 14-16). اتسمت هذه المنطقة بالضعة، فيقول نثنائيل: "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!" (يو 1: 46). لعل هذا يرجع إلى أن هذه البقعة. (جليل الأمم) تقع على حدود الأمم، فكانت معرضة للغزوات، وبسبب اختلاطها بالأمم الوثنية المجاورة أخذت الكثير عن العادات الوثنية وظلت فترات طويلة في انحلال روحي، لذلك وضعها النبي: "الشعب الجالس في الظلمة".

منطقة الجليل عبارة عن دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، وكان اليهود فيها قليلي العدد، أكثر سكانها من الفينيقيين واليونانيين والعرب، لهذا سُميت "جليل الأمم"، جاء إليها السيد المسيح، معلم البشرية وشمس البر، ليُضيىء على الجالسين في الظلمة. أما منطقة كفر ناحوم التي تعني "المُعزي" فتعتبر من أهم مناطق الجليل، وهي قلعة رومانية كان بها حامية من قواد الرومان.

v   سكن في الجليل حتى يرى الجالسون في الظلمة نورًا عظيمًا.

القديس غريغوريوس النزينزي[164] 

v   فليرَ الجالسون في ظلمة الجهل نور كمال المعرفة العظيم؛ الأمور القديمة عبرت، هوذا الكل قد صار جديدًا (1 كو 5: 17)؛ الحرف انتهي وتقدم الروح، الظلال هربت وجاء إليهم الحق.

القديس غريغوريوس النزينزي[165]

v   بالإيمان يخرجون من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة.

القديس أغسطينوس[166]

v   يشرق نور اللوغوس الذي هو الحياة في ظلام نفوسنا، يأتي إلى حيث يوجد رؤساء هذه الظلمة المقاومين لجنس البشر لإخضاعهم للظلمة، هؤلاء الرؤساء لا يثبتون في قوتهم إذ يشرق عليهم النور الذي جاء ليجعل من البشر ابناءً للنور.

العلامة أوريجانوس[167]

الله لا يسمح للظلمة أن تدوم إنما يشرق بنوره... فماذا يحدث؟

أ. "أكثرت الأمة" [3]؛ بالرغم من سقوطها تحت التأديب بضربات قاسية لكنها تنمو وتكثر برحمة الله ونعمته.

ب. "عظمت الفرح" [3] تفرح الأمة كما في يوم الحصاد أو يوم التمتع بغنيمة، وكأن سرّ فرحها هو الحصاد الكثير والغلبة أو النصرة على عدو الخير.

الفرح هو سمة كنيسة العهد الجديد المتهللة بالحياة الإنجيلية وسط الآلام، تفرح من أجل حصادها المستمر لنفوس كثيرة لحساب ملكوت الله، وتتمتع بغنيمة النصرة على عدو الخير. حياتها تهليل مسـتمر من أجل النفوس التائبة والمتمتعة بالخلاص ومن أجل

نصراتها غير المنقطعة.

ج. التمتع بحرية مجيدة: "لأن نير ثقلة وعصا كتفه وقضيب مسخره كسرتهن كما في يوم مديان" [4]. تتحرر من النير الثقيل والعصا وقضيب السخرة، كرمز للحرية والخلاص من عبودية إبليس خلال الصليب، فلم يعد لإبليس أو قواته سلطان على المؤمن المتمتع بحرية مجد أولاد الله.

2. المولود العجيب:

سر تمتع الأمة بالنمو المستمر والفرح الدائم مع الحرية المجيدة هو مجيء المسيا كمخلص وغالب ومنتصر باسم البشرية ضد الأعداء. جاء ابن الله متأنسًا ليحمل نير الصليب باسمنا فيهبنا كل امكانيات الخلاص. إذ يقول النبي: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى إبنًا، وتكون الرئاسة على كتفه ويُدعى إسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد، غيرة رب الجنود تصنع هذا" [6-7].

كانت البشرية المؤمنة تترقب التجسد الإلهي حيث يأتي إبن الله الذي هو الخالق واهب الحياة ومجدها ليقيم طبيعتنا الميتة الفاسدة إلى صلاحها الذي خُلقت عليه، باعادة خلقتها وتجديدها المستمر فيهبها استمرارية الحياة مع الفرح والحرية.

أ. "لأنه يولد وُلد وتُعطى ابنًا"، أي يتأنس فيصير ابن الله ابن الإنسان، ويُحسب ولدًا، يحمل طبيعتنا الناسوتية حقيقة في كمال صورتها بغير انفصال عن لاهوته ودون امتزاج أو خلط أو تغير. يُشاركنا حياتنا البشرية ماعدا الخطية ويبقى كما هو "ابن الله"... يقول الرسول: "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس" (عب 3: 14).

v   صار إنسانًا في جسد خلاصنا، لكي يكون لديه ما يُقدمه عنا خلاصًا لجميعنا.

البابا أثناسيوس الرسولي[168]

v   من هو هذا الذي يُريدنا أن نشاركه في لحمه ودمه؟ إنه بالتأكيد ابن الله! كيف صار شريكًا لنا إلاَّ باللحم؟ وكيف كسر قيود الموت إلاَّ بموته الجسدي؟ فإن احتمال المسيح للموت أمات الموت.

القديس أمبروسيوس[169]

ب. "وتكون الرئاسة على كتفه"، فقد ملك على خشبة كقول المرتل، خشبة الصليب التي حملها على كتفه بكونها عرش حبه الإلهي.

v   تكون الرئاسة على كتفه، إذ دخل مملكته بحمله الصليب.

العلامة أوريجانوس[170]

v   هذه تعني قوة الصليب، لأنه استخدم كتفيه عندما صُلب لحمله الصليب.

الشهيد يوستين[171]

ج. "يُدعى اسمه عجيبًا"، لأنه فائق الإدراك؛ أُعطى اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسمه كل ركبة ممن في السماء وممن على الأرض ومن تحت الأرض (في 2: 9-11).

أدراك التلاميذ والرسل قوة اسم "يسوع"، به كانوا يكرزون، وبه كانوا يشفون مرضى ويخرجون شياطين ويقيمون موتى.

تكشف لنا كتابات العلامة أوريجانوس عن اعتزاز الكنيسة الأولى باسم يسوع كسّر قوة يتمسك به المؤمن ليعيش غالبًا ومنتصرًا على الخطية والشيطان وكل قوات الظلمة. فمن كلماته: [باسمه كثيرًا ما تُطرد الشياطين من البشر، خاصة إن رُدد بطريقة سليمة وبكل ثقة. عظيم هو اسم يسوع، الذي له فاعليته حتى إن استخدمه الأشرار أحيانًا. اسم يسوع يشفي المتألمين ذهنيًا، ويطرد أرواح الظلمة، ويهب شفاءً للمرضى[172]]. كما يعلن عن أن ألقابه تكشف عن نعمة المتعددة الغنيمة، إذ يقول: [بالرغم من أن المسيح واحد في جوهره لكن له ألقاب كثيرة تُشير إلى سلطانه وأعماله، يفهم أنه النعمة والبر والسلام والحياة والحق والكلمة[173]...]. 

د. "مشيرًا"، بكونه "حكمة الله" (1 كو 1: 24)، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم (1 كو 2: 3). جاءت الترجمة السبعينية "رسول المشورة العظيمة"... ما هي هذه المشورة العظيمة التي أرسله الآب من أجلها؟ اعلان السّر الإلهي للبشر، والكشف عن الآب الذي لا يعرفه إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له.

v   دُعى ابن الله هكذا (رسول المشورة العظيمة) من أجل الأمور التي علمّها خاصة وأنه أعلن للبشر عن الآب، إذ يقول: "أظهرت اسمك للناس" (يو 17: 6)... أعلن اسمه بالكلمات والأعمال.

القديس يوحنا الذهبي الفم[174]

v   ليست معرفة بدون إيمان، ولا إيمان بدون معرفة... الابن هو المعلم الحقيقي عن الآب؛ إننا نؤمن بالابن لكي نعرف الآب، الذي معه أيضًا الابن. مرة أخرى، لكي نعرف الآب يلزمنا أن نؤمن بالابن، إنه ابن الآب. معرفة الآب والابن، بطريقة الغنوسي الحقيقي، إنما هي بلوغ للحق بواسطة الحق... حقًا، قليلون هم الذين يؤمنون ويعرفون.

القديس إكليمندس الاسكندري[175]

v   أُرسل الكلمة الإلهي كطبيب للخطاة، وكمعلم للأسرار الإلهية الذين هم أنقياء بلا خطية.

العلامة أوريجانوس[176]

هـ. "إلهًا قديرًا": إله حق من إله حق، واحد مع الآب في الجوهر، القادر وحده أن يُجدد طبيعتنا بكونه الخالق، والشفيع الذي يقدر وحده أن يكفر عن خطايا العالم كله.

و. "أبًا أبديًا": يلحق اللقب "إله قدير" بـ "أب أبدي"، ليعلن أن قدرة السيد المسيح، الإله الحق ليست في إبراز جبروت وعظمة إنما بالحرى في تقديم أبوّة حب فريدة نحو البشرية، خلالها ننعم بقدرة المسيح فينا. أنه الخالق القدير الذي يُعطي ذاته لمؤمنيه كأعضاء جسده وكابناء له فيحملون إمكانياته فيهم. بمعنى آخر في المسيح يسوع تُعلن قدرة الله الغير مدركة مع حبه العملي الفائق، لنقول مع الرسول: "استطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويني".

ز. "رئيس السلام"، هو ملك السلام (1 تس 5: 33)، الذي يُقدم لنا دمه من أجل مصالحتنا مع الآب، فنحمل سلامًا داخليًا معه (رو 5: 1)، سلامًا مع الله ومع أنفسنا ومع إخوتنا، محطمين سياج العداوة الداخلية والخارجية.

إنه ابن داود، "رئيس وملك"، لا على مستوى الأرض والزمن، وإنما لكي يملك أبديًا على كرسي داود أبيه (لو 1: 32-33) على مستوى القلب الداخلي والأبدية، ليس لمملكته ولا لسلامه حدود [7].

يملك بالحق والبر، إذ يخفينا فيه فنصير سالكين بالحق، حاملين بره. أما علة ذلك فهي "غيرة رب الجنود تصنع هذا"، يغير على البشرية بكونه العريس السماوي المتحد بعروسه.       

في اختصار يعلن إشعياء النبي عن هذا المولود العجيب القدير، الذي لا يخلص آحاز من مقاومة أعدائه إنما يُقيم مملكة جديدة أساسها كرسي داود، مملكة سلام حقيقي يمتد إلى الشعوب والأمم ولا يكون لسلامه نهاية [7]، إذ يهبنا ذاته سرّ سلام أبدي.

v   أنظروا لقد أُعطى لنا ابن الله.

بعد قليل يقول: "وللسلام لا نهاية" [7].

للرومان حدود (نهاية) أما مملكة ابن الله فبلا حدود.

فارس ومادي لهما حدود، وأما الابن فليس له حدود.

يقول بعد ذلك: "على كرسي داود وعلى مملكته..."، القديسة العذراء هي من نسل داود.

القديس كيرلس الأورشليمي[177] 

3. اليد الممدودة:

كلمة الله في محبته غير المحدودة يتنازل ليصير إنسانًا لكي يضىء للجالسين في الظلمة، يشرق عليهم بنوره الإلهي واهبًا إياهم نور المعرفة، مقدمًا لهم حياته سرّ فرح وتهليل ونصرة مستمرة، أما الإنسان - فعلى العكس - يتشامخ بالكبرياء، حاسبًا في نفسه أنه قادر بذراعه البشري على تحقيق الخلاص. هذا ما حدث في أيام إشعياء النبي وما يحدث عبر العصور، فقد تشامخ بيت يعقوب رافضين مشورته النبوية، وأيضًا في أيام السيد المسيح حيث جحدوا الإيمان به... ومع هذا كله تبقى يدّ الله ممدودة بالحب تنظر رجوع الإنسان إليه.

في هذا الفصل ثلاثة أبيات شعرية في العبرية تنهي بالعبارة: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [12، 17، 20] (أيضًا إش 10: 4).

يرى البعض أن هذه اليد الإلهية الممدودة علامة على دعوة الله للإنسان كي يقترب إليه ويلتقي معه ويتحد به. وأيضًا علامة حماية الله له، وكأنه يؤكد له أنه مهما بلغت العقبات فيد القدير ممدودة لتخلصه من كل شر وتنقذه من المرارة والضيق. كما هي علامة على التأديب الإلهي النابع عن الحب، يمد يده ليضغط على الإنسان فيرجع إلى نفسه ويطلب الله معينه. هذه العلامات الثلاث قد تحققت خلال تجسد الكلمة، حيث يدعونا إلى البنوة لله، ويُقدم لنا الخلاص المجاني، ويحمل أجرة الخطية في جسده ليجتذبنا إليه. اليدّ الإلهية رمز للكلمة الإلهي الذي نزل إلينا ليعلن حب الآب ويصالحنا معه بدمه ثمنًا لخطايانا ومعاصينا.

الله - في محبته - سمح بالضيق لمملكة إسرائيل (أفرايم) لكن عوض التوبة تشامخوا بالأكثر. هذا ما كشفه النبي بقوله: "القائلون بكبرياء وبعظمة قلب، قد هبط اللبن فنبني بحجارة منحوتة؛ قطع الجميز فنستخلفه بأرز" [10]. يرى البعض أن النبي يتحدث هنا عن الزلزلة التي حدثت في أيام عزيا، والتي يبدو أنها كانت عامة (عا 1: 1؛ زك 14: 5)؛ بسببها سقطت معظم بيوت السامرة وأفرايم وكثرت الضحايا، فصاروا يتهكمون على قضاء الله معلنين أنه وإن كان قد سمح بهدم بيوتهم المصنوعة من اللبن وسقوط أشجار الجميز، فإنهم يقيمون قصورًا مصنوعة من الحجارة المنحوتة ويغرسون أشجار أرز لا يقدر الزلزال أن يهدمها أو يزيلها. وكأنهم بهذا يكررون ما فعله الإنسان عندما شرع في بناء برج بابل ليكون رأسه في السماء (تك 11: 3-4).

يرد إشعياء النبي على ذلك باعلان تأديب الله الأكثر شدة، فإنهم ماداموا لم يرتعدوا بالزلزلة فسيسمح بهياج العدو "رصين" ملك آرام، ويهيج أيضًا أعدائه (ربما قصد أشور الذي هاجم إسرائيل وفيما بعد انقلب على يهوذا). أنه يسمح بهياج الأمم ضد إسرائيل ليفترسوهم تمامًا، كما يفترس وحش غنمًا ويبتلعه: "فيأكلون إسرائيل بكل الفم" [12]؛ لكن تبقى مراحم الله تنتظر رجوعهم، إذ يكمل حديثه: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [12].

4. تأديبات الرب لهم:

يبقى الشعب متحجر القلب لهذا: "يقطع الرب مع إسرائيل الرأس والذنب، النخل والأسل (الحلفاء أو القش) في يوم واحد" [14].

أ. ينتزع رؤساء الشعب مهما كانت منزلتهم (الرأس، النخل).

ب. ينتزع الأنبياء الكذبة (الذنب، الأسل).

ج. إبادة المرشدين لأنهم مضلون [16].

د. لا يرق للفتيان بسبب صغر سنهم، ولا للأيتام أو الأرامل مع أنه "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 68: 5)... فقد اشترك الكل معًا في الشر مع عناد وعجرفة وحماقة [17]. كان الملوك الأشوريون في غاية القسوة: تغلَثْ فَلاسِر لم يترفق بالصغار ولا بالأرامل أو الأيتام في أفرايم.

هـ. يتحول الشعب كله إلى أشبه بغابة تحترق بنار الغضب الإلهي [19]، ليس لأن الله ينتقم لنفسه وإنما لأن فجورهم نار مدمرة [18].

ز. تتحول الأمة إلى حالة من الفوضى قانونها العنف والظلم وعدم التشبع، تسودها حروب أهلية دموية مدمرة: "لا يشفق الإنسان على أخيه، يلتهم على اليمين فيجوع، ويأكل على الشمال فلا يشبع، يأكلون كل واحد لحم ذراعه (أى جاره أو قريبه)" [19-20]... هذه صورة بشعة لمجتمع شريعته الحرب والعنف والأنانية مع الجشع. يُفني الواحد الآخر (غل 5: 15)، وكما يقول حجي النبي: "زرعتم كثيرًا ودخلتم قليلاً، تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون، والأخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس مثقوب" (حج 1: 6)، علامة خلو حياتهم من بركة الرب ونعمته.

ح. لا يقف التطاحن على الأفراد وإنما يتسلل إلى الأسباط نفسها فيتحالف سبط مع آخر ضد ثالث وهكذا: "مَنسَّي أفرايم وأفرايم مَنسَّي، وهما معًا على يهوذا" [21].

"مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [21].

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح العاشر

هجوم آشور على يهوذا ومعاقبة آشور

يحوي هذا الأصحاح ويْليْن، الويل الأول ضد رؤساء الشعب بسبب شرهم، والثاني ضد آشور لأن الله سمح له بغزو يهوذا للتأديب فإذا به ينتفخ على الله ويجدف عليه، حاسبًا أن آلهته غلبت إله إسرائيل.

يرى البعض أن هذا الأصحاح كُتب في السنوات الأولى من حكم حزقيا ملك يهوذا، بعد سقوط السامرة في سرجون ملك آشور (10: 11).

1. الويل الأول ضد القيادات           [1-4].

2. الويل الثاني ضد آشور            [5-19].

3. الناجون من إسرائيل              [20-23].

4. لا تخف يا شعبي                  [24-27].

5. الغزو الآشوري ليهوذا            [28-32].

6. سقوط آشور                      [33-34].

1. الويل الأول ضد القيادات:

يرى البعض أن الويل الموجه ضد القيادات هنا هو تكملة لما ورد في الأصحاح السابق عن كبرياء إسرائيل، ويدللون على ذلك أنه انتهي أيضًا بالعبارة التي تكررت قبلاً: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" (إش 9: 12، 17، 21؛ 10: 4). بهذا يكون الحديث موجهًا ضد قيادات الأسباط العشرة (إسرائيل). غير أن تكملة الحديث موجه إلى أورشليم عاصمة يهوذا لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا ينطبق على قيادات المملكتين لأنهما تشابهتا في الشر.

يكشف الله تصرفات القادة الجائرة، التي تتركز في القضاء بالباطل والحكم بالظلم [1]، يصدون الضعفاء عن التمتع بحقوقهم المسلوبة، ويسلبون حق البائسين خاصة الأيتام والأرامل [2]. وكما يقول الحكيم: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تُجرى تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معزٍ لهم ومن يد ظالميهم قهر" (جا 4: 1).

الآن إذ يُدرك إشعياء عدل الله خاصة في دفاعه عن الضعفاء يسأل هؤلاء القادة:

"وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد؟ إلى من تهربون للمعونة؟ وأين تتركون مجدكم؟ إما يجثون بين الأسرى وإما يسقطون تحت القتلى" [3-4]. العقاب قادم لا محالة خاصة تجاه القيادات الدينية والمدنية، هذا أمر مفروغ منه وحقيقة لا يمكن تجاهلها. وكما سبق فقال: "ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به" (إش 3: 11). لا يجدون معونة، لأن الذي يعيننا في الحكم هو رحمتنا وترفقنا بالغير. تزول أمجادهم لأنها ارتبطت بالزمن لا بالله، لهذا منهم من يسقط أسيرًا ليجثو في مذلة بين الأسرى، ومنهم من يُقتل عندما يهاجمهم آشور، فيسقط تحت جثث الآخرين. لقد داسوا حق الضعفاء فيطأهم الغير تحت أقدامهم.

مع هذا كله لا زال الله يمد يد محبته ليُخلصهم من شرهم: "مع كل هذا لم يرتد غضبه بل يده ممدودة بعد" [4].

2. الويل الثاني ضد آشور:

سبق أن تحدث النبي عن قوة آشور العسكرية وجبروته ونصرته حتى على شعب الله، كما أكد أن ما حل بالشعب هو بسماح إلهي للتأديب، لكن آشور تعظم على الله وحسب بغلبته هذه أنه غلب إله هذا الشعب وأذله... لهذا يعود الرب فيؤدب آشور نفسه المتعالي والمتعجرف.

اعتاد إشعياء النبي أن يتحدث بجرأة وصراحة فبينما يدعو آشور قضيب غضب الله وعصاهم هي سخط الرب [5] لكون آشور أداة لتحقيق تأديبات الرب، نجده يدعو شعب الله "أمة منافقة" و "شعب سخط الله" [6]، لأن هذا الشعب قد حمل صورة العبادة من الخارج بينما دبّ الفساد في حياتهم الداخلية. هذا ما دفعه إلى دعوة الشعب بأسماء ممقوته وأن يعلن أن الله يُسلمهم لآشور للنهب والغنيمة لكي يطأهم آشور بالأقدام فيصيرون مدوسين كطين الأزقة... من يستخف بالحياة المقدسة في الرب إنما يسلم حياته للفساد والضياع وينهار ليسخر به عدو الخير ويطأه تحت قدميه.

لم يدرك آشور هذه الحقيقة أنه مجرد أداة للتأديب [7] إنما في كبرياء قال: "أليست رؤسائي جميعًا ملوكًا؟!" [8]، بمعنى أن الولاة الذين يقيمهم ملك آشور تحت قيادته هم جميعًا ملوك، فماذا يكون مركزه هو؟! إنه ملك ملوك!

قال أيضًا: "أليست كلنو مثل كرمشيش؟! أليست حماة مثل أرفاد؟! أليست السامرة مثل دمشق؟!" [9]. يرى الدارسون أن المتحدث هنا سنحاريب الآشوري المفتخر بانتصاراته بجانب أنتصارات سرجون السابق له بكونها انتصارات لحساب آشور ككل، تكشف عن عدم جدوى مقاومة الزحف الآشوري.

ربما يقصد بكلنو "كلنة" المذكورة مع حماة وجت في (عا 6: 2) والتي يظن أنها كولاني أو كولانهو الحديثة التي تبعد مسافة 6 أميال من أرفاد بالقرب من حلب.

كركميش: عاصمة الحثيين الشرقية، غربي نهر الفرات عند فرضة في النهر وشمالي مكان التقائه بساجور. موقعها تجاري ممتاز، غنية جدًا. استوفي آشور ناصر بال (885 - 860 ق.م.) منها جزية كبيرة جدًا، واستولى عليها سرجون عام 717 ق.م.، وبسقوطها سقطت الإمبراطورية الحثية. دعاها الرومان كركيسيوم، في موقعها الآن جرابلس.

أرفاد: مدينة في آرام تبعد حوالي 13 ميلاً شمال حماة، في موضعها الآن "تل أرفاد". استولى عليها الآشوريون في القرن التاسع قبل الميلاد، لكنها ثارت ضدهم ثم عادوا فاستولوا عليها عدة مرات، وهم يفخرون بغلبتهم عليها.

هكذا لم تقف أمام آشور أعظم مدن الحثيين أو الأراميين، فهل تقف أمامه مدن يهوذا وإسرائيل؟! لقد حسب آشور نفسه أنه غلب آلهة الأمم وأوثانها التي تحميها فلن يقف إله إسرائيل أو يهوذا قدامه [10-11]، ظانًا أنه على ذات مستوى هذه الأصنام.

لقد سمح الله له بذلك، لكنه يعود فيؤدب آشور على سخريته به: "فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك آشور وفخر رفعة عينيه، لأنه قال: بقدرة يدي صنعت وبحكمتي، لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش وكما يجمع بيض مهجور أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف" [13-14].

هكذا ظن آشور أنه بقدرته وحكمته صنع أعمالاً خارقة: حكم ملوكًا ونقل الشعوب، دمر وقتل واغتنى، في غزواته يتطلع إلى الشعوب كعش طائر لا حول له ولا قوة، ينهب ما فيه من بيض مهجور... لم يوجد من يقف أمامه أو ينطق بكلمة.

لم يدرك آشور أنه كان فأسًا أو منشارًا يستخدمه الله للتأديب، فتشامخت الأداة على من يستعملها. لذلك يقوم الله بتأديبه هكذا:

أ. يرسل على "سِمانه"، أي أبطال جيشه الجبابرة، هزالاً [16].

ب. يوقد تحت "مجده"، أي جيشه، وقيدًا كوقيد النار [16]، فتلتهمه ليصير رمادًا. يصير الله "نور إسرائيل" نارًا آكلة لآشور، والقدوس لهيبًا يُحطم العدو [17]. بمعنى آخر الله الذي هو نور للمؤمنين وسرّ تقديس لحياتهم يكون نارًا آكلة ولهيبًا للأشرار المقاومين.

ج. يُفني جيشه فيبقى عدد قليل (أشجار وعرة) يستطيع صبي أن يكتب اسماءهم [19]، هذا من جهة العدد أما من جهة القوة فيفقدون طاقتهم النفسية والجسدية ويكونون كمسلول يذوب [18].

3. الناجون من إسرائيل:

كثيرًا ما تحدث الأنبياء عن "البقية" التي تخلص، قصدوا بها القلة القليلة التي تبقى أمينة للرب وسط انهيار القيادات الدينية وفساد القضاة والرؤساء والشعب أيضًا. هذه البقية التي تنجو من فساد الجماعة ورجاساتهم، يخلصون من الضيق الشديد وقت التجربة المُرّة (رؤ 3: 10). هذه البقية التي تنجو من ظلم آشور لا تفرح بعودتها إلى أورشليم إنما بما هو أعظم، تفرح بلقائها مع الله القدير نفسه [21].

اقتبس الرسول بولس قول إشعياء النبي [22 و 23 Lxx] قائلاً: "وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص، لأنه متمم أمر وقاض بالبر، لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به على الأرض" (رو 9: 27-28).

جاء هذا القول في إشعياء [ 22، 23 Lxx] وكان يحمل نبوة عن المسبيين إذ كانوا كثيرين جدًا بالنسبة للقلة القليلة التي تنجو من الأسر... وأن الله سمح بذلك، بل وقضى بهذا التأديب لأجل البر. طبق الرسول هذه النبوة بصورة أشمل على العصر المسياني حيث يؤسر عدد كبير جدًا من اليهود تحت الجحود رافضين الايمان بالمسيا، وقليلون هم الذين يخلصون بقبولهم المسيا المخلص، وقد سمح الله بذلك لأجل البر، ليفتح الباب للأمم[178].

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه يعني أنني لا أهتم بالجمع (بالعدد الضخم)، ولا أتأثر بالجنس (اليهود)، وإنما أخلص من يتقدمون كمستحقين للخلاص. إنه لم يذكر "كرمل البحر" بلا سبب. إنما ليذكرهم بالوعد القديم (تك 22: 17؛ 32: 12) الذين جعلوا أنفسهم غير أهل له. لماذا ترتبكون إذن إن كان الوعد لا يتحقق (للكل) إذ أظهر كل الأنبياء أنه ليس الجميع يخلصون؟ عندئذ يظهر الرسول أيضًا طريق الخلاص... "لأنه متمم أمر وقاض (بسرعة) بالبر، لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به (سريعًا) على الأرض" (رو 9: 28)... هذا الأمر هو الإيمان الذي يحمل خلاصًا في كلمات قليلة: "لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامة من الأموات خلصت" (رو 10: 9). ها أنتم ترون أن الرب متمم كلمة قليلة على الأرض، والعجيب أن هذه الكلمة القليلة لا تحمل خلاصًا فحسب بل وبرًا[179]]. كما يقول: [لئلا تظن أن الله يهتم بالعدد الضخم فقط يقول: "وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص"[180]]. ويقول القديس أغسطينوس: [هذه هي البقية من تلك الأمة التي تؤمن بالمسيح[181]].

4. لا تخف يا شعبي:

يرى بعض الدارسين أن النبوة هنا تُشير إلى الحدث التالي: عندما رفض حزقيا بن آحاز وخليفته دفع الجزية هاجم سنحاريب الآشوري يهوذا بجيش قوي وحاصر أورشليم وكان على وشك استلام المدينة، لكن الله أمر بخلاصها. قُتل الجيش وهرب سنحاريب حيث قتله أبناؤه.

أشارت النبوة هنا إلى أمر هام وهو أن الله هو العامل في كل الأجيال. الله لا يكف عن أن يوصي شعبه بعدم الخوف، فهو الأب الملتزم بحياتنا وخلاصنا ونموّنا وسلامنا، يعمل في كل العصور بذراع رفيعة لخلاص مؤمنيه. إن كان خروج بني إسرائيل أو خلاصهم من العبودية يُحسب أمرًا فائقًا يكشف عن رعاية الله لمؤمنيه، فانه في أيام حزقيا يكرر خروجهم أو خلاصهم على مستوى أقوى وسط المرارة التي يُعاني منها الكل.

يُطالب الله شعبه ألا يخاف من آشور فإنه سيبُاد، إذ يُقيم الله عليه سوطًا [26]، يضربه بملاكه ضربة قاتلة (2 أى 32: 21)، كما سبق فضرب غراب أمير مديان (قض 7: 25؛ مز 83: 11)، وكما ضرب فرعون وجنوده في بحر سوف خلال عصا موسى [26]. هكذا يُبيد الله آشور لينزع هذا النير عن كتف شعبه [27] وعن عنقه بسبب السمانة (الدهن)، لأجل المسحة المقدسة التي نالها داود الملك وبنوة من بعده.

الأمر الثاني هو أن الممسوح أو المسيا القدير يهب راحة للأرض كلها وسلامًا خلال ملكه الطوباوي... هذا هو الخط الرئيسي في السفر كله، بل في الكتاب المقدس بعهديه.

5. الغزو الآشوري ليهوذا:

قبل الحديث عن سقوط آشور تحدث النبي عن الغزو الآشوري ليهوذا ليوضح قدارته الحربية الجبارة وسرعة تقدمه نحو أورشليم العاصمة مع ضعف مقاومة يهوذا بل وانعدامها، وكيف ارتعب يهوذا وارتعد [28-32]. قدم النبي وصفًا شاعريًا يكشف عن مرارة مدن يهوذا، لكن آشور يتوقف عند نوب (مدينة للكهنة تقع في شمال أورشليم)، ربما ليستريح الجيش ويستعد لمواجهة أورشليم. لقد وقف سنحاريب هناك ليرفع يده ويمدها مهددًا أورشليم [32]، فظهر كشجرة شامخة متعجرفة. هدد بسحق أورشليم ولم يدرك أن الله قد سمح بسحقه هو ولينزع عنه أغصانه التي يتشامخ بها.

في هذه النبوة لا يقصد الله سنحاريب وحده إنما عنى كل تحرك شرير مقاوم لكنيسة الله أو لأحد أولاده.

6. سقوط آشور:

يعلن الله تحطيم آشور تمامًا، فإنه يقضب أغصانه بل وينتزع أصوله لينهار تشامخه وينزل مجده إلى التراب [33-34]، هذه هي ثمرة الكبرياء!.

<<

 


 

الأصحاح الحادي عشر

المسيا والعصر المسياني

لم يكن ممكنًا لإشعياء النبي أن ينحصر في الأحداث المعاصرة له ولا الخاصة بالمستقبل القريب بالنسبة له وإنما اتجه نحو الخلاص الأبدي، ليرى عمل الله العجيب لا بسقوط آشور ولا بعودة القلة الأمينة إلى يهوذا، وإنما بسقوط عدو الخير إبليس واجتماع المؤمنين من اليهود والأمم كأعضاء في جسد واحد يتمتعون بالملكوت المسياني العجيب.

1. ظهور ابن يسى                   [1].

2. المخلص وروح الرب             [2]. 

3. أعمال المخلص                   [3-4].

4. سمات العصر المسياني           [5-9].

5. سلام بين الشعوب                [10-16].

1. ظهور ابن يسى:

في الأصحاح التاسع تحدث عن المخلص بكونه المولود العجيب: "لأنه يولد لنا ولد... ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا" (إش 9: 6)، أما هنا فيؤكد ناسوته بكونه الملك ابن يسى: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله" [1]. لم يقل ابن داود مع أنه شرعًا هو ابن داود، لكنه أراد تقديمه بصورة متواضعة جدًا، كقضيب وغصن من يسى الذي عاش ومات قليل الشأن. والعجيب أن نسل داود الملك ضعف جدًا حتى جاء يوسف والقديسة مريم فقراء للغاية.

بينما يتحدث الوحي في الأصحاح السابق عن آشور - يمثل عدو الكنيسة - كأغصان مرتفعة وقوية (إش 10: 33) يظهر المسيا كقضيب أو غصن متواضع. أراد أن يسحق الكبرياء محطم البشرية باتضاعه. وكما تقول عنه الكنيسة في جمعة الصلبوت: "أظهر بالضعف (الصليب) ما هو أعظم من القوة".

v   هذا هو المسيح، فقد حُبل به بقوة الله بواسطة العذراء من نسل يعقوب، أب يهوذا، وأب اليهود، من نسل يسى...

الشهيد يوستين[182]

2. المخلص وروح الرب:

"ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" [2].

إذ جاء السيد المسيح ممثلاً للبشرية حلّ عليه الروح القدس الذي ليس بغريب عنه، لأنه روحه. حلول الروح القدس على المسيح يختلف عن حلوله علينا؛ بالنسبة له حلول أقنومي، واحد معه في ذات الجوهر مع الآب، حلول بلا حدود. أما بالنسبة لنا فهي عطية مجانية ونعمة تُمنح لنا في المسيح يسوع قدر ما تحتمل طبيعتنا ليعمل على تجديدها المستمر. لذا قيل عن السيد المسيح "فيه سُرّ أن يحل كل الملء" (كو 1: 19، 2: 9)،  ومن ملئه الذي يملأ الكل ينال جميع المؤمنين نعمة فوق نعمة (يو 1: 16).

كلمة الله هو الحكمة عينها والفهم والقوة... فحلول الروح القدس ليس حلولاً زمنيًا بل هو اتحاد أزلي بين الأقانيم الثلاثة. بالتجسد الإلهي قَبِل ربنا يسوع ظهور الروح القدس حاّلا عليه لكي يهبنا نحن فيه، كأعضاء جسده، عطية الروح القدس واهب الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة ومخافة الرب.

ربما يسأل البعض: لماذا حلّ الروح القدس على السيد المسيح عند عماده؟ نُجيب[183]: الروح القدس هو الذي شكّل ناسوت السيد المسيح منذ لحظة البشارة بالتجسد الإلهي. ولما كان لاهوت السيد لم يفارق ناسوته، لهذا لم يكن الناسوت قط في معزل عن الروح القدس، ولا في حاجة إلى تجديد الروح له، لأنه لم يسقط قط في خطية ولا كان للإنسان القديم موضع فيه، إنما طلب السيد أن يعتمد "لكي يكمل كل بر"، أي يقدم لنا برًا جديدًا نحمله فينا خلال جسده المقدس. حلول الروح عليه في الحقيقة كان لأجل الإنسانية التي تتقدس فيه، فتقبل روحه القدوس.

في هذا يقول القديس غريغوريوس النيسي: [اليوم اعتمد (يسوع) من يوحنا لكي يظهر الذي تدنس، ولكي يجعل الروح ينحدر من فوق فيرفع الإنسان إلى السماء، ويقيم الساقط الذي انحدر وصار في عار. لقد أصلح المسيح كل الشرور، فأخذ البشرية الكاملة لكي يخلص البشرية، ولكي يصبح مثالاً لكل واحدٍ منا. لذلك فهو يقدس باكورة وثمار كل عمل يقوم به لكي يترك لعبيده غيرة حسنة بلا شك في اقتفاء أثره[184]].

يتحدث القديس غريغوريوس النزينزي عن عمل الروح القدس في حياتنا كينبوع صلاحنا، قائلاً:

[يُدعى روح الله وروح المسيح... وهو نفسه الرب.

روح النبوة والحق والحرية،

روح الحكمة والفهم والمشورة والقدرة والمعرفة والصلاح ومخافة الله.

إنه صانع كل هذه الأمور،

يملأ الكل بجوهره ويحوي كل الأشياء،

يملأ العالم في جوهره ومع هذا فلا يمكن للعالم أن يدرك قوته.

صالح ومستقيم، ملوكي بطبيعته وليس بالتبني.

يُقدس ولا يتقدس،

يقيس ولا يُقاس،

يهب شركة ولا يحتاج إلى شركة،

يملأ ولا يُملأ،

يحوى ولا يُحوى،

يورث ويمجد... مع الآب والابن.

هو أصبع الله، نار كالله (الآب)...

الروح الخالق الذي يخلق من جديد بالمعمودية والقيامة.

هو روح العالم بكل شيء، يهب حيث يشاء،

يرشد ويتكلم ويرسل ويفرز ويحزن،

يعلن وينير ويحييّ، أو بالحري هو ذات النور والحياة.

يخلق هياكل ويؤله (يعطي شركة مع الله)،

يهب كمالاً حتى قبل العماد (كما في حادث كرنيليوس أع 10: 9)،

تطلبه بعد العماد كعطية... يفعل فينا العمل الإلهي،

ينقسم في ألسنة ناريِّة مُقسِّمًا المواهب،

يقيم الرسل والأنبياء والإنجيليين والرعاة والمعلمين.

يُفهم بطرق متعددة، واضح، وينخس القلوب...[185]].

3. أعمال المخلص:

"ولذّته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه" [3-4].         

أ. يُقدم لنا السيد المسيح صورة حيّة عن التعامل مع الآخرين، وهي ألا تقوم على المظاهر الخارجية المجردة، وألا تكون حواسّنا هي الحكم خاصة الشم والنظر والسمع.

يقول "لذته His breath تكون في مخافة الرب" [3]. حاسة الشم هي أسرع حاسة في حياة الإنسان، يلزم أن تمتص مع بقية الحواس بالمخافة الإلهية. هنا يجب أن نميز بين ثلاثة أنواع من الخوف: خوف العبيد، خوف الأجراء، وخوف البنين. فالعبيد يخافون سادتهم لئلا يقتلوهم، والأجراء يخافون العاملين لديهم لئلا يحرموهم الأجر أو المكافأة، أما الأبناء فيخافون لئلا تجرح مشاعر آبائهم. هذا الخوف السامي الذي يهبه روح الرب لنا حتى نهاب الله ليس خشية العقوبة ولا الحرمان من المكافأة وإنما لأننا أبناء لا نريد أن نجرح مشاعر محبته.

ب. "لا يقضي بحسب نظر عينيه" [3]، إنما حسب الأعمال الداخلية بكونه فاحص القلوب والعارف بالأفكار والنيات. يأخذ السيد المسيح موقفًا مضادًا لما حدث في أيام إشعياء إذ كان القضاة يحكمون حسب الوجوه. هذه الضربة "المحاباة" كثيرًا ما تُصيب الملتزمين بمسئوليات قيادية، وقد وقف الرب حازمًا ضد هذا الوباء، فكان يوبخ القيادات الدينية التي أُصيبت بالمحاباة والرياء مثل الفريسيين والصدوقيين والكتبة، بينما كان يدعو الأطفال إليه بلطف ويترفق بالخطاة والعشارين.

ج. رفض الوشايات البشرية: "لا يحكم بحسب سمع أذنيه" [3].

د. اهتمامه بالمساكين والبائسين والمظلومين [4].

هـ. "ويضرب الأرض بقضيب فمه" [4]. جاء رب المجد يضرب بكلمته (قضيب فمه) أو بسيف فمه (رؤ 2: 16؛ 19: 6)، سيف الكلمة ذي الحدين (عب 4: 3) كل من التصق بمحبة الأرضيات فصار أرضًا. غايته أن يُحطم فينا محبة الزمنيات ليرفع كل طاقاتنا نحو السمويات.

جاء لكي يُميت الرياء والنفاق بروحه القدوس (نفخة شفتيه)، فيعيش المؤمنون بالروح القدس العامل في داخلهم دون أن ينشغلوا بالمظاهر الخادعة.

و. "ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه" [5]. كان الأغنياء في الشرق يلبسون منطقة مزركشة بالخيوط الذهبية كزينة علامة العظمة والبهاء ولكيما ترفع الثوب الفضفاض. أما الفقراء خاصة العبيد فيلبسون منطقة زهيدة تساعد الانسان على سرعة الحركة في خدمته لسيده وضيوفه، كما تستخدم المنطقة أثناء السفر لرفع الثياب، ويستخدمها الجند... على أي الأحوال جاء ربنا يسوع المسيح إلى العالم ملكًا روحيًا يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله بكونه القدوس واهب الحياة القدسية، وجاء كخادم يتمنطق لكي يغسل الأقدام البشرية حتى يُطهر كل من يقبل إليه.

كثيرًا ما يُشبّه البر بالثوب أو المنطقة، إذ ببر المسيح نستتر ونتحرك للعمل والجهاد (أى 29: 14؛ مز 109: 18، 19، أف 6: 13- 17؛ رؤ 19: 8).

4. سمات العصر المسياني:

بعد أن تحدث عن عمل السيد المسيح استطرد ليتحدث عن العصر المسياني، مقدمًا لنا صورة حية عنه أبرزها اتسام البشرية المؤمنة بالاتحاد معًا في جسد واحد، يحملون طبيعة الحب والسلام، فتختفي من حياتهم كل ثورة أو عنف أو حب لسفك الدماء والقتل أو التخريب والتدمير.

يصوّر هذا العصر قائلاً:

"فيسكن الذئب مع الخروف" [6]؛ لا يوجد تضاد أعظم من هذا، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه. يعيش صاحب القلب الذئبي المحب للافتراس مع الإنسان الوديع كالحمل، يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق. لم يعد من كان ذئبًا يهدد الحمل، ولا الحمل يخشى من كان قبلاً من فئة الذئاب، إذ صار الكل قطيعًا واحدًا يحمل الخليقة الجديدة التي في المسيح يسوع.

"ويربض النمر مع الجدي" [6]. الأول حيوان يترقب الفريسة ليُهاجمها غدرًا والثانى يلهو بلا اكتراث فهو مثير للنمر كي ينقض عليه... لكن طبيعة العنف والافتراس قد نُزعت عن النمر ليربض مع الجدي.

"والعجل والشبل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقها" [7]. قطيع عجيب غير متجانس، تحت قيادة عجيبة. من يتخيل صبيًا صغيرًا يقود عجلاً في رفقته شبلاً ومسمنًا! هذا الصبي الصغير يُشير إلى القيادات الروحية الكنسية التي تستطيع بروح البساطة أن تخلق بروح الرب من المؤمنين القادمين من أمم وشعوب مختلفة والذين يحملون مواهب متعددة قطيعًا وديعًا يخضع بورح الإنجيل كما لصبي صغير.

حقًا إن القيادات الوديعة- كالصبي- التي لا تعرف حب السيطرة تعرف أن تحول الأشبال إلى قطعان وذلك بعمل روح الرب.

"والبقرة والدبة ترعيان" [7]. يرى القديس إكليمندس الاسكندري[186] أن البقرة تُشير إلى اليهود لأنها من الحيوانات التي تحت النير وهي طاهرة حسب الشريعة بينما الدبة تُشير إلى الأمم والشعوب الوثنية إذ هي مفترسة (عنيفة) وبحسب الناموس غير طاهرة. وكأنه من سمات العصر المسياني أن يجتمع أعضاء من أصل يهودي مع آخرين من أصل أممي في "رعية" واحدة، تحت قيادة الراعي الواحد الصالح.

لما كانت الدبة مع اتسامها بالافتراس إلاَّ أنها بطيئة الحركة لذا فإن البقرة الحلوب تُحسب فريسة ثمينة وسهلة تقدر على افتراسها دون أن تفلت منها، على عكس الثور الصغير. مع هذا الإغراء نجد مصالحة عجيبة بينهما وصداقة بينهما كما بين صغارهما، إذ قيل: "تربض أولادهما معًا" [7]. هذا ما حدث فعلاً إذ جاءت الأجيال التالية في كنيسة العهد الجديد لا تحمل تمييزًا بين من هم من أصل يهودي أو أممي.

"والأسد كالبقر يأكل تبنًا" [7]، إذ فقد طبعه الوحشي وتغيرت طبيعته فصار كالحيوان المستأنس لا يطلب لحمًا بل تبنًا.

"ويلعب الرضيع على سرب الصل" [8]؛ لا يعود الرضيع ينزعج لأنه قد بطل سم الصلِّ.

"ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان" [8]. يمد الفطيم يده إلى فم الأفعوان ولا يُصاب بشيء.

في اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة، فتحمل الكنيسة كلها - خدامًا ومخدومين - روح الحب والوحدة. بهذا لا يُصيب الكنيسة - جبل قدس الرب - فساد "لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب" [9]، لا معرفة فلسفية عقلانية بحتة، إنما معرفة التلاقي والاتحاد والخبرة العملية للحياة الجديدة في الرب. هذه المعرفة الروحية تملأ حياة المؤمنين كأمر طبيعي تتحقق بتجسد كلمة الرب الذي جاء يُعرفنا الحق، وبعمل روحه القدوس، فصارت المعرفة تملأ الأرض "كما تُغطي المياه البحر" [9]. يقول رب المجد نفسه: "إنه مكتوب في الأنبياء: ويكون الجميع متعلمين من الله" (يو 6: 45؛ إش 54: 13؛ إر 31: 34؛ مى 4: 2؛ عب 8: 10؛ 10: 16).

يحدثنا القديس مقاريوس الكبير عن هذه المعرفة الروحية العملية، قائلاً: [إذ تتحد (النفس) مع الروح المُعزي بألفة لا توصف، وتختلط بالروح تمامًا تُحسب أهلاً أن تصير هي نفسها روحًا، باختلاطها معه حينئذ تصير كلها  نورًا وكلها عينًا وكلها روحًا وكلها فرحًا وكلها راحة وكلها بهجة وكلها محبة وكلها أحشاء وكلها صلاحًا ورأفات[187]].

5. سلام بين الشعوب:

أ. جاء السيد المسيح ليُقيم ملكوته من كل الأمم والشعوب، واهبًا سلامًا للمؤمنين الحقيقيين "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسَّى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" [10]. اقتبس الرسول بولس هذه النبوة عندما تحدث عن تمجيد الأمم لله من أجل رحمته عليهم (رو 15: 6، 12) مبينًا أن قوله "في ذلك اليوم" تحقق بمجيء المسيا الذي ضم الأمم في ملكوته. لقد صار رب المجد يسوع "راية" تجمع حولها أبناء الله المتفرقين إلى واحد (يو 11: 52)، فصاروا رعية واحدة لراعٍ واحد. صار السيد راية تعلن الحب الإلهي في أعمق صوره برفعه على الصليب باسطًا يديه ليضم العالم كله في أحضانه (يو 12: 32)، كارزًا بفرح إنجيل الخلاص الذي ردّ للإنسان كرامته الأولى وغلبته على قوات الظلمة، فاتحًا لهم أبواب الفردوس.

يقول "إياه تطلب الأمم"؛ إنه مشتهى الشعوب، بحث عنه اليونانيون (يو 12: 20-21)؛ وأرسل قائد المئة كرينليوس الأممي إلى بطرس لكي يسمع عن السيد المسيح (أع 10).

"ويكون محله مجدًا"؛ جاء في الترجمة اليسوعية "يكون مثواه مجدًا"؛ لعله يقصد أن صليبه الذي كان عارًا صار بقيامته مجدًا، إذ صار قبره الفارغ مقدسًا للمؤمنين فيه يدركون حقيقة مسيحهم واهب الحياة والقيامة.

ب. ضم السيد المسيح إلى كنيسته البقية التي قبلت الخلاص، وقد جاءت من أماكن متفرقة (أع 2؛ يع 1: 1؛ 1بط 1: 1)؛ لذلك يقول النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن السيد يُعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فِتْروس (مصر العليا) ومن كوش ومن عيلام (مملكة في شرق نهر دجلة وشمال شرقي الخليج الفارسي) ومن شنعار (سهل بابل) ومن حماة ومن جزائر البحر" [11]. تحققت هذه النبوة في عيد العنصرة وأيضًا خلال خدمة الرسل وعبر الأجيال، وستتحقق مرة أخرى بصورة أوسع في الأيام الأخيرة حينما يقبل اليهود الإيمان بالسيد المسيح كقول الرسول بولس (رو 11: 11-27). في ذلك اليوم ينضم قابلوا الإيمان القادمون من اليهود إلى الكنيسة التي سبق أن ضمت الأمم ويكون الكل أعضاء في جسد واحد: "ويرفع راية للأمم ويجمع منفييّ إسرائيل ويضم مُشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض" [ 12].

يحاول بعض المفسرين أن يحسبوا ذلك مجدًا لأمة إسرائيل بطريقة حرفية[188]، إنما هنا إعلان عن مجد الكنيسة التي تضم من الأمم واليهود معًا تجمع الكل من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها دون تمييز في الجنس... إذ يصير الكل كنيسة واحدة تحمل راية مسيحها الواحد.

ح. يُقدم الاتحاد الذي تم بين إسرائيل (أفرايم) ويهوذا عند عودتهم من السبي بعد أن استحكمت النزاعات بل والعداوة بينهما قرونًا طويلة صورة للاتحاد بين الأمم واليهود [13].

في القديم كان الفلسطينيون وبنو المشرق وأدوم وعمون وموآب ومصر مقاومين للشعب لذا وهب الله شعبه إمكانية النصرة عليهم [14-16]، أما في العهد الجديد فتكون الغلبة لا بانتصارات حرببية وإنما بقبول هذه الأمم للإيمان الحيّ فتصير أدوات للبناء لا للمقاومة والهدم. الله الذي سبق فحول البحر لخلاص شعبه إذ أجازهم فيه بعد أن فتح لهم فيه طريقًا للعبور هكذا يجفف كل مقاومة في قلوب الأمم لينفتح طريق الملكوت المسياني.

بمعنى آخر الذي أصعد شعبه من مصر مجتازًا بهم وسط مياه البحر الأحمر، هو الذي يعبر بهم من آشور بعد السبي [16]، وهو الذي يعبر بالأمم إلى ملكوته بالرغم من كل العقبات والصعوبات التي تقف أمامهم.

<<


 

الأصحاح الثاني عشر

تسبحة المفديين

اجتاز إشعياء النبي حالة الضيق التي أصابت نفسه بسبب ما بلغ إليه الشعب من فساد، الأمر الذي لأجله سمح الله بتأديبه بواسطة آشور وتلامس مع عمل الله الخلاصي لا بإعادة المسبيين إلى يهوذا وإنما ما هو أعظم: ظهور ابن يسى راية للأمم يجمع بحبه الفائق مؤمنيه من كل الشعوب ليتمتعوا بسلامه السماوي. لم يكن أمام النبي إلاَّ أن يُسجل على لسان هؤلاء المفديين بدم المخلص تسبحة مفرحة تعتبر امتدادًا للنبوة الواردة في الأصحاح السابق التي تشدو بمجد المسيح وشخصه وعمله وملكوته وشعبه.

1. مراحم الله وسط غضبه                     [1].

2. يهوه سر خلاصنا وقوتنا وفرحنا            [2-3].

3. الشهادة لأعمال الله                         [4-6].

1. مراحم الله وسط غضبه:

"وتقول في ذلك اليوم: أحمدك يارب لأنه إذ غضبت عليّ ارتدَّ غضبك فتُعزيني" [1].

تبدأ الترنيمة الجديدة التي ينطق بها كل من يتمتع بعمل السيد المسيح الخلاصي بالكلمات: "وتقول في ذلك اليوم". أي يوم هذا؟ إنه يوم الصليب أو يوم الكفارة العظيم الذي فيه نحمد الرب الذي حوّل الغضب إلى خلاص وتعزية ومجد. لقد تجسم الغضب الإلهي على الخطية التي نرتكبها بصلب السيد المسيح - كلمة الله المتجسد - ليرفعنا من الغضب إلى المجد. ظهرت تعزيات الله العجيبة إذ حررنا لا من السبي البابلي وإنما من أسر إبليس وجنوده وأعماله الشريرة ليملك البر فينا.

هكذا نُقدم الحمد والشكر لله لا كالفريسي الذي وقف في الهيكل مفتخرًا على الآخرين، وإنما كاللص اليمين المطرود خارج المحلة من أجل خطاياه فيجد في صحبته المسيح الرب مصلوبًا لأجله، يفتح له أبواب الفردوس. هكذا يرتد غضب الله علينا إلى تعزيات سماوية إلهية فائقة. في ذلك اليوم صار هو نفسه سلامنا (أف 2: 14)، وفيه صالح الله العالم لنفسه (2 كو 5: 19).

2. يهوه سرّ خلاصنا وقوتنا وفرحنا:

"هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأنه ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا، فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" [2-3].

اقتبست الكنيسة القبطية جزءًا من هذه التسبحة لتنشدها للرب المصلوب في يومي خميس العهد وجمعة الصلبوت، وهو: "قوتي وتسبحتي (ترنيمتي) هو الرب، وقد صار لي خلاصًا. الله هو سر قوتنا وتسبيحنا وخلاصنا! في وسط مشاركة الكنيسة عريسها آلامه تسبح وتنشد؛ أما تسبحتها أو أنشودتها فهو المسيح نفسه، هو كل شيء بالنسبة لها.  

بالمسيح المصلوب عرفنا الهتاف (مز 89: 15)؛ هتاف الغلبة على إبليس وأعماله الشريرة! هتاف الخلاص الذي به ننتقل من الشمال إلى اليمين ننعم بشركة الملكوت السماوي المفرح.

بالصليب تفجَّر ينبوع دم وماء من الجنب المطعون لنتقدس ونتطهر، ولكن نشرب ونفرح، إذ وجدنا ينبوع خلاصنا الأبدي.

هنا يدعو الله "ياه يهوه"؛ "ياه" هي اختصار للإسم "يهوه"، وكأن التسبحة تكرر هذا اللقب الإلهي "يهوه" لتأكيد أنه الله السمردي غير المتغير، يتكىء عليه المؤمن فيجد فيه قوته وفرحه وخلاصه إلى الأبد، فيطمئن على الدوام دون تخّوف. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن شئت أن يكون فرحك ثابتًا باقيًا، التصق بالله السرمدي، ذاك الذي لا يعتريه تغيير، بل يستمر ثابتًا على حال واحد إلى الأبد[189]].

3. الشهادة لأعمال الله:

يرى البعض أن العبارات السابقة [1-3] تمثل تسبحة مستقلة عن العبارات التالية [4-6] التي تمثل تسبحة ثانية. على أي الأحوال إن كانت الأولى تعلن انبعاث الحمد والتسبيح في النفس خلال التمتع بخلاص الرب، فإن الثانية مكملة لها تعلن الالتزام بالشهادة لله المخلص أمام الأمم. فما نختبره خلال اتحادنا مع الله مخلصنا يثير فينا شوقًا نحو تمتع الغير بذات الخلاص. "وتقولون في ذلك اليوم: احمدوا الرب، ادعوا باسمه، عرِّفوا بين الشعوب بأفعاله، ذكّروا بأن اسمه قد تعالى. رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا، ليكن هذا معروفًا في كل الأرض. صوِّتي واهتفي يا ساكنة صهيون، لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك" [4-6].

كيف نكرز بالرب؟

أ. بالتبشير: "عرفوا بين الشعوب بأفعاله"، وكما يقول الرب لتلاميذه: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 16: 5). كل مؤمن يلتزم بالشهادة لمخلصه، إذ نرى المرتل داود وهو يعلن توبته في المزمور الخمسين يقول: "امنحني بهجة خلاصك فأعلم الخطاة طرقك".

ب. بالفرح المقدس: "رنموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا، ليكن هذا معروفًا في كل الأرض". ليست شهادة للمخلص أعظم من تلامس الغير مع فرحنا الداخلي بالرب الذي يجتاز كل الأحداث والمتاعب. يقول المرتل: "حينئذ امتلأت أفواهنا فرحًا وألسنتنا ترنمًا، حينئذ قالوا بين الأمم: إن الرب قد عظم الصنيع معنا" (مز 26: 2).

صوت التهليل الداخلي يشهد لسكني القدوس فينا!

الفرح المقدس يعلن عن ملكوت الله المفرح في داخلنا. جاء في سيرة القديس أبوللو الكاهن بطيبة على حدود هرموبوليس (أشمونين)، أن وجهه كان دائم البشاشة، مجتذبًا بذلك كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة في الداخل، ومشبعة للقلب بالرب نفسه. كثيرًا ما كان يُردد القول: [لماذا نُجاهد ووجوهنا عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين والعويل للخطاة (الأشرار)، أما الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات[190]].

<<

 


 

الأصحاح الثالث عشر

وحيّ من جهة بابل

إذ تحدث النبي عن السيد المسيح وأمجاد عصره خشى أن يفهم البعض أن هذا الأمر يتم في عهده أو في المستقبل القريب لذلك تنبأ عن بابل وما سيحل بالشعب خلال السبي البابلي ثم العودة من السبي.

قبل مجيء السيد المسيح تظهر مملكة بابل بكل عنفوانها لتتحطم، ويأتي المسيا ليملك ولا يكون لملكه نهاية. يتكرر الأمر بالنسبة لمجيئه الأخير حيث تظهر مملكة الدجال كمملكة بابل تُقاوم الكنيسة وتسود العالم لكنها تنهار ليأتي رب المجد على السحاب.

بابل وغيرها من الأمم العنيفة إنما تُمثل المقاومة لله ولكنيسته... وقد جاء الوحي هنا يعلن أن كل القوى المُعادية لله ومسيحه وشعبه لن تدوم بل تنهار.

1. وحي من جهة بابل               [1].

2. دعوة الأمم لمقاتلة بابل           [2-5].

3. يوم خراب بابل           [6].

1. وحي من جهة بابل:

"وحي من جهة بابل رآه إشعياء بن آموص" [1].

أراد النبي تأكيد أنه هو كاتب النبوة، تمتع بها من جهة بابل. أما تأكيده أنه هو الذي رآها فذلك لسببين:

أ. إن كان إشعياء قد تنبأ بخصوص يهوذا وأورشليم لكنه يتحدث هنا عن مصير الأمم المجاورة مؤكدًا أن الله إله القديسين هو بعينه إله جميع الأمم.

ب. لم يكن لبابل حسبان في ذلك الوقت، فكان يصعب على السامع أو القارىء أن يُصدق ما يقال عنها من هذه النبوات.      

جاءت كلمة "وحي" بالعبرية massâh وقد تُرجمت في الترجوم والفولجاتا والنسخة السريانية بمعنى "حمل" أو "ثقل burden"، ربما لأن النبي نفسه بسبب رقته كان يشعر بثقل شديد مرارة من جهة ما سيحل بهذه الأمم من متاعب وتأديبات إلهيه. فإن كانت هذه التأديبات عن استحقاق وستؤول في النهاية للخير لكن النبي كرجل الله لا يقف شامتًا بل متألمًا. بهذا الروح عاشت الكنيسة الأولى تؤدب لكن في حب وترفق لا تغلق باب التوبة أمام الخطاة حتى بالنسبة لمنكري الإيمان. وقد حسبت أمثال نوفاتيوس هراطقة من أجل قسوتهم على الخطاة. وكما يقول القديس أمبروسيوس في رده عليه: [بهذا حكموا على فساد تعليمهم، إذ بإنكارهم سلطان الحل أنكروا سلطانهم للربط أيضًا... ماذا أقول أيضًا عن عجرفتهم المتزايدة؟ فإن إرادتهم تُناقض إرادة روح الرب الذي يميل إلى الرحمة لا إلى القسوة... إنهم يفعلون ما لا يريده. لأنه هو الديان ومن حقه أن يعاقب، نجده برحمته يعفو!... يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة. لذلك قيل: "أُريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6)، فكيف يقبل الله تقدماتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله إنه لا يشاء موت الخاطىء مثل أن يرجع (حز 18: 32)؟[191]].

يظن بعض الدارسين أن ما ورد عن بابل في الأصحاحين (13، 14) ليس من وضع إشعياء النبي، وحجتهم في ذلك:

أ. أن بابل كانت مرتبطة بصداقة مع يهوذا (إش 39)، فكيف يعلن عن نبوة قاسية ضدها؟!

ب. كانت بابل خاضعة لآشور في ضعف.

ج. يبدو من الحديث أن إسرائيل كان مسبيًا لبابل أثناء إعلان النبوة.

يُرد على ذلك بأن النبي كان يتحدث عن المستقبل بروح النبوة، فيُشير إلى تأديب إسرائيل بواسطة آشور ثم موقف بابل فيما بعد عندما تحطم آشور وتصير مملكة عظمى، وسبي الشعب ثم عودته، وأخيرًا مجيء المخلص عمانوئيل في ملء الزمان. يتكلم النبي عن المستقبل كحاضر يعيشه، وهذا أمر طبيعي اعتاده الأنبياء لتأكيد أن ما يعلنون عنه يتم تحقيقه بدقة. هذا ولا نتجاهل أن النبي الذي قدم تفاصيل دقيقة عن شخص السيد المسيح وحياته وعمله الخلاصي وسِمات عصره يستطيع أن يتنبأ عن قيام دولة بابل وسبي الشعب بواسطتها الأمر الذي تم بعد حوالى 100 عام من إعلان النبوة. وقد ردد إرميا النبي فيما بعد - أثناء العصر البابلي - ذات صرخات إشعياء .

أخيرًا فإن حديث النبي عن الرجوع من السبي (إش 11) وتهديده بالسبي البابلي (إش 39) يدل على أن موضوع السبي البابلي لم يكن بعيدًا عن ذهن إشعياء النبي.

2. دعوة الأمم لمقاتلة بابل:

لم تكن بابل قد ظهرت عظمتها بعد، لكن النبي يراها قادمة، عاصمتها مدينة عتاة، لهذا يبدأ نبوته عنها بتحريض الرب للأمم كي تتجمهر ضد بابل وتقتحم أبوابها وتذل كبرياءها، قائلاً:

"أقيموا راية على جبل أقرع" [2]. هكذا يصدر الله أمرًا بمحاربة بابل فيدعو الأمم أن تقيم راية الحرب على جبل خالٍ من كل شجر أو نباتات حتى يمكن لكل الجيش أن يراها. كانت العادة في القديم أن يجمع بعض الجنود حطبًا ويوقدونه ليلاً على الجبل علامة بدء الحرب؛ لذا فإن وجودهم على جبل خالٍ من الأشجار يُساعد سرعة انتباه الجيش لبدء الحرب.

"ارفعوا صوتًا إليهم" [2]، أي اضربوا بالأبواق لأجل تحميس الجيوش.

"أشيروا باليد ليدخلوا أبواب العتاة (الأشراف)" [2]، أي يلوحون بالأيدي لتشجيع الهمم من أجل اقتحام مدينة الأحرار الأشراف في شجاعة وإقدام.

ما هي بابل إلاَّ النفس المتعجرفة التي يلزمنا أن نقتحمها لا برايات الحرب ولا بأصوات الأبواق ولا بالتلويح بأيادٍ بشرية وإنما برفع راية الحب التي لمسيحنا المصلوب لتقول: "علمه فوقي محبة" (نش 2: 4). لنضرب ببوق الإنجيل المفرح للنفوس، ولنمد يد الحب العملي لنسند النفس الضعيفة التي أذلها الكبرياء... هكذا نقتحم النفس بروح الرب العامل فينا فنجتذبها لحساب ملكوته السماوي خلال الحرب الروحية الفعّالة بالنعمة الإلهيه وليس بالعمل البشري.

الحديث هنا أعظم من أن يكون خاصًا بدعوة فارس ومادي لاقتحام الإمبراطورية العظيمة بابل، إنما هو دعوة تمس خلاص النفس الأبدي. لهذا يكمل قائلاً: "أنا أوصيت مقدسي ودعوت أبطالي لأجل غضبي مفتخري عظمتي، صوت جمهور على الجبال شبه قوم كثيرين، صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة. رب الجنود يعرضُ جيش الحرب. يأتون من أرض بعيدة من أقصي السموات الرب وأدوات سخطه ليُخرب الأرض" [3-5].

يلاحظ في هذا النص:

أولاً: من هم هؤلاء المقدسين والأبطال المنتسبون لله الذين يُستخدمون في هذه المعركة؟ يرى البعض أنهم القيادات العسكرية لفارس ومادي، فقد دعيت لمعركة مقدسة، ليسوا لأنهم في حياتهم أو إيمانهم قديسون وإنما لأن الله دعاهم دون أن يدروا لتحقيق أهدافه المقدسة، ووهبهم قوة للعمل واستخدمهم لتحقيق أمور ليست في أفكارهم. لقد حُسبوا أبطال الله بالرغم من عدم إيمانهم به، كما دُعى كورش الوثني مسيح الرب الذي أمسك الله بيمينه ليدوس أمامه أممًا الخ... (إش 45: 1).

هكذا هو صلاح الله العجيب، إذ يحّول طاقات وأعمال حتى الأشرار لحساب نمو ملكوته وبنيان النفوس.

إن كان الله قد دعا مقتحمي بابل الوثنيين مقدسيه وأبطاله، فماذا يكون حال أولاده "الجنود الروحيين" الذين بحق هي قديسوا الرب إذ هم مفرزون للعمل الروحي القدسي، الذين يُحاربون ضد إبليس وكل أعماله الشريرة من أجل تقديس أعماقهم وتقديس الغير بكسبهم بالحب الإلهي؛ كما يدعوهم "أبطاله" لأنهم يحملون قوته ويعملون بروحه القدوس؛ وأيضًا يحسبهم "مفتخري عظمته" إذ يحققون مجد اسم الله العظيم.

يرى الآباء القديسون أن المعمودية هي دخول إلى الجندية الروحية حيث يُختم طالب العماد بختم الروح ويُحسب جنديًا روحيًا لحساب مملكة الرب.

v   يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم.

القديس كيرلس الأورشليمي[192] 

v   كما يُطبع الختم على الجند، هكذا يُطبع الروح القدس على المؤمنين.

القديس يوحنا الذهبي الفم[193]

v   من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعطى له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية.

القديس غريغوريوس النيصي[194]

ثانيًا: ما هو صوت الجمهور القائم على الجبال شبه قوم كثيرين، "صوت ضجيج ممالك أمم مجتمعة، رب الجنود يعرض جيش الحرب" (إش 43: 4)، إلاَّ صوت الكنيسة المجتمعة معًا بروح الحب والوحدة على الجبال المقدسة تتمتع بالحياة العلوية، تسكن على قمم الوصايا المباركة لا عند السفح، تجتمع من ممالك أمم كثيرة كجيش بألوية (نش 6: 10)... إنها كنائس متعددة لها ثقافات متباينة لكنها خلال الإيمان الواحد والفكر الواحد تعيش كجيش روحي سماوي... هذه هي سمة الكنيسة الحقيقية: كنيسة سماوية! لذا يقول الرسول بولس: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).

v   كم من كثيرين هاجموا الكنيسة فهلك الذين هاجموها، أما هي فحلقت في السماء.

v   الكنيسة هي رجاؤك، خلاصك، وملجأك. إنها أعلى من السماء وأوسع من المسكونة.

القديس يوحنا الذهبي الفم[195]

"يأتون من الأرض بعيدة من أقصي السموات الرب وأدوات سخطه ليُخرب كل الأرض" [5]. تجتمع الكنيسة من أرض بعيدة، إذ كان أغلب أعضائها وثنيين مرتبطين بالعالم، غرباء عن بيت الله، لكنهم صاروا سماء الرب ومقدسه، يخربون الأفكار الزمنية أو محبة الأرضيات ليحملوا الآخرين إلى خبرة الحياة السماوية. وكأن تخريب الأرض يعني تحطيم انغلاق القلب على الزمنيات لينفتح على السماء. وكما يقول القديس إكليمندس الاسكندري إن الأرض تصير بالنسبة للمؤمن (الغنوسي) سماءً.

هذا من الجانب الرمزي، أما من الجانب الحرفي فقد دعا الله الأمم من فارس ومادي وغيرهما ليستخدمهم لتخريب كل أرض بابل العظيمة.

3. يوم خراب بابل:   

يصور لنا النبي يوم خراب بابل المرهب على أيدي فارس ومادي بكونه يوم الرب الذي فيه يعلن غضبه على بابل المقاومة له ولأولاده.

لقد تحقق ذلك على يديّ كورش الذي لم يكن قاسيًا لكن جيشه كان عنيفًا متوحشًا همجيًا؛ لذلك خرب الجند بابل ليس من أجل سلبها كنوزها قدر ما كان ذلك رغبة في سفك الدماء.

يرى البعض أن ما ورد هنا تحقق فعلاً في أيام كورش ولكن بصورة جزئية، غير أنه سيتحقق بصورة أشمل في الأيام الأخيرة كما جاء في سفر الرؤيا (رؤ 17) عن دينونة الزانية العظيمة الجالسة على مياه كثيرة، بابل العظيمة أم الزواني.

أقول إن هذه النبوة تعلن عما يتم بالنسبة لمملكة إبليس ليس فقط في الأيام الأخيرة وإنما في قلب كل إنسان يقبل الإيمان بالسيد المسيح كملك يُقيم أورشليمًا جديدة فيه عوض بابل الزانية، أي يُقيم مدينته المقدسة عوض مملكة إبليس.

أ. يقول النبي: "ولولوا لأن يوم الرب قادم كخراب من القادر على كل شيء، لذلك ترتخي كل الأيادي" [6]، فلا يقووا على حمل السلاح. لقد صارت مملكة بابل سيدة العالم كله؛ قد أطال الله أناته عليها عشرات السنوات، والبابليون يتمادون في كبرياء قلوبهم وعجرفتهم ضد الرب نفسه، لذلك إذ يسقطون تحت غضبه ترتخي أياديهم العنيفة الحاملة للسلاح، فيصيرون في ضعف شديد وموضع سخرية.

هذه هي صورة عدو الخير كما كشفها القديس يوحنا الذهبي الفم في رسالته إلى صديقه ثيؤدور الساقط، موضحًا له أن إبليس يظهر عنيفًا للغاية وذا قوة وجبروت لكننا إذ نحمل مسيحنا يضعف وينهار. وفي مقال عن: "سلطان الإنسان على مقاومة الشيطان يقول: [الشيطان شرير، وأنا أسلّم بذلك، لكنه شرير بالنسبة لذاته وليس بالنسبة لنا مادمنا حذرين، لأن هكذا هي طبيعة الشر، إنها مهلكة بالنسبة للذين يتمسكون به وحدهم"[196]].

ب. "ويذوب قلب كل إنسان، فيرتاعون" [7-8]. هكذا ينتاب الكل حالة من الرعدة والخوف، من رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال؛ يصير الكل منهارًا ليس من يسند أخاه بل كل واحد يُحطم نفسه كما يُحطم من هم حوله! 

سر رعدتهم حرمانهم من مخافة الله، فمن يخاف الله لا يخاف إنسانًا ولا أحداثًا بل يمتلىء فرحًا وسلامًا، لذا قيل: "رأس الحكمة مخافة الله". يقول القديس مار إفرآم السرياني: [لتكن خشية الله في قلبك أيها الحبيب مثل السلاح بيد الجندي[197]].

ج. "يتلوُّون من الألم كالوالدة وهي في حالة طلق" [8]، فقد حملوا في داخلهم ثمر شر يلدونه مرارة المُرّ. والعجيب أن الكتاب المقدس يشبه آلام الأشرار بآلام الطلق وأيضا آلام المؤمنين (يو 16: 20)، الأولون يئنون في يأس وبرعدة لأنهم يلدون ريحًا (إش 26: 18)، أما الآخرون فيفرحون وسط الحزن الخارجي لأنهم ينجبون إنسانًا في العالم (يو 16: 20).

د. تصير "وجوهكم وجوه لهيب" [8]، محمرة خجلاً بسبب انكسارهم الشديد وجنبهم، كما تبهت أحيانًا وجوههم [8]، إذ تصفر بسبب الخوف.

هـ. "تصير أرضهم خرابًا ليس من يمشي عليها" [9]، كرمز لما يحل بالجسد (الأرض) من فقدان لكل حيوية حقيقية. من يُقاوم الرب من أجل شهوات الجسد يفقد حتى جسده وتخرب نفسه الداخلية، إذ قيل: "لذلك أُزلزل السموات (النفس) وتُتزعزع الأرض (الجسد) من مكانها في سخط" [13]. ربما يُشير هنا أيضًا إلى ثورة الطبيعة ضد من يعصي خالقها. وكأن من يعصي الرب تعصاه الطبيعة ذاتها!

و. يحل بهم الظلام "فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها، تظلم الشمس عند طلوعها، والقمر لا يلمع بضوءه" [10]. هذا يُشير إلى ظلمة الجهل التي تحل بالإنسان المقاوم لله، فإنه لا يرى نور الكواكب جميعها بما فيها الشمس والقمر. لا يرى شمس البر، أي الإيمان بالمسيح القادر أن يهبه حكمة ومعرفة، ولا يرى نور القمر أي الحياة الكنسية المستنيرة بالرب بكونها القمر الحامل انعكاسات نور الشمس، ولا يتمتع بنور الكواكب الأخرى أو الشركة مع القديسين الذين يضيئون ككواكب منيرة.

ز. يموت الرجال في الحرب، وإذ اعتادت النساء في بابل على الحياة الخليعة لذا يطلبن رجلاً لتحقيق شهواتهن الرديئة فيصعب عليهم وجوده: "وأجعل الرجل أعز من الذهب الابريز والإنسان أعز من ذهب أوفير (ربما مقاطعة في الجنوب الشرقي من العربية أو مكان في الساحل الغربي للهند)" [12]. أيضًا يُشير ذلك إلى قلة الأيدي العاملة بسبب الحرب مع عودة المسبيين وتحرر الأمم من السلطان البابلي.

ح. فقدان القيادة والرعاية: "ويكونون كظبى طريد وكغنم بلا من يجمعها، يلتفتون كل واحد إلى شعبه، ويهربون كل واحد إلى أرضه" [14]. يقصد هنا أنه يوم انكسار بابل يفقد الجيش القيادة فيهرب الجنود المأجورون أو المسخرون من الأمم كل إلى بلده.

هذه هي حال النفس البعيدة عن الله فإنها تفقد قيادتها الداخلية، ليعيش الإنسان كطريد أو كغنم بلا راع يجمعها... يحمل في داخله صراعات مُرّة وتشتيت فكر مع تحطيم للطاقات الداخلية.

ط. بطش بالكل دون تمييز بين عسكري أو مدني، رجل أو إمرأة أو طفل [15]. هنا يصّور ما يفعله مادي ضد بابل، فإن الماديين لا يحطمونها لاقتناء غنى [17] وإنما لتحطيم كل طاقات بابل، فلا يبالون بفتى صغير ولا بجنين في بطن أمه [18]، إنهم يخربون كل مواردها فتصير كسدوم وعمورة اللتين احترقتا بنار من السماء.

ى. تصير بابل قفرًا أبديًا، لا يسكنها إعرابي يرعى غنمه ولا يربض فيها رعاة خوفًا من الحيوانات المفترسة التي تسكنها (إش 30: 20-21). تصير خرابًا يسكن البوم ما تبقى من المنازل، ويوجد بها بنات النعام ومعز الوحش وبنات آوي والذئاب.

يقول الأب سيرينوس: [يجب ألا نأخذ كل هذه الأسماء بطريقة عشوائية، إنما تُشير إلى شراسة (الشياطين) وجنونهم تحت رمز الوحوش المفترسة، بكونها ضارة وخطيرة... وأكثر منها شرًا[198]].

إنها صورة للنفس التي تستسلم لعدو الخير فيستخدمها لحساب ملكوت الظلمة، يملأها شرًا ويحولها إلى معمل للفساد:

"تربض هناك وحوش القفر" [21]... يسكنها العنف والشراسة ومحبة سفك الدماء البريئة بلا سبب.

"يملأ البوم بيوتهم" [21]، حيث يتشاءم غالبية الشرقيين من أصواتها... وكأنه لا تُسمع في داخل الإنسان الشرير سوى أصوات اليأس والتشاؤم الذي يكشف عن فراغ داخلي.

"تسكن هناك بنات النعام" [21]، أي مملوءة نجاسة (لا 11: 16؛ تث 14: 15)، صوتها كالنحيب (مى 1: 8) لا يدخل إليها الفرح السماوي، طبعها جاف لا تحب بيضها (مرا 4: 3)؛ تدفن رأسها في الرمال متى رأت صيادًا يقترب إليها، وكان يُظن أنها تفعل ذلك لأنها تحسب أنه بذلك لا يراها الصياد لكن ظهر حديثًا أنها تفعل ذلك لأنها أجبن من أن ترى نفسها تقع ضحية للصيادين.

"ترقص هناك معز الوحش" [21]. ربما يعني الوعل، لا يوجد إلاَّ في الأماكن المقفرة. هكذا ترقص وتلهو الشياطين في النفس الشريرة إذ تجد فيها موضعًا لها.

"وتصيح بنات آوي (حيوان أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب) في قصورهم والذئاب في هياكل التنعم" [22]... أي تتحول القصور والهياكل من أماكن للتنعم إلى مأوي للحيوانات الشرسة.

هذا كله حل ببابل "بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين" [19]، المدينة الذهبية (إش 14: 4)، الغنية في كنوزها (إر 51: 13)، فخر كل الأرض (إر 51: 41)، شُبهت بالرأس الذهبي في التمثال المذكور في سفر دانيال. تحققت فيها النبوات كما وردت بطريقة حرفية، إذ يذكر التاريخ أن كورش هدم جزءًا كبيرًا من أسوار بابل وأبنيتها، وبعد 20 عامًا قام داريوس بهدم بقية الأسوار ونزع أبوابها النحاسية مع صلب ثلاثة ألاف من عظمائها. يُقال إن طول سور بابل كان 60 ميلاً، 15 ميلاً من كل جانب، ارتفاعه 300 قدم وسمكه 80 قدمًا، يمكن لست مركبات أن تسير بجوار بعضها على السور[199].عمقه في الأرض 35 قدمًا حتى لا يحفر العدو طريقًا لنفسه تحته، ومُقام على السور 250 برجًا للمراقبة والحراسة، وبه 100 بوابة نحاسية ضخمة لامعة.

بالفعل تحولت بابل إلى خراب، وقد حاول اسكندر الأكبر أن يعيد مجدها لكنه مات قبل تنفيذ مشروعاته. استخدمت حجارتها في بناء بغداد وإصلاح الترع وإقامة الكثير من المرافق العامة.

أخيرًا فقد أكد النبي أن ما يقوله يتحقق سريعًا: "ووقتها قريب المجيء وأيامها لا تطول" [22]. فقد بدأ نجم بابل يتألق عام 606 ق.م.، وسقطت في يد فارس ومادي عام 536 ق.م.، بينما جاءت النبوة في القرن الثامن ق.م.

لقد بقيت بابل رمزًا لكل نفس متكبرة عاصية كما جاء في سفر الرؤيا، وقد قيل: "إنه في ساعة واحدة جاءت دينونتك" (رؤ 18: 10).

<<

 


 

الأصحاح الرابع عشر

سقوط بابل

يكمل النبي حديثه عن تأديب بابل وغيرها من الممالك المقاومة لله ولشعبه، موضحًا أن غاية الله من هذا التأديب ليس سقوط بابل أو غيرها إنما تقديم راحة لشعبه بعدما تأدب بالسبي. يُريد تأكيد تحقيق وعود الله وعهوده مع شعبه الذي أذلته بابل.

يظهر الله كقائد للمعركة ضد بابل يقوم بتخريبها، لأنها بعجرفتها وكبريائها تُشير إلى عدو الخير إبليس. أما ملكها فهو أداة للشيطان وممثل أو رمز له.

1. ترفق الله بشعبه         [1-3].

2. هجو على ملك بابل     [4-21].

3. خراب بابل               [22-23].

4. خراب آشور             [24-27].

5. خراب فلسطين           [28-32].

1. ترفق الله بشعبه:

الله الذي سمح لشعبه بالمذلة خلال السبي البابلي هو نفسه الله الرحوم الذي اختاره شعبًا خاصًا له [1]. لقد سبق أن أخرجه من مصر وحرره من فرعون وجاء به إلى أرض الموعد بذراع رفيعة، والآن يحقق خروجًا آخر إذ يحرره من السبي ويرده إلى أرضه ليس فارغًا ولا في ضعف، إنما في قوة يجتذب الغرباء إليهم ليصيروا دخلاء يُشاركونهم ذات الإيمان والعبادة؛ كما يهب شعبه قوة فيسبون من سبقوا أن سبوهم، ويتسلطون على من سبقوا أن ظلموهم؛ بهذا يستريح الشعب من التعب والعبودية [4].

يرى القديس يوحنا كاسيان أن ما حدث قديمًا مع هذا الشعب إنما هو رمز لما يحدث مع المؤمن الذي يتقبل "كلمة الرب" القادر أن يسير أمامه ويحرره من جور "الشهوات الشريرة" وتسلطها على جسده هذه التي تأسره كما في قضبان الرذيلة وتعزله عن المعرفة الخفية[200].

إننا محتاجون إلى عمل الله الدائم معنا، ليخرج بنا لا من عبودية فرعون ولا من

سبي البابليين إنما ليعتقنا خلال الصليب بروحه القدوس من أسر الخطية، ينطلق بنا من الظلمة إلى النور، لنعيش في حرية مجد أولاد الله .

هذه الصورة الرائعة لمحبة الله نحو مؤمنيه تعلن بقوة في طقس المعمودية حيث يخلع الإنسان ثياب العبودية والأسر ويعترف أنه يجحد الشيطان وكل جنوده ويرفض عبوديته الداخلية، متقبلاً الدهن المقدس ليحمل بهاء الروح فيه... ينزل إلى المعمودية ليتمتع بالعضوية في جسد المسيح فيصير قادرًا على الحياة الجديدة الغالبة للموت والظلمة، ليُسبح الله قائلاً: "بنورك يارب نعاين النور" (مز 36: 9).

v   يدهن الله ملامحكم ويختم عليها بعلامة الصليب. بهذه الطريقة يكبح الله كل جنون الشرير، فلا يجسر إبليس على التطلع إلى منظر كهذا، إذ يُصيب عينيه العمى بالتطلع إلى وجوهكم، ويكون كمن يتطلع إلى أشعة الشمس فيثب هاربًا...

لتعرفوا مرة أخرى أن الله بنفسه هو الذي يدهنكم خلال يد الكاهن، وليس إنسان. أصغ إلى كلمات بولس القائل:" الله هو الذي يثبتكم في المسيح الذي مسحنا".

بعد أن يدهن كل أعضائكم بهذا الدهن تصيرون في أمان قادرين أن تُفحموا الحية ولا يصيبكم ضرر.

v   في كمال ظلمة الليل يخلع الكاهن ثوبك كمن يقودك إلى السماء عينها خلال الطقس، ويدهن كل جسدك بزيت الزيتون الذي للروح لكي تكون أعضاؤك قوية لا تغلبها السهام التي يوجهها العدو ضدك .

القديس يوحنا الذهبي الفم[201]

2. هجو على ملك بابل:       

يتحدث النبي باسم الشعب المتحرر من سلطان بابل فيهجو ملكها واصفًا إياه هكذا:

أ. "الظالم" [4]. إن كانت بابل قد دُعيت مدينة الذهب بسبب غناها الفاحش، فإن هذا الغنى قد تحقق خلال ظلم ملكها وغطرسته؛ هذا الظلم لن يدوم، وهذه الغطرسة لابد أن تنكسر: "كيف باد الظالم بادت المغطرسة. قد كسر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين" [4-5].

في كل عصر يوجد من يظلم بغطرسة مقاومًا الحق ومضطهدًا أتقياء الرب، لكن الظلم ينتهي والمُذلين يرتفعون. هذا ما حدث في أيام القديس يوحنا الذهبي الفم حين قاوم أتروبيوس الكنيسة وألغى حقها في حماية اللاجئين إليها، وبسبب سوء تصرفاته واستغلاله للسلطة ثار الجيش عليه وطلب إعدامه، فلجأ إلى الكاتدرائية التي كانت بالقرب من القصر، وذهب إلى المذبح وتعلق بالعامود، وظن الشعب أن ذهبي الفم ينتقم لنفسه وللكنيسة منه لكن القديس رفض معلنًا رحمته ومحبته حتى للأعداء[202]... انتهي الأمر بهروبه من الكنيسة وقتله بالسيف في خلقيدونية. وقد جاء في عظته الثانية على أتروبيوس ما يكشف عن ضعف كل ظلم بالنسبة لأولاد الله .

[من يُريد فليطردني خارجًا، ومن يُريد فليرجمني وليبغضني؛ فإن دسائس الأعداء ضدي هي الدعامات لنوال إكليل النصرة، وكثرة جزاءاتي تتوقف على عدد جراحاتي.

لهذا لا أخاف من مؤامرات الأعداء، إنما أخاف أمرًا واحدًا وهو الخطية. فإن كان أحد لا يقدر أن يجبرني على الخطية فليقم العالم كله بحرب ضدي، لأن مثل هذه الحرب تجعلني بالأكثر ممجدًا.

أُريد أن ألقنك درسًا وهو ألا تخاف من خداعات ذوي السطوة، لكن خف من سطوة الخطية. لا يضرك أحد إن لم تضر أنت نفسك بنفسك.

إن كنت لا تخطىء فإن عشرات الألوف من السيوف تهددك، لكن الله ينتشلك منها حتى لا تقترب إليك. ولكنك إن كنت ترتكب شرًا فإنك وإن كنت داخل فردوس فستُطرد منه].

ب. "الضارب الشعوب بسخطٍ ضربة بلا فتور، المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك" [6]. لم يتوقف عن الضرب لذا كسر الرب عصاه؛ ولم يمسك عن اضطهاد الشعوب، يكتم أنفاس الناس ويحجر على حريتهم، لهذا استحق أن يسقط في مذلة. وكما قيل: "كما فعلت يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو 15).

بسبب هذه السمات عندما سقطت بابل استراحت الأرض وهتفت ترنمًا [7]، وقيل ليعقوب: "ويكون في يوم يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التي استعبدت بها" [3]. تحققت هذه الراحة جزئيًا بعودة الشعب من السبي، لكن "بقيت راحة لشعب الله" (عب 4: 9)، هي الدخول إلى الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع بكونه "سبتنا الحقيقي" و "راحتنا الأبدية".

يحاول أصحاب الفكر الألفي أن يفسروا هذه الراحة بكونها تمتع بهذا الحكم الألفي حيث يطلبون راحة زمنية على الأرض تحت حكم المسيح بطريقة مادية[203]، غير أن الذي ذاق راحة المسيح وتعزيات الروح القدس يدرك بحق كيف نال راحة فائقة في هذا العالم هي عربون الراحة السماوية.

v   كل البشر رأوا الله قد خطب طبيعتنا، والشيطان رأى ذلك وتقهقر. رأى العربون وارتعب منسحبًا، رأى ملابس الرسل فهرب (أع 19: 11). يا لقوة الروح القدس!...

تأمل ماذا فعل الروح؟ لقد وجد الأرض مملوءة من الشياطين فجعلها سماءً.

القديس يوحنا الذهبي الفم[204]

لقد أدرك الآباء أن التمتع بالعماد هو دخول إلى الراحة، وتذوق للحياة الفردوسية:

v   ها أنتم الآن في بهو القصر، ستُقادون حالاً للملك[205].

v   حالاً سيُفتح الفردوس لكل واحد منكم[206].

القديس كيرلس الأورشليمي

بسقوط بابل شمت السرو (الملك) وأيضًا أرز لبنان (الرؤساء)؛ قائلين: "منذ اضطجعتَ لم يصعد علينا قاطع" [8]، بمعنى منذ نمتَ في القبر لم تعد توجد يد تؤذينا؛ فقد اعتاد الأعداء أن يقطعوا الأشجار في الحروب لمقاومة البلاد التي يستولون عليها ولاستخدامها كوقود، أو للبناء كما فعل نبوخذ نصر... على أي الأحوال، فإن الحروب مبددة للموارد الطبيعية.

لقد اضطجع السيد المسيح على الصليب بالجسد لكن الذي تحطمت قوته وصُلبت إمكانياته هو إبليس... فصرنا بالصليب أحرارًا من عبودية العدو، قادرين أن ندوس على قوته تحت أقدامنا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تخف من الشيطان حتى ولو كان روحًا بلا جسد، فليس شيء أضعف منه[207]].

لم يقف الأمر عند استهزاء الملوك بملك بابل، إنما يصوره النبي وهو منحدر في الهاوية يستقبله ملوك الأرض والعظماء - ربما الذين سبق أن اضطهدهم - يقومون عن كراسيهم في الهاوية لا لتكريمه وإنما للاستهزاء به وللسخرية منه، لكي يجلس على كراسيهم كما فعل وهو على الأرض. يقولون له باستخفاف:

"أأنت أيضًا قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا؟!" [10]؛ كنا نحسبك إلهًا خالدًا كما ادعيت، ولم نتخيل أنك تموت في مذلة مثلنا!

"أهبط إلى الهاوية فخرك رنة أعوادك؟! تحتك تُفرش الرمة، وغطاؤك الدود" [11]. كنت تفترش الحرير وتتطيب بأثمن الأطياب، فكيف نزلت إلى الهاوية كمخدع لك تفترش الرمة وتتغطى بالدود؟

"كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟! كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟! وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، ارفع كُرسيِّيَ فوق كواكب الله، وأجلس على جيل الاجتماع في أقصي الشمال، أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي" [14].

لقد تشبهت بإبليس سيدك الذي كان كوكبًا عظيمًا ومرموقًا بين السمائيين "زهرة بنت الصبح"، فتشامخ على الله خالقه، وظن أنه يقدر أن يرتفع على مستوى الله نفسه بل ويصير أعظم منه، فسقط ليصير ظلامًا عوض النور إذ عزل نفسه بنفسه عن الله مصدر النور. أردت أن تجلس على جبل صهيون (مز 48: 2)، جبل الله المقدس، حسبت نفسك كالله في العظمة فتعاليت فوق السحاب!

هذا هو سر هلاك ملك بابل، سقوطه في الكبرياء وتشامخه لا على الملوك المحيطين به فحسب وإنما حتى على الله نفسه، فصار أداة للشيطان يحمل سمته "الكبرياء"؛ هذه هي خطية أبوينا الأولين حين كانا في الفردوس؛ وأيضًا خطية ملك صور الذي صار رمزًا للشيطان (حز 28: 12-16)، وأيضًا سمة الدجال أو ضد المسيح أو إنسان الخطية إذ قيل عنه: "المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 3-4).

يقول القديس يوحنا كاسيان:

[كان كبرياء القلب وحده كفيلاً أن يطرح من السماء إلى الأرض بقوة عظيمة هكذا متحلية بسمات قديرة كهذه؛ فإن سقوط (إبليس) العظيم جدًا يلزمنا أن ندرك أي حذر

يجب أن نكون عليه نحن المحاطون بضعف الجسد من كل جانب...

لقد أنتفخ فظن أنه في غير حاجة إلى العون الإلهي ليستمر في النقاوة التي كان عليها، وظن في نفسه أنه يشبه الله . بهذا حسب أنه غير محتاج إلى أحد، متكلاً على قوة إرادته الذاتية التي بها يقدر أن يمد نفسه بكل ما هو ضروري لتحقيق الفضيلة واستمرارية البركة الكاملة. هذا الفكر وحده هو علة سقوطه الأول[208]].

"هكذا إذ يعرف الله الخالق طبيب الكل أن الكبرياء هي علة كل الشرور ورأسها لهذا يحرص أن يُشفي الضد بالضد، فما هلك بواسطة الكبرياء يُصلح بواسطة الاتضاع"... يقول واحد: "أصير مثل العلي" [14]، أما الآخر: "إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد... وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 6-8). يقول واحد: "أرفع كُرسيِّيَ فوق كواكب الله"، بينما يقول الآخر: "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 28). واحد يقول: "أنهاري هي لي وأنا أصنعها" (حز 29: 3 Lxx) والآخر: "لست أفعل شيئًا من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال" (يو 5: 30، 14: 10)[209]].

يقول القديس مار إفرآم السرياني: [في الإنسان المتواضع تستريح روح الحكمة]، [إذ ظهرت في أعين اخوتك كالذهب النقي فاحسب نفسك مثل إناء لا يُحتاج إليه، فتفلت من الكبرياء الممقوتة من الله والناس]، [المتكبر مثل شجرة مرتفعة وبهِّية لا ثمر فيها... والحسود مثل ثمر بهي من ظاهره وتالف من داخله[210]].

هكذا تُحدد الكبرياء الإنسان إلى الهاوية، لذا يُحدث النبي ملك بابل قائلاً: "انحدرتَ إلى الهاوية إلى أسافل الجب" [15]. لقد سقطت من قمة جبل أحلامك، وهبطت من سحاب خيالك، لتعيش في الهاوية مع إبليس سيدك.

أين جبروتك يا من زلزلت الأرض وزعزعت الممالك [16] ببطشك؟! حولت العالم إلى قفر وهدمت المدن لكي تسبي سكانها [17]؟!

أين عزك ومجدك؟ فإن كل ملوك الأرض اضجعوا بالكرامة، حتى أولئك الذين أذللتهم وعذبتهم، فقد ماتوا في بيوتهم ورُفعت صلوات عنهم وحنطت بعض أجسادهم، "وأما أنت طرحت من قبرك كغصن أشنع" (توجد بعض النباتات سامة جدًا وبعضها يضر الجلد لذا متى سقط منها فرع في الخلاء لا يجسر أحد أن يقترب إليه)، كلباس القتلى المضروبين بالسيف الهابطين إلى حجارة الجب (أي بلا قيمة، لا يُفكر أحد فيك كما لا يُفكر أحد في ثياب قتلى الحرب أثناء المعركة)، كجثة مدوسة (يطأها الإنسان تحت قدميه)" [19].

هذه النبوة تُشير إلى ذبح بليشاصَّر ليلة دخول الماديين بابل حيث لم ينشغل أحد بجثمان الملك وسط الخراب الذي حل بالمدينة.

هكذا فقد ملك بابل كل شيء، بل وقُتل شعبه وبنوه [20-21] بكبرياء قلبه؛ خسر المدينة الملوكية والنسل الملوكي.

3. خراب بابل:

بسبب الكبرياء ينتزع الله من بابل اسمها، ولا يترك فيها بقية ولا ذُرية (إر 51: 62)، لتكون مثلاً أمام العالم كله. تصير خرابًا (إش 13) يسكنها القنفذ وآجام مياه [23].

يرى بعض الدارسين أن القنفذ هنا "قفد بالعبرية" لا يقصد به حيوان القنفذ المعروف بشوكه الطويل وإنما طائر من الطيور التي تأوى إلى الأماكن المهجورة، وحجتهم في هذا أن القنفذ لا يأوى إلى آجام المياه، غير أن القائلين بأن ترجمة "قفد" تعني حيوان القنفذ يقولون بأن الخراب يحل بالبلد فيصير قسم منها آجام مياه والآخر مأوى للقنفذ. على أي الأحوال فإن المدينة الملوكية العظيمة تتحول إلى مسكن سواء للحيوانات أو الطيور التي تسكن القفر، وتُحسب دنسة مملوءة رجاسات، تحتاج إلى الكنس بمكنسة الهلاك، أي الإبادة التامة للخلاص من رجاساتها، حتى لا تفسد من حولها.

4. خراب آشور:

يذكر النبي ما سيحل بآشور وفلسطين لكي يتأكد السامعون صدق النبوة الخاصة ببابل والتي ستتم بعد حوالي 200 عامًا من إعلانها.   

لقد تعدى آشور أرض يهوذا بلا مبرر، وجدف على الله، لهذا يسمح له الله بالدخول إلى أرض يهوذا وجبالها بكونها أرض الله وجباله وهناك يُحطمه، في المواضع المقدسة التي انتهكها [24-25]، فتصير آشور مثلاً أمام كل الأمم التي تفكر في الاعتداء [26].

يكشف الله عن خطته في تأديبه للأشرار، ألا وهي أنه يتركهم يُتممون إرادتهم الشريرة بكامل حريتهم، فيجنون ثمر شرهم فسادًا وهلاكًا، كأن الخطية تحمل عقوبتها فيها كما أن الحياة المقدسة في الرب تحمل مجدها داخلها. لهذا قيل: "قد حلف رب الجنود قائلاً: إنه كما قصدتَ يصير وكما نويتَ يثبت" [24].

5. خراب فلسطين:

"في سنة وفاة الملك آحاز كان هذا الوحي: لا تفرحي يا جميع فلسطين لأن القضيب الضار بك انكسر، فإنه من أصل الحية يخرج أفعوان، وثمرته تكون ثعبانًا سامًا طيارًا" [28-20].

كانت فلسطين في ذلك الحين مكونة من عدة إمارات، لهذا يُخاطبها قائلاً: "يا جميع فلسطين". يطلب منها ألا تفرح لأن القضيب الضار بها قد انكسر. يرى البعض أن هذا القضيب هو تغلث فلاسر الذي استولى على مدن فلسطينية، وقد مات قبل آحاز بسنة أو سنتين، فسيخلفه شلمناصَّر وسرجون وسنحاريب وهم أشر منه.

يرى غالبية الدارسين أن القضيب المكسور هو عزيا الذي ضرب الفلسطينيين بقسوة ففرحوا بموته (2 أى 26: 6). وأن أصل الحية هو بيت داود حيث يأتي حزقيا الملك الذي ضربهم ضربة أقسى من عزيا جده (2 مل 18: 8)، واستعبدهم.

أما الحية الطائرة فهي مثل الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية، ترمز لشخص السيد المسيح المصلوب، الحامل سم خطايانا في جسده ليبيده بموته المحييّ. هكذا ينتقل النبي من خلاص شعب الله من الأعداء البشريين إلى خلاصهم الأبدي من إبليس عدو الخير وذلك خلال الصليب.

يعلن النبي أن فلسطين تواجه مجاعة قاسية [30]، وحربًا مدمرة فتتحول مدنهم إلى دخان بينما في النهاية يحمي الرب شعبه ويترفق ببائسيه [32].   

الله - في صلاحه – لا يمنع الشر ولا يلزم الأشرار على التوبة، لكنه في النهاية يُتمم خطة خلاصه لمؤمنيه المتكلين عليه، محولاً كل الأمور لبنيانهم.

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس عشر

وحيّ من جهَة موآب

يقدم إشعياء النبي نبوات تخص بعض الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل تتحقق سريعًا حتى يتأكد الشعب من أمرين: صدق نبوات إشعياء النبي فيما يخص المستقبل البعيد مثل السبي والرجوع منه ومجيء المسيا وأعماله الخلاصية، وأن الله هو إله الأرض كلها، ضابط الكرة الأرضية ومحرك الشعوب.

في هذا الأصحاح يبرز النبي تحطيم موآب على يديْ ملك أشور سرحدون أو سنحاريب بطريقة قاضية، الأمر الذي لأجله صرخ قلب النبي مشتاقًا إلى رجوعهم إلى الله وخلاصهم عوض الدمار الذي حلّ بهم بسبب جحد الإيمان.

1. سرعة تحقيق النبوة              [1].

2. تحطيم المدن العظمى              [2-5].

3. حلول مجاعة                     [6-9].

1. سرعة تحقيق النبوة:      

"وحي من جهة موآب. إنه في ليلة خربت عار موآب وهلكت. إنه في ليلة خربت قير موآب وهلكت" [1].

جاء الموآبيون من نسل لوط، لذا فهم يمتّون بصلة قرابة لإسرائيل، سكنوا شرق البحر الميت، وكانت بلادهم تنقسم إلى بلاد موآب وعربات موآب وهذه كانت في وادي الأردن مقابل أريحا. سمح بنو رأوبين للموآبيين بالسكنى في مدنهم وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش، كما وجدت علاقات طيبة أحيانًا بين موآب وإسرائيل، فقد تغربت نُعمى هناك ورجعت ومعها راعوث، وعندما قاوم شاول داود أودع الأخير والديه لدى ملك موآب، ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح عداوه تجاه إسرائيل ويهوذا، فكثيرًا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم.

يتنبأ إشعياء النبي عن خراب المدن الكبرى في موآب، وقد تحققت هذه النبوة حرفيًا وبدقة خلال ثلاث سنوات من إعلانها (إش 16: 14)، وقد حلّ الخراب على يدىْ ملك آشور فجأة وبطريقة غير متوقعة.

"عار": اسم سامي معناه "مدينة"؛ تبعد هذه المدينة حوالي 14 ميلاً جنوبي نهر أرنون (عد 21: 15؛ 22: 36)، سميت أيضًا عروعير (تث 2: 36)، دعاها الإغريق عريوبوليس نسبة إلى إله الحرب "اريس"، ودعاها اليهود "ربة موآب"، وهي خربة الربة.

"قير" اسم سامي معناه "سور" أو "مدينة ذات أسوار"، تبعد حوالي أحد عشر ميلاً شرقي الجزء الجنوبي من البحر الميت، موضعها اليوم مدينة كرك في الأردن.

هلكت المدينتان عار وقير في ليلة واحدة، وليس في يوم واحد أو نهار واحد. فإنه إذ يغيب شمس البر عن النفس البشرية التي تشبه مدينة عظيمة مسوّرة، يحل بها ظلام الشر والجهل وتفقد كل ما تعبته لسنوات طويلة ليحل بها الخراب. لذلك يقول القديس بولس: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة، فلا ننم إذًا كالباقين بل لنسهر ونصح، لأن الذين ينامون فبالليل ينامون، والذين يسكرون فبالليل يسكرون" (1 تس 5: 5-6).

v   من يشبه ذاك الواحد الجلي الذي يسهر ويصلي في الخفاء، تحيطه هالة من النور الخفي وسط الظلمة الخارجية، أما الشرير فكابن للظلمة يسلك، إنه يقف في ضياء النهار، ومع أن النور يكسوه من الخارج لكن الظلمة تكتنفه من الداخل.

أيها الأحباء، ليتنا لا ننخدع بأننا ساهرون، لأن من لا يسهر بالبر، فسهره لا يُحسب له!

القديس مار إفرآم السرياني[211]

v   إذ يترك الإنسان (محبة) العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءًا وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب (مت 13: 43).

القديس غريغوريوس النيسى[212]

2. تحطيم المدن العظمى:

يصور إشعياء النبي ما حلّ بالمدن الكبرى في موآب بجانب عار وقير، فيقول:

"إلى البيت Bajith وديبون يصعدون إلى المرتفعات للبكاء" [2]. إذ حل الخراب بموآب لجأ الكثيرون إلى الآلهة الوثنية يصرخون بدموع وعويل لعلها تستطيع أن

تنقذهم، لكن بلا جدوى، وذلك كما فعل أنبياء وكهنة البعل في أيام إيليا النبي.

لقد لجأوا إلى "البيت"؛ ويرى البعض Bajith تعني "هيكلاً"، أو "بيت" bayit أي "بيت الإله كموش أو هيكل الإله" أو bat بمعنى "بنت" أو "ابنة" أي "أبنة المدينة" أو سكانها[213].

"ديبون" اسم موآبي يعني "مرتفعات" أو "هزالاً" أو "انحلالاً". وهي مدينة تبعد ثلاثة أميال شمال نهر أرنون، شمال غربي عرعير، تُسمى بالعربية "ذيبان"، فيها وجد مرتفع الإله كموش الموآبي.

يُترجم البعض "البيت وديبون" "بيت ديبون" أو "ابنة ديبون"، كأن الموآبيين قد هربوا إلى هيكل الإله كموش أو بيته في ديبون، يبكون وينوحون على ما حلّ بهم من خراب.

"تولول موآب على نبو وعلى ميدبا" [2].

لقد خربت "نبو"، بالقرب من الجبل العظيم نبو، شرقي الأردن في نهاية جنوب البحر الميت، وهو الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه مشتاقًا أن يعبر إلى أرض الأحياء وينعم بكنعان السماوية، وقد مات هناك (تث 34). كانت نبوة محصنة بالجبل العظيم، مركز دفاع للموآبيين، لكنها ضاعت وخربت فصارت علة للولولة. في ذات الموضع الذي تهلل فيه موسى ولول الموآبيون؛ ما يُفرح قلب المؤمن يُحطم نفس الجاحد عديم الإيمان!

ولولوا أيضًا على "ميدبا"، معناها "مياه الراحة"، تُسمى حاليًا "مادبا"، تبعد حوالي 5 أميال جنوب شرقي نبو، 14ميلاً شرقي بحر لوط، دعيت هكذا لأن بها بركة في الجنوب طولها وعرضها 360 قدمًا كما توجد بها برك أصغر في الشرق والشمال.

يقول النبي "في كل رأس منها قرعة، كل لحية مجزوزة، في أزقتها يأتزرون بمسح، على سطوحها وفي ساحاتها يولول كل واحد منها سيالاً بالبكاء" [2-3]. هذه جميعها علامات الحزن الشديد (إر 48: 37؛ 2 صم 3: 31؛ إر 4: 8؛ 41: 5؛ مرا 2: 10). قرع الرأس يُشير إلى المذلة، إذ اعتاد الغالبون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح؛ وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحي وكرامته، والاتزار بالمسح علامة اليأس الشديد، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلي.

هذه هي صورة النفس التي تعتزل إلهها ليسبيها العدو الشرير؛ تفقد حريتها وجمالها وسلطانها وكرامتها وفرحها، لتصير أشبه بأمة قبيحة ذليلة منكسرة، لا تجد راحة لا في الأزقة ولا على السطوح (حيث يضع الوثنيون آلهتهم) ولا في الساحات؛ أينما وجدت لا تشعر بالراحة.

"وتصرخ حشبون والعالة، يسمع صوتهما إلى ياهص، لذلك يصرخ متسلحو موآب، نفسها ترتعد فيها" [4]. كأن الموآبيين قد هربوا من مدينة إلى مدينة، وكان صراخهم يسمع من بعيد، من مدن بعيدة؛ صراخ سكان حشبون والعاله يدوى في ياهص.

"حشبون" اسم موآبي معناه "حسبان" أو "تدبير"، وهي مدينة سيحون ملك الأموريين، أخذها الموآبيون من سبط لاوي (يش 21: 29، أى 6: 81)، تُعرف حاليًا باسم "حسبان"، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق، تقع نحو سبعة أميال ونصف شمال مادبا[214].

"العاله"، كلمة عبرية ربما تعني "الله صعد"، تبعد حوالي ميلين شمال حشبون، تُسمى حاليًا "العال"، تقع على تل.

وتعتبر المدينتان في أقصى الشمال، كانتا موضع نزاع بين إسرائيل وموآب.

أما "ياهص" فكلمة عبرية تعني "موضعًا مدوسًا"، تُسمى "يهصه"، يُقال إنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر، تبعد حوالي 10 أو 12 ميلاً جنوب حشبون.

لم يحتمل إشعياء النبي أن يرى ما يحل بهذه المدن العظيمة، وكيف تحول شعبها إلى الصراخ المستمر، حتى صارت موآب ترتعد في داخلها: "نفسها ترتعد فيها" [4]، لذلك يقول "يصرخ قلبي من أجل موآب" [5]. لا يقف شامتًا في الأعداء، إنما يشاركهم مرارتهم، مشتاقًا إلى رجوعهم عن عداوتهم وتمتعهم بالخلاص. هذه هي سمة رجال الله: الحب الداخلي الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقاومين لهم! 

v   لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شره، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوكم لا بسبب طبيعته البشرية وإنما بسبب خطيته!

القديس أغسطينوس[215]

v   لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء... فإن صلينا مـن

أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشارين، أما إن أحببنا أعداءنا وصلينا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر.

القديس يوحنا الذهبي الفم[216]

يقول النبي: "يصرخ قلبي من أجل موآب، الهاربين منها إلى صوغر كعِجْلة ثلاثية لأنهم يصعدون في عقبة اللوحيث بالبكاء، لأنهم في طريق حورونايم يرفعون صراخ الانكسار" [5].

جاءت كلمة "الهاربين" في العبرية في صيغة المفرد؛ وكأن إشعياء النبي يصور لنا الهاربين من أقصى الشمال إلى صوغر في الجنوب، المدينة الصغيرة التي لجأ إليها لوط عند حرق سدوم وعمورة، أشبه بعجلة واحدة عمرها ثلاث سنوات قد هربت كما من النير الثقيل الذي لم تعتد عليه. صاروا كشخص واحد ليس من يسنده ولا من يعزيه، يهرب إلى الأماكن الصغيرة (صوغر) فلا يجد له ملجأ.

أما اللوحيث وحورونايم فلا يعرف موضعهما، إنما غالبًا ما كانا بجوار صوغر.

3. حلول المجاعة:

لا يقف الأمر عند خراب المدن والهزيمة المنكرة والهروب والصراخ وإنما يحل بموآب مجاعة كثمرة طبيعية للهزيمة في الحرب وتحطيم الموارد الطبيعية والبشرية، أو ربما كعلامة من علامات ثورة الطبيعة نفسها ضدهم. يقول النبي: "لأن مياه نمريم تصير خربة، لأن العشب يبس، الكلأ فنى، الخضرة لا توجد، لذلك الثروة التي اكتسبوها وذخائرهم يحملونها إلى عبر وادي الصفصاف" [6-7].

"نمريم" اسم سامي معناه "مياه صافية"، وهي ينابيع في وادي نميرة في الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الميت. والمعنى هنا أن جماهير اللاجئين تكون عظيمة فلا تستطيع الواحة أن تكفيهم هم وحيواناتهم، لذا يتركون حيواناتهم ويأخذون ما يستطيعون حمله من ثروة وذخائر ليكملوا الطريق لعلهم يصيرون في غير عوز، لكنهم لا يقدرون أن يحملوا كل احتياجاتهم[217]. ويرى بعض الدارسين أنه بجانب ما يحل ببلادهم من مجاعة يقوم الأعداء بالاستيلاء على ثروتهم وذخائرهم ويحملونها إلى بلادهم ليتركوا موآب خرابًا.

تتحول موآب كلها إلى موضع صراخ وولولة، يدوي الصراخ في كل تخومها، يُسمع في الجنوب في وادي نميرة حتى اجلايم بجوار قير وبير ايليم في الشمال. وتتحول مياه ديمون إلى دم [9] بسبب كثرة سفك الدماء في تلك الليلة الشهيرة [ديمون أو ديبون ومعناها دم، غالبًا ما يقصد مياه نهر أرنون]، فلا يجد أحد ما يروى ظمأه.

البقية التي تنجو تصير كما في حالة رعب، تواجه أسدًا مفترسًا لا يمكن مقاومته [9]!

في اختصار تفقد موآب مدنها العظمى، وحقولها، ومياهها، وسلامها لتصير في خراب تام.

<<

 

 


 

الأصحاح السادس عشر

خضوع موآب ليهوذا

في أيام حزقيا يُقدم إشعياء النبي مشورة لموآب أن تفي بالجزية التي تعهدت بها أمام يهوذا فترسل إليه حملان، وهي جزية مناسبة لأن موآب مشهورة بقطعانها (عد 32: 4). قدمت موآب فيما بعد جزية أيضًا لإسرائيل (2 مل 3: 4). بهذه المشورة تتمتع موآب بالحماية عوض أن تصير كطائر تائه لا يجد عشًا. وإذ خشى النبي ألا تقبل موآب مشورته كشف لها جراحاتها المهلكة ألا وهي الكبرياء.

هذه دعوة مقدمة لكل نفس كي تخضع للسيد المسيح الملك الخارج من سبط يهوذا، لكي تقدم حياتها كحمل ذبيح من أجل الرب، فتنعم بالسلام الداخلي عوض أن يُحطمها جحود الإيمان والكبرياء.     

1. مشورة للخضوع ليهوذا           [1-5].

2. الكبرياء محطم للإنسان           [6].

3. ولولة على موآب                 [7-14].

1. مشورة للخضوع ليهوذا:

سبق أن رأينا قلب إشعياء النبي يتحرك بحنان شديد نحو موآب فصار يصرخ من أجلهم. الآن يُقدم للموآبيين مشورة صالحة لإصلاح حالهم وتمتعهم بعلاقات طيبة مع بني يهوذا وتذوقهم للسلام والحماية، بتقديم الجزية (حملان) لحزقيا الملك؛ كرمز لدعوة الأمم إلى الخضوع للسيد المسيح، الأسد الخارج من سبط يهوذا، فإنه لا سلام ولا حياة أبدية دون قبوله ملكًا في حياتنا الداخلية.

في نهاية الأصحاح السابق قيل: "على الناجين من موآب أسدًا وعلى بقية الأرض" (إش 15: 9)، ويرى البعض أن الأسد ربما يكون حزقيا، أو السيد المسيح الأسد الخارج من سبط يهوذا ليملك على الأمم روحيًا[218].

يتقدم النبي نفسه ليعلن استعداده أن يكون وسيطًا أو شفيعًا لدى يهوذا عن موآب، مطالبًا الموآبيين بدفع الجزية: "أرسلوا خرفان حاكم الأرض من سالع نحو البرية إلى جبل ابنة صهيون، ويحدث أنه كطائر تائه كفراخ منفّرة تكون بنات موآب في معابر أرنون" [1-2].

"سالع" Sala اسم عبري معناه "صخرة"، دعاة اليونانيون بترا Petra والتي تحمل ذات المعنى، إذ هو موقع حصين في أرض أدوم؛ كان الأدوميون يهربون إليه أثناء الحصار العسكري كقلعة طبيعية حصينة لا تُقهر، لأنها قائمة على قمة جبل (عو 2)، تُسمى حاليًا أم البيَّارة.

كأن النبي يدعو الموآبيين الذين التجاؤا إلى أدوم وتحصنوا في سالع أن يتقدموا مع بقية الموآبيين الذين في البرية ليهوذا، وأن يقدموا الحملان في أورشليم "جبل ابنة صهيون".

إنها دعوة لكل إنسان ألا يظن في الذراع البشري أو الإمكانيات الطبيعية ملجأ له. إنما يكمن سلامه في بلوغه أورشليم، وتقديم حياته ذبيحة حب لابن داود، الأسد الخارج من سبط يهوذا. جاء الأسد كحمل ليصلب خارج أورشليم حتى نتقدم نحن كحملان - ذبائح حية - نُشاركه آلامه، فندخل إلى أورشليمه السماوية.

v   "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1)...

ربما يُقال: كيف يصير الجسد ذبيحة؟ دع العين لا تنظر الشر، فتصير ذبيحة! لا ينطق لسانك بدنس فيصير ذبيحة! لا تمارس يدك عملاً محرمًا فتصير محرقة كاملة!... بهذا لا نحتاج إلى سكين أو مذبح أو نار، بالحرى نحتاج إلى هذه كلها لكنها ليست مصنوعة بالأيدي، إنما تأتينا من فوق. نحتاج إلى نار علوية، وسكين كهذه؛ مذبحنا هو اتساع السماء.

إن كان إيليا إذ قدم ذبيحة منظورة نزلت نار من فوق التهمت كل الماء والخشب والحجارة، فكم بالأكثر يحدث هذا بالنسبة لك؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم[219]

v   أحضر تقدماتك ... تقدمات نفسك!

القديس جيروم[220]

خارج السيد المسيح يرى النبي بنات موآب تعبرن نهر أرنون كطائر تائه ليس له عش يستقر فيه، أو كفراخ منفرة تفتقر إلى ظل الجناحين والدفء والحماية [2]، أما بقبوله فنصير تحت جناحي صليبه، نجد راحتنا  وسلامنا وشبعنا الداخلي.

يُقدم النبي أيضًا مشورة لشيوخ يهوذا، مطالبًا إياهم أن يستقبلوا الموآبيين اللاجئين إليهم ليقدموا لهم ظلاً وسط الظهيرة، فيصير لهم الوقت كأنه ليل للراحة من شمس التجارب والضيقات؛ وأن يستروا المطرودين والهاربين إليهم بدون خداع، فلا يسلموا عبيدًا للأعداء [3-4].

يليق برجال يهوذا أن يحملوا رمزًا للسيد المسيح الملجأ الحقيقي، فيفتحوا قلوبهم ومدنهم للهاربين، ويستقبلوهم بإخلاص؛ بهذا تعلن مملكة المسيح القائمة على كرسي الرحمة أبديًا: "فيثبت الكرسى بالرحمة، ويجلس عليه بالأمانة في خيمة داود قاضٍ ويطلب الحق ويبادر بالعدل" [5].

هكذا يُقدم لنا النبي نصًا مسيانيًا، معلنًا أن الكنيسة - خيمة داود - هي موضع النجاة، يملك فيها المسّيا ليجتذب الأمم إليه فيجدوا فيه الحق ويتمتعوا بالمراحم الإلهية، مترنمين: "العدل والحق قاعدة كرسيك؛ الرحمة والأمانة تتقدمان وجهك... لأن الرب مجننا وقدوس إسرائيل ملكنا" (مز 89: 14، 18).

2. الكبرياء محطم للإنسان:

قدم إشعياء النبي المشورة الصالحة لموآب، كما قدم دانيال النبي مشورته أيضًا لنبوخذ نصَّر (دا 4: 27)... وقد كشف في نفس الوقت عن ضعفهم الروحي أي الكبرياء كعائق لهم عن قبول المشورة. "قد سمعنا بكبرياء موآب المتكبرة جدًا عظمتها وكبريائها وصلفها بُطل افتخارها" [6]. لقد سمع النبي عن كبرياء الموآبيين وتشامخهم الزائد وكلماتهم الفارغة (الباطلة)!

الكبرياء محطم للإنسان كما للأمم، يحرم صاحبه من قبول المشورة الصالحة، ويفقده التمتع بنعمة الله ورحمته.

3. ولولة على موآب:

لم يسمع قادة موآب لصوت إشعياء النبي بسبب كبريائهم واعتدادهم برأيهم لهذا سقطوا تحت العقوبات المُرّة واستحقوا الويلات التي يُلاحظ فيها الآتي:

أ. حدوث ولولة شاملة: "لذلك تولول موآب على موآب كلها يولول" [7]؛ إذ صارت الولولة سمة عامة في كل موآب.

ب. شملت الولولة أكبر المدن مثل قير حارسة [7] التي ضُربت، وأيضًا الحقول التي ذبلت كحقول حشبون وكرمة سبمة Sibmah ويعزير [8-9]؛ شملت المدن والقرى؛ المتعلمين والجهال، الأغنياء والفقراء الخ...

اشتهرت حشبون وسبمه ويعزير بغنى كرومها.

ج. تحولت أفراح الحصاد إلى بكاء ونوح؛ عوض صيحات العيد المبهجة سُمعت صرخات المعركة المُرّة [10].

د. انطلق الموآبيون إلى المرتفعة للصلاة في هيكل الإله كموش بلا جدوى [12].

هـ. تحدد ميعاد العقوبة بثلاث سنوات خلالها تنهار موآب أمام سنحاريب ملك آشور، ويذل الموآبيين ويتحطم مجدهم [14].

هذه هي نهاية الإنسان المتكبر، يصير كموآب تحل الولولة بحياته ككل، في الأمور الكبيرة وأيضًا الصغيرة، لا يعرف الفرح الداخلي ولا بهجة القلب، أعياده تتحول إلى أحزان، عبادته تكون بلا نفع، ينهار يومًا فيومًا ليفقد مجده تمامًا.

وسط هذه الصورة القاتمة يكشف إشعياء النبي عن جانبين مبهجين: الأول مشاركة النبي بنى موآب متاعبهم، إذ يقول: "لذلك ترن أحشائي كعود من أجل موآب وبطني من أجل قير حارس" [11]. لا تحتمل أحشاؤه الداخلية أن تنظر نفوسًا متألمة حتى وإن كانت آلامها ثمرة خطاياها.

الجانب الثاني وجود بقية قليلة جدًا وضعيفة للغاية [14]، ففي القديم تمتعت راعوث الموآبية بالخلاص، إذ جاءت تحتمي تحت ظل الله، وفي العهد الجديد جاء الأمم إلى الإيمان ليتمتعوا بالحياة الجديدة في المسيح يسوع.

<<

 

 


 

الأصحاح السابع عشر

وحيّ من وجه دمشق وآفرايم

ليس عند الله محاباة، فإن كان يؤدب الأمم الوثنية مثل موآب لجحدها الإيمان وعجرفتها وتجديفها عليه فإنه يؤدب إسرائيل (أو آفرايم- العشرة أسباط) لأنها تحالفت مع آرام أو سوريا (عاصمتها دمشق) ضد يهوذا متكئين على فرعون مصر ضد آشور. لهذا سمح الله لملك آشور أن يهجم على آرام وآفرايم ويغلبها سريعًا.

هذا وقد وجدت علاقات بين دمشق (آرام) وإسرائيل منذ القدم. لقد أوكل إبراهيم الذي في صلبه إسرائيل كل بيته في يدي عبده لعازر الدمشقي؛ وفي أيام أليشع النبي جاء نعمان السرياني لينعم بالشفاء من برصه في مياه الأردن، كما جاءت المرأة الكنعانية السورية إلى السيد المسيح تطلب منه شفاء ابنتها، وكرز التلاميذ في دمشق، وظهر السيد المسيح لشاول الطرسوسي بالقرب من دمشق.

1. تدمير دمشق            [1-2].

2. هزيمة آفرايم           [3-11].

3. هجوم الأعداء           [12-13].

1. تدمير دمشق:

تعتبر من أعرق المدن، ورد ذكرها في أيام إبراهيم (تك 14: 15)؛ غزاها داود الملك وأقام فيها حامية (2 صم 8: 5-6؛ 1 أى 18: 5-6). قام رزون وتمكن من تأسيس المملكة السورية ودامت الحرب بينها وبين إسرائيل زمانًا طويلاً لكنهما تحالفا معًا فيما بعد ضد يهوذا وآشور. وقد تعرضت للهزيمة عدة مرات، ففي سنة 843 ق.م. هاجم شلمناصَّر دمشق وهزم ملكها حزائيل، كما هاجمها تغلث فلاسر سنة 732 ق.م.، وقتل ملكها رصين وقاد شعبها إلى السبي (2 مل 16: 5-9؛ إش 7: 1-8؛ عا 1: 3-5). انتقلت بعد ذلك من الآشوريين إلى الكلدانيين ثم إلى الفرس فاليونانيين المقدونيين فالرومان على يدي ميتللوس عام 64 ق.م. لتصير سوريا مقاطعة رومانية عام 63 ق.م.

إن كانت دمشق قد تحالفت مع آفرايم ضد يهوذا، فقد حلت العقوبة على دمشق وآفرايم معًا. وهما يمثلان قوى العالم الشريرة المقاومة للحق كما جاء في سفر الرؤيا: "ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأُعطيت أن تحرق الناس بنار، فاحترق الناس احتراقًا عظيمًا وجدفوا على اسم الله الذي له سلطان على هذه الضربات ولم يتوبوا ليعطوه مجدًا" (رؤ 16: 19).

"هوذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم؛ مدن عروعير متروكة، تكون للقطعان فتربض وليس من يخيف" [1-2].

كانت دمشق مزدهرة جدًا حتى حاصرها تغلث فلاسر الآشوري وقتل ملكها وسبى شعبها فصارت أشبه برجمة خربة.

أما عروعير، فتوجد 3 مدن على الأقل تحمل ذات الاسم [عروعير اسم موآبي معناه "عارية" أو "عرى"]، وهي: مدينة في موآب تُسمى حاليًا عراعير، تبعد حوالي اثنى عشر ميلاً شرقي البحر الميت، جنوبي ديبان بقليل، وشمال نهر أرنون؛ وقرية في القسم الجنوبي من اليهودية (1 صم 30: 28) تسمى حاليًا عرعارة على بعد اثنى عشر ميلاً جنوب شرق بئر سبع، والثالثه وهي المقصودة هنا[221] مدينة في جلعاد بالقرب من ربة التي هي ربة عمون (يش 30: 25، قض 11: 33) عمان عاصمة الأردن.

دمشق وعروعير يمثلان النفس المتشامخة على الله والمتحالفة مع الغير ضد كنيسته، فإنه وإن كان الله يتركها زمانًا لتظهر قوية وناجحة ومزدهرة، لكنها تعود فتنهار من جانبين:

أ. تتحول من مدينة عظيمة إلى رجمة خربة، أي تفقد حياتها، لأنها تعتزل الله نفسه مصدر الحياة.

ب. تتحول كعروعير من مسكن للناس (مع الله) إلى مرعى للقطعان والحيوانات، وكأن مقاومتنا للحق تفقدنا كرامتنا وتحول حياتنا إلى ملهى لكل حيوان، فنحمل الطبيعة الحيوانية الجسدانية. لهذا يُسبّح القديس مار إفرآم السرياني طفل المزود قائلاً: [المجد لذاك الذي نظر إلينا كيف أننا قبلنا أن نُشابه الوحوش في هياجنا وجشعنا، فنزل إلينا وصار واحدًا منا حتى نصير نحن سمائيين[222]].

2. هزيمة آفرايم:

تزعمت دمشق فكرة التحالف ضد يهوذا لهذا استحقت أن تُعاقب أولاً، وإذ ضعفت إسرائيل وخضعت للمشورة استحقت هي أيضًا التأديب القاسي مع فتح باب الرجاء أمامها وإعلان وجود بقية أمينة ومخلصة تتمتع بخلاص الله.

تقدم النبوّة الثمرة الطبيعية للتحالف الشرير الذي فيه اتكاء على الذراع البشري والفكر الإنساني البحت مع تجاهل العمل الإلهي، هذه الثمرة هي عقوبة طبيعية يسقط تحتها الإنسان في شره:

أ. فقدان الحصانة: "يزول الحصن من آفرايم" [3]؛ "في ذلك اليوم تصير مدنه الحصينة كالردم في الغاب والشوامخ التي تركوها من وجه بني إسرائيل فصارت خرابًا" [9].

إن كان الله إله خلاصنا هو صخرة حصننا [10] فإن اعتزالنا إياه ورفضنا لعمله هو زوال للحصن الحقيقي... عندئذ لا تقدر الحصون أن تحمي مدينتنا الداخلية بل تصير كردم في وسط الغاب بلا قيمة وكشوامخ متروكة لها المظهر الخارجي دون قوة العمل!

الله هو حصننا الذي فيه نلتجىء فتستريح أعماقنا، عندئذ لا تقدر كل قوى الظلمة أن تتسلل إلينا.

ب. فقدان المجد الداخلي: "ويكون في ذلك اليوم أن مجد يعقوب يُذل" [4]. إن كان مجد ابنة الملك من الداخل (مز 45)، فإن سر مجدها هو مسيحها الساكن فيها، الذي يُقيم ملكوته داخلها. بالمسيح يسوع نتمجد ليس فقط أمام الناس وإنما أيضًا أمام الآب، إذ يقول القديس جيروم: [تطلع إلينا، فإنك ترى ابنك الساكن فينا[223]].

ج. فقدان القوة: "وسمان لحمه تهزل" [4]، لهذا يقول السيد المسيح: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).         

v   لا نقدر أن نجري في طريق الله ما لم نكن محمولين على أجنحة الروح[224].

v    ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[225].

v   لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تُفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[226].

القديس يوحنا الذهبي الفم

د. فقدان الثمر، فقد عرف وادي رفايم بخصوبة أرضه ووفرة ثماره ومحصولاته، لكن بسبب الأعداء لا يتبقى لآفرايم إلاَّ أن يلتقط السنابل الساقطة وراء الحصادين ويجمع ما تبقى في رأس الفروع من شجر الزيتون حبتين أو ثلاث فقط [5-6] أي يصيروا كالفقراء الذين ليس لهم ما يحصدونه (تث 24: 20).

إنهم يُسيّجون الحقول ويزرعون ولكن في وقت الحصاد يأتي العدو ليغتصب تاركًا لهم ما يسقط منه على الأرض، فتتحول أعياد الحصاد إلى أزمنة للكآبة وعدم الرجاء [11]. بمعنى آخر يفقدون تعب جهادهم ويخسرون فرحهم وسلامهم.

الآن نتساءل: لماذا يسمح الله لآفرايم بهذا الذل؟

لكي يرجع إلى الله خالقه عوض مشاركة الأراميين مشوراتهم الشريرة وعبادتهم الوثنية ورجاساتهم الدنسة، إذ يقول:"في ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل، ولا يلتفت إلى المذابح صنعه يديه، ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السواري Asherahs  والشماسات hammanum " [7-8].

السواري هنا تعني التماثيل والصور الخاصة بإلهة الحب والجمال (عشتار) المقابلة لأفروديت[227]، إذ كانت توضع على سواري (أشبه بأعمدة من خشب). تُحسب هذه الإلهة زوجة ورفيقة للإله بعل، لذا يُحاط مذبحه بمجموعة من الأشجار أو السواري تحمل تماثيل الإلهة إشارة إلى خصوبتها[228].

كانت هذه السواري والأشجار تحمل معاني جنسية إباحية لذا اختلطت العبادة بالنجاسة كجزء لا يتجزأ منها (خر 34: 13؛ تث 16: 21؛ قض 6: 25؛ 2 أى 34: 4-7؛ مى 5: 14). سمح الله بتأديب شعبه لكي لا يُدنس نظرته للجنس بل يرتفع بقلبه وفكره نحو الله الذي فوق الجنس والذي يهبنا قدسية للحياة الزوجية والعلاقات الجسدية[229].

أما بالنسبة للشماسات[230] فقد ترجم البعض الكلمة العبرية بمعنى آلهة الشمس sun-gods  والبعض ترجمها بعل هامان وهو إله الشمس السرياني، كما ترجمها آخرون "مذبح البخور" حيث كان يُقدم البخور لإله الشمس، لذا جاء هذا التعبير خاصًا بالعبادة الوثنية متمايزًا عن البخور المقدس الذي يُقدم في الهيكل.

3. هجوم الأعداء:

يشبه الأعداء بالبحر الذي لا يمكن مقاومته... فقد سمح الله للشعوب الكثيرة أن تنزل على آفرايم كمياه كثيرة تغرقه، ومع هذا فإن الله قد وضع للبحر حدًا. يسمح له أن يغرق إلى حدّ معين وإلى حين، إذ يحفظ القلة الأمينة من أولاده من ثورة البحر وهياجه.

في تصوير رائع يقول: "آه ضجيج شعوب كثيرة... قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا وتُطرد كعصافة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة، في وقت المساء إذا رعب، قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا" [12-14].

يسمح الله للأعداء أن يهجموا كمياه بحار غزيرة لا يقف أحد أمامها، لكنه إذ ينتهرها تصير كعاصفة في مهب الريح على الجبال ليس لها موضع استقرار ولا قدرة على المقاومة، أو كعجلة مدحرجة أمام زوبعة لا يمكن إيقافها. عدونا عنيف للغاية متى تركنا أنفسنا بين يديه سحبنا في دوامته لنغرق في أعماق بحره، لكننا متى اختفينا في الرب يصير العدو كلا شيء أمامنا، ينسحب كعصافة أمام ريح الروح القدس الناري، ويتدحرج أمام كلمة الله الفعّال.

لذلك يقول: "في وقت المساء رعب" [14]، بمعنى أنه متى غاب شمس البر عن حياتنا تحل الظلمة فينا ونصير كما في المساء ليجد العدو له فينا موضعًا فيرعبنا، أما قبل الصبح، أي في الفجر، حيث يشرق فينا مسيحنا يصير العدو كلا شيء ويُحسب غير موجود. هذا هو نصيبه فقد سبق أن نهبنا حياتنا وسلبنا مجدنا لكنه يعود فيتحطم أمام الساكن فينا. 

<<


 

الأصحاح الثامن عشر

كوش تقدم هدية الله

يعتبر هذا الأصحاح من أكثر الأصحاحات غموضًا في الكتاب المقدس. يرى قلة من الدارسين أن الحديث هنا يخص آشور أما الغالبية فترى أن الحديث أما الغالبية فترى أن الحديث إما يخص مصر أو أثيوبيا. وقد رفض البعض نسبته إلى مصر بحجة أن الوحي الخاص بمصر جاء في الأصحاح التالي مبتدئًا بالقول "وحي من جهة مصر" (إش 19: 1).

يُقصد بكوش جنوب مصر، حاليًا النوبة والسودان وأثيوبيا، وكان ملكها القدير ترهاقة (2 مل 19: 9) قد ملك على كوش ومصر؛ هذا بعث برسل على سفن صغيرة مصنوعة من حلف البردي إلى يهوذا طالبًا التحالف معه ضد سنحاريب ملك آشور.

لقد أراد النبي أن يؤكد أن كان كوش يطلب تحالفًا ضد قوى آشور المتزايدة، فإن كوش ومعها مصر ستأتي إلى أورشليم مع بقية الأمم لتتعبد خاضعة لرب الجنود. بمعنى آخر الله لا يحتاج إلى تحالفات بشرية ضد قوى الشر إنما هو حصن منيع لكل الأمم التي تترجاه وتتعبد له .

1. إرسالية من كوش       [1-6].

2. كوش تقدم هدية لله      [7].

1. إرسالية من كوش:

يوجه النبي حديثه إلى كوش قائلاً: "يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش" [1].

ماذا يقصد بأرض حفيف الأجنحة؟

أ. يرى البعض أنها إشارة إلى السلطان الإمبراطوري الذي كان يبسط جناحيه على كل أرض كوش وما حولها. وقد استخدم الكتاب المقدس هذا التشبيه مرارًا كثيرة، فقيل عن ملك آشور "يكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل" (إش 8: 8). كما شبه ملك آشور بنسر عظيم ذي منكبين (حز 17).

ب. يرى بعض الدارسين أن حفيف الأجنحة يُشير إلى سلطان مصر وعظمتها، وآخرون يروا إنها بريطانيا العظمى التي حملت أمجادًا عظيمة عبر البحار وآخرون حسبوها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتخذ النسر شعارًا لها[231].

ج. يُشير حفيف الأجنحة إلى الحشرات، لذا فهي ترمز إلى كوش كبلاد تشتهر بحشراتها الطائرة؛ خاصة وأن الكلمة العبرية هنا silsal استخدمت في (تث 28: 42) عن الحشرات (الصرصر)[232].

د. كلمة sel تعني "ظلاً"، لذا فهي تُشير إلى بلاد قريبة من خط الاستواء حيث يكون الظل مضاعفًا (أو ذات أهمية لشدة الحر)[233].

هـ. اعتمد البعض في تفسيرهم على ما جاء في الترجمة السبعينية والترجوم أن حفيف الأجنحة يُشير إلى السفن؛ وكأن النبي يقول بأن سفن أثيوبيا تبحر باسطة شراعاتها كأجنحة الحشرات. اعتاد البحارة أن يدعو الشراع جناحًا[234].

على أي الأحوال بعث ملك أثيوبيا رسلاً خلال سفنه المصنوعة من البردي، وكان على عجلة، لأن العدو على الأبواب ويمثل خطرًا على العالم كله في ذلك الحين. لقد عُرف الأثيوبيون بقدرتهم على التجسس على مواقع الأعداء وتحركاتهم بواسطة سفنهم الصغيرة السريعة، لهذا لم يتوان الملك في التحرك ليدعو يهوذا إلى التحالف ضد خطر آشور المتزايد.

كانت إرسالية الملك هي للتحالف، لكنها ليست إرسالية سلام، وإنما إرسالية دعوة للحرب ضد آشور وثورة ضد سنحاريب، الأمر الذي تترقبه كل الشعوب، إذ قيل: "يا جميع سكان المسكونة وقاطني الأرض عندما ترتفع الراية (راية الحرب) على الجبال تنظرون، وعندما يُضرب بالبوق تسمعون" [3].

ليت رسل الإنجيل يحملون ذات الغيرة التي لملك أثيوبيا ورسله، فقد دعوا للانطلاق كي يتحالف الكل معًا لا ضد آشور وإنما ضد عدو الخير حين ترتفع راية الصليب ويُضرب بوق كلمة الله، فتدور المعركة الروحية تحت قيادة الكلمة الإلهية المتجسد المصلوب، يحملنا فيه ويخفينا في جنبه المطعون واهبًا إيانا روح الغلبة والنصرة. لقد دخل المعركة خلال تجربته على الجبل وانتصر باسمنا ولحسابنا، وبقى يُجاهد من أجلنا حتى أكمل جهادة بالصليب.

v   أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر حين جُرب هو.

الأب سرابيون[235]

v    يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلم أولاده كيف يحاربون.

القديس أغسطينوس[236]

يقول النبي: "اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدًا، أمة قوة وشدة ودوس قد خرقت الأنهار أرضها" [2].

يرى البعض أن الوصف هناك ينطبق على الأثيوبيين أو الآشورين أو الماديين... لكن الإرسالية كانت موجهة إلى شعب الله الذي دُعى "شعب مخوف"، لأن إلهه إله مخوف (خر 23: 27؛ 34: 10، تث 28: 58؛ يش 2: 9؛ مز 139: 14). إنه شعب مخوف منذ كان، أي منذ بداية نشأته، إذ خرج  من مصر بيد قوية وذراع رفيعة. أما قوله "قد خرقت الأنهار أرضها" [2] فيُشير إلى خطورة موقفها، لأن العدو مزمع أن يُهاجمها فيكون كنهر جارف، ووصفها "أمة طويلة (ممدودة) وجرداء (حادة)" [2]، جاء في الترجمة السبعينية "أمة مسحوقة وممزقة"... إذ يسحب العدو الشعب كالغنم ويجرونهم إلى السبي فيصيروا مسحولين.

إن كان النبي يطلب من الشعب ألا يقبل إرسالية ملك كوش للتحالف معًا، فما هو موقف الله من هجمات آشور على شعبه؟

"لأنه هكذا قال لي الرب: "إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر الصافي على البقل، كغيم الندى في حرّ الحصاد" [4]. يبدو كأن الله هادئًا ساكنًا لا يعبأ بأمورنا، وقد يترك الله ملك آشور المتجبر يدمر ويهلك ويُحطم مدنًا حتى يبلغ إلى أبواب أورشليم عندئذ يعلن الله عن دوره الخفي ويرد ملك آشور خائبًا محطمًا كبرياءه وجيشه.

الله ضابط الكل يهتم بكل صغيرة وكبيرة، لكن في طول أناته نظنه قد نسينا أو لا يعبأ بحالنا، فنقول مع المرتل: "لا تتركنا إلى الغاية (كثيرًا)"، فإنه حتى فيما يبدو كأنه تركنا إنما هو يدير الأمر لخلاصنا وبنياننا.

يُشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية تضع يديها في يديْ الطفل الصغير لكي تُدربه على المشي؛ وفجأة تنزع يديها عنه فيسقط ليرفع عينيه نحوها يُعاتبها بدموعه، أما هي فتعود تمسك بيديه... بهذا يتدرب على المشي. إنها تتركه من يديها لكنها لن تتركه عن فكرها أو قلبها.    

ما ندعوه تركًا هو رعاية، فإن الله ينظر إلينا وسط ضيقتنا فيحول المّر إلى حرّ يعطى نضوجًا للبقول، أو كغيم في حرّ الحصاد يُعطي رطوبة وظلاً... من الظاهر آلام ومن الداخل بنيان وراحة!

يرى أيضًا في الضيقات نوعًا من "تقليم الشجر" أي نزع الفروع الزائدة حتى تأتي الشجرة بثمر متكاثر [5].

أخيرًا بعد أن سمح لسنحاريب بالنصرة على كثير من مدن يهوذا حطمه وحطم جيشه قبل دخوله أورشليم، فصارت جثثهم مأكلاً للوحوش والطيور الجارحة [6]، إذ مات في يوم واحد 185 ألفًا من جيش سنحاريب.

2. كوش تقدم هدية لله:

إن كانت كوش أو مصر أو غيرها من الأمم يحسبون أنهم قادرون على حماية شعب الله من آشور فستكتشف الأمم جميعًا أنها في حاجة إلى الخارج من سبط يهوذا لكي يحميهم من إبليس وكل أعماله الشريرة؛ فتأتي الأمم التي كانت مضروبة بالتشامخ في خضوع لتقدم هدية لرب الجنود [7] في جبل صهيون، أي في كنيسته.

رأى إشعياء النبي أعدادًا بلا حصر من الملوك والرؤساء والعظماء يأتون إلى أورشليم يسجدون للملك الحقيقي الذي لم يحمل على رأسه إكليلاً زمنيًا بل إكليل شوك. رأى المؤمنين كملوك روحيين يخضعون لملك الملوك رب المجد يسوع الخارج من سبط يهوذا.

<<

 

 


 

الأصحاح التاسع عشر

مبارك شعبي مصر

في الأصحاح السابق حث النبي ملك كوش ومصر على تقديم هدية لرب الجنود في جبل صهيون عوض أن يبعث برسله طالبًا التحالف مع شعب الله ضد آشور. أما في هذا الأصحاح فيقدم وحيًا من جهة مصر بكونها تمثل بفرعونها عنف العالم وقسوته، وبخصوبة أرضها إغراءات العالم وترفه، وبأوثانها وهياكلها الاتكال على الحكمة البشرية والقدرات الإنسانية... لقد رأى النبي الرب نفسه قادمًا إلى مصر محمولاً على يديْ القديسة مريم، السحابة البيضاء الخفيفة السريعة ، يأتي في طفولته ليُحطم ببساطته أوثانها وحكماءها وسحرتها، وليقيم مذبحًا له في وسطها، وعمودًا عند تخومها. نبوة صريحة عما حدث بخصوص العائلة المقدسة وأيضًا عن إقامة الكنيسة المسيحية الحية في مصر كشعب مبارك للرب.

1. هروب العائلة المقدسة            [1].

2. تأديب مصر                       [2-17].

3. إقامة مذبح للرب                 [18-25].

1. هروب العائلة المقدسة:    

لا نجد بلدًا يتحدث عنه الكتاب المقدس مثل مصر وذلك بعد كنعان، والسبب في هذا أن إسرائيل كأمة وكشعب أقامت في مصر، وعاش اليهود هناك حوالي 400 سنة وأخيرًا خرجوا بذراع رفيعة. بخروجهم خلال دم الحملان صاروا رمزًا للعالم كله المتحرر من عبودية إبليس خلال دم المسيح الذبيح الفريد. صارت مصر تمثل قوة العالم بصفة عامة وبيت العبودية الذي يخلص شعبه منه.

افتتح إشعياء نبوته عن مصر بصورة مفرحة تخص مصر، قائلاً: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها" [1].

يرى القديس كيرلس الكبير أن السحابة الخفيفة السريعة (الترجمة السبعينية) هي القديسة مريم التي قدسها روح الرب فصارت خفيفة ومرتفعة تحمل رب المجد يسوع لتهرب به إلى مصر من وجه هيرودس (مت 2: 13- 15)... بدخوله ارتجفت الأوثان واهتزت العبادة الوثنية، وذاب قلب المصريين حبًا ليقبلوه ساكنًا فيهم؛ إذ يقول: [السحابة المتألقة التي حملت الرب يسوع إلى مصر هي أمه العذراء مريم التي فاقت السحاب نقاء وطهرًا. أما المذبح الذي أٌقيم للرب في وسط أرض مصر فهي الكنيسة المسيحية التي قامت على أنقاض الهياكل الوثنية على أثر تزلزل أوثانها وانهيار برابيها أمام وجه الرب يسوع[237]]. لهذا تسبح الكنيسة في عيد دخول السيد المسيح مصر، قائلة: [افرحي وتهللي يا مصر مع بنيها وكل تخومها، لأنه قد أتى إليك محب البشر، الكائن قبل كل الدهور].

إن كانت مصر بفرعونها وعبادتها الوثنية مثلت العالم الوثني القديم في عنفه ورجاساته لكنها أيضًا كانت ملجأ للكثيرين خاصة في فترات الجوع، فجاء إليها أبونا إبراهيم (تك 12: 10)، واستقبلت يوسف المُضطهد من إخوته ليصير الرجل الثاني بعد فرعون يقدم من مخازنها لكل البلاد المحيطة بها، وإليها جاء أبونا يعقوب وبنوه حيث بدأت نواة شعب الله القديم والأسباط الاثنى عشر في داخلها؛ وظهر أول قائد لهم هو موسى العظيم في الأنبياء يسنده أول رئيس كهنة. ومن بين الأنبياء الذين جاءوا إلى مصر أرميا النبي الذي حث الشعب ألا يهربوا إلى مصر فأرغموه على مرافقتهم في رحلتهم إليها (إر 41: 1؛ 43: 7) وقد نطق بنبواته الأخيرة في تحفنيس في مصر (إر 43: 8-44). أما مجيء السيد المسيح السماوي إلى أرضنا فقد أقام كنيسته فيها تصطبغ بروح البركة الربانية، فجاءت عبادتها وطقوسها وألحانها تحمل نغم الحياة السماوية.

مصر، التي امتلأت بالعبادة الوثنية حيث أقامت عجل أبيس والقطط والتماسيح والضفادع... آلهة، استقبلت رب المجد فيها فأقام من قلوب المصريين مقدسًا له. تحولت مصر من كونها أكبر معقل للوثنية إلى أعظم مركز للفكر المسيحي والعبادة الروحية والحياة الإنجيلية في فترة وجيزة. تلألأ نجم كنيسة مصر بمدرسة الإسكندرية معلمة اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس للعالم المسيحي الأول، وقائدة حركة الدفاع عن الإيمان المستقيم على مستوى مسكوني. ومن مصر انطلقت حركة الرهبنة المسيحية بكل صورها لتسحب قلب الكنيسة إلى البرية، فتمارس الحياة الداخلية الملائكية في نفس الوقت الذي فيه انفتحت أبواب البلاط الإمبراطوري لرجال الدين، وكان الخطر يلاحق الكنيسة حيث يختلط العمل الروحي الكنسي بالسلطة الزمنية والسياسية. حملت كنيسة مصر صليب عريسها عبر الأجيال وقدمت أعدادًا بلا حصر من الشهداء والمعترفين، فاستشهدت أحيانًا مدن بأسرها وتسابق الكثيرون على نوال أكاليل الاستشهاد بفرح وبهجة قلب[238]...

2. تأديب مصر:

هروب العائلة المقدسة إلى مصر وإقامة مذبح للرب هناك لا يعني التغطية على شرورها، وإنما على العكس كشف الرب عن ضعفاتها وجراحاتها الروحية حتى ينزع عنها كل ضعف (مملكة الشر) ويقيم ما هو جديد (ملكوت الله). مجيء الرب إليها يعني هدم أوثانها وإزالة رجاساتها لأجل تقديس شعبها.

لقد أبرز ثمار الرجاسات القديمة، ألا وهي:

أولاً: قيام حروب أهلية، "وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه مدينة مدينة ومملكة مملكة، وتهراق روح مصر" [2-3]. هذه ثمرة طبيعية لاعتزالها الله واهب السلام الداخلي والحب والوحدة، إذ تحدث حروب على مستوى الأشخاص حتى بين الأصدقاء وعلى مستوى المدن والممالك [إذ وجدت مملكة في مصر العليا وأخرى في مصر السفلى]. الشر يُحطم النفس الداخلية ويدخل بها إلى حالة يأس وإحباط.

اعتزالنا الله يفقدنا انسجامنا الداخلي، فتتحول حياتنا الداخلية إلى أرض معركة، فيصارع الجسد ضد الروح، ولا تنسجم الطاقات الداخلية معًا... فيصير القلب جحيمًا لا يُطاق. وعلى العكس عندما يتسلم روح الله القيادة يخضع الإنسان بكليته له فيعيش في انسجام وتناغم، يسند الجسد النفس في تعبدها، وتتقدس الحواس والعواطف لتعمل معًا مع الفكر النقي بإرادة مقدسة صالحة في الرب.

ثانيًا: فقدان الحكمة الحقيقية، فقد عرف المصريون كشعب ذكي جدًا[239]، ويشهد الكتاب المقدس أن موسى قد تهذب بكل حكمة المصريين (أع 7: 20)، لكن اعتزالهم الله أفقدهم كل شيء فلم تسعفهم حكمتهم ولا علمهم وحضارتهم فلجأوا إلى الأوثان يطلبون المشورة: "وأفني مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين" [3].

ثالثًا: المعاناة من حكام عتاة [4] يميلون إلى التسلط والسيطرة لا إلى خدمة الشعب وبنيان البلد. فإذ تتقسى قلوب الشعب ببعدهم عن الله واهب اللطف والصلاح يسمح لهم بقيادات عنيفة، حتى كما يفعلون يُفعل بهم.

عندما يتقسى قلبنا الداخلي نحو الغير لا نتوقع إلاَّ أن يُكال لنا من ذات الكيل الذي به نكيل للغير، لذا يسمح لنا أن نسقط تحت قيادات عنيفة. هذا ما يحدث حتى في حياتنا اليومية في العمل والأسرية وحياتنا الشخصية... فإن من يقسو على والديه نجد جسده عنيفًا في حربه الشهوانية ضد النفس. ما نزرعه للغير إنما نحصده في حياتنا الشخصية.

رابعًا: المعاناة من حالة جفاف، "وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس، وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر ويتلف القصب والأسل... والصيادون يئنون وكل الذين يلقون شصًا في النيل ينوحون... ويخزى الذين يعملون الكتان المُمشط والذين يحيكون الانسجة البيضاء، وتكون عمدها مسحوقة وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس" [5-10].

كأن الشر يحمل ثمرة المرّ حتى في حياة الإنسان اليومية واحتياجاته الضرورية، إذ يجف نهر النيل [لا يزال يُدعى في كثير من بلدان الصعيد "البحر"] فلا يجد الناس ماءً للشرب وأيضًا للزراعة كما يفقد صيادو السمك عملهم لينوحوا بلا جدوى؛ ويؤثر ذلك على الصناعة والتجارة... فينسحق العظماء الذين هم عُمد مصر وتكتئب نفوس العبيد العاملين لدى الأغنياء.

خلال الشر يدب الخراب والفساد في الموارد الطبيعية (المياه) والطاقات البشرية من كل الطبقات! يفقد الإنسان الماء الذي يروي نفسه، والسمك الذي يشبعه داخليًا، وثياب الكتان التي تستر أعماقه، وسلامه الداخلي؛ وهكذا يُعاني من العطش والجوع والعري والخزي!

خامسًا: فقدان الحكماء والمشيرين، فلا يُعاني الإنسان فقط من حالة حرمان مادي وإنما من معينين حكماء يسندونه وسط ضيقه. لذا قيل: "إن رؤساء صُوعن أغبياء، حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية. كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء، فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر" [11-12].

عوض الحكمة التي عرفت بها مصر حلت الغباوة حتى في صُوعن، عاصمة شمال مصر القديمة. لقد قيل: "وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر" (1 مل 4: 30)... لكن هذه الحكمة تزول باعتزال الإنسان إلهه مصدر الحكمة، لذا يقدم الحكماء مشيرو فرعون مشورة بهيمية، أي أفكارًا جسدانية (1 كو 2). أما علامة حرمانهم من الحكمة، فهي عجز الحكماء عن إدراك خطة الله رب الجنود من جهة مصر (إش 18: 12)؛ فكيف يثق شعب الله إذن في مشورة فرعون الخاصة بالتحالف معًا ضد آشور؟!

"رؤساء نوف انخدعوا وأضل مصر وجوه أسباطها" [13]. هذه كارثة مصر أنها قبلت الضلالة على أنها حكمة، فقد أنخدع رؤساء عاصمة مصر العليا (جنوبي مصر) منوف (ممفيس) بواسطة الحكماء الشرفاء، الذين يقابلون الأنبياء الكذبة المنافقين الذين كثيرًا ما تحدث عنهم إرميا النبي.

سادسًا:  فقدان الوعي والدخول في حالة سكر؛ "مزج الرب في وسطها روح غىّ فأضلوا مصر في كل عملها كترنح السكران في قيئه" [14].

لما كانت الخطية مُسكرة تُفقد الإنسان وعيه وهدفه في الحياة لهذا متى شرب كأسها يسمح الله أن يحل به روح الضلال ليترنح كالسكران بلا هدف. لا يكون له عمل جاد لبنائه وبناء الغير، سواء كان عظيمًا أو محتقرًا، نخلة أو أسلة (حلفاء). وهذا هو أخطر ما يصل إليه الإنسان، إذ يفقد بذلك كيانه الإنساني ليعيش أشبه بميت، لا طعم للحياة عنده.

سابعًا: الارتباك بحالة من الخوف، "في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود الذي يقضي به عليها" [16]. فرعون الذي يُحسب نفسه منقذًا لإسرائيل ويهوذا من يد آشور في عجرفة وكبرياء يرتعب هو ورجاله ويصيرون كالنساء أمام رب الجنود وأمام يهوذا [17].

كأن الرب يشجع يهوذا ألا يرتعب من كلمات فرعون ولا يدخل معه في تحالف كما في إسرائيل وآرام، فإن فرعون نفسه يرتعب لا أمام آشور بل أمام يهوذا نفسه.

3. إقامة مذبح للرب:

بعد أن كشف الله عن جراحات مصر وما فعلته الخطية بها من فقدان للوحدة الداخلية والحكمة الحقة مع معاناة من قسوة الحاكم وقسوة الطبيعة (الجفاف) وارتباك في اقتصادياتها (الزراعة والصناعة) وعجز في الطاقات البشرية القيادية بل ودخول في حالة من اللاوعي والسكر مع الخوف والارتباك حتى أمام يهوذا المملكة الصغيرة، فإن الله يتدخل ليشفي جراحاتها ويخلصها، مقدمًا لها البركات التالية:

أ. لغة جديدة: "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس" [18]. ما هذه المدن الخمسة إلاَّ حواس المؤمن؛ فإذ يُقبل الأمم على الإيمان بالسيد المسيح يسلمون الحواس الخمس في يديه لتقديسها لتتكلم بلغة الروح عوض لغة الجسد، فيقال لها كما قيل لبطرس الرسول: "لغتك تظهرك" (مت 26: 73؛ مر 14: 70).

يرتفع قلب المؤمن إلى كنعان السماوية ليس فقط أثناء اشتراكه في سر الأفخارستيا وكل الليتورجيات الكنسية الحّية، وإنما أيضًا أثناء عبادته الخاصة، بل وفي خلال حياته اليومية حتى في لحظات أكله وشربه ونومه. هذا هو عمل روح الله القدوس في حياتنا يحملنا إلى السماء لنختبرها في أعماقنا وتصير لغتنا كنعانية أي سماوية، لغة الحب والفرح الداخلي. نشارك السمائيين ليتروجياتهم وفرحهم الدائم، ولا نكون شعبًا "غامض اللغة" (حز 3: 5).

ب. القسم باسم رب الجنود؛ ماذا يعني: "تحلف لرب الجنود" [18]؟

كان القسم دليل الثقة والإيمان بمن يقسم الإنسان باسمه؛ فعوض القسم بالآلهه الوثنية يقبل الأمم - وعلى رأسهم مصر - الإيمان برب الجنود ويتمسك المصريون باسمه، حاسبين ذلك سرّ قوتهم.

ج. دعوة إحدى المدن "مدينة شمس" [8]، يقصد بها "هليوبوليس" التي كانت مركزًا لعبادة الشمس، فقد تحولت عن العبادة للشمس المادية إلى العبادة لشمس البر الذي يشرق على الجالسين في الظلمة.

جاءت في الترجمة السبعينية "المدينة البارة" إذ تحمل برّ المسيح فينا.

د. إقامة مذبح للرب: "في ذلك الوقت يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها" [19]. يقصد بهذا مذبح كنيسة العهد الجديد، إذ كان مذبح العهد القديم في أورشليم ولا يجوز تقديم ذبائح للرب خارجها. لقد عبرت العائلة المقدسة إلى صعيد مصر واختفت حوالي ستة شهور في الموضع الذي أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق، وهو يعتبر في وسط مصر، فيه أُقيمت كنيسة للرب وتقدم عليه ذبيحة الأفخارستيا، التي هي تمتع بذبيحة الصليب عينها.

أما العمود الذي في تخمها فهو القديس مارمرقس الرسول الذي جاء إلى الإسكندرية (على تخم مصر) يكرز بالإنجيل، ويُقيم مذبح كنيسة العهد الجديد، لكي يتمتع المصريون بالخلاص من عدو الخير مضايقهم، ويكون الرب نفسه محاميًا وشفيعًا ومنقذًا لهم [20].

هـ. المعرفة الروحية: "فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم" [21]. اهتم الصريون بالمعرفة الروحية، واقيمت مدرسة الإسكندرية لهذه الغاية، نشر معرفة الرب لا خلال أفكار عقلانية مجردة، وإنما خلال حياة تعبدية نسكية وخبرة شركة مع الله الآب في ابنه يسوع المسيح بروحه القدوس.

امتزجت المعرفة بالعبادة، إذ يكمل النبي: "ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به " [21].

لعل أروع من كتب عن ارتباط المعرفة بالعبادة كما بالسلوك الإنجيلي في الحياة اليومية هو القديس إكليمندس الاسكندري، إذ جاء هذا الفكر خطًا ذهبيًا في كل كتاباته[240]. فمن كلماته عن المعرفة (الغنوسية):

[هذه هي العلامات التي تميز غنوسيتنا: أولاً التأمل، ثم تنفيذ الوصايا، وأخيرًا تعليم الصالحين. متى وُجدت هذه السمات في إنسان ما يُحسب غنوسيًا كاملاً. إذ فقد الإنسان إحدى هذه السمات تعطلت غنوسيته[241]].

و. شفاء داخلي: "ويضرب الرب مصر ضاربًا فشافيًا فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم" [22].

يسمح الله بضربها أي بتأديبها عن الضعف الذي فيها لكي تكتشف ذاتها وتدرك حاجتها إلى المخلص، فترجع إليه لتجده الطبيب القادر وحده أن يشفي جراحات النفس ويرد لها سلامها... جاء مسيحنا طبيبًا ودواءً في نفس الوقت:

v    مبارك هو "الطبيب" الذي نزل وبتر بغير ألم، شفى جراحاتنا بداء غير مرير، فقد أظهر ابنه "دواء" يشفي الخطاة!

القديس مار إفرآم السرياني[242]

جاء الرب إلى مصر وضرب أوثانها ليجد المصريون فيه وحدة سر شفائهم.

ز. إذ كان الصراع العالمي في ذلك الحين قائم بين آشور ومصر، وكانت الدول الأخرى من بينها إسرائيل ضحية هذا الصراع، فإن مجيء رب المجد يسوع يُعطي للكل سلامًا، ويشعر الكل - في المسيح يسوع - أن الأرض للرب ولمسيحه، وليست مركزًا للنزاع، ويشترك الكل معًا في العبادة.

في تصوير رائع لهذا السلام يقول النبي: "في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجىء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور، ويعبد المصريون مع الآشوريون. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولآشور بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبي مصر وعمل يدي آشور وميراثي إسرائيل" [24].

ماذا يعني "في ذلك اليوم" التي تكررت حوالي خمس مرات في الأعداد [18-25]، إلاَّ ملء الزمان الذي فيه جاء السيد المسيح ليحقق لنا هذه البركات، جاء بكونه "الطريق" الذي فيه تجتمع الأمم لتتمتع بروح الوحدة الروحية وفيض البركة.

ماذا يعني اجتماع مصر وآشور وإسرائيل معًا في التمتع بالبركة الإلهية والميراث الأبدي؟ أنها صورة رمزية للكنيسة الجامعة التي ضمت الأعداء معًا بروح الحب والوحدة. لقد كانت إسرائيل في ذلك الحين في صراع بين التحالف مع مصر أو آشور القوتين العالميتين المتضادتين في ذلك الحين. لكن مجيء السيد المسيح عالج المشكلة إذ صار الكل أعضاء في كنيسة واحدة تتمتع بالعمل الإلهي، فدعى المصريون شعب الله، وآشور عمل يديه، وإسرائيل ميراثه.

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح العشرون

خضوع مصر لآشور

في الوقت الذي فيه يعلن الله عن خطته من جهة مصر بل ومن جهة كل الأمم ممثلة في مصر أنه يُقيم مملكته الروحية في وسطها ويهبها بركته يعود فيؤكد لبني يهوذا أنه يجب ألا يتكلوا على مصر لحمايتهم من آشور فإن مصر نفسه (وكوش) يسبيها آشور، حتى لا يثقوا في الأذرع البشرية.

1. سبي مصر وكوش      [1-4].

2. انهيار يهوذا             [5-6].

1. سبي مصر وكوش:

كان بعض النقاد يظنون أن سرجون Sargon ملك آشور الذي أرسل ترتان إلى أشدود هو شلمناصَّر أو سنحاريب. بينما أنكر البعض وجود ملك بهذا الإسم في آشور، لكن كما يقول Bultema[243] إن الله جعل الحجارة تنطق ليخجل غير المؤمنين، فقد عُرف اليوم أن سرجون من أقوى ملوك آشور، وأنه هو أب سنحاريب، اغتصب العرش من شلمناصَّر الخامس وخلفه.

كلمة "سرجون" تعني "معَّين بواسطة الله" أو "الملك البار"؛ استخدم هذا الإسم للتغطية على اغتصابه العرش.

"ترتان" ليس إسم شخص وإنما في الغالب كان لقبًا خاصًا بقيادة الجيش.

أرسل سرجون رئيس جيشه إلى أشدود قاصدًا سوا ملك مصر (2 مل 17: 4)، إذ تعتبر أشدود التي على حدود الفلسطينين مفتاحًا للدخول إلى مصر.

كشفت الدراسات الحديثة أن سوا Sua ليس اسمًا لفرعون، وإنما هو اختصار لإسم قائد كتيبة في الدلتا يُدعى Siba، أو هو اختصار لإسم مدينة في غرب الدلتا تُسمى Sais استخدمها تافنخت Tefnakhte لاقامته[244].

إذ هزم آشور آرام وآفرايم حان الوقت لضرب فرعون، لذا أرسل الملك قائده إلى أشدود فافتتحها، وهو نفس القائد الذي استخدمه سنحاريب في حصار أورشليم.

أراد الله أن يحرك مشاعر شعبه ويغير قلوبهم ويؤنبهم على اتكالهم على مصر وكوش لذا طلب من نبيَّه أن يمشي أمام الشعب عريانًا حافي القدمين لمدة ثلاث سنوات ليكون هو نفسه نبوة عما سيحل بمصر وكوش حين يسبيهما آشور ويقود عُظمائهما للسبي عبيدًا عراة حفاة الأقدام ومكشوفي الأستاه. صار إشعياء نفسه آية وأعجوبة [3] يستهزىء به كل ناظريه من أجل ما حلّ به، وذلك لأجل خلاص شعبه ومنعهم من الاتكال على فرعون مصر.

كان إشعياء في آلامه وعريه يحمل ظلاً لآلام السيد المسيح الذي احتمل العُري لكي يسترنا ببره، حمل جراحات شعبه في جسده لكي يشفينا. سار إشعياء كعبد لا يرتدي الثوب الخارجي ولا ينتعل حذاءً صورة لسيده الذي صار كعبد (في 2: 7) لكي يُحررنا من نير العبودية.

2. انهيار يهوذا:

إذ يخضع فرعون مصر لآشور يرتعب بنو يهوذا، ويتحطم رجاؤهم وتذل مصر فخرهم، قائلين: "هوذا هكذا ملجأنا الذي هربنا إليه للمعونة لننجو من ملك آشور فكيف نسلم نحن؟! [6].

هذه هى نهاية كل من يتكل على ذراع بشري!  

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الحادي والعشرون

إنهيار بابل أمام فارس ومادي

إن كان الله من أجل محبته لشعبه سمح بسبي المصريين بواسطة آشور حتى يرتجف بنو يهوذا المتكلين على فرعون وجيشه؛ فأنه من أجل محبته أيضًا يسمح بتأديب بابل التي تسبي شعبه، بواسطة فارس (ركاب حمير) ومادي (ركاب جمال) حتى تنهار بابل دون أن تتحرك أوثانها لإنقاذها. وهكذا يعمل الله وسط الأمم كما في البيدر لفرز الحنطة (المؤمنين) عن التبن، حارسًا أولاده من الأشرار.

1. انهيار بابل              [1-10].

2. نبوة عن آدوم           [11-12].

3. نبوة عن العرب         [13-16].

1. انهيار بابل:

يشير إشعياء النبي إلى بابل باسم رمزي غريب: "وحي من جهة برية البحر" [1]. لقد دعى بابل المدينة الذهبية فخر الأمم برية من أجل شرها الذي حولها إلى حالة من القفر؛ كما دُعيت "برية البحر" من أجل موقعها على نهر الفرات، أو لكونها عاصمة أعظم من أمة بين الأمم، فالمياه تُشير إلى الشعوب الكثيرة، فصارت هي برية جافة وسط الشعوب.

يعتقد اليهود أن الشياطين تسكن ثلاثة مناطق من العالم: البراري القاحلة، المياه، الهواء؛ لذا حارب السيد المسيح إبليس خلال تجربته على الجبل في البرية وغلب، وحاربه في مياه الأردن كما في عرينه وغلب، وأيضًا حاربه في الهواء حين ارتفع على الصليب وانتصر. أما بابل فُدعيت "برية البحر" لتاكيد أنها صارت موضع الشيطان الساكن في البرية وأيضًا في البحر. رآها القديس يوحنا اللاهوتي امرأة زانية جالسة على مياه كثيرة (رؤ 17: 1).

رأى إشعياء النبي جيش كورش القادم لتحقيق خطة الله من جهة بابل أشبه بزوابع في الجنوب، كعاصفة قادمة من البرية من أرض مخوفة [1].

الزوابع أو الرياح العنيفة التي في الجنوب تعني أنها ساخنة، بعكس القادمة من

الشمال فهي باردة؛ وكأن جيش كورش يشبه رياح ساخنة عنيفة تصاحبها عاصفة من البرية مشحونة بالرمال تردم الحقول وتفسد المحاصيل وتضر البيوت والطرق وتسبب امراضًا خاصة للعيون. بمعنى آخر تُحطم امكانيات الإنسان ومسكنه وبصيرته. هذا على عكس الرياح الجنوبية الساخنة والهادئة فأنها تسبب نضوجًا للمحاصيل، لهذا تقول العروس: "استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب، هبّي على جنتي فتقطر اطيابها؛ ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16).

لم يحتمل النبي في رقته العجيبة حتى بالنسبة للأعداء أن يرى ما يحل بابل من خراب ونهب [2]، فيقول: "لذلك امتلأت حقواي وجعًا واخذني مخاض كمخاض الوالدة، تلويت حتى لا أسمع، اندهشت حتى لا أنظر، تاه قلبي، بغتني رعب، ليلة لذتي جعلها لي رعدة" [3-4].

يبدو أنه رأى هذه الرؤيا في الليل [4]، إذ تحولت ليلة لذته بالصلاة إلى رعدة... وربما يتحدث هنا باسم البابليين الذين تحولت ليلة الوليمة والفرح إلى رعدة بسبب اقتحام كورش العاصمة؛ فقد رأى المائدة الملوكية معدة والحراس يلهون في الأكل والشرب مع أنه كان يليق بالرؤساء أن يمسحوا المجن بالدهن لكي يقاتلوا كورش.

لم يحتمل النبي أن يرى بابل برجالها العظماء تلهو في غير اكتراث ليقتحم العدو الأبواب التي صارت بلا حراسة فتاه قلب النبي وامتلأ رعبًا ووجعًا. أقول كيف لا نئن نحن أيضًا من أجل الخدام الذين ينشغلون عن الجهاد الروحي بالشكليات والرسميات والولائم ليتركوا كنيسة الله ورعيته كما بغير حراسة يقظة.

تبقى كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم بخصوص الرعاية خالدة.

[إني أب مملوء حنوًا. اسمعوا ما يطلبه بولس: "يا أولادي الصغار الذين أتمخض بهم" (غلا 4: 19). كل أم تصرخ وهي تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضًا[245]].

[ليتكم تستطيعون معاينة النيران الملتهبة في قلبي لتعرفوا إني احترق أكثر من سيدة شابة تئن بسبب ترملها المبكر، فإني لست أظنها تحزن على زوجها ولا يحزن أب على ابنه، كحزني أنا على هذا الجمهور الحاضر هنا[246]]...

جاءت الدعوة الإلهية للنبي: "اذهب أقم الحارس، ليخبر بما رأى" [6]، فقد دعى النبي في القديم "حارسًا" أو "رقيبًا" كما دعى "رائيًا". عمل النبي أن يُراقب من البرج المرتفع ويحرس النفوس بكلمة الله كما أن يرى بالبصيرة الروحية ليعلن إرادة الله وخطته الخلاصية.

وقف حبقوق النبي رقيبًا، إذ يقول: "على مرصدي أقف، وعلى الحصن أنتصب، وأُراقب لأرى ماذا يقول لي" (حب 2: 1)؛ كما دعى حزقيال النبي رقيبًا في أكثر من موضع (حز 3: 17؛ 33: 2، 6، 7).

رأى إشعياء فارس (ركاب حمير) ومادي (ركاب جمال) قادمين ليغتصبوا بابل؛ رأى وسمع بإصغاء شديد [7] فإن الأمر جاد وخطير يمس حياة شعبه. لم يقف عند الرؤية والاستماع وإنما صار يزأر كالأسد [8] ليعلن خطة الله نحو سقوط بابل وخلاص شعب الله.

"سقطت سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض. يا دياستي وبني بيدري. ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به" [9-10].

تكرار التعبير مرتين مثل" سقطت سقطت بابل" هو إحدى سمات هذا السفر (أش 21: 9؛ 24: 4، 16؛ 28: 13، 29: 1؛ 40: 1، 9؛ 43: 11 الخ... )، ربما لأن الحديث في هذا السفر الخلاصي موجه إلى الأمم كما إلى اليهود، دعوة الخلاص جماعية لقبول إله الكل والتغلب على الشر. فانه يليق هنا بكل إنسان - سواء من أصل أممي أو يهودي. أن يطمئن أن بابل التي أسرت قلبه بالشهوات وأكسبته عنفًا، تنهار أمام خلاص الله لتقوم أورشليم السماوية في قلبه. لتنهار كل أوثان بابل ليقوم الرب في القلب ويعلن ملكوته. هذا والتكرار أيضًا يعني نوعًا من التأكيد. وبجانب ذلك فإن التكرار مرتين يحمل رمزًا للحب الذي يجعل من الاثنين واحدًا كما يقول القديس أغسطينوس. بالحب تسقط بابل الداخلية وتنهار مملكة إبليس الذي لا يحتمل الحب، وبه نتمتع بالحياة الإنجيلية كوصية الرب: "بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي إن كان لكم حب بعض لبعض" (يو 13: 35).

يرى النبي العالم أشبه بالبيدر فيه تُداس المحصولات ثم تُذرَّى لفصل الحنطة المخفية وسط التبن... إنها حنطة الرب نفسه التي لا تهلك بل تُفرز عن التبن.

يتحدث القديس أغسطينوس عن السبي البابلي والخلاص منه، قائلاً:

[يقول الرسول: "فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10: 1). يلزمنا أن نعرف سبينا وعندئذ خلاصنا؛ يليق بنا أن نعرف بابل التي أُسرنا فيها، وأورشليم التي تئن للرجوع إليها. فإن هاتين المدينتين - من جهة الحرف - هما مدينتان واقعيتان.

"بابل" معناها "ارتباك" (بلية)؛ وأورشليم "رؤية سلام"!...

هاتان المدينتان قد بنيتا في وقت معين لتكونا رمزًا لمدينتين تبقيان إلى نهاية العالم... عندما يجلس البعض على اليمين والآخر على اليسار، أورشليم تكون على اليمين وبابل على اليسار...

نوعان من الحب يُوجدان هاتين المدينتين: حب الله يُوجد أورشليم، وحب العالم يُوجد بابل. لهذا يسأل كل واحد نفسه: ما الذي يحبه؟ وعندئذ يعرف أية مدينة هي وطنه. إن وجد بابل وطنه فليقتلع عنه الطمع وليزرع المحبة، أما إن وجد أورشليم وطنه ليحتمل السبي مترجيًا الحرية...

الآن، ليتنا أيها الأخوة نسمع عن هذه المدينة التي نحن مواطنون فيها؛ لنسمع عنها ونتغني بها ونشتاق إليها[247]].

هكذا يتطلع القديس أغسطينوس إلى أولاد الله الذين ارتبطوا بالحب الإلهي كمواطنين لأورشليم العليا، مدينة الحب الأبدي؛ يعيشون هنا في جهاد ضد بابل التي لا تتوقف عن بذل كل طاقاتها لسبي أولاد الله وحرمانهم من وطنهم السماوي، إذ سلموا انفسهم بانفسهم للسبي حين قبلوا الخطية؛ وقد جاء المخلص يفتح باب الرجاء لهم ليهبهم حرية مجد أولاد الله.

في نظرة مملوءة رجاء يعلق القديس أغسطينوس على قول النبي: "إذا ما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل المتعزين"  (مز 126: 1)، قائلاً: [كان الإنسان مواطنًا في أورشليم، لكنه بيع تحت الخطية فصار سائحًا (بلا مدينة)...

" بابل" معناها "ارتباك"... فان أمور هذه الحياة الحاضرة البشرية كلها ارتباك بكونها لا تنتمي لله. في وسط هذا الارتباك، في هذه الأرض البابلية أُسرت صهيون، ولكن "ردّ الرب سبي صهيون" فصرنا "مثل المتعزين"، أي فرحنا لأننا تقبلنا تعزية...

أننا نحزن على ما نحن عليه الآن، لكننا متعزون في رجاء. سيعبر الحاضر الذي لحزننا ويأتي الفرح الأبدي، فلا تكون هناك حاجة إلى تعزية حيث لا نُصاب بضيقة ما[248]].

2. نبوة عن أدوم:

"وحيّ من جهة دومة، صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من ليل، يا حارس ما من ليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضًا ليل. إن كنتم تطلبون فأطلبوا، ارجعوا تعالوا" [11-12].

يدعو النبي آدم باسم نبوي سري "دومة" Dumah وهو اختصار لـ Idumea. إن كان إسم "أدوم" معناه "دموي" أو "ترابي"، بكون ادوم يمثل الأشرار محبي سفك الدماء، المرتبطين بمحبة الزمنيات الأرضيات والجسديات، فإن اسم "دومة" معناه "صمت" أو "سكوت الموت"...

وقف النبي على المحرس كل الليالي [8]، إذ ساد العالم نوعًا من الظلمة الداخلية، يترقب مجيء شمس البر لينتزع ظلمة الليل ويحل الصباح. الآن يسمع صوتًا ربما من السماء أو من بقية الأنبياء ورجال الله: "يا حارس ما من ليل "... لقد جاء ملء الزمان وأشرق نور الصباح؛ لتصمت الأمم ولتمت عن إنسانها القديم لتتمتع بنور الحياة؛ لتطلب الآن فتجد نورها خلال إيمانها بالسيد المسيح، لترجع إلى الله مخلصها وتأتي إليه فتجده باسطًا يديه بالحب العملي ليحتضنها.

يُكرر "يا حارس ما من ليل" مرتين لأن الحديث مع النبي خاص باليهود كما بالأمم، وأيضًا خاص بمؤمني العهدين القديم والجديد كي يتمتع الكل بالخلاص وهم في سكون يتأملون عمل الله معهم.

3. نبوة عن بلاد العرب:

جاء الأصل Ereb وليس Arabia، وهو يعني "مساءً"، إذ يتحدث عن كل قاطني الظلمة.

هنا يُحدِّث قبائل ديدان وقيدان، القاطنة جنوب شرقي أدوم، هؤلاء استقبلوا الهاربين من السيف، والذين سلموا أنفسهم مقابل التمتع بماء للشرب أو خبز للأكل...

إذ عاشت هذه القبائل في ظلمة الوثنية صارت عاجزة عن أن تقدم عونًا حقيقيًا للهاربين إليها، لأن أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة (مت 15: 14؛ لو 6: 39).

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني والعشرون

حصار أورشليم

يتنبأ إشعياء النبي عن حصار أورشليم وسبي أشرافها، وذلك لأنهم اهتموا بالتحصينات العسكرية وتدبير المؤنة خاصة المياه ولم يضعوا عنصر الله والرجوع إليه في حسبانهم. عوض التوبة الصادقة عاشوا في ترف زائد، ولسان حالهم "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" حتى في لحظات الحصار ذاتها.

يبرز النبي تأديبات الله للأشرار المتكلين على الذراع البشري والمنشغلين بالزمنيات وفي نفس الوقت يفتح باب الرجاء على مصراعيه ليعلن ظهور المخلص الذي يسكن في أورشليم الجديدة الحرة والتي لا تقدر قوات والظلمة أن تُحاصرها.

1. حصار أورشليم                   [1-7].

2. حسابات بشرية للخلاص          [8-11].

3. تجاهل التوبة                    [12-14].

4. عزل شبنا                         [15-19].

5. إقامة الياقيم عوض شبنا         [20-25].

1. حصار أورشليم:

"وحيّ من جهة وادي الرؤيا. فما لك أنك صعدت جميعًا على السطوح" [1].

v   ماذا يقصد بوادي الرؤيا؟

أ. يرى الدارسون اليهون أن هذا اللقب يليق بأورشليم لأنها المدينة التي فيها وهب الله خدامه رؤى واعلانات[249]. ولعل الوحي استخدم هذا اللقب لييقظ فيهم البصيرة التي انطمست. أورشليم هذه التي سمح الله بحصارها هى مدينته التي أقام فيها هيكله ليعلن ذاته ومملكته وأمجاد سماوته فيها فتكون سرّ بركة للبشرية، لكن فساد شعبها أطمس بصيرتها.

ب. قيل عنها "وادي الرؤيا" مع أن أورشليم لم تُقم على وادي بل على جبال، لكن وجود جبال مرتفعة حولها يجعلها بالنسبة لهذه الجبال أشبه بوادي. على أي الأحوال لقد أراد الله أن يُقيم من مدينته جبلاً عاليًا ثابتًا لكن فساد شعبها أنزلها لتصير واديًا.

يتساءل البعض: أي حصار يتحدث عنه النبي هنا؟[250].

هل هو الحصار الذي قام به سنحاريب أم حصار آسرحدون في أيام منسي؟ أم هو حصار نبوخذنصَّر أم تيطس؟!

يرى البعض أنه حصار سنحاريب، وإن كان من الجانب الروحي ينطبق على كل حصار سقطت فيه أورشليم، وبالأكثر ينطبق على الحصار الذي يحل بأورشليمنا الداخلية، القلب والفكر والنفس.

v   الصعود على السطوح [1]: لم يكن يتوقع الشعب أن الله الذي يحب مدينته ويعلن عن وجوده خاصة داخل قدس الأقداس حيث يترآى مجده في الشاكيناه (تابوت العهد) يسمح بحصار مدينته بواسطة الوثنين لذا صعودا على السطوح لينظروا بأنفسهم ما حلّ بالمدينة من الخارج.

لعل صعودهم إلى السطح يُشير إلى اهتمامهم بالخارج دون الداخل، وبالمظاهر دون الأعماق؛ عوض الدخول إلى بيت نفوسهم الداخلية لاكتشاف سرّ ضعفهم اهتموا بما هو على السطح. لهذا يوبخهم النبي قائلاً:

"يا ملآنة من الجلبة، المدينة العجاجة، القرية المفتخرة (الفرحة)" [2]. هذه سمات خارجية، إذ صارت أورشليم متمثلة بعواصم البلاد المحيطة بها تفتخر وتفرح بالمظاهر الصاخبة عوض الرجوع الخفي الصامت نحو الله سرّ فخرها وقوتها وبهجتها.

v   "قتلاكِ ليس هم قتلى السيفِ ولا موتى الحرب. جميع رؤسائك هربوا معًا، أسروا بالقسى، كل الموجودين بك أسروا معًا. من بعيد فروا. لذلك قلت اقتصروا عني فأبكي بمرارة. لا تلحّوا بتعزيتي عن خراب بنت شعبي" [2-4].

رأى إشعياء ما وصلت إليه مدينة إلهة المحبوبة جدًا إليه فطلب ألا يُعزيه أحد بسبب شدة مرارة نفسه. رأى جيش أورشليم خارجًا في الحقول تحت قيادة رؤساء لم يموتوا بالسيف وإنما بسبب الخوف هربوا فلحق بهم العدو وأسرهم وأذلهم.

"قتلاك ليس هم قتلى السيف"... فقد طعن الشعب نفسه بنفسه بسهام الشهوات النارية، وعزلوا أنفسهم بأنفسهم عن الله مصدر حياتهم، وهكذا سقطت نفوسهم قتلى قبل أن يحل الخراب الخارجي. رأى النبي ما هو أخطر من سنحاريب وجيشه، الاستسلام للخطايا والرجاسات وجحد الإيمان عمليًا. فإن الخطية "طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء، طرق الهاوية بيتها هابطة إلى خدور الموت" (أم 7: 26-27).

لم يكن أمام النبي إلاَّ أن ينسكب بدموع أمام الله؛ هذا ما يفعله كل قائد روحي حكيم يرى شعب الله ينحرف أو نفوسًا تهلك، فيقول مع إرميا النبي: "يا ليت رأسي ماء وعينى ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى بنت شعبي" (إر 9: 1). رب الأنبياء نفسه "نظر إلى المدينة وبكى عليها" (لو 19: 41).

v    لست أنكر أن أورشليم الأولى قد خربت بسبب شر سكانها، لكنني أتساءل: ألا يليق بك البكاء على أورشليمك الروحية؟!

 إن أخطأ أحد بعد قبوله أسرار الحق، فإنه يُبكي عليه، لأنه كان من أورشليم ولم يعد بعد...

ليُبك على أورشليمنا، لأنه بسبب الخطية يُحيط بها الأعداء (الأرواح الشريرة) بمترسة ويحاصرونها ولا يتركون فيها حجرًا على حجر.

العلامة أوريجانوس[251]

v   بكى (السيد) على أورشليم إذ أراد لها الطوباوية - كما قلت - بقبولها الإيمان به  وترحيبها بالسلام مع الله. هذا هو ما دعاهم إليه بإشعياء قائلاً:" لنصنع معه سلامًا" (إش 27: 5 الترجمة السبعينية)... لنصنع سلامًا مع الله بالإيمان.

القديس كيرلس الكبير[252] 

v   لا يكف مخلصنا عن البكاء حتى الآن خلال مختاريه متى رأى إنسانًا يترك الحياة الصالحة ويسلك في الطريق الشرير.

البابا غريغوريوس (الكبير)[253]

لقد عاش أهل أورشليم خاصة القيادات المدنية والدينية في ترف وتدليل، يقضون لياليهم في حفلات وأكل وشرب بينما وقف إشعياء ينذر ويُحذر. الآن يقف الشعب على السطوح يرون الخراب بأعينهم أما إشعياء فينكسر قلبه حزنًا ومرارة، يدخل إلى مخدعه يبكي بدموع غزيرة لعل الله يترأف على شعبه. عاش جريئًا وصريحًا في توجيهاته ومحبًا رقيقًا في مشاعره.

يصف إشعياء ما حلّ بأورشليم من شغب ودوس وارتباك وصراخ [5]، فقد حلّ اليأس بالمدينة كلها، لا يعرف أحد كيف يتصرف أو إلى أين يذهب. ربما نادى البعض بتقوية الأسوار وآخرون نادوا بالهروب إلى الجبال وجماعة أخرى فضلت الاستسلام. تحولت أورشليم من وادي الرؤيا الإلهية واهب السلام إلى وادٍ مربك ومحطم للنفس... وقد دعى إشعياء هذا اليوم "يوم رب الجنود" [5]، إذ هو يوم تأديبه لشعبه.

2. حسابات بشرية للخلاص:

ما هو موقف يهوذا مما حدث لأورشليم؟ لقد تجاهلوا "ستر العلي" الذي يحميهم ويحصنهم، كقول المرتل:" الساكن في ستر العلي، يستريح في ظل إله السماء" (مز 91: 1)، "احتمي بستر جناحيك" (مز 61: 4). بهذا تخلت النعمة عنهم وانكشفوا أمام العدو في ضعف. "ويكشف ستر يهوذا فتنظر في ذلك اليوم إلى أسلحة بيت الوعر" [8].

يرى البعض أن "الستر" هنا يُشير إلى الحجاب الذي اعتادت النساء الشريفات أن يلبسنه ليخفين وجوههن. فقد تطلع النبي إلى يهوذا كعروس روحيه لله، رفضت عريسها وفقدت طهارتها وعفتها ونزعت حجابها في غير حياء، يشتهيها الغرباء، وتسلم جسدها لهم. هذه الصورة تنطبق على يهوذا عندما بدأت الأسوار تنهدم وصارت أورشليم كوجه مكشوف يطمع الغرباء فيها.

حاول يهوذا ايجاد حل للمشكلة لكنه عوض الرجوع إلى الله استخدم حسابات بشرية محضة لتحقيق الخلاص؛ منها:

أ. اندفاع الشعب إلى "بيت الوعر" الذي بناه سليمان الحكيم (1 مل 7: 2 الخ) الذي وضع فيه أسلحة ذهبية، سرقها شيشق ملك مصر فاستعاض عنها رحبعام بأسلحة نحاسية. لقد كان البيت مملوء أسلحة، لكنها لا تقدر أن تسند الشعب وتحميه ضد الأعداء.

ب. الاهتمام بمياه البركة السفلى وتحويل المياه من خارج الأسوار إلى داخل المدينة حتى لا ينتفع منها الأعداء خارج الأسوار ولا يتعرض الشعب المحاصر للظمأ ونقص المياه.

ج. بدأت الأسوار تتشقق ففكروا في هدم بيوتهم وتحويل الردم إلى ناحية السور لحمايته من الانهيار. لم يفكروا في الله السور الحقيقي الذي لا يقدر العدو أن يقترب منه؛ الله الذي يُقيم نعمته لحراسة أسوارنا الداخلية فلا تنهدم، إذ قيل: "بإلهي تسورت أسوارًا" (مز 18: 29)، "هوذا على كفي نقشتك. أسوارك أمامي دائمًا" (إش 49: 16).

3. تجاهل التوبة:

الله في حبه لنا يدعونا إلى التوبة لنبكي وننوح على خطايانا، فننعم بسلام داخلي فائق وفرح أبدي لا ينقطع، لكن الإنسان في قصر نظره يُريد أن يتمتع باللذة المؤقتة والترف الزمني حاسبًا أنه يموت غدًا.

"ودعا السيد رب الجنود في ذلك اليوم إلى البكاء والنوح والقرعة والتنطق بالمسح. فهوذا بهجة وفرح ذبح بقر ونحر غنم أكل لحوم وشرب خمر لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" [12-13].

v   يتجه هؤلاء الأشرار نحو قتل أنفسهم بكل أنواع الشهوات... نعم فإنهم حتى عندما يعيشون يكونون في عار، إذ يحسبون بطونهم إلهتهم، وعندما يموتون يتعذبون.

البابا أثناسيوس الرسولي[254]

4. عزل شبنا:

اختلفت الآراء من جهة مركز شبنا في قصر حزقيا الملك، هنا يبدو أنه المسئول عن خزينة الملك وفي (2 مل 18: 37) دُعى بالكاتب، ويرى البعض أنه مشيرًا للملك أو كبير حجاب القصر أو وزيرًا... على أي الأحوال كان ذا سلطان عظيم. ويبدو أنه كان غريب الجنس. أراد أن يخلد ذكراه فنحت لنفسه قبرًا عظيمًا في ذات الصخرة التي دفن فيها ملوك يهوذا. كان رجلاً شريرًا فوبخه إشعياء ودعاه "خزي بيت الملك" كما تنبأ عن عزله وإقامة الياقيم عوضًا عنه، وقد تحقق ذلك حوالي سنة 701 ق.م.

أما شره فيُنصب أولاً في عدم تصديقه لكلمات إشعياء النبي للشعب بأنه سيُسبى، وأن إقامته القبر علامة عدم تصديقه أو عدم إيمانه بنبوات إشعياء[255]. أما الجانب الآخر للشر فهو حبه للعظمة فقد أراد أن يُدفن مع الملوك، واخيرًا أنه لم يكن مخلصًا للملك فقد أساء استخدام ثقة الملك فيه. لهذا كله صدر الحكم الإلهي بعزله وحرمانه من الدفن فيما شيدته يداه وعوض تمتعه بالمركبات الفخمة يُلِقى به في مدينة غريبة كأنه بكـرة يلقيـها طفل ويلهو بها بلا عائق.

يرى كثيرون أن شبنا يرمز لضد المسيح الذي يظهر في آخر الأيام أو لإنسان الخطية الذي بكبريائه يود لا أن يدفن في مقبرة ملوك يهوذا نسل داود، وإنما أن يتربع في هيكل الرب ويقيم نفسه إلها (2 تس 2: 4). أما الياقيم فيُشير إلى السيد المسيح الذي يُحطم ضد المسيح وينتزع عنه جبروته لكي يُخلص المختارين.

يلاحظ هنا أن النبي لم يقل عن شبنا أن حزقيا الملك يعزله. وإنما يقول: "هوذا الرب يطرحك طرحًا يارجل ويُغطيك تغطية، يلفك لفَّ لفيفة (أى يقذفك بدفع قوي) كالكرة إلى أرض واسعة الطرفين... واطردك من منصبك ومن مقامك يَحُطُّكَ" [17-19].

5. إقامة الياقيم عوض شبنا:

جاء الحديث هنا [20-25] يفتح باب الرجاء أمام كل نفس يُحاول عدو الخير أن يُحطمها، إذ لابد لشبنا أن يزول وينتهي ويحتل الياقيم موضعه. سيحمل ضد المسيح أو النبي الكذاب أو إنسان الخطية سلطانًا وقوة لكنه حتما ينهار لتعلن مملكة المسيح إلى الأبد.

جاءت النبوة هنا واضحة بأن الياقيم رمز للسيد المسيح .

أ. "والبسه ثوبك وأشُدُةُ بمنطقتك وأجعل سلطانك في يده، فيكون أبًا لسكان أورشليم ولبيت يهوذا" [21].

كان شبنا معتزًا بالثوب والمنطقة مع السلطان، يأمر وينهى بكونه الرجل الثاني، موضع ثقة الملك، يتصرف بروح السلطة والعجرفة. لكنه إذ يحتل الياقيم موضعه يأخذ ثوبه ومنطقته لكنه يحمل روح الأبوة الحانية تجاه شعب الله. "ضد المسيح" صاحب سلطة مع عنف وقسوة، أما "المسيح" فحب وحنان وأبوة روحية فائقة. ما يميز أولاد الله عن أولاد أبليس، هو الحب المملوء حنوًا مقابل السلطة المملوءة عنفًا.

قيل عن السيد المسيح: "الرب قد ملك؛ لبس الجلال، لبس الرب القدرة، ائتزر بها" (مز 93: 1). وقد رآه إشعياء النبي لابسًا ثيابًا محمرة كدائس المعصرة (إش 63: 1-3). إذ لبس كنيسته التي صبغها بدمه الثمين فتقدست وحملت بهاءه.

لقد تمنطق ليغسل الأقدام ويخدم بروح الحب والاتضاع.

ب. "وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يغلق، ويغلق وليس من يفتح" [22]. من الذي له المفتاح إلاَّ "القدوس الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ 3: 7). أنه السيد المسيح. الذي يشجع كنيسته قائلاً لها بإنه وحده يفتح لها أبواب السماء ويغلق عليها فلا يقدر إبليس وكل قواته أن يقتربوا إليها. أما المفتاح الذي يفتح به ويغلق فهو: "سلطان الحلّ والربط" الذي وهبه الرب لعروسه خلال تلاميذه (مت 16: 19) كما يقول القديسان كيرلس الكبير وجيروم؛ والصليب الذي به يفتح ربنا يسوع فردوسه ويغلق به ابواب الجحيم عنا كقول القديس يوحنا الذهبي الفم؛ وأيضًا فهم الكتاب المقدس خاصة النبوات التي كانت مختومة قبلاً وغير مدركة كقول القديس غريغوريوس صانع العجائب[256]. أيضًا يقول العلامة أوريجانوس: [كل عمل مكتوب يحتاج إلى اللوغوس الذي أغلق عليه لكي يفتحه، "يغلق وليس من يفتح" وعندما يفتح لا يقدر أحد أن يُشكك فيما يقدمه من شرح[257]].

لا نعجب من القول "وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه"، لأن هذا المفتاح هو الصليب الذي حمله ابن داود على كتفه ليحقق خلاصنا.

ج. "وأثبته وتدًا في موضع أمين ويكون كرسي مجد لبيت أبيه، ويعلقون عليه كل مجد بيت أبيه الفروع والقضبان، كل آنية صغيرة من آنية الطسوس إلى آنية القناني جميعًا" [23-24].

في المناطق الريفية الفقيرة لا يجد الإنسان موضعًا في بيته لكثير من احتياجاته وممتلكاته فيقوم بتعليقها على مسامير في الحائط من ملابس وأدوات مطبخ وغسيل الخ... الآن يرى النبي أن المسيا المخلص هو هذا المسمار أو الوتد المثبت في موضع أمين ليقوم المؤمن بتعليق كل ممتلكاته واحتياجاته عليه، وذلك في الكنيسة "بيت أبيه". هذه صورة رمزية تعني اتكال المؤمن على السيد المسيح الحال في كنيسته والحامل لكل أتعابنا. عليه يضع الملوك الأمناء أكاليل مملكتهم وعليه يضع الفقير احتياجاته البسيطة. انه سند العظماء والفقراء بلا تمييز.

كل إناء - أيا كانت قيمته - يُعلق عليه يصير إناء للكرامة. فيقول المؤمن مع الرسول بولس: "ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منا" (2 كو 4: 7).

هذا عن الإيمان بالسيد المسيح، الوتد الثابت في الكنيسة بيت الآب، فماذا يعني بزوال الوتد [25]؟

يرى البعض أن هذا الزوال يعني به رفض اليهود للمسيح المصلوب فيزول من وسطهم هؤلاء الذين لديهم النبوات عنه ومعهم الرموز، فيتحطمون. ويرى البعض أنه يُشير هنا إلى ما حسبه اليهود في ذلك الحين وتدًا أمينًا ثابتًا (شبنا أو غيره)، فيقارن بين الإيمان بالمسيا المخلص والاتكال على الطرق البشرية للخلاص.

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث والعشرون

إنقلاب صور وتجديدها

صور تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الإنحلال والفساد، لأنها بلد تُجاري مفتوح للغرباء. يصور النبي ما يحل بها من دمار تام لتكابد مع شعب الله المخطىء ذات التأديبات كقول الرسول بولس: "شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر اليهودي أولاً ثم اليوناني" (رو 2: 9). لكن هذا التأديب لا يبقى إلى الأبد إنما يُقدم الله الخلاص للكل و تتمتع صور بالتجديد في المسيح يسوع المخلص العالم.

1. انقلاب صور             [1-14].

2. تجديد صور              [15-18].

1. انقلاب صور:

سبق لنا الحديث عن صور في تفسيرنا لسفر حزقيال (حز 26)[258].

كلمة "تصور" tsor تعني "صخرة"، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلاَّ أن القديس جيروم يرى أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[259]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه.

يرى Keith و Urquhart أن ما ورد في هذا الفصل عن صور قد تحقق حرفيًا[260].

لقد سقطت صور تحت الحصار عدة مرات منها: حاصرها شلمناصَّر لمدة خمس سنوات ولم يقدر أن يستولى عليها؛ وحاصرها نبوخذنصَّر لمدة 13 سنة دون جدوى؛ وحاصرها أسكندر الاكبر وافتتحها بعد سبعة شهور سنة 332 ق.م. وقام بتدميرها. حاصرها أيضًا انطيخونس Antigonus كما حوصرت في العصور الوسطى عدة مرات بواسطة الصليبيين. وتعتبر صور هذه المسئولة عن قيام الحرب العالمية الأولى التي مات فيها قرابة 40 مليون شخصًا، إذ اشتعلت بسبب محاولة المانيا إنشاء سكة حديد بين برلين وبغداد لتنمية التجارة مع بلاد الشرق الأوسط[261].

ما ورد هنا لا يخص حصارًا معينًا لصور، وإنما يمثل ما يحل بكل نفس تتشبه بصور من جهة ارتباكها بالغنى مع الرجاسات.

يصف النبي حصار صور قائلاً:" وحيّ من جهة صور؛ ولولي يا سفن ترشيش لأنها خربت حتى ليس بيت حتى ليس مدخل من أرض كتيم أُعلن لهم" [1]. هنا يبرز أثر الخراب الذي حلّ بصور على بحارة السفن التجارية العائدة من ترشيش ويبدو أنهم لم يكونوا قد سمعوا عن انهيار المدينة فذهلوا إذ لم يجدوا مدخلاً للمدينة فقد تهدمت أسوارها، ولا وجدوا بيتًا واحدًا. لقد انتشر الخبر لفداحته حتى بلغ كتيم أي جزيرة قبرص كرمز لسماع دول أوربا جميعها عن هذا الحدث. ويرى البعض أن هذا الحصار تم بواسطة الجيش المقدوني، جيش الأسكندر الأكبر، القادم من جزيرة قبرص.

يدعو النبي المدن المجاورة لتندب حال صور، فقد كانت مصدر خير لها خلال التجارة والآن قد تدمرت تمامًا وفقدت بعض المدن الكثير من الربح.

سمع تجار صيدون (تعني "صيد السمك" تبعد حوالي 22 ميلاً شمال صور وتعتبر المدينة الأم لصور فقد جاءت تندب حال ابنتها)، جاء التجار الذين اعتادوا أن يجولوا في شوارعها وقد اصابتهم الدهشة لما حلّ بها فلم يستطيعوا أن ينطقوا بكلمة بل حلّ بهم الحزن الشديد. أما المصريون سكان وادي النيل فحزنوا لأن صور كانت مركزًا هامًا لاستيراد غلاتهم ومحاصيلهم مقابل استيراد بضائع صور. يُشير النبي إلى نهر النيل بكلمة "شيحور" وتعني "اضطرابًا" (إش 22: 3).

هكذا تحزن صيدون على ابنتها الذليلة بل المنهارة صورة، هذه التي كانت كعروس البحر الأبيض المتوسط أو كملكة متوّجة انعشت بلاد كثيرة في أفريقيا وأوربا، الآن صارت أشبه بفتاة عانس تئن من العزلة، بلا زوج ولا بنين، فقدت بلادًا كثيرة التي كانت أشبه ببنين لها [4].

حزنت مصر لأنها فقدت مركزًا هامًا لتصدير غلاتها، وربما لأنها خشيت أن يحل بها ما حلّ بصور. هذا ما حدث في أيام نبوخذنصَّر الذي نهب ثروة فرعون بعد حصاره صور (حز 29: 17-20).

يطلب النبي من البقية الباقية في صور أن يرحلوا إلى ترشيش وهي مدينة قديمة في أسبانيا وأحد مستعمرات صور المزدهرة، رحلوا وهم مولولين لأنهم هاربون كلاجئين. يرى البعض أن النبي نطق بذلك كنـوع من السخرية بسكان صور المتعجرفين

منذ القدم، ها هم يرحلون في رعب وخوف ليعيشوا غرباء ولاجئين.

يقدم النبي سؤالاً لاهوتيًا يثير السامعين على البحث عن الأجابة، وهو: "من قضى بهذا على صور المتوّجة، التي تجارها رؤساء، متسببوها موقروا الأرض؟" بمعنى آخر من الذي قضى على صور الملكة المتوّجة والتي جعلت من مستعمراتها أمراء ورؤساء ومن تجارها أشرافًا موقرين في كل المسكونة؟! لقد كانت ملكة غنية أفاضت بالغنى والترف والكرامة مع الكبرياء على الدول التي كانت تتعامل معها فمن الذي حكم عليها هكذا؟

رب الجنود هو الذي قضى بذلك [9] لينزل بكبريائها إلى الحضيض ويهين كل تجارها أصحاب الوقار والكرامة الزمنية. هذا ما عناه عاموس النبي حين قال: "هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟!" (عا 3: 6). يقول الأب ثيؤدور: [حينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية. فالطبيب يقوم بقطع أو كي الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحتهم، ومع هذا يرى غير القادرين على الاحتمال أن ذلك شر[262]].

الله قضى بذلك، لكن علة الخراب هو الكبرياء والمجد الباطل، الخطية هي التي تفسد الإنسان كما الأمم، أما حكم الله إنما هو إعلان عما يجلبة الإنسان لنفسه بنفسه.

يشبه النبي صور الهاربة بعد الخراب بامرأة فقدت كل شيء تجتار نهر النيل وليس لديها منطقة تربط بها ثيابها؛ أو تشبه مياه النيل عند المصب فانها تتدفق على البحر وليس من يقدر أن يوقفها، هكذا هرب أهل صور من مدينتهم المحطمة بلا قوة ولا قدرة وكأن المياه تجرفهم نحو البحر [10]، لذا يدعوها "المتهتكة العذراء بنت صيدون" [12].

مدّ الرب يده بالغضب على البحر، أي أمر الممالك أن تثور ضد فينيقية (كنعان) لتخرب حصونها [11]، وتحطم كبريائها فلا تعود تفتخر [12] وعوض كونها ملكة تصير عذراء متهتكة، تهرب إلى كيثم (قبرص) ولا تجد راحة... ماذا يعني هذا؟

أ. مدّ الرب يده داعيًا للتوبة، لكن صور لم تستجب للنداء، فصارت اليد ممدودة للعقاب. لقد بسط أيضًا رب المجد يديه على الصليب بالحب، فمن آمن وجد في الصليب قوة الله للخلاص، ومن جحده صار تحت الدينونة.

ب. كان أمام صور أن تهرب إلى كتيم... لكنها لم تجد راحة، فإن سلام الإنسان لا يتوقف على الموقع الذي يوجد فيه وإنما على أعماق النفس الداخلية. راحة الإنسان لا في تغيير مكانه أو عمله أو ظروفه الاجتماعية وإنما في رجوعه إلى الله مخلصه الذي يُنادي: "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا اُريحكم" (مت 11: 28). وكما يقول القديس يوحنا سابا: [طوبى لذاك الذي يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجري له الحياة ليتنعم].

إذ عرف الله أن صور لن تسمع لهذا الصوت طلب منها أن تتعظ مما حدث للكلدانيين بواسطة ملك أشور، فقد حوّل قصورها إلى ردم.

2. تجديد صور:

الله في حبه للبشر لا يترك الإنسان في فساده لكنه يُقدم له كل امكانية للخلاص. لهذا بعدما صوّر النبي مدى الخراب الذي حلّ بصور عاد لكي يتحدث عن تجديدها بالرب المخلص.

تُترك مستعبدة لبابل 70 عامًا وهي تُقابل السبعين عامًا التي تنبأ عنها إرميا النبي بخصوص سبي إسرائيل البابلي (إر 29: 10)، وكأن الأمم تشترك مع إسرائيل في هذه المذلة لأنه قد أغلق على الكل معًا في العصيان (رو 11: 32) لكي ينعم الكل بالمخلص ويُرحم الجميع. لقد أتهمت أورشليم بأنها زانية (إش 1: 21) وها هي صور تحمل ذات الإتهام [16].

الفترة من السنة الأولى لمُلك نبوخذنصَّر حتى كورش هي 70 سنة تمامًا، خلالها خدمت الأمم بابل.

يصف النبي صور بامرأة زانية تُغني في الأماكن العامة لتجتذب الرجال إليها؛ هكذا فعلت صور بتجارتها التي ارتبطت بالفساد، لكنها بعدما طافت العالم كما لو كان مدينة واحدة تطوف فيها الزانية سقطت تحت سيطرة بابل 70 عامًا في مذلة لا تمارس فيها تجارتها ولا تبعث بالفساد في الدول الأخرى حتى صارت منسية. نساها العالم لكن الله لن ينساها بل يحوّل ذلها إلى مجد، فبعدما كانت تجارتها مرتبطة بالفساد تعود فترتبط بالحياة المقدسة في الرب، يصير تجارتها شهودًا لإنجيل الخلاص، إذ تدخل مع الأمم في الإيمان لتمارس الحياة الإنجيلية وتكرز بها. بعدما كانت في جوع وعري ليس خلال السبي البابلي وإنما خلال عبودية الخطية صارت في حضرة الرب تأكل من خبز الحياة فلا تجوع، وتنعم بلباس المعمودية فلا تتعرى، كقول الرسول: "لأنكم كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27). هذا ما عناه النبي بالقول: "وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب؛ لا تُخزن ولا تُكنز بل تكون تجارتها للمقيمين أمام الرب لأكلٍ إلى الشبع وللباسٍ فاخرٍ" [18].

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع والعشرون

تدنيس الأرض

في الأصحاحات السابقة أبرز النبي فاعلية الخطية في حياة الأمم والشعوب مقدمًا نبوات عن سبع أمم لتأكيد فساد كل الشعوب حتى شعبه الخاص يهوذا وآفرايم. الآن يتحدث في الأصحاحات (24-27) عن نبوات عامة تخص الأرض كلها، ليظهر شمولية الفساد. وفي حديثه يشرق بعبارات تبعث الرجاء وتفتح طريق الخلاص.

تبدأ النبوات بإعلان أن الأرض ذاتها التي خلقها الله بصلاحه من أجل سعادة الإنسان قد فسدت، واحتاجت أن يفرغها الله ليُجددها. هذا ما حدث بالجسد (لأن الأرض تُشير إلى الجسد الترابي)، فالخطية حطمت قدراته وامكانيته بل وطبيعة الأمور التي خلقها الله صالحة لتعمل لبنيان الإنسان والجماعة، لقد صرنا محتاجين إلى تجديد خلقتنا، أي الولادة الجديدة فيتقدس الجسد مع النفس بكل الطاقات والقدرات الداخلية.

1. ضربات عامة           [1-13].

2. فرح المؤمنين بالرب    [14-16].

3. تسبيح مع رعب         [17-23].

1. ضربات عامة:

يشّبه النبي الأرض كلها بإناء كل ما بداخله قد فسد لذا يقوم صاحبه بتفريغه تمامًا بأن يقلبه رأسًا على عقب، فيقول: "هوذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبدد سكانها. وكما يكون الشعب هكذا الكاهن؛ كما العبد هكذا سيده؛ كما الأَمة هكذا سيدتها؛ كما الشاري هكذا البائع؛ كما المقرض هكذا المقترض؛ وكما الدائن هكذا المديون" [1-2].

هكذا أغلق على الجميع في العصيان، واستحق الكل الموت، واحتاج الجميع إلى مخلص قادر على تجديد طبيعتهم، يشترك في هذا الكاهن مع الشعب، العظيم مع المحتقر، الغني مع الفقير. هذا الأمر يحتاج كما إلى تفريغ الأرض لتعود إلى ما قبل خلقة العالم - خالية وخاوية - فيُعيد الرب نفسه خلقتها .

هذا هو الأساس اللاهوتي للخلاص، أن الخليقة قد فسدت تمامًا واحتاجت إلى صانعها لتجديد خلقتها، وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [هذا يشبه صورة لإنسان رسمت على لوحة، ثم حدث أن تشوهت بأصباغ خارجية، فصار لزامًا أن يحضر صاحب الصورة مرة أخرى لتجديد صورة الوجه على ذات الخشب (اللوحة)[263]].

ماذا فعلت الخطية أو العصيان بالبشرية؟ لقد اقتربت البشرية إلى نيران الغضب الإلهي فاحترقت، أما سرّ الاحتراق فهو إرادة الإنسان العاصية التي تسحبه نحو الهلاك.

يقدم إشعياء النبي تشبيهًا يكشف عن حال البؤس التي وصلت إليه البشرية، فقد اعتاد الناس في فترة حصاد الكروم أن يقيموا حفلات مبهجة، يشربون الخمر ويغنون بفرح ويقدمون تقدمات للفقراء. جاء وقت الجني فاذ بالكروم تعلن حدادها إذ لا تحمل عنبًا، أصحاب الدفوف يتوقفون عن الضرب بها، ليس من يُغني ولا من يفرح فقد هرب كل سرور من على وجه الأرض وحلّ الدمار بنار غضب الله فصار كل ما في العالم رمادًا [7-12]. هكذا يشبّه العالم بمدينة محترقة تحولت رمادًا وحقول حزينة جافة لا تحمل ثمرًا. يشبّهه بشجرة زيتون نفضت أوراقها وصارت عارية بلا ثمر ولا أوراق [13]، وككرمة بعد انتزاع كل عناقيدها منها.

يليق بالكاهن أن يدرك حاجته للخلاص مثله مثل الشعب [2] وكما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [بالحقيقة لا يوجد تمييز بين الشعب والكهنة...[264]].

2. فرح المؤمنين بالرب:

وسط هذا الدمار الذي أفقد البشرية سلامها الداخلي وفرحها توجد بقية مقدسة تعلن بهجتها وفرحها بالرب بواسطة التسبيح والترنم.

"هم يرفعون أصواتهم ويترنمون، لأجل عظمة الرب يصوتون من البحر.

لذلك في المشارق مجدوا الرب. في جزائر البحر مجدوا إسم الرب إله إسرائيل.

من أطراف الأرض سمعنا ترنيمة: مجدًا للبار" [14-16].

يتحدث هنا عن البقية القليلة في العالم التي قبلت الإيمان ورجعت إلى الله، هؤلاء يعيشون في المشارق أي يتمتعون بشمس البر المشرق عليهم (ملا 4: 3). ولئلا يظن بالمشارق هنا مجرد مكان قال: "في جزائر البحر مجدوا اسم الرب" ليؤكد أن الساكنين في الغرب (جزائر البحر الأبيض غرب أورشليم) يتمتعون بالخلاص مع الشرقيين.

موضوع التسبيح هو "مجدًا (للمسيح) البار!".

3. تسبيح مع رعدة: 

الخلاص الذي يقدمه الله للبشرية يلهب قلب المؤمنين فرحًا وتهليلاً، ويبعث رعبًا بالنسبة لغير المؤمنين الجاحدين وأيضًا للشياطين.

لقد أدرك عدو الخير أن نهبًا قد تم بالنسبة له، فقد اجتذب الصليب الكثير من النفوس التي استعبدها العدو، وحطمت القيامة كل قوات الظلمة وفتحت أبواب الفردوس.

يرى النبي عدو الخير أشبه بوحش بري سقط في الشباك في حفرة، وفتح فاه يندب حاله في يأس مع خوف ورعدة [16-18]. ارتعب عندما رأى نفسه ينحدر نحو الهاوية كما في حفرة عميقة للغاية، بينما وقفت السماء والأرض تشهدان للصليب: "ميازيب من العلاء انفتحت، وأسس الأرض تزلزلت؛ انسحقت الأرض انسحاقًا، تشققت الأرض تشققًا، تزعزعت الأرض تزعزعًا" [18-19]، "في ذلك اليوم يخجل القمر وتخزى الشمس لأن رب الجنود قد ملك على جبل صهيون في أورشليم" [23].

هكذا تشهد الطبيعة عن ثقل الخطية التي حملها السيد المسيح عنا، كأنها كتلة ثقيلة للغاية دُفعت نحو الأرض فشققتها وزعزعتها واثارت فيها زلازل حتى خجل القمر وخزيت الشمس مما فعلته الخطية. هذا ومن جانب آخر وقفت الطبيعة كما في خزي وخجل أمام ما فعله الإنسان بمخلصه وفاديه.

بالصليب دخلنا في المُلك الروحي (رؤ 20) حيث يملك رب الجنود على جبل صهيون في أورشليم [23]؛ يملك بالصليب على قلوب المؤمنين، مقيدًا إبليس ولك جنوده الروحيين كأسرى حتى يأتي وقت الارتداد [22]، إذ شهر بهم جهارًا (كو 2: 15)، واهبًا إيانا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو.

منظر الصليب حطم العدو، معلنًا المجد الإلهي أمام الشيوخ [23]، فقد عاين الرسل قوة الخلاص وأدركوها في حياتهم كما في كرازتهم.

 <<

 

 


 

الأصحاح الخامس والعشرون

تسبحة شكر من أجل الملكوت

بنهاية الأصحاح السابق ينتهي الجزء الخاص بتهديدات إشعياء النبي بالخراب الذي يحل بالأمم بسبب البعد عن الله وعصيانه ومقاومته، أما الأصحاحات 25-27 فتُقدم تسابيح الخلاص وتعلن مقاصد الله من جهة التأديب، كما تكشف عن مدى اشتياق الله نحو كرمه المشتهاه ودعوته شعبه للتمتع بالوليمة العظيمة وتحطيم قوى إبليس.

الأصحاح 25 يمثل تسبحة من أجل عمل الله مع شعبه الذي يردهم من السبي ويهلك أعداءهم (من بينهم موآب)، كرمز لعمله الخلاصي في العهد الجديد حيث يُقيم ملكوته، واهبًا الحرية لشعبه والغلبة على قوات الظلمة.

يدخل بنا هذا الأصحاح والأصحاح التالي إلى ملكوت العهد الجديد حيث يظهر الرب قادمًا ليُقيم مملكته السماوية في حياة البشر. هذا ما أعلنه القديس يوحنا المعمدان في بدء خدمته قائلاً: "توبوا فأنه قد اقترب منكم ملكوت السموات"، أما الملك نفسه فقال: "ملكوت الله داخلكم" (لو 7: 21).

لقد رفض الجاحدون الملك المسيا، ومع هذا فلا يكف الملك عن أن يدعو كل البشرية إلى ملكوته قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). إنها دعوة مفتوحة للجميع عبر كل الأجيال.

1. تسبحة حمد لله          [1-5].

2. وليمة العهد الجديد      [6-9].

3. هلاك موآب             [10-12].

1. تسبحة حمد لله:

انفتحت عينا إشعياء النبي على ملكوت المسيح ففاض قلبه تهليلاً وانطلق لسانه يُسبح الله من أجل عمله الخلاصي؛ بعدما تنبأ عن التأديبات المُرّة صار مرتلاً يُقدم مزامير حمد لله. أما سرّ تسبيحه وحمده لله فهو:

أ. تحقيق كلمات الله ومواعيده الأمينة الصادقة: "يارب أنت إلهي أُعظمك، أحمد إسمك لأنك صنعت عجبًا، مقاصدك منذ القديم أمانة وصدق" [1]. لقد ادرك النبي أن سرّ الخلاص يكمن في مواعيد الله الأمينة وعمل يديه العجيبة. لهذا يعلق القديس إيرناؤس على هذه التسبحة قائلاً: [نرى هنا أننا لا نخلص بأنفسنا بل بعون الله[265]].

نسبح الله ونحمده من أجل مقاصده الإلهية الأزلية العجيبة، فمنذ القديم مهتم بخلاصنا، قبل أن نوجد، لأننا كنا في فكره، موضع حبه.

ب. إبادة الشر (بابل): "لأنك جعلت مدينة رجمة، قرية حصينة ردمًا، قصر أعاجم أن لا تكون مدينة، لا يبُنى إلى الأبد" [2].

خلاصنا بالذراع الإلهي يتحقق بالقضاء على الشر، أي على مدينة بابل المتعجرفة والمملؤة ارتباكًا، المحتضنة بضد المسيح. وكأن سرّ تسبيحنا هو قيام مملكة المسيح الذي يُلازمه انهيار مملكة إبليس المقاوم للحق وتحطيم لمدينته وهدم لقصره.

لعل المدينة هنا تُشير إلى سيطرة عدو الخير على الجماعة، والقرية تُشير إلى سيطرته على جماعة أقل مثل الأسرة، والقصر يُشير إلى تملكه على القلب، فان عدو الخير يعمل على كل المستويات ليملك خلال الجماعة أو الأسرة أو الفرد... ومسيحنا أيضًا يُقاومه على كل المستويات ليهدم كل أثر لمملكته.

أما دعوة النفس التي يُسيطر عليها العدو "قصر الأعاجم" أو "قصر الغرباء" فلأن عدو الخير بملائكته يحتلون النفس كغرباء وأعاجم، يملكون ما ليس لهم؛ إنها خليقة الله الصالحة التي تسللوا إليها.

لعل أيضًا هدم المدينة أو القرية أو القصر يُشير إلى هدم إنساننا القديم بكل أعماله لأجل التجديد المستمر لإنساننا الداخلي على صورة خالقه (2 كو 4: 16).

ج. الكرازة: مما يفرح القلب ويملأه تسبيحًا أن قيام مملكة المسيح الداخلية مع هدم مملكة عدو الخير فينا يصحبه شهادة أو كرازة لعمل الله وإنجيل خلاصه، فتُجتذب نفوس كثيرة لتقوم كنيسة قوية لا من جهة العدد وإنما من حيث مسيحها القدير الحالّ فيها. يقول النبي: "لذلك يكرمك شعب قوي، وتخاف منك قرية أمم عُتاة" [3].

تتهلل نفوسنا بشعب الله القوي الذي يحمل فيه قوة قيامته الغالبة للموت، فيعيشون كنفوس عتاة (جبابرة بأس) يمارسون المخافة الإلهية. وكما قيل عنهم: "فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على اقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" (حز 37: 10)، "مرهبة كجيش بألوية" (نش 6: 10).

حينما تنهار فينا مدينة بابل وتتحطم قرية إبليس الحصينة ويخرب قصره، يملك الرب ليُقيم منا شعبًا قويًا مرهبًا للعدو... ما هو هذا الشعب المرهب إلاَّ تقديس النفس والجسد والفكر والكلمات والعواطف حتى ظل الإنسان؟! ألم تهرب الأمراض من ظل بطرس الرسول (أع 5: 15)؟! ألم تخرج الشياطين والأرواح الشريرة لمجرد رؤية عصائب الرسول بولس؟!

د. إنصاف المظلومين: "لأنك كنت حصنًا للمسكين، حصنًا للبائس في ضيقه، ملجأ من السيل، ظلاً من الحرّ، إذ كانت نفخة العتاة كسيل على حائط كحر في يبس (جفاف) تخفض ضجيج الأعاجم..." [4-5].

تئن البشرية من قانون الظلم الذي سادها منذ دخلت إليها الخطية لهذا يتقدم الله نفسه كسرّ تعزية عملية، يسند كل نفس جريحة، مقدمًا نفسه قوة وحصنًا للمسكين والبائس وقت الضيق، ملجأ من السيول (العواصف)، وظلاً من الحر بينما تكون نفخة الإنسان الجبار مثل عاصفة ضد حائط. وكأن الله في حبه الفائق ورعايته الأبوية يُقدم نفسه لمؤمنيه حسب احتياجاتهم، يصير لهم كل شيء من أجل سلامهم وبنيانهم وشبعهم، فهو القوة والحصن والملجأ والسحابة المظلمة والخبز النازل من السماء الخ...

2. وليمة العهد الجديد:

يتقدم كلمة الله المخلص إلى كل نفس ليكون هو المشبع لاحتياجاتها وواهبها السلام والقوة ضد العدو الشرير، فتتمتع النفس بالحياة الجديدة في المسيح كوليمة مفرحة دائمة. هذه الوليمة في حقيقتها هي الحياة الإنجيلية المشبعة والمقدمة لكل الشعوب، يصفها هنا هكذا:

أ. وليمة عامة: "ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب وليمة..." [6]. لقد انفتح الباب على مصراعيه لجميع الشعوب لتتمتع بكلمة الله وعهوده ومواعيده وشرائعه وأعماله الخلاصية، خاصة الشركة في الأفخارستيا (جسد الرب ودمه)، ولم تعد عطايا الله حكرًا على شعب معين أو جنس خاص.

يعلن السيد المسيح عمومية الدعوة بقوله: "اذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس" (مت 22: 9).

ب. وليمة دسمة، دعاها "وليمة سمائن" [6]. ما هذه الوليمة الدسمة أو العيد الدسم إلاَّ سرّ الافخارستيا، حيث يشترك المؤمنون من كل الشعوب مع السمائيين في التسبيح، وتنفتح أبواب السماء أمامهم، أو قل تصير الكنيسة سماء ليتمتع المؤمنون بجسد الرب المبذول ودمه الكريم خلاصًا وشبعًا لهم؟!

v   ["الرب راعيّ فلا يعوزني شيء..." (مز 23)]

اسمعوا عن ما هية الأسرار التي نلتموها. اسمعوا داود ماذا يقول لكم؟... كيف استهل مزموره بأنه لم يعد في عوز إلى شيء؟ لماذا؟ لأن من يتناول جسد المسيح لا يعود يجوع بعد. 

القديس أمبروسيوس[266]

v   الذين حرموا من البركات الأرضية بسبب صغر سنهم تُعطى لهم المواهب السماوية بغنى للملء، فيحق لهم الترنم بفرح، قائلين: "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء" (مز 23: 1).

القديس ديديموس الضرير[267]

v   هذه المائدة هي عضد نفوسنا، رباط ذهننا، أساس رجائنا، خلاصنا ونورنا وحياتنا.

v   عندما ترى المائدة معدة قدامك قل لنفسك:

من أجل جسده لا أعود أكون ترابًا ورمادًا، ولا أكون سجينا بل حرًا!

من أجل هذا (الجسد) أترجى السماء، واتقبل الخيرات السماوية، والحياة الخالدة، ونصيب الملائكة، والمناجاة مع المسيح.

سُمّر هذا الجسد بالمسامير وجُلد، ولا يعود يقدر عليه الموت!

إنه الجسد الذي لُطخ بالدماء وطعن، ومنه خرج الينبوعان المخلصان العالم: ينبوع الدم وينبوع الماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم[268]

ج. وليمة مفرحة روحيًا: "وليمة خمر على دردىٍّ، سمائن مُمِخَّةِ دردىٍّ مُصفَّي" [6]. يشير الخمر إلى الفرح الروحي، أما كونه مصفى أو نقيًا فيعني أنه لا يُفقد وعي الإنسان ويُسكره إنما يهبه بهجة روحية.

v   تسكرنا كأس الرب بطريقةٍ ما كما شرب نوح كأس خمر مسكر في سفر التكوين، ولكن سكر كأس الرب ودمه ليس كسكر خمر العالم... فان كأس الرب يجعل شاربيه عقلاء ويرد افكارهم إلى الحكمة الروحية؛ تنقل الإنسان من تذوق العالم إلى فهم الله... أنها تُحرر النفس وتنزع عنها الغم... أنها تهب راحة للنفس إذ تقدم لها فرح الصلاح الإلهي عوض كآبة القلب القاتم بسبب ثقل أحمال الخطية.

الشهيد كبريانوس[269]

د. وليمة سماوية: خلالها يُكشف الغطاء ويُنزع حجاب الحرف ليدخل المشتركون إلى السماء عينها ويتعرفون على أسرارها التي كانت محتجبة عن كل بني البشر. "ويفنى في هذا الجيل وجه النقاب، النقاب الذي على كل الشعوب، والغطاء المُغطى به على كل الأمم" [7].

v   الشعب الذي تطهر وامتلأ بالمواهب العجيبة يبدأ بالسير نحو المذبح قائلين: "إلى بيت الله نذهب، الله يُفرح شبابنا..." إنهم يسرعون تجاه الوليمة السماوية.

القديس أمبروسيوس[270]

v   في كل مرة نخدم ليتورجيا هذه الذبيحة، يليق بنا أن نحسب أنفسنا كمن هم في السماء.

الأب ثيؤدور[271]

هـ. وليمة واهبة الحياة: "يُبلع الموت إلى الأبد" [8].

v    بواسطة (هذه الذبيحة) ننتظر نحن المائتون بالطبع عدم الموت، ونحن الفاسدون عدم الفساد، وعوض الأرض وشرورها ننال بركات السماء ومباهجها.

الأب ثيؤدور[272]

v   لئلا ننتفخ ظانين أن الحياة هي من عندياتنا، ونتعجرف على الله... فإنه يلزمنا أن نعرف بالخبرة أننا ننال الحياة الأبدية لا من طبعنا بل بقوة هذا الكائن الأسمى "الأفخارستيا".

القديس ايريناؤس[273]

و. وليمة مجيدة: "ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض لأن الرب قد تكلم" [8]. إذ يهب مؤمنيه راحة فيه خلال الحياة المقدسة أو خلال تمتعهم ببر المسيح. أن كانت الدموع قد تسللت إلى البشرية كلها خلال عصيانها فان اتحادنا مع الله في ابنه بالروح القدس يهبنا ثباتًا في المسيح المطيع للآب، فينتزع عنا ثقل عصياننا ويُجفف دموعنا الداخلية، واهبًا النفس أمجادًا في الداخل نختبرها في حياتنا الزمنية كعربون للمجد الأبدي السماوية.

حياتنا جهاد وصراع ضد قوات الظلمة، معركة دائمة أرضها القلب الداخلي، لكن مسيحنا يهبنا الغلبة والنصرة، يضمد كل جرح ويمسح كل دمعة.

v   المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان.

حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار.

القديس كيرلس الأسكندرى[274] 

3. هلاك موآب:

إذ يتهلل المؤمنون الغالبون للحزن والمرارة والدموع بل وللموت خلال وليمة الخلاص المجانية يقولون: "هوذا هذا إلهنا انتظرناه فَخَلَّصنَا" [9]. يكمن فرحنا في خلاصنا  من أعدائنا، أي من إبليس وكل جنوده وكل أعماله الشريرة. فإن مجد أولاد الله يرافقه خزي لقوات الظلمة التي رمز إليها هنا بموآب. "ويُداس موآب في مكانه كما يُداس التبن في ماء المزبلة، فيبسط يديه فيه كما يبسط السابح ليسبح، فيضع كبرياءه مع مكايد يديه، وصَرْح ارتفاع أسوارك يَخفضه، يضعه، يُلصقه بالأرض إلى التراب" [10-11].

إن كانت قوات الظلمة قد تشامخت على أولاد الله وحسبت أنها قادرة على اذلالهم، فان الله بالصليب هدم حصونها ونزل بها إلى الهاوية، واهبًا ايانا سلطانا ان ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات الظلمة، ندوسها كما يُداس التبن لاستخدامه في مواد البناء (في عمل الطوب اللبن). وكأن تلك القوات التي كانت سبب هلاكنا تتحول خلال عمل الله الخلاصي إلى اداة محتقرة وذليلة تحت الأقدام تُستخدم لبنيان نفوسنا؛ إذ بدون إبليس ما كنا نُكلل.

أما سرّ هلاك العدو فهو كبرياؤه، إذ حسب نفسه محصنًا بأسوار منيعة، لكن الله يهدم هذه الأسوار حتى الأرض ليُفضح ضعف العدو ويُكشف حقيقة عجزه أمام إلهنا.

<<

 

 


 

الأصحاح السادس والعشرون

تسبحَة القيَامَة

التسبحة السابقة هي تقدمة شكر يرفعها المفديون لله من أجل بركات الخلاص التي وهبها الله لشعبه، أما هذه التسبحة فهي "مزمور القيامة" [19]، خلاله يعلن الشعب ثقته في الله .

يتطلع إشعياء النبي إلى خروج الشعب من السبي حاملين روح الغلبة والنصرة بينما تسقط بابل وكل أسوارها الفريدة حتى الأرض [12] كصورة حية للقيامة من الأموات، لهذا ينطلق لسانه بالتسبيح مؤكدًا الثقة في الله واهبًا الحياة والقيامة.

يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا عن القيامة من الأموات [19] هو أول نص صريح في العهد القديم عن القيامة[275].

1. مزمور للحث على الثقة بالله      [1-4].

2. انهيار العدو                       [5-6].

3. مساندة الرب لصدّيقيه             [7-16].

4. دخول شعبه في الضيق           [17-19].

5. الله مخلص شعبه                  [20-21].

1. مزمور للحث على الثقة بالله:

يبدأ المزمور بالمقدمة: "في ذلك اليوم يُغنى بهذه الأغنية في أرض يهوذا" [1]. إنها أغنية العهد الجديد؛ لم يكن ممكنًا لرجال العهد القديم أن يتغنوا بها، لذا يقول "في ذلك اليوم". ما تمتع به الشعب القديم من بركات كالعودة من السبي لا يبعث فرحًا دائمًا إلاَّ من حيث كونه رمزًا للخلاص المبهج الذي تحقق بردنا من سبي الخطية خلال عمل الصليب.

هذا المزمور هو تسبحة لأورشليم مدينة الله بسبب ما تمتعت به من قوة وحصانة مع أبواب مفتوحة وبرّ لسكانها وأمانة وسلام...

"لنا مدينة قوية" [1]، يقصد بها أورشليم رمز أورشليم السماوية، وأيضًا كنيسة العهد الجديد بكونها مدينة الله التي يسكنها الرب نفسه مع شعبه.

"يجعل الخلاص أسوارًا ومترسة" [1]؛ أعمال الله الخلاصية هي أسوار المدينة وأدواتها الحربية، فلا يقدر عدو الخير أن يقتحمها. له أن يحاربها ويحاول اغراءها لكنه لن يستطيع أن يغلبها مادامت أمينة للرب.

كثيرًا ما تحدّث آباء الكنيسة - خاصة القديس أغسطينوس - عن حياتنا الداخلية ككنيسة المسيح، مدينة الرب السماوية. هذه المدينة في جوهرها هي سكنى الله  - الحب - مع الناس؛ الحب هو مؤسسها، وهو كنزها، وهو لغتها وشريعتها... مدينة الرب هي مدينة الحب!

v   إذ يصير لك كمال المعرفة وإذ تصبح عرش الله بالحب تصير سماءً!

السماء التي نراها بأعيننا حين ننظر إلى فوق ليست ثمينة جدًا عند الله؛ النفوس القديسة هي سماء الله...

كل نفس هي صهيون...

واضح أن صهيون هي مدينة الله؛ وما هي مدينة الله إلاَّ الكنيسة المقدسة؟! إذ يحب البشر بعضهم بعضًا ويحبون الله الساكن فيهم يصيرون مدينة الله... فقد كُتب بصراحة: "الله محبة" (1 يو 4: 8). من يمتلىء حبًا يمتلىء من الله[276].  

v   لقد تعلمنا أنه توجد مدينة الله، مؤسسها أوحى لنا بالحب الذي يجعلنا نشتهي المواطنة فيها[277].

القديس أغسطينوس

بالحب أقام الله كل نفس لتصير مدينته الحصينة وسمواته المقدسة، اقامها عروسه السماوية المتحدة معه لها ذات امكانيات عريسها المخلص الذي صعد إلى السموات وانفتحت أمامه الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد (مز 24: 7-10). هي أيضًا عروسه الحاملة بره وامانته، تنفتح أمامها أبواب السماء لتجلس عن يمين عريسها الملك وفي احضانه، لا تقدر قوة ما أن تحرمها من العبور في السمويات حتى تبلغ عرشه. إنها كأستير الملكة التي اجتازت كل أبواب القصر لتبلغ إلى الملك الذي يمد قضيب ملكه الذهبي لها كي تدخل إليه فيلاطفها ويستمع إلى طلبتها.

هذه المشاعر النبوية تمتع بها إشعياء ربما حين رأى بالروح الراجعين من السبي يدخلون أبواب أورشليم المفتوحة أمامهم، وهم داخلين كما في موكب نصرة أو موكب عيد مفرح في الرب. لقد قال: "افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة" [2].

v   "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم" (مز 24: 7)؛ لنذهب باستقامة إلى السماء.

ليت بوق النبي يضرب عاليًا: "ارفعوا أنتم يا رؤساء الهواء الأبواب التي اقمتموها في أذهان البشر..."

القديس أغسطينوس[278]

يعلق القديس أمبروسيوس على العبارة "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد" (مز 24: 7)، قائلاً:

[لقد وجدوا أنه يلزم أن يُعد أمام وجه هذا "المنتصر" الجديد طريقًا جديدًا، لأنه هو دائمًا كما كان أعظم من غيره، ولكن لأن أبواب البر التي هي أبواب العهدين القديم والجديد، التي فيها تنفتح السموات، هي أبواب دهرية، لذلك فهي بالحق لا تتغير، لكنها ارتفعت لأن الداخل فيها ليس إنسانًا بل العالم كله في شخص مخلص الكل...

إذ أدرك (الملائكة) اقتراب رب الكل، أول قاهر للموت، والمنتصر الوحيد، أمروا الجنود (السمائيين) أن يرفعوا الأبواب قائلين في هيام وتعبد... "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد"[279]].

هكذا إذ تنفتح السماء أمام المؤمنين المتحدين بربنا يسوع فيرتفعوا معه إلى سمواته، يعيشون هنا في سلام حقيقي وثقة بالمخلص. لذا يقول النبي:

"ذوي الرأي الممكن تحفظه سالمًا سالمًا لأنه عليه متوكل" [3]. تعبير رائع عن الطمأنينة الأكيدة التي يهبها الله لمؤمنيه المخلصين له، فيعطيهم سلامًا يتبعه سلام حتى يبلغوا إلى النصرة النهائية من أجل اتكالهم عليه.

يقصد بذوي الرأي الممكن أصحاب الهدف الثابت أو أصحاب الفكر المتزن غير المتزعزع الذين لا تفقدهم عواصف الأحداث ثقتهم في الله مخلصهم، يهوه صخر الدهور (إش 26: 4؛ مز 18: 31): "توكلوا على الرب إلى الأبد لأن في ياه (يهوه) الرب صخر الدهور" [4].

v   بئس الشعب الذي يتحول عن الله... أما السلام الخاص بنا فننعم به الآن مع الله بالإيمان، ونتمتع به أبديًا معه بالعيان.

القديس أغسطينوس[280]

v   ينبغي على كل أحد أن يصلح ذاته، ولذاته يسالم، ولا يكون انقسام في ضميره. لأنه إذا اصطلح إنسان مع جميع العالم وهو منقسم على ذاته فصلحه بلا منفعه. أما الذي يُصلح نفسه ويسالم ذاته فهو كمن سالم العالم جميعًا، ويكون مشرفًا في عيني سيد الكل.

v   اشفق يارب على النفس التي اشتعلت بحبك، لأنها هي مسكن السلام، فلا تترك أثرًا للخطية في الضمير مكان سكناك، بل احرقه بنار حبك.

القديس يوحنا التبايسي[281]

2. انهيار العدو:

"لأنه يخفض سكان العلاء" [5-6].

إن كانت بابل قد تشامخت وظنت أنها في العلاء فسينزل الرب بها حتى التراب ليجعلها مدوسة باقدام المساكين الذين سبق فوطأتهم بقدميها. هذه هي نهاية كل متكبر مقاوم للحق، إذ يشرب من ذات الكأس التي قدمها للغير.

عمل الله الدائم هو تمجيد أورشليم الذليلة المتضعة وإقامتها مدينة خاصة به؛ والنزول ببابل المتشامخة. وكما قالت القديسة مريم: "أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين" (لو 1: 53).

v   عرفتني طرق الاتضاع، خلالها يعود البشر إلى الحياة، إذ سقطوا بسبب الكبرياء.

القديس أغسطينوس[282]

v   بالكبرياء نستند على الرياح، وبه نزج بأنفسنا إلى اللجة، فلا تقبل مرض الكبرياء لئلا يسرقك العدو...

v   في الإنسان المتواضع تستريح روح الحكمة.

القديس مار إفرآم السرياني

3. مساندة الرب لصدّيقيه:  

يقدم لنا النبي في هذا المزمور تحليلاً رائعًا لحياة الإنسان الصّدّيق الذي يجد لذته وحمايته ومجده في الرب؛ وفي نفس الوقت يدعونا للصلاة السرية في المخدع مع الاهتمام باحكام الله ووصاياه والطاعة له للتمتع بخلاصه المجاني.

أ. أحكام الله أو وصاياه ليست ثقلاً على نفس الصديق إنما هي علة استقامته، لذا يطلبها ويشتهيها بفرح وبهجة قلب، قائلاً: "في طريق احكامك انتظرناك" [8]. كأن الوصية أو كلمة الله هي موضوع رجاء ولذة وفرح للنفس. وكما يقول المرتل: "بطريق شهاداتك فرحت كما على كل غنى... بفرائضك أتلذذ... شهاداتك هي لذّتي" (مز 119: 14، 16، 24).

لعل سر فرح الصدّيق وبهجته بالوصية أنه يكتشف أعماقها فيجدها تلاقٍ مع المسيح كلمة الله وتمتع به كسّر خلاص وحياة وكما يقول القديس أغسطينوس: [نفهم أنه ليس طريق أسرع ولا أأمن ولا أقصر ولا أعلى من المسيح بخصوص شهادات الله، هذا "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3). لذلك يقول (المرتل) أنه يجد فيه بهجة عظيمة كما في كل غنى. هذه هي الشهادات التي بها اكّد لنا إلى أي مدى يحبنا (المسيح)[283]...].

ب. سّر فرح الصدّيق، اتحاده بالله مخلصه وتمسكه باسمه القدوس وتذكاره: "إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس، بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضًا بروحي في داخلي إليك أبكر" [8-9]. تدرك النفس أنها في ليل هذا العالم تعتاز إلى نور المخلص ليشرق عليها بل وفيها. أنها تطلبه في الليل لأنها ذاقت الأمرّين طوال تعب النهار وآلامه غير المنقطعة، فتُريد أن تلتقي به داخلها لتجد فيه راحتها وسلامها وشبعها بكونه شهوة نفسها. تطلب منه أن تتمتع بكل قبلات (نش 1: 2)، وتناجيه قائلة: "حلقه حلاوة وكله مشتهيات؛ هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم" (نش 5: 16).

تشتهيه النفس لتلتصق به كل ليل هذا العالم حتى تشرق عليها الأبدية فتبقى معه في احضانه أبديًا.

إنها تطلبه داخلها، تبحث عنه لتجده يطلبها، تُبكر إليه لتجده يُبكر إليها. تُناجيه: "إليك أُبكر، عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك" (مز 63: 1-2). أما هو فيجيب: "أنا أحب الذين يُحبونني، والذين يبكرون إلىّ يجدونني؛ عندي الغنى والكرامة؛ قنية فاخرة وحظ" (أم 8: 17-18).

ج. أما نهاية الصّديق فهي تمتعه بالمجد الإلهي، الأمر الذي يُحرم منه الأشرار، إذ يقول النبي: "في أرض الاستقامة يصنع شرًا ولا يرى جلال الرب" [10]. يتمتع الصديق بمجد الرب وجلاله وينعكس بهاء الرب عليه ليصير أيقونة له، بينما يُحرم الشرير من التمتع بهذه العطية الأبدية.

v   مطوّب ومثلث الطوبى بل ومتعدد الطوبى أولئك الذين يُحسبون أهلاً أن يروا ذاك المجد! عن هذا يقول النبي: "لينزع الشرير فلا يرى جلال الرب" [10 LXX].

الله لا يسمح أن يُنزع أحد منا أو يُستبعد عن رؤيته. فإننا إن كنا لا نتمتع بذلك فسيأتي وقت فيه نقول لانفسنا: "كان خير لنا لو لم نولد". لأنه لماذا نحن نعيش؟ ولما نتنفس؟ ماذا نكون إن فشلنا في التمتع بمشاهدة ذلك ولم نُمنح معاينة الرب؟! إن كان الذين لا يرون نور الشمس يحسبون الحياة أمرّ من الموت فماذا يكون حال المحرومين من مثل هذا النور؟!   

القديس يوحنا الذهبي الفم[284]

v    يليق بنا أن نفهم أنه من أجل هذا الكمال "نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2). تُمنح هذه العطية عندما يُقال: "تعالوا يا مباركى أبي رثوا الملكوت المعد لكم" (مت 25: 34). عندئذ يُنتزع الأشرار كي لا يروا جلال الرب، فيذهب الذين على اليسار إلى العذاب الأبدي، بينما يدخل الذين على اليمين إلى الحياة الأبدية[285].

v   يقول يوحنا: "أيها الأحباء، نحن الآن ابناء الله، ولم يظهر بعد ما سنكون، إنما نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2). يبتدىء هذا الشبه يتشكل فينا من الآن، بينما يتجدد الإنسان الداخلي يومًا فيومًا حسب صورة خالقه[286]

القديس أغسطينوس

هكذا يصير الله سّر مجد صدّيقيه ليس فقط في العالم الآتي وإنما يبدأ مجدهم الآن في داخلهم بمعاينتهم مجد الله وجلاله كعربون للقاء معه أبديًا وجهًا لوجه، ويصير الله نفسه علة حرمان للأشرار؛ يكون ملك السلام لمؤمنيه ونارًا آكلة لجاحديه. يقول الرسول:" لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16). لهذا يكمل إشعياء النبي قائلاً:

"يارب ارتفعت يدك ولا يرون،

يرون ويخزون من الغيرة على الشعب وتأكلهم نار اعدائك.

يارب تجعل لنا سلامًا لأن كل أعمالنا صنعتها (رددتها) لنا" [11-12].

يرفع الرب يده لتأديب أولاده فيهبهم سلامًا ونموًا، إذ يقبلونها تأديبًا عن خطاياهم[287]، أما بالنسبة للأشرار فتكون العقوبة نارًا آكلة لهم، تهلكهم وتبيد ذكرهم [14].

4. دخول شعبه تحت الضيق:

يدرك النبي ما للضيق من بركات بالنسبة لشعب الله، قائلاً: "زدت الأمة يارب زدت الأمة، تمجدت، وسعت كل أطراف الأرض. يارب في الضيق طلبوك، سكبوا مخافته عند تأديبك إياهم" [15-16]. وكأن التأديب يسبب ضيقًا وتعبًا في الخارج لكنه يؤدي إلى النمو المستمر والاتساع في المجد.

سّر القوة لا في الضيق وإنما في يد الله الخفية القادرة أن تُقيم من الأموات. فقد رأى النبي شعبه أشبه بسيدة تتلوى من آلام المخاض، وبالجهد تلد فإذا بها تلد ريحًا، أي تنتهي آلام الولادة إلى لا شيء، أما إذا تدخل الله فأنه حتى وإن بلغ الإنسان في آلامه إلى الموت فأنه قادر أن يهبه القيامة، يهبه حياة جديدة مقامة مملوءة فرحًا وتسبيحًا.

الأشرار يتألمون كما في حالة الولادة، لكنهم ينجبون من عندياتهم (الأنا) ريحًا أو كبرياءً فارغًا، أما أولاد الله فيتألمون وينجبون بعمل الروح تشبيها لله. كأن الألم خارج السيد المسيح يلد ريحًا أما في المسيح فينجب قيامة!

يقول النبي: "كما أن الحبلى التي تُقارب الولادة تتلوى وتصرخ في مخاضها هكذا كنا قدامك يارب، حبلنا تلوينا كأننا ولدنا ريحًا. لم تصنع خلاصًا في الأرض... تحيا أمواتك تقوم الجثث. استيقظوا ترنموا يا سكان التراب..." [17-19].

يقول المرتل: "لأنه هوذا الملوك اجتمعوا... لما رأوا بهتوا ارتاعوا فروا، أخذتهم الرعدة هناك والمخاض كالوالدة" (مز 48: 4-6). يرى القديس أغسطينوس[288] أن الملوك هم جماعة المؤمنين الذين يحبلون من مخافة الله ويدخلون في حالة طلق لينجبوا خلاصًا خلال الإيمان. عندما نسمع آلامهم نتوقع ميلادًا جديدًا، حيث يموت الإنسان القديم بكل أعماله ويولد الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.

يُناجي القديس أغسطينوس النفس البتول المرتبطة بالمسيح عريسها، قائلاً: [حسن لكِ أيتها النفس البتول... فببتوليتكِ تحتفظي في قلبك ما قد ولدته ثانية (الإنسان الجديد)، وتحتفظي في جسدك ما انجبتيه، إذ حبلتي بمخافة الرب وولدتي روح الخلاص[289]].  

5. الله مخلص شعبه:

إن كان الله يغضب لا لينتقم لنفسه إنما ليؤدب معلنًا حبه لخلاصنا، لذا دعى فترة عضبه "لحيظة"، تعبر سريعًا، منتظرًا أن يُكافيء مؤمنيه، بينما يشرب الأشرار من كأس شرهم ما قد ملأوه بانفسهم.

حياتنا بكل آلامها هي "لحيظة" تعبر بنا سريعًا، لا تُقارن أمام أبدية مجيدة بلا نهاية. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [توجد راحة في الموت، يتحدث عنها النبي قائلاً:"هلم يا شعبي أدخل مخادعك واغلق أبوابك خلفك، اختبئى نحو لحيظة حتى يعبر الغضب"[290]].

ما أجمل أن تختتم تسبحة القيامة التي بين أيدينا بالعبارة الرائعة: "لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقب" [26]. أنه أب سماوي يشتاق ألا يُعاقب، أن أدّب إنما يكون كمن خرج من مكانه أي من الرحمة المملوءة ترفقًا وحنانًا. إثمنا وعصياننا يجعلانه كمن يخرج من مكانه ليُعاقب... حتى في خروجه يطلب أن يضمنا إليه ليرجع بنا إلى عرش رحمته.

<<

 

 

 


 

الأصحاح السابع والعشرون

تحطيم لويثان

إن كان الله يخرج من مكانه ليُعاقب، ففي خروجه لا يطلب هلاك الخطاة وإنما الخطية، لا يُريد الدخول في معركة مع البشرية إنما مع إبليس الحية القديمة المخادعة والتنين البحري... إنه يدخل إلى معركة فريدة خلال الصليب - سيف الحق - القاتل للشر والواهب الحياة لشعبه.

1. قتل لويثان                        [1].

2. حماية الكرمة المشتهاة           [2-9].

3. ضرب العدو                       [10-11].

4. الله يجمع شعبه                   [12-13].

1. قتل لويثان:

"في ذلك اليوم يُعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم لويثان الحية الهاربة، لويثان الحية المتحوِّية، ويقتل التنين الذي في البحر" [1].

إن كان البعض يرى في تعبير "في ذلك اليوم" إشارة إلى اليوم الأخير الذي فيه يضرب الله الشيطان ضربته القاضية النهائية بتمتع الكنيسة بالحياة الأبدية وهلاك عدو الخير، ويحاول اتباع الملك الألفي أن يحسبوه يوم المُلك الألفي حيث يتحطم سلطان إبليس، ألا إننا نراه يوم الصليب، أو يوم الفداء الذي فيه ملك الرب على خشبة الصليب، وفيه "محا الصك الذي علينا... إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 14- 15)، إذ بدأ المُلك الألفي (الروحي) بصلب الرب.

كما سبق فقلت أن اتجاه بعض المفسرين إلى تطبيق نبوات إشعياء الخاصة بالعصر المسياني على الملك الألفي هو ثمرة طبيعية لعدم تذوق المسيحيين في العصر الحالي لقوة الصليب في حياتهم واختبارهم للسلطان الإلهي ضد إبليس وأعماله وعدم تلامسهم مع الحياة الغالبة الداخلية المملوءة فرحًا وسلامًا فائقًا للعقل.

ما هو هذا السيف القاسي الذي به يُعاقب الرب لويثان إلاَّ كلمة الله السيف الماضي ذو الحدين الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ عب 4: 12). خلال الكلمة نلتقي بالمسيح نفسه "كلمة الله المتجسد المصلوب" المختفي وراء الحروف والكلمات، يعمل دومًا لخلاصنا. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [ابن الله حيّ وفعّال يعمل يومًا فيومًا لخلاص الكل[291]].

معاقبة الحية بالسيف وقتل التنين البحري إنما يعني أن كلمة الله المتجسد، مسيحنا المصلوب والساكن في داخلنا يتسلم قيادة المعركة ليُدين كل شر فينا حتى يُحطم كل ظلمة مقيمًا فينا مملكة النور.

v   لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء... لقد قهر لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب... لقد رُفع جسده على الصليب فخضعت له الأرواح.

القديس أغسطينوس[292]

v   سلب (الرب) الرؤساء والسلاطين وظفر بهم بصليبه. وهذا كان سبب مجيء ربنا لكي يطرحهم خارجًا ويسترد الإنسان الذي هو بيته وهيكله.

القديس مقاريوس الكبير[293]

في دراستنا عن "الروح القدس بين ميلاد الجديد والتجديد المستمر" رأينا أن طقس المعمودية الذي في حقيقته تمتع بالموت مع السيد المسيح والدفن معه والتمتع بقوة قيامته، يقوم على خطين رئيسيين هما: المتع بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه وتحطيم أعمال الإنسان القديم؛ أي التمتع بالسيد المسيح وجحد إبليس وكل طاقاته وأعماله. في مياه المعمودية نتحد بمسيحنا الملك المصلوب محطم لويثان الحية المخادعة والتنين القاطن في المياه.

v   بعد أن تحنوا ركبكم يُطلب منكم أن تنطقوا بهذه الكلمات: "أجحدك أيها الشيطان"... ماذا حدث؟ ما هذا التغير المفاجىء الغريب؟ أنتم الذين كنتم ترتعشون بخوف هل تثورون ضد سيدكم؟ هل تتطلعون إلى مشورته بازدراء؟ ما الذي جاء بكم إلى هذا الجنون؟ متى حلت بكم هذه الجسارة؟ ‎

تقولون: لدينا سيف؛ سيف قوي.

أي سيف هو هذا؟ أي حليف لكم؟ أخبروني.

تجيبون: إننا ندخل في خدمتك أيها المسيح ، لهذا فإننا متجاسرون وثائرون، لأن لنا ملجأ قوي. هذا جعلنا فوق الشيطان. نحن الذين كنا قبلاً نرتعب منه ونخافه، لسنا فقط نجحده وحده  بل ومعه كل مواكبه.

v   يطلب منكم الكهنة أن تقولوا: أجحدك أيها الشيطان وكل مواكبك وكل خدمتك وكل أعمالك.

كلمات قليلة لكنها عظيمة القوة!

الملائكة تقف بجواركم، والقوات غير المنظورة تفرح بتغيركم، ويتقبلون الكلمات من ألسنتكم ويحملونها إلى سيد كل الخليقة، لتنقش هناك في كتب السماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم[294]

2. حماية الكرمة المشتهاة:

إذ يتسلم الرب نفسه قيادة المعركة يصير هو شخصيًا طرفًا فيها لتتمتع كرمة المشتهاة بنصرته وحراسته لها ورعايته واهتمامه بها، لذلك يقول النبي على لسان الرب: "في ذلك اليوم غنوا للكرمة المشتهاة، أنا الرب حارسها، اسقيها كل لحظة لئلا يوقع بها، احرسها ليلاً ونهارًا..." [3-5].

الله نفسه هو مالك الكرمة، يحبها ويشتهيها، وهو الكرام والحارس لها، يتعهدها كل لحظة يرويها ببركاته الإلهية، عينه عليها ليلاً ونهارًا، لا يتركها ولا يتخلى عنها، ينزع عنها الشوك والحسك ليحرقه، ويصالحها مع الآب خلال صليبه (رو 5: 1).

إن كان الصليب قد حطم إبليس وجرده من سلطانه على المؤمنين، فإنه قدم أيضًا البركات التالية:

أ. "غنوا للكرمة المشتهاة" [3]. تُرى لمن قيل هذا إلاَّ للسمائيين الذين أدركوا ثمار الصليب في حياة الكنيسة فتهللت حياتهم وصاروا يسبحون الله مخلص البشر على عمله العجيب فيهم، إذ جعل الأرضيين سمائيين، ورفع الكنيسة إلى حيث العرش تُشارك السماء تسابيحها وليتورجياتها. صارت الكرمة المشتهاة من الله مخلصها موضوع شهوة الملائكة وكل الطغمات العلوية (رؤ 5: 11-14).

إن كان ذكر الله شهوة نفس الإنسان فإن ذلك هو ردّ فعل لحب الله لنا ولاشتهائه إلينا بكوننا كرمه المشتهاه وعروسه المحبوبة لديه وكنيسته التي يشتهي السكنى فيها. يقول المرتل: "لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنًا له. هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا اسكن لأني اشتهيتها" (مز 132: 13-14)؛ "الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (مز 68: 16).

ب. حراسة إلهية: "أنا الرب حارسها... أحرسها ليلاً ونهارًا" [3]. أن كان الله يرسل ملائكته لحماية شعبه من المخاطر الزمنية؛ لكنه يقوم بنفسه بحراستها من ضربات الخطية القاتلة. لقد حُطم العدو بالصليب لا كحدث تاريخي مضى وإنما كعمل إلهي قائم وفعّال، ثبّت صليبه في وسط كنيسته ليحتضنها من كل ضربات العدو مادامت تبقى في احضانه وتطلب حراسته. لذلك يقول القديس مار إفرآم السرياني: [المجد لك يا من أقمت صليبك جسرًا فوق الموت، تعبر عليه النفوس من مسكن الموت إلى مسكن الحياة[295]].

ج. رعاية مستمرة: "أسقيها كل لحظة" [3]؛ إذ يُنزل عليها أمطار نعمته المجانية فتحول قفرها إلى فردوس إلهي. لذا تُناجيه قائلة: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16). ما أحمله من ثمار الروح هو عمله في، ثمر رعايته غير المنقطعة.

بماذا يسقي الله كنيسته الكرمة المشتهاة؟

أنه يهبنا روحه القدوس عاملاً فينا، يهبنا حياته فينا... يعطينا ذاته!

v   سخي هو ذاك الذي يهبنا اعظم كل العطايا، حياته ذاتها!

القديس إكليمندس الاسكندري[296]

v   بسبب نعمة الروح التي أُعطيت لنا، صرنا نحن فيه وهو فينا (1 يو 4: 13)...

خارج الروح نحن غرباء عن الله وبعيدون عنه، أما بشركة الروح فصرنا قريبين للاهوت، فوجودنا في الآب ليس من عندياتنا إنما هو عمل الروح الذي فينا ساكنا في داخلنا.

البابا أثناسيوس الرسولي[297]

د. عدم إدانتها: "ليس ليّ غيظ" [4]. إذ تقبل عطيته المجانية وتتجاوب عمليًا مع نعمته لا تسقط تحت الغضب الإلهي بل بثقة تقول: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، لأن ناموس روح الحياة في المسيح قد اعتقني من ناموس الخطية والموت" (رو 8: 1-2).

يرى البعض أن كلمة "غيظ" يجب أن تقرأ هنا "hemah" وتعني "عنبًا"[298]، فإنه إذ لم يجد عنبًا جيدًا بل شوكًا وحسكًا، أو عنبًا بريًا قام بحرق الشوك والحسك لإعطاء الفرصة للإثمار الجيد.

هـ. حرق الشوك والحسك: "ليت عليّ الشوك والحسك في القتال فأهجم عليها واحرقها معًا" [4]. لقد أخذ على عاتقه مقاومة الشوك والحسك الخانق للكرمة المشتهاة، قائلاً: "ليت عليّ الشوك...". بالفعل حمل الشوك على رأسه حين صُلب، نازعًا العار أو اللعنة عنا ليحملها من أجلنا. وكما يقول القديس مار يعقوب السروجي: [حمل لعنة الأرض بالإكليل الذي وضعوه على رأسه، وحمل ثقل العالم كله كالجبار!... صار لعنة حتى يتبارك به الوارثون الراجعون! بإكليله خلع زرع الحية الملعون... بإكليل الشوك هدم تاج الشيطان الذي أراد أن يكون إلهًا على الخليقة! بإكليل شوكه ضفر إكليلاً لإبنة الأمم، العروس التي خطبها من بين الأصنام، وكتبها لإسمه[299]].

و. مصالحتنا مع الله: "أو يتمسك بحصني فيصنع صلحًا معي، صلحًا يصنع معىي" [5]. هذه هي نهاية عمل الصليب: مصالحتنا مع الله، إذ ونحن بعد اعداء صولحنا مع الله بموت ابنه (رو 5: 10).

v   ابن الله تألم ليجعلنا ابناء لله، وابن الإنسان (نحن البشر) يرفض أن يتألم لكي تستمر بنوته لله!!!

القديس كبريانوس[300]

ز. نمو الكنيسة الجامعة أو إسرائيل الجديدة: "في المستقبل يتأصل يعقوب، يزهر ويفرع إسرائيل ويملأون وجه المسكونة ثمارًا" [6]. لعل الله أراد منهم ألا ينظروا إلى عمله معهم في المستقبل القريب (خلاصهم من السبي البابلي) وإنما خلال المستقبل البعيد حيث يتأصل يعقوب الجديد، فتقوم كنيسة العهد الجديد بكونها إسرائيل الجديد، التي ضمت من اليهود التلاميذ والرسل وكثير من المؤمنين جاءوا بثمار روحيه فائقة ملأت وجه المسكونة. يقول القديس إيريناؤس: [أُلقيت البذار في كل المسكونة... فمن (أورشليم) هذه إستطاع المسيح والرسل أن يأتوا بثمار[301]].

ح. تأديبه لأولاده [7-9]: يُعاملهم كأبناء وليس كأعداء، فيسمح بتأديبهم لأجل خلاصهم وبنيانهم، إذ يقول: "هل ضربة كضربة ضاربيه؟!" [7]، بمعنى هل ضرب الله يعقوب إسرائيل كما ضرب ضاربي يعقوب؟! حينما يضرب شعب إنما لأجل بنيانهم أما ضربة للاعداء ضاربي شعبه فليهدمهم لأنهم مصرون على الجحود ومقاومة الله. بذات المعنى يقول: "أو قُتِل كقتل قتلاه؟!" [7].

"يزجر (بكيل) إذ طلقتها خاصمتها، أزالها بريحه العاصفة في يوم الشرقية" [8]. حتى في الخصومة إنما يُخاصمها كما بكيل، أي يسمح لها بالضيق قدر احتمالها، لأجل تأديبها على خطاياها، حتى وإن بدى أنه قد طلقها وسلمها للريح العاصف القادم من الشرق، أي لأشور أو بابل عام 722 ق.م. و587 ق.م.

3. ضرب العدو:

مقابل تأديبه لأولاده حتى وإن بدى قاسيًا مستخدمًا أشور وبابل، أو كمن قد طلقهم إذا به يسمح بهلاك العدو الشرير؛ فيحول بابل المدينة الحصينة إلى مسكن مهجور متروك كالقفر.

يرى البعض أن الحديث هنا عن السامرة أيضًا التي صارت خرابًا بسبب جهل شعبها الروحي واعتزالها عبادة الله والسقوط في الوثنية [19-11].

4. الله يجمع شعبه:

يرى البعض في ذلك نبوة عن جمع شعب إسرائيل في أواخر الدهور عندما يقبلون الإيمان بالسيد المسيح، غير أن البعض يراها صورة لعمل الله عبر العصور عندما أخرج شعبه من مصر ثم خلصه من السبي البابلي.

ربما يُشير هنا إلى إسرائيل الجديدة، الكنيسة التي جُمعت من بين الشعوب والأمم لتتمتع بالحياة المقامة.

<<

 


 

الأصحاح الثامن والعشرون

إنهيار السامرة وتمجيد ليهوذا

يبدأ النبي بمجموعة نبوية جديدة (ص 28-33) تكشف عن سوء الحالة الإجتماعية وأيضًا السياسية. لقد ضمت ستة ويلات لأناس أشرار في آفرايم ويهوذا والأمم المجاورة، إذ احتقروا الله وكلمته واتكلوا على ذراع بشري غريب ورجعوا إلى العرافين يستشيرونهم.

يكشف هذا القسم عن عدل الله فمع محبته لشعبه بل ولكل البشرية لكنه في غير محاباة لا يطيق الخطية ولا يقبل الرجاسات في حياة الإنسان. لهذا ينزل بالويلات على إسرائيل أو آفرايم لأنها انهارت روحيًا بينما يُمجد مملكة يهوذا التي بقيت مقدسة زمانًا حتى تشبهت فيما بعد بأختها إسرائيل وسقطت في رجاسات أبشع.

1. ويل للسامرة                      [1-6].

2. كشف وفضح للخطية             [7-15].

3. الحاجة إلى المخلص              [16-22].

4. معاملات الله مع شعبه            [23-29].

1. ويل للسامرة:

ينزل الله بالويل على السامرة أو إفرايم، سامحًا لآشور سنة 722 ق.م. أن يسطو على البلاد ويخرب المدن ويحمل أعدادًا ضخمة إلى السبي. كان ذلك تأديبًا لإسرائيل ودرسًا عمليًا ليهوذا، فقد استطاع سكان أورشليم عاصمة يهوذا أن يصعدوا على الأسطح ليروا السماء وقد احمرت بغضب الله ضد إسرائيل، فقد ارتفعت ألسنة النيران في كثير من بيوت السامرة وما حولها. ومع هذا لم تتعظ مملكة يهوذا إذ سلكت فيما بعد في ذات خطايا السامرة بل وأكثر منها كما جاء في مثل أهولة وأهوليبة الوارد في حزقيال 33 يروي هذا الأمر في شيء من التفصيل.

الأعداد [1-6] تصّور سقوط السامرة هذه التي بُنيت على تل مرتفع وقد أحاطت بها الحدائق الشهية من كل الجوانب حتى حُسبت من أجمل وأحب مدن فلسطين[302]. الوادي تحتها يبلغ إلى ساحل يزرعيل غني بكرومه وحقوله المثمرة. لقد وهبهم الله فيض خيرات كثيرة وغنى لكنهم تركوا واهب العطايا وانحرفوا إلى الآلهة الوثنية التي تتعبد لها الأمم المحيطة؛ وارتبطت عبادتهم بالحياة المدللة المترفة مع رجاسات كثيرة لذلك أراد الله أن يؤدبهم. أثار قلب ملك آشور ليتطلع إلى السامرة الجميلة الغنية والمدن المحيطة بها فبعث جيشًا عظيمًا لأحتلالها. أما إسرائيل فاتكلت على ذراعها البشري ونسيت إلهها، وحسبت أنها قادرة على تحطيم العدو فتحطمت عاصمتها وكثير من مدنها وصارت مثلاً حيًا لكل من يتكل على الذراع البشري متجاهلاً عناية الله.

يقدم النبي صورة شعرية رائعة لهلاك السامرة ومجد البقية المخلصة:

أ. اعتاد أغنياء السامرة أن يقيموا ولائم دائمة يقدمون فيها الخمور والمسكر بلا حساب، فيسكرون ويلهون، وكانوا يضعون أكاليل زهور على رؤوسهم علامة المجد وللزينة.

يرى النبي مدينة السامرة كرأس مدن إسرائيل وقد احاطت بها الحدائق أشبه برأس أحد هؤلاء الأغنياء الذي يأكل ويشرب ويلهو ويسكر ويمارس الرجاسات وعلى رأسه إكليل زهور. ينزل الله بالويل على هذه الأكاليل فتصير للخزى والعار لا للمجد والبهاء؛ يذبل منظرها وتستحق أن تنحدر مع الرأس التي تحملها إلى التراب لتُلقى في المزبلة وتُداس بالأقدام [2-3].

ب. إن السيد الرب يرسل جيش آشور كرجل واحد قدير (شديد) وقوي [2]... وكأن ما تم على أيدي جيش ملك آشور ليس مصادفة، ولا بتخطيط بشري أو امكانيات إنسانية، إنما بسماح إلهي يهبهم القدرة والقوة ويعطيهم الوحدة لتحقيق خطة إلهية هي تأديب السامرة!

ج. يُشبه جيش آشور الذي يُحاصر السامرة ويذلها كمن ينزل برأس رجل غني تحمل أكليل زهور إلى التراب، بعاصفة ثلجية وسيول مياه جارفة. فالورد لا يحتمل الثلج فيموت، ولا يحتمل سيول المياه فينجرف إلى الأرض بشدة دون استقرار حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من المزبلة [2].

د. يُشبه السامرة بشجرة تين تحمل باكورة قليلة تُقتطف في لحظات ولا يبقى فيها ثمر [4].

هـ. إن كان الله يسمح بهذه المذلة نازعًا كل مجد وبهاء للتأديب، فأنه يتقدم بنفسه ليكون هو نفسه مجدًا وبهاءًا لمؤمنيه: "في ذلك اليوم يكون رب الجنود إكليل جمال وتاج بهاء لبقية شعبه، وروح القضاء للجالس للقضاء، وبأسًا للذين يردون الحرب إلى الباب" [5-6]. يصير الله هو جمالنا، وتاج بهائنا، وأيضًا عدالتنا المدافع عن المساكين والمظلومين، وقائد معركتنا يهبنا النصرة الروحية ضد قوات الظلمة.

مقابل الانهيار الذي حلّ بالسامرة التي تمثل جحود الإيمان يُقدم الله نفسه بهاء مجد وبرًا وعدالة ونصرة لبقية شعبه المخلصين إليه [5]؛ ويلاحظ هنا الآتي:

أولاً: يقول: "في ذلك اليوم" [5]؛ هو يوم الفداء أو الصلب الذي فيه حمل الرب عارنا على الصليب ليصير هو نفسه إكليلنا، قَبِل الموت عنا ليهبنا حياته وقيامته وبره، احتمل الضعف ليهبنا بضعفه قوة النصرة.

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الصليب كعلامة مجد وقوة... قائلاً:

[الصليب هو مجد. أنظر ماذا يقول الإنجيلي... "الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد" (يو 7: 39).

الصليب هو الذي أزال العداوة بين الله والناس مقدمًا المصالحة،

جاعلاً الأرض سماء،

جامعًا الملائكة مع البشر،

محطمًا قلعة الموت،

مضعفًا سطوة الشيطان،

مطفئًا سلطان الخطية،

منقذًا العالم من الخطأ ومسترجعًا الحق،

طاردًا الشياطين،

مهدمًا معابد الأوثان ومحولاً مذابحهم ومبطلاً ذبائحهم،

زارعًا الفضيلة ومؤسسًا الكنيسة!

الصليب هو ارادة الآب، مجد الابن، وفرح الروح القدس. إنه موضوع فخر بولس إذ يقول: "حاشا ليّ أن افتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلا 6: 14).

الصليب أكثر لمعانًا من الشمس، وأبهي ضياء من أشعِّتها، فعندما اظلمت الشمس أبرق الصليب. الشمس أظلمت لا لأنها انطفأت، بل لأن ضياء الصليب غلبها...

الصليب يكسر قيودنا، ويبطل سجن الموت.

إنه علامة حب الله (يو 3: 16)...

الصليب هو حصن حصين، وترس منيع، حامي للأغنياء، وينبوع للفقراء، مدافع عن الساقطين في الشباك، ودرع للذين هم في هجوم، ووسيلة لقهر الشهوات ونوال الفضائل، وآية عجيبة مدهشة![303]].

ثانيًا: ما هي بقية شعبه المختارة التي تتزين برب الجنود وتتبرر به وتغلب؟ يرى البعض أن الحديث هنا عن مملكة يهوذا التي بقيت زمانًا في حالٍ أقضل من آفرايم، ويرى آخرون أن هذه البقية هم الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح المصلوب مثل الرسل والتلاميذ والمريمات ويوسف الرامي ونيقوديموس الخ... وآخرون يرون أنها البقية التي تخلص في أيام الدجال حيث يسود العالم روح الارتداد و لكن من أجل المختارين يقصر الله الأيام (مت 24: 22)...

على أي الأحوال، هذه البقية تضم كل نفس تجري إلى المخلص رب الجنود لتختفي فيه وتستريح عند قدميه وتستظل بصليبه، أيا كان الوقت!

2. كشف وفضح للخطية:

بعدما تحدث عن تأديب آفرايم يبدو أنه عاد ليتحدث عن خطايا يهوذا، إذ يقول: "ولكن هؤلاء أيضًا" [7]؛ كشفها وفضحها، مصورًا مدى انحلال يهوذا الأخلاقي:

أ. السُكر: "ضلوا بالخمر وتاهو بالسُكر؛ الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر" [7]. إن كانت القيادات في السامرة عاصمة إسرائيل قد فسدت بالمسكر فإن القيادات الدينية في أورشليم قد استسلمت لذات الخطأ.

يقصد بالنبي هنا "الأنبياء الكذبة" الذين تنبأوا من عندياتهم ليداهنوا الكهنة المنحلين والقيادات المدنية. هؤلاء - كما جاء في سفر إرميا- كانوا يتحدثون بالناعمات أي بالكلمات الرقيقة المخادعة قائلين بأن الشعب في خير وسلام وأنه لن تَحِلّ بأورشليم أو بالهيكل تأديبات... وهذا ثمر طبيعي لترك كلمة الله والارتباك بالنفع المادي والأدبي.

إن كان هذا هو حال الكاهن والنبي فماذا يكون حال الشعب؟!

ب. الضلال والظلم: "ضلاّ في الرؤيا، قلقا في القضاء" [7]. إذ ترنح الكاهن والنبي الكذاب بالمسكر فقدا وعيهما الروحي فقدما رؤى مضللة، لأن بصيرتهما الداخلية قد اظلمتا. ولذات السبب فقدا قدرتهما على القضاء العادل، فسببنا قلقًا وارتباكًا وسط الشعب.

بمعنى آخر كل خطية تسلم الإنسان إلى خطية أخرى؛ فانشغال الكاهن والنبي بالموائد وحياة الترف سحبهما إلى الانهماك في شرب الخمر ليسقطا في السُكر، وهذا يفسد بصيرتهما الداخلية فيُقدما رؤى مضللة، وبالتالي يفقدا قدرتهما على العدالة ليقضيا بالظلم...

ج. نبوات كاذبة: "فإن جميع الموائد امتلأت قيئًا قذرًا، ليس مكان" [8].

يرى النبي الموائد قد ملأت المدينة وانهمك الكل في الأكل والشرب بشراهة بلا حدود حتى صاروا يتقيأون ليعودوا فيأكلون، وكانت هذه عادة الرومان. صار الموضع كله بل المدينة كلها مملوءة قيئًا وقذارة حتى لم يوجد مكان يمكن للإنسان أن يستريح فيه.

هذه الصورة الخارجية تكشف عن الحالة الروحية ليهوذا فقد تقيأ الأنبياء الكذبة نبوات هي من عندياتهم وملأوا الموضع بما هو غير طاهر ولا مقدس.

هذه صورة الإنسان المستهتر الذي تُفسد الشهوات كل كيانه فتمتلىء نفسه كذلك قلبه وفكره واحاسيسه وكل طاقاته ومواهبه بالرجاسات، ليصير أشبه بمدينة مملوءة فسادًا، فيقول المخلص القدوس: "وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (مت 8: 20).

لقد افسد الإنسان الحياة فلم يجد القدوس له موضعًا أو مكانًا يستريح بيننا، ومع هذا جاء ليسند رأسه على الصليب فنجد نحن لنا مكانًا في حضن الآب.

حين تمتلىء موائدنا الداخلية قذارة يُقال للرب "ليس مكان" [8]، عوض القول: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمرة النفيس" (نش 4: 16).

ومع هذا فان المخلص مشتاق أن يُهيىء لنا مكانًا فيه، قائلاً لنا: "هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة واسترك بيدي حتى اجتاز" (خر 33: 21-22).

د. الاستهزاء بالنبي: صار الكهنة والأنبياء الكذبة في سكرهم يستهزئون بإشعياء النبي قائلين: "لمن يُعلِّم معرفة!؟ ولمن يُفهِم تعليمًا؟! أللمفطومين عن اللبن؟! للمفصولين عن الثدي" [9]. كأنه يقولون إنهم أصحاب معرفة وعلم فلماذا يُريد أن يعلمهم شيئًا؟! ليذهب إلى المفطومين من اللبن ويقدم لهم نبواته ووصاياه التي لا تليق إلاَّ بسذج الذين لا تفكير لهم والرضع غير الناضجين.

"إنه أمر على أمر، أمر على أمر، فرض على فرض، فرض على فرض؛ هنا قليل هناك قليل" [10]. كأن النبي يُحدث أطفالاً صغارًا، يكرر لهم الأوامر والفرائض ويُقدم لهم الصغائر... إنه أشبه بمن يمسك طفلاً يعلمه المشي يسحبه تارة يمينًا وأخرى يسارًا... صورة لإستهتار الكهنة والأنبياء السكرى بإشعياء النبي وتعاليمه!     

ما هي عقوبة الساخرين به وبتعاليمه ونبواته؟ يقول النبي: "إنه بشفة لكناء وبلسان آخر يُكلم هذا الشعب" [11]. هم سخروا بلغة النبي أو نبواته فحسبوه كمن يعلم أطفالاً حديثي الفطامة، لذلك يرسل لهم الله عدوًا غريب اللسان يصرخ في وجههم ولا يفهمون كلماته فيصيرون كأطفال بلا معرفة. رفضوا التعلم من إشعياء وسخروا به فأرسل لهم الرب سادة آشوريين يعلمونهم خلال لغة العنف والاستعباد مع المذلة.

"الذين قال لهم: هذه هي الراحة (راحتي) اريحوا الرازح، وهذا هو السكون؛ ولكن لم يشاؤا أن يسمعوا" [12]. لم يشاؤا الاستماع لصوت الله القائل بأن راحته هي في إراحتنا للرازحين المثقلين بالأتعاب. لقد اهتم الكهنة والأنبياء الكذبة بالشكليات الخارجية لا بإراحة الله نفسه الذي يستريح في شعبه.

v   قيل بالنبي: "هذه هي راحتي: اريحوا الرازح" [12]. حقق هذه الراحة للرب أيها الإنسان عندئذ لا تحتاج إلى القول: "إغفر ليّ". أرح المتعبين، افتقد المرضى، إعطِ قوتًا للفقراء، فإن هذه بالحقيقة هي صلاة... كل الوقت الذي فيه تتممون راحة الرب إنما هو وقت صلاة...

إحذر أيها الحبيب لئلا تأتيك فرصة لتقدم راحة لإرادة الله فتقول: الآن وقت للصلاة، سأصلي وبعد ذلك أعمل!     

الأب أفراهات[304]

ليسمعوا لصوت الرب ويتحدثوا معه لا بلغة الشكليات بل بلغة الطاعة العملية المريحة لله في أولاده. ليتعلموا ذلك كأطفال، وليتدربوا عليه متجاهلين أنهم كهنة وأنبياء أصحاب معرفة وعلم حتى لا يسقطوا إلى الوراء وينحدروا في فخاخ العدو كصيد أو فريسة [13] مصيرها الموت المحقق.

يجيب هؤلاء المستهزئين قائلين: "قد عقدنا عهدًا مع الموت، وصنعنا ميثاقًا مع الهاوية، السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا لأننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش أستترنا" [15]. يعلنون أنهم لا يخافون الموت ولا يرهبون الهاوية فقد دخلوا معهما في عهد، يعرفون كيف يلجأون إلى الكذب فلا يسقطون تحت تأديبات أو ضيقات لأن دستورهم هو الغش.

إنهم رمز لضد المسيح وأتباعه بكونه الطاغية الذي يُقيم عهدًا مع الشكليين في العبادة (دا 9: 27) ليعملوا بلا خوف من موت أو هاوية، أما عمل السيد المسيح فهو تحطيم هذا العهد لإقامة عهد مع الآب ومصالحة أبدية مع مؤمنيه.

3. الحاجة إلى المخلص:

إن كان عدو الخير يعمل بكل طاقاته لرد المؤمنين عن الحق، يعمل بصور مختلفة في كل العصور خاصة في أيام الارتداد (ضد المسيح)، فإن الرب يتقدم بنفسه لمساندة أولاده ومؤمنيه ضد هذا العمل الشيطاني.

"لذلك هكذا يقول السيد الرب: هأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا، من آمن لا يهرب" [16].

هكذا في وسط الصورة القاتمة يتنبأ إشعياء النبي عن المسيا بكونه حجر الزاوية وحجر الأساس الذي تقوم عليه الكنيسة:

أ. حجر الأساس في صهيون: يقول المرتل: "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا" (مز 118: 22-23) (راجع مت 21: 42؛ أع 4: 11؛ رو 9: 33؛ أف 2: 20؛ 1 بط 2: 6، 8)، هو حجر أساس تقوم عليه الكنيسة، حجر امتحان جُرب من الشيطان لكي بنصرته يهبنا النصرة؛ حجرًا كريمًا لا يقدر بثمن. هو حجر الزاوية الذي ربط اليهود مع الأمم كحائطين تلاحما معًا في الإيمان به[305]. من آمن به لا يهرب (يخزى)... هكذا يقدم لنا إشعياء نبوة مسيانية تكشف عن شخص السيد المسيح ومركزة بالنسبة للكنيسة وغناه ومجده والثقة فيه وعدم تغيره ورفضه.

v   المخلص هو الحجر المختار، رذله هؤلاء الذين كان يجب عليهم بناء مجمع اليهود، وقد صار رأس الزاوية. يُشبهه الكتاب المقدس بحجر زاوية لأنه يجمع الشعبين معًا: إسرائيل والأمم في إيمان واحد وحب واحد (أف 2: 15).

القديس كيرلس الكبير[306] 

v   من هو هذا الذي نتحدث عنه؟

"الحجر الذي رذله البناؤون قد صار رأس الزاوية" (مز 118: 23)؛ "لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله" (أف2: 15-16)؛ أي الختان والغرلة.

القديس أغسطينوس[307]

ب. يُقام عليه مبنى روحي [17]، خيط قياسه هو الحق ومطماره العدل. لذا يُقام المبنى مستقيمًا ليس فيه اعوجاج، يسكنه الحق والعدل، اذ يسكنه الله نفسه مع مؤمنيه.

إن كانت الكنيسة هي المبنى الحيّ المقام على شخص السيد المسيح كأساس لها، فإن إنجيله هو الحق وصليبه هو العدل الملتحق بالرحمة. بالإنجيل والصليب تُبنى كنيسة المسيح في استقامة كموضع أمان. أما من يلجأ إلى الكذب كالأنبياء الكذبة فيصير لهم البرد ملجأ لهم وتجرف السيول أعماقهم المستترة، فيذهب كل رجائهم باطلاً، ويفقدون الأمان. يزول عهدهم مع الموت والهاوية، ويجرفهم السوط كسيل ينزل بهم حتى الأرض فيصيرون للدوس [18]. مع كل صباح ومع كل مساء تبلغهم أخبارًا جديدة مزعجة بسبب هجوم الأعداء المستمر. إنهم لا يجدون موضعًا يكفيهم للتمدد أثناء النوم ولا غطاء يلتحفون به من البرد.

"لأنه كما في جبل فراصيم يقوم الرب، وكما في الوطاء عند جعبون يسخط ليفعل فعله فعله غريب، وليعمل عمله عمله الغريب" [21].

"فراصيم" إسم كنعاني معناه "الانفجارات" مكان في وادي الرفائيين (2 صم 5: 20؛ 1 أى 14: 11)، وهو جبل فراصيم قرب وادي جبعون وربما كان موضعه اليوم "رأس السنادر". قول إشعياء هنا: "لأنه كما في جبل فراصيم يقوم الرب" يعني أن الله يقتحم أعداءه فجأة ويُحطمهم تمامًا[308] كما فعل مع داود النبي عند جبل فراصيم عندما قال: "اقتحم الرب أعدائي أمامي كاقتحام المياه" (2 صم 5: 20)؛ وأيضًا قوله: "وكما في الوطاء عند جبعون" يعني أنه يعمل كما في أيام يشوع ضد الكنعانيين في وادي جبعون (يش 10: 10).

ما هو الفعل الغريب الذي يعمله الله إلاَّ معاقبة الخطأ، فإن الله لا يُسر بالمعاقبة إنما يصنع ذلك عن ضرورة كأمر غريب عنه، إذ يقول إرميا: "فإنه ولو أحزن يُرحم حسب كثرة مراحمه، لأنه لا يُذِل من قلبه ولا يحزن بني الإنسان" (مرا 3: 32-33)، كما قيل: "لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقب إثم سكان الأرض" (إش 26: 24).

هكذا لا يجد الأشرار خاصة الذين يسخرون بكلمة الرب والنبوات والذين يرفضون الإيمان بالمسيا موضوع النبوات ومركز الكتاب كله رحمة أو ملجأ بالرغم من عدم رغبة الله في المعاقبة. يقول: "فالآن لا تكونوا متهكمين لئلا تتشدد ربطكم" [22] قاصدًا لا الربط التي يُقيد بها الشعب عند سبيه إلى آشور أو بابل وإنما قيود الظلمة الأبدية التي تربط جاحدي الإيمان ورافضي النبوات، عندما تُدان الأرض كلها [22].

4. معاملات الله مع شعبه:

يشبه الله بزارع لا يقف عند الحرث وتشقيق الأرض وتمهيدها للزراعة إنما يبذر البذار أيضًا. فإن كان الله يسمح بالتأديب إنما يكون كالزارع الذي يحرث الأرض ويُشققها ويُنقيها من الحجارة ويمهدها وهذا هو العمل السلبي، لكنه لا يقف عند ذلك بل يُقدم عملاً إيجابيًا إذ يلقي ببذار كلمته في حقل هذا العالم. يُتقدم الرب نفسه كبذرة يلقيها بنفسه في قلوبنا كي يُقيم جنته فينا. يعرف أن يبذر الشونيز Nigella Sativa [نبات من الفصيلة الشقيقية، ذو ازهار خيمية شبيهة بنبات اليانسون، بذره يسمى حبة البركة، وهو لا يدرس بل يُخبط بالعصا[309]]، والكمون والحنطة والشعير والقطاني كل في مكانه وبالطريقة التي تناسبه.

أننا فلاحة الله وحقله وكرمه، يهتم بنا بكونه إلهنا الخاص بنا والمنتسب إلينا ونحن إليه، "فيرشده بالحق يعلمه إلهه" [26]...

كزارع يعرف كيف يتصرف بكل محصول؛ بعضها يحتاج إلى دراسة بالنورج  وبعضها تحتاج إلى الضرب العصا لاستخراج البذار من القش، وبعضها لا يحتاج إلى دراسة ولا إلى ضرب [27]، وفي هذا كله لا يطلب إبادة محاصيله وسحقها إنما جمعها [28]... أنه الله الرحوم حتى في تأديباته، يطلب ما هو لخلاص أولاده وبنيانهم، يعمل بحكمة عجيبة وعظم فهم [29].  

<<


 

الأصحاح التاسع والعشرون

وَيل لإريئيل

يضم هذا الأصحاح الويلين الثاني والثالث من الويلات الستة التي نطق بها الله على لسان إشعياء النبي: ويل لإريئيل [1-14] وويل للذين يظنون في أنفسهم أنهم أحكم من الله [15-24].

الويل لإريئيل خاص بأورشليم التي سقطت تحت التأديب حين حاصرها سنحاريب الآشور ي بجيشه الذي حطمه ملاك الرب، كما ينطبق على خراب أورشليم على يد الكلدانيين وأخيرًا على يد الرومان. هذا وينطبق الويل على كل نفس يُريدها الله مدينته المقدسة، أورشليمه التي تضم مقدساته فاذا بها تلهو في الرجاسات وتخلط بين الحياتين المقدسة والدنسة.

انشغل اليهود بشكليات العبادة مثل الاهتمام بمذبح المحرقة (إريئيل) دون الحياة  الإيمانية الداخلية المقدسة، لهذا سقطوا تحت التأديب القاسي وإن كان الله لا ينسى البقية الأمينة المخلصة له، وفي نفس الوقت ينتظر رجوع حتى جاحدي الإيمان إلى الحق.

1. الويل الثاني لإريئيل                         [1-8].

2. انتشار الجهل بين شعبه                    [9-12].

3. شكلية العبادة                               [13-14].

4. الويل الثالث لمن يتكل على حكمته         [15-16].

5. وعود ثمينة للمؤمنين                      [17-24].

1. الويل الثاني لإريئيل:

"الويل لإريئيل لإريئيل قرية نزل عليها داود" [1].

كلمة "إريئيل" معناها "موقد الله الناري" أو "أسد الله" أو "الأسد القوي". وهو اسم رمزي يقصد به أورشليم، بكونها المدينة التي تضم في الهيكل مذبح المحرقة المتقد نارًا  (حز 43: 15-16) وبكونها عاصمة شعب الله كالأسد ملك الوحوش.

يرى Ironside أن أورشليم كانت قديمًا كأسد الله لكنها تصير أشبه بموقد ضخم للذبائح يُقدم عليه شعبها على أيدي أعدائهم الألداء[310].

استخدام داود الملك والنبي إريئيل عاصمة له لمدة طويلة، وبنى قصره على جبل صهيون حيث أُعلن مجد الله بعد ذلك هناك بطريقة عجيبة. وبنى ابنه سليمان الهيكل على جبل المريَّا داخل أورشليم، فصارت المدينة مركز العبادة الجماعية، فيها تُقدم ذبائح للرب، وتُحسب كأسد في قوتها الروحية. لكنها إذ انحلت عن روح العبادة الحقة وانشغلت بالشكليات بلا روح وانغمست في الرجاسات مع إصرار على عدم التوبة حلّ بها الويل.

لقد اعتاد الشعب أن يأتي إلى أورشليم للاحتفال بثلاثة اعياد سنوية [1]، لكن الله في تأديبه يحول هذه الأعياد إلى نوح وحزن [2].

ماذا يعني بقوله "وتكون ليّ كإريئيل" [2]؟ ربما أراد أن يعلن إنها في حزنها تصير كموقد نار سمح الله باشعاله لتأديب شعبه المنحرف، وربما قصد أنه وإن سمح بهزيمتها ومضايقتها لكنه يجعلها كمذبح ناري له تحرق العدو مغتصبها كذبيحة للرب[311].

يعبر عن مقدار الحزن الذي يحل بأورشليم عند حصارها، قائلاً: "فتتضعين وتتكلمين من الأرض وينخفض قولك من التراب ويكون صوتك كخيال من الأرض، ويشقشق قولك من التراب" [4]. بسبب حزنها الشديد يجلس سكان أورشليم في التراب كمن هم في "جنازة" حسب التقاليد الشرقية القديمة، ويخرج صوتها كما من الأرض؛ وإذ لا يجدوا أحدًا من الأحياء يستشيرونه يلجأون إلى الموتى يطلبون مشورتهم (إش 8: 19)، وتخرج الأصوات خافتة كما في روحانية، وهذا نوع من خداع الشياطين.

ومع هذا فإن الله في محبته يتدخل فجأة بذراعه الرفيعة ليُخلص مدينته وشعبه من جيش سنحاريب (إش 37: 33-36) فيحل غضب الله على العدو الذي يبدده كالغبار الناعم وكالعصافة في مهب الريح، مصورًا هذا الخلاص كرمز لخلاصنا بالصليب وخلاص الكنيسة في أواخر الدهور من المسيح الدجال:

أ. انهيار العدو بالرغم من كثرة عدده وقوته: "ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق وجمهور العتاة كالعصافة المارة" [5]. هؤلاء يشيرون إلى إبليس وملائكته الذين بلا عدد، يحاربون البشرية بلا هوادة، لكنهم أمام الصليب يصيرون كلا شيء.

v   لا نخاف الشيطان حتى ولو كان روحًا بغير جسد، فليس شيء أضعف منه ذاك الذي جاء ليتعامل معنا وهو غير جسدي، وليس أحد أقوى من الشجاع ولو كان يحمل جسدًا قابلاً للموت!

القديس يوحنا الذهبي الفم[312]

ب. تحقيق غلبة سريعة: "ويكون ذلك في لحظة بغتة" [5]، إشارة إلى إمكانية الصليب الفائقة للغلبة على الأعداء.

v   مع الصلاة ارشم نفسك بالصليب على جبهتك وحينئذ لا تقربك الشياطين لأنك تكون متسلحًا ضدهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم[313]

ج. خلاص الرب لهذه المدينة المنكوبة يرافقه علامات خاصة بالطبيعة. "من قبل رب الجنود تُفتقد برعد وزلزلة وصوت عظيم بزوبعة وعاصف ولهيب نار آكلة" [6]. هذه العلامات تُشير إلى ما حدث أثناء صلب السيد المسيح من ثورة للطبيعة ككسوف الشمس وخسوف القمر وحدوث زلزلة... وأيضًا يُشير إلى ما سيحدث قبيل مجيء السيد المسيح الأخير للدينونة (إش 28: 21؛ 30: 30؛ زك 14: 1-6؛ 2 تس 1: 6-8).

لعل غاية هذه العلامات توبيخ الإنسان الذي اقامه الله سيدًا للطبيعة بكونه صورة الله ومثاله، فإن الطبيعة الجامدة تشهد لأعمال الله الخلاصية وتستنكر جحود الإنسان وتجاهله لخالقه ومخلصه.

د. تبديد تام للأعداء، إذ يختفون كما في حلم الليل متى استيقظ الإنسان يختفي كل ما رآه، بل ويصعب عليه حتى أن يتذكره [7].

العدو الذي حاول اغتصاب شعب الله يكون كالجائع الذي يحلم أن يأكل أو كالعطشان الذي يحلم أنه يشرب ليستيقظ فيجد نفسه كما هو جائعًا وظمآنًا [8].

2. انتشار الجهل بين شبعه:  

بجانب ما اتسم به الشعب من تغطية الحياة الشريرة بشكليات العبادة جهلهم بكلمة الله وعدم خبرتهم لقوة الوصية في حياتهم.

إن كان الروح القدس يُسكر النفس فيهبها فرحًا سماويًا ينسيها مرارة الضيق والألم، فان الجهل الروحي يُسكرها بشربها كأس غضب الله، أما ثمر هذا الجهل فهو:

أ. التواني [9]، فقد تراخى الشعب واهملوا خلاص أنفسهم، وصاروا كما في حالة سُبات [10]، كنائمين فاقدين الأحاسيس الروحية والمشاعر المقدسة واليقظة والنشاط والصلاة الدائمة والالتقاء مع الله في حيوية.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[314]: [إن الرسول بولس إذ اتهم الشعب بالسقوط في حالة سبات وعدم يقظة (رو 11: 7-8)]، التجأ إلى داود النبي وإشعياء حتى لا يُحسب هذا الاتهام من عندياته.

ب. الاصابة بنوع من الانبهار دون التمتع بعمل الله. فالحق كالشمس مشرق أمامهم، لكن عيونهم الضعيفة افقدتهم التمتع بنورها، فصاروا مبهورين بها دون معاينتها.

ج. التلذذ بالحياة المترفة [9].

د. رفض المشورة الصالحة، فقد وُجد بينهم انبياء [10] كعيون روحية يمكن للشعب كما للقيادات أن يعاينوا الحق ويدركوا خطة الله وارادته. تمتع الأنبياء بالرؤى لذلك دُعوا بالرائين أو الناظرين [10]، لكن هذه الرؤى بقيت سفرًا مختومًا، إما لأن ما جاء في السفر كان بالنسبة لهم غامضًا أو لعجز الشعب عن قراءته.

3. شكلية العبادة:

لعل أخطر عدو يواجه المتدينيين هو الرياء أو الإهتمام بالشكليات دون جوهر الحياة المقدسة. لقد بدأ حزقيا الملك اصلاحاته لكن البعض ترك عبادة الأوثان من الخارج لا من قلبه؛ وجاءوا يقتربون إلى الله بشفاههم دون قلوبهم، يهتمون بمديح الناس لا الله، لهم صورة التقوى وينكرون قوتها.

"لأن هذا الشعب اقترب إليّ بفمه واكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني وصارت مخافتهم مني وصية الناس معلّمة" [13].

يربط العلامة أوريجانوس بين اقتراب الشعب إلى الله بشفتيه دون القلب وبين انتشار الجهل، أي ادعاء المعرفة الروحية مع عدم إيمانهم بالسيد المسيح، فيقول: [عندما تصير الكلمات النبوية ككلمات سفر مختوم، ليس فقط بالنسبة لا يعرفون الحروف وإنما بالنسبة للذين يمتهنون المعرفة عندئذ يقول الرب أن شعب اليهود يقترب إلى الرب بفمه فقط ويكرمه بشفتيه لان قلبهم مبتعد عن الرب بسبب عدم إيمانهم بيسوع[315]].  

يرى القديس إكليمندس الأسكندري أن الله كشف هذا العيب لا للانتقام منهم ولا لفضحهم وإنما لكي يدركوا ضعفاتهم فيرجعوا إليه طالبين خلاصهم. [هنا محبته الرعوية جعلته يظهر خطاياهم كما يظهر لهم الخلاص جنبًا إلى جنب[316]].

من تعليقات الآباء عن تكريم الله بالفم دون القلب:

v   كثيرون لهم فهم في شفاههم لا في قلوبهم[317].

v   لقد اقتربوا بالجسد لكنهم وقفوا بعيدًا بقلوبهم. من كان بالجسد أقرب إليه من أولئك الذين رفعوه على الصليب؟! من كانوا أكثر بعدًا عنه مثل الذين جدفوا عليه؟... ذات الأشخاص الذين كانوا قريبين منه كانوا أيضًا بعيدين عنه. كانوا قريبين بشفاههم بعيدين بقلوبهم[318]

القديس أغسطينوس

v   لنلتصق بالذين يتعهدون السلام بتقواهم لا بالذين يمتهنون الرغبة في التقوى بالرياء.

v   قيل: "باركوا بأفواههم أما قلوبهم فتلعن" (مز 63: 4). وقيل أيضًا: "أحبوه بفمهم وكذبوا عليه بلسانهم، وأما قلبهم فلم يكن مستقيمًا معه ولا ثبتوا في عهده"، "لتبكم شفاه الكذب" (مز 78: 36-37؛ 31: 8).

القديس إكليمندس الروماني[319]

v   ماذا يعني هذا؟ الاتجاه الحقيقي للنفس نحو الحق هو أثمن من الكلمات اللطيفة في نظر الله السامع للتنهدات التي لا يُنطق بها.

 يمكن للإنسان أن يستخدم العبارات بمعنى مضاد (لما تحمله في الظاهر)، فإن اللسان مستعد لتحقيق ذلك حسب قصد المتكلم ونيته، أما اتجاه النفس فيراه الله العارف بالأسرار.

القديس غريغوريوس النيسي[320]

4. الويل الثالث لمن يتكل على حكمته الذاتية:

إحدى علامات الرياء أن بعض الأشراف وضعوا في قلوبهم أن يتمموا رأيهم الذاتي وهو الالتجاء سرًا إلى مصر ضد آشور  ليخفوا هذا الأمر ليس فقط عن الشعب بل حتى عن الله نفسه، قائلين: "من يبصرنا؟! ومن يعرفنا؟!" [15]. لقد ظنوا وهم الجبلة، أنهم أكثر حكمة من جابلهم!

الله جابل الإنسان - في اتضاعه - يُريد أن يحاور الإنسان الجبلة التي من الطين، بينما تظن الجبلة في كبريائها أنها قادرة على العلم بحكمة وفهم من وراء جابلها بعيدًا عن الحوار معه.

يقول الأب مرتيروس السرياني: [يا لعظم نعمة رآفات الله وتنازله التي لا تعرف حدودًا! الله ينزل إلى مستوى الخطاة من رجال ونساء، يتحدث الله الصالح مع العبيد الثائرين، يدعو القدوس النجسين لينالوا المغفرة. تتحدث البشرية المخلوقة من الطين مع خالقها بدالة، يُحارب التراب جابله. لذلك ليتنا نظهر مهابة عندما نقف نحن الخطاة في حضرة هذا العظيم ونتحدث معه[321]].

5. وعود ثمينة للمؤمنين:

إن كانت الخطط الخفية المخادعة والمملوءة رياء تجلب غمًا وحزنًا، فعلى العكس عمل الله الخلاصي العلني يجلب سلسلة أفراح متوالية، وبركات متعددة بلا حصر، منها:

أ. حالة إثمار: "أليس في مدة يسيرة يتحول لبنان بستانًا والبستان يُحسب وعرًا؟!" [17]. عمل الله العلني يحول لبنان إلى بستان أو جنة، يحول قلب الإنسان الجاف والوعر إلى ملكوت المسيح الحامل لثمار الروح؛ بينما حرمان الإنسان من النعمة يُحطم حتى ثماره الطبيعية (البستان) فيصير وعرًا.

ب. عطية الاستماع لصوت الله ورؤية الأسرار الإلهية: "ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي" [18]. السمع الروحي والبصيرة الداخلية هما عطيتان من قبل الله.

ج. التمتع بالفرح السماوي الداخلي المتزايد: "ويزداد البائسون فرحًا بالرب ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل" [19].  

 د. تحطيم عدو الخير إبليس وكل أعماله، هذا الطاغية الذي يسخر بالمؤمنين [20].

هـ. إبطال العثرات وكل فخاخ ومشورات شريرة ضد أولاد الله الأبرار [21].

و. نزع الخوف والخزي: "ليس الآن يخجل يعقوب وليس الآن يصفارُّ وجهه" [22].

ز. تقديس اسم الله: "بل عند رؤية أولاده (أولاد إبراهيم) عمل يديّ في وسطه يُقدسون اسمي ويقدسون قدوس يعقوب، ويرهبون إله إسرائيل" [23]. وكأنه يتحقق فيهم القول "ليتقدس اسمك"، إذ يتقدس اسم الله في شعبه ومؤمنيه.

ح. تغيير الطبيعة البشرية فيحملون فهمًا وعلمًا لا بطريقة عقلانية بحتة وإنما كحياة جديدة مطيعة للرب بعدما ساروا زمانًا في ضلالة الجهادة وحياة التمرد والعصيان [24].

هذه جميعها وعود الله التي تتمتع بها كنيسة العهد الجديد المتهللة بفرح الرب من حمل ثمار الروح القدس بكونها جنة المسيح، وتمتعها بالاستماع للصوت الإلهي ورؤية أسراره الإلهية عوض العمى، وتحطيم إبليس وكل قوى الظلمة، وتخطي العقبات والعثرات بلا خوف ولا خزي، وأخيرًا تقديس اسم الله خلال الفهم الروحي والطاعة القائمة على معرفة روحية.

<<

 

 


 

الأصحاح الثلاثون

الاتكال على فرعون

في الأصحاح السابق طالبهم الرب أن يرجعوا إليه في هدوء وطمأنينة، ويثقوا في خلاصه، عوض الاتكال على الذراع البشري والحكمة الإنسانية المجردة والإمكانيات الزمنية (إش 29: 15). الآن يحذرهم من الاتكال على فرعون متجاهلين عنصر "عمل الله"، معلنًا لهم أن مشورتهم البشرية تؤول إلى خزيهم فينهاروا، لكنه يبقى الله منتظرًا الفرصة ليعلن رحمته ويرعب آشور الذي أرعبهم كأنه يكشف خيانة يهوذا مع أمانة الله وحبه نحوهم.

يرى بعض المفسرين أن الحديث هنا موجه إلى آفرايم حيث ورد في (2 مل 17: 4) عن معاهدة تمت بين هوشع بن إيلة ملك إسرائيل (آفرايم) وسوا ملك مصر مع ثورته ضد آشور ورفضه دفع الجزية له، أكثر منه وجود معاهدة بين يهوذا ومصر... لكن بقية الحديث موجه إلى يهوذا وأورشليم أنه حديث إلهي موجه ضد كل إنسان يتجاهل الله متكلاً على ذراع بشرية.

1. تحذير من الاتكال على فرعون             [1-7].

2. تأديبات بسبب احتقار وصية الله             [8-17].

3. مراحم الله نحو شعبه التائب                [18-26].

4. غضب الله على آشور                      [27-33].

1. تحذير من الاتكال على فرعون:

"ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى أنهم يجرون رأيًا وليس مني، ويسكبون سكيبًا وليس بروحي، ليزيدوا خطيئة على خطيئة، الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر" [1-2].

يلاحظ هنا في الويل الرابع الآتي:

أ. يدعوهم أبناء متمردين، لأنهم رفضوا مشورة الله أبيهم ولم يثقوا فيه إنما حسبوا فرعون أباهم الذي ينقذهم. بنوتنا لله ليست كلامًا ولا عواطف مجردة لكنها التقاء معه واتكال عليه ودخول معه في علاقات عميقة عملية؛ هذه البنوة تديننا إن لم نسلك كما يليق بها.

ب. لقد أروا رأيًا [1] أي تشاوروا فيما بينهم ولم يطلبوا مشورة الله ولا سألوا رجاله المخلصين.

ج. "يسكبون سكيبًا" أو "يغطون غطاءً وليس بروحي" [1]، بمعنى أنهم أرادوا أن يغطوا على مشورتهم ويخفون عني ما يفعلونه (إش 29: 15-16)، فحرموا أنفسهم من قيادة روحي القدوس.

د. "ليزيدوا خطيئة على خطيئة" [1]، هكذا كانوا ينحدرون في سلسلة من الخطايا، بدأت بالتمرد على أبيهم السماوي، إذ حسبوه عاجزًا عن حمايتهم، ثم تشاوروا متجاهلين مشورته، ثم حاولوا إخفاء تصرفاتهم الخ...

هـ. "الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي" [2]؛ فقد بعثوا رسلاً إلى فرعون للتحالف معه... نزلوا إلى مصر، ولم يقبلوا الله الذي يرفعهم إليه، قبلوا النزول عوض الصعود، أو الانحدار عوض الارتفاع نحو السمويات.

أولاد الله يقبلون الانحدار والنزول كما إلى محبة العالم (مصر) إنما يمارسون النمو الدائم ليصعدوا كل يوم نحو الحياة السماوية، قائلين: "هلم نصعد إلى جبل الرب" (مى 4: 2).

و. يُعتبر الحصن الفرعوني لهم خجلاً وحماية مصر ظلاً مخزيًا [3]. لقد بلغ رسلهم إلى صوعن وحانيس يطلبون العون والمشورة فنالوا خجلاً وخزيًا.

صوعن عاصمة مصر العليا، على الضفة الشرقية من الدلتا وعلى فرع النيل الطافي، حصنها الملوك وجعلوها عاصمة تراقب الهجمات القادمة من الشرق على مصر. في هذه المدينة تمت المفاوضات بين موسى وفرعون (مز 78: 12، 43)، احتلها الآشوريون فيما بعد، ودعاها اليونان "تانيس"، حاليًا تُدعى "صا الحجر".

حانيس، تبعد نحو 50 ميلاً جنوب ممفيس على الضفة الغربية للنيل، وهي لا تزال معروفة بأهناس، أي أهناسيا، وكانت معروفة في العصر اليوناني الروماني بهيراكليوبوليس العظمى[322].

يشبه النبي الرسل القادمين من يهوذا إلى مصر ببهيموث Behemoth (بهائم الجنوب: [6])، يقصد نوعًا من التماسيح المصرية hippopotamus. جاءوا يطلبون النجدة من بلد مملوءة شدائدًا وضيقات غير قادرة على إنقاذ نفسها، مملوءة بالأسود والأفاعي والثعابين السامة الطيارة، جاءوا يحملون خيراتهم على الحمير والجمال كهدايا لفرعون ورجاله العاجزين عن حمايتهم. جاءوا للأمان في منطقة متاعب ومخاطر قاتلة.

يدعو مصر باسم شعري رمزي "رهب الجلوس" [7]؛ يُقصد برهب "الرحب" أو "المتسع" أو "العظيم" أو "المتكبر"، فقد تكبرت مصر وتعجرفت مقدمة وعودًا جميلة لكن غير واقعية، وعوض أن تقوم لتعين مملكة يهوذا وتسندها "جلست" تراقب يهوذا وهي تُسبى إلى بابل.

هكذا يُحذر إشعياء النبي مملكة يهوذا التي أُصيبت بالغباء والعمى حيث لجأت إلى مصر المتكبرة تطلب حمايتها.

2. تأديبات بسبب احتقار وصية الرب:

طلب الله من إشعياء النبي أن يكتب تحذيرًا لشعب يهوذا على لوح كبير يراه الكل في مكان عام، وأيضًا أن يُسجل ذلك في كتاب ليبقى أبديًا [8]. ربما كتب على اللوح "رهب الجلوس" ليحذرهم من الاتكال على فرعون (مصر) الجالس متفرجًا، أما في السفر فكُتب عن خطايا يهوذا والنبوات والرؤى التي وهبه الله إياها.

أما خطية يهوذا الرئيسية فهي أنهم شعب متمرد يرفض شريعة الرب ويتقبل كلمات الأنبياء الكاذبة. كانت الشريعة بالنسبة لهم مُرّة وقاسية، لأنها تفضح خطاياهم وتطالبهم بالطريق الإلهي الضيق لذلك قالوا للأنبياء الرائين ألا يروا ولا ينظروا المسيقيمات إنما طلبوا كلمات الأنبياء الكذبة المخادعة التي دعاها هنا "الناعمات" "المخادعات" [10] التي تهب طمأنينة مؤقتة للنفس خلال تجاهل الخطية وتهدئة الضمائر. بهذا رفضوا اعتراض الأنبياء طريقهم، وطلبوا عزل قدوس إسرائيل من أمامهم [11].

أما ثمار العصيان ورفض الأنبياء الحقيقيين وقدوس إسرائيل فهي إنهم صاروا كحائط مرتفع يتصدع ويسقط ويتهشم في لحظة [13]، كما يشبهون إناءً خزفيًا يسقط ليُسحق تمامًا بلا شفقة فلا يبقى فيه جزء يصلح لكي يستخدم لسحب نار من موقد أو غرف ماء من جب... هكذا لا يصلح في شيء قط سوى أن يُجمع ليُلقى في مزبلة...

يصّور النبي هلاك مملكة يهوذا بسبب رفضهم مشورة الرب القائل: "بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة قوتكم" [15]؛ أي أن سّر خلاصكم يكون في توبتكم ورجوعكم إلى الله مع السكون والهدوء بثقة؛ هذه هي القوة الحقيقية. لكنهم رفضوا التوبة مع الإيمان بالله إذ قالوا: "لا بل على الخيل نهرب... لذلك يسرع طاردوكم" [16]، أي اتكلوا على الإمكانيات البشرية، خاصة على خيول مصر ومركباتها، وظنوا أنها قادرة على إنقاذهم سريعًا فإذا بالعدو يطاردهم بسرعة أعظم ويلحق بهم. بل ما هو أمرّ أنهم يهربون أمام لا شيء، فجندي واحد من الأعداء يرعب ألفًا من رجال بني يهوذا، وخمسة جنود يرعب جيش يهوذا كله، يتركون أسلحتهم ويهربون في مذلة ليصيروا أشبه بشجرة واحدة أو سارية على جبل أو كراية أو علامة على تل؛ يصيرون عبرة لكل الأجيال.

عندما رجع حزقيا الملك إلى الله (2 مل 30) واتجه نحو الحائط وهو على سرير الموت رفع ذهنه إلى السموات وغلب الموت منتصرًا.

3. مراحم الله نحو شعبه التائب:

"ولذلك ينتظر الرب ليترأف عليكم، ولذلك يقوم ليرحمكم لأن الرب إله حق؛ طوبى لجميع منتظريه" [8].

يتوقع إشعياء النبي منهم أن يرجعوا إلى الله ويتركوا اتكالهم على الذراع البشري منتظرين الرب كمخلص لهم، لكن العجيب أنه ليس إشعياء الذي ينتظر هذا وإنما الرب نفسه المبادر بالحب هو منتظر عودتهم، مشتاق إليهم كي يترآف عليهم ويرحمهم بكونه إله حق محب لخليقته. في حبه ينتظر أن يسكب فيض نعمته على ابنه الضال الراجع إليه (لو 15).

انتظار الرب أيضًا يعني خطته المقبلة نحو خلاص الكثيرين، والتي تتركز في النقاط التالية:

أ. سكنى شعبه في أورشليم: "لأن الشعب في صهيون يسكن في أورشليم" [19]؛ أي يدخل بهم إلى كنيسة العهد الجديد حيث سلام الله الذي يفوق كل عقل ("أورشليم" معناها "موضع السلام").

أورشليم أيضًا تُشير إلى السماء، أورشليم العليا أُمّنا (غل 4: 26)، وكأن خلاصنا يكمن في سحب الله شعبه إلى الحياة السماوية.

ب. انتزاع الحزن والبكاء: "لا تبكي بكاءً" [19]، بكون الكنيسة صورة للسماء التي ليس فيها حزن ولا ألم... (رؤ 21: 4). هنا لا يقصد البكاء الخارجي إنما فقدان الفرح الداخلي... فالكنيسة تشارك عريسها آلامه التي لا تنفصل عن بهجة قيامته. بمعنى آخر الكنيسة هي ملكوت المسيح الذي يحمل سمة الصليب غير المنفصل عن القيامة.

يليق بنا أن نميز هنا بين الحزن حسـب مشيئة الله وبين القنوط أو فقدان التعزية

والسلام. الحزن حسب مشيئة الله فضيلة روحية تُرافقها تعزيات الله وسلامه الفائق للعقل أما القنوط فرذيلة تكشف عن حالة يأس وعدم رجاء، تحطم حياة الإنسان وأرادته. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها لا تُهاجم الجسد فحسب وإنما أيضًا النفس ذاتها... إنها قاتلة على الدوام تستنزف قوة النفس[323]". لقد شجع الشماسة أوليمبياس أن تتغلب على القنوط بكونه طاغية مهبط للهمم[324].

ج. استجابة سريعة للصلوات: "يتراءف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لكِ" [19]؛ هو يسمح بالضيق والشدة لكنه يسمع الصرخات فيُعطي خبزًا وماءً ولا يترك الإنسان في عوز [20].

د. إن كان الرب نفسه يصير معلمًا (يو 2: 23) وروحه القدوس قائدًا ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد ومعزيًا للكنيسة فإن إحدى بركات الرب أنه يهب روح التعليم الصادق والإرشاد الروحي المستقيم بلا انحراف؛ "لا يختبئ معلموك بعد بل تكون عيناك تريان معلميك، وأذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة: هذه هي الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار" [21].

التعليم والمعرفة هما عطية من الله نفسه، الذي يُقدس الأذن لتسمع كلماته وتستجيب لها، ويُقدس الفكر والقلب والاحاسيس ليصير الإنسان بكليته متجاوبًا مع إرادة الله المعلنة خلال كلمته.

بهذا الروح عاشت الكنيسة الأولى تؤمن أن الله وحده قادر أن يرسل الفعلة لحصاده واهبًا إياهم نعمته للنطق بكلمة الحق باستقامة وواهبًا السامعين نعمة للتجاوب معها وادراكها.

هذا أيضًا ما دفع آباء الكنيسة على المثابرة في الصلوات وخلال الحياة المقدسة من أجل التمتع بعطية المعرفة الإلهية.

v   لنحث الله كي يهبنا، كما أن الكلمة تنمو فينا، هكذا نتقبل غنى اتساع الفكر في المسيح يسوع وهكذا نصير قادرين على سماع الكلمات القدسيّة المقدسة[325].

v   كثيرون طلبوا أن يفسروا الكتب الإلهية... لكن لم ينجح الكل في ذلك. فأنه نادرًا ما يوجد ذاك الذي له هذه النعمة من قبل الله[326]

العلامة أوريجانوس

ربما يقصد بالمعلمين المختفين في الكنيسة جماعة الأنبياء، فبمجيء السيد المسيح المعلم الفريد يُنير النبوات وتتكشف أسرار العهد القديم الذي يُشير إلى الخلاص، ويعلن عن شخص المسيا وأعماله الخلاصية ودوره الإلهي في حياة الكنيسة.

هـ. رفض العبادات الوثنية بكل ترفها: "وتنجسون صفائح تماثيل فضتكم المنحوته وغشاء تمثال ذهبكم المسبوك تطرحها مثل فرصة حائض؛ تقول لها أخرجي" [22].

إذ كانت أغلب التماثيل من الخشب أو الخزف المغشى بالفضة أو الذهب فإن عمل الخلاص هو فضح الداخل، إذ ينال الإنسان بروح الله قوة ليقول لها "أخرجي"؛ فتخرج من الغلاف الخارجي الذي يخفي حقيقتها أنها تمثل فرصة الحائض النجسة، كما تخرج من قلب المؤمن الذي يستقبل رب المجد يسوع بكونه مقدسًا له.

مسيحنا يحمل من الخارج آلامًا فيبدو "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه" (إش 53: 2) لكنه يهبنا أمجاده الداخلية غير المدركة. أما محبة العالم فتعطى إغراءات خارجية وداخلها نتانة وفساد.

و. نعمة المطر: "ثم يُعطي مطر زرعك الذي تزرع الأرض به وخبز غلة الأرض فيكون دسمًا وسمينًا وترعى ماشيتك في ذلك اليوم في مرعى واسع" [23].

كان عصر المسيا في ذهن الأنبياء هو "عصر المطر" أو "عصر المياه الغزيرة". نذكر على سبيل المثال أن هذا العصر وُصف بأن الله يقدم فيه المطر في حينه (حز 34: 26)، وأن المطر يروي الأرض فتأتي بوفرة الغلال والزراعة ليأكل الإنسان وتجد البهائم مرعى دسمًا [23] الخ...، فلا يوجد جوع أو عطش (إش 31: 9، إش 49: 10). تفيض مياه حية من الهيكل وتأتي بثمار عجيبة وتنمو اشجار كثيرة جدًا (حز 47: 1-12)؛ يخرج ينبوع مفتوح لبيت داود يقطع أصنام الأرض ويزيل الروح النجس (زك 13: 1-2). تفيض ينابيع يهوذا ماءً ويخرج من بيت الرب ينبوع يهب حياة (يؤ 3: 18؛ زك 14: 8)، يفرح مدينة الله مقدس مساكن العلى (مز 46: 4).

في اختصار ارتبط العصر المسياني بالمياه المقدسة، التي تعطى ارتواءً، وتحوّل القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتُقدم حياة وتقديسًا... هذه المياه المقدسة هي المعمودية وعطية الروح القدس.

v   لقد انجبت المياه الأولى حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة.

العلامة ترتليان[327]

v   إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون؛ إنكم تشاركون آدم آباكم الأول في نفيه، والآن يفتح الباب (المعمودية كحياة فردوسية) وتعودون من حيث خرجتم.

القديس غريغوريوس النزينزي[328]

هكذا ترتوي النفوس في العصر المسياني كما تشبع الأجساد لا خلال الملذات الزمنية وإنما خلال تقديسها بالرب فيكون لها كل شيء صالحًا ومباركًا وطاهرًا. "والأبقار والحمير (إشارة إلى الجسد) التي تعمل للأرض تأكل علفًا مملحًا مذري بالمنسف والمذراة" [24].

كانت العادة أن يترك للحيوانات التي تعمل للأرض علفًا هو خليط من التبن مع بواقي قليلة من الحبوب، لكنه في العصر الميساني إذ تفيض الخيرات يُقدم للجسد طعامًا مملحًا ومُذري، أي يُنتزع عنه التبن والأتربة الخ... علامة إهتمامنا بالجسد كعنصر صالح مقدس لحساب ملكوت الله.

بمجيء كلمة الله متجسدًا تقدست نظرتنا للجسد، لذلك حرم الرسول يوحنا منكري أن يسوع جاء في الجسد (1 يو 4: 2؛ 2 يو 7)؛ وقاومت الكنيسة الأولى الفكر الغنوسي القائل بأن الجسد عنصر ظلمة يجب تحطمه.

v   ليس الجسد هو مصدر الشر إنما حرية الاختيار (الارادة الحرة) [329].

v   الجسد هو مسكن النفس[330].

v   الجسد هو أداة الروح... العامل في صحبة النفس[331].

v   صار الكلمة جسدًا لكي يُغير جسدنا إلى روح... ولكي يُقدس الجسد كله معه، إذ فيه تقدستي البكور[332]

القديس غريغوريوس النيصي

"ويكون على كل جبل عالٍ وعلى كل أكمة مرتفعة سواقٍ ومجاري مياه في يوم المقتلة العظيمة حينما تسقط الأبراج" [25]. كأنه حتى الجبال العالية والتلال تجد مياها كافية، ربما يُشير ذلك إلى نعمة الله الغنية التي تفيض ليس فقط على البسطاء والعامة وإنما تجتذب ملوك ورؤساء وقادة وأشراف للإيمان، في اليوم الذي فيه يُقتل جاحدو الإيمان روحيًا هؤلاء الذين سقطوا كأبراج. كان يليق بالقيادات اليهودية أن تكون أبراجًا للعالم ترى مملكة المسيح وتكرز بها لكنها صارت مقاومة للحق فانهارت، الأمر الذي أحزن الرسول بولس.

ز. استنارة عظيمة: "ويكون نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس يكون سبعة أضعاف كنور سبعة أيام في يوم يُجبر الرب كسر شعبه ويشفي رض ضربه" [26].

إذ يشفي الرب جراحات النفس والجسد مقدسًا الإنسان بكليته، بجميع طاقاته من غرائز وأحاسيس وعواطف وفكر الخ... يحمل صورة خالقه "النور الحقيقي" فيصير نورًا للعالم، نورًا كاملاً في الرب (سبعة أضعاف علامة الكمال) فيسمع صوت العريس السماوي: "كُلك جميل يا حبيبتي وليس فيكِ عيبة" (نش 4: 7).

4. غضب الله على آشور:

يرى أغلب الدارسين أن ما ورد هنا هو وصف للخراب الذي حلّ بجيش سنحاريب، وإن كانت آشور بجيشها وقائدها تمثل قوى الظلمة الحاملة العداوة ضد الله بقيادة إبليس نفسه الذي يطلب أن يقتحم كنيسة الرب، أورشليمنا الداخلية، ليتربع في هيكل قلوبنا المقدس.

أ. "هوذا اسم الرب يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق عظيم، شفتاه ممتلئتان سخطًا ولسانه كنار آكلة، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرقبة" [27]. "يأتي من بعيد" لأنه أطال أناته على آشور لعله يتراجع عن كبرياء قلبه، وانتظر طويلاً إذ لا يطلب المعاقبة بل رجوع الكل إليه، ولا يزال يأتي اسمه من بعيد مطيلاً أناته على الأشرار لعلهم يتوبوا. وكما يقول الرسول بولس: "أم تستهين بغنى لطفه وإماله وطول أناته غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 5: 4).

"أسم الله" حال في حياة الكنيسة، مُعلن في قلب المؤمن، قريب إليه أقرب من نفسه، أما بالنسبة للأشرار فيبدو له بعيدًا جدًا، بل وأحيانًا يظنه غير موجود. هذا الإسم هو برج حصين للمؤمنين (مز 18: 50) وغضب مشتعل وحريق عظيم للمقاومين.

شفتا الرب تقطران دسمًا لأولاده ومملوءتان سخطًا لجاحديه!

لسانه يدعو الكل لخيراته السماوية ويكون كنار آكلة للعصاة.

نفخته تهب عزاء وسلامًا فائقًا للكنيسة، إذ نفخ الرب في وجه تلاميذه ووهبهم روحه القدوس يعمل فيهم لغفران الخطايا (يو 20: 22)؛ أما لرافضي الإيمان فتكون نفخته كنهر غامر يبلغ بهم إلى الرقبة.

يُشبه الأمم بالحصاد الفارغ الذي كله قش بلا حنطة أو بخيول جامحة لا تضبطها اللجم، إذ يقول: "لغربلة الأمم بغربال السوء the sieve of nothingness " [28]، فأنهم يغربلون ولا يأتي الغربال بشيء. "وعلى فكوك الشعوب رسن (لجام) مضل" [ 28]. توضع اللجم في أفواههم لكنهم لا يسيرون في طريق الحق.

ب. "تكون لكم أغنية كليلة تقديس عيد وفرح قلب كالسائر بالناي ليأتي إلى جبل الرب إلى صخر إسرائيل. ويُسمع الرب جلال صوته ويُرى نزول ذراعه يهيجان غضب ولهيب نار آكلة نوء وسيل وحجارة بَرَد" [29-30].

تحول خراب العدو إلى فرح للشعب كما في ليلة فصحية... لعل ما يشغل المؤمنين ليس هلاك العدو - حتى إبليس نفسه وملائكته - إنما انتزاع العوائق فيأتون إلى جبل الرب، إلى السماء عينها متهللين. غايتنا لا الشماتة في عدو الخير وإنما تمتعنا بجلال الرب وسماعنا صوته.

ج. يرى إشعياء في عودة الشعب من السبي إلى أورشليم أشبه بموكب عسكري يدخل بلده بموسيقى عسكرية تعلن عن النصرة؛ "ويكون كل مرور عصا القضاء التي ينزلها الرب عليه بالدفوف والعيدان وبحروب ثائرية يحاربه" [32].

د. يُقدم صورة نهائية عن مدى خراب آشور؛ إذ يصور مكان النار "تفته Tophet"، الموضع الذي كانت البقايا تُحرق فيه خارج أورشليم، قد اُعد ليسع الملك "الإله ملّوخ" فيحترق بغضب الرب [33].

<<

 

 


 

الأصحاح الحادي والثلاثون

الاتكال على الذراع البشري

لما كان الاتكال على الذراع البشري أمرًا خطيرًا يُحطم الإيمان في حياة البشرية عبر الأجيال فلا نعجب. إن عالجه إشعياء النبي مرارًا من زوايا مختلفة. هنا يوضح النبي خطورة النزول إلى مصر لطلب حماية فرعون عوض ارتفاع القلب إلى الله القدوس كحصن حقيقي ومعين لشعبه.

1. الالتجاء إلى فرعون              [1-3].

2. الله حامي أولاده                   [4-5].

3. دعوة للرجوع إلى الله             [6-9].

1. الالتجاء إلى فرعون:

يقدم لنا إشعياء النبي فكرًا روحيًا رائعًا، فإن موضوع الالتجاء إلى فرعون ليس مجرد خطة سياسية عسكرية لكنها موضوع لاهوتي يمس حياة الإنسان ومصيره الأبدي. من يتكئ على البشر مهما كثر عددهم أو إمكانياتهم أو قوتهم [1] إنما يلتصق بأناس جسدانيين مائتين فيصير مثلهم مائتًا، أما من يلتصق بالمخلص قدوس إسرائيل غير المتغير الأبدي فيحمل معه الخلود. اتكالنا على البشر يوحّدنا معهم فنهلك، واتكالنا على الله يربطنا به فنشاركه أمجاده الأبدية. هذا ما عناه عندما حذرهم قائلاً: "وأما المصريون فهم أناس لا آلهة، وخيلهم جسد لا روح، والرب يمد يده فيَعثر المعُين ويَسقط المُعان ويفنيان كلاهما معًا" [3].

لنتكئ إذن على الخالق الأبدي لا الخليقة الضعيفة العاجزة حتى على إعانة نفسها.

v    "لا تتكلوا على الرؤساء" (مز 146: 4)...

الآن خلال نوع من ضعف النفس البشرية عندما يقع الإنسان في ضيقة ييأس من جهة الله، مختارًا أن يتكئ على إنسان.

ليقل لإنسان ساقط في ضيقة: "يوجد إنسان عظيم يُحررك"، للحال يبتسم ويبتهج وترتفع معنوياته، أما إن قيل له "الله يُحررك" فيسقط في حالة إحباط وييأس!

أنك تفرح عندما تنال عونًا من مائت، فكيف تحزن عندما تنال العون من الخالق؟!

لقد نلت وعدًا بأن يُحررك من هو محتاج أن يتحرر معك فترتفع معنوياتك كمن نال عونًا عظيمًا. ها أنت تنال وعدًا من (الله) المحرر الذي لا يحتاج إلى من يُحرره ومع ذلك تيأس كأنك تنال أمرًا واهنًا.

ويل لمثل هذه الأفكار، لقد ضلوا، حقًا صار فيهم موت خطير ومحزن!

v    "تخرج روحه فيعود إلى ترابه، في ذلك اليوم تهلك كل أفكاره" (مز 146: 4)...

"قد رأيت الشرير عاتيًا فوق شجر لبنان، عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36)...

كل هؤلاء قابلون للموت، سريعوا الزوال، هالكون.

إذن، ماذا يجب علينا أن نفعل إن كنا لا نترجى بني البشر ولا الرؤساء؟ ماذا يجب علينا أن نفعل؟ "طوبى لمن كان معينه إله يعقوب" (مز 146: 5)، لا يكون معينه هذا الإنسان أو ذاك، ولا هذا الملاك أو ذاك، إنما "طوبى لمن كان معينه إله يعقوب". فقد كان ليعقوب معينًا عظيمًا هكذا أقام من يعقوب إسرائيل. ياله من عون قدير! الآن هو إسرائيل "يرى الله"! أن بقيت أنت أيضًا هنا ولم تشرد عن رؤية الله، أن صار لك إله يعقوب معينًا، فأنك تتحول من يعقوب إلى إسرائيل؛ ترى الله، وتنتهي المتاعب وكل التنهدات وتبطل الارتباكات وتحل التسابيح السعيدة...

ليكن رجاؤك في الرب إلهك، ليكن رجاؤك فيه.

القديس أغسطينوس[333]

2. الله حامي أولاده:

إن كان عدو الخير إبليس يشبه أسدًا مزمجرًا يُريد أن يفترس ليأكل ويشبع ويهلك فريسته (1 بط 5: 8)، فإن "قدوس إسرائيل" هو الأسد الخارج من سبط يهوذا (رؤ 5: 5) لا يهلك الفريسة وإنما قادر أن يحميها. يقتني النفس كفريسة يحوط بها ليهبها سماته الملوكية فيُقيم مؤمنيه "كهنة وملوكًا" (رؤ 1: 6)، يهبهم خلوده وشركة أمجاده.

الله موضع ثقة قادر أن يحمينا وأيضًا أن يرعانا، لذا يُشبه نفسه بالأسد ملك الوحوش لا يقدر أحد أن يقف أمامه، وفي نفس الوقت كطائر يهتم بصغاره [5].

مسيحنا يرعانا على الصليب كأسد ربض ونام (تك 49: 9) ولم يقدر العدو أن يقترب إليه[334]، ولا أن يقترب إلينا.

3. دعوة للرجوع إلى الله:

يكشف النبي عن غاية عمل الله معهم، فإن الرب يُحطم آشور بطريقة غير بشرية ولا طبيعية لا لاستعراض قوته الإلهية وإنما لاجتذاب نفوس جاحديه، إذ يقول الرب: "ارجعوا إلى الذي ارتد بنو إسرائيل عنه متعمقين... ويسقط آشور بسيف غير رجل وسيف غير إنسان يأكله..." [6، 8].

أليست هذه صورة خلاص الله الذي تم على الصليب حيث أسقط إبليس لا بفكر بشري ولا بسيف مادي وإنما ببذل حياته ذبيحة إثم عنا، ومحرقة حب لحسابنا وباسمنا، فتحطم العدو تحت أقدامنا ورجعنا إلى الله بأعماق جديدة لم يختبرها رجال العهد القديم مثلنا؟!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثاني والثلاثون

المسيح واهب السَلام

يعتبر هذا الأصحاح ختامًا جميلاً للحديث عن الصراع الذي قام بين أورشليم وآشور، فبعدما كرر التحذير من الالتجاء إلى فرعون والاتكال على الذراع البشري، يُقدم لنا السيد المسيح كملك روحي يهب السلام والعدل.

1. بركات مملكة المسيح             [1-8].

2. اضطراب خارج المسيح [9-14].

3. الروح القدس والسلام             [15-20].

1. بركات مملكة المسيح:

الحديث هنا خاص بمملكة مزدهرة، يرى بعض الدارسين أنها مملكة حزقيا التي بدأت بالاصلاح الروحي والاجتماعي وإن كان كثيرون لم يصلحوا إلاَّ الشكل الخارجي؛ ويرون آخرون أن الحديث هنا عن السيد المسيح لأن البركات المذكورة هنا لم تتحقق في أيام حزقيا؛ غير أن فريقًا ثالث يرى أنه حديث عن الملك حزقيا أو غيره من الملوك كظل للسيد المسيح.

ماذا يُقدم لنا المسيح الملك؟

أ. دستور العدل والحق: "هوذا العدل يملك ملك، ورؤساء بالحق يترأسون" [1]. إن كان الرب قد ملك على خشبة أي خلال الصليب، وقد دفع ثمن خطايانا تحقيقًا للعدالة، فأنه يقيم تلاميذه ومؤمنيه كرؤساء نمارس سلطاننا الروحي لا على الآخرين وإنما على نفوسنا وأحاسيسنا ومشاعرنا وطاقاتنا لا بكبتها أو تحطيمها وإنما "بالحق"، أي بتقديسها بالمسيح الحق.

ب. عوض المتاعب والضيقات يصير هذا الملك "كمخبأ من الريح"، يحمي المؤمنين من رياح التجارب والضغطات المُرّة؛ "وستارة من السيل" أي كمظلة أو غطاء تحميهم من المياه الجارفة، "وكسواقي (أنهار) ماء في مكان يابس"، أي يروى النفوس العطشى في البرية القاحلة، "كظل صخرة عظيمة في أرض معيبة" يختفون في المسيح الصخرة فلا يصيبهم ضررًا.

هكذا يُقدم أربعة تشبيهات لعمل السيد المسيح في حياة مؤمنيه: مخبأ، غطاء، أنهار مياه، صخرة عظيمة.

خلال هذه التشبيهات يرانا النبي أشبه بإنسان مسافر يجد في السيد المسيح كل احتياجاته، متى هبت عليه العواصف العنيفة وجد فيه الملجأ الأمين، وإن لحقته سيول جارفة يجده غطاءً واقيًا، وإن عانى من الظمأ يصير له الرب أنهار مياه حية، وإن هاج العالم كله يستظل فيه كصخرة صلدة قادرة أن تخفيه وتحميه حتى من الموت.

بمعنى الله المخلص يُقدم ذاته كل شيء لمؤمنيه حتى لا يعوزهم شيئًا. لقد قدم ذاته خلال أسماء كثيرة لكي ندرك أنه سّر شبعنا الحقيقي، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[لماذا دُعي الطريق؟ لكي نفهم أننا بواسطته نلتقي بالآب

لماذا دُعي الصخرة؟ لكي نفهم أنه حافظ الإيمان ومثبته.

لماذا دُعي الينبوع؟ لكي نفهم أنه مصدر كل شيء.

لماذا دُعي الأصل؟ لكي نفهم أن فيه قوة النمو.

لماذا دُعي الراعي؟ لأنه يرعانا.

لماذا دُعي الحمل؟ لأنه قُدم فدية عنا وصار تقدمة.

لماذا دُعي الحياة؟ لأنه أقامنا ونحن أموات.

لماذا دُعي النور؟ لأنه أنقذنا من الظلمة.

لماذا دُعي الذراع؟ لأنه مع الآب جوهر واحد.

لماذا دُعي الكلمة؟ لأنه مولود من الآب، فكما أن كلمتي هي مولودة مني، هكذا أيضًا الابن مولود من الآب.

لماذا دُعي ثوبنا؟ لأنني التحفت به عندما اعتمدت.

لماذا دُعي المائدة؟ لأنني اغتذي عليه عندما اشترك في الأسرار.

لماذا دُعي المنزل؟ لأنني أقطن فيه.

لماذا دُعي العريس؟ لأنه قبلني كعروس له.

لماذا دُعي بلا دنس؟ لأنه أخذني كعذراء.

لماذا دُعي السيد؟ لأنني عبد له.

إن سمعت هذه الأمور أرجو إلاَّ تفهمها بمعنى مادي، بل حلق بفكرك عاليًا،

لأنها لا تؤخذ بمعنى جسدي[335]].

v   طوبى للذي نسى حديث العالم بحديثه معك، لأن منك تكتمل كل حاجاته. أنت هو أكله وشربه! أنت هو بيته ومسكن راحته، إليك يدخل في كل وقت ليستتر! أنت هو شمسه ونهاره، بنورك يرى الخفيات. أنت هو الآب والده! أنت أعطيته روح ابنك في قلبه!

الشيخ الروحاني[336]

ج. يُقدم السيد المسيح لمؤمنيه البصيرة الروحية لترى الأمور غير المنظورة ولا تظلم عيناه الداخليتين: "لا تحسر (تعتم) عيون الناظرين" [3]. كما يهبنا القدرة على الاستماع لوصيته والإنصات إلى كلماته بفرح: "وآذان السامعين تصغي" [3]. يُقدم حكمة مع فهم وعلم: "وقلوب المتسرعين تفهم علمًا" [4]. يهب اللسان الكلام اللائق الفعّال: "وألسنة العييّن (المتلعثمين) تُبادر إلى التكلم فصيحًا". وأخيرًا يعطينا نعمة التمييز فلا نحسب اللئيم كريمًا ولا الماكر نبيلاً [5].

في اختصار يهب: البصيرة الداخلية، الاستماع مع الطاعة، الحكمة مع فهم وعلم، القدرة على الكلام البنّاء، نعمة التمييز. هذا كله يتحقق بالمخلص الذي ينتزع الخطية المسببة للعمى والعصيان والغباوة والعجز عن النطق بالحق وعدم التمييز.

v   إلهي... أنت نوري! افتح عينيّ فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو...

أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يُضيئ لأولادك حتى لا يتعثروا!

أما الذين هم خارج عنك، فإنهم يسلكون في الظلام ويعيشون فيه!...

نعم خارج ضيائك تهرب الحقيقة منيّ، ويقترب الخطأ إليّ، يملأني الزهو، وتهرب الحقيقة مني! أصير في ارتباك بدلاً من التمييز، يصير ليّ الجهل عوض المعرفة، العمى عوض التبصر، لا يعود ليّ طريق موصل إلى الحياة...

القديس أغسطينوس[337]

د. يميز الله بين اللئيم والكريم، إذ هو فاحص القلوب، ومدرك للخفيات [6-8].

2. اضطراب خارج المسيح:

بعدما تحدث عن بركات مملكة المسيح والتي من بينها التمييز بين اللئيم والكريم، يعرف الله كيف يُدين الأول ويكرم الثاني، صار يحدثنا عن دينونة اللئيم في صورة حديث مع النساء المدللات المُترفات اللواتي يخرجن بعد الحصاد ليقضين فترات من اللهو معًا في فرح زمني وبطريقة جسدانية غير لائقة. لا يعود بعد يوجد عيد للحصاد، لأن العدو يستولي على كل المحصولات.

هؤلاء النسوة يمثلن الرافضين الإيمان بالسيد المسيح، السالكين خارج ملكوته الروحي، يُصبن بالآتي:

أ. عوض الطمأنينة والسلام يرتعدن [11]...

v   لتكن أنت كل سعادتي، ياكُـلَّي الصلاح... بك أقوم وبدونك أهلك!.... بك امتلئ فرحًا، وبدونك أهلك حزنًا...

آه! أسرع واجعل من نفسي مسكنًا لك، ومن قلبي مستقرًا... رائحتك تُعيد ليّ قوتي، وذكراك يُخفف آلامي، ظهورك شبع ليّ (مز 17: 10)!

يا حياة نفسي... قلبي يجري وراءك، ويذوب عند تذكر خيراتك، متى يحين وقت رحيلي إلى ملكوتك؟! متى أحظى بمعاينة جمالك، أيها الحياة سعادة قلبي!

لماذا تحجب وجهك عني، يا سعادة نفسي الوحيد؟!

أين تختفي يارب الجمال، يا نهاية كل طموحي...

اجذب قلبي، فأنت هو فرحي!

القديس أغسطينوس[338]

ب. عوض ارتداء الثياب الثمينة يتجردن ويتعرين ويتنطق على الأحقاء [11]، علامة تخلي النعمة وفقدان الستر الروحي.

ما هي هذه الثياب الثمينة التي ترتديها النفس البشرية إلاَّ شخص السيد المسيح الذي يخفينا فيه ويستر علينا بدمه ويهبنا جماله. وكما القديس بولس: "لأنكم كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27). في مياه المعمودية نلبس السيد المسيح، فنحمل بره ومجده وبهاءه فينا. وكما يقول ماريعقوب السروجي: [المعمودية هي حلة المجد المعطاة لآدم، تلك التي سرقتها منه الحية بين الشجر... تعاليّ (أيتها النفس) والبسي الجلالة، واقتني النور بالمياه الطاهرة. تعاليّ، انزلي، والبسي الثياب التي نسجها اللاهوت، واصعدي وأرينا جمالك الخالد، لنفرح معكِ... لبسْتي الملون كعظيم الأحبار في بيت التطهير. النار والروح ينسجان لكِ ثوب الذي كله نور. يا أبنة الشعوب المخطوبة للنور في داخل المياه[339]].

ج. عوض الفرح يلطمن على الثدي نائحات كمن لهن ميت [12]؛ فإنهن بانفصالهن عن الله مصدر الحياة فقدت نفوسهن الحياة.

v   كم أنا بائس؟ إلهي... متى تُفارقني هذه الطبيعة الفاسدة، وتعمل فيّ قوتك الكاملة؟!... إني جِبْلَتك، وها أنا أموت! إنيّ من صُنع يديك، وها أنا أنحدر نحو العدم!... أأمر الميت حتى يخرج من القبر!... آه! يا إلهي! أنني ساستغيث قبلما أهلك أو على الأقل استغيث لئلا أهلك، حتى استحق السكنى فيك... عضدني أيها المجد الأبدي، يا فرحي، اكشف ليّ ذاتك يا إلهي حتى أحبها!

القديس أغسطينوس[340]

د. عوض الفرح بالحصاد، تُنبت لهن الأرض شوكًا وحسكًا (إش 3: 13)، علامة حلول اللعنة مع الجفاف الروحي.

هـ. تهدم قصورهن وتهجر المدن وتتحول بيوت الفرح والمدينة المبتهجة إلى قفر به أشواك وحسك [13-14].

و. تتحول الأكمة والبرج إلى مغاير دائمة ترعى فيها حمير الوحش (رمز للشياطين الشرسة) والقطعان (الأفكار الحيوانية).

هذه هي سمات النفس خارج المسيح: رعدة وحزن وجفاف وخراب ودمار يحل بها، فتصير مسكنًا للأرواح الشريرة الوحشية والأفكار والشهوات الحيوانية.

3. الروح القدس والسلام:

الله - في محبته - يطلب أولاده لـه لكي ينزع عنهم الرعدة والمرارة والجفاف

والدمار، فيسكب روحه القدوس علينا كي لا يجد عدو الخير وأفكار الجسد وشهواته موضعًا فينا، إذ قيل: "إلى أن يسكب علينا روح من العلاء فتصير البرية بستانًا ويُحسب البستان وعرًا" [15].

يرى كثير من الشراح أن ما ورد هنا يُشير إلى حلول الروح القدس في عيد البنطقستي حيث تتحول برية النفس القاحلة إلى بستان يحمل ثمار الروح القدس المفرحة لله والناس، بينما يفقد الجاحدون حتى الثمر الطبيعي فيصير بستانهم الضعيف وعرًا.

يصور لنا النبي هذا العمل البنطقستي في حياة الكنيسة، قائلاً:

"فيسكن في البرية الحق والعدل في البستان يقيم" [16]، بمعنى أن الروح القدس يحول بريتنا بستانًا أو فردوسًا يُقيم فيه السيد المسيح الذي هو الحق والعدل. إن كان مسيحنا قد وعد بعطية الروح فإن عمل الروح في المؤمن هو تهيئته لسكنى المسيح فيه، واقامة ملكوته داخلنا.

"ويسكن شعبي في مسكن السلام" [18]، بسكنى رب المجد في وسط شعبه  يحل السلام في وسط الشعب؛ يتجلى مسيحنا فينا ونسكن نحن فيه، إذ هو سلامنا الأبدي. يملك سلامه في قلوبنا (كو 3: 15) فنعيش في مصالحة مع الله والناس أيضًا، ونحسب كمن هم في السماء عينها.

أخيرًا يطوّب النبي الذين ينعمون بعطية الروح خلال مياه المعمودية: "طوباكم أيها الزارعون على كل المياه المسرحون أرجل الثور والحمار" [20]. وكأن من يزرع على مجاري مياه الروح القدس يحمل حصادًا كثيرًا فلا تنقطع الثيران والحمير عن حملها دورًا بعد دور، فتمر أرجل هذه الحيوانات بحرية وتكرار...

v   مبارك هو من يزرع بجانب المياه، فأن هذه النفس تُحرث وتُسقى ويَطأها الثور والحمار بعدما كانت جافة بلا مطر [20] وذليلة بلا سبب. مبارك هو ذاك الذي كان "وادي (السنط)" (يو 3: 18) يُسقى من بيت الرب فيصير بكرًا وينتج طعامًا للإنسان عوض الجفاف وعدم الإثمار... لهذا يليق بنا أن نحرص ألا نفقد النعمة.

القديس غريغوريوس النزينزي[341]

<<

 


 

الأصحاح الثالث والثلاثون

الغزو الآشوري والعصر المسياني

بينما يتطلع النبي إلى العصر المسياني كعصر مثمر، فيه يغرس الرب كرمه (الكنيسة) كما على مجاري مياه روحه القدوس، محولاً البرية إلى بستان، إذا به يتطلع إلى الأحداث الجارية في عصره كظلال لهذا العصر. حقًا يرى في الغزو الآشوري على يهوذا وأورشليم هلاكًا للكثيرين لكنه تبقى قلة أمينة مخلصة تنعم بعمل الله وتتمتع ببركاته. ما حلّ من خراب يُشير إلى النفوس الجاحدة للسيد المسيح، الرافضة مملكته غير المتمتعة بعمل روحه القدوس بينما تُشير القلة إلى كنيسته أو إلى ملكوته المفرح المملوء سلامًا وثمرًا روحيًا متزايدًا.

1. ويل للمخرّب            [1].

2. التجاء إلى الله           [2-9].

3. إدانة آشور              [10-14].

4. الملك ومملكته          [15-24].

1. ويل للمخرب:

"ويل لك أيها المُخَرِب وأنت لم تُخَرب، وأيها الناهب ولم ينهبوك، حين تنتهي من التخريب تخرب وحين تنتهي من النهب ينهبونك" [1].

الويل هنا موجه ضد آشور وأيضًا ضد بابل كما ضد كل عدو متشامخ على الله وعلى شعبه[342]. إن كانت خطته للتخريب والنهب تتحقق بلا عائق، دون أن يمسه أذى، لكن هذا العمل يسقط تحت الويل.

يستخدم الله هذا المخرب كعصا تأديب لشعبه إلى حين ليعود فيدينه؛ يتركه يُحقق ما في قلبه من رغبة في التدمير، لكن كما فعل يُفعل به، فيحل به الخراب ويُنهب في الوقت المناسب.

هنا يليق بنا أن ندرك أن كل يد تمتد للتخريب إنما يحل عملها على رأسها، وتشرب من ذات الكأس الذي تملأه للغير. أما شرها فيتحول للخير بالنسبة لأولاد الله، حتى الشيطان نفسه لا يقدر أن يُحطمهم، إنما تصير مقاومته لهم علة نصرتهم وإكليلهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يتزكى الصالحون بالأكثر عندما يكونون في وسط أولئك الذين يريدون أن يصدوهم عن حياة البر، ويجذبونهم نحو الشر، وبالرغم من هذا يتمسكون بالفضيلة. يقول (الرسول) "لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا، ليكون المزكون ظاهرين بينكم" (1 كو 11: 19). لهذا ترك الله الأشرار في العالم حتى يزداد بهاء الصالحين. هل رأيتم عظم الربح؟ لكن هذا الربح مصدره شجاعة الصالحين لا الأشرار... لنُطبق هذا البرهان أيضًا على الشيطان، فإن الله تركه هنا لكي نعود إلى حالٍ أقوى، لكي يجعل المصارع واضحًا والنزاع عظيمًا. فعندما يسألك أحد: لماذا ترك الله الشيطان هنا؟ أجبه بهذه الكلمات: أنه ليس فقط لا يؤذى الشيطان إنسانًا يقظًا وحذرًا، بل ويفيد أيضًا، لا بقصد الشيطان (الشرير) وإنما بسبب شجاعة ذاك الذي يستغل شر الشيطان حسنًا... لتكن نيتك حسنة، فلن يؤذيِك أحد قط بل تنال ربحًا عظيمًا، لا من الصالحين فقط بل ومن الأشرار أيضًا[343]].

هذا وقد أدرك المسيحيون إن الشيطان قد انهار تمامًا بعد الصليب فناله الخارب بعدما كان مخربًا للنفوس.

2. الالتجاء إلى الله:

إذ يرى النبي الخراب الذي يحلّ بشعب الله المستحق التأديب، ونهب الأعداء لهم يرفع صلاة من أجل البقية المقدسة معلنا باسمهم انتظارهم للرب، جاء فيها:

أ. طلب مراحم الله وخلاصه: "يارب تراءف علينا، إياك انتظرنا كن عضدهم في الغدوات، خلاصنا أيضًا في وقت الشدة" [2].

باسم الشعب التّقي رفع النبي صلاة من أجل القيادات العسكرية التي صارت في شدة وضيق بسبب سنحاريب وجيشه. "كن عضدهم في الغدوات"؛ الترجمة الحرفية "كن ذراعهم كل صباح"، وهو تعبير رائع يكشف عن دور الله الخلاصي في حياة الناس. إنه لا يتجاهل أذرعتهم، وإن كانت كلا شيء وعاجزة تمامًا عن العمل؛ لكنه يعمل بها كأنها ذراعه هو، يأخذها كما لنفسه ويقدسها بروحه القدوس ويعضدها بقوة سماوية ليُخلص. هو العامل في حياة مؤمنيه لكن دون تجاهلهم أو تحطيم طاقاتهم بل خلال تقديسهم.

v   الله يريد أن يظهر العبد وكأنه قد ساهم في شيء حتى لا يسقط في الخجل[344].

v   النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا، يسكب عليها غناه بفيض وغزراة تفوق كل طلبته[345].

v   يطلب الله منا علة صغيرة لكي يقوم هو بكل عمل[346].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا العضد الإلهي هو عمل يومي مستمر في حياة الكنيسة كما في حياة كل عضو، "لأن مرحمة لا تزول، هي جديدة في كل صباح" (مرا 3: 22-23).

ب. طلب التدخل الإلهي، فأنه يكفي أن يتكلم الله فلا يحتمل الآشوريون أو غيرهم الصوت الإلهي فيهربوا. "صوت ضجيج (زئير) هربت الشعوب، من ارتفاعك تبددت الأمم" [3]. مجرد النطق بكلمة إلهية يرتعب الأشرار ويهربون؛ مجرد ظهور الله في المعركة بدد الأمم المعادية.

ما أحوجنا أن تُعلن كلمة الله في القلب فيهرب الشر وتتبدد قوات الظلمة، وأن يتجلى المصلوب داخلنا فتهرب الخطايا وكل الأرواح الشريرة، ليملك الرب وحده في أعماقنا.

أمام ظهور الرب في الساحة ونطقه بكلمة صار الغزاة أشبه باليسروع (يرقات الفراشة) والجراد، يهربون في خزي وعار ويقوم شعب الله بجمعهم [4]. ربما عنى باليسروع الموتى والجرحى من الجيش الآشوري يجمعهم الشعب حتى لا يسببوا وباءً، وبالجراد الهاربين فيركضون وراءهم لاصطيادهم بلا حاجة إلى أسلحة. إنه خزى وعار للعدو الذي خرّب ونهب في قسوة وتجبر!

ج. تقديس المدينة لتصير مدينة الله البارة أو مدينة البر، يسكنها الله نفسه بكونه "حقًا وعدلاً" [5]. تمتلئ سلامًا وأمانًا وخلاصًا مع الحكمة ومعرفه. كنزها الحقيقي هو "مخافة الرب" [6]. هذا الخوف النابع عن الحب، خوف جرح مشاعر الأب وليس خوف العبد من سيده ولا الأجير من صاحب البيت أو العمل[347].

الآن بعدما طلب النبي باسم الشعب من الله أن يتدخل لتحطيم العدو وخلاص الشعب، يستعرض - أمام الله - ما حلَّ بالمدينة، ربما لكي يستدر عطفه الإلهي [7-9].

أ. لم يكن أمام أبطال الحرب أن يتحركوا، إنما توقفوا عند الصراخ في عجز وخوف [7].

ب. بكى رسل السلام بمرارة [7] إذ نكث سنحاريب العهد. فقد دفع حزقيال مبلغًا كبيرًا ليترك الأرض ومع ذلك أرسل جيشه لاقتحامها (2 مل 18: 4، 17).

ج. خلت السكك [8] إذ خشى الكل أن يلتقي بهم العدو في الطريق، فقد جاءت تقارير الرسل تعلن خطورة الموقف، وأحاط العدو بكل المدن.

د. دخلوا في مذلة فصارت المدن مرذولة [8].

هـ. حدوث جدب حتى في أكثر المناطق خصوبة وبهجة لتصير مثل الصحراء... عدم الاثمار والعقم يعتبران عارًا، علامة على غضب الله. من هذه المناطق شارون وباشان والكرمل.

إذ التجأ النبي باسم الأتقياء إلى الله رافعًا الصلاة من أجل تدخله الإلهي، معترفًا بما حلّ بالبلد من خراب ودمار تدخل الله لادانة العدو آشور. وكأن الله مشتاق أن يسندنا ضد العدو إبليس وقادر على خلاصنا لكنه ينتظر منا أن نلجأ إليه ونطلب عمله معنا، فأنه لا يُلزمنا حتى بخلاصنا. أنه يقدس حرية إرادتنا مشتاقًا أن نطلب باختيارنا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يغصبنا الله ولا تُلزم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله يُنادينا وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه[348]].

3. إدانة آشور:

إن كان الله يتمهل على الأشرار، لكنه إذ يمتلىء الكيل يدينهم:

أ. الله نفسه يقود المعركة: "الآن أقوم يقول الرب، الآن أصعد‎، الآن ارتفع" [10]. ما يعجز الإنسان عن فعله يقوم به الرب نفسه من أجل غيرته على الضعفاء والمظلومين، حاسبًا أعداءهم أعداء له، إذ قيل "يقوم الله، يتبدد أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه، كما يذرى الدخان تذريهم... والصديقون يفرحون يبتهجون أما الله ويطفرون فرحًا" (مز 68: 1-3).

ب. ما يحل بهم من إدانة هو ثمر طبيعي لأعمالهم، فإذ يحبلون قشًا لا يلدون حنطة بل قشيشًا [11] يُقدم للنار الآكلة. وإذ يتنسمون عنفًا كالنار يحرقون أنفسهم [11].

أعمالهم قش وشوك لا تصلح لشيء وتهديداتكم نار متقدة، لذا يحملون في داخلهم القش والشوك مع النار ليصيروا أتونًا متقدًا لا للآخرين بل لأنفسهم!

إن كانت شرورهم - خاصة النفاق- نارًا آكلة [1] فهم بهذا يمارسون بإرادتهم عربون الوقائد (النيران) الأبدية [1].

كما أن البر يحمل مكافأته في داخله فيدخل بالنفس البشرية إلى عربون المجد الأبدي، هكذا الشر يحمل مكافأته فيه فيدخل بها إلى عربون نار جهنم الأبدية.

يرى كثير من آباء الكنيسة أن الفضيلة لا تحتاج إلى مكافأة لأنها تحمل مكافأتها في داخلها، وكما يقول الشهيد يوستين: [أما تقود الفضيلة إلى كمال السعادة؟[349] ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [لكي تكون الفضيلة فضيلة لا تكون لها مكافأة[350]]. لعل سر هذا إن الآباء تطلعوا إلى الفضيلة بكونها تمتع بالوحدة مع المسيح، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن الفضيلة هي أن نكون واحدًا مع المسيح، أنه هو الفضائل التي تملأه[351]]، هو العدل والحكمة والحق، فمن يمارس الفضيلة إنما يشترك في الطبيعة الإلهية[352]، وهذا هو كمال المكافأة. 

الرذيلة هي تشبيه بعدو الخير واشتراك معه في سماته مع حرمان من التمتع بالمخلص والتشبه به... وهذا فيه ثمر الخطية وجزاؤها.

4. الملك ومملكته:

إن كان الله في عدله نارًا آكلة تلتهم الشر الحامل الفساد في داخله وتمجد المؤمنين الحاملين برّ المسيح فيهم، فإنه يُدين الأشرار المصرّين على شرهم ويحمي أبراره من أيديهم.

يُقدم لنا النبي سمات الإنسان البار وهي:

أ. يسلك بالحق والبر، أي يسلك في المسيح يسوع الطريق والحق، وهو برّنا.

ب. يتحدث بالاستقامة [15]، كلماته تعلن عن إنجيله المخفي في قلبه.

ج. يحتقر مكسب المظالم.

د. باستخفاف ينفض يديه عن قبول الرشوة.

هـ. يسد أذنيه عن الاستماع للخطط الدافعة إلى سفك الدماء.

و. يغمض عينيه عن التطلع إلى الشر.

ز. يرتفع بقلبه إلى الأعالي ليسكن مع مخلصه في السمويات [16].

ح. يلجأ دومًا إلى مسيحه كحصون صخور تحميه من الشر.

ط. سخي في العطاء حتى من أعوازه: الخبز والماء.

مثل هذا الإنسان الذي يتقدس بالسيد المسيح ليعيش بكل أحاسيسه طاهرًا، ويرتفع بأعماقه إلى الأعالي، ويمارس حياة الشركة مع الله والعطاء المستمر، يستحق التمتع برؤية السيد المسيح في أمجاده، إذ قيل: "الملك ببهائه تنظر عيناك" [17]. هذه هي أعظم هبة للبار أن يُعاين المسيا في بهائه!

يظن البعض أن الحديث هنا عن الملك حزقيا الذي تمتع ببهاء خاص عندما تهلل في قلبه عند رؤيته هلاك جيش سنحاريب، لكن النص واضح هنا أنه يتحدث بالأكثر عن السيد المسيح الذي تمجد على الصليب جاذبًا إليه الأمم، واهبًا إياهم طبيعة جديدة، عوض العداوة حملوا حبًا وصداقة، وعوض الشراسة صاروا ودعاء، وعوض لغة الشر الغريبة صاروا ينطقون بلهجة سماوية، إذ قيل: صاروا ودعاء، وعوض لغة الشر الغريبة صاروا ينطقون بلهجة سماوية، إذ قيل:

"أين الكاتب؟ أين الجابي؟ أين الذي عدّ الأبراج؟" [18]. أين الكاتب الذي يعدّ الجيش ويسجل أسماء الجند؟ وأين الجابي الذي يُحدد الجزية التي تُدفع للعدو؟ أين الذي يُعد الأبراج لكي يُقيم حراسًا عليها ورقباء يلاحظون العدو وينبهون إلى المعركة؟ لقد تحولت كل هذه الطاقات من العمل للحرب والمقاومة إلى طاقات هادئة مسالمة للعمل لحساب ملكوت الله، خلال قبولهم الإيمان بالسيد المسيح.

" الشعب الشرس لا ترى" [19]، إذ نُزعت أعمال الإنسان القديم العنيف لنحمل سمات خالقنا بتمتعنا بالإنسان الجديد الذي يتجدد كل يوم.

"الشعب الغامض اللغة عن الإدراك، الغبي بلسان لا يفهم" [19]؛ نالوا لسانًا جديدًا هو لغة الروح، لسان الحب والوحدة مع الفهم والحكمة.

والآن ما هو عمل الملك المسيا في حياة الأمم القادمة إليه بالإيمان به؟

أ. "انظر صهيون مدينة أعيادنا" [20]. عوض الرعب القديم من الكاتب مسجل الجيش والجابي تصير صهيون مدينة أعياد مفرحة، يجتمع فيها الشعب ببهجة دائمة للعبادة الجماعية والالتقاء مع الله نفسه عيدنا غير المنقطع.

ب. "خيمة لا تنتقل لا تُقلع أوتادها إلى الأبد وشيء من أطنابها لا ينقطع" [20]، أي ثابتة وراسخة لا يحطمها حتى الموت إذ تبقى أبدية.

ج. محاطة بالأنهار والترع من كل اتجاه [21] مما يجعلها مثمرة بالروح.

د. لا يمكن الاقتراب إليها أو محاربتها؛ إذ لا تسير في المياه المحيطة بها سفن صغيرة للتجسس عليهاولا سفن عظيمة حربية [21].

هـ. المسيح الرب نفسه هو القاضي والمشرع والملك والمخلص [22]، قدم دستور الإنجيل وملك على الصليب وخلصنا ولا يزال يشفع فينا كفاريًا بدمه الثمين.

و. يصير عدوها كسفينة منكسرة وسط المياه لا يقدر أن يرفع العدو ساريتها ولا ينشر قلعها [23].

ز. يهزمون العدو بقوة حتى أن العرج يستطيعون نهبه نهبًا [23].

ح. ليس فيها مريض [24].

ط. ينال سكانها غفران الخطايا [24].

هذه هي صورة النفس التي ترتبط بالسيد المسيح: تصير صهيون مدينة الله المفرحة، مملوءة بهجة وسلامًا، ثابتة في الرب، يحوط بها روح الله القدوس ليحولها إلى فردوس مثمر، لا يقدر الشيطان أن يهزمها ولا عدو الخير أن يُحطمها، يعلن السيد المسيح مملكته فيها بكونه ملكها والقاضي والمشرع ومخلصها، تغلب عدو الخير وتُحطمه، لا يمكن لمرض روحي أن يصيبها وأخيرًا فإنها تتمتع بغفران الخطايا خلال التوبة الدائمة.

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الرابع والثلاثون

إدانة الأعداء مقاومي الحق

الأصحاحان 34، 35 يمثلان نبوة واحدة، الأول يمثل الجانب السلبي حيث يدعو الله الأمم مجتمعة معًا ليروا دينونة جماعية لمقاومي الحق ولمضطهدي شعب الله الممثلين في أدوم بصفة خاصة. لقد شمت الأدوميون لما حلّ بالشعب بواسطة آشور، بل وقاموا بالسلب والنهب، وكانوا يساعدون الأعداء ضدهم، وإن فلت أحد أمسكوه وباعوه للعدو، وأخيرًا جاءوا بأغنامهم لترعى في مدن يهوذا وحقولها بعدما صارت خرابًا، لذلك استحقوا حلول غضب الله عليهم. أما الأصحاح التالي فيحمل الجانب الإيجابي الخاص بإقامة الشعب وتمتعه بمراحم الله .

الأصحاح الأول (34) يكشف عما يحل بعدو الكنيسة الحقة من غضب إلهي، وبالتالي عما يحل بالكنيسة نفسها من بركات.

1. دعوة جماعية           [1-4].

2. دمار أدوم               [5-15].

3. تأكيد عن تحقيق ذلك    [16-17].

1. دعوة جماعية:

يقدم النبي دعوة عامة إلى جميع الأمم لكي ينصت العالم ويرى ويصمت لأن الرب تكلم، إنه يعلن دينونة الله للأمم المتمسكة بالشر لعلها تعود فتُراعي أحكامه بعدما أطال الله أناته عليها زمانًا.

إنها أشبه بدعوة موجهة ضد العالم كله يدخل فيها الرب نفسه طرفًا في المعركة، معلنًا سخطه وحمو غضبه على كل جيوشهم [2]، فقد تعرضت بسبب الشر إلى القتل وطرح الجثث حتى تنتن؛ تجري الدماء على الجبال كمياه.

يعود النبي فيؤكد أن الله لا يعني بني البشر، إنما المعركة قائمة بين الله وملائكته وإبليس وملائكته. لذلك يقول: "ويفني كل جند السموات" (جنود الشر في السموات أف 6: 12، رؤ 12: 7-9؛ 20: 1-8).

ماذا يعني بقوله: "ويفني كل جند السموات وتلتف السموات كدرج وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة والسقاط من التينة" [3].

أ. يحاول بعض المفسرين الألفيين أن يروا في ذلك إشارة إلى زوال السماء القديمة لكي يتحقق في الحكم الألفي قيام أرض جديدة وسماء جديدة[353].

ب. يرى القديس أغسطينوس أن السموات التي تلتف هنا كدرج (كتاب) هي الكتاب المقدس، إذ يقول: [أسفار العهدين تُدعى "السموات"... إنني أدرك وأفهم الكتب المقدسة التي كتبها خدامك بعمل الروح القدس[354]]. وكأن أحد تأديبات الله للأشرار المصرّين على شرهم هو فقدانهم إمكانية التمتع بجند السموات أي بقوة الكتاب المقدس، فيصير بالنسبة لهم كتابًا مغلقًا لا يدركون أسراره في حياتهم، أو يكون بالنسبة لهم كأوراق كرمةٍ قد سقطت وانتثرت وكسقاط من تينة. أما بالنسبة لأولاد الله فيفتح الروح القدس عقولهم وقلوبهم وكل طاقاتهم ليدركوا قوة الكلمة عاملة في أعماقهم كما في سلوكهم.

يقول العلامة أوريجانوس: [كُتبت الكتب المقدسة بواسطة روح الله؛ وهي لها معانٍ ليس كما تظهر لأول وهلة بل معانٍ أخرى لا يدركها كثيرون. فإن هذه (الكلمات) المكتوبة هي أشكال لأسرار معينة وصور للاهوتيات. لذلك يوجد رأي واحد في كل الكنيسة أن القضية بأكملها روحية حقًا وأن المعنى الروحي الذي يحويه الناموس لا يعرفه الكل وإنما يعرفه الذين وهبت لهم نعمة الروح القدس في كلمة الحكمة والمعرفة وحدهم[355]].

ج. يمكننا القول بأن الأرض والسماء يرمزان إلى جسد الإنسان ونفسه. فالأشرار يخسرون قدسية وسلامة أجسادهم كما نفوسهم. تصير أجسادهم كجبال جبارة لكن الدماء تسيل منها [3]، لهم منظر القوة الجسدية وربما الجمال الجسدي والبهاء الخارجي لكنها كأجساد ملطخة بالدماء تحمل رائحة موت ونتانة. وتصير نفوسهم كسموات فقدت كل طاقاتها (جندها) مغلقة ككتاب مختوم... لهم مظهر الشجاعة وربما الشهامة وقوة الشخصية لكنك إذ تحتكّ بهم عن قرب تجدهم نفوسًا ضيّقة حطمها اليأس وأفسدها الغم الداخلي مع الاحساس بالعزلة والحرمان.

هذه هي صورة الشرير، له مظهر قوي من الخارج لكنه يحمل كل ضعف في أعماقه. وكما يقول المرتل: "لا تغر من الأشرار ولا تحسد عمال الإثم، فأنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطعون  ومثل العشب الأخضر يَذبلون" (مز 37: 1-2).

2. دمار آدوم:

كانت العادة أن تُدهن السيوف قبل المعركة بالشحوم حتى لا تحتاج إلى تنظيف بعد قتل كل شخص من الأعداء، إذ يمنع الدهن الدماء من الالتصاق بها أما سيف الرب الرمزي فيُدهن كما بالغضب السماوي: "لأنه قد رَوِىَ في السموات سيفي" [5].

حل سيف الرب على آدوم أشبه بسكين كاهنٍ تذبح القطيع العاجز عن المقاومة؛ عمل في العاصمة "بصرة" [6] كما في بقية أدوم، ليقدم ذبائح لا للمصالحة إنما ذبائح محرقة للدينونة [5]، حالة عليها اللعنة الإلهية.

هذا السيف اجتاز الكل: البقر الوحشي والعجول مع الثيران... أي رجال الحرب العنفاء (البقر الوحشي) كما العامة؛ الكبير مع الصغير، إذ هي دينونة عامة، لأن الجميع اشتركوا معًا في الإثم.

"تُروى أرضهم من الدم، وترابهم من الشحم يُسمَّن" [7]؛ إن كان اسم "أدوم"  معناه "تراب" (آدم) وأيضًا "دم"، هكذا يختلط دمهم المسفوك بترابهم. لقد عاشوا كتراب محبين للأرضيات والزمنيات فهلكوا بدمهم.

يصنع الله هذا كله من أجل صهيونه، شعبه المحبوب، الذي يكرهه آدوم.

أخيرًا يؤكد أن دمار أدوم تام [9-15].

"وتتحول أنهارها زفتًا، وترابها كبريتًا، وتصير أرضها زفتًا مشتعلاً، ليلاً ونهارًا لا تنطفئ، إلى الأبد يصعد دخانها، من دور إلى دور تخرب..." [9-10] بمعنى تتحول إلى أتون نار، لا تحتاج إلى وقود من الخارج، إذ تتحول أنهارها إلى قار، وترابها إلى كبريت، فتصير أرضها نارًا متقدة لا تنطفئ نهارًا ولا ليلاً، دخانها يصعد رائحة دنسة كدخان قاتم، يبقى خرابها مستمرًا عبر الأجيال.

تتحول من مسكن للبشر إلى مسكن للحيوانات والطيور الجارحة [10، 11، 13، 14] .

عوض البناء يمد خيط الخراب ومطمار الخلاء [11] .

تُفقد القيادات، ليس فيها أشراف ولا رؤساء.

عوض الثمار تنبت شوكًا حتى في قصورها، وقريصًا وعوسجًا في حصونها [13] علامة هجر القصور وعدم استخدام الحصون زمانًا طويلاً.

"هناك تُحْجِرُ النّكَّازَة وتَبيض وتُفرخ وتربِّى تحت ظلها" [15]. النّكَّازَة حية من أخبث أنواع الحيات، صغيرة الحجم لكنها سامة، تعيش في مناطق بأفريقيا والعربية. غير أن ما ورد هنا يُناسب طائرًا لا حية، لهذا يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا هو وصف شعري يشير إلى سكنى الأرواح الشريرة القاتلة في النفوس المقاومة لله.

"هناك تجتمع الشَّواهين بعضها ببعض" [15]، وهي طيور جارحة تُثير رعبًا...

آدوم إذن تُشير إلى النفس الجاحدة للإيمان والمقاومة للحق، تسقط تحت الغضب الإلهي فتصير هي نفسها أتونًا لذاتها، ليس من يطفئ لهيبها الداخلي ولا من يهبها راحة أو تعزية، تتحول إلى خراب فتفقد تفكيرها المتزن. تصير مأوى للأفكار الدنسة والعواطف المنحرفة، تلهو بها الخطايا، وتلعب بها الشياطين. تصير حياتها جافة كالشوك وعقيمة بلا ثمر، تفقد جمالها وحصانتها، كما تتحول إلى ظلمة ليل دائم بلا نهار أو نور [13] .

3. تأكيد عن تحقيق ذلك:

"فتشوا في سفر الرب واقرأوا؛ واحدة من هذه لا تُفقد" [16].

لا يقصد هنا سفر الحياة أو سفر الدينونة (حز 32: 32؛ مز 56: 8؛ 69: 28؛ دا 7: 10؛ ملا 3: 16؛ رؤ 3: 5؛ 20: 12؛ 21: 27)، إنما يقصد النبوات التي أعلنها عن آدوم بخصوص خرابها[356].

يلاحظ البعض أنه نادرًا ما يصدر النبي أمرًا، لكنه هنا يأمر "فتشوا...واقرأوا"، لأن الأمر كان في أيامه يبدو مستحيلاً وغير معقول. وقد تحققت هذه النبوة جزئيًا بعد خراب أورشليم بواسطة نبوخذنصَّر... ولا تزال تتحقق في كل يوم بالنسبة لمقاومي الحق، حتى تتم بالكمال في مجيء الرب الأخير حيث يهلك إبليس وكل جنوده.

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس والثلاثون

بركات مملكة المسيح

يعتبر هذا الأصحاح تتمه للأصحاح السابق، فإن كان الله يُدين الأمم المقاومة له في حياة مؤمنيه، إنما يفعل ذلك لأجل بنيان شعبه ونموهم وتمجيدهم، الأمر الذي يتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم، الذي بالصليب حطّم قوات الظلمة وفتح باب بركاته الإلهية أمام الراجعين إليه مهما بلغ ضعفهم.

1. تحويل البرية إلى فردوس         [1-4].

2. إشباع احتياجات المؤمنين         [5-9].

3. مملكة فرح وبهجة                [10].

1. تحويل البرية إلى فردوس:

يرى بعض الدارسين أن ما ورد هنا إنما يخص حال بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبي البابلي، غير أن الكثيرين يرون في ذلك وصفًا لحال كنيسة العهد الجديد المتمتعة بالسيد المسيح رأسًا لها، يسكب مجده وبهاءه فيها. هذا هو رأي أغلب الدارسين من الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت وإن كان اتباع المُلك الألفي يحسبون هذا الأصحاح نبوة عنه لم تتحقق بعد[357].

يستطيع المؤمن الحقيقي الذي يختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع أن يختبر مجد الكنيسة مُعلنًا في حياته الداخلية وهو:

أ. تحويل البرية والأرض اليابسة إلى جنة مثمرة؛ فبدخول الرب إلى القلب وحلول الروح القدس فيه يُنتزع العقم الداخلي وتغرس جنة الرب المثمرة التي تفرح قلب الله [1-2].

v   واضح أنه لا يتحدث هنا عن أماكن خارج النفس والحواس، بل يعلن عن أخبار سارة مفرحة خاصة بالنفس الظمآنة. غير المزينة خلال رمز البرية. وكما يقول داود: "صارت نفسي نحوك كأرض يابسة" (مز 143: 6 الترجمة السبعينية). نفسي عطشانة إلى القدير إذ هو الله الحيّ (مز 42: 2).

القديس غريغوريوس النيسي[358]

ب. لعل أهم سمات كنيسة العهد الجديد هو "فرح الرب"، إذ تحيا متهللة مبتهجة داخليًا من أجل عمل الله فيها. هذا الخط واضح في كل سفر إشعياء النبي أن العصر المسياني عصر مفرح بينما لا سلام ولا فرح للأشرار رافضي عمل الله الخلاصي.

"تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر أزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويرنم" [1-2]. فرح وبهجة وترنم!

v   من نظر في ذاته إلى ربنا، وامتزجت نفسه بنوره، فليغل قلبه بالفرح.

الشيخ الروحاني[359]

v   كما أن الأشجار إن لم تشرب من الماء لا يمكنها أن تنمو، هكذا النفس إن لم تقبل الفرح السماوي لا يمكنها أن تنمو وتصعد إلى العلاء. أما النفوس التي قبلت الروح والفرح السمائي فهي التي تستطيع الارتفاع إلى العلاء... فقد انكشفت لها أسرار ملكوت السموات وهي بعد في الجسد، ووجدت دالة قدام الله في كل شيء، وكملت لها جميع طلباتها.

v   النفس دائمًا تتربى بهذا الفرح وتسعد به، وبه تصعد إلى السماء، فهي كالجسد لها غذاؤها الروحي.

القديس أنطونيوس الكبير[360]

ب. يتجلى مجد الرب وبهاؤه في القلب كعربون للمجد الأبدي السماوي. "يدفع إليه مجد لبنان... هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا" [2].

يتحدث القديس مقاريوس الكبير عن هذا المجد الخفي الذي يملأ حياة المؤمن ليعلن في يوم الرب العظيم، قائلاً:

[بتجديد العقل (رو 12: 3) وسلام الأفكار (في 4: 7) ومحبة الرب السماوية (أف 3: 19) تتميز خلقة المسيحيين الجديدة (2 كو 5: 17) عن باقي البشر... كل أحد بقدر ما يُحسب أهلاً لشركة الروح القدس بالإيمان والاجتهاد بقدر ذلك يتمجد جسده في ذلك اليوم، لأن كل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة سوف يعلن يومئذ، ويُكشف ظاهرًا في الجسد... كل ما للنفس الآن سوف يظهر في الجسد في ذلك اليوم[361]].

يقول الرسول: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 7-18).

ج. يصير الإنسان سندًا لإخوته الضعفاء؛ "شددوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبتوها، قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الانتقام يأتي، جزاء الله، هو يأتي ويخلصكم" [3-4].

إن كانت الحياة مع الله تمثل علاقة شخصية خفية بين الله والمؤمن لكنها ليس في فردية منعزلة، إنما هي خلال حياة الشركة بين الله وكنيسته الواحدة؛ كل عضو يسند أخاه في الرب لكي يتشدد الكل معًا كعروس واحدة. كل مساندة من جانبك لأخيك إنما هي مساندة لك أنت شخصيًا لأنه يمثل يديك وركبك.

v   ليس شيء يجعل البشر منهزمين سريعًا في التجارب ومنهارين مثل العزلة. اخبرني؛ بَعْثِر فرقة في حرب، فإن العدو لا يقلق في سبيهم وأسرهم كفرادى.

القديس يوحنا ذهبي الفم[362]

2. إشباع احتياجات المؤمنين:

أ. إذ يقول: "هو يأتي ويخلصكم، حينئذ..." [4-5]؛ أي عندما يأتي الرب المسيح المخلص تتحقق أمور فائقة، معجزات وآيات باهرة: "حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح؛ حينئذ يقفز الأعرج، كالآيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر" [5-6].

يحاول المنادون بالملك الألفي أن ينسبوا ذلك للملك الألفي، مع أن السيد المسيح نفسه استخدم هذا النص عندما أجاب تلميذي يوحنا المعمدان مؤكدًا أنه هو المسيا المنتظر (مت 11: 4-6). يعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلاً: [كإنه يقول لهما: لقد رأيتماني فلتعرفاني! لقد رأيتما أعمالي، إذن فلتعرفا صانعها...وطوبى لمن لا يعثر فيّ[363]].

الله الذي خلق كل شيء حسنًا جاء بنفسه إلى العالم ليجدد خليقته مصلحًا ما قد فسد، ولكي يرد للإنسان سلامه وصحته وبهجته. يفتح بصيرته الداخلية لمعاينة الأسرار الإلهية، والآذان لكي تستعذب الصوت الإلهي وتستجيب لوصاياه، ويهب الأعرج قدرة للسير في الطريق السماوي، وينطق الأخرس بتسابيح داخلية... هذا كله بفعل الروح القدس (المياه والأنهار) الذي أرسله السيد المسيح من عند الآب...

v   تتحقق نبوة إشعياء ليس فقط في الأمور الجسدية بل وفي الروحيات... فالذين كانوا قبلاً عرج صاروا يقفزون بقوة يسوع كالآيل. قورنوا بالآيل ليس بدون قصد، فأنه حيوان طاهر معادٍ للحيات التي لن تؤذيه بسمها. وهكذا أيضًا بالنسبة للخرس فانهم يتكلمون...

العلامة أوريجانوس[364]

ب. "ويصير السراب أجمًا، والمعطشة ينابيع ماء. في مسكن الذئاب في مربضها دار للقصب والبردي" [7]. يعني بهذا أنه عوض الجفاف يصير فيض ماء؛ إذ تصير الأرض الجافة (السراب) بركة ماء والأرض الظمآنة ينابيع مياه متفجرة؛ في مسكن الذئاب حيث القفر يوجد ماء فتنبت الحشائش ويظهر البردي الذي لا يوجد إلاَّ في الأماكن التي بها وفرة ماء.

كثيرًا ما يُحدثنا الأنبياء عن العصر المسياني كعصر مياه (إش 41: 17-20؛ 43: 18-20؛ 44: 3-4؛ حز 47: 1-12). يقول المرتل: "نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي، الله في وسطها فلن تتزعزع" (مز 46: 4-5).

v   ما هي نهر سواقية هذه؟ أنه فيض الروح القدس الذي قال عنه الرب: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). هذه الأنهار فاضت من حضن بولس وبطرس ويوحنا وبقية الرسل، ومن الإنجيليين المؤمنين. وحيث أن هذه الأنهار فاضت عن نهر واحد لذلك فإن "نهر سواقيه تفرح مدينة الله "....

واضح أن مجاري النهر تُفهم بمعنى الروح القدس الذي به تتقدس كل نفس تقية تؤمن بالمسيح لتصير مواطنة في مدينة الله.

القديس أغسطينوس[365]

ج. "وتكون هناك سكة وطريق يُقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم، من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل، لا يكون هناك أسد... بل يسلك المفديون فيها" [8-9]. ما هو هذا "الطريق" إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي قدم نفسه لمؤمنيه طريقًا آمنًا لا يعبر فيه نجس، بل يكون الكل فيه قديسين، حتى الجهال ينالون فهمًا وحكمة فلا يضلون، ولا يستطيع عدو الخير (الأسد المفترس) أن يقترب إلى السالكين فيه.

يحدثنا القديس كيرلس الأورشليمي عن إيماننا بالسيد المسيح كدرع ضد عدو الخير إبليس، قائلاً:

[هل يوجد أكثر رعبًا من الشيطان؟ ومع ذلك لا نجد درعًا ضده سوى الإيمان، إذ هو ترس غير منظور ضد عدو غير منظور، يصوب أسهمًا مختلفة في وسط الليل نحو الذين هم بلا  حذر.

لكن إذ هو عدو غير منظور فلنا الإيمان عُدَّة قوية كقول الرسول: "حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف 16: 6).

فإذ يُلقى الشيطان شرارة ملتهبة من الشهوة المنحطة، يُظهر الإيمان صورة الدينونة فيطفئ الذهن الشريرة[366]].

3. مملكة فرح وبهجة:

تُمسح كل شعوب الأمم القادمة إليه بدهن الفرح، فتصير أمة مقدسة متوّجة بأكاليل البهجة النابعة عن النصرة. لا يستطيع الحزن والتنهد أن يجدا لهما موضعًا في قلوبهم بل من الخارج فقط.

هذه هي مسحة كنيسة العهد الجديد بكونها أيقونة السماء المتهللة بالرب. لذا قيل: “ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد" [10].

v   توجد بالحقيقة راحة حيث لا يوجد ألم أو حزن أو تنهد، حيث لا توجد ارتباكات أو متاعب أو صراعات أو خوف من ذهول النفس واضطرابها، وإنما توجد مخافة الله المملوءة بهجة.

القديس يوحنا ذهبي الفم[367]

v   لنحزن هنا متأملين في الأمر حتى لا نحزن هناك في العقاب بل نتمتع بالبركات الأبدية... لننعم بالأمور الفائقة للعقل في المسيح يسوع ربنا (فلا نضطرب من الحزن). 

القديس يوحنا ذهبي الفم[368]

 

<<

 

 


 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

القدوس واهب الغلبة

[ص 36- ص 39]

 


 

 

القدوس واهب الغلبة

في الأصحاحات السابقة كشف النبي عما وصل إليه كل بشر، وما بلغت إليه كل الأمم، الآن يعلن أن الإنسان الساقط الذي تُحطمه الخطية ويهدده الموت يمكن أن يعيش غالبًا ومنتصرًا بالله القدوس، يغلب الأعداء، كما يهزم الموت، إن نال نصرة داخلية في أعماقه.

يقدم لنا النبي معاملات الله مع الملك حزقيا كنموذج حيّ للتمتع بالله القدوس واهب الغلبة، كما يقدمه نموذجًا واقعيًا لمن يفقد غلبته ونصرته على الأعداء إن تجاهل شركته بالقدوس.

لقد جاءت الأحداث الواردة هنا [ص 36-39] في (2 مل 18: 13-20؛ 19؛ 2 أى 32)، وقد حاول بعض الدارسين البحث في أيهما اعتمد على الآخر: إشعياء النبي (أو كاتبه) أم كاتب سفر ملوك الثاني وأخبار الأيام الثاني؟ لكن كما يقول بعض المفسرين إننا نؤمن بوحي الروح القدس الذي يستطيع أن يهب ذات الأمر لأشخاص متعددين دون أن يعتمد الواحد على كتابات الآخر.

<<


 

الأصحاح السادس والثلاثون

إثارة سنحاريب للشعب

أرسل سنحاريب ملك آشور ربشاقي ليُثير الشعب ضد حزقيا ملك يهوذا، مطالبًا إياهم ألا يتكلوا على فرعون ولا ينخدعوا بكلمات ملكهم المتكل على إلهه بل يعقدوا معه صلحًا حتى لا يُخّرِب بلادهم، وأن يقبلوا الذهاب إلى أرض السبي برِضا.

لكي نفهم هذه الحادثة التاريخية يلزمنا دراسة (2 أى 32، 2 مل 18: 13-20؛ 19).

1. سنحاريب يستولي على مدن يهوذا         [1].

2. إرساله ربشاقي إلى أورشليم               [2-10].

3. ربشاقي يُثير الشعب                        [11-21].

4. عودة المسئولين إلى حزقيا                 [22].

1. سنحاريب يستولي على مدن يهوذا:

"وكان في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا أن سنحاريب ملك آشور صعد على كل مدن يهوذا الحصينة وأخذها" [1].

ورد غزو سنحاريب على يهوذا هنا في (ص 36) وأيضًا في (2 مل 18: 13-20)، وبمقارنة النصين يُلاحظ الآتي:

أ. جاء في (2 مل 18) أن حزقيا أرسل إلى ملك آشور يعتذر له ويقول: "قد أخطأت، ارجع عني ومهما جعلت عليّ حملته"، وبالفعل فرض عليه جزية ثلاث مئة وزنة من الفضة وثلاثين من الذهب دفعها حزقيا من بيت الرب ومن خزائن بيت الملك... لكن سنحاريب خان العهد وعاد يرسل جيشًا ليقتحم أورشليم. وقد جاء تاريخ آشور يؤكد ذلك فقد حُسب حزقيا كعصفور في قفص لم يكن قادرًا على الخروج من أورشليم، وأنه دفع الجزية كما أن 200.000 شخصًا من شعبه سقطوا أسرى.

لم يذكر إشعياء النبي أمر الجزية، لأنه لم يهدف إلى تاريخ حياة حزقيال، إنما أراد إبراز معاملات الله معه لتأكيد إمكانية الله للخلاص عندما يبدو الأمر مستحيلاً.

ب. يرى بعض الدارسين أن سنحاريب قام بحملتين للغزو على يهوذا، الأولى سنة 701 ق.م. والأخرى سنة 688 ق.م. أيام ترهاقه ملك مصر وكوش (إش 37: 9).

ج. جاء في (2 مل 18: 17) أن سنحاريب أرسل مع ربشاقي قائدين هما ترتان وربساربس؛ كانت الإرسالية تضم ثلاثة قواد وكان ربشاقي هو المتكلم الوحيد بينهم.

يرى البعض أن ربشاقي ليس إسمًا لشخص إنما هو لقب يعادل "رئيس سقاة" يتذوق الخمر قبل أن يشرب منه الملك حتى لا يتعرض الملك للتسمم، كما كان يقوم بأدوار أخرى رئيسية في القصر الملكي.

لقد سمح الله بهذا الضيق في أيام حزقيا الذي قام بإصلاحات كثيرة وسط الشعب وإن كان كثيرون - خاصة من القادة الدينيين والمدنيين - اهتموا بالإصلاح الخارجي دون الداخلي، فاهتموا بالشكليات دون الحياة القدسية، وقد أراد الله أن يزكي حزقيا ويحول الضيق إلى تمجيده. هذا ومن جانب آخر أراد أن يكشف ضعف حزقيا أمام نفسه فقد خانته شجاعته ولم يكن اتكاله على الله كاملاً... بالتجربة اعترف بضعفه وزاد إيمانه بالله وثقته فيه.

2. إرساله ربشاقي إلى أورشليم:

أرسل سنحاريب ربشاقي من لاخيش (لخيش)، وهي مدينة محصنة تقع في سهول يهوذا (يش 15: 33، 39)، كانت تُعرف سابقًا بتل الحصى التي تبعد 16 ميلاً شمال شرقي غزة وأحد عشر ميلاً جنوب غربي مدينة جبرين، يُرجَّح الآن أنها تقع في تل الدوير على بعد خمسة أميال جنوب غربي بيت جبرين؛ حاصرها سنحاريب ومن المعسكر الذي أمامها أرسل ربشاقي إلى أورشليم لكي يسلمها الملك ورجاله.

وقف ربشاقي ومعه جيش عظيم عند قناة البركة العليا في طريق حقل القصار [2]، أي حقل مبيض الثياب، خارج أورشليم وقريب منها جدًا حيث كان الذين على سور المدينة يسمعون من يتكلم في حقل القصار. يرى البعض أنه في وادي قدرون، وأن القناة المشار إليها هي النفق الموصل ينبوع العذراء ببركة سلوام، وإن كان البعض يرى أنه كان شمال المدينة، حيث كان الشمال هو الجانب الطبيعي الذي يقع الهجوم منه.

خرج إليه الياقيم خلف شبنا المتولى على بيت الملك (إش 22: 15-20) أشبه برئيس الوزارة، وشبْنا الكاتب الذي يُسجل للملك أهم الأحداث للتذكرة ويقوم بدور المؤرخ لحياة الملك، وأيضًا يوآخ المسجل.

سخر ربشاقي بحزقيا الملك أمام عظمائه إذ دعى سنحاريب "الملك العظيم ملك آشور" بينما لم يعطِ لقبًا لحزقيا [4]. هزأ به لأنه اتكل على فرعون مصر قائلاً: "أنك قد اتكلت على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر، التي إذا أتكأ أحد عليها دخلت في كفه وثقبته" [6]. وقد صدق في هذا أن من يتكل على ذراع بشر إنما يتكئ على قصبة مرضوضة لا تقدر أن تسنده بل وتثقب يده. كما سخر به لأنه اتكل على الله إلهه، قائلاً: "أفليس هو الذي أزال حزقيا مرتفعاته ومذابحه، وقال ليهوذا وأورشليم: أمام هذا المذبح تسجدون؟!... لا يجعلكم حزقيا تتكلون على الرب قائلاً: انقاذًا ينقذنا الرب، لا تُدفع هذه المدينة إلى يد ملك آشور... هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك آشور؟!... مَنْ مِن كل آلهة هذه الأراضي أنقذ أرضهم من يدي حتى ينقذ الرب أورشليم من يدي؟!" [7، 15، 20].

في ذات الموقع الذي فيه سخر آحاز بالرب رافضًا التعامل مع الله متكلاً على الذراع البشري (إش 7)، صار ربشاقي  يسخر بالله، وكأن بني يهوذا صاروا يشربون من الكأس التي قدمها لهم آحاز ملكهم من قبل! في ذات الموقع الذي جاء فيه إشعياء إلى آحاز يسأله أن يطلب آية من الرب لتأكيد إمكانية الله للخلاص فيرفض، جاء ربشاقي يسخر بيهوذا وملكهم وإلههم!

لقد اتكل حزقيا أيضًا على معاهدات بشرية مع فرعون، وبخه الله عليها على لسان رجل وثني، إذ دعاها كلام شفتين، مشورة كلامية [5] لا قوة لها ولا فاعلية. الآن يراهنه أنه يُقدم له ألفين فرس إن جاء بألفين فارس من شعبه قادرين على استخدامها. وكأنه يقول له: لماذا تتكل على فرس مصر وفرسانها، ها نحن نقدم لك الخيل قدم لنا رجالك؟!.

3. ربشاقي يُثير الشعب:

إذ استخدم ربشاقي حرب الأعصاب لإثارة الشعب ضد الملك ورجاله، ودَفْعِهم إلى اليأس وتحطيم إيمانهم بالله المخلص، طلب رجال حزقيا من ربشاقي أن يتحدث بالآرامية – السريانية - التي كان ينطق بها سكان شمال وشرق فلسطين، ويفهمها الآشوريون إذ تنتمي إلى ذات عائلة لغاتهم، وهي لغة لا يفهمها عامة الشعب اليهودي، لكن ربشاقي أصّر على الحديث بالعبرية، لإثارة الشعب وإحداث نوع من الانشقاق، لعله يستطيع أن يشعل حربًا أهلية وسط الشعب والقيادات.

هذا هو عمل عدو الخير، يستخدم اللغة التي تثير ضعفنا، والتي تسبب انشقاقًا وانقسامات.

أراد ربشاقي أن يُثير الشعب فذكّرِهم بما سيحل بهم من دمار عوض تمتعهم بالخيرات في آشور لإظهار أن حزقيا يخدعهم وأن إلههم لن ينقذهم. أنه يستخدم ذات الأسلوب الذي يستخدمه عدو الخير عبر كل الأجيال، إذ نرى حاليًا اتباع "كنيسة الشيطان" في أمريكا ينادون بأنهم يعبدونه لأنه يستجيب لهم ويهبهم طلباتهم التي لا يُقدمها لهم الله.

عمل عدو الخير الرئيسي هو إثارة الرعب في حياة الإنسان وتشكيكه في قوة الإيمان. فمن جانب يُحطم نفسيتهم بالإرهاب والرعب، ومن الجانب الآخر يُريد أن يعزلهم عن الله ملكهم ومخلصهم ليستفرد بهم. لذلك يصرخ داود النبي قائلاً: "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه" (مز 3: 2)، "كل الذين يرونني يستهزئون بيّ، يغفرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فليُنجه، لينقذه لأنه سُرّ به!" (مز 22: 7-8)؛ "لأن أعدائي تقاولوا عليّ، والذين يرصدون نفسي تآمروا معًا، قائلين أن الله قد تركه، ألحقوه وامسكوه لأنه لا منقذ له" (مز 71: 10-11). هذه هي صورة حرب عدو الخير الذي يسخر بالمؤمنين ويهينهم محطمًا نفوسهم حتى يفقدوا رجاءهم في الرب إلههم فيلحق بهم وينحدر بهم معه حتى الهاوية. وقد أراد العدو أن يمارس ذات الحرب مع ممثل البشرية ومخلصهم، إذ قيل له: "خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها، إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (مت 27: 42).

"فسكتوا ولم يجيبوا بكلمة لأن أمر الملك كان قائلاً لا تجيبوه" [21] (2 مل 18: 36). كان من المتوقع أن يعلنوا عن ثورتهم وعصيانهم على الملك، لكنهم صمتوا علامة الطاعة والثقة منتظرين أمر الملك وتعليماته. أطاعوا الملك الذي سألهم ألا يجيبوه، أي لا يدخلوا في حوار معه لئلا يسقطوا في الضعف كما سقطت حواء بحوارها مع الحية القديمة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يجب عليها أن تصمت؛ كان يلزمها ألا تُبادلها الحديث، ولكن في غباء كشفت قول السيد، وبذلك قدمت للشيطان فرصة عظيمة... انظروا أي شر هذا أن نسلم أنفسنا في أيدي أعدائنا والمتآمرين علينا[369]]. كما يقول: [إذ لم يكن الشيطان قادرًا على تقديم شيء عمليًا قدم بالأكثر وعودًا في كلمات. هكذا هي شخصية المخادعين[370]]. ويقول القديس أغسطينوس: [الله هو قائدنا والشيطان هو مهلكنا، القائد يُقدم وصيته وأما المهلك فيقترح خدعة، فهل نصغي إلى الوصية أم إلى الخداع؟![371]].

4. عودة المسئولين إلى حزقيا:

جاء الرجال إلى حزقيا وثيابهم ممزقة فأخبروه بكلام ربشاقي [22]... جاءوا في حزن ومرارة إلى الملك.

ليتنا نحن أيضًا إذ نشعر بالمرارة لا نشق ثيابنا بل نمزق قلوبنا بالتوبة ملتجئين إلى المسيح الملك القادر وحده أن يهبنا المشورة الصالحة والعامل فينا بروحه القدوس.

<<

الأصحاح السابع والثلاثون

إلتجاء حزقيا إلى الرب

إذ سمع حزقيا الملك تعييرات سنحاريب وجد في الرب وحده ملجأ له؛ مزق ثيابه ولبس المسوح ودخل بيت الرب وبعث رسلاً إلى إشعياء النبي يطلب الصلاة من أجله ومن أجل تمجيد اسم الرب. تدخل الله في المعركة بذراعه الرفيعة، فضرب ملاك الرب جيش آشور ومات 185 ألفًا، كما مات سنحاريب وابنه شرآصر ليملك ابنه آسرحدون.

1. التجاء حزقيا إلى الله وإلى نبيه   [1-4].

2. إشعياء يطمئن حزقيا              [5-7].

3. ملك آشور يُعيرّ الرب             [8-13].

4. صلاة حزقيا                       [14-20].

5. إشعياء يعود فيطمئن حزقيا       [21-35].

6. ضرب جيش آشور                [36].

7. موت سنحاريب وابنه شرآصر    [37-38].

1. التجاء حزقيا إلى الله وإلى نبيه:

اختلفت الآراء حول تقدير سلوك حزقيا، فالبعض رأى فيه الإنسان الورع التقي والمتواضع لذا اغتصب مراحم الله وإن كان فيما بعد سقط في الكبرياء فهلك، ويرى البعض أن ما فعله حزقيا ليس عن تقوى ولا عن إيمان لأنه بعد قليل قدم خزائن الهيكل لسنحاريب (2 مل 18: 14-16) وقال له: "أخطأت". هذا وقد لحق الملك رعبًا وخوفًا، وعند حديثه كرر العبارة "الرب إلهك" [4]، وليس "الرب إلهنا" أو "إلهي".

نعود إلى الملك لنراه عند سماعه كلمات ربشاقي "مزق ثيابه وتغطى بمسح ودخل بيت الرب" [1]. كان ذلك علامة حزنه مع اتضاعه أمام الله .

أرسل حزقيا الياقيم وشبْنا وشيوخ الكهنة متغطين بمسوح إلى إشعياء النبي [2]. لقد تغير الحال، فبعد أن كانت القيادات المدنية والدينية تسخر بإشعياء حين كان يسير حافيًا وعريانًا منذرًا إياهم أن فرعون ورجاله لن يستطيعوا إنقاذهم (إش 21)، الآن ها هم يأتون إليه لابسين المسوح في مرارة يعلنون حاجتهم إلى صلواته ومشورته. ادركوا أنه "يوم شدة وتأديب وإهانة" [3]، فليكن يوم توبة وصلاة. شعروا "أن الأجِّنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة" [3]، من يستطيع أن يعين إلاَّ الله خلال الصلاة؟! لا يقدر فرعون بكل إمكانياته أن يهب المرأة الحامل قدرة على الولادة حتى متى حان وقت الطلق... الصلاة هي "المولِّدة" للرحمة التي تحقق الولادة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يُعادل الصلاة! إنها تجعل المستحيل ممكنًا، والصعب سهلاً. لا يمكن للإنسان الذي يُصلي أن يسقط في خطية[372]]. ويقول الأب ثيوفان الناسك: [الصلاة هي كل شيء؛ هي موجز كل شيء: الإيمان، الحياة حسب الإيمان، الخلاص الخ[373]...] كما يقول أن الصلاة هي [نسمة الروح[374]]، هي [مقياس الحياة الروحية[375]]، الكنيسة كلها [تتنسم خلال الصلاة [376]].

لقد تشامخ ربشاقي وعيرّ الإله الحيّ، لذا يحتاج الأمر إلى تدخل هذا الإله لإعلان مجده وقدرته، ولأجل خلاص البقية الأمينة له. يقول المرتل: "حتى متى يا الله يُعيّر المقاوم؟!" (مز 74: 10).

2. إشعياء يطمئن حزقيا:

سخر إشعياء بملك آشور ورجاله، إذ حسب رجال حربه وقواده غلمانًا، ليس لهم فهم ولا قدرة؛ فلا يليق بحزقيا أن يخافهم [6].

ما فعله سنحاريب خلال رجاله يُفعل به؛ فقد حاول رجاله أن يملأوا آذان الشعب بكلمات تجديف كما هددوا بالقتل، لهذا امتلأت آذان ملك آشور بخبر يزعجه [7] ويسقط بالسيف في أرضه. نطق بكلمات قاسية وهدد بالقتل، فارتدت الكلمات عليه وقُتل. أما قوله: "هانذا اجعل فيه روحًا" [7]، فيعني أن الله يتركه لروح الشر الذي قبله بمحض اختياره، يسلمه له، فيمارس شره الذي يرتد عليه. 

3. ملك آشور يُعيرّ الرب:

رجع ربشاقي إلى سنحاريب ليجده قد ترك لخيش وذهب إلى لبنة ليُحاربها.

"لبنة" اسم معناه "بياض"، وهي مدينة بين لخيش ومقيدة (يش 10: 39؛ 12: 15)، في نصيب يهوذا خصصت لبنى هرون (يش 21: 13). يُرجَّح أنها في المكان المسمى تل بورناط على مسافة ميلين شمال غربي من بيت جبرين، يُظن أنها تل الصافي أو الصافية.

سمع الملك أن ترهاقة ملك مصر وكوش [9] قد خرج ليحاربه فأرسل إلى حزقيا مرة أخرى يُهدده طالبًا خضوع أورشليم واستسلامها له، مجدفًا على الله الذي يتكل حزقيا عليه.

يتساءل البعض لماذا كرر سنحاريب تهديده؟ ربما لأنه كان محاطًا بأمم معادية وقد خشى من ترهاقة ملك مصر وكوش القوي، لهذا أراد الاستيلاء على أورشليم دون سفك دماء لتكون سندًا له.

مع ما حملته الرسالة من تجديف على الله لكنها مختصرة عن الأولى وأخف بكثير في لهجتها ربما لأنه أراد أن يكسب حزقيا ويستميله دون إثاره. لقد أظهر له أن لا يوجد عداء شخصي ضده، إنما هي معركة بين إله سنحاريب الغالب لكل آلهة الأمم الأخرى وإله حزقيا...

معركتنا الروحية في حقيقتها معركة بين الله وإبليس؛ نحن لسنا طرفًا فيها، ولا نقدر أن نكون طرفًا. إن اختفينا في الله نلنا النصرة به وفيه، مهما حاول العدو أن يُعيرنا! هذا ما أدركه داود النبي حينما رأى جليات الجبار يقاوم شعبه إذ قال: "لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يُعيّر صفوف الله الحيّ؟! (1 صم 17: 26)، "أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتيّ إليك باسم رب الجنود..." (1 صم 17: 45).

4. صلاة حزقيا:

أخذ حزقيا رسالة سنحاريب المكتوبة من يد الرسل وقرأها ثم صعد إلى بيت الرب ونشرها أمام الرب ثم صلى [14-15].

إن كان سنحاريب حسب أنه لا يحمل عداوة شخصية مع حزقيا إنما هي معركة بين الآلهة، فقد أنطلق حزقيا إلى إلهه يعرض عليه الأمر في بيته المقدس. ولعل من أجمل سمات حزقيا أنه رجل صلاة، ففي خمس مناسبات نسمع عنه أنه يتمتع بقوة خلال الصلاة.

يلاحظ في صلاته الآتي:

أ. انفتاح قلبه في الصلاة مع خشوعه واتضاعه... لم يبرر نفسه في شيء بل اختفي تمامًا عارضًا في صراحة كاملة الأمر بين يديّ الله .

ب. يدعو الله "رب الجنود"، بكونه قائد المعركة القدير، جنوده علويون قادرون على النصرة والغلبة ضد العدو.

يروي لنا القديس جيروم عن راهب مصري يُدعى أبا آبان [إن أحد العاملين في الحقول التي بحوار النهر سأله أن يطرد عنهم "بهيموت" (أحد أنواع التماسيح المصرية) كان يؤذيهم بعنفه، فإذا به بصوت رقيق يأمر الحيوان: "أُناشدك باسم يسوع المسيح أن ترحل"، فأخذ الحيوان ينسحب كما بواسطة ملاك، ولم يعد يظهر بعد في هذه المنطقة[377]].

بالمسيح يسوع ربنا ننعم بالنصرة الأكيدة. لقد سأل العلامة أوريجانوس: [إن كان بالحق قد تحطم الشيطان وقواته معه، فكيف نعتقد أنه لا يزال هكذا صاحب سلطان ضد خدام الله؟ ويجيب قائلاً: إن نشاط الشيطان العنيف له أثره على الأشرار وحدهم، لكنه لم يعد ذا سلطان على من هم في المسيح[378].

ج. دعوة الله بالجالس على الكاروبيم، إذ هو غير محتاج إلى عرش زمني، بل عرشه سماوي... لذا ففي عمله لا يطلب ما لذاته إنما ما لبنيان شعبه ومؤمنيه.

د. دعوة الله "إله كل ممالك الأرض" وليس إله إسرائيل؛ في يده كل الأمم، يُحرك العالم كله بإرادته المقدسة.

هـ. حقا لقد غلب سنحاريب الأمم المجاورة وألقى بآلهتها في النار لتحترق وتبيد... لكنه ماذا يقدر أن يفعل بالخالق؟!

و. قدم ختامًا رائعًا للصلاة: "والآن أيها الرب إلهنا خلصنا من يده فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك" [20]. كأن ما تقدمه لنا من نصرة إنما هو شهادة في العالم على صدق إيماننا بك وأنت أنت الإله وحدك ولا آخر غيرك.

5. إشعياء يعود فيطمئن حزقيا:

صلى حزقيا إلى الله فجاءت الإجابة سريعة عن طريق إشعياء النبي، مضمونها الآتي:

أ. إن كان سنحاريب قد جدف على الله وسخر به، فقد وجه الرب حديثه إلى سنحاريب يسخر به قائلاً: "احتقرتك، استهزأت بك إبنة صهيون، نحوك انغضت ابنة أورشليم رأسها..." [22] الخ.... وكأنه يقول له: إن كنت قد هجت عليّ كحيوان مفترس فإنني أعرف أن اضبطك وأسخر بك خلال العذراء ابنة صهيون إبنة أورشليم... أو كأنه يقول له: أنت تأتيني بجيشك الضخم وأنا أُحطمك بفتاة عذراء تحتقرك. أنت تفتخر بكثرة مركباتك، إذ صعدت إلى الجبال العالية وقطعت أرز لبنان وسروه وتعمقت إلى وعر الكرمل ولم تدرك قدرتي، فإنني إذ أحفر في الجبال بيدي أبعث ماءً للشرب وإذ أطأ الأنهار بقدميّ اُجففها، في يدي مفاتيح الطبيعة... أذكر ما فعلته بفرعون أيام موسى النبي [24-26]. أذكر ما فعلته بالأمم حين وهبت أرض الموعد لشعبي! تعلَّم من التاريخ خلال وقائع عملية حتى لا تتحطم!

يعلن الله لسنحاريب أنه ضابط الكل والعارف بالسرائر، ليس محتاجًا أن يبعث إليه رسائل للتجديف عليه، فأنه يعرف جلوسه وخروجه ودخوله وهيجانه عليه... ويستطيع أن يشكمه كالحيوانات فيضع خزامة في أنفه وشكيمة (لجامًا) في شفتيه، ويديره كحيوان مُقاد ليعود من حيث جاء.

بمعنى آخر سخر الله به من جوانب عدة: يستطيع أن يهينه خلال فتاة عذراء تحتقره؛ يُثير الطبيعة ضده، يضبط تحركاته ويقوده إلى حيث لا يشاء! بمعنى آخر الله يذل عدو الخير خلال كنيسته العذراء البتول، مسخرًا الطبيعة لحساب ملكته، ومحطمًا كل إمكانيات وخطط عدو الخير.

جاء في سيرة القديسة ميلانية أن عدو الخير قد أدرك أن كل صراعاته ضدها قد باءت بالفشل، شعر بالهزيمة واستسلم ولم يعد قادرًا على مقاومتها. ويرى العلامة أوريجانوس أنه يليق بنا أن نلوم أنفسنا عندما نخطىء ولا نحسب أن الشيطان هو علة خطأنا كما يظن العامة البسطاء[379]. لقد أعطينا بالمسيح يسوع قدرة على تحطيم العدو إن أردنا.

ب. أعطى الله لحزقيا علامة مجيدة لينزع عنه الرعب من المصاعب التي تحل عليه بسبب غزو سنحاريب [30-32]. إن كان العدو قد استولى على الحصاد حتى لم تبق بذار للزرع الأمر الذي يقود إلى حدوث مجاعة أو على الأقل إلى عجز في الطعام، فإن الزرع يخرج في تلك السنة دون حاجة إلى بذار (ربما من البواقي التي سقطت عفوًا)؛ وهكذا في السنة التالية، وأما في السنة الثالثة حيث يسترد الشعب طاقته فتعود الحياة طبيعية. كأن الله يعمل معهم عجبًا ماداموا عاجزين وإمكانياتهم معدمة، حتى متى صاروا في وضعهم الطبيعي يعمل بهم خلال الحياة الطبيعية وخلال قوانين الطبيعة.

كانت هذه العلامة رمزًا للبقية الناجية من يهوذا فإن نجاتهم هي عطية من الله بالرغم من مقاومة الأعداء وعنفهم، إذ يقول: "يتأصلون إلى أسفل ويصنعون ثمرًا إلى ما فوق" [31]، كأن العدو قد استأصلهم تمامًا، فصاروا كمن هم بلا جذور، كلن الله يُقيمهم ويهبهم ثمرًا كما فعل بالزرع في السنتين الأولى والثانية من غزو سنحاريب... "غيرة رب الجنود تصنع هذا" [32]. أي أن هذا الخلاص لا يتحقق عن استحقاق بشري إنما عن حب الله لشعبه وغيرته عليه بكونه العريس السماوي الغيور على عروسه لتصير مقدسة له لا يغتصبها آخر.

"هكذا قال رب الجنود: غرت إلى أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة" (زك 1: 14).

"لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو" (خر 34: 14).

خلال هذه العلامة يعلن الله بركات نحو شعبه، وهي:

أولاً: خلاص الشعب من الدينونة فلا يحل بهم القحط بل يتمتعون بثمر وفير [30].

ثانيًا: تُزرع البقية من جديد في أورشليم [32] إشارة إلى تجديد الطبيعة البشرية ورعاية الله لكنيسته.

ثالثًا: يصنعون ثمرًا إلى فوق [31]، أي يحملون طبيعة سماوية علوية.

رابعًا: انتشار الكرازة من أورشليم [32].

خامسًا: سّر هذا العمل الخلاصي هو نار محبة الله وغيرته المتقدة [32].

ج. تأكيد الله أن سنحاريب لن يدخل أورشليم [33-35]؛ لن يصّوِب نحوها سهمًا واحدًا ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسة... إنما يعود في خزي من حيث جاء. هكذا يستخدم الله - في محبته لأولاده - كل و سيلة لينزع عنهم القلق، مؤكدًا لهم حمايته ورعايته ومحبته العملية نحوهم.

د. سرّ حمايته لشعبه ليس بَّرهم الذاتي وإنما غيرته على مجده وعهوده مع أولاده المحبوبين مثل داود. فإنه ليس من أجل يهوذا ولا من أجل صلوات حزقيا المثيرة يتدخل الله وإنما كما قال: "وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي" [35].

لقد مات داود لكن حياته مستمرة خلال صلواته المرفوعة التي من أجلها يحامي الله عن مدينة أورشليم.

6. ضرب جيش آشور:

"فخرج ملاك الرب وضرب من جيش آشور مئة وخمسة وثمانين ألفًا، فلما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة" [36].

غالبًا ما يقصد بملاك الرب كلمة الله قبل التجسد، وقد تحقق ذلك في ذات الليلة التي تلت حديث النبي إشعياء مع حزقيا (2 مل 19: 35).

لقد هُزم سنحاريب في المرة مع أنه سبق أن حاصر حزقيا وأذله، فقد جاء في إحدى الحفريات التي وجدت في خرائب نينوى[380] كلمات على لسان سنحاريب أنه هاجم حزقيا وأخذ 46 حصانًا ومدنًا صغيرة كما سبى 150 و 200 شخصًا من كبار والصغار، من الذكور والإناث، وعدد كبير من الحيوانات؛ كما أغلق على حزقيا في أورشليم كعصفور في قفص ووضع سدودًا أمام مدينته وفرض عليه جزية مضاعفة الخ...

7. موت سنحاريب وابنه شرآصَّر:

قُتل سنحاريب وابنه وهو ساجد في بيت نسروخ إلهه، الذي كان يظن أنه قادر على حمايته وأنه سرّ غلبته على كل الأمم وآلهتهم...

<<

 


 

الأصحاح الثامن والثلاثون

مرض حزقيا وشفاؤه

يقدم لنا إشعياء النبي قصة مرض حزقيا حتى الموت وشفائه بعدما عرض قصة خلاص أورشليم من حصار سنحاريب، ربما لأنه أراد تأكيد أن الله يهتم بكل عضو في الجماعة (حزقيا) كما يهتم بالجماعة ككل (خلاص أورشليم). يرعى كنيسته المقدسة بكونها جسده الواحد ولا يتجاهل عضوًا واحدًا في الجماعة.

الله لا يتخلى عن مؤمنيه، فقد دافع عن حزقيا الملك عندما التجأ إليه في بيته المقدس وخلال نبيه إشعياء ولم يلجأ إلى الذراع البشري والخطط الزمنية. والآن إذ مرض حزقيا للموت لم يكن ممكنًا أن يذهب إلى بيت الرب فوجه وجهه إلى الحائط وصلى وبكى بكاءً مرًا حاسبًا أن مرضه هزيمة لشعب الله وتقاعدًا عن رعايته لهم، مشتاقًا أن يكمل رسالته، فوهبه الله 15 عامًا.

1. أوصِي بيتك لأنك تموت           [1-8].

2. مزمور شكر                      [9-20].

3. علاجه بقرص تين                [21-22].

1. أوصِي بيتك لأنك تموت:

"في تلك الأيام مرض حزقيا للموت" [1]. واضح من هذه العبارة ومن عدد [6] أن مرض حزقيا كان في أيام غزو سنحاريب. يرى بعض الدارسين أنه بسبب  وباء حلَّ في المدينة بسبب الحصار، ويرى آخرون أنه انهيار نفسي وجسدي بسبب ما حلَّ ببلده.

جاء إليه إشعياء ينتزع عنه كل رجاء في البقاء في هذا العالم، قائلاً له: "أوصِي بيتك لأنك تموت ولا تعيش" [1].

كان خبر موته صدمة له ربما لأحد الأسباب التالية:

أ. كان كمعلمنا بولس الرسول مشتاقًا إلى الرحيل لكنه شعر بالتزام نحو خدمة الآخرين.

ب. لعله كغيره من رجال العهد القديم الذين كانوا يخافون الموت، إذ ارتبط في ذهنهم بالخطية وغضب الله على الإنسان.

ج. ربما كان يتوقع أن يرى في أيامه مسيح الرب، آدم الثاني، ممثل كل البشرية كما جاء في مزموره [11].

د. لعل السبب الرئيسي أنه لم يكن بعد قد وُلد منسي (2 مل 21: 1)، فلم يوجد من يخلفه على العرش، الأمر الذي أربكه، إذ كيف يتحقق الوعد لبيت داود أنه يبقى إلى الأبد. في هذا يضعف حزقيا جدًا على خلاف إبراهيم الذي قدم ابنه ذبيحة دون خوف واثقًا أن وعد الله يتحقق حتمًا، مؤمنًا بالله القادر أن يُقيمه من الأموات. لقد أنجب حزقيا بعد ذلك "منسي" محب عبادة الأوثان الذي أثار غضب الله على يهوذا (2 مل 23: 26).

على أي الأحوال كان حزقيا رجل صلاة، لم يُفقد الخبر رجاءه في الرب، عرف كيف يُصلي ويُصارع. لقد وجه وجهه إلى الحائط، ربما متجهًا نحو الهيكل كعادة اليهود، ليُصلي إلى الرب قائلاً: "آه يارب أذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب سليم (كامل) وفعلت الحسن في عينيك" [3]. تطلع حزقيا إلى حياته بكونها رحلة خلالها سار مع الله (تك 5: 24؛ 1 مل 9: 4) بإخلاص لا في كمال مطلق وإنما هادفًا نحو الكمال (مت 5: 45)، بفكر واحد غير متردد ولا منحرف.

لقد بكى حزقيا بكاءً عظيمًا [3].

صدر الأمر الإلهي إلى إشعياء أن يذهب إلى الملك ليخبره: "هكذا يقول الرب إله داود أبيك، قد سَمعتُ صلاتك، قد رأيت دموعك. هأنذا أُضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة" [5]. جاءت الإجابة سريعة جدًا (2 مل 20: 4)؛ ربما تحدث الله مع إشعياء فمًا لفم قبل خروجه من القصر الملكي بينما كان يُعطي نصائح روحية لرجال القصر لتهيئة الجو بعد موت الملك.

سمع الله لصلاة حزقيا، وتطلع إلى دموعه، وتذكر وعده مع داود أبيه، إذ يذكر الله عهده مع الأب لدى أبنائه (خر 20: 5، مز 89: 28-29). أعطاه سؤال قلبه، ما نطق به بلسانه وما تحدث به بقلبه: وهبه طول العمر، وخلاصًا من ملك آشور، وحماية عن مدينته أو عاصمة ملكه أورشليم.          

أعطاه الرب علامة كطلبه [22]، فقد اختلف حزقيا عن أبيه الشرير الذي رفض أن يطلب علامة من الله (إش 7: 10).

جاءت العلامة الإلهية لتأكيد تحقيق الوعد الإلهي هكذا: رجوع الشمس عشر درجات [8]. يرى البعض أنها مجرد تراجع للظل على الدرجات التي تقود إلى "بلكونة" في القصر أو تقود إلى العلية. ويرى البعض أنها كسوف للشمس حدث في 11 يناير 689 ق.م.[381] الشمس هي المقياس الصادق للزمن، وهي في يد الله محرك التاريخ والأحداث والزمن نفسه، استخدمها علامة في أيام يشوع (يش 10: 12)، وأيضًا في أيام حزقيا، وعند صُلب رب المجد، وقبل مجيئه الأخير حيث تظلم الشمس...

الله أب كل الأنوار يُحرك الشمس ويوجهها لأجل بنياننا.

ربما يتساءل البعض: هل غيّر الله رأيه بإطالة عمر حزقيا؟

يرى القديس أغسطينوس[382] أن حزقيا كان يجب أن يموت خلال المسببات الطبيعية مثل المرض، لكنه أضاف 15 عامًا إلى حياته، هذه الإضافة يعرفها الله قبل تأسيس العالم، محتفظًا بها في إرادته. ما فعله من إضافة حقق ما في خطة الله إذ يعلم ما كان سيفعله حزقيا وما كان يهبه الله إياه.

ما يشغل ذهننا ليس البحث في هل الله كان قد سبق فحدد عمر حزقيا ثم تراجع عنه بإضافة 15عامًا إليه، وإنما إدراك قوة الصلاة في حياتنا، فقد وهبته حياة بعدما كان يجب أن يموت حسب قوانين الطبيعة. الصلاة بكونها التصاق بالله واهب الحياة قادرة على كل شيء، وغالبة للموت، موت الخطية.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[383]: [إننا بالصلاة من أجل غفران الخطايا، نتمم إرادة الله وبالتالي نتأكد أنها مستجابة]. 

v   خلال الصلاة قُبلت التقدمات؛ الصلاة هي التي حوّلت الطوفان عن نوح؛ الصلاة شفت العقم، وطرحت جيوشًا؛ الصلاة أعلنت أسرارًا؛ الصلاة شقت البحر وأوجدت طريقًا في الأردن؛ الصلاة أرجعت الشمس وأوقفت القمر، حطمت الدنسيين، وأنزلت نارًا.

الصلاة أغلقت السماء، وأخرجت (أناسًا) من الجب، وأنقذت من النار، وخلصت من البحر. قوة الصلاة كقوة الصوم الطاهر عظيمة للغاية...

v   صلى حزقيا، فغلبت صلاته 185.000 شخصًا، بواسطة ملاك عمل كقائد للجيش (1 مل 19: 15، 35)...

v   دانيال صلى، فسدت صلاته أفواه الأسود...

v   حمل كل واحد من آبائنا الأبرار سلاح الصلاة عندما قابلتهم الأحزان فخلصوا منها.

الأب أفراهات[384]

v   طوبى للإنسان الذي يقبل أن يكون صديقًا حميمًا للإيمان والصلاة، فإنه يعيش في فكر واحد...

v   الصلاة التي ترتفع في قلب إنسان تفتح لنا باب السماء...

v   تُقيم الصلاة سلامًا مع غضب الله...

القديس مار أفرام السرياني[385]

v   تستطيع الصلاة أن تضغط على الشيطان الذي يضغط على الجنس البشري. إنها تقدر أن تخلص من يده، وتحرر من كل تجارب في العالم. لهذا السبب حسنًا أمَرَنا ربنا أن نسهر ونصلي لئلا ندخل في تجربة (مت 26: 41).

الأب مرتيروس[386]

2. مزمور شكر:

أ. كثيرًا ما نذكر الله في وقت الضيق والشدة لكننا ننساه في وقت الفرج والبهجة، أما حزقيا فقد أظهر أنه رجل صلاة ودموع وسط الآلام ورجل تسبيح عند الفرج يعرف كيف يشكر الله على إحساناته.

في هذا المزمور أظهر أنه رجل صلاة، رجل تسبيح، شاعر ومرنم، غريب في العالم، مملوء رجاءً في الرب المخلص من الموت وواهب الحياة المفرحة.

ب. حسن أن يُقدم حزقيا هذا المزمور كذبيحة شكر لله واهب الحياة، وكان أفضل أن يُقدم حياته ذاتها ذبيحة شكر له؛ لكن للأسف قدم تسبحة شكر دون حياة شكر، إذ قيل: "لكن لم يُرَدَّ حزقيا حسبما أُنعم عليه لأن قلبه ارتفع فكان غضب عليه وعلى يهوذا وأورشليم" (2 أى 32: 25).

يليق بنا أن نُسبح الله ليس فقط بألسنتنا فننطق بمزامير حمدٍ له، وإنما أيضًا   بكل أعضاء جسدنا ومشاعرنا وأحاسيسنا كما بسلوكنا العملي فتتحول كل حياتنا إلى قيثارة

ذات أوتار متباينة تعزف سيمفونية حب لله خالقنا ومخلصنا.

ج. يظهر من مزمور حزقيا كيف عانى في البداية من روح اليأس، إذ قال: "أنا قلت في عز أيامي أذهب إلى أبواب الهاوية. قد أُعدِمتُ بقية سِنىَّ" [10]. كان حزقيا قد بلغ حوالي تسعة وثلاثين عامًا من عمره؛ شعر أنه في عز شبابه قد قُطعت أيامه السعيدة وحرم من خدمة الله وشعبه التي كان قد وضع في قلبه أن يكملها عبر سنوات حياته. كأنه يردد كلمات داود الملك: "وأنا قلت في حيرتي إنيّ قد انقطعت من قدام عينيك" (مز 31: 22).

د. ربما كان يتوقع حزقيا أن يرى المسيح الرب في أيامه، أو كان يترجى مجيئه متجسدًا من نسله وها هو يموت بلا نسل، لذلك يصرخ في يأس: "قلت لا أرى الرب؛ الرب في أرض الأحياء، لا أنظر إنسانًا بعد مع سكان الفانية" [11]. هكذا كان يترقب أن يرى المسيح الرب هنا أو ينعم بمجد الرب في الحياة الأخرى، لكن اليأس حطمه.

"قلت لا أرى الرب "... أي رجاء لنا في هذا العالم أو في العالم الآتي ما لم ننعم برؤية الرب، هنا خلال عيني القلب بالإيمان، وهناك وجهًا لوجه!

v   طوبى، مثلث الطوبى، بل ومتعدد التطويبات للذين يُحسبون أهلاً لمعاينة ذلك المجد. عن هذا يقول النبي: "لينتزع الشرير فلا يرى مجد الرب" (إش 36: 10 الترجمة السبعينية). ليت الله يهبنا ألا يُنتزع أحد منّا ولا يُستبعد عن معاينة (الرب)... فإنه لماذا نحن نعيش؟ ولماذا نتنفس؟ ماذا يكون حالنا إن فشلنا في معاينة ربنا ولم نُمنح هذا؟! إن كان الذين لا يعاينون نور الشمس يحسبون الحياة أقسى من الموت، فماذا يكون حال من يحرمون من ذاك النور؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم[387]  

v   قبل أن أريك إلهنا أرنيّ إنسانك؛ واعطني البرهان على أن عيني نفسك تستطيع أن ترى وأن أذني قلبك تستطيع أن تسمع. على العكس من كانت أعينهم مصابة بسحابة الخطية لا يقدرون على معاينة الله...

عندما تُنزع من طبيعتك الفاسدة وتلبس عدم الفساد سترى الله إذ تتأهل لذلك. فإن الله سيُحيي جسدك ويجعله مع نفسك غير المائت، حينئذ سترى العديم الموت وحـده، إن

كنت تؤمن به الآن.

القديس ثيؤفيلس الأنطاكي[388]

هـ. يُقدم عدة تشبيهات يُعبر بها عن حياته الزمنية:

التشبيه الأول: خيمة الراعي السريعة التنقل [12]، هذا يخلق الإحساس بالغربة، ليس لنا موضع في العالم نستقر فيه، فنكون كأبينا إبراهيم الذي لا يتوقف عن السير في رحلة حياته... نبقى في هذه الخيمة المتنقلة حتى نعبر إلى مسكن أبدي ليس من صنع يد بشرية. وقد استخدم هذا التشبيه معلمنا بولس الرسول (2 كو 5: 1) وأيضًا القديس بطرس (2 بط 1: 14).

التشبيه الثاني: النسيج، "لفقت كالحائك حياتي، من النول يقطعني، النهار والليل تفنيني" [12]. هكذا يحيك الله حياتنا كثوب مقطوع من النول يُحاك حسب حجم جسد كل واحد منا، لا يدم كثيرًا بل إلى حين، كمن يلبسه يومًا واحدًا وليلة واحدة ثم يُخلع. وكما يقول اليفاز التيماني: "يُسحقون مثل العث، بين الصباح والمساء يُحطمون" (أي 4: 19-20].

التشبيه الثالث: الفريسة التي يُحطمها الأسد جميع عظامها بين نهار وليلة واحدة [13].

التشبيه الرابع: كسنونة مزقزقة يصيح في ضعف، إذ خَفتَ صوته بسبب المرض أو بالحري بسبب يأسه من الشفاء، صار صوته كهدير حمامة [14]، وصارت عيناه عاجزتين عن التطلع إلى العلاء [14].

و. نجد تحوُّلاً سريعًا من الشعور بمرارة النفس اليائسة [15] إلى خبرة الحياة الجديدة، إذ يقول بلا مقدمات: "أيها السيد بهذه يحيون وبها كل حياة روحي فتشفيني وتحيني" [16]... ينتقل من الموت إلى الحياة ومن المرارة إلى السلامة [17]؛ سرّ ذلك تدخل السيد المسيح، واكتشاف عمله الإلهي الخلاصي، إذ يقول: "فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي... الرب لخلاصي، فنعزف بأوتارنا كل أيام حياتنا في بيت الرب" [17، 20].

ماذا وجد في مخلصه؟

أولاً: تحولت حياته من رحلة مرعبة للغاية ومرُّة النفس إلى حياة هادئة مملوءة سلامًا، خلالها لا يخاف المؤمن حتى من الهاوية [17].

ثانيًا: تتهلل نفسه لا من أجل شفائه من المرض وطول عمره وإنما من أجل غفران خطاياه كلها [17].

ثالثًا: صار مشتاقًا أن يُسلم الأجيال القادمة هذه الحياة الجديدة، أو حق الله [19].

رابعًا: تحولت كل بقية حياته إلى مزمور فرح لا ينقطع [20]، يترنم به كما في بيت الرب، لذلك يحدثنا القديس أثناسيوس الرسولي عن العيد (أو الفرح) بكونه هو "المسيح" كسِرّ بهجتنا الدائمة. كما قال: [الذين يعيشون في المسيح هم وحدهم يستطيعون أن يمجدوا الله ويباركوه، بهذا يصعدون إلى العيد[389]].

على أي الأحوال المؤمن الذي يعيش في المسيح ينعم بحياة فرح دائم وأيضًا شكر دائم، في وسط آلامه وأفراحه.

v   ليس وقت أنسب للإنسان أن يحمل فيه مشاعر شكر نحو الله مثلما عندما يكون في تجارب ومتاعب. وليس وقت أفضل لتقديم التشكرات مثلما عندما يأتي إلى الراحة بعد صراعات وتجارب.

القديس أثناسيوس الرسولي[390]

v   الصلاة فرح تعّبر عن نفسها في الشكر.

الأب أوغريس[391]

v   بالصلاة الروحية ومنطوقات الشكر نرتفع عن الأرض إلى الأعالي.

الأب مرتيروس[392]

3. علاجه بقرص التين:

طلب إشعياء النبي من حزقيا أن يضع قرص تين [كعكة من التين المضغوط] على الجزء الملتهب من جسمه فيبرأ... لماذا؟ لكي يعلن الله أنه وإن كان هو الطبيب الشافي لكنه يستخدم الأدوية والوسائط المادية التي خلقها لإشباع احتياجاتنا، وقد كانوا في ذلك الحين يضعون قرصًا من التين المضغوط على الأماكن الملتهبة في الجسم كعلاج. ومن جانب آخر فإن الشفاء هو عطية إلهية مجانية يُقدمه الله من عندياته.

قرص التين كعنقود العنب كلاهما يُشيران للحياة الكنسية الحية، فالتينة تحمل عددًا لا حصر له من البذار الرفيعة جدًا، لا قيمة للبذرة الواحدة ولا طعم ما لم تجتمع ببقية البذار تحت غلاف واحد يجمعهم معًا كما بعذوبة الحب والوحدة. هذا هو سرّ عذوبة الكنيسة. وهذا هو علة شفائنا، مع ما لكل واحد منا من علاقته الشخصية الخفية مع الله نجتمع معًا كتينة حلوة في فم الله. لذلك قال حزقيا عن علامة شفائه "إنيّ أصعدُ إلى بيت الرب" [22] ليجتمع مع شعب الله خلال الرب نفسه.

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح التاسع والثلاثون

حزقيا يكشف ذخائره

أُختتم الجزء الأول من سفر إشعياء بهذا الأمر الصعب: سقوط حزقيا الملك في الكبرياء وكشف كل ذخائره وذخائر آبائه لسفراء ملك بابل من باب الاستعراض لغناه ومجده، لذا صدر الأمر بسحبها جميعًا إلى بابل.

لقد ارتفع نجم أورشليم بعد هزيمة ملك آشور الذي أرعب جميع الأمم وابتدأ الغرور يتسلل إلى قلب حزقيا ليدفع به إلى الهاوية.

1. استعراض الذخائر                 [1-2].

2. الأمر بسحب الذخائر              [3-7].

3. اعتراف حزقيا بالخطأ             [8].

1. استعراض الذخائر:

ارتفع نجم حزقيا بسبب هزيمة سنحاريب ملك آشور، وقدم حزقيا مزمور شكر لله خاصة بعد ما وهبه الله 15 عامًا على عمره، لكنه لم يمارس الشكر بحياته إذ ارتفع قلبه وتشامخ (2 أى 32: 26)، وصار له "غنى وكرامة كثيرة جدًا وعمل لنفسه خزائن للفضة والذهب والحجارة الكريمة والأطياب والأتراس وكل آنية ثمينة... وعمل لنفسه أبراجًا ومواشي غنم وبقر بكثرة لأن الله أعطاه أموالاً كثيرة جدًا" (2 أي 32: 27-29).

تركه الله في وسط هذا الغنى والمجد إلى حين وأراد أن يكتشف قلبه (2 أى 32: 31) فسمح أن يرسل مردوخ بلادان ملك بابل رسائل وهدية بعد شفائه. كان يليق بحزقيا أن يُمجد الله ويعرض نعمة الله لا أن يكشف عن خزائنه. لقد سقط في الاعتداد بذاته والإعلان عن مجده كما سبق أن سقط شمشون الذي أعلن عن سرّ قوته للزانية فانهار.

"مردوخ" لقب حمله أشخاص كثيرون، وهم اسم ملك الآلهة مذكور مع بيل (إر 50: 2)، ويرمز إليه بالسيار المريخ، كثيرًا ما يكون اسمه جزءًا من اسم ملك من ملوك بابل، أما "بلادان" فمعناها: "قد أُعطى ابناُ".

يقول القديس هيبوليتس: [دُهش مردوخ الكلداني ملك بابل في ذلك الحين إذ درس الفلك وقاس هذه الأجرام وعرف السبب فارسل خطابًا وهدايا كما فعل المجوس الذين من المشرق مع المسيح[393]].

 اندفع حزقيا بكبرياء قلبه وحبه للمجد الزمني الباطل ليكشف كل ما لديه لرسل مردوخ بلادان: "لم يكن شيء لم يرهم إياه حزقيا في بيته وفي كل ملكه" [2]. لم يختبر حزقيا كلمات داود أبيه" مجد ابنه الملك من الداخل" (مز 45).

v   المجد الباطل ذو سلطان أن يعمي أذهان الذين يؤسرون به حتى عن الحقائق الواضحة، ويقودهم إلى النزاع حتى في الأمور المتعارف عليها...

v   من يُستعبدون بغيرة لمجد هذا العالم الحاضر لا يقدرون أن ينالوا المجد الذي من عند الله. لهذا يوبخهم السيد: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا من الناس والمجد الذي من الإله (الواحد) لستم تطلبونه؟ (راجع يو 5: 44).

هذا الألم هو نوع من السكر الشديد، من يخضع له يصعُب علاجه. يفصل نفوس أسراه عن السمويات، ويُسمِرّها في الأرض، ولا يدعها تتطلع إلى النور الحقيقي بل يحثها على التمرغ في الوحل؛ يُقيم عليها سادة عنفاء يسيطرون عليها حاجة إلى إصدار أوامر.

من يُصاب بهذا المرض يعمل حسب هواه...

القديس يوحنا الذهبي الفم[394]

2. الأمر الإلهي بسحب الذخائر:

أرسل الله نبيه إشعياء إلى حزقيا لتأديبه، فسأله:

v   ماذا قال هؤلاء الرجال؟

v   ومن أين جاءوا إليك؟

v   ماذا رأوا في بيتك؟

لم يجب على أهم سؤال: "ماذا قال هؤلاء الرجال؟".

ظن أنهم جاءوا من أرض بعيدة من بابل [3] فلا خطر عليه منهم، لذلك صدر الحكم الإلهي بالعقاب خلال بابل.

جاءت العقوبة قاسية لأن الكبرياء داء خطير للغاية، يعني شركة في طبيعة الشيطان. لم يفقد حزقيا الخزائن التي كشفها فحسب وإنما يفقد حرية أولاده إذ يصيرون خصيانًا في بيت ملك بابل [7].

يرى العلامة أوريجانوس أن الكبرياء هي خطية الشيطان الرئيسية[395]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ما كان للشيطان أن ينحدر ويصير شيطانًا لو لم يُصب بهذا المرض. لقد طرحه خارج الثقة (بالله)، وأتى به إلى هُوّة النار، وهو علة كل الويلات. أنه كفيل بتحطيم كل صلاح للنفس، سواء وجد عطاء (تقديم صدقة) أو صلاة أو صومًا أو أي شيء آخر... ليس أغبى من الإنسان المتكبر، حتى وإن أحاط به الغِنى أو نال الكثير من حكمة هذا العالم، أو وُجد في قصر ملوكي[396]...]. 

3. اعتراف حزقيا بالخطأ:

"فقال حزقيا لإشعياء: جيد هو قول الرب الذي تكلمت به؛ وقال: فإنه يكون سلام وأمان في أيامي" [8].

في الظاهر نطق الملك بكلمات تحمل تسليمًا، لكننا لا نعرف ما هي اتجاهاته ودوافعه، ربما يكون استسلامًا دون توبة وثقة في الله القادر على غفران الخطايا.

لقد اعترف أنه أخطأ لكنه لم يقدم توبة، دليل ذلك أنه عوض الصراخ إلى الله بدموع من أجل الرجوع إليه شعر بطمأنينة أن التأديب سيحل بعد موته في أيام أولاده. لقد حمل نوعًا من الأنانية، فقد أهتم أن يقضي أيامه في طمأنينة دون المبالاة بما سيحل بالشعب وبنسله فيما بعد.

<<

 

 

 

 


 

 

 

الباب الثالث

 

 

 

 

القدوس المعزي بالخلاص

[ص 40- ص 66]

 

 

1. عزوا عزوا شعبي                [40- 44].

2. هجوم كورش على بابل وخرابها  [45- 47].

3. أحاديث خلاصية                   [48- 59].

4. مدينة الرب الجديدة               [60- 66].

 

 


 

 

القدوس المخلص

في القسم الأول أوضح النبي ما وصلت إليه البشرية من فساد بسبب الخطية أو حرمانها من الشركة مع الله القدوس؛ وفي القسم الثاني أعلن عن الحاجة إلى هذه الشركة لنوال النصرة في الداخل كما على الأعداء الروحيين بل وعلى موت نفسه. والآن يعلن ما هو أعظم: تدخل القدوس كمخلص يهب الإنسان شركة الأمجاد السماوية.

في هذا القسم نجد الخطوط العريضة التالية:

1. المسيح المخلص الحامل الآلام، أو العبد المتألم الذي يهب العبيد حرية مجد أولاد الله.

2. العصر المسياني كعصر سلام داخلي ومجد خفي ينعم به المؤمنون خلال الشركة مع المخلص.

3. إبراز عطية المسيح العظمى: الروح القدوس، الذي يحوّل برية قلوبنا إلى فردوس، وظلمتنا الداخلية إلى نور الحق.

<<

 

 


 

الأصحاح الأربعون

عزوا عزوا شعبي

أفتُتِح السفر بالكشف عن مرارة ما وصل إليه شعب الله من فساد، بل ما وصلت إليه البشرية كلها؛ الآن في هذا الأصحاح يرفعنا روح الله القدوس لنكتشف خطة الله الخلاصية وتدبيره نحو شعبه لينعموا بعمله الإلهي وتعزياته الفائقة. غاية هذا الأصحاح وما بعده نزع روح اليأس من المسبيين وبث روح الرجاء فيهم.

1. عزوا عزوا شعبي                [1-2].

2. تهيئة الطريق للرب               [3-8].

3. خطة الله فائقة الإدراك            [9-26].

4. موقف غير المؤمنين             [27-31].

1. عزوا عزوا شعبي:

اعتاد الله أن ينسب الشعب إليه عند رضاه عنه فيدفعوه "شعبي"، أما في حالة عصيانه فتارة ينسبه إلى موسى (خر 32: 7) أو يدعو "الشعب" (خر 32: 9)، وفي أكثر صراحة يقول: "ليس شعبي" (هو 1: 9)، وذلك لكي يثيرهم فيرجعوا إليه ويعود فينسبهم إليه (هو 2: 23). أما هنا إذ يفتح أمامهم بل أمام البشرية المؤمنة باب الخلاص فيدعوهم "شعبي".

اعتاد النبي تكرار بعض الكلمات مرتين كما جاء هنا "عزوا عزوا" (51: 9، 17؛ 5: 1)، لأنه يتحدث عن كنيسة العهد الجديد القادمة من فريقين: اليهود والأمم؛ لأنها كنيسة الحب الذي يوحّد ويربط، فإن رقم 2 يُشير إلى الحب. المحبة تجعل الاثنين واحدًا.

إنها كنيسة الحب الذي يربط الله بها كعريس بعروسه، والذي يربط الأعضاء القادمين من كل الأمم كجسد واحد للرأس الواحد. خلال هذا الحب يُخاطبها قائلاً: "طيبوا قلب أورشليم" [2]، والترجمة الحرفية "تحدثوا إلى قلب أورشليم"، تعبير تكرر 8 مرات في العهد القديم (تك 34: 3؛ 50: 21؛ قض 19: 3؛ را 2: 13؛ 2 صم 19: 7؛ 2 أى 20: 22؛ هو 2: 14) يوجه إلى محبوب أو محبوبة؛ فالكنيسة هنا عروس المسيح المحبوبة إليه، يحدثها بلغة الحب التي لا يفهمها إلاَّ القلب. اللغة التي تحدث بها في أكثر صراحة وعمق خلال الصليب ليقتني البشرية عروسًا له (رؤ 19: 7؛ 21: 2، 9).

إنها دعوة يُقدمها العريس لعروسه المتألمة لكي تتطلع وسط آلامها إلى النهاية المفرحة، فتحمل الألم في رجاء وبسرور كعريسها الذي تألم من أجل السرور الموضوع أمامه (عب 12: 2)، إذ رأى خلاصنا وتمجيدنا في حمله الصليب. وكما يقول الرسول: "كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2 كو 5: 1).

ما هو سّر تعزيتنا؟ يقول الله: "أنا أنا هو معزيكم" (إش 51: 14). هذا هو سّر تعزيتنا: الآب يتقدم إلينا ليضمنا إليه كأولاد له، خلال اتحادنا بالمسيح الابن الوحيد الجنس، الذي يُقدم حياته كفارة عن خطايانا كسرّ تعزيتنا: "بالمسيح تكثر تعزيتنا" (2 كو 1: 5). مسيحنا الذي ضمنا إليه بدمه يُقدم لنا روحه القدوس "المعزي" الذي يملأ قلوبنا به مقيمًا ملكوت الفرح في قلوبنا. لهذا يقدم حديثًا موجهًا إلى القلب، قائلاً: "طَيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه، أنها قد قَبلَت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها" [2].

من الجانب الحرفي يتطلع النبي إلى السبي الذي يحل بالشعب لا ككارثة سياسية حدثت مصادفة أو ثمرة ضعف عسكري، وإنما هو سماح إلهي لأجل التأديب. لقد قبلت التأديب ضعفين، ذلك لأنها من جانب ارتكبت خطايا غير لائقة بها، ومن جانب آخر لم تُمارس برّ الله أو تصنع الخير. الوصية الإلهية تُطالبنا بالكف عن الشر وصنع الخير.

أما من الجانب النبوي فإنها إذ تتطلع إلى عريسها المصلوب تجده قد دفع الدين عنها في أكمل صورة لا ليعفيها من الدين فحسب وإنما لكي يبررها بدمه ويقدسها فتنعم بشركة أمجاده. وكأنه قد تحققت توسلات البشرية التي عبر عنها داود النبي، قائلاً: "انظر إلى ذلي وتعبي وأغفر جميع خطاياي" (مز 25: 18).

الآن يتطلع النبي إلى موكب الشعب الراجع إلى أورشليم كرمز لموكب المفديين بدم رب المجد يسوع، وقد جاء القديس يوحنا المعمدان يُهيئ الطريق لهذا الموكب المسياني السماوي.

2. تهيئة الطريق للرب:

لعل إشعياء النبي قد سمع صوتًا سمائيًا يدعو السمائيين لتهيئة موكب العودة من السبي إلى أورشليم، فقد سبق فرأى حزقيال النبي مجد الرب يفارق المدينة (حز 11: 22- 25)، والآن ها هو يعود الموكب مع عودة المسبيين، وكأنه موكب ملوكي إذ يتقدمه الله نفسه محرر أولاده!

أما الموكب الأعظم فهو تهيئة الطريق لدخول المسيا المخلص إلى حياة البشرية، الذي تحقق بواسطة القديس يوحنا المعمدان - ملاك الرب - بالحديث عن التوبة وإعلان الحاجة إلى المخلص (مر 1: 3؛ مت 3: 3؛ لو 3: 4-6؛ يو 1: 22).

كان القديس يوحنا هو الصوت الذي يدوي في البرية ليُهيئ الطريق للكلمة الإلهي، معلنًا أن كل نفس متعجرفة ومتعالية تنحدر إلى أسفل [4] وكل قلب معوج يصير مستقيمًا، وكل العقبات تزول لأن مجد الرب يعلن خلال المسيا المخلص، ويراه كل بشر معًا: من اليهود والأمم. لذا يقول النبي: "صوتُ صارخٍ في البرية: أعدُّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإِلهنا. كل وطاءٍ يرتفع، وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض، ويصير المعوَجُّ مستقيمًا والعراقيب سهلاً؛ فيُعلن مجد الرب ويراه كلُّ بشرٍ معًا، لأن فم الرب تكلم" [3-5].

دُعي يوحنا "صوتًا" بينما دعي المسيح "الكلمة"، وشتان ما بين الصوت والكلمة، إذ يقول الآباء أن الصوت هو الذي يُسمع بالأذن أما الكلمة فهي التي يدركها العقل، هكذا جاء يوحنا شاهدًا للمسيح الكلمة الإلهي:

v   ربما يفسر هذا كيف فقد زكريا صوته عند ميلاد "الصوت" الذي يُشير نحو كلمة الله، ولم يُشفَ من هذا إلاَّ بعد ولادة "الصوت" السابق للكلمة. يجب أن يُدرك الصوت بالأذن فيتقبل الذهن الكلمة الذي يُشير نحوه "الصوت". يوحنا يُشير نحو المسيح، لأن الحديث (الكلمة) يُعلن بواسطة الصوت.

العلامة أوريجانوس[397]

v   من حديثنا تعرفون أن "الصوت" يكون أولاً عندما تُسمع "الكلمة"، لهذا يعلن يوحنا عن نفسه أنه "صوت" إذ هو يسبق "الكلمة". فبمجيئه أمام الرب دُعي "صوتًا"، وبخدمته سمع الناس "كلمة الرب". إنه يصرخ معلنًا: "اصنعوا سبله مستقيمة"... إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بإتضاع كلماته للحق؛ يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه

نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23).

الأب غريغوريوس الكبير

v   كان إشعياء على علم بعمل يوحنا التبشيري، فبينما يُسمي إشعياء المسيح إلهًا وربًا (إش 9: 6) يُشير إلى يوحنا بأنه رسول خادم ومصباح يضيئ قبل ظهور النور الحقيقي. هو كوكب الصبح الذي يعلن عن بزوغ الشمس من وراء الأفق، فتبدد أشعتها الساطعة سجف الظلام الحالكة. كان يوحنا صوتًا لا كلمة، يتقدم المسيح، كما يتقدم الصوت الكلمة.

القديس كيرلس الكبير[398]

بماذا يُنادي هذا الصوت؟ بإنجيل العهد الجديد الذي هو طريق الرب، الذي يرفع النفوس المتضعة إلى الحياة السماوية، ويحطم كبرياء المتشامخين، يُجدد الخليقة التي اعوجَّت لتسلك باستقامة، ويزيل العقبات من أمامها، فيتمجد الرب في البشرية المؤمنة [3-5].

v   ليتك تسير في الطريق الملوكي، لا تنحرف عنه يمينًا ولا يسارًا، إنما يقودك الروح خلال الباب الضيق، عندئذ تنجح كل أمورك عند استجوابك هناك في المسيح يسوع ربنا.

القديس غريغوريوس النزينزي[399]

"صوت صارخ في البرية" [3]، يدوي في البرية هذه الحياة القاحلة، إذ لا تحمل في داخلها شجرة الحياة كما في الفردوس الأول؛ جاء يعلن عن السيد المسيح شجرة الحياة التي تُغرس في برية طبيعتنا ليقيم منها فردوسًا مثمرًا بحلوله فينا. بهذا المعنى يقول القديس أمبروسيوس: [قبل أن يُقيم ابن الله أعضاء الكنيسة بدأ عمله في خادمه يوحنا، لهذا وأخطر القديس لوقا (لو 3: 2) كلمة الله حالاً على يوحنا بن زكريا في البرية... تحقق هذا في البرية الموحشة، لأن بني المستوحشة أكثر من التي لها أولاد (إش 54: 1)، وقد قيل لها: "افرحي أيتها العاقر التي لم تلد" (إش 54: 1)... إذ لم تكن بعد قد زُرعت وسط الشعوب الغريبة... ولم يكن بعد قد جاء ذاك الذي قال: "أما أنا فزيتونة مخصبة في بيت الله" (مز 52: 8)، ولم يكن قد وهب الكرام السماوي للأغصان ثمرًا (يو 15: 1). إذن فقد رّن الصوت لكي تنتج البرية ثمارًا[400]].

v   ليُعد طريق الرب في قلبنا، فإن قلب الإنسان عظيم ومتسع، كما لو كان هو العالم. أنظر إلى عظمته لا في كمّ جسدي، بل في قوة الذهن التي تعطيه إمكانية احتضان معرفة عظيمةً جدًا للحق.

إذن فليعد طريق الرب في قلبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق.

العلامة أوريجانوس[401]

لاحظ القديس أغسطينوس أن النبي استخدم كلمة "جسد" في العبارة "فيعلن مجد الرب ويراه كل البشر (جسد) جميعًا" [5]، وأنه لا يعني بذلك الجسد دون النفس إنما قصد الإنسان بكامله، فكثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس كلمة "جسد" أو "نفس" لتعني الإنسان. فإن من يُعاين مجد الرب هو الإنسان بكليته [لأن الجسد وحده بدون النفس لا يرى شيئًا[402]].

عندما قال الإنجيلي "الكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14)، لم يقصد أن كلمة الله أخذ جسدًا دون نفس بشرية كما ادعى أبو لليناريوس، الأمر الذي دعى البابا أثناسيوس الرسولي أن يكتب ضد صديقه أبو لليناريوس كتابًا يفند فيه آراءه.

سمع النبي إشعياء صوتًا سماويًا آخر يؤكد أن كل جسد (إنسان) هو كعشب الأرض (مز 90: 5؛ 103: 15)، "أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" [8]. من يلتصق بتراب الأرض أو بمحبة الزمنيات يصير عشبًا زائلاً، ومن يلتصق بالسيد المسيح "كلمة الله" يقوم معه ليحيا في مجده أبديًا. هذا هو الطريق الذي هيأه الكتاب المقدس لقبول المخلص: التزامنا بالشركة مع ذاك الذي يحولنا من عشب الأرض الزائل إلى الشركة معه والثبوت فيه أبديًا في أمجاده. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن اشتاق إنسان ما إلى الراحة الحقيقية والسعادة الحقة يلزمه أن يرفع رجاءه فوق الأمور المائتة الزائلة ويثبتها في كلمة الرب حتى إذ يلتصق بها تبقى إلى الأبد ويبقى هو معها أبديًا].

يعلق العلامة أوريجانوس على القول بأن "كل جسد عشب" قائلاً: [بإن السيد المسيح أمر الجموع أن تجلس على العشب (مت 14: 21) لكي يشبعهم، بمعنى أنه إذا ما أخضع الإنسان جسده (الجلوس على العشب) ووضع كل الأمور الزمنية تحت قيادة النفس ليكون بكليته سالكًا بالروح القدس عندئذ يتمتع ببركات السيد المسيح وينعم بالشبع الحقيقي. أننا لا نستطيع أن نلتقي بمسيحنا ولا أن نتقبل عطاياه الإلهية خلال التلاميذ أي الكنيسة مادُمنا نعيش حسب الجسد. إذن فلنُخضع الجسد لنفوسنا بالروح القدس ولنتكئ على العشب ليكون الجسد خادمًا مطيعًا يعمل في انسجام مع النفس دون مقاومة لها، عندئذ ننعم بالروحيات.

فيما يلي بعض تعليقات الآباء على عبارة "كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل، يبس العشب ذبل الزهر، لأن نفخة الرب هبت عليه" [6-7].

أنظر فإن ما تلتصق به نفسك إنما تلتصق به أبديًا. إن التصقت بالعشب وبزهر العشب إنما تربط نفسك بالعشب الذي يذبل والزهر الذي يسقط، وسيبيد الله هذه في النهاية[403].

v   إذ يعرف الله تكويننا بكونه أبًا، إننا لسنا إلاَّ تراب لا يمكن أن نزدهر إلاَّ إلى حين، لذلك أرسل إلينا كلمته، كلمته هذا يبقى إلى الأبد. جعله أخًا للعشب الذي لا يدوم.

لا تعجب فقد صرت شريكًا له في أبديته، فقد شاركك أولاً في العشب[404].

v   هكذا فعل موسى برأس العجل (خر 32: 20- أحرقه بالنار)، فإن رأس العجل يمثل سرًا عظيمًا، بكونه يمثل جسد الأشرار، لأنه يأكل عشبًا ويطلب الزمنيات، فان كل جسد عشب[405]...

القديس أغسطينوس

v   لماذا تخافين من الأمور الزمنية التي تعبر كمجرى من نهر؟! فإن هذه هي طبيعة الأمور الحاضرة، سواء كانت مفرحة أو مؤلمة. يوجد نبي آخر يقارن الازدهار البشري بالعشب.

القديس يوحنا الذهبي الفم[406]

v   نسمع هذا وما يشبهه كل يوم ومع هذا لا نزال مسمرين في الأرض.

القديس يوحنا الذهبي الفم[407]

v   إنني أعرف أن البعض يحاول إظهار أن هذه الكلمات (كل جسد هو عشب) تُشير إلى حالة الناس الهمجيين من أمم مختلفة ولهم عادات مختلفة، جاءوا إلى الإيمان (بكلمة الرب) فصاروا في انسجام الأبرار.

القديس إيريناؤس[408]

3. خطة الله فائقة الإدراك:

الآن بعدما أبرز أن من يرتبط بالزمنيات الفانيات يصير كعشب الأرض الذي يذبل ومن يلتصق بكلمة الله الأبدي يبقى معه أبديًا، يعلن عن معنى الارتباط بكلمة الرب.

أ. قبول البشارة الإنجيلية المفرحة: "على جبل عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون، ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم. ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا: هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له" [9-10].

من هذه التي ترفع صوتها إلاَّ كنيسة العهد الجديد التي تصعد بالبشرية كما على جبل كلمة الله خلال كرازة التلاميذ والرسل بل وشهادة كل الشعب، تصعد بالنفوس إلى الحياة السماوية أو الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع لتلتقي بالله مخلصنا كمصدر فرح وتهليل. تراه قادمًا إليها ليحكم في أعماقها ويقيم ملكوته بذراعه الرفيعة.

 ب. أدراك حقيقة الله؛ فإننا إذ نرتفع إلى الحياة الجديدة نلتقي مع الرب على مستوى شخصي، فلا نجده قوة خفية مجهولة وإنما كائنًا يتعامل معنا: "يأتي ويحكم ويجازي ويراعي الخ... وكما يقول القديس غريغوريوس النيسي في رده على أونوميوس: [هل الله إذن طاقة وليس شخصًا[409]].

 يقول القديس يوحنا كاسيان[410]: [إنه يليق بنا عندما نسمع كلمة "ذراعه" أو ما أشبهها لا نفهمها بمعنى جسماني مادي.

ج. اكتشاف رعاية الله لنا بكونه الراعي المهتم بقطيعه [11]، وهو فريد في شخصه كما في رعايته:

* أنه الخالق القدير في رعايته: "من كال بكفه المياه؟! وقاس السموات بالشبر؟! وكال بالكيل تراب الأرض؟! ووزن الجبال بالقبان والآكـام بالميزان؟!" إنه خالق المياه

والسموات كما التراب والجبال الصلدة. الذي خلق يقدر أن يُجدد الخليقة.

تُشير المياه إلى الشعوب، والسموات إلى النفس، والأرض إلى الجسد، والجبال والتلال إلى قدرات الإنسان ومواهبه، وكأن الله في رعايته قدير، يُجدد الكنيسة ككل بضم الشعوب إليها، كما يُجدد كل نفس مع الجسد بطاقاته وأحاسيسه ومشاعره وإمكانياته.

إنه يقيس ويزن كل شيء، إذ هو كلي القدرة.

لعله أراد أن يؤكد أن الله يهتم بخليقته الجامدة من مياه وجلد السماء حتى التراب والجبال والتلال، فكيف لا يهتم بنا نحن الذين على صورته ومثاله، وقد خلق العالم كله من أجلنا.

v   إن كنت تشك في عناية الله سلْ الأرض والسماء والشمس والقمر. سلْ الكائنات غير العاقلة والزروع... سلْ الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سلْ الليل والنهار؛ فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها، في كل مكان: في البراري والمدن والمسكونة، على الأرض وفي البحار... أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الصارخة.

القديس يوحنا الذهبي الفم[411]

* كلي الحكمة: "من قاسَ روح الربِّ ومن مُشيرُهُ يُعلِّمه؟! من استشاَرهُ فأفهمَه وعلَّمه في طريق الحق وعلَّمه مَعْرفةّ وعَرَّفهُ سبيل الفهم؟!"  [13-14].

مع كونه الخالق القدير الذي أوجد الطبيعة من أجلنا يرعاها ويهتم بها، هو أيضًا كلي الحكمة يعرف ما هو لخلاصنا وبنياننا، خطته غير خطتنا، وتدابيره تعلو عن تدابيرنا (رو 11: 34).

v   لم يقل (الرسول بولس- رو 11) إن أحكامه بعيدة عن الفحص فحسب، وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان أن يفهمها بل ولا حتى أن يبدأ في استقصائها. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف كيف بدأ تخطيطها.

v   يُريد أن يقول إنه ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير[412].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* ضابط الكل لا يفلت شيء من يده: "هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تُحسب، هوذا الجزائر يرفعها كدفة..." [15].

إنه ضابط الكل... فإن كانت الأمم تُريد أن تحكم العالم وتسوده خلال العنف والقوة فهي ضعيفة للغاية، يراها الله نقطة ماء في دلو وغبار ميزان... أما الله ففي ضعف الصليب وجهالته يحكم ويملك بقوة وسلطان على الأعماق.

الأرض بكل شعوبها صغيرة للغاية بالنسبة للمخلص، يحملها كغبار في مقياس صغير، أما سكان الجزائر المفتخرون بسفنهم التجارية والحربية فجميعهم معًا أشبه بدفة يمسكها الرب بيده!

v   يدرك (الله) في ذاته كل الخليقة العاقلة لكي تبقى كل الأشياء موجودة مضبوطة بقوته التي تضم الكل.

القديس غريغوريوس النيسي[413]

* اهتمامه بالأمم: "ولبنان ليس كافيًا للإيقاد وحيوانه ليس كافيًا لمحرقة. كل الأمم كلا شيء قدامه، من العدم والباطل تُحسب عنده" [16-17]. تصوير شعري عن قبول الأمم الإيمان بالله حتى أن كل شجر لبنان (الأرز) لا يكفي للإيقاد لمذبح الرب وجميع حيواناته لا تكفي لتقديم محرقات... لقد صارت الحاجة إلى خشبة الصليب التي تسمو فوق كل أرز لبنان، وذبيحة المسيح التي لا تقارن بالذبائح الحيوانية جميعها. خلال هذا المذبح (الصليب) وهذه الذبيحة يتمتع الأمم بالخلاص.

v   بلغ الخروف الحيّ الإلهي إلى الصعيدة، وقام الصالبون كالأحبار يقدمونه ضحية!...

v   صُلب ربنا وحمل ذنوب المسكونة، وسمر الخطية بالمسامير حتى لا تملك. لما صلبوه صلبها معه على الجلجثة لئلا  تقتل أجيالاً أخرى.

ماريعقوب السروجي

* عظمة السيد المسيح المخلص والذبيح:

"فبمن تشبهون الله وأي شيء تعادلون به؟!" [18]؛ تكاليف الأوثان باهظة تحتاج إلى ذهب وفضة أو خشب لا يسوس مع تكلفة للصانع الماهر الذي يقوم بعملها [20]، يُقابل ذلك شوق اللصوص لسرقتها، أما مسيحنا فيقدم خلاصًا مجانيًا، يعلن ملكوته في القلب حيث لا يقدر أحد أن يسرقه من أعماقنا.

* "الجالس على كرة الأرض" [22]. كان الاعتقاد السائد أن الأرض مسطحة وليست كرة، لكن إشعياء رأى الرب جالسًا على كرة الأرض كملك يجلس على عرشه، يُقيم مملكته في قلوب البشر. 

* "سكانها كالجندب، الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن" [22]. إنه لا يملك عن احتياج خدمة الأرضيين أو السمائيين، إنما عن حب ورعاية أبوية. فالأرضيون بالنسبة له كالجندب (الجراد)، والسماء أشبه بقطعة قماش أو خيمة. العظماء عنده كلا شيء والقضاة كالباطل ينحلون.

الأرض والسماء كلا شيء بالنسبة لقدرته؛ لكنه في حبه يملك ويقود الأرضيين والسمائيين كملك ومخلص...

انشغل المنجمون بحسابات الفلك وأنظمتها أما الله فيعلم كل دقائقها كخالق لها، يدعوها بأسماء [26]، فكيف لا يعرف كل إنسان ويهتم بخلاصه؟!

4. موقف غير المؤمنين:

كثيرًا ما يظن الجاحدون للإيمان أن الله في مجاله بعيد عن دائرة البشر، هو في سمواته بينما يعيش الإنسان في عالمه... هذا هو جوهر الفكر الإلحادي المعاصر، وهو فكر قديم يضرب به العدو الإنسان ليفقده تلاقيه مع خالقه واتحاده معه وعشرته، وكما جاء هنا في هذا السفر: "لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل: قد اختفت طريقي عن الرب وفات حق إلهي" [27].

هذا هو ما يُردده الإنسان وسط تعبه الروحي... يُحسب نفسه وحيدًا معزولاً حتى عن الله الذي لا يُبالي بطريق الإنسان وحياته. لعل هذا هو ما قاله المسبيون إذ ظنوا أن الله قد نسيهم تمامًا، فقد عبرت الشهور والسنوات وكأنه قد نكث عهده مع آبائهم ولم يعد يفكر فيهم أو يهتم بعودتهم. إنه لا يُبالي بقضيتهم ولا يهتم بطريقهم؛ تركهم في بابل وبقى في سمواته لا يتحرك لنزع عارهم ورفع الذل والعبودية عنهم.

يرد النبي على ذلك بالآتي:

أ. استمرارية عمل الله: الله في حبه قد يتأنى لكنه مستمر في رعايته للإنسان "لا يكل ولا يعيا" [28]. هو "إله الدهر" السرمدي حبه لا يزول وعهده أبدي لا يتغير.

ب. أحكامه لا تُفحص [28]... يُخلص بطريقة غير متوقعة.

 ج. بسبب خطايانا نضعف في إيماننا، لكنه هو "يعطي المعييّ قدرة ولعديم القوة يكثر شدة" [29]، لذا نحتاج إلى تسليم الأمر بين يديه فيسندنا حتى في إيماننا.

د. يهبنا روحه القدوس الذي يُجدد طبيعتنا ويرفعنا بأجنحة الروح كما إلى السماء عينها، نرتفع بلا قلق... "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة؛ يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" [31].

v   بالروح القدس نتحرر من العبودية ونُدعى إلى الحرية!

به صرنا أولاد الله بتبنيه إيانا!

وفوق هذا كله - إن أمكنني القول - إننا قد تجددنا، خالعين عنا ثقل الخطايا الكريه!...

به ننال غفران الخطايا،

وبه نتطهر من كل وصمة،

وخلال عطيته نتغير من بشر إلى ملائكة، هؤلاء الذين يشتركون معنا في التمتع بنعمته، لكننا لا نصير هكذا في الحال، بل ما هو مدهش، إننا ونحن بعد في طبيعة البشر نظهر سلوكًا في الحياة يليق بالملائكة!

هكذا إذن هي قوة الروح...

القديس يوحنا الذهبي الفم[414]

<<


 

الأصحاح الحادي والأربعون

خلاص من المشرق

قدم لنا الأصحاح السابق تصويرًا رائعًا لعمل الله الخلاصي، كعمل رعوي يصدر عن الله الكلي القدرة والكلي العلم والحكمة والكلي الحب... الآن يدعو الله الأرض كلها حتى الجزائر التي كانت في ذلك الوقت تمثل الغرب الأقصى لكي تقف في محاكمة مع الله، خلالها يظهر الحق من الباطل. إنه لا يطلب نزول نار من السماء كما فعل إيليا لإظهار الله والحق والكشف عن بطلان البعل، إنما يسألهم أن يطلبوا من الأوثان أن تخبر عن المستقبل إن كانت تقدر! أما الله فيكشف لإشعياء عن المستقبل، عن مجيء كورش الذي من المشرق لخلاص شعبه، مؤكدًا أنه رب التاريخ وإله كل الأمم يستخدم كل الطاقات حتى الوثنية لتحقيق رعايته لأولاده المقدسين في حقه. هذا الخلاص إنما هو صورة رمزية وتهيئة لخلاص أعظم يحققه المسيا المخلص... الذي هو مركز السفر كله، بل ومركز الكتاب المقدس كله.

1. نصرة من المشرق                [1-7].

2. عبدي الذي أخترته                [8-12].

3. الدودة تصير نورجًا               [13-16].

4. البرية تصير بستانًا               [17-20].

5. الله رب المستقبل                  [21-29].

1. نصرة من المشرق:

يقدم إشعياء النبي تصويرًا شاعريًا رائعًا للنصرة التي ينالها إسرائيل خلال كورش الذي يسمح لهم بالعودة من السبي.

يؤكد النبي أن ما سيحدث بواسطة كورش ليس من عندياته إنما هو بتدبير إلهي.

"أنصتي إليّ أيتها الجزائر، ولتتجدد القبائل قوة، ليتقربوا (ليصمتوا) ثم يتكلموا، لنتقدم معا إلى المحاكمة" [1]. يطلب من الجزائر البعيدة التي تُحيط بها المياه من كل جانب. إشارة إلى إسرائيل المسبي في بابل بعيدًا عن بلده وقد أحاطت به مياه التجارب لتغرقه... يطلب منه أن ينصت أولاً ثم يصمت وعندئذ يتكلم ويحاور الله كما في

محاكمة بين نَدَّين أو طرفين.

الإنصات والصمت لا يعنيان السلبية، إنما يعنيان رفع القلب إلى الله والتأمل في أعماله العجيبة، منتظرين خلاصه المستمر لشعبه وكنيسته. الصلاة الصامتة تحرك السماء ذاتها، يسمعها الله ويستجيب لها، كما حدث مع موسى الصارخ في قلبه (خر 14: 15) ومع حنة في الهيكل (1 صم 1: 13).

v   لنأتِ الآن إلى صلاة حنة أم صموئيل الصامتة، كيف كانت موضعٍ سرور أمام الله، فتحت الرحم العاقر، ونزعت عارها، حيث أنجبت نذيرًا وكاهنًا.

الأب افراهات[415]

v   صلى يونان صلاة بلا صوت (يو 2)؛ صمت الراعي في بطن السمكة، من جوف الخليقة العجماء زحفت صلاته فسمعها الله في الأعالي، إذ كان صمته صراخًا.

مارافرام السرياني[416]

v   إن كان فمك ساكتًا بهدوء فقلبك يشتعل دومًا بحرارة الروح!

إن كنت تتكلم بلسانك وقلبك لا يتحرك بالصلاة، فكلامك هو خسارة!

سكِّت لسانك ليتكلم قلبك... وسكت قلبك ليتكلم الله!

الشيخ الروحاني

v   السكون يجعلك تنير كالشمس وينقيك من عدم المعرفة.

v   إن أردت أن تعرف رجل الله، استدل عليه من دوام سكونه.

مار إسحق السرياني

v   أولئك الذين يقفون في حضرة المسيح، الذين يصبون كل اهتمامهم في الإلهيات، ويتحررون من كل ارتباكات العالم، يحفظون على الدوام صلاة القلب الخفية وأفكار العقل الروحية، رافضين كل فكر زمني يظلم النفس وطاردين إياه فلا يشغلهم عن التفكير في الله...

v   ليتنا أيها الأحباء ننزع عنا ثقل الاهتمام الزمني لنقضي كل أوقاتنا في أفكار الله، بهذا

تتنقى نفسنا وتحلق في السمويات نحو الله. فان الكلمات الإلهية تنزع الصدأ عن العقل وتزيل عنه ثقل الزمنيات، وترفعه إلى رؤية اللاهوت...

v   لنصلِّ بطريقة خفية مع إتضاع القلب دون أيه رغبة في الانتفاخ في كبرياء بخصوص مظاهر الصلاة التي تفقدنا المكافأة.

الأب مرتيروس[417]

يلزم أن يرافق الصمت حوار الحب الداخلي بين الله والنفس، ففي بداية هذا السفر يُطالبنا الله أن ندخل معه في حوار لكي نغتصب مغفرة خطايانا (إش 1: 18)، أما هنا فيُريدنا أن نقترب إليه ونتحدث معه عن قرب خلال لغة السكون، نسمعه باذاننا الداخلية ونحاوره بلساننا القلبي وتنفتح بصيرتنا الروحية لندرك عن قرب أسرار الله الخلاصية... هذا ما عناه بقوله: "ليقتربوا ثم يتكلوا" [1].

يقول الأب مرتيروس: [لنتمثل بمريم أخت لعازر التي جلست عند قدميّ ربنا تنصت لكلماته (لو 10: 39، يو11: 1)، فبحبها ارتفعت نفسها إلى السماء عند كلماته. لهذا السبب قدم ربنا شهادة حسنة عنها: "مريم اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع عنها" (لو 10: 42). لنتمثل بهذه المرأة الطوباوية في نصيبها الصالح الذي اختارته، فان ربنا إلى الآن قريب منا[418]...].

ماذا رأى إشعياء النبي وماذا سمع خلال الاقتراب بسكون نحو الله؟

"من أنهضَ (البار) مِنَ المشْرِق الذي يُلاقيه النَّصْرُ عندَ رجْلَيْه؟! دَفعَ أمامَهُ أُممًا وعلى مُلوكٍ سَلَّطَهُ، جعلهم كالتُراب بسَيْفه وكالقشِّ المُنْذَري بقَوْسِه" [2]. من الجانب الحرفي يقصد كورش الذي انهضه الرب من المشرق، واهبًا إياه نصرة عند رجليه، بمعنى أنه يهبه سرعة الحركة؛ أينما حَلَّ بجيشه تحققت له النصرة. هذا ويرى أغلب الدارسين أن كورش محطم بابل عُرف بالعدالة، وإن كان جيشه ورجاله عُرفوا بالعنف والشراسة. صار رمزًا للسيد المسيح في خلاصه لا من سبي بابل أو غيرها وإنما من سبي إبليس والخطية.

دُعى في بعض الترجمات كالسبعينية "بارًا"، وقد رأى بعض حاخامات اليهود أن الحديث هنا عن إبراهيم أب الآباء الذي قدم من المشرق ليملك خلال نسله أرض كنعان. أما آباء الكنيسة عبر العصور مثل القديس جيروم والقديس كيرلس ويوسابيوس القيصري وثيؤدورت وبروكوبيوس فيروا أن الحديث هنا خاص بالمسيا[419].

جاءت الكلمة العبرية للنصر هنا "Sedek"، وتعني "البر أو الحكم الإلهي أو النصر الخ...[420] ". فقد جاء السيد المسيح الذي بلا خطية البار وحده يلتقي بالبر الذي من عندياته ليهبنا إياه. نصرته ليست خلال حروب ومقاومة حسية وإنما تثبيتنا في بره.

سيف المسيح وقدسه هما كلمته الإنجيلية التي تحوّل الشر إلى تراب وقش أما النفوس فتتنقى من كل شائبة، بهذا ملك على الأمم محطمًا كل شر فيهم.

"طردهم مرّ سالمًا في طريق لم يسلكه برجله" [3]، كأن كورش قد جاء مسرعًا جدًا حتى بدى كمن لا يلمس الأرض برجليه. أشار هذا أيضًا إلى سرعة انتشار الكرازة بإنجيل الخلاص، أو عمل المسيح الخلاصي.

هذا الخلاص يتحقق خلال الله نفسه الذي هو "الأول" عمل ويبقى عاملاً في حياة شعبه من البداية حتى النهاية [4].

قدم الرب تساؤلاً في محاكمة الشعوب، وإذ لم يجب أحد أجاب هو: "من فعل وصنع داعيًا الأجيال من البدء؟ أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو" [4]... هو الذي دعا الأجيال منذ البدء للاقتراب إليه والتمتع بخلاصه، ويبقى حتى مع الآخرين (ظهور آلهة وثنية) هو هو لا يتغير في حبه عبر الأجيال.

لقد دعا البشرية منذ البداية لتعيش معه لكنها رفضت الخالق وصنعت لنفسها آلهة عاجزة حتى عن حماية نفسها، هي من صنع النجّار والصائغ والصاقل بالمطرقة واللحام... كل يشدد الآخر ليخرج التمثال متقنًا تشدده المسامير "حتى لا يتقلقل" [7].

ليس هناك وجه مقارنة بين أوثان تحتاج إلى من يصنعها ومن يحرسها ومن يُرممها حتى لا تخرب وبين مسيح خالق يتحرك بالحب العملي ليُجدد طبيعتنا المتقلقلة الفاسدة.

بكشفه عن بطلان الأوثان يعلن عن ضعف الأمم ليدعوها إلى عظمة المسيح القادرة وحده أن يخلص!


 

2. عبدي الذي اخترته:

يكشف عن ضعف الأمم واضطرابها، ويعلن عنها إنها تراب وقش [2]، يدعوهما للدخول إلى إسرائيل الجديد للتمتع - خلال عمل المسيح الخلاصي - بالصداقة الإلهية التي اختبرها إبراهيم أب المؤمنين، إذ يقول:

"وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي (صديقي)" [8]. لقد اختار الله إبراهيم خليلاً له، دعاه من أمة وثنية لا تعرف الله، ليصير بارًا، ينهضه من المشرق ويلاقيه النصر عند رجليه [2]. الله لم يتغير فلا يزال يطلب أن يبرر ويصادق أبناء له، يدعوهم من وسط أناس غير مؤمنين ليقبلوا الإيمان به ويصيروا أحباءه.

v   إبراهيم الملقب بالخليل، وُجد مؤمنًا، لأنه أطاع كلمات الله.

القديس اكليمندس الروماني[421]

من هو العبد المختار إلاَّ السيد المسيح الذي احتل مركز العبد، ليمثل البشرية الضعيفة، فيقيم عهدًا باسمها لدى الآب، يختمه بالدم الثمين. وكما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [دُعي عبدًا ليخدم الكثيرين بالحق... جاء عبدًا في الجسد وحسب الميلاد لأجل حياتنا كي يحررنا مخلصًا إيانا من عبودية الخطية[422]].

صار كلمة الله المتجسد عبدًا لكي إذ نثبت نحن العبيد فيه نسمع الصوت الإلهي يُنادينا:

"يا إسرائيل عبدي": لقد صرتم أنتم الغرباء والبعيدون إسرائيل الجديد، كنيسة مقدسة وشعبًا مبررًا، عبيدًا صالحين متحدين بالابن الوحيد الذي صار عبدًا.

"يا يعقوب الذي اخترته"، وكما قال السيد المسيح لتلاميذه: "لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم".

"نسل إبراهيم خليلي": صرتم أبناء إبراهيم روحيًا، أبناءه في الإيمان فحسبتم أحباء ليّ كما كان أبوكم خليلاً ليّ.

"الذي أمسكته من أطراف الأرض ومن أقطارها دعوته" [9]، جئت بكم من أقاصي المسكونة ودعوتكم من بين الأمم...

"لا تخف لأني معك": هذا هو موضوع دعوتي، وسّر اختياري لكم، وغايتي من الخلاص أن أكون معكم...

"وقد أيَّدُتَك وأعنتك وعضدتك بيمين بري" [10]، أكون لك عونًا وعضدًا لأني بررتك بدمي، فصرت بارًا بيّ تستحق كل عون وتعضيد ضد مقاوميك الذين يبيدون، وضد منازعيك الذين تبحث عنهم فلا تجدهم، إذ صاروا كلا شيء [11، 2].

في القديم كنت تبحث عن مسامير لكي تمسك صفائح الذهب والفضة في التماثيل الخشبية حتى لا تسقط [7] وكي تكسبها جمالاً خارجيًا وتعطيها قيمة ثمينة، أما الآن فأنا أمسك بيمينك فلا تتزعزع، أسكب مجدي فيك واهبك بري فتتمجد: "لأنيّ أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك: لا تخف أنا أعينك" [3].

كثيرًا ما يكرر في هذا السفر عبارة: "لا تخف"... إذ يعرف الله حقيقة مرض الطبيعة البشرية أو ميكروبها الخطير ألا وهو الخوف المحطم لسلامنا وفرحنا ومجدنا الداخلي. سّر هذا الخوف شعورنا بالعزلة والوحدة، ليس من رفيق ولا من معين ولا من يدرك حقيقة مشاعرنا ولا من يُشاركنا أعماق أحاسيسنا الداخلية. لذا يتقدم المخلص بنفسه ليُرافقنا لا من الخارج بل بسكناه في أعماقنا، فيملأ الفراغ الداخلي، ويكون هو الرفيق والمعين والمشبع لكل احتياجاتنا الداخلية، الذي يُشاركنا مشاعرنا الخفية.

في اختصار ماذا يقدم الله مخلصنا؟ يقدم نفسه لنا فيهبنا: المعية معه، العون، القوة، يرفعنا إليه! بمعنى آخر ينزل إلينا لكي نقبله في حياتنا، فيسندنا بنعمته ويكون لنا المعين الخفي، ويحملنا إليه فنشاركه أمجاده الأبدية السماوية.

3. الدودة الضعيفة تصير نورجًا جديدًا:

تتكرر الكلمتان "لا تخف" ثلاث مرات في الأعداد [10-14]؛ وكان ذلك ضروريًا لنفوس مسكينة يُحطمها اليأس أثناء السبي والشعور بالمذلة والعبودية. لكن الله يُطمئن بكل وسيلة مؤمنيه المخلصين الذين يقبلون الدخول معه في عهد حتى لا يخافوا ولا يرتعبوا. أما سّر رجائهم وقوتهم فهو تمتعهم به كملك لهم، يقدم ذاته لهم لينعموا به، قائلاً: "لأنيّ أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك: لا تخف أنا أُعينك" [13].

هكذا ينسب الله نفسه إليهم: "أنا الرب إلهك" يلتجئوا إليه لا كغريب عنهم وإنما بكونه "إلههم" الخاص بهم المشتاق أن يضمهم إليه ويحفظهم فيه. يليق بهم ألا يتباطئوا في طلب معونته فإنه ممسك بيمينهم مشتاق إلى خلاصهم أكثر من اشتياقهم هم إلى خلاص أنفسهم، لذا لا يكف عن القول: "لا تخف أنا أُعينك".

يلاحظ أن الله يدعو نفسه "أنا الرب إلهك"، فإن كان قد دعى نفسه "يهوه" (خر 3: 14؛ 15؛ 6: 2) عندما دعى موسى لخلاص الشعب من عبودية فرعون، فقد أوضح له سرّ اسمه وهو: "أهيه الذي أهيه" (3: 14) مؤكدًا أنه كائن على الدوام، يحل وسط شعبه دون أن تتغير محبته أو رعايته. هكذا يُقدم الله اسمه بألقاب كثيرة ليطمئن مؤمنيه، من ذلك[423]:

"يهوه يرأه" (تك 22: 14)، وتعني "الرب يُرى"، فقد رأى إبراهيم بعيني الإيمان ذبيحة المسيح الفريدة الواهبة قوة القيامة.

"يهوه شلوم" (قض 6: 24)، وتعني "الله السلام"، فإن المسيح كلمة الله هو سلامنا (أف 2: 14)، به نتمتع بالمصالحة مع الله كسّر سلامنا الداخلي وسلامنا مع الغير.

"الرب شافيك" Jehovah ropheka (خر 15: 26)، يشتاق أن يشفي نفوسنا وأجسادنا كطبيب حقيقي للبشرية.

"الرب برنا" Jehovah-Zidkenu (إر 23: 6)؛ في المسيح صرنا أبرارًا (1 كو 1: 30)، إذ نحمل شركة طبيعته ونتمتع ببره فينا.

"يهوه نسى" Jehovah- nissi (خر 17: 15) (الرب رايتي)؛ فقد صار الله رايتي يتقدم خطواتي في المعركة الروحية، هو سرّ نصرتي وعلامة غلبتي على عدو الخير.

"ياه يهوه" Jehovah-yah (إش 12: 2)، تعني "أهيه الذي أهيه" "أنا كائن الذي هو أنا كائن"، بكونه حاضرًا وسط مؤمنيه لا تتغير محبته نحوهم.

"يهوه شمه" Jehovah- Shammah (حز 48: 35)، أي "الرب هناك" تُشير إلى الإعلان عن حضرة الرب في كنيسة العهد الجديد، وسط إسرائيل الجديد، إذ صارت أيقونة السماء التي هي "مسكن الله مع الناس" (رؤ 21: 3).

يعلن الله حبه لشعبه الذي دعاه "دودة إسرائيل" ليقيم منها نورجًا محددًا جديدًا قادرًا أن يدرس الجبال ويسحقها ويذريها لتبددها العواصف، إذ يقول: "لا تخف يا دودة يعقوب، يا شرذمة إسرائيل، أنا أعينك يقول الرب وفاديك قدوس إسرائيل. هأنذا قد جعلتك نورجًا محددًا جديدًا ذا أسنان، تدرس الجبال وتسحقها، وتجعل الآكام كالعالصفة، تذريها فالريح تحملها والعاصف تبددها وأنت تبتهج بالرب، بقدوس إسرائيل تفتخر" [14-16].

هذا هو عمل الله المخلص في حياتنا، إذ يحولنا من دودة محتقرة تعيش في طمي هذا العالم نُداس كما بالأقدام ليقيم منا نورجًا ذا أسنان حادة يقدر أن يدرس الجبال ويسحقها أو كمذراة تفصل الحنطة عن التبن... هكذا يُريد الله مصادقة الدودة المحتقرة ليجعلها أداة للتمييز وعزل الحنطة النافعة عن التبن الذي بلا ثمن.

دعى الله شعبه "دودة يعقوب"، فإنها تعيش في الطين محتقرة بلا قوة ولا جمال ولا مجد، تطأ عليها الأقدام دون اهتمام أو مبالاة. لقد وطأ فرعون على الشعب كما على دودة، لكن فرعون مات وأما الشعب فتمتع بمواعيد الله وخلاصه. وطأ سنحاريب ونبوخذنصَّر أيضًا على هذه الدودة وانتهت دولة آشور باكملها وأيضًا انهارت بابل بملوكها الجبابرة وبقيت الدودة حية ومجيدة. وهكذا قام جبابرة عبر الأجيال مثل نيرون ودقلديانوس وأيضًا هراطقة مثل أريوس ونسطور... ومات الكل وبقيت الدودة حية تنمو وتتمجد. أما سّر حياتها فهي أن كلمة الله الذي صار جسدًا هو أيضًا من أجلنا صار دودة كقول المرتل "أما أنا فدودة لا إنسان" (مز 22: 6)، أي يتنازل ليصير إنسانا محتقرًا حتى حُسب كدودة، فيرفعنا نحن باتضاعه إلى مجده.

v   "أما أنا فدودة لا إنسان" (مز 22: 6).

لكنني أتحدث الآن لا في شخص آدم، وإنما أتحدث بالأصالة عن نفسي- أنا يسوع المسيح - وُلدت بدون زرع بشر حسب الجسد، حتى أصير أنا كإنسان وراء كل بشر، لكيما يتمثل الكبرياء البشري باتضاعي. "عار عند البشر ومحتقر الشعب" (مز 22: 6). بالاتضاع صرت عارًا عند البشر، حتى يُقال بطريقة تهكمية: "أنت تلميذ ذاك" (يو 9: 28)، ويحتقرني الشعب.

القديس أغسطينوس[424]

بالتصاقنا بالرب يحولنا من دودة ضعيفة عاجزة عن العمل إلى نورج قادر على سحق الجبال التي تمثل أعمال الإنسان القديم ليتمتع ببركات الحياة الجديدة.

إن كان إنساننا القديم قد صار كالجبال بأعماله الشريرة الصلبة وكالآكام ليس من يقدر أن يحركها فإن الله وحده الذي يلمس الجبال فتدخن (مز 104: 32). يجعلنا بالمسيح يسوع ربنا نورجًا جديدًا محددًا، ندرس الجبال ونسحقها ونذري الآكام كالعصافة، دون أن يصيبنا القدم ولا نفقد قوتنا أو تضعف إمكانياتنا مع الزمن. هذا ما يبهج نفوسنا بالرب مجدد حياتنا فنفتخر بقدوس إسرائيل الجديد[425]

4. البرية تصير بستانًا:

إذ يتطلع إشعياء النبي إلى العصر المسياني كعصر مياه الروح القدس، يرى البرية تتحول إلى واحة تفيض ماءً فتتحول من قفر إلى بستان إلهي مثمر.

تكرر هذا التشبيه عدة مرات (إش 35: 1-10؛ 43: 18-21؛ 49: 9-11؛ 48: 21؛ 55: 13).

في القديم أخرج الله من الصخرة ماءً لشعبه الظمآن (خر 17: 1-7؛ عد 20: 1-13؛ إش 48: 21). وفي الخروج الثاني يفعل ما هو أعظم، يُفجر أنهارًا على المرتفعات العالية القاحلة وينابيع في الوديان؛ إذ يقدم السيد المسيح ماء جديدًا يغير وجه الأرض، محولاً قفر قلوبنا إلى فردوسه الروحي، وبريتنا الداخلية إلى واحة إلهية فتنمو فينا أشجار روحية تأتي بثمار روحية شهية: "اجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجر الزيت..." [19].

ما أجمل العبارة: "لكي ينظروا ويعرفوا ويتنبهوا ويتأملوا معًا أن يد الرب فعلت هذا وقدوس إسرائيل أبدعه" [20]... ننظر عمل الرب فينا، ونتعرف على أسراره، ونتأمل الأمور الفائقة ونفهم ما لا يدرك لأن هذا كله من يد المخلص القدوس ومن ابداعه.

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان المخلص قائلاً:

[من يستطيع أن يُعادلني في الجود؟ إني أب وأخ وعريس وبيت وطعام ولباس وأصل كل ما تشتهي، لا اتركك محتاجًا إلى شيء.

سأكون أيضًا خادمًا لك، فقد جئت لا لكي أُخدم بل أخدم.

أنا أيضًا صديق وعضو ورأس وأخ وأخت وأم؛ أنا كل شيء، فقط كن صديقًا ليّ!

من أجلك افتقرت، ومن أجلك كنت أشخذ.

من أجلك صليت، ومن أجلك دُفنت.

في السماء أسأل عنك الآب.

أنت كل شيء بالنسبة ليّ: الأخ والشريك في الميراث والصديق والعضو.

ماذا تُريد أكثر من هذا؟

لماذا تنصرف عن من يحبك، وتتعب من أجل العالم؟[426]].

5. الله رب المستقبل:

لكي يعطي الرب طمأنينة لشعبه ويهبهم ثقة فيه، يؤكد لهم أن المستقبل كله في يديه دون سائر آلهة الأمم، طلب منهم أن يسألوا الأوثان إن كانت تقدر أن تخبر بالأمور المستقبلة، وبقصد التنبؤ بخصوص قيام كورش، إذ كان ذلك غير متوقع.

يعلن الله عن نفسه أنه أول من يُبشر شعبه بقيام كورش [27].

كورش - من جهة والده - فهو مادي، ومن جهة أمه فهو فارسي، وقد ضم جيشه رجالاً من مادي جاءوا من الشمال [25]؛ ورجالاً من فارس جاءوا من الشرق [25]. السيد المسيح أيضًا جاء من الناصرة في الشمال وهو شمس البر المشرق من الشرق.

لقد عرف كورش الله (عزر 1) واحترم كل الأديان بما فيها عبادة الله الحيّ، لذلك قيل: "من مشرق الشمس يدعو باسمي" [25]؛ ربما أيضًا دعى باسم السيد المسيح بكونه رمزًا له، يُحقق خلاصًا للعالم كله. شُبه كورش بالخراف الذي يدوس الطين، اشارة إلى السيد المسيح كديان تخضع له كل الأمم كالطين بين يدّي الخراف... (كورش أتى على ولاة بابل كما على الملاط [25].

<<

 


 

الأصحاح الثاني والأربعون

العبد المختار

يحوي هذا الأصحاح إحدى التسابيح الممتعة الخاصة بالسيد المسيح، أو تسابيح عبد يهوه (إش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13؛ 53: 12).

حاول البعض تطبيق التسبحة التي بين أيدينا على إسرائيل أو على إشعياء وبالأكثر على كورش، لكن من الواضح أنها تخص السيد المسيح نفسه، كما أكد الإنجيليون ذلك (مت 12: 17-21).

1. عبد الرب المختار                 [1-4].

2. دعوة عبد الرب                   [5-9].

3. التسبحة الجديدة                   [10-13].

4. تفريغ للقديم                      [14-17].

5. دعوة للشعب الأصم الأعمى       [18-25].

1. عبد الرب المختار:

تُقدم لنا التسبحة هنا شخص العبد المختار الذي هو السيد المسيح بعينه، إذ جاء فيها:

أولاً: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري سرت به نفسي" [1]. ليس عجيبًا أن يُدعى المسيا "عبد يهوه" أو "عبد الرب" مع أنه كلمته المولود أزليًا وواحد معه في ذات الجوهر الإلهي، إنما بحبه الإلهي اشتاق أن ينزل إلى عبوديتنا ليحملنا إلى أمجاده، وكنائب عنا أطاع الآب حتى الموت موت الصليب، حتى يُحقق خلاصنا ويُثبتنا فيه فنُحسب مطيعين ونصير موضع سرور الآب (أف 1: 3-5).

إن كان الآب قد اختار ابنه الوحيد ليتمم الخلاص، معلنًا كمال الحب الإلهي، فإننا إذ ندخل فيه وننعم بالعضوية في جسده نصير نحن أيضًا مختارين من الابن موضع حبه وسروره!

كلمة "مختاري" لا تعني اختيار واحد من بين كثيرين إنما تُشير إلى عظمة الآب نحو المسيا. وكما يقول السيد المسيح نفسه: "كما أحبني الآب أحببتكم أنا، اثبتوا في محبتي" (يو 15: 9)؛ "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26). هذا الحب تصوره الكلمات: "الذي سرت به نفسي" [1]. فإن كل سرور الآب فيه أزليًا، أُعلن عند عماد السيد وتجليه وخلال مراحل أعماله الخلاصية.

اقتبس الإنجيلي متى ما ورد هنا في [1-3] كنبوة صريحة عن السيد المسيح (مت 12: 17-21)، مؤكدًا النقاط التالية[427]:

أ. المختار لتتميم الخلاص.

ب. فيه سرّ الآب بنا.

ج. مشتهى الأمم ورجاؤهم.

د. بالوداعة يهب النصرة.

هـ. يترفق بكل ضعيف.

يعلق القديس أغسطينوس على هذا النص بالقول: [تعبير "عبدي" يُشير إلى هيئة العبد حيث أخلى العلي نفسه... أُعطى له الروح القدس وقد أُعلن ذلك في شكل حمامة كما شهد الإنجيلي (يو 1: 32). اخرج الحكم (الحق) للأمم، إذ أعلن لهم ما كان مخفيًا عنهم. في اتضاعه لا يصيح دون أن يتوقف عن إعلان الحق. صوته لم يُسمع، لا يسمعه الذين هم في الخارج، إذ لم يطعه الخارجون عن جسده. لم يقصف اليهود أنفسهم الذين اضطهدوه مع كونهم قصبة مرضوضة فقدت توازنها، ولا اطفأهم مع كونهم فتيلة مدخنة، إذ سامحهم. لقد جاء ليُحكم عليه لا ليُدين[428]].

جاء مسيحنا الذي قيل عنه: "مختاري الذي سرت به نفسي" لندرك إننا فيه مختارون من الآب موضع سروره وحبه، وكما يقول الرسول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السمويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئة" (أف 1: 3-5).

ثانيًا: "وضعت روحي عليه" [1]. المسّيا كلمة الآب، الواحد معه والمساوي له في ذات الجوهر، لذا فالروح القدس الذي هو روح الآب هو روح الإبن أيضًا. الروح القدس ليس غريبًا عن الابن، يتمتع به بغير مكيال وبغير انفصال. الروح القدس هو الذي قدّس أحشاء البتول مريم ليُحقق التجسد الإلهي، لم يفارق الابن قط؛ أصعد السيد المسيح إلى الجبل ليدخل في المعركة الحاسمة مع إبليس على جبل التجربة... إنه الروح الذي وهبه لتلاميذه لممارسة العمل الرعوي في المسيح يسوع، وهو الروح الذي وهبه للكنيسة كلها في يوم العنصرة كي يسندها في الشهادة له والعبادة والحياة اليومية. بهذا حقق ما وعد به في أحاديثه الوداعيه (يو 14: 16-18، 26؛ 15: 26؛ 16: 7، 8، 13، 14). وكما يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [المربي يخلق الإنسان من تراب، ويجدده بالماء وينميه بالروح[429]].

يُحدثنا القديس باسيليوس عن عمل الروح القدس فينا، قائلاً: [بالروح القدس استعدنا سكنانا في الفردوس، صعودنا إلى ملكوت السموات، عودتنا إلى النبوة الإلهية، دالتنا لتسمية الله "أبانا"، اشتراكنا في نعمة المسيح، تسميتنا ابناء النور، حقنا في المجد الأبدي، وبكلمة واحدة حصولنا على ملء البركة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي[430]].

ثالثًا: "فيخرج الحق للأمم" [1]. إن كان الرب قد أدّب الأمم لكنه جاء إليهم بكونه "الحق" كي يقبلوه في حياتهم سّر خلاص أبدي، إذ يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي" (يو 14: 6).

v   يسكن المسيح في الإنسان الداخلي كما يقول الرسول (أف 3: 16-17)، فإنه إليه ينسب رؤية الحق، حيث قال: "أنا هو الحق" (يو 14: 6)[431].

v   هو نفسه الحياة، وهو نفسه الحق. ليأتِ ويُخلصنا... ليعزل الحنطة عن الزوان[432]!

القديس أغسطينوس

v   أصرخ بصوت هادئ وساكن قائلاً: أيها المخفي فيّ والمستتر، أظهر فيّ سرك المخفي، اكشف ليّ حسنك الذي هو داخلي. يا من بناني هيكلاً لسكناه، ظللني بغمامة مجدك داخل هيكلك.

الشيخ الروحاني[433]

رابعًا: "لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته" [2]. فقـد جاء يعلن

صوت الحب العملي الهادئ خلال البذل حتى الصليب؛ منبره الصليب، وكلماته هي جراحات جسده الناطقة بالحب.

جاء إلينا كلمة الله ليُعلمنا حياة العمل الحق النابع عن الحب مع سكون النفس وهدوئها فيه عوض الانشغال بالكلمات الكثيرة البّراقة والمظاهر الخارجية المخادعة. علمنا الكلمة الإلهي كيف نتكلم بالحب والحياة العملية فيتجلى هو فينا!

v   إن كنت صامتًا يكون لك سلام أينما عشت.

الأب بيامون[434]

v   كثيرًا ما تكلمت وندمت، وأما عن السكوت فلم أندم قط.

القديس أرسانيوس

خامسًا: "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق" [3].

جاء مسيحنا إلى النفوس المحطمة لكي يبعث فيها الرجاء، لا يجرح مشاعر الخطاة ولا يداهنهم. ينطق بالحق مع الحب حتى يضمد كل جرح ملتهب، ويسند كل نفس متعبة.

v   تحنن يسوع علينا حتى لا يخيفنا منه بل يدعونا إليه؛ جاء في وداعة وفي اتضاع... وبهذا قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). بهذا أنعشنا الرب ولم يغلق علينا أو يطردنا...

v   يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة، لذلك قيل: "أُريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6)...

v   عندما ترفض قبول التوبة، إنما بذلك تقول: "لن يدخل في فندقنا جريح، ولا يُشفي أحد في كنيستنا. إننا لا نهتم بالمرضى، فنحن كلنا أصحاء، ولسنا في حاجة إلى طبيب، لأنه هو نفسه قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".

v   لترسل يارب إلى شوارع المدينة، ولتجمع الصالح والطالح، ولتُدخل إلى كنيستك الضعفاء والعمي والعرج (لو 14: 21). مرّ يارب أن يمتلئ بيتك، محضرًا إياهم (الخطاة) إلى وليمتك، لأنك أنت تخلق من يتبعك عندما تدعوه...

v   ليته لا يخف أحد من الهلاك، مهما كانت حالته، ومهما كان سقوطه، فسيمر على السامري الصالح الذي للإنجيل، ونجده نازلاً من أورشليم إلى أريحا... هذا السامري الصالح هو رمز السيد المسيح حارس الأرواح، لن يتركك إنما يتحنن عليك ويشفيك. السامري (= حارس) الصالح لم يترك من كان ملقى بين حيّ وميت، لأنه رأى فيه نسمات حياة، فترجى شفاءه.

القديس كبريانوس[435]

سادسًا: "لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته" [4].

أتسم مسيحنا بالحب العملي والوداعة، في محبته يفتح أبواب الرجاء أمام الخطاة مهما بلغت شرورهم. على خلاف الإنسان الذي يقسو على أخيه ويحسب نفسه أبر منه، ويغلق الباب أمام كثيرين. هذا الحب الإلهي الوديع يرافقه عمل إلهي بلا توقف حتى الموت موت الصليب، وفي هذا لم ينكسر بل تمجد بالقيامة، وأعلن الحق بتحقيق الخلاص.

يُحاول بعض الدارسين أن يفسروا كلمة "الجزائر" هنا بأنها أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا[436].

2. دعوة عبد الرب:

الله في حبه خلق السموات والأرض من أجل الإنسان [5]، وها هو يدعو الإبن الذي صار إنسانًا ليقيمه عهدًا للشعب ونورًا للأمم [6]، يفتح البصيرة الداخلية لمعاينة ملكوت الله، ويحرر المأسورين في سجن الظلمة الأبدي ليعيشوا في حرية مجد أولاد الله [7].

ماذا تعني دعوة عبد الرب "عهدًا" ؟ بكونه ابن الله الذي صار ابنا للإنسان أمكنه مصالحة الآب مع البشرية في جسم بشريته، فيه رأى الآب البشرية قد تقدست وتأهلت للنبوة له فأعلن أبوته الأبدية نحوها في ابنه وحيد الجنس، وفيه رأت البشرية حب الآب الذي بذل ابنه الوحيد من أجل خلاصها لتجد لها نصيبًا في الحضن الأبوي. هذا هو العهد الذي أقيم في المسيح يسوع، والذي ختمه بدمه الثمين على خشبة الصليب. لهذا دُعي "ملاك العهد" (ملا 3: 1).

حاول تريفو اليهودي أن يفسر ما ورد هنا عن العهد ونور الأمم انهما يخصا الشريعة الموسوية، وقد ردّ عليه الشهيد يوستين قائلاً: [بأنه لو كانت الشريعة قادرة أن تهب استنارة للأمم وللذين يستلمونها فما الحاجة للحديث عن عهد جديد؟ لكن حيث سبق أن أعلن الله مقدمًا أنه يُقدم عهدًا جديدًا وشريعة أبدية ووصية أبدية فلا يُفهم هذا عن الشريعة القديمة بل عن المسيح والذين يؤمنون به أي عنا نحن الذين كنا من الأمم وتمتعنا بالاستنارة. يقول الرب: "في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب لاقامة الأرض لتمليك أملاك البراري" (إش 49: 8). ما هو ميراث (تمليك) المسيح؟ أليسوا الأمم؟ ما هو عهد الله إلاَّ السيد المسيح؟ كما جاء في موضع آخر" أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وسلطانك (ممتلكاتك) إلى أقصى الأرض" (مز 2: 7)[437].

مرة أخرى يعلق الشهيد يوستين على القول الإلهي: "أنا الرب هذا إسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات" [8] هكذا [إنني أقول (لليهود): ألا تدركوا يا أصدقائي أن الله يُعطي الذي أقامه نورًا للأمم مجدًا ولا يعطيه لآخر[438]]. فما يناله الابن المخلص من أمجاد إنما يناله الثالوث القدوس بكونهم الله الواحد في الجوهر واللاهوت.

"وأجعلك عهدًا للشعب" [6].

سبق أن درسنا دور "العهد" في القبائل البدائية وفي العهد القديم وأخيرًا في العهد الجديد حيث قدم السيد المسيح دمه السري في الكأس عهدًا جديدًا لكي يتناوله مؤمنوه. هذا الدم وهو ذبيحة المسيح القادرة على اقامة ميثاق بين الآب والإنسان، لتهبنا قرابة روحية سماوية فنُحسب بالحق ابناء ثابتين في الابن الوحيد الجنس؛ خلالها نتمتع بالوليمة السماوية الواهبة الحياة[439].

يقول الأب ثيؤدورت: [في تناولنا لعناصر العريس وشربنا دمه ندخل معه في اتحاد زوجي[440]].

"وأجعلك... نورًا للأمم" [6]؛ فالمسيح هو النور الإلهي الذي يفتح بصيرتنا الداخلية لنُعاين النور. لهذا يقول المرتل: "بنورك يارب نعاين النور"، ويقـول الإنجـيلي:

"النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت في العالم" (يو 1: 9).

v   "أرسل نورك وحقك، هما يهديانني ويأتيان بيّ إلى جبل قدسك وإلى مساكنك" (مز 43: 3).

"النور" و"الحق" هما بالحقيقة اسمان يعبران عن واحد (الله). لأنه ما هو النور الإلهي إلاَّ الحق الإلهي؟ والحق الإلهي إلاَّ النور الإلهي؟ واقنوم المسيح هو كلاهما.

"أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة" (يو 8: 12)؛ "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). هو بنفسه النور، وهو أيضًا الحق. فليأتِ إذن ويُخلصنا...[441].

v   إلهي... أنت نوري؛ افتح عن عيني فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو.

حقًا، كيف يمكنني أن أتجنب فخاخه ما لم أرها؟!

وكيف أقدر أن أراها إن لم استنر بنورك؟!...

أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيئ لأولادك حتى لا يتعثروا!

أما الذين هم خارج عنك فانهم يسلكون في الظلام ويعيشون فيه![442]...

القديس أغسطينوس

v   مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره استضيء، والآن أنا في ذهول، ابتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس!

الشيخ الروحاني[443]

3. التسبحة الجديدة:

"غنوا للرب أغنية جديدة، تسبحة من أقصى الأرض" [10]. ما هي هذه التسبحة التي تتسم بالجدة والتي ينطق بها البشر من أقصى الأرض إلاَّ تسبحة المفديين القادمين من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، الواقفين أمام العرش وأمام الحمل... "وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللخروف" (رؤ 7: 10). ترنيمة جديدة لأنها تَهِبْ تجديدًا لا ينقطع خلال "الحياة الجديدة التي في المسيح".

يلاحظ في هذه التسبحة الآتي:

أ. تسبحة جديدة لا تشيخ ولا تقدم قط، لأنها تعبّر عن تمتع بحياة الفرح السماوي الذي لا يقدم. هكذا تتحول تنهدات الخليقة إلى شركة في تسبيح السمائيين.

ب. تسبحة جامعة تضم أعضاء من أقصى الأرض، تكشف عن فرح ساكني الأرض، والبحار، وسكان الجزائر [10]. تنبع عن أعماق القلب الداخلي لا عن الظروف الخارجية، لذا يمارسها المؤمن أينما وُجد، في البر أو البحر، في البرية أو في مدينة أو في قرية أو في كهف على رأس جبل [10-11].

ج. سرّ البهجة تقدم المسيح الرب الصفوف كقائد المعركة الروحية، "يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه" [13]. هي تسبحة الغلبة والنصرة في المسيح الهاتف بالغلبة على إبليس وكل قواته الشريرة.

4. تفريغ للقديم:

سرّ تسبيحنا هو تفريغ أعمال الإنسان العتيق من أعماقنا خلال تقبلنا لأعمال الإنسان الجديد في المسيح يسوع... الأمر المذهل للغاية حتى قيل "قد صمتُّ منذ الدهر، سكتُّ، تجلَّدتُ" [14].

يشبّه ترك الإنسان القديم والتمتع بالإِنسان الجديد بالمرأة التي تلد، فإنها تصيح من الألم لكنها تنجب إنسانًا جديدًا، هكذا نحن نتمتع خلال السيد المسيح كما بإنجاب عالم جديد في داخلنا: "كالوالدة أصيحُ، أنفُخُ، وأنْخرُ معًا" [14].

كما يشبّه الأمم العظيمة والصغيرة بالجبال والتلال التي يجفف كل عشبها [15]، يجفف محبتها للأرضيات التي هي أشبه بالعشب الفاني. كما يُشبهها بالأنهار التي يجعلها تيبس [15]... هكذا ينتزع مياهها القديمة ليهبها الماء الحيّ.

 

مرة أخرى يشبهها بالعُمي السالكين في الظلمة يحتاجون إلى إزالة العمى والظلام ليتمتعوا بالنور ويسيروا في الطريق الروحي الجديد الحق عوض سلوكهم في المعوجات، إذ يقول: "وأسير العُمى في طريق لم يعرفونها، في مسالك لم يدروها أمشيهم، أجعل الظلمة أمامهم نورًا والمعوجّات مستقيمة" [16].

5. دعوة للشعب الأصم الأعمى:

يرى كثير من الآباء أن الشعب الأصم الأعمى هم اليهود الذين لم يصغوا لصوت الأنبياء بخصوص السيد المسيح، وقد انطمست عيونهم عن إدراكه فمجدوه... لقد اختارهم الرب كعبد له لكن قلة قليلة قبلت الإيمان بالمخلص بينما جحده الآخرون لهذا يُعاتبهم قائلاً:

"أيها الصم اسمعوا؛ أيها العمي أنظروا لتبصروا.

من هو أعمى إلاَّ عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله؟!

من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب؟!" [18-19].

يدعوهم عبده لأنه اختارهم شعبه المتعبد له؛ وأيضًا رسوله لأنه اختارهم ليقبلوا الإيمان ويكرزوا به كرسل يُعلنون الخلاص ويشهدون للحياة الإنجيلية، دعاهم "الكامل" لأنه كان ينتظر فيهم التقديس إذ قدم لهم كل إمكانية للحياة الكاملة وبل وللكرازة بالسيد المسيح واهب الكمال.

يوبخهم قائلاً:

"ناظر كثيرًا ولا تلاحظ" [20]، فقد جاء السيد المسيح في وسطهم وصنع عجائب ورأوا ما لم تره شعوب أخرى، ومع هذا لم يلاحظوا أنه مخلص العالم بل صلبوه عن حسد! رأوه في الجسد ولم يدركوا حقيقته.

"مفتوح الأذنين ولا يسمع" [20]، سمعوا النبوات كما سمعوا صوت السيد المسيح، ومع هذا لم يستجيبوا لا لصوت الأنبياء المشير نحو المسيح ولا لصوت الرب نفسه عند مجيئه.

العيب فيهم لا في الشريعة الموسوية فإن الله يعظم الشريعة ويكّرّمها [21]، لكن الشعب نهب منه عدو الخير أعماق الشريعة وسلبه المفهوم النبوي الروحي فسقط في حفرة الجحود وانحبس في إنكار الإيمان، نهبهم عدو الخير من التمتع بمن أشارت إليه الشريعة وسلبهم ما وهبت كتب العهد القديم، وليس من يرد لهم ما فقدوه [21-22]، لأنهم سقطوا تحت الغضب الإلهي.

يرى اليهود أن ما ورد في هذا الجزء [18-25] لا ينطبق عليهم وإنما على الوثنيين أو على بعض الأفراد.

<<

 


 

الأصحاح الثالث والأربعون

ليسَ غيري مُخلِّص

قدم الأصحاح السابق صورة قاتمة لما بلغ إليه الشعب في فترة السبي البابلي فصاروا كعمي وصمّ، لهم أعين وآذان لكنهم لم يلاحظوا عمل الله ولم يسمعوا صوته. هذه صورة خفيفة لعمل الخطية في حياة البشرية لذا صارت الحاجة إلى تدخل إلهي؛ هو وحده يقدر أن يفدي ويخلص، يُحطم كل عقبة تقف في حياة أولاده دون انتظار لمكافأة أو لمقابل من جانبهم.

1. لا تخف فإني معك                [1-17].

2. أنتم شهودي                      [8-13].

3. سقوط بابل                        [14-15].

4. خروج جديد                       [16-21].

5. الخلاص عطية مجانية            [22- 28].

1. لا تخف فإني معك:

يبدأ حديثه هكذا: "والآن هكذا" [1]؛ كأن الله يريد أن يغير الصورة السابقة، صورة سبي الخطية المرّ، الذي أفقدنا البصيرة الداخلية وآذان النفس، وذلك بتقديمه غنى مواعيده الخلاصية وفيض نعمته الفائقة.

الله يُريدنا أن نحوّل أنظارنا عن حالنا البائس أو عن التفكير فيما فعلته فينا الخطية متطلعين إلى الفادي والمخلص، حتى لا يُحطمنا اليأس بل نمتلئ رجاء.

الآن ما هو دور الفادي المحرر من سبي الخطية؟

أ. الله الخالق وحده يقدر أن يُجدد الخليقة: "والآن هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل، لا تخف لأني فديتك" [1].

حين أنكر آريوس لاهوت السيد المسيح ركز القديس أثناسيوس الرسولي في رده عليه بأن لاهوت السيد ليس عقيدة نظرية فلسفية إنما أمر يمس خلاصنا ذاته. لقد فسدت طبيعتنا البشرية تمامًا واحتاجت إلى الخالق ليخلص طبيعتنا الساقطة ويردها إلى أصلها، واهبًا إياها صورته، ومصلحًا إياها من الفساد إلى عدم الفساد؛ فيه تغلب البشرية الموت وتُعاد خلقتها[444]. كانت الحاجة ماسة إلى ابن الله الواحد مع الآب والمساوي له في الجوهر أن يُقدم نفسه ذبيحة قادرة على الإيفاء بدين خطايانا وتحقيق العدالة والرحمة الإلهية في ذات الوقت. أنه الله الغالب للشيطان لا لأجل نفسه وإنما باسم البشرية ولحسابها. أخيرًا بكونه الله الحق أعاد لنا كرامتنا، واهبًا إيانا النبوة للآب فيه بالروح القدس. يقول البابا أثناسيوس: [صار إنسانًا لنصير نحن آلهة[445]]، [وإن كان يوجد ابن واحد بالطبيعة، ابن حقيقي وحيد الجنس، صرنا نحن أبناء ليس بالطبيعة والحق بل بنعمته التي تدعونا، وأن كنا بشرًا على الأرض لكننا دُعينا آلهة[446]].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بسبب الحب أخذ جسدنا وتراءف علينا، ليس هناك سبب آخر لتجسده[447]]، الله لم يُجازنا عن تعدياتنا الكثيرة التي اقترفناها ضده رغم احساناته علينا، بل أعطانا ابنه. جعله من أجلنا خطية... تركه يُدان ويموت كملعون. الذي لم يعرف خطية جعله كخاطئ وخطية... إنه يشبه ملكًا يرى لصًا على وشك الاعدام، فيرسل ابنه الحبيب الوحيد، ينقل عليه الموت ذاته بل وخطا المجرم! هذا كله من أجل خلاص المذنب، ليرفعه إلى كرامة عظيمة[448]]، [دفع السيد المسيح أكثر مما نستحق بمقدار ما يتعدى المحيط قطرة ماء[449]].

بهذا نفهم الكلمات النبوية: "هكذا يقول الرب خالقك... لا تخف لأني فديتك" [1].

ب. اهتمام شخصي من جانب المخلص نحو الإنسان؛ الله لم يخلق الإنسان كطائن وسط بلايين الكائنات التي أوجدها، إنما أعطاه اهتمامًا خاصًا كخليقة محبوبة لديه، يعرف الإنسان باسمه فيدعوه ويفديه ليكون له، أي لينعم الإنسان بالاتحاد معه.

ما أجمل صوت الفادي حين يُناجي كل إنسان، قائلاً:

"لا تخف لأني فديتك.

دعوتك باسمك

أنت ليّ" [1].

سّر الفداء يكمن في حب الله الفائق، يُريدني له، وهو ليّ... يعرفني باسمي ويدعوني للدخول معه في علاقة حب فريدة. لا يطلب مني شيئًا بل يطلب كياني وقلبي وحبي، وأنا لا أطلب عطاياه بل شخصه وروحه القدوس وحبه! كأن الله هنا يتقدم كخالق ومخلص وعريس شخصي ليّ.

v   إلهي... إنني إذ أتأمل في ضميري، أراك ناظرًا نحوي دائمًا، ومتنبها إليّ نهارًا وليلاً بجهد عظيم، حتى كأنه لا يوجد في السماء ولا على الأرض خليقة سواي.

v   عيناك منجذبتان نحو خطوات البشر...

إذ أنت مهتم بكل خليقتك، لا تحرم أحدًا من جبلة يديك عن فيض حبك!

أنت بنفسك تهتم بخطواتي وطرقي ليلاً ونهارًا، تسهر على رعايتي، تلاحظ كل سبلي، لا تكف عن الاهتمام بيّ، حتى ليمكنني أن أقول: انك تنسى السماء والأرض وما فيهما، مركزًا اهتمامك بيّ، فتبدو كمن لا يهتم بخليقة سواي!

v   تسهر عليّ، وكأنك قد نسيت الخليقة كلها! تهبني عطاياك، وكأني وحدي موضوع حبك!

v   أنه لا يوجد قط شيء لا تعرفه... أفكاري ومقاصدي وأفراحي وأعمالي... ليس شيء من هذا غير مطروح أمام اهتمامك الأبدي!

القديس أغسطينوس[450]

ج. الله المخلص هو سرّ نصرتنا، مادام معنا لا تغمرنا مياه هذا العالم ولا تحرقنا نيران الشهوات: "إذا اجتزت في المياه فأنا معك، في الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تلدغك، واللهيب لا يحرقك" [2].

صورة رائعة لعمل المخلص، يهبنا ذاته فلا يقدر الموت بكل وسائله وطرقه أن يبتلعنا... نحمل مسيحنا "القيامة" (يو 11: 25) فينا فنمارس الحياة المقامة الغالبة للموت.

إن كنا نواجه مياه محبة العالم التي تغرق النفس وتقتلها، ولهيب نار الشهوة الذي يُحطمها فقد وهبنا المخلص روحه القدوس خلال مياه المعمودية حيث فيها نجحد الشيطان وكل جنوده وكل أعماله ونخدش رأسه تحت أقدامنا، وهبنا روحه القدوس الناري كما في يوم العنصرة الذي يحرق الخطية ويبدد لهيبها القاتل.

لعل إشعياء النبي يُذكّر شعبه هنا بعمل الله مع آبائهم عند خروجهم من مصر. لقد وهبهم بالصليب الغلبة على مياه بحر سوف (بواسطة العصا)، وأيضًا الغلبة على الحيّات المحرقة (بالحية النحاسية). الله الذي عمل قديمًا يعمل في الخروج الثاني من السبي البابلي، وهذان الخروجان هما رمز للخروج الأعظم الذي يحققه المخلص بصليبه في حياة مؤمنيه.

v   هل تقدرون أن تُقاوموا الشيطان يا أيها غير الأمناء ما لم يكن لكم درع الإيمان؟ إذ به تستطيعون أن تطفئوا سهامه!...

ألعلك تبرر ذاتك إذ تملكت الخطية على جسدك؟ ومن أين لك أن تمجد والله بجسدك وهو الذي فداك بدمه الزكي؟!

القديس أنبا شنودة رئيس المتوحدين[451]

د. المخلص يدفع الثمن، فقد تطلعت الكنيسة الأولى إلى الصليب كإيفاء للدين الذي علينا نحو الآب، وكاقتناء لنا من يد إبليس الذي اشترانا عبيدًا له فدفع الرب دمه ثمنًا لذلك من أجل تحريرنا. هذا هو عمل المخلص القدوس الذي يُريد تقديسنا بدمه وتحريرنا من عبودية إبليس، لذلك يقول: "لأني أنا الرب إلهك قدوس إسرائيل مخلصك؛ جعلت مصر فديتك، كوش وسبا عوضك" [3].

مصر بفرعونها التي كانت تمثل إحدى القوتين العظيمتين في ذلك الحين (مصر وأشور؛ ثم مصر وبابل...) لا تسند شعب الله ولا تحميه إنما تحتل مركز الضعف... أما كوش وسبا فعرفتا بغناهما. كأن الله هو الذي يفدي ويخلص بكونه القدوس، وليس فرعون بسطوته ولا كوش وسبا بإمكانياتهما ومواردهما الغنية.

لقد اشترانا الرب لا بذهب أو فضة إنما بدمه الثمين ليقيمنا ملوكًا وكهنة:

"لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمه، وجعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة" (رؤ 5: 9-10).

"لأنكم قد اشتريتم بثمن، فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 20).

"لقد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس" (1 كو 7: 23).

"عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1: 18-19).

v   لقد اشتريتم بثمن، أي بالدم. قد نُزعتم عن إمبراطورية الجسد لتمجدوا الرب في أجسادكم.

العلامة ترتليان[452]

v   لا يظن أحد أنه قد دُفع عنه ثمن مختلف بسبب غناه؛ فالغنى في الكنيسة هو الغنى في الإيمان؛ إذ المؤمن له كل عالم الغنى. أي عجب من هذا إن كان المؤمن يملك ميراث المسيح الذي هو أثمن من العالم.

القديس أمبروسيوس[453]

هـ. المخلص يرد لنا مجدنا ووحدتنا: غالبًا ما يئس الكثيرون أثناء السبي من إمكانية العودة إلى بلادهم بسبب طول مدة بقائهم فيه، لكن الله المخلص يطمئن أولاده قائلاً: "لا تخف فإني معك. من المشرق آتي بنسلك ومن المغرب أجمعك. أقول للشمال اعطِ وللجنوب لا تمنع. إيت ببنيّ من بعيد وببناتي من أقصى الإرض. بكل من دُعى باسمي وكمجدي خلقته وجبلته وصنعته" [5-7].

يُلاحظ في هذا الأصحاح أن الله يتحدث عن نفسه "أنا" لا يقل عن 36 مرة[454] حتى دعي أصحاح "الذات الإلهية" أو "الأنا الإلهية" وقد تكرر نفس الأمر في الأصحاح الخامس والأربعين 31 مرة... ماذا يعني هذا؟ إن كان عمل الخطية هي تحوصل الإنسان في "الأنا"، فيجد في نفسه مركزًا للعالم وللآخرين، يود أن يتمتع بالملذات الجسدية أو الكرامة لحسابه الخاص في كبرياء وأنانية، فإن مسيحنا على العكس يُقدم ذاته التي هي "الحب" لكي نقتنيه. عندما يُنادينا ألا نخف، وعندما يدعونا بالاسم، ويؤكد رعايته لنا أينما وجدنا ومهما حلت بنا من تجارب وعندما يقدم لنا مواعيده بأن يجمعنا من أقاصي المسكونة لكي يضّمنا إليه... إنما في هذا كله لا يطلب ما لنفسه بل ما هو لنا. يهبنا معيته لكي نقتنيه. لهذا بين الحين والآخر يقول "إني معك"، وأنه لنا، نصيبنا الأبدي.

مجد اسم الله وكرامته يُعلنان في حبه العملي الباذل، في عطاء نفسه لخليقته.

2. أنتم شهودي:

ماذا يقدم الله لنا؟

يقدم ذاته نورًا لنا فيفتح حواسنا لنبصر أمجاده فينا وملكوته السماوي معلنًا داخلنا، ويفتح آذاننا لنسمع صوته الإلهي وندرك غاية وصيته، فتصير لنا آذان الأبناء الذين يعرفون صوت أبيهم بل حتى حركة رجليه... هذا ما عناه بقوله: "اخرج الشعب الأعمى وله عيون والأصم وله آذان" [8].

هذا هو دور الله مخلصنا في حياتنا الداخلية حيث يُجدد طبيعتنا في مياه المعمودية بروحه القدوس ليهبنا الإنسان الجديد القادر على التمتع بالشركة الإلهية.

خلال هذه الخبرة نشهد للغير، فتدعو الكنيسة لاجتماع عام للأمم [9-13] للتعرف على المخلص وتأكيد تحقيق ما سبق فوعد به خلال أنبيائه عبر الأجيال قبل مجيئه.

"اجتمعوا يا كل الأمم ولتلتئم القبائل. من منهم يخبر بهذا ويعلمنا بالأوليات، ليقدموا شهودهم ويتبرروا، أو ليسمعوا فيقولوا صدق. أنتم شهودي يقول الرب وعبدي الذي اخترته لكي تعرفوا وتؤمنوا بيّ وتفهموا إنيّ أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غير مخلص..." [9-11].

يطالب الله من تمتع بالبصيرة الجديدة والآذان الروحية الجديدة أن يدعو الأمم والقبائل للدخول معهم في حوار عملي خلال ما يعيشونه. في هذا الحوار يعلنون الآتي:

أ. ليسألوا الأمم إن كانت عندهم نبوّات سابقة واضحة وأكيدة فيما يخص المستقبل (إش 41: 22)؛ أما نحن فقد تقبلنا نبوات لا عن انتصار كوش على بابل لإنقاذ شعب الله القديم، وإنما عن المسيا، العبد المختار. تسلمنا نبوات عن شخصه وأعماله ورسالته؛ عرفناه أنه يولد من عذراء، كما عرفنا موعد ميلاده ومكانه، وعن أعماله مع شعبه وعن تقديم ذاته ذبيحة حب فريدة الخ... فما نطق به الأنبياء إنما هو بالرب الفريد السرمدي الذي لم يصور قبله إله وبعده لا يكون... وكما يقول: "أنا هو الأول والآخر" (إش 44: 6).

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الشيطان يستطيع أن يُقلد المعجزات [أما النبوة فهي من عمل الله الخاص التي لا تستطيع الشياطين أن تُقلدها وإن كانت تُصارع بقوة من أجلها[455]].

 

الله في محبته للبشرية وهب الأنبياء هذه النبوات، وتكلم على لسان رجاله القديسين وأوحى بالكلمة الإلهية، ولا يزال يعمل فينا إذ يهبنا معرفة هذه الأسرار الإلهية. وكما يقول إيريناؤس: [يستحيل علينا أن نأتي - بدون الله - إلى معرفة الله الذي يعلم البشر خلال كلمته[456]].

ب. بجانب النبوة التي تركزت في مجيء المخلص... يؤكد الكتاب المقدس أن الله وحده هو المخلص: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلص" [11]. الله الخالق في غيرته على محبوبه الإنسان، لا يأتمن خلاصه على أحد بل يرعى شعبه بنفسه ويبذل حياته عنه "الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو 10: 11). هو خلق وهو الذي يُجدد الخلقة ويخلصها!

في تكراره "أنا أنا الرب" تأكيد أن الذي يُقدم الخلاص هو الرب نفسه، الأول والآخر، يعلن عن حبه الإلهي خلال علمه الخلاصي!

v   بكونه "الحياة" مات لكي يحينا؛ بكونه "كلمة" صار جسدًا لكي يعلم الجسد في الكلمة[457].

v   إنه كلمة الله وقوته وحكمته كما يشهد سليمان بخصوص الحكمة أنها "الواحد، تقدر أن تصنع كل الأشياء وتبقى في ذاتها، تجدد كل الأشياء، وتعبر على النفوس القديسة، وتكوّن أصدقاء الله والأنبياء" (حك 7: 27)[458].

القديس أثناسيوس الرسولي

3. سقوط بابل:

الله الذي سمح بتأديب شعبه بالسبي البابلي الآن من أجل محبته لشعبه يسمح بسقوط بابل. يتحدث بصيغة الماضي ليؤكد لسامعيه أن ما سيحدث هو حقيقة واقعة لابد أن تتم.

جاء النص مختلفًا من ترجمة إلى أخرى مع بقاء المعنى ثابتًا:

"هكذا يقول الرب فاديكم قدوس إسرائيل: لأجلكم أرسلت إلى بابل وألقيت المغاليق عليها (أحدرت نبلاءها) والكلدانيون في سفن ترنمهم (صراخهم في سفنهم)" [14].

هنا يظهر الله كقائد للجيوش المعادية يُرسل مادي وفارس إلى بابل، وهناك يلقي بالرعب في قلوب سكانها فيهربون سريعًا.

تُرجمت الكلمة العبريةbarichim  "نبلاء nobles"، وفي العربية "مغاليق"، وقد استخدمت الإنجليزية "نبلاء nobles" لأنهم يحمون المدينة كمغاليق لها.

هرب كثير من الأغنياء إلى سفنهم التي كانت راسية في الفرات والتيجر. لم يكن لبابل سفن بحرية إنما خرج الأغنياء إلى سفنهم التي للنزهة، لذلك قيل "سفن ترنمهم" لأنهم اعتادوا أن يستخدموها أثناء رحلاتهم المملوءة طربًا. وإذ لم يجدوا فيها إمكانية للخلاص تحولت أغانيهم إلى صراخ ومرارة.          

في [15] دُعى الله بثلاث ألقاب: يهوه، مخلصكم، قدوس إسرائيل، خلالها يكشف عن دور الله كقائد لشعبه أو لكنيسته فهو الله غير المتغير في حبه وقدرته يقدر أن يهب الغلبة على عدو الخير، وهو المخلص الذي بحبه يُقدم ذبيحة الخلاص الفريدة، وهو القدوس الذي يُجدد خلقة مؤمنيه ويقدسهم ليملكوا معه أبديًا.

لعله قصد بهذه الألقاب الثلاثة أن الخلاص والتقديس من صميم عمل الله كمحب لخليقته الضعيفة والمشتاق إلى تجديدها فيه.

4. خروج جديد: 

الله الذي يخلص شعبه سبق أن وهبهم خلاصًا على يديْ موسى ليحررهم من عبودية فرعون؛ وها هو يخرجهم من السبي البابلي كما في خروج جديد، ويبقى على الدوام يخرج بهم من أسر الخطية إلى حرية مجد أولاد الله، ينطلق بهم كما من أعمال الإنسان العتيق إلى التمتع المستمر بأعمال الإنسان الداخلي الجديد.

"هكذا يقول الرب الجاعل في البحر طريقًا وفي المياه القوية مسلكًا، المخرج المركبة والفرس الجيش والعز. يضطجعون معًا لا يقومون. قد خمدوا كفتيلة انطفأوا" [16-17].

لقد خلصهم من سلطان فرعون بعبورهم بحر سوف، قاطعًا كل إمكانية لقيام فرعون ضدهم من جديد. فقد شبه هلاك فرعون المفاجئ والسريع بفتيلة انطفأت لا تعود تلتهب من جديد؛ بذات القوة يخلصهم الله من يد بابل أيضًا.

هذا الخلاص الذي تحقق ضد فرعون وأيضًا ضد بابل يجب أن يتم ضد أعمال الإنسان العتيق  (كو 3: 9)، لذا يكمل النبي حديثه، قائلاً: "لا تذكروا الأوليات، والقديمات لا تتأملوا فيها؛ هأنذا صانع أمرًا جديدًا، الآن ينبت، ألا تعرفونه؟! اجعل في البرية طريقًا، في القفر أنهارًا" [18-19]. يريدنا ليس فقط أن نخلع الإنسان القديم بأعماله وإنما أن ننساه تمامًا ولا نعود نذكره أو نتأمل فيه حتى لا نيأس ونتحطم، إنما بالحرى ننشغل بالحياة الجديدة التي تنبت فينا. إنه يجعل في البرية طريقًا وفي القفر أنهارًا. ما هذا الطريق إلاَّ السيد المسيح نفسه القائل: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6)، قام في وسطنا نحن البرية الجدباء، يحلّ في قلوبنا لكي يدخل بنا إلى ملكوته؟! وما هذه الأنهار إلاَّ ينابيع الروح القدس المتفجرة داخلنا نحن القفر الذي بلا ساكن، فيتحول قلبنا الخرب إلى مسكن الله القدوس؟! وكأن سر تجديدنا هو سُكنى السيد المسيح فينا وحلول روحه القدوس في أعماقنا الداخلية[459].

يؤكد الله انفتاح باب الإيمان أمام الأمم لاقتناء شعب جديد، يعرف الفرح الداخلي والتسبيح، قائلاً: "يُمجدني حيوان الصحراء الذئاب وبنات النعام لأنيّ جعلت في البرية ماءً أنهارًا في القفر لأسقي شعبي مختاريَّ، هذا الشعب جبلته لنفسي، يحدث بتسبيحي" [20-21]. يُشّبِه الأمم بالحيوانات المفترسة التي تعيش في البرية، ذلك بسبب ما اتسموا به من عنف شديد، ولأنهم عاشوا كما في البرية ليس بينهم مواعيد ولا عهود ولا شريعة إلهية الخ... في حالة قفر شديد. شُبهوا أيضًا ببنات النعام رمز الغباوة وعدم الفهم بسبب عبادتهم للأصنام وممارستهم الرجاسات كعمل ديني تقوي. هؤلاء الذين عُرفوا بالقسوة والغباوة، الذين عاشوا في برية قاحلة، صاروا يتمتعون بماء أنهار الروح القدس ليشربوا ويرتوا، ويقبلوا العضوية في شعب الله المختار. بهذا تتغير طبيعتهم خلال عمل الثالوث القدوس فيهم وينفتح قلبهم للفرح ولسانهم للتسبيح.

ما أجمل العبارة الإلهية: "هذا الشعب جَبَلْته لنفس!" [21] صرنا له، نصيب الرب، كما هو لنا نصيبنا!

5. الخلاص عطية مجانية: 

الله يقدم أعماله الخلاصية مجانًا للبشرية، لكن هناك بعض العوائق التي عطلت مقاصد الله مع الشعب القديم الذي رفض الإيمان بالمخلص، هذه العوائق هي:

أ. عدم الصلاة: "وأنت لم تدعُني يا يعقوب حتى تتعب من أجلي يا إسرائيل" [22]. فإن الصلاة هي سر تمتعنا بعمل الله وكما يقول الأب مرتيروس: [تفعل الصلاة ما

تحب كما يستطيع الله! إنها تُصدر الأوامر على الأرض ليكن لها فاعليتها في السماء[460]].

ب. تجاهل الله حتى في الأمور الصغيرة: "لم تحضر ليّ شاة محرقتك وبذبائحك لم تكرمني. لم استخدمك بتقدمة ولا اتعبتك بلُبان. لم تشترِ لي بفضة قصبًا وبشحم ذبائحك لم تروني" [23-24].

حينما أخرج الله شعبه من مصر لم يكن في عوز إلى تقدماتهم وذبائحهم الحيوانية، إنما كان يطلب قلوبهم، يشتاق أن يقربهم إليه بكونهم شعبه الخاص، أما الذبائح فكانت رموزًا لذبيحة المسيح، وعلامة حب له... كان ينتظر أن يُقدموا قلوبهم مع محرقاتهم وذبائحهم وبخورهم الخ...

v   عندما يُشير إلى أنه لم يقدهم من مصر لكي يُقدموا له ذبيحة إنما لكي ينسوا عبادة الأوثان التي للمصريين حتى يسمعوا صوت الرب الذي كان بالنسبة لهم خلاصًا ومجدًا (إر 7: 21).

القديس إيريناؤس[461]

ج. الانشغال بالملذات الجسدية والشهوات العالمية: "لكن استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك" [24]. عوض تكريم الرب بتقديم القلب ذبيحة محرقة مع ممارسة العبادة أنحرف الشعب إلى الأنانية والارتباك بالأمور الزمنية، فاستغل محبة الله ورعايته وعطاياه لحساب "الأنا".

كثيرًا ما نُسئ استخدام عطايا الله مثل العواطف والدوافع والمواهب، نستخدمها لا لحساب ملكوت الله وبنيان الجماعة وإنما لممارسة الشر.

مع ما بلغناه من الشر يبقى الله منتظرًا توبتنا واعترافنا بخطايانا لكي يغفرها لنا من أجل اسمه القدوس ومحبته الفائقة، مؤكدًا لنا: "أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها؛ ذكّرِني فنتحاكم معًا، حّدِث لكي تتبرر" [25-26].

v   أول طريق التوبة هو إدانتنا الخطايا[462].

v   يطلب منا هذا (الاعتراف بخطايانا) لكي نُكّثِف حبنا نحوه[463].

v   من يمارس التوبة بعدما يخطئ يستحق لا الحزن عليه بل تهنئته إذ يَعْبر إلى خورس الأبرار[464].

v   لا تترك شيئًا يربكك بل ارتفع إلى أعلى السموات عينها. تنهد بمرارة وقدم ذبيحة اعتراف، فقد قيل "اعلن أولاً معاصيك فتتبرر" [26] (الترجمة السبعينية)، قدم ذبيحة القلب المنسحق. فإن هذه الذبائح لا تتحول إلى رماد ولا تصير دخانًا ولا تتبدد في الهواء. إنها لا تحتاج إلى خشب ونار وإنما إلى قلب نادم من الداخل. هذا هو الخشب والنار التي تحرق دون أن تهلك، فإن من يُصلي بحرارة يحترق ولا يُستهلك، إنما يصير كالذهب الممتحن بالنار ليزداد بهاءًا[465].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا يليق بنا أن نذكر خطايانا ونعترف بها فتُغفر... عندئذ يجب علينا أن نذكر عمل الله معنا ونمجده عوض التفكير في الخطايا...

v   كيف ننسى الشر القادم علينا؟ بتذكار الصالحات، وبتذكر الله. فإننا إن كنا نذكر الله على الدوام لا نقدر أن نذكر هذه الأمور أيضًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم[466]

يجب ألا نخجل من الاعتراف بالخطايا، فإن آباءنا الأولين سبقوا أن أخطأوا، في مقدمتهم آدم الأول: "أبوك الأول أخطأ ووسطاؤك عصوا عليّ" [27]. يرى غالبية آباء الكنيسة فأيضًا الحاخامات أنه يعني البشرية كلها متمثلة في آدم أبينا الأول، ويفسره البعض على ضوء ما جاء في (حز 16: 3) "أبوك عمورى". ورأى البعض أنه الأب الرئيس أوريا بكونه رئيس الكهنة الذي قاد الشعب إلى عبادة الأوثان في أيام آحاز (2 مل 16: 10-16)، ورأى البعض أنه يعني الملوك ورؤساء الكهنة، أي القيادات المدنية والدينية مجتمعة معًا تقود الشعب إلى العصيان.

أما ثمرة الخطايا والعصيان فهي "اللعنة" وفقدان الكرامة، إذ قيل: "دفعتُ يعقوب  إلى اللعن وإسرائيل إلى الشتائم" [28].

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع والأربعون

إنسكاب الروح والحياة الجديدة

يُعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق، فيه يعلن الله عن تحقيق خلاصنا بسكب روحه القدوس على كنيسته لأجل تجديدها المستمر، يُقيم فيها شهودًا له بعمله الداخلي فيهم، يشبعهم ويُقدسهم، غافرًا خطاياهم، وذلك على خلاف الفراغ الداخلي الذي عانى منه الناس خلال العبادة الوثنية.

كأن الخلاص الذي يقدمه الله لشعبه يحمل اتجاهين: تأكيد أن الله فيه كفايتنا، البعد عنه سخافة وخداع للقلب.

1. انسكاب الروح           [1-5].

2. أنتم شهودي             [6-8].

3. الوثنية والفراغ          [9-20].

4. ليّ أنت                  [21-26].

5. نبوة عن كورش         [27-28].

1. انسكاب الروح:

يحقق الله دعوته واختياره لإسرائيل الجديد بانسكاب روحه القدوس على المؤمنين ليُقيم كنيسة العهد الجديد، إذ يقول: "والآن اسمع يا يعقوب عبدي وإسرائيل الذي اخترته، هكذا يقول الرب صانعك وجابلك من الرحم معينك. لا تخف يا عبدي يعقوب ويا يشورون الذي اخترته، لأني اسكب ماء على العطشان وسيولاً على اليابسة. أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك، فَينُبتُون بين العشب مثل الصَّفصاف على مجاري المياه. هذا يقول: أنا للرب وهذا يُكَنّـِي باسم يعقوب، وهذا يكتب بيده للرب وباسم إسرائيل يُلقِـّب" [1-5].

يلاحظ في هذه العطية العظمى الآتي:

أ. يشتاق الله أن يُعطي ليس فقط بركاته وعطاياه الخارجية إنما أن يهب ذاته للإنسان: "أسكب روحي على نسلك"، يهب واهب العطايا، ومانح البركة كهبة وعطية...

v   الذي يغتسل للخلاص يتقبل الماء والروح القدس.

العلامة أوريجانوس[467]

v   (المعتمد) ينال الروح القدس فيه ويحمل فعلاً لقب هيكل الله.

القديس كيرلس الكبير[468]

v   أيها الوحيد الذي أعطانا روحه بالمعمودية، أعطني كلمة لأرتل لك بها بمحبة.

v   نزل الابن الوحيد وأقامك من المزبلة وأعطاك روحه بالمعمودية وجعلك أخاه.

v   تجنسنا بلاهوته في داخل المياه، وصرنا أبناء بالحقيقة، ومنذ ذلك الحين صار لنا أن ندعوه أبانا، ذاك الخفي الذي أعطانا روحه بالمعمودية.

مار يعقوب السروجي[469]

يعتبر الله هذه العطية هي العظمى، فأنه هو الذي في حبه جبلنا، ومن الرحم أعاننا، وها هو يُطالبنا ألا نخاف لأنه اختارنا، ولتحقيق هذا الاختيار قدم لنا هذه العطية.

ب. يدعو كنيسته "يشورون"، وقد ظهر هذا الاسم أربع مرات في العهد القديم (تث 32: 15؛ 33: 5-6)، معناه "مستقيم"، مشتقة من ياشر. وكأنه يدعو كنيسته التي ضمت الخطاة "مستقيمين" وذلك بفعل روحه القدوس. كأنه يُشجع شعبه على التجاوب مع عطية روحه القدوس فيتركوا انحرافهم وعصيانهم ويترنموا ببهاء الرب وجماله الروحي.

ففي سفر نشيد الأنشاد بينما تعترف الكنيسة أن التجارب قد لوحتها (نش 1: 6)، إلاَّ أن الله العريس المخلص لم يلمح قط عن عيب فيها، وإنما على العكس يبرز كل جمال فيها: "ها أنتِ جميلة يا حبيبتي ها أنتِ جميلة، عيناكِ حمامتان" (نش 1: 15)، "كُلّك جميل يا حبيبتي ليس فيكِ عيبة" (نش 4: 7)

يرى السيد المسيح في كنيسته جمالاً فائقًا سره العينان الحمامتان، فقد حلَّ عليها الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة يهبها استنارة روحية. يقول العلامة أوريجانوس: [تقارن عيناها بالحمامتين بالتأكيد لأنها قد صارت الآن تفهم الكتب المقدسة حسب الروح وليس حسب الحرف. صارت تدرك الأسرار الروحية في الكتب المقدسة، لأن الحمامة رمز للروح القدس. متى فهمنا الناموس والأنبياء بطريقة روحية يصير لنا العينان الحمامتان. لهذا ففي سفر المزامير اشتاقت نفسها أن يكون لها جناحي حمامة (مز 67: 14)، لعلها تقدر أن تطير إلى فهم الأسرار الروحية وتستقر في ساحات الحكمة[470]]. أما القديس غريغوريوس النيصي فيرى أن سرّ جمال الكنيسة هو عيناها الحمامتان إذ هما نقيتان تظهر فيهما صورة الروح القدس الذي تشخص إليه العروس على الدوام فتنطبع صورته على حدقة العين.

يرى القديس جيروم أن سرّ جمال الكنيسة هو اتحادها بابن الله الوحيد، فتحمل مجده في داخلها، إذ يقول: [أي شيء أجمل من النفس التي تُدعى ابنة الله (مز 45: 10)، التي لا تطلب الزينة الخارجية (1 بط 3: 3)؟! إنها تؤمن بالمسيح، وإذ يوهب لها روحه تأخذ طريقها نحو المسيح الذي هو عريسها وربها في نفس الوقت، برجاء عظيم[471]].

ج. يُقدم لنا عطية روحه القدوس الذي يعمل فينا حسب احتياجنا، فمن كان ظمآنا يسكب له ماء ليرويه، أما من كان كأرض يابسة فيفيض عليه سيولاً لتحول اليبوسة والقفر إلى بستان. أنه سخي في العطاء، يهبنا حسب احتياجنا، وقدر تجاوبنا معه. يقول: "أفغِر فاك فأملأه" (مز 81: 10).

v   أية شعلة يلهبها الروح في داخلنا يمكننا إن أردنا أن نوهجها أكثر فأكثر، وإن لم نرد نفقدها للحال (بتراخينا وعدم تجاوبنا معه).

القديس يوحنا الذهبي الفم[472]

v   الذين ينالونه (الروح القدس) يتمتعون به على قدر استيعابهم، لا على قدر ما يستطيع هو.

القديس باسيليوس الكبير[473]

v   إنك تتسلم عُدة حربية ضد قوة العدو (الشيطان)... هوذا السلاح مُعدّ: سيف الروح (أف 6: 17). إنه مهيأ، لذا يليق بك أن تبسط يمينك بطريقة صالحة لكي تُحارب حرب الرب وتغلب القوات المقاومة وتصير (حصنًا) منيعًا يصد كل محاولة للهراطقة...

v   لا تحتقر النعمة من أجل مجانيتها بل اقبلها واكتنزها بورع.

القديس كيرلس الأورشليمي[474]

د. ماذا يعني: "ينْبُتُون بين العشب مثل الصَّفصاف على مجاري المياه"؟ ربما عنى أن المتمتع بعطية الروح القدس ينبت كشجرة ضخمة بين عشب زائل.

هـ. من يتمتع بالروح يكتب على يده: "للرب"؛ إذ كانت العادة القديمة أن يكتب الإنسان اسم الإله أو سيده على يده كوشم، وقد منع الله شعبه من ذلك حتى لا يكتبوا اسم الوثن على أيديهم عند انحرافهم فيصعب بل وكان مستحيلاً إزالته.

"وباسم إسرائيل يُلقّب"، إذ حملت كنيسة العهد الجديد المتمتعة بعطية الروح لقب "إسرائيل الجديد"؛ ورثت عن إسرائيل القديم الكتب المقدسة بما ضمته من شريعة إلهية ووصايا ونبوات وعهود ومواعيد... لقد فهمت ذلك كله بالروح لا الحرف وأدركت أسرارًا إلهية وتمتعت بأمور فائقة.

2. أنتم شهودي:

المتحدث هنا هو السيد المسيح، الصخرة التي أفاضت ماء على الشعب (1 كو10: 4)، لذا يقول "أسكب ماء على العطشان" [3]؛ وها هو يدعو نفسه "ملك إسرائيل وفاديه" [6]، وقد اعترف أمام بيلاطس أنه ملك.

يدعو نفسه هنا "رب الجنود"، "أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري" [6]. وفي سفر الرؤيا يقول السيد المسيح: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (رؤ 1: 8)، "أنا هو الأول والآخر" (رؤ 1: 17؛ 22: 13). واضح أن الفادي رب الجنود الإله الوحيد الذي ليس إله غيره، هو المسيح المخلص... هذه هي شهادة المتمتعين بخلاصه: "فأنتم شهودي، هل يوجد إله غيري؟!" [8].

ما نتمتع به في العهد الجديد هو امتداد لعمل الله المستمر؛ الله الذي عمل مع الشعب القديم [7] سبق فأعلن لهم بالمستقبلات، أي ما قد خططه لأجل العهد الجديد [7].

ربما قدم نفسه هنا "الأول والآخر" ليعلن أنه هو بنفسه الذي عمل في القديم لا يزال بنفسه الذي يعمل في العهد الجديد.

الله المخلص هو الأول والآخر، يتقدم كل الصفوف لكي يقود رعيته ويتأخر وراءها حتى يسند كل خروف بطيء أو ضعيف... يحتضن الجميع ويترفق بالكل. هو أيضًا الأول بكونه رأسي الكنيسة والآخر إذ صار خادم الجميع. نجده الأول والآخر في حياتنا، يُشبع كل احتياجاتنا ولا يعوزنا شيء!

3. الوثنية والفراغ:

بعدما تحدث عن عطية الروح العظمى التي قدمتنا شهودًا للحق، نعلن عن تمتعنا بالله مخلصنا كرب الجنود، قائد المعركة الروحية، ومشبع الكل بكونه الأول والآخر، سند رجال العهد القديم وأيضًا مؤمني العهد الجديد... الآن يُقارن بين شهادة المؤمنين وشهادة عبدة الأوثان:

أ. الشهادة للمخلص تهب شبعًا وارتواء وإثمارًا: "لأني أسكب ماء على العطشان وسيولاً على اليابسة... فينبتون بين العشب مثل الصفصاف" [3، 4]، أما الشهادة للأوثان فتقدم بطلانًا وفراغًا وجوعًا مع عمى وجهل: "الذين يُصّوِرون صنمًا كلهم باطل، ومشتهياتهم لا تنفع، وشهودُهُم هي؛ لا تبصر ولا تعرف حتى تَخزى" [9].

مسيحنا مشبع للأعماق، فيه كل الكفاية؛ الذين اختبروه شعروا بالشبع ولم يعوزهم شيئًا قط؛ أما خارجه ففقدان لكل شبع داخلي وحرمان للتمتع بالشركة مع الله مصدر الحياة والشبع.

ب. الشهادة للمخلص تهب سلامًا: "لا تخف" [2]؛ "لا ترتعبوا ولا ترتاعوا" [8]، أما خارجه فخوف ورعدة "يجتمعون كُلَّهْم يقفون يرتعبون ويخزون معًا" [11]. لقد اجتمعت كل الطاقات معًا ضده من رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين وصدوقيين وولاة رومان الخ... لكنهم حملوا رعبًا وخوفًا حتى في لحظات الصلب والسخرية بالمصلوب! أرعبهم شرهم الداخلي وفراغ قلبهم من النعمة الإلهية، وثارت الطبيعة عليهم فانكسفت الشمس وانخسف القمر وحدثت زلازل وتشققت الصخور وقام كثير من الأموات!

ج. يتمتع شهود الرب بالكرامة فيُحسبون "إسرائيل الجديد" ويَنقشون اسم المخلص على أيديهم الداخلية، وكأنهم لا يعملون إلاَّ باسمه [5]؛ أما شهود الخارجين عنه فيحملون عارًا وخزيًا [11].

يُقدم لنا تصويرًا رائعًا عن فساد العبادة الوثنية، مظهرًا أن الأوثان وصانعيها والمتعبدين لها جميعهم يحملون خزيًا وبطلانًا. فصناع الأوثان جادُّون لا يهتمون بالجوع ولا العطش ولا التعب [12] من أجل صنع الفأس من الحديد وطرق صفائح لإقامة التماثيل. وهكذا أيضًا بالنسبة للنجارين الذين يبذلون كل الجهد لحفر تماثيل خشبية... الجميع يتعبون ولا يكلون لإقامة تماثيل معدنية أو خشبية عاجزة عن تقديم الخلاص، بينما يتهاون أولاد الله في جهادهم الروحي بالرغم من تمتعهم بإمكانيات إلهية قادرة على تمتعهم بالخلاص الأبدي. وكأن هؤلاء العاملين باطلاً يدينون أولاد الله المتهاونين، وكما قال رب المجد يسوع أن أبناء هذا الجيل أحكم من بني الملكوت (لو 16: 8).

من جانب آخر فإن صنع التماثيل المعدنية يستنفذ طاقة الصناع، بينما صنع التماثيل الخشبية يرافقه لهو بما تبقى من الأخشاب، إذ تستخدم في الموقد للدفء أو لطهي الطعام في الوقت الذي فيه يهدئون ضميرهم بالعبادة للخشب المنحوت تمثالاً.

أخيرًا ماذا تُقدم عبادة الأوثان (= اعتزال الله):

أ. عمى البصيرة الداخلية وظلمة داخلية [18]، بينما المسيح هو شمس البر (ملا 4: 2).

ب. جهلاً وعدم معرفة [9]، بينما المسيح هو بِرُّنا.

ج. جوعًا فيأكل الإنسان رمادًا [20]، بينما السيد المسيح هو الخبز السماوي.

د. كذبًا وخداعًا وتضليلاً [20]، بينما السيد المسيح هو الطريق والحق.

بمعنى آخر نجد في مسيحنا الاستنارة الداخلية والمعرفة والشبع والحق وكل احتياجاتنا، أما خارجه فلا يوجد إلاَّ الفراغ الداخلي والشعور بالعزلة وفقدان البصرية الداخلية.

4. أنت ليّ:

أبرزَ بطلان العبادة الوثنية أو اعتزال الله، لا للنقد العقلاني المجرد، وإنما لإثارة النفس وحثِّها على قبول عمل الله الخلاصي، الذي يتركز في الآتي:

أ. إقامة شعب الله: "اذكر هذه يا يعقوب، يا إسرائيل فانك أنت عبدي" [21]... صرنا إسرائيل الجديد المتعبد لله.

ب. انتسابنا له: "ليّ أنت" [21]، لسنا فقط خليقته وشعبه، إنما يعتز الله بنا كأولاد له، منسوبين إليه.

ج. غير منسييّن منه [21].

د. ننعم بغفران الخطايا مهما بلغت كثافتها: "قد محوتُ كغيم ذنوبكَ وكسحابةٍ خطاياكَ، ارجع إليّ لأني فديُتكَ" [22].

هـ. يهب النفس (السموات) تسبيحًا، والجسد (الأرض) هتاف فرح، وطاقاتنا (الجبال) ترنمًا، ويصير كل ما في داخلنا كأشجار تمجد الله [23].

5. نبوة عن كورش:

قبل حوالي 220 سنة أعلن الله عما يتم على يدي كورش الوثني لأجل بنيان أورشليم وتأسيس الهيكل حسب مسرة الله: "القائل عن كورشَ راعيَّ، فكل مسرَّتي يُتمم، ويقول عن أورشليم ستُبنى وللهيكل ستُؤَسْس" [28]. هنا لأول مرة يذكر اسم "كورش" صراحة، معناه بالفارسي "شمس"؛ وبالأرامية "راع"؛ يرى البعض أن "راعيّ" لقب لبعض ملوك الشرق الأوسط قديمًا[475].

يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن كورش قرأ في إشعياء اسمه قبل 220 سنة وأراد أن يُحقق ما ورد عنه (راجع عزرا 1: 2؛ 2 أى 36: 23).

ماذا يعني بقوله: "القائل لِلُّجْةِ انشفي وأنهارِك أُجفف" [27]؟

أ. يصور أورشليم بلجة ماء ونهر لا يمكن أن يُقام فيه الهيكل بعد، وذلك حسب الفكر البشري، لأن اليهود فقدوا رجاءهم تمامًا أثناء السبي البابلي، لكن الله الكُلِّي القُدرة والرعاية يُجفف اللجج والأنهار محققًا وعوده لنا.

ب. ربما يُشير هنا إلى عبور بحر سوف ونهر الأردن ليؤكد أنه قادر أن يعبر بهم من السبي ويردهم إلى أرض الموعد.

ج. ربما أشار إلى كورش الذي عبر الفرات واقتحم مملكة بابل.

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الخامس والأربعون

كورش والخلاص

تعتبر الأصحاحات السابقة (40-44) دعوة موجهة إلى الكنيسة لكي تتعزى بالله مخلصها، فيه وحده تجد شعبها بكونها له وهو لها. الآن يعلن الله خلال الأصحاحات (45-47) عن سرّ تعزيتها ألا وهو تحطيم الشر المقاوم لها. فقد سبق فدعى كورش راعيه (إش 44: 28) معلنًا عن اسمه قبل حوالي قرنين من هجومه على بابل بكونه آلة في يد الله لتحطيم من أذل شعبه واستخدامه لإرجاعهم إلى وطنهم.

1. حديث إلهي لكورش               [1-8].

2. تذمر على اختيار كورش          [9-13].

3.  الله المخلص المُحتجب           [14-19].

4. دعوة للخلاص في المسيح        [20-25].

1. حديث إلهي لكورش:

يظهر من الكتابات البابلية أن كورش هذا كان ابنًا لقمبيز وحفيدًا لكورش آخر، وجميعهم مع أجدادهم ملكوا في شرق عيلام حيث كانت شوشان عاصمة ملكهم منذ سنة  550 ق.م. تقريبًا[476].

يعتبر كورش مؤسس المملكة الفارسية، قيل إنه بدأ حياته كقائد فرقة خاملة في فارس، نجح في أن يصير قائدًا لفرقتين من جنود الجبال، وكان طموحًا للغاية فبدأ غزواته للممالك الصغيرة المجاورة، غير أن بابل سخرت به واستهترت بإمكانياته حتى دخل بابل سنة 539 ق.م. في أيام بيلشاصَّر ملكها، وكان قد جمع في شخصه قوة مملكتي فارس ومادي؛ بهذا تحققت نبوة دانيال (دا 5: 28)، وكان دانيال في بلاط كورش أيضًا (دا 6: 28).

مدح هيرودت وزينوفون (الشاب اليوناني) شخص كورش، تحدث عنه الأخير بعد موته بحوالي 100عام كمثل أعلى في القوة مع البساطة والطهارة وضبط النفس.

الآن يوجه الله حديثًا لكورش قبل مجيئه بحوالي قرنين، فيه يعلن عن نظرته إليه، وعمله الإلهي في حياته، وغاية الله منه. ويلاحظ في هذا الحديث الآتي:

أ. تظهر كلمة "أنا" للرب 16 مرة في حديث الله مع كورش [1-7] و 31 مرة في الأصحاح كله. وكأن الله يُريد تأكيد أن قيام كورش بسماح إلهي وأن غلبته هو وجيشه وتحطيم بابل كإناء خزفي لا يمكن إصلاحه هو من قبل الله نفسه.

ب. يدعو الرب كورش "مسيحه" [1]، مع أنه لا يعرف الرب [4-5]، ربما لأنه كان يتعبد لله الواحد المجهول مع احترامه للديانات ككل، أو لأنه حقق خطة الله نحو خلاص شعبه من السبي البابلي، ولأنه كان رمزًا للسيد المسيح مخلص العالم.

ج. من جهة عمل الله معه يقول "الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوكٍ أحُلُّ" [1]. يقوم الله بدور الأب الذي يمسك بكورش كطفل له لكي يسير، وكأن الله هو الموجه له وسرّ قوته يسنده ليُحطم الشر. يعطيه النصرة في الحرب ضد الأمم فيدوسهم، إذ كانت العادة أن يدوس المنتصر على أعناق العظماء المأسورين، وأن يحل أحقاء ملوك أي يفقدهم قوتهم وعظمتهم، فقد اعتاد الملوك أن يلبسوا أحقاء ثمينة للغاية علامة عظمتهم وجبروتهم. وقد تحقق ذلك حرفيًّا عندما رأى بيلشاصَّر الملك أصابع يد إنسان تكتب على حائط القصر، "تغيرت هيئة الملك وافزعته أفكاره وانحلت خَرّز حقويه واصطكَّت ركبتاه" (دا 5: 6).

على أي الأحوال كان كورش رمزًا للسيد المسيح في هذا الأمر الذي قيل عنه "الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكًا" (مز 110: 5). قيل عن كورش أن الرب أمسك بيمينه، وهنا يُقال عن الابن الكلمة "الرب عن يمينك"، والعجيب أنه قيل في نفس المزمور على لسان الآب "اجلس عن يميني" (مز 110: 1). كأن الابن عن يمين الآب (مز 110: 1) والآب عن يمين الابن (مز 110: 5)... لأنه لا يعني باليمين وضعًا مكانيًا أو اتجاهًا معينًا إنما هو رمز للقوة الإلهية، وعلامة الاتحاد وعدم الانفصال، إذ هما واحد في اللاهوت وواحد في القوة.

وكما حطم كوش ملوكًا هكذا حطم السيد المسيح الملوك الجاحدين والمقاومين للحق، فقد قيل: "يحطم في يوم رجزه ملوكًا" (مز 110: 5). يعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلاً: [جُرح هؤلاء الملوك بمجده، وصيرهم ضعفاء بثقل اسمه، فلم يعد لهم قوة لتحقيق ما أرادوه... هم أرادوا أن يمحوا الاسم المسيحي من وجه الأرض فلم يستطيعوا، لأن من يسقط على هذا الحجر يترضض. لقد سقط الملوك على حجر الصدمة هذا فجرحوا عندما قالوا: من هو المسيح؟![477]].

لعله قصد بالملوك خاصة السيد المسيح التي لم تقبله (يو 1: 11)، إذ كان يليق بهم أن يتحدوا به كملك الملوك فيصيروا ملوكًا كارزين وشاهدين له. الأمر الذي أدهش الأنبياء عندما تنبأوا عن ذلك، إذ يقول إشعياء في ذات الأصحاح: "حقا أنت إله مُحتجب يا إله إسرائيل المخلص" [15]؛ واندهش أيضًا لذلك الرسول بولس (رو 10: 20؛ 11: 7؛ 9: 30)[478].

د. "لأفتح أمامه المصراعين، الأبواب لا تغلق" [1]. هكذا يتقدم الله أمام كورش مسيحه ليفتح أمامه الأبواب المغلقة وتنهار قدامه الحصون التي من عمل البشر، حتى الطبيعة أيضًا تتحرك لمساندته: "أنا أسير قدامك والهضاب أمهِّد، أُكسِّر مِصْراعَي النحاس ومغاليق الحديد أُقصِف" [2].

حينما نرتبط بمسيحنا الغالب نسير في الطريق الملوكي ونرتفع نحو السماويات كما بغير عائق، لأن الرب يتقدمنا، فتُفتح أمامه أبواب الأبدية لحسابنا. لقد اقتحم كورش أسوار بابل بأبوابها النحاسية الضخمة التي بلغت مئة بابًا كقول هيرودت.

هـ. الله يهب كورش كنوز بابل الخفية، إذ كانت عادة الملوك أن يخفوا كنوزهم في أماكن لا يعلمها أحد حتى لا يستطيع العدو أن يغتصبها.

"وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ لكي تعرف إني أنا الرب الذي يدعوك باسمك إله إسرائيل" [3]. مادام الله هو "مصوّر النور" [7]، لهذا فهو يكشف لابنائه الأمور المخفية ويهبهم كنوز نعمته غير المدركة.

و. يكشف الله لكورش غايته منه: "لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك، لقبتك وأنت لست تعرفني" [5]. ما يقدمه له إنما لحساب مؤمنيه، ولأجل شعبه... هكذا يليق بنا - كمسحاء للرب - التصقنا بربنا يسوع المسيح الفريد. أن نتعرف على رسالتنا ألا وهي بنيان الجماعة ونموها في الرب.

ز. إذ عُرفت الديانات الفارسية بالغنوصية التي ركزت على "ثنائية الله"، بمعنى وجود إله للخير وإله للشر، لهذا أراد الله أن ينتزع هذا الفكر من كورش، قائلاً له: "أنا الرب وليس آخر؛ مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر؛ أنا الرب صانعُ كل هذه" [7].

جاءت كلمة "الشر ra " لا بمعنى الخطية وإنما ثمر الخطية أو عقوبتها من حزن وضيق. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يوجد شر هو بالحقيقة شر: الزنا، الدعارة، الطمع، وأشياء أخرى مخفية بلا عدد تستحق التوبيخ الشديد والعقوبة. كما يوجد أيضًا شر هو في الحقيقة ليس شرًا، إنما يدعى كذلك مثل المجاعة، الكارثة، الموت، المرض وما أشبه ذلك؛ فإن هذه ليست شرورًا وإنما تدعى هكذا. لماذا؟ لأنها لو كانت شرورًا لما كانت تصبح مصدرًا لخيرنا، إذ تؤدب كبرياءنا وتكاسلنا، وتقودنا إلى الغيرة، وتجعلنا أكثر يقظة[479]]. بنفس المعنى يقول الأب ثيؤدور في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [اعتاد الكتاب المقدس أن يستخدم تعبيريْ "شرور"، "أحزان" في معان غير مناسبة، فإنها ليست شريرة في طبيعتها وإنما دُعيت كذلك لأنه يظن أنها شرور بالنسبة لمن لم تسبب لهم خيرًا[480]].

2. تذمر على اختيار كورش:

يبدو أن تذمرًا قد حدث بين اليهود كما أيضًا بين الأمم؛ تذمر اليهود على الله لأنه يحقق الخلاص برجل وثني، فإن اختياره يحطم كبرياءهم وتعصبهم لبني جنسهم. هذا من جانب اليهود أما الأمم فقد تمرمرت نفس بعضهم أن يقوم أحدهم بهذا الدور فيحقق خلاصًا لليهود من السبي ويساعد على إقامة الشعائر بأورشليم.

أمام هذا الوضع رفع إشعياء قلبه نحو الله ليقدم صلاة ليتورجية فيها يعلن أن ما يحدث خلال كورش هو رمز لما يتحقق بواسطة السيد المسيح. وكأنه يطلب من اليهود كما من الأمم أن يتحوَّلوا عن تذمرهم إلى خبرة الخلاص المجاني المقدم للكل. هذا ما دفع إشعياء إلى التحول في الحديث من كورش إلى المسيح برُّنا وخلاصنا، إذ يقول: "أُقطُري أيتها السموات من فوق، وليُنزِل الجوُّ بِرًّا. لتنفتح الأرض فيُثمر الخلاصُ، ولتُنبت بِـّرًا معًا، أنا الربَّ قد خلقتُهُ" [8]. وكأنه يردد ما جاء في سفر المزامير: "لأن خلاصه قريب من خائفيه، ليسكن المجد أرضنا. الرحمة والحق التقيا. البر والسلام تلاثما. الحق من الأرض ينبت والبر من السماء يطلع الخ..." (مز 85: 9-13)؛ "الأرض أعطت غلتها، يباركنا الله إلهنا" (مز 67: 6)؛ "تحمل الجبال سلامًا للشعب والآكام بالبر" (مز 72: 3)...

كأن النبي يردد أن الخلاص يتم لا بسبب كورش وإنما خلال خلاص السيد المسيح وبره... فيه يتحقق سلامنا خلال تلاقي الرحمة مع الحق، أو الرحمة مع العدل الإلهي، إذ على الصليب دفع الثمن كاملاً خلال بره اللانهائي.

يرى القديس أغسطينوس[481] أنه في المسيح تلاقى اليهود مع الأمم خلال تلاقي الحق مع الرحمة؛ فاليهود عرفوا الحق خلال الشريعة والنبوات، وقَبِل الأمم الرحمة بعد أن تركوا عبادتهم الوثنية، وتلاقى هؤلاء مع أولئك كشعب واحد بار ومقدس للرب.

في السيد المسيح تلاقت السموات مع الأرض، إذ هو ابن الله السماوي صار ابنًا للبشر، وُلد كبَشري على أرضنا... لهذا يقول النبي: "أُقطري أيتها السموات من فوق، وليْنزل الجو بّرًا" [8]، وكأنه يقول: "طأطأ السموات ونزل" (مز 18: 9)، نزل البار القدوس كما من سمواته ليحقق خلاصنا. أما قوله: "لتنفتحِ الأرضُ فيُثمرَ الخلاصُ ولتُنبت برًا معًا" [8] فيعني: "الحق من الأرض ينبت" (مز 85). وكما يقول القديس أغسطينوس: [وُلد المسيح من امرأة؛ ابن الله صار جسدًا. ما هو الحق؟ ابن الله! ما هي الأرض؟ الجسد... لكن الحق الذي نبت من الأرض كان قبل الأرض، به خُلقت السموات والأرض؛ لكن لكي يتطلع البر من السماء، أي لكي يتبرر البشر بالنعمة الإلهية، وُلد الحق من العذراء مريم، ليستطيع أن يُقدم ذبيحة تبررهم، ذبيحة الألم، ذبيحة الصليب[482]].

بعدما حول النبي أنظارنا من كورش إلى المسيح المخلص خلال ذبيحته الفريدة القادرة أن تبرر، عاتب اليهود والأمم على تذمرهم ضد الرب، مقدمًا ويْلَيْن:

أ. الويل الأول: دخول الخزف في مخاصمة مع الخزاف، والطين مع جابله، فإنه ليس من حق قطعة الخزف أن تُطالب صانعها بشكل معين كأن تقول له: "عملك ليس له يدان" [9]... أي صنعت الخزف بدون يدين.

ب. الويل الثاني: احتجاج الطفل على أبيه  وأمه "ماذا تلد؟" أو "ماذا تلدين؟"... كنت أود أن تلدانني ملاكًا لا إنسانًا يحمل ضعفًا بشريًا ويدخل تحت أثقال الحياة الأرضية ومتاعبها.

يليق بنا كخزف أو كبنين أن نشكر جابلنا وأبانا لا أن نتذمر عليه!

3. الله المخلص المُحتجب:

انشغل اليهود كما الأمم بقصة كورش في حرفيتها وفي أعماله الزمنية، مع أنه كان يليق بالكل أن يخترقوا الحرف ويلتقوا بالله المحتجب العامل وراء التاريخ لخلاص الجميع. ففي عتاب أبوي يقول الرب: "اسألوني عن الآتيات. من جهة بنيَّ ومن جهة عمل يديَّ أوصُوني" [11].

أود ألا تنشغلوا إلاَّ بالآتيات أي بالمستقبل الأبدي حيث يليق بكم أن تطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم. وأن تُصلّوا من أجل بنيه، أي ننشغل في صلواتنا بمؤمنيه وعمل يديه، إذ يليق بنا أن ندرك مركزنا ودالتنا العجيبة لديه. بمعنى آخر ملكوتنا الأبدي وشهادتنا للغير واشتياقنا إلى خلاص كل إنسان، هذه كلها أمور أهم من التذمر على قيام كورش بهذا الدور في خلاصهم من السبي البابلي.

مرة أخرى يؤكد لهم أنه يجب أن ينشغلوا به لا بكورش فهو "إله محتجب... المخلص" [15]؛ هو العامل في الخفاء.

سمات هذا الخلاص الإلهي هي:

أ. خلاص مجاني: "أنا قد أنهضته بالنَصر، وكل طرقه أُسهل، وهو يبني مدينتي، ويُطلق سبيي بلا ثمن ولا بهدّية يقول رب الجنود" [13]. فقد حقق كورش خطة الله نحو شعبه دون انتظار مكافأة من الشعب؛ لم يدفعوا ثمنًا لكورش من أجل تسهيل الطرق لهم وبناء المدينة وتحريرهم من السبي. كان ذلك رمزًا لخلاص السيد المسيح المجاني كقول الرسول بولس: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله" (رؤ 3: 24-25).

ب. خلاص جماعي: يحول المصريين والكوشيين والسبائيين إلى الإيمان، فيدخلوا إسرائيل الجديد بروح الاتضاع والعبادة [14]. لقد بسط ربنا يسوع المسيح يديه على الصليب ليضم بالواحدة الشعب القديم وبالآخر جماعة الأمم، لقد ضم العالم كله في أحضانه ليرفع البشرية إلى البنوة للآب بروحه القدوس.

ج. خلاص أبدي: "أما إسرائيل فيخلص بالرب خلاصًا أبديًا، لا تخزون ولا تخجلون إلى دهر دهور الأبد" [17].

د. خلاص علني: "لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مظلم" [19]. لقد صلب رب المجد علانية على جبل الجلجثة.

4. دعوة للخلاص في المسيح:

يتحدث السيد المسيح إلى الأمم ليدعوهم للتمتع به كمخلص قادر أن يبررهم. "واجتمعوا وهلموا تقدموا معًا أيها الناجون من الأمم... التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق، كلمة لا ترجع، أنه ليّ تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان، قال ليّ إنما بالرب البر والقوة، إليه يأتي ويخرج جميع المغتاظين عليه، بالرب يتبرر ويفتخر كل نسل إسرائيل" [20-24].

يلاحظ في هذه الدعوة:

أ. دعوة جماعية فيها يطلب من الأمم أن تجتمع معًا ككنيسة مقدسة واحدة، تتقدم بروح الجماعة لقبول عمله الخلاصي.

ب. الله هو المخلص وليس آخر، وكما يقول الرسول بولس: "لأنه لاقَ بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملاً بالآلام" (عب 2: 10). وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [يقصد بهذه الكلمات أنه لم يكن اختصاص أحد آخر أن يرد البشر عن الذي قد بدأ سوى كلمة الله، الذي هو أيضًا صنعهم من البدء... لأنه بذبيحة جسده وضع نهاية للحكم الذي كان ضدنا، لأنه كما بإنسان ساد الموت على البشر، كذلك أيضًا بكلمة الله - إذ صار إنسانًا- تهدم الموت وبدأت قيامة الحياة[483]].

ج. دعوة مملوءة رجاءً، تحقق هدفها بأن تجثو له كل ركبة.

د. دعوة قوامها الإيمان: "التفتوا إليّ"، كما سبق أن آمن الشعب القديم والتفت إلى الحية النحاسية فبرأوا.

هـ. التمتع ببر المخلص وقوته.

ز. المخلص هو سرّ مجد مؤمنيه وخزى مقاوميه.

<<

 

 


 

الأصحاح السادس والأربعون

الله حَامل أثقالنا

الله الذي سمح لشعبه بالسبي البابلي يرفعه خلال كورش، معلنًا رعايته لأولاده حاملاً أثقالهم وأتعابهم. لا يوجد أثقل من حياتنا بخطاياها وذاتيتها، لكنه هو يحملها عنا خلال عمله الخلاصي بالصليب.

في مقارنة تصويرية رائعة يكشف النبي عن الفارق بين الحياة في المسيح والحياة خارجها؛ في المسيح نصير محمولين به كما بأجنحة الروح، خارجه نكون كالوثنيين تحتاج آلهتهم من يحمل أثقالها ويحرسها!

1. الله حامل أثقالنا                   [1-7].

2. دعوة كورش من المشرق        [8-13].

1. الله حامل أثقالنا:

يقارن الله بين آلهة بابل وبينه، الأولى تحتاج إلى من يحملها، أما هو فحامل حياتنا بكل متاعبها، إذ يقول:

"قد جثا بيلُ انحنى نَبو، صارت تماثيلها على الحيوانات والبهائم؛ محمولاتكم محمّلة حملاً للمُعيى. قد انحنت جثت معًا لم تقدر أن تُنجّي الحمل وهي نفسها قد مضت في السبي" [1-2].

اهتز الإلهان الرئيسيان لبابل أمام كورش، سجدا له، فصار المعبودان عبدين، حُملا بكل تماثيلهما على الحيوانات بلا قوة، إذ الكل عاجز عن المشي بل وعن الحركة، سُلبت كل الجواهر التي تزين التماثيل بواسطة  وجاء كورش وأُخذ الكل إلى السبي... فهل يستطيع هذان المعبودان أن يُنجيا أحدًا ماداما عاجزين حتى عن خلاص نفسيهما؟!

"بيل": اسم أكادي يُقابل الاسم العبري "بعل" ويعني "السيد"؛ ربما هو بعينه الإله مردوخ (إر50: لا 2؛ 51: 44)؛ هو إله الشمس وإله الربيع. له شكل رجل عظيم على رأسه تاج وله سبعة قرون ثور، يُقدَّم له طعام وشراب بكميات كبيرة كل مساء، وكانوا يعتقدون أنه يأكلها ويشربها حتى كشف دانيال النبي للملك عن وجود باب سري في الهيكل خلاله يدخل الكهنة بعائلاتهم ليلاً ليأكلوا الطعام ويشربون خفية، كما ورد في قصة بيل في تتمة دانيال.

"نَبو": اسم بابلي معناه "مذيع"، إله العلم والمعرفة؛ كانت بورسيبا، قرب بابل، مركز عبادته؛ وكان ملوك بابل يتباركون به، ويحملون اسمه مع أسمائهم الأصلية مثل نبوخذ ناصر ونبوخذ راصر ونبوزرادان ونبو شربان.

انكشف هذا الإلهان وانفضح عجزهما عن الحركة أو عن حماية زينتهما أمام كورش، أما الله الحيّ فهو مخلص شعبه، يحمل أثقالنا ونحن بعد لم نتشكل في رحم أمهاتنا حتى نبلغ الشيخوخة، إذ يؤكد لنا "أنا هو... أنا أحمل" [4]. وكأنه يقول: لديَّ ربوات الملائكة والخليقة السماوية وكثير من الأنبياء والكهنة والخدام... لكنني أضع نفسي بين يديْ شعبي لأحمل بنفسي أتعابهم، وأرفع عنهم خطاياهم، واسندهم في كل مسئولياتهم... أنا أحملهم بنفسي كما على كتفيّ.

هذا ما يؤكده الله عبر الأجيال قائلاً: "هأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال واسترد المطرود وأجبر الكسير وأعصب الجريح وأبيد السمين والقوي وأرعاها بعدل... أخلص غنمي فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة " (حز 34: 11-22). هكذا يؤكد: "أنا هو... أنا أحمل".

لا يكف الله مخلصنا عن دعوتنا إليه لكي يحمل أثقالنا، قائلاً: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). لذا قيل عنه: "لكن أحزاننا حملها" (إش 53: 4)؛ "حمل خطية كثيرين" (إش 53: 12)؛ "يحملنا إله خلاصنا" (مز 68: 19).

جاء ربنا يسوع كمخلص ليس فقط ليحمل أثقالنا وخطايانا مكفرًا عنها، وإنما ليحملنا نحن فيه، يسبينا بحبه ليرفعنا معه إلى مجده. نزل إلينا ليحملنا فيه فنصعد فيه وبه إلى ملكوته.

نعود إلى حديثه في سفر إشعياء: "قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجي" [4].

قد فعلت، أي سمحت بالسبي البابلي لفضح ضعفاتكم.

وأنا أرفع، أنزع عنكم هذا العار وأدبر تحرركم من السبي.

وأنا أحمل، أقوم بحمل أتعابكم بنفسي... أنا الإله المحتجب.

وأنا أنجي، أدخل بكم إلى الحرية وأردكم إلى أرض الموعد، وأخلصكم.

هذا هو عمل الله المخلص: يفعل، ويرفع، ويحمل، ويخلص. إنه يسمح أن يكشف خطايانا لندرك إننا مأسورون لا في سبي بابل وإنما تحت سبي إبليس وأعماله الشريرة، وهو يرفع إذ ينزع هذا العار عنا بتدبيره الإلهي لخلاصنا؛ وهو يحمل إذ رفع الدين بنفسه عنا ولم يأتمن ملاكًا أو رئيس ملائكة أو نبيًا على خلاصنا؛ وأخيرًا يخلص حيث يحملنا إلى سمواته ويهبنا شركة أمجاده الإلهية.

يقول الرسول بولس: "قُدم مرة لكي يحمل خطايا الكثيرين" (عب 9: 28). لقد أحنى السيد المسيح ظهره ليحمل خطايا العالم كله، إذ مات عن الجميع، لكنه يُحسب مخلصًا للمؤمنين وحدهم، هؤلاء الذين قبلوا أن يرفع عنهم ثقل خطاياهم، فيُحملوا أبرارًا فيه ويدخل بهم إلى حضن أبيه.

v   لقد مات من أجل الكل، هذا من جانبه، فإن هذا الموت كان المقابل ضد هلاك كل البشرية، لكنه لم يحمل خطايا كل الناس لأنهم لم يريدوا[484].

 

v حمل موسى (الفصح) لم يحمل في الحال خطايا أحد ما، أما هذا الحمل فحمل خطايا العالم كله، فانه إذ كان العالم في خطر الهلاك أسرع فخلّصه من غضب الله[485].

v لقد سمعوا أنه يحمل خطايا العالم (يو 1: 36)، وللحال جروا إليه، قائلين: إن كان ممكنًا أن ينزع الاتهامات الموجهة ضدنا فلماذا نتأخر؟ هنا يوجد ذاك الذي يُخلص دون تعب من جانبنا[486].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بالصليب أعطى الخلاص للعالم.

ليس إنسان في التاريخ بلغ العظمة التي تؤهله أن يرفع خطية العالم كله، لا أخنوخ ولا إبراهيم ولا إسحق، وإن كان قد قدم نفسه للموت، لكنه حُفظ إذ لم يكن قادرًا على إزالة وسخ الخطية.

فمن هو هذا الرجل العظيم الذي بموته تموت الخطية؟! هذا لا يمكن أن يكون من البشر... لكن الله اختار الابن، ابن الله الذي فوق الكل، وهو الذي يمكن أن يُقدم عن خطايا الجميع!

لقد كان يلزم أن يموت، لأن بغلبته على الموت يقدر أن ينقذ الآخرين الذين هم كقتلى مضطجعين في القبور.

لقد كسر عبودية الشهوات، ولم تقدر قيود الموت أن تمسكه!

القديس أمبروسيوس[487]

v   حِل آلامي بالآمك؛ اشِف جراحاتي بجراحاتك؛ طهر دمي بدمك، وامزج في جسدي رائحة الحياة التي لجسدك المقدس!

الشيخ الروحاني[488]

حمل الرب خطايانا بكل ثقلها في جسده لكي يهبنا بره فينا، فصرنا نحن أنفسنا محمولين فيه بروحه القدوس كي يرفعنا إلى سمواته. إنه ذاك الذي سبق فحمل شعبه القديم من أرض العبودية بكل ثقلها ومرارتها ليدخل بهم إلى أرض الموعد، بل وليدخل بهم إليه. "وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ" (خر 19: 4)؛ "رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان" (تث 1: 31).

لقد أكد الله حبه الفائق لنا، يحملنا ونحن في الأحشاء ويبقى حاملاً إيانا حتى الشيخوخة [3-4]، يفوق حب الأم التي تقدر أن تحمل جنينها في الأحشاء أو الرضيع وإلى حدٍ ما حين يصير طفلاً صغيرًا في السنوات القليلة الأولى من حياته... تحمله جسديًا وتحمل بعض متاعبه لكنها تعجز عن إدراك كل أسراره الخفية لتشاركه متاعبه، أما الله فيحملنا حتى الشيخوخة، يحمل كل أتعابنا الظاهرة والخفية، وكما يقول المرتل: "أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني" (مز 27: 10).

ليس لله في حبه شبيه لا الوالدين ولا الآلهة الأخرى المحتاجة إلى من يصنعها ويرفعها على الكتف ويقيمها في موضع ويحرسها حتى لا تُسرق، يصرخ إليها عابدوها فلا تُجيبهم وقت الشدة [5-7].

2. دعوة كورش من المشرق:

هذه هي مسرة الله [10]، أنه صنع في القديم ولازال يعمل ويبقى عاملاً من أجل خلاص شعبه. حمل أثقالهم في أيام موسى عند خروجهم من مصر ويحملها أثناء ردهم من السبي البابلي ولا يزال يحملها خلال ذبيحة الصليب القائمة.

دُعي كورش - رمز السيد المسيح - بالطائر الكاسر [11] لأنه سريع الحركة، قوي ينقضّ على بابل ليخطفها كفريسة، يخطف آلهتها وكنوزها... إنه رمز للسيد المسيح الذي انقضَّ على عدو الخير وحطم مملكته ليرد للإنسان كرامته وحريته وغناه الروحي.

"من أرض بعيدة رجل مشورتي" [11]، رمز السيد المسيح القادم من السماء ليصير "ابن الإنسان" (رجل مشورتي) الذي يُحقق إرادة الآب فيه بمسرة.

يرى إشعياء النبي المخلص قادمًا من بعيد فيدعو الأمم البعيدين للقرب منه والتمتع ببره وخلاصه: "اسمعوا ليّ يا أشداء القلوب، البعيدين عن البر، قد قربت برّي، لا يبعد وخلاصي لا يتأخر" [12-13].

ربما يوجه حديثه هنا إلى البابليين قساة القلوب معلنًا لهم أن مقاومتهم لبرّ الله ولخلاصه لن تدوم، فقد اقترب وقت الخلاص.

ولعله يتحدث مع الأمم قساة القلوب حتى يقبلوا برّ الرب وخلاصه بلا مقاومة.

<<

 

 

 


 

الأصحاح السابع والأربعون

انهيـَار بَـابل

إذ وصف كورش كطائر كاسر ينقض على بابل (إش 46: 11)، كظل لعمل السيد المسيح الخلاصي ضد إبليس، الآن يكشف النبي عما سيحل ببابل المترفة المتنعمة، سيدة الممالك المتشامخة. أنه يتحدث عن عمل الخطية وثمارها في حياة الإنسان.

1. انهيار بابل     [1-5].

2. خطايا بابل     [6-15].

1. انهيار بابل:

"انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين لأنك لا تعودين تُدعين ناعمة ومترفهة" [1].

دُعيت بابل "العذراء"؛ هذا التشبيه في الكتاب المقدس بخصوص المدن (إش 1: 8؛ 37: 22؛ إر 31: 21؛ 46: 11، مرا 1: 15). هذه العذراء إما تُخطب لله كعروس مقدسة له مثل أورشليم أو تخطب لعدو الخير فتصير عروسه، متحدة به، تحمل مملكة الظلمة التي له.

إذ تمثل بابل النفس الساقطة خلال الكبرياء مع الترف والفرح الزمني وطلب الشهوات الأرضية فان ما حلَّ بها يكشف عما يُصيب الإنسان بسبب الخطية.

ماذا حلَّ ببابل؟ أو ما هي ثمار الخطية؟

أ. بكونها عاصمة أكبر دولة في ذلك الحين مالت إلى الاهتمام بمظاهر البهرجة مع ممارسة الفساد، لها صورة الفرح الخارجي، فحّل بها الحزن الشديد لتنزل إلى التراب [1] كأنها فقدت رجلها أو أحد أحبائها (يش 7: 6؛ أى 2: 12؛ 10: 9، مز 22: 15؛ مرا 3: 29).

عمل الخطية الأول هو فقدان الفرح الداخلي وسلام العقل الفائق، فتمتلئ النفس مرارة ويأسًا مع شعور بالعزلة والحرمان.

v   نعم يا إلهي... في غياب نورك ظهور للموت، أو بالحرى مجيء للعدم....

يا لشـقائي... أصابتني جراحات كثيرة، ومع أنك أنت المعزي واهب السـلام، غير أنني ابتعدت عنك.

يا لشقائي... لقد انتابتني حماقات جمة، ومع أنك أنت هـو الحق، غير أنني لـم

أطلب منك المشورة...

شروري سببت ليّ جراحات عميقة، إذ لم أسلك في الطريق الضيق؛ فمع كونك أنت الحياة، إلاَّ أنني لم أكن معك.

القديس أغسطينوس[489]

ب. عوض العرش "الكرسي" والسلطان تجلس بابل على الأرض في مذلة بكونها أسيرة [1]

لقد خلق الله الإنسان سيدًا على الأرض، وهبه كرامة وسلطانًا، لكن الكبرياء نزل به إلى الهاوية. صار الإنسان في مذلة العبيد، ينحني للخطية وينقاد وراء شهوات الجسد كعبد بعدما كان ملكًا يعرف كيف يوجه مشاعره وأحاسيسه وكل طاقاته لحساب ملكوت الله، لذلك قيل: "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة" (أم 16: 32).      

يُحذرنا الكتاب المقدس من الكبرياء؛ "قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين" (أم 16: 18-19).

v   المجد الزمني يشبه صخرة مختفية في البحر، لا يعرفها البحَّار قبل أن تصطدم بها سفينة ويتمزق قاعها وتمتلئ ماء.

مار إسحق السرياني[490]

ج. بعد أن كانت بابل سيدة الممالك المتشامخة، صارت تمارس أعمال العبيد الشاقة لحساب سادتها. هنا يصورها إشعياء النبي بامرأة تطحن بالرحى، وهو عمل يحتاج إلى سيدتين تعملان معًا؛ والرحى الكبيرة تديرها الحيوانات؛ ها هي تُؤمر بهذا العمل العنيف دون معونة من أحد [2]. تصير كشمشون حين أذلته الخطية فصار يدير الطاحونة عوض الحيوانات، ليضحك الكل عليه ويستهزئون به.

إذ يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن صعودنا إلى السموات في المسيح يسوع الصاعد يكشف لنا كيف انحدرت حياتنا وطبيعتنا فصرنا أقل من الحيوانات، لكن مسيحنا رفعنا من هذه المذلة بصعوده ووهبنا التمتع بسمواته، إذ يقول: [انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول إلى أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح... ويوضح بولس ذلك إذ يقول: "الذي نزل هو الذي صعد أيضًا". أين نزل؟ "إلى أقسام الأرض السفلي"؛ وصعد إلى "فوق جميع السموات" (أف 4: 10-9)... إننا لم نكن سوى ترابًا ورمادًا... لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، فقد صار الإنسان يُقارن بها وصار مثلها (مز 48: 21؛ إش 1: 3)... انظروا كيف صرنا أكثر غباءً من الحمار والثور (إش 1: 3)، ومن طيور السماء واليمامة والسنونة (إر 8: 7)... صرنا تلاميذ للنمل (أم 6: 6)... أكثر جمودًا من الحجارة (إش 6: 2)، نشّبه بالأفاعي (مز 58: 5)... نُدعى أبناء إبليس (يو 8: 44)... هكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا... لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل خليقة. اليوم استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن طويل! اليوم رأى رؤساء الملائكة أولئك الذين يشتاقون إلى رؤيتهم منذ زمن بعيد! اليوم رأوا طبيعتنا في العرش الإلهي تتلألأ في جمال أبدي ومجد سرمدي![491]].

هـ. "اكشفي نقابك، شمري الذيل" [2]؛ وهو أمر غير لائق بالفتيات الصغيرات الشريفات في ذلك الحين، أن يكشفن وجوههن أو يشمرن ذيل ثيابهن.

بعد أن كانت تبحر بسفنها التجارية أو الحربية المزينة الكثيرة الثمن بكونها ملكة العالم، يُقال لها: "اكشفي الساق، اعبري الأنهار، تنكشف عورتك وتُرى معاريك. آخذ نقمة ولا أصالح أحدًا" [3]. لقد حطمت كثيرين وأساءت إلى الأمم كثيرة لهذا استحقت أن يرتد إليها عملها فتحمل ذات العار. وكأن الخطية تدخل بالإنسان إلى العار والخزى.

لقد أفقدتنا الخطية ثياب النعمة الإلهية فصرنا عراة، لكن مسيحنا الحامل خطايانا تعرَّى من أجلنا ليُقدم نفسه لباسًا يستر خزينا.

v   عرّاه الصالبون من لباسه كالجزارين، أما هو فصمت يشبه النعجة قدام الجزار!

ترك لباسه حين فرح (في عرس الصليب)، حتى يلبس الذين خرجوا من الفردوس عرايا!

يلبسهم ثيابه ويبقى هو في هزء، لأنه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح!

عروا ثيابه وألبسوه ثوبًا قرمزيًا لون الدم، حتى يتزين به العريس المقتول (الذبيح)!

مار يعقوب السروجي[492]

و. تدخل في حالة ذهول وكآبة بسبب ما يحل بها من كارثة، فتصير عاجزة عن الكلام، تعيش في ظلام: "اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين، لأنك لا تعودين تُدعين سيدة الممالك" [5].

2. خطايا بابل:

صدر الأمر بانهيار بابل لكن ليس بدون حيثيات لهذا الحكم، فإن الله في محبته دائمًا يعلن لمن يسقط تحت دينونة أسباب الحكم لكي يتعظ الآخرون ولا يسقطون في ذات الخطايا. أما خطايا بابل فهي:

أ. العنف وعدم الرحمة، فقد سمح الله بتسليم شعبه لبابل لأجل التأديب، لكن بابل استغلت الموقف ومارست العنف حتى على الشيوخ، دون تقدير لعجزهم بسبب كبر سنهم [6]. كان الله ينتظر منها ترفقًا بشعبه، الذين يحبهم حتى في لحظات تسليمهم للتأديب.

ب. ظنت أنها فوق القانون؛ ففي استخدامها للعنف لم تدرك أن ما تصنعه بالغير يحل بها، وبالكيل الذي تكيل به يُكال لها به. ظنت أنها سيدة الكل لم تذكر آخرتها [7].

ج. تمسكها بالطمأنينة المخادعة أو السلام الكاذب [8] الذي لا يقوم على لقاء النفس مع الله مصدر السلام وإنما على اعتقاد الإنسان أنه لن يحل به شيء من أجل عظمته الباطلة أو مركزه أو غناه. حَسبت أنها لن تصير أرملة ولا ثكْلى، معتمدة على السحر والرُقى فانخدعت وبغتها الترمل والثكل في يوم واحد [9]. صارت أرملة لأنها فقدت الملك، وصارت ثكلى بقتل سكانها كأولاد وبنات لها.

د. تجاهلها رؤية الله لها ومعرفته لأسرارها: "وأنتِ اطمأننتِ في شّرِك. قلتِ ليس من يراني" [10].

هـ. اتكالها على الحكمة البشرية المجردة [10]، مع الالتجاء إلى السحر والرقى، إذ حسبت أن راصدي النجوم يقدرون أن يخلصوها وقت الشدة بمشورتهم ومعرفتهم للغيب، فإذا بهم هم أنفسهم يحترقون كالقش ولا ينجون من اللهيب [11-15]. لم تكن هناك دولة في العالم تعرف بالسحرة والمنجمين مثلها (راجع سفر دانيال)، وها هو النبي يسخر بهم.

<<


 

الأصحاح الثامن والأربعون

الخرُوج الجَديد

تضم الأصحاحات (48-49) أحاديث عن الخلاص مثل الأمر بالرجوع إلى الوطن، الصلاة كمصدر القوة في الخلاص، بهجة الخلاص.

بعد تقديم كلمة عتاب لشعبه الذي اتسم بالرياء مع قساوة القلب والانحراف إلى الوثنية، كشف لهم الله عن مقاصده بتسليمهم للسبي البابلي، وأخيرًا يعلن عن إصدار الأمر المفرح بالخروج السريع المصحوب بالفداء.

1. الله يعاتب شعبه                   [1-8].

2. قصد الله من السبي               [9-19].

3. الخلاص السريع المبهج          [20-22].

1. الله يعاتب شعبه:

في الأصحاح السابق فضح الله بابل العذراء سيدة الممالك التي انجرفت إلى حياة اللهو مع التشامخ والعنف فانهارت تمامًا، الآن قبل أن يعلن عن خروج شعبه أو تحريره من السبي في عتاب أبوي، صريح يكشف عن ضعفاتهم وخطاياهم وأيضًا عن مقاصده من السماح بسبيهم حتى لا يعودوا إلى خطاياهم مرة أخرى.

لعل أخطر خطية تواجه المؤمنين أصحاب المعرفة الروحية هو الرياء مع الشكلية في العبادة. الله لا يريد إذلالهم إنما رفعهم إلى مركز ساٍم وأعطاهم إمكانيات روحية للحياة معه، أهمها:

أ. دعاهم "إسرائيل" [1]، بكونهم شعبه المختار.

ب. شعب ملوكي "خرجوا من بيت يهوذا" [1].

ج. دعى عليهم اسم الله: "الحالفين باسم الرب والذين يذكرون إله إسرائيل"، لكنهم يصنعون هذا "ليس بالصدق ولا بالحق" [1] مع إدراكهم أنه هو الله الواحد الحقيقي الذي يتعبدون له لكن في شكلية وبحرفية دون روح.

د. تمتعوا بمدينة القدس [2] كمدينة الله المقدسة التي تضم هيكله.

هـ. "يُسْنَدون إلى إله إسرائيل" [2]، يفتخرون بمواعيده ويعترفون بعهده ويتكئون عليه (مى 3: 11)...

و. تمتعوا بالنبوات الإلهية، إذ كان الله يخبرهم بالآتيات، أي بالأمور المقبلة [3]. أما سرّ تقديم هذه النبوات فهو تثبيتهم في الإيمان به وتصديق كلماته ومواعيده. لقد عرف أنهم قساة القلوب، عنقهم من حديد وجباههم من نحاس، يصعب عليهم تصديق الكلمات النبوية لذا قدم لهم نبوات تتحقق في المستقبل القريب حتى يصدقوا النبوات، وأيضًا للتمييز بين الله والأوثان [5].

مع كل ما قدمه الله لشعبه من هذه الإمكانيات عاشوا في شكلية العبادة بروح فريسية مملوءة رياء، كما خلطوا بين عبادة الله والأوثان، وتجاهلوا الكلمات النبوية واحتقروها ولم يفهموا أسرارها، لذا يوبخهم قائلاً: "لم تسمع ولم تعرف ومنذ زمان لم تنفتح أذنك، فإني علمت أنك تغدر غدرًا ومن البطن سميت عاصيًا" [8].

لقد انشغل إشعياء النبي بالحديث عن البصيرة الروحية والأذن الداخلية المقدسة، فإن حديثه عن المخلص يبدو لكثيرين في عصره أو للغالبية أمرًا يكاد يكون مستحيلاً.

لقد جاء المخلص ومع ذلك يرفضه كثيرون بالرغم من تحقيق النبوات التي وردت في العهد القديم في شخصه وخلال أعماله الخلاصية، لذا فالعالم لازال يحتاج إلى البصيرة الحقة والأذن المقدسة. حتى الذين آمنوا به وقبلوه يحتاجون إلى ذلك للتمتع بأسرار أعمق وإدراك الأمجد السماوية الداخلية الخفية.

نحتاج جميعًا أن يرافقنا رب المجد ويتحدث معنا ليُقدس أعماقنا فنقول مع تلميذي عمواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32).

v   إلهي... أنت نوري، افتح عن عيني فتُعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو.

v   أنت النور، الذي أنار عقل يعقوب، فكسف لأولاده عن الأمور المختلفة.

القديس أغسطينوس[493]

2. قصد الله من السبي:

يقدم الله لشعبه أسباب السماح بسبيهم:

أ. "من أجل اسمي أُبطئ غضبي، ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك" [9]... بمعنى آخر كان يلزم أن يهلك هذا الشعب تمامًا ويُقطع، لكن الله في غيرته على اسمه ومجده قدمهم للتأديب لعلهم يرجعون إليه فلا يهلكون. وكأن السبي هو "عطية" بكونه تأديب إلهي يقدم للمحبوبين بالرغم من عدم استحقاقهم لهذا الحب الأبوي التأديبي.

هذه نظرة روحية رائعة نحو التأديب، خلالها يدرك المؤمن أنه ليس أهلاً لهذا التأديب بكونه علامة حب أبوي. يقول الرسول: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله؛ إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين" (عب 12: 6-7).

v   إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول (عب 12: 8)، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة على شرعية بنوتنا!

القديس يوحنا الذهبي الفم[494]

v الأب لا يهذب ابنه لو لم يحبه، والمعلم لا يصلح من شأن تلميذه ما لم ير فيه علامات نوال الوعد. عندما يرفع الطبيب عنايته عن مريض، يكون هذا علامة يأسه من شفائه.

القديس جيروم[495]

v   "افتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم" (مز 89: 32).

إنها رحمة (الله) ليس فقط أن يدعوهم وإنما أيضًا أن يؤدبهم ويجلدهم. لتكن يّد أبيك عليك، فإن كنت ابنًا صالحًا لا تتذمر على التأديب... ليؤدبه مادام لم ينزع رحمته عنه؛ ليضربه عندما يخطئ مادام لا يمنعه من أن يرث.

إن كنت تدرك مواعيد أبيك حسنًا لا تخف من جلداته بل خف لئلا لا ترثه...

ليت الأبناء الأتقياء لا يقولون: "إن كنت تأتينا بعصا فلا تأتِ قط. فانه من الأفضل أن تتعلم بعصا الآب عن أن تهلك باهتمام اللص بك[496].

v   الرب الحافظ الصغار (مز 116: 6) يجلد هؤلاء الذين عندما يصيرون ناضجين، يطلب أن يكونوا ورثة (له)...

لقد أعانني إذ كنت في ضيق، فان الألم الذي يسببه الطبيب بمشرطه ليس للعقوبة بل للتكريم[497].

القديس أغسطينوس

ب. للتنقية: "هانذا نَقيَّتك وليس بفضة، اخترتك في كور المشقة" [10]. نحن فضة الرب وذهبه، يهتم بتنقيتنا في كور التعب والألم.

v   مغبوط هو الإنسان الذي يؤدب في هذه الحياة مرتين، فإن الرب لا يُعاقب عن شيء مرتين (نا 1: 9 LXX).

القديس جيروم[498]

ج. الله الذي يسمح بالتأديب لتنقيتنا هو يرفعه عنا عندما يحقق هدفه. لقد دعا السموات والأرض، لتجتمع كل الخليقة وترى خلاص الله العجيب. لقد أحب كورش ليُحقق هدفه ويكون ذراعه على الكلدانيين [14].

ما يحققه كورش ليس من عندياته بل من قبل الله مخلص شعبه: "أنا أنا تكلمت ودعوته، أتيت به فينجح طريقه" [15]... منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه" [6].

أُرسل كورش بواسطة الرب وبروح الله القدوس، كرمز للسيد المسيح الذي جاء بارادته وفي نفس الوقت مرسلاً من الآب والروح القدس... كيف؟

هنا وحدة عمل الثالوث القدوس؛ الثالوث القدوس كأقانيم غير منفصلة جوهر إلهي واحد يعمل لخلاص البشرية.

الآب يحب البشرية، وفي حبه أرسل كلمته غير المنفصل عنه، حاسبًا ذبيحة المسيح عطاء من جانب الآب، وكما قال السيد المسيح نفسه: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). الآب محب البشر ارسل ابنه ذبيحة حب.

الابن من جانبه قدم نفسه للبذل في طاعة للآب، وأيضًا بكامل ارادته، إذ يقول الرسول: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20).

أما الروح القدس فلم يقف في دور سلبي بل كان له دوره الايجابي في كل العمل الخلاصي؛ به تحقق التجسد الإلهي في أحشاء البتول (لو 1: 35)، وهو الذي أصعد يسوع ليُجرب، وهو الذي يشهد للسيد المسيح (يو 15: 26).

و. لممارسة الطاعة لله، فان السبي لم يحدث مصادفة ولا قضاءً وقدرًا إنما هو ثمرة طبيعية للعصيان، بدونه ما سقطوا تحت السبي. لهذا وجب عليهم عند عودتهم أن يمارسوا الطاعة فيتمتعوا ببّر الله وخيراته. "ليتك أصغيت لوصاياي فكان كنهر سلامك وبرك كلجج البحر. وكان كالرمل نسلك وذرية أحشائك كأحشائه، لا ينقطع ولا يُباد اسمه من أمامي" [18-19].

لو أنهم أطاعوا الله ليس فقط لم يسقطوا تحت السبي البابلي، وإنما لأفاض سلام الله كنهر متسع وعميق ودائم الجريان ومُروي للكثيرين.

3. الخلاص السريع المبهج:

يقدم الله دعوة للخروج: "اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين" [20].

إن كان الله قد أرسل كورش لخلاصهم، لكنه لا يلزمهم بالخروج بغير ارادتهم، إنما يدعوهم ويحثّهم على ذلك... وبالفعل خرج 40.000 شخصًا على يدي زربابل (نح 9: 36، 39).

إنها دعوة مستمرة لخروجنا تحت قيادة مخلصنا من كل موضع معثر، حتى نتحرر بروح الله من نيرها، كما دُعى لوط وعائلته لترك سدوم وعمورة.

الهروب من الشر ليس ضعفًا ولا سلبية وإنما هو عمل مِقدام فيه يعلن الإنسان بروح الله عن نصرته على أعماقه التي تشتاق أو تستطيب للمواضع المعثرة.

هذه الدعوة يصحبها فرح وتهليل بعمل الله الخلاصي: "بصوت الترنم أخبروا نادوا بهذا" [20].

إذ يتطلع إشعياء النبي إلى التحرر من السبي كخروج ثانٍ يشبه خروج الشعب من عبودية فرعون على يدي موسى حيث أخرج لهم ماءً من الصخرة في البرية كي لا يعطشوا، هكذا في هذا الخروج الجديد يتمتعون بذات العطية: "ولم يعطشوا في القفار التي سيَّرهم فيها، أجري لهم من الصخر ماءً، وشق الصخر ففاضت المياه" [21]. لقد تحقق هذا إذ ارتبط خلاص السيد المسيح بعطية الروح القدس في عيد العنصرة كينبوع مياه حية فاضت في كنيسة المسيح.

أخيرًا فإن هذا الخلاص اختياري، من لا يقبله يحرم من سلام الله الفائق، إذ قيل: "لا سلام قال الرب للأشرار" [22].

v   قيل لنا: "ابطل صوت الطرب وصوت الفرح من أفواههم" (إر 7: 34). نعم فانه أعياد الأشرار هي ويلات.

v   إذ يعتزل الجاحدون الصلاة والشكر يحرمون أنفسهم من ثمر الفرح.

البابا أثناسيوس الرسولي[499]

جاءت الترجمة السبعينية "لا فرح قال الرب للأشرار". وقد ميز القديس أغسطينوس[500] بين فرح الشرير المؤقت والمرتبط بالزمنيات يزول بزوالها، أما الأبرار فيفرحون حتى في قيودهم، فقد فرحت الشهيدة كريسبينا Crispina عندما قُيدت وعندما أُقتيدت للمحاكمة، كما عندما سُجنت وعندما صدر الحكم ضدها... كان فرحها أمام الملائكة، كقول المرتل: "أمام الملائكة أُسبح لك" (مز 138: 1).

 <<

الأصحاح التاسع والأربعون

إرسَالية المخُلِّص

في الأصحاح السابق يعلن المخلص عن إرساليته قائلاً: "والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إش 48: 16). الآن يتحدث عن هذه الإرسالية الفريدة التي فيها يُخلي الابن ذاته لكي يمجدنا فيه، نازعًا عار المذلة، فيُقيمنا عروسًا سماوية وملكة تجلس مع المسيح الملك، مشبعًا كل احتياجاتنا.

1. اتضاع المخلص وتمجيده          [1-7].

2. عمله الخلاصي                   [8-13].

3. إقامة المتروكة عروسًا           [14-21].

4. إقامة الذليلة ملكة                [22-23].

5. الله فادي كنيسته                  [24-26].

1. اتضاع المخلص وتمجيده:

في الأصحاح السابق كان الحديث موجهًا إلى بيت يعقوب المدعوين باسم إسرائيل (إش 48: 1)، أما الحديث هنا فموجه إلى الأمم، إذ يقول: "اسمعي ليّ أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد" [1]. فقد دُعى الأمم "جزائر الأمم" (تك 10: 5)، إذ كانوا يتطلعون إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط بكونها المناطق البعيدة الغربية والغريبة عن إسرائيل؛ وقد دعى الأمم "من بعيد" لأنها لم تدخل في شركة مع إسرائيل.

يتحدث  السيد المسيح المخلص إلى الأمم معلنًا الآتي:

أ. مدعو من البطن: "الرب من البطن دعاني" [1]. يظن بعض الدارسين أن المتحدث هنا باسم إسرائيل بكون الله اختار شعبه قبل أن يوجد، وهو في صلب إبراهيم وفي أحشاء سارة؛ وظن البعض أنه كورش الذي أختاره الله لتحقيق رسالته قبل أن يوجد؛ لكن الواضح أن الحديث هنا باسم السيد المسيح، كلمة الله المتجسد؛ فقد كرز رئيس الملائكة جبرائيل للعذراء بميلاده قبل أن تُحبل به ودُعى يسوع لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم (مت 1: 21)، لذا قيل "من أحشاء أمي ذكر أسمي" [1].

ب. صاحب سلطان: "وجعل فمي كسيف حاد" [2]. وقد قيل عن السيد المسيح:

"وسيف ماضِ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16)، كما قيل عنه أنه كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين (مت 7: 29). لقد دخل المعركة ضد عدو الخير إبليس بكلمته التي هي كسيف ذي حدين (عب 4: 12).

ج. اختفاء سرّ المسيح وعمله الخلاصي الإنجيلي ودعوته الأمم للإيمان وراء ظلال الناموس الموسوي والنبوات، إذ يقول "في ظل يده خبأني" [2]. لعله عَنىَ بهذا القول أيضًا ما حدث في طفولته حيث ثار هيرودس عليه وأراد قتله فأرسل الآب ملاكًا ليوسف يأمره بالهروب إلى مصر. لقد صار الكلمة جسدًا، ابن الله صار ابنًا للبشر، لهذا في اتضاعه سار في طريقنا كواحد منا يرعاه الآب بحمايته كما في ظل يده، وهو قادر أن يأمر الطبيعة فتهلك هيرودس وكل مقاوميه.

"وجعلني سهمًا مبريًا (لا يصدأ)، في كنانته أخفاني" [2]. بكونه كلمة الله فهو سهم لا يصدأ، اختفى وراء الظلال والرموز حتى جاء ملء الزمان فأعلن ذاته خلال الصليب كسهم صُوِّبَ ضد إبليس وجنوده فجردهم من سلطانهم وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (كو 2: 15). إنه السهم القاتل للشر، وواهب جراحات الحب الإلهي للنفوس المؤمنة التي تصرخ "إنيّ مريضة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).

v   يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوّب ابنه الوحيد "السهم المختار" [2] نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.

رأس السهم هو الإيمان الذي يربط ضارب السهم (المسيح) بالمضروبين به، وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها، متحلية بالجروح....

إنه جرح حسن، وألم عذب، به تخترق "الحياة" النفس.

القديس غريغوريوس النيسي[501]

v هل يقدر أحد أن يرى جراحات الحب الإلهي الكثيرة مثل تلك التي في نشيد الأناشيد، هذه التي تشتكي أنها مجروحة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5)؟! وأنه يرى السهم الذي يجرح نفوسًا كثيرة بحب الله إلاَّ في ذاك الذي قال: "جعلني مثل رمح مختار"؟![502].

v إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تقبل أحد الجراحات الحلوة التي لهذا "السهم المختار" كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حب حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلاً ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلاَّ عنه، ولا ينصت إلاَّ إليه، ولا يفكر إلاَّ فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه، متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: "إنيّ مجروحة حبًا". أنها تتقبل جرحها من ذاك الذي قيل عنه "جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني" [2].

يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجرح كهذا، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، يضربها بمثل هذه الجراحات الشافية[503].

العلامة أوريجانوس

v   كلمات الرب سهام تلهب الحب لا الألم... لهذا يليق بنا فهم "سهامك انغرست فيّ" (مز 38: 2) هكذا: كلماتك انغرست في قلبي[504].

v ليت غير الأصحاء يُجرحون، فإنهم إذ يُجرحون حسنًا يصيرون أصحاء. ليقل هؤلاء إذ صاروا مقيمين في الكنيسة جسد المسيح مع الكنيسة: "إنيّ مجروحة حبًا" (نش 2: 5  LXX)[505].

القديس أغسطينوس

د. بالصليب خضع الابن مطيعًا للآب، صار من أجلنا عبدًا لكي يتمجد الآب فيه، ويتمجد هو أيضًا في ضعف الصليب. "وقال ليّ: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد، أما أنا فقلتُ: عبثًا تعبتُ باطلاً، وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].

يتساءل البعض: من هو عبده إسرائيل؟ أنه السيد المسيح الذي جاء من اليهود، وقبل بإرادته العبودية مع أنه مساوٍ للآب في الجوهر (فى 2: 7). جاء كعبد ليرفع العبيد فيّه إلى البنوة لله، بهذا مجّد الآب وتمجّد هو أيضًا خلال الضعف، إذ يقول الرسول: "وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفَّعه الله أيضًا واعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فى 2: 8-11).

في لحظات الآلام حين ظهر رب المجد كما في ضعف قال: "أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان ليّ عندك قبل كوْن العالم" (يو 17: 4-5).

إن كان الصليب عارًا وضعفًا من الخارج لكنه مجد من الداخل. يقول العلامة أوريجانوس: [لا نتردد في القول بأن صلاح المسيح يظهر بطريقة أعظم وبالنور الإلهي... لأنه "وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى 2: 6-8)[506]].

الصليب أيضًا مجد لأنه صالح الآب مع البشر، وفتح أمامنا باب الفردوس لنشارك الرب مجده ونعيش معه نُسبحه مع السمائيين.

يرى البعض أن ما قيل هنا أيضًا يُخص الكنيسة المختفية في المخلص بكونها إسرائيل الجديد هذه التي تمجد الله خلال قبولها شركة الآلام والصلب مع مسيحها فتنعم بقوة قيامته وبهجتها، لهذا استحقت أن تسمع الصوت الإلهي: "أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد". أما هي ففي آلامها تقول: "عبثًا تعبتُ باطلاً وفارغًا أفنيتُ قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي" [4].

هـ. نجاح رسالة السيد المسيح في ضمه الأمم إلى الإيمان: إن كان السيد قد ظهر على الصليب في ضعف حتى فارقه الجميع، إذ جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11)، صار مجروحًا في بيت أحبائه (زك 13: 6)، فقال: "عبثًا تعبتُ باطلاً، وفارغًا أفنيتُ قدرتي" [4]؛ هذا هو مظهر الصليب الخارجي، أما عمله الداخلي فيعلنه الآب بقوة قائلاً للمصلوب: "قليلٌ أن تكون ليّ عبدًا لإقامة أسباط يعقوب، وردّ محفوظي إسرائيل، فقد جعلتُك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصي الأرض" [6]. وكأنه يقول للابن المصلوب: إن عملك الفدائي لا يمكن أن يُحد ثمره في حدود شعب معين وإنما يمتد إلى أقصي الأرض فتكون نورًا للأمم وسرّ الخلاص الإلهي لكل البشر.

عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو 2: 30: 31). كما قال بولس وبرنابا: "لأنه هكذا أوصانا الرب، قد أقمتك نورًا للأمم لتكون أنت خلاصًا إلى أقصي الأرض" (أع 13: 46-47). يقول العلامة أوريجانوس: [لو لم يصر عبدًا ما كان يقيم أسباط يعقوب ولا يغيّر قلب إسرائيل المشتت، ولما صار نورًا للأمم لخلاص أقصي الأرض[507]].

جاء مسيحنا نورًا للشعوب والأمم؛ النور الحقيقي الذي يضيء كل إنسان آتِ في العالم (يو 1: 9)، يدعونا من الظلمة إلى النور (1 بط 2: 9) حتى نسلك في النور ونصير أبناء للنور وأبناء للنهار (1 تس 5: 5)، بل ونصير نورًا للعالم (مت 5: 14). بهذا يتحقق قول إشعياء النبي: "لا تكن لك بعد الشمس نورًا في النهار، ولا القمر ينير لك مضيئًا، بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زيتًا؛ لا تغيب بعد شمسك، وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورًا أبديًا" (إش 6: 19-20). يُضيئ المخلص - نور الأمم - على النفس بكونها عروسه فتُدرك خفيات الحكمة (أى 11: 6).

v   ربي وإلهي... يا نور نفسي! لا تتوقف قط عن إنارة خطواتي!...

إلهي... أنت رجائي... بدون نورك - الذي به نُعاين كل شيء - يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله.

v أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور"، فكان نور. قل هذه العبارة الآن أيضًا حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميزه عن غيره من النور؛ فبدونك كيف أقدر أن أميز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!

القديس أغسطينوس[508]

أهانه اليهود وجحوده طالبين صلبه وقبلته الشعوب الوثنية وخضعت له بالإيمان وقبلت عمله. لهذا دُعي السيد "المهان النفس"، "مكروه الأمة"، "عبد المتسلطين" إذ تسلط عليه الأشرار وابغضوه واهانوه؛ وفي نفس الوقت قيل "ينظر ملوك فيقومون، رؤساء فيسجدون" [7]. حيث يقوم الملوك عن كراسيهم في حضرته ويسجد له الرؤساء متعبدين له.

2. عمله الخلاصي:

بين أيدينا حديث إلهي رائع يكشف عن سرّ خلاصنا في المسيح يسوع ربنا الذي لا يُعبَّر عنه؛ ففي المسيح المخلص ننال الآتي:

أ. استجابة الله لنا؛ فقد حان الوقت أن يسمع الآب لنا خلال ابنه المحبوب المصلوب كذبيحة طاعة للآب وموضع سروره، فيستجيب لنا الآب فيه واهبًا نفسه لنا أبًا، مقدمًا لنا حضنه كموضع راحة أبدية نستقر فيه. هذا ما عناه بقوله: "في وقت القبول استجبتُك" [8]. فقد حان الوقت الذي فيه يُعلن قبولنا لدى الآب في ابنه المقبول أزليًا، فيستجيب لنا على الدوام.

ب. بالمسيح يسوع مخلصنا صار الله نفسه عونًا لنا ومعينًا: "وفي يوم الخلاص أعنتك" [8]. تسلم الرب نفسه قيادة المعركة ضد عدو الخير لنختفي نحن فيه وننال فيه الغلبة والنصرة. وكما يقول الرسول: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهِر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو اليوم الذي فيه صار الشفيع حجر الزاوية الرئيسي، فلنفرح ولنبتهج فيه[509]].

يليق بنا أن نميز بين "يوم الخلاص" [8] أو "يوم الرب" وأيامنا نحن، يوم الرب مفرح يَهبُ خلاصًا أما أيامنا التي نسلك فيها حسب هوانا فمُحطِّمة ومُهلِكة. يقول القديس أغسطينوس: [بالحرى أدعو أيامي (مز 116: 2) أيام بؤسي، أيام موتي، أيام حسب آدم مملوءة تعبًا وعرقًا، أيام حسب الفساد القديم. إذ يصرخ في مزمور آخر: "غرقت في حمأة عميقة" (مز 69: 2)، "هوذا جعلتَ أيامي قديمة" (مز 39: 5)؛ في أيامي هذه أدعوك (مز 166: 2). فإن أيامي تختلف عن أيام ربي[510]].

ج. بالمصلوب أيضًا صرنا محفوظين في الرب، إذ يقول: "فأحفظك" [9]. ففي الصلاة الوداعية يقول المخلص: "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير... قدِّسهم  في حقك" (يو 17: 15، 17).

د. التمتع بالمصلوب كعهد مع الآب: "وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض لتمليك أملاكِ البراري" [8]. قدم الله عهده الجديد ليس منقوشًا على حجارة وإنما مسجلاً بالدم في جسد الابن الكلمة المتجسد، خلال هذا العهد لا تتمتع الكنيسة بأرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا وإنما ترث الأرض أي الشعوب التي كانت قفرًا كالبراري لتُقيم منها فردوسًا إلهيًا ومملكة سماوية. في جسد بشريته صالح الآب مع البشرية وأقام في كل قلب مؤمن حقيقي ميراثًا لا يُعبَّر عنه.

أما سمات هذا الملكوت الجديد أو الميراث الداخلي أو الحياة الإنجيلية الكنيسة الحقة فهي:

أولاً: الحرية؛ "قائلاً للأسرى أخرجوا، للذين في الظلام إظهَروا" [9]. فقد كسر متاريس الجحيم وأعطانا حرية مجد أولاد الله لنعيش حاملين سلطانًا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، نسلك في النور، لا سلطان للظلمة علينا.

وهبنا مخلصنا الحرية الداخلية فلا نُستعبد لعدو الخير ولا لشهوات الجسد ولا لمحبة العالم، أما ما هو أهم فهو ألا نستعبد للأنا "ego" ، لا نتقوقع بعد في الأنا إنما نُصلب مع مسيحنا المخلص لنعلن اتساع قلبنا لنحمل فيه الله غير المحدود ويتسع لكل بشر حتى المقاومين لنا.

خلال هذه الحرية الداخلية نقبل برضانا الخضوع لله كعبيد له، فنعيش أحرارًا لا سلطان للعدو على أعماقنا.

v   كن خادمًا وحرًا في نفس الوقت؛ كن خادمًا بخضوعك لله، حرًا لا تُستعبد لشيء، لا لمديح فارغ ولا لهوى ما[511].

v حرر نفسك من قيود الخطية، عش في حرية، فقد حررك المسيح (غل 5: 1). أطلب حرية العالم الجديد خلال حياتك الزمنية. لا تستعبد نفسك لمحبة مال ولا لمديح نابع عن إرضاء الناس[512].

v   لا تضع قانونًا لنفسك لئلا تُستعبد لقوانين من عندياتك. كن حرًا، إنسانًا في مركز يسمح له أن يفعل ما يشاء[513].

v   حرر نفسك من نير العالم بحرية الحياة الجديدة[514].

v كن حرًا، حرر نفسك من كل عبودية مخرّبة؛ فإنك إن لم تصر حرًا لا تكن عاملاً للمسيح، فإن ملكوت أورشليم السماوية الحرة لا تقبل أبناء العبودية. أبناء الأم الحرة هم أنفسهم أحرار (رو 8: 5)، ولا يستعبدون للعالم في شيء[515].

v   لا تُلزم نفسك بجهد فوق طاقتك لئلا تَستعبد نفسك للحاجة لإرضاء الغير[516].

الأب يوحنا السرياني المتوحد

ثانيًا: التمتع بمرعى إلهي خصب، "على الطريق يرعون وفي كل الهضاب مرعاهم" [9]. ما هو هذا الطريق إلاَّ المخلص الذي دَعى نفسه "الطريق" (يو 14: 6)، به ندخل إلى هضاب مثمرة لنجد كل احتياجاتنا، فلا نجوع ولا نعطش ولا يضربنا حر ولا شمس؛ فيها ينابيع الروح القدس كمياه حية تروى أعماقنا وتهبنا ثمرًا [10].

ثالثًا: التمتع بطريق ممهد يدخل بنا إلى الأحضان الإلهية، "واجعل كل جباليّ طريقًا ومناهجي ترتفع" [11]. ما هي هذه الجبال إلاَّ وصايا الرب التي تبدو كجبال شاهقة يصعب تسلقها، لكن باتحادنا مع المسيح "الطريق" يصير السير على الجبال أمرًا طبيعيًا، وتتحول الوصية إلى لذة وبهجة لا إلى أوامر قاسية وحرمان.

في الوقت الذي فيه يجعل الوصية الصعبة سهلة إذ يحول جباله الشاهقة إلى طريق نفرح بالعبور فيه، إذا به يقول" ومناهجي (مسالكي) ترتفع"، بمعنى أن سهولة الوصية لا تعني نزولنا إلى الأمور الدنيا وتساهلنا مع أنفسنا في قبول الملذات الجسدية وتحقيق الرغبات الزمنية، إنما على العكس يحملنا بمسالكه إلى فوق لنمارس الحياة السماوية العُلْوية ببهجة قلب وفرح كحياة مقبولة ومبهجة في الرب.

رابعًا: انفتاح أبواب الكنيسة أمام كل الأمم من المشارق والمغارب والشمال والجنوب. "هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم" [12]. يقصد بالآتين من بعيد سكان الشرق الأقصى، كما يقصد بأرض سينيم (أسوان) جنوب مصر بكونها تمثل القادمين من الجنوب.

خامسًا: التمتع بحياة التسبيح والفرح كحياة تعيشها النفس (السموات) ويمارسها الجسد (الأرض) ويعبر عنها خلاص الطاقات البشرية (الجبال). هكذا تشترك السموات مع الأرض بجبالها في الترنم للرب، "لأن الرب عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم" [13].

سرّ بهجتنا تعزيات الله المعلنة بالروح القدس في أعماقنا خلال استحقاقات الدم الثمين، فقد أقامنا المصلوب من بؤسنا وتراءف علينا برحمته العملية.

هذا الفرح يعم على الكنيسة كلها الممتدة هنا عبر الأجيال وأيضًا في السموات، لهذا يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [لسنا وحدنا في فرحنا، فإنه في السماء تفرح معنا "كنيسة الأبكار" جميعها (عب 12: 23)... انظروا يا أصدقائي، ها الخليقة كلها تحفظ معنا العيد، إذ يقول المرتل: "كل نسمة فلتسبح الرب" (مز 150: 6)، وذلك من أجل هلاك أعداء الرب ومن أجل خلاصنا[517]].

الآن رأينا كيف انتقل الرب من الحديث عن كورش كمنقذ لشعب الله من السبي إلى ما هو أعظم وأبقى، الحديث عن السيد المسيح كمخلص لكل البشرية، ينقذهم من الأسر الأبدي ليهبهم بركات خلاصه بالدخول بهم إلى ملكوته أي التمتع بالحياة الجديدة الكنسية المفرحة في الرب، كحياة فردوسية مقدمة لكل الشعوب والأمم.

3. إقامة المتروكة عروسًا أبدية:

لم يكن يتوقع شعب الله أنه يُسبى، وحين سُبيت إسرائيل أو مملكة الشمال ظنت مملكة يهوذا أنها لن تُسبى لأنها تحتضن هيكل الرب في أورشليم مدينة الله. لكن سُبيت يهوذا وانهارت أورشليم بالهيكل الذي دنسوه بالعبادة الوثنية والرجاسات كما جاء في حزقيال وإرميا، وظن المسبيون أنها ربما شهور قليلة ويتدخل الله ليحررهم، لكن عبرت الشهور والسنوات تلو السنوات، فظن الشعب أن الله قد نسيه، وشعر الكل بالعزلة والحرمان والترك. هذا ما عبّر عنه النبي هنا هكذا: "وقالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني" [14]. هذا الشعور بالعزلة هو ثمرة طبيعية يُعاني منها غالبية البشر أن لم يكن جميعهم في بعض اللحظات. فالإنسان في وقت التجربة يشعر نفسه وحيدًا، ليس من يشاركه مشاعره وأحاسيسه ولا من يلمس مرارته الداخلية.

يشتكي علماء النفس من هذا المرض "الشعور بالعزلة" بكونه مرضًا يكاد يكون عامًا خاصة بين المراهقين، حين يدركون أن أقرب من لهم لا يقدر أن يتفهم حقيقة عالمهم الداخلي ومشاعرهم الخفية.

علاج هذا المرض هو الالتقاء بالمخلص، الذي وحده يقدر أن يدخل إلى الأعماق ويقيم علَمَه محبة، يعلن بصليبه صداقة فريدة شخصية خلالها نتمتع بحب إلهي فائق واتحاد مع الله لا يقدر الزمن ولا تستطيع الأحداث أن تُحطمه. بالصليب ضم الله البشرية إليه كعروس سماوية مقدسة لا يفارقها عريسها السماوي، عوض الشعور بالترك.

والعجيب أن المخلص نفسه صرخ على الصليب قائلاً: "الوي الوي لماذا تركتني؟!" (مر 16: 34). كأنه كممثل للبشرية ونائب عنها يعلن عن موقفنا كمتروكين ومحرومين! صار بالصليب كمن هو متروك لكي ينزع عنا الشعور بالحرمان والترك ويردنا إلى الأحضان الإلهية عروسًا مقدسة!

الآن بماذا يُجيب الرب على شعور صهيون بالحرمان؟

"هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ" [15]. بلا شك أن الأمومة تعتبر من أسمى درجات الحب البشري، فالأم التي تحمل ابنها أو ابنتها كجنين لشهور في أحشائها يصعب أن تنساه بعد ولادته. ومع هذا فقد نسيت بعض الأمهات أبناءهن وبناتهن، إذ قدم بعضهن أطفالهن ذبائح بشرية، يلقين إياهم في النار وسط ضربات الطبول كنوع من العبادة للإله بعل. وفي بعض المجاعات سمعن عن أمهات أكلن أطفالهن. ولا نزال نسمع الآن عن جرائم قتل تقوم بها بعض الأمهات ضد أطفالهن. وفي كل يوم أيضًا نرى أمهات وآباء يقتلن أبناءهن خلال الجو العائلي الكئيب أو المشاكل العائلية خاصة الانفصال والطلاق. ما أكثر ضحايا الطلاق؟! لم يترفق الآباء والأمهات بالأجيال الجديدة، ولا اعطوا لهم حسابًا في حياتهم، إنما في أنانية يُريدون تحقيق ما يظنوه سلامًا على حساب حياة أولادهم وسلامهم الروحي والنفسي وأحيانا الاجتماعي والمادي أيضًا.

قد تنسى الأم رضيعها أما الله فلا ينسانا!

v عناية الله هذه وحبه الذي يظهرهما الرب بصلاحه... يُقارنهما بقلب أم مملوء حنانًا ولطفًا، إذ يريد أن يعبر عنه بمثال من العاطفة البشرية، فلم يجد في خليقته مشاعر حب أفضل كي يُقارن بها.

الأب شيريمون[518]

v   إنه ليس فقط يعتني بنا، إنما يحبنا بلا حدود، حبًا مقدسًا ملتهبًا، حبًا شديدًا حقيقيًا لا ينفصم ولا  ينطفئ...

v يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة وأنّوا قائلين: "قد تركني الرب وسيدي نسيني"، قائلاً: "هل تنسى الأم رضيعها فلا ترحم ابن رحمها؟". كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية. وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حب، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه. لهذا يقول: "ولو نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساك يقول الرب". تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم؟!...

يؤكد رب الأنبياء وسيد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة والخير والشر... إنصت ماذا يقول؟ "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه سمكة يعطيه حية؟! فإن كنتم وانتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحرى أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه؟!" (مت 7: 9-11). كاختلاف الخير عن الشر هكذا تعلو محبة الله على عواطف الوالدين...

هناك أمثلة أخرى كحب الحبيب لمحبوبته، إلاَّ أن حب الله لن يعادله هذا الحب (مز 103: 11)...

القديس يوحنا الذهبي الفم[519]

"هوذا على كفي نقشتك" [16]. من العادات الشرقية القديمة أن ينقش الإنسان اسم محبوبه على كفه، علامة أنه لن ينساه حتى الموت، وأن كل ما يعمله بيديه إنما لحساب محبوبه. لقد نقش الرب اسم كنيسته المحبوبة لديه على كفه بالمسامير، لتبقى آثار الجارحات علامة حب أبدي! بل نقش اسم كل عضو فيها على كفه علامة محبته الشخصية لنا باسمائنا.

"أسوارك أمامي دائمًا" [16]؛ كأنه يقول أنا أعلم أن أسوارك قد تهدمت، أنا لن أنساها، سأبنيها لكن في الوقت المحدد، سأرد لك قوتك وحصانتك، وأرد إلى أرضي بنيك واطرد الهادمين والمخربين منها [17].

من هم هؤلاء البنون المسرعون إلى صهيون إلاَّ قابلو الإيمان الذين يأتون إلى كنيسة العهد الجديد ويتمتعون بأسوارها التي ليست من صنع يد بشرية، أما الهادمون والمخربون فهم جاحدو الإيمان الذين يُطردون منها.

"ارفعي عينيك حواليكِ وانظري. كلهم قد اجتمعوا أتو إليكِ. حيّ أنا يقول الرب تلبسين كلهم كحلي وتتنطقين بهم كعروس" [18]. يا لها من صورة بهية لكنيسة العهد الجديد، فإنه عوض المدينة التي تهدمت أسوارها، وطرد منها شعبها كمسبيين، ودخلها الهادمون والمخرِّبون، يُقيم الرب كنيسة العهد الجديد لا كمدينة حصينة فحسب يرجع إليها أولادها مسرعين ويُطرد منها الأشرار المخربون، إنما تصير عروسًا سماوية تحمل زينة فريدة، هي اجتماع أولادها فيها كأولاد لله، لهم حرية المجد الداخلي. في الشرق كان جمال المرأة هو أولادها، تفخر بهم كمجد لها وكثوب عرسها المستمر؛ هكذا تعتز الكنيسة بأولادها الممجدين فيها، كمنطقة عروس ثمينة تتمنطق بهم.

تصير عروسًا مثمرة، أُمًا ولودًا، يكثر أولادها الروحيون حتى يبدو كأن الأرض قد ضاقت بهم ولا يوجد موضع للمخربين ليسكنوا معهم.

لا يقف العدو صامتًا إنما يريد أن يدخل ويخرب أولادها، هذا الذي سبق فأثكلها بتحطيمه إيمان البعض، إذ يقول لها: "ضيق عليّ المكان، وسِّعي ليّ لأسكن" [20]. أما هي فترى يد الله العجيبة والعاملة فيها بالرغم من مقاومة العدو المستمرة، فتردد في قلبها قائلة: "من ولد ليّ هؤلاء وأنا ثكلى وعاقر منفية ومطرودة؟ وهؤلاء من رباهم؟ هانذا كنت متروكة وحدي. وهؤلاء أين كانوا؟" [21]. إنها نعمة الله الفائقة التي تُخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة! وإنها نعمته الغنية التي تُقيم فينا ثمرًا متكاثرًا ليس من عندياتنا، إنما هو عطية الله المجانية لمؤمنيه السالكين بالروح.

4. إقامة الذليلة ملكة:

إن كانت صهيون قد عاشت كأمة أسيرة ذليلة في أرض الغربة، الآن تعود إلى وطنها كملكة يشتاق الكل أن يرفعها على الأكتاف ويخضع لها الملوك ويسجدون أمامها يلحسون غبار رجليها.

هذا هو عمل الله في حياة النفس التي سبق فأذلتها الخطية، إذ يقيمها الرب ملكة، تجلس عن يمين الملك، يشتاق الكل أن يخدمها.

"هكذا قال السيد الرب: ها إني أرفع إلى الأمم يدي وإلى الشعوب أقيم رايتي" [22]. ما هو رفع اليد إلاَّ مجيء السيد المسيح إلى العالم ليبسط يديه على الصليب فيضم إليه الأمم كقوله: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو 12: 32). وأما الراية التي يُقيمها فهي "عَلَم الحب" (نش 2: 4)، أي إعلان الفداء على الصليب.

بهذا العمل الخلاصي تتمجد كنيسة المسيح، إذ يُقال لها: "يأتون بأولادك في الأحضان، وبناتك على الأكتاف يُحمَلن، ويكون الملوك حاضنيكِ، وسيداتهم مرضعاتك، بالوجوه يسجدون لكِ ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يخزى منتظروه" [22-23].

لقد تحقق ذلك، فقد صار الملوك والملكات مؤمنين عاملين في كنيسة الرب مثل قسطنطين الكبير وهيلانة، يخدمون الكنيسة كملكة روحية فوق الكل.

5. الله فادي كنيسته:

بدت هذه الوعود كأنها خيال بالنسبة لمعاصري إشعياء وأيضًا فيما بعد بالنسبة للمسبيين، لذلك أكد الله أنه هو بنفسه الذي يُحقق هذا الخلاص، بكونه القادر وحده أن يُحطم إبليس الجبار ويسحب منه الذين سبق أن سباهم.

"هل تُسلب من الجبار غنيمة؟! وهل يفلت سبي المنصور؟! فإنه هكذا قال الرب: حتى سبي الجبار يُسلب، وغنيمة العاتي تفلت. وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميكِ لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر إني أنا الرب مخلصكِ وفاديكِ عزيز يعقوب" [24-26].

هكذا يليق بنا أن نثق في الله مخلصنا ولا نضطرب أمام قسوة إبليس وعنفه، فإن المخلص قادر أن يُحررنا من سبيه مهما كان العدو عاتيًا وجبارًا، يردنا إلى كنيسته ويُخاصم عنا مخاصمينا، أي يقود المعركة بنفسه، فيأكل العدو لحم نفسه ويشرب ويسكر كما بدمه، أي يرتد عمله على رأسه ويذوق من عنفه مرارة حتى يفقد وعيه كمن في حالة سكر.

<<

 

  


 

الأصحاح الخمسُون

بذلت ظهْري للضَاربين

في الأصحاح السابق رأينا صورة رائعة لعمل الله الخلاصي، فقد أعلن أنه أعظم حبًا من عاطفة الأم نحو رضيعها، لن ينسى شعبه بل نقشه على كفه وأقامه عروسًا مقدسة وملكة متّوجة تشاركه أمجاده السماوية. أمام هذا الحب الإلهي وقفت الأمة اليهودية متذمرة عليه وجاحدة الإيمان به، لذا صار يُعاتبها على جحودها، طالبًا قبول عمل الصليب في حياتها.

1. كتاب الطلاق            [1-3].

2. طاعة الصليب           [4-9].

3. دعوة للطاعة            [10-11].

1. كتاب الطلاق:

كان اليهودي إذا ما طلق امرأته ولو بدون سبب مقبول يعطيها كتاب طلاق ويطردها من بيته، كما كان يمكنه أن يبيعها أمة لدائنيه (تث 24: 1-3)، وكان يجوز له أن يبيع أولاده لدائنيه، أما الله فلم يفعل بهم هكذا. أنه يسأل الأمة اليهودية التي جحدته ورفضت الإيمان به عن كتاب طلاقها مؤكدًا لها أنه لم يرد أن يُطَلقها ولا أن يطردها إنما هي طلقت نفسها بنفسها، وطردت نفسها من بيت الله عريسها خلال زناها ورجاساتها فكسرت الزواج المقدس.

"هكذا قال الرب: أين كتاب طلاق أمكم التي طلقتها؟! أو من هو من غرمائي الذي بعته إياكم؟! هوذا من أجل آثامكم قد بُعتُم، ومن أجل ذنوبكم طُلِقت أمكم" [1].

لقد جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11)؛ لهذا ففي عتاب أبوي يسأل رافضي الإيمان أن يظهروا كتاب طلاق أو اسم الدائن الذي إياه سلمه أولاده؛ كأنه يقول لهم إني لا أود طلاق أمكم ولا أن أبيعكم لأحد. هي اختارت إبليس عدوي عريسًا لها وأنتم بعتم أنفسكم بملذات الخطية وشهواته، وكما قال السيد المسيح لمقاوميه "أنتم من أب هو إبليس" (يو 8: 44).

يقول الأب إبراهيم في مناظرات كاسيان [ذات الملذات التي نتنعم بها (في الخطية) تصير عقوبة لنا، فتتحول المباهج والتنعمات إلى أشبه بعذابات لمتابعها[520]].

ويرى العلامة أوريجانوس أن المجمع اليهودي ارتكب الزنا ضد العريس وقتله (يو 19: 6، 15؛ لو 23: 18) [إنها (كعروس) ثارت ضد رجلها أكثر من ثورته ضدها، هذا الذي طردها ونبذها موبخًا إياها بسبب ابتعادها عنه[521]].

إن كان قد طردها إنما لأنها تركته وطردت نفسها بنفسها، فأعطاها سؤل قلبها الشرير. لقد جاء السيد المسيح كما إلى بيته فلم يجد أحدًا، فقد تركته ومعها الأولاد [2]. دعاها لعلها تَرِقّ لرجلها وترجع إليه فلم تُجب [2]؛ لم ترحِّب به ولا استجابت لندائه بل حرمته من كل حقوقه الزوجية والأبوية.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ينطق بهذه الأمور ليُظهِر اننا نحن الذين بدأنا بالهجر، وهذا يسبب هلاكنا. لا يشاء الله أن يتركنا أو يُعاقبنا بل وأن عاقب يفعل ذلك (كما) لا إراديًا، إذ يقول: "لا أشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا" (حز 18: 32 الترجمة السبعينية). يبكي يسوع على هلاك أورشليم كما نفعل نحن على أصدقائنا[522]].

الله لا يُريد هلاكنا بل يطلب أن نكون دائمًا ملتهبين بالروح كعروس متهللة بعريسها لا أن يكونوا كزوجة متمردة تترك بيتها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تعمق بالأكثر ذاكرًا مثالاً يخترق أعمق الأمور، قائلاً: "كفرح العريس بالعروس هكذا يفرح بك الرب" (إش 62: 5). فالحب يكون في أوَجِه عند البداية (بين العروسين). وقد استخدم هذا الأسلوب لا ليحمل شيئًا بشريًا إنما لكي نلمس شدة التهاب محبته الحقيقية[523]...].

من جانبها تركته رفضت أن تعيش في فرح العرس السماوي الدائم، أما من جانبه فأنه يعمل لحسابهم كمخلص يفديهم بحياته، قدير لا يعجز عن العمل من أجلهم، إذ يقول: "هل قصرت يدي عن الفداء؟! وهل ليس فيّ قدرة للإنقاذ؟! هوذا بزجرتي أُنشِّف البحر، أجعل الأنهار قفرًا، ينتن سمكها من عدم الماء ويموت بالعطش. أُلبس السموات ظلامًا وأجعل المِسْحَ غطاءها" [2-3].

لقد جاء السيد بنفسه كما إلى بيته ليخلص بعدما ناداها خلال الناموس والأنبياء، جاء ليخلص ومع هذا ففي سخرية قالت أمتَّه وخاصته: "خلَّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها؛ إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (مت 27: 42).

هكذا سخرت به أمتَّه، مع أنه هو الذي أقام لها طريقًا وسط بحر سوف ونهر الأردي، وعند صلبه ثارت الطبيعة فانكسفت الشمس وانخسف القمر، وحلّ الظلام على وجه الأرض.

2. طاعة الصليب:

يرى بعض الدارسين والآباء ان المتحدث هنا إشعياء النبي الذي أعلن أن الله وهبه لسان المتعلمين لكي يغيث النفوس الخائرة بكلمة الرب الحيّة؛ هذه الكلمة ليس لها زمن معين أنما تعمل فيه كل صباح، فتهبه أذنًا روحية قادرة على الاستماع للصوت الإلهي [4].

v   "يوقظ (يضيف) ليّ أذنًا لأسمع" [4].

يعني إضافة (الأذن) التي من الروح... فإنه بعدما وهبه الروح قلب الأنبياء لم يعد له قلب بشري بل صار له قلب روحي، وكما قال الرسول: "لنا فكر المسيح" (1 كو 2: 16). وكأنه يقول: لقد قبلت بركة الروح وتعلمت الأمور التي لا ينطق بها إنسان ولم يكن أحد منا ولا من الأنبياء يدركها بذهنه الذاتي.

القديس يوحنا الذهبي الفم[524]

v سمع النبي أكثر من (أنبياء) كثيرين، وهكذا يسمع المؤمنون أيضًا أكثر من الموعوظين. هنا يجب على الموعوظين أيضًا أن يدركوا أنهم لا يتعلمون هذه الأمور من الناس بل يكونون متعلمين من الله (إش 54: 13).

القديس يوحنا الذهبي الفم[525]

إن كان النبي يتحدث عن نفسه أنه تمتع بأذن روحية إضافية، ربما يعني أكثر مما تمتع بها أنبياء كثيرون، فان النبي يتحدث أيضًا عن نفسه كرمز للسيد المسيح، كما سبق فتحدث داود النبي عن نفسه كرمز للمسيا.

إن كان السيد المسيح قد جاء معلمًا للبشرية لكنه جاء فريدًا في ذلك من جهة الآتي:

أ. وهو كلمة الله واهب الحكمة والعلم والمعرفة قَبِل ناسوتنا فصار ابن الإنسان الذي يخضع ويطيع. إنه العبد العبراني الذي بإرادته تقدم إلى سيده في اليوبيل ليثقب أذنه من أجل غيرته على بيت أبيه (حز 21: 6). لهذا يقول: "السيد الرب فتح ليّ أذنا وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد" [5]. قدم نفسه بإرادته لا لثقب أذنيه فحسب وإنما لبذل حياته، فأطاع حتى الموت موت الصليب.

في طاعته الباذلة والمملوءة حبًا قدم ليس فقط أذنيه للثقب، وإنما أيضًا ظهره للضرب، وخديه للناتفين ووجهه للعار والبصق... قدم كل حياته محتملاً الآلام لنُحسَب نحن العصاة مطيعين فيه، ونجد نحن المتألمون فيه راحة.

v ربنا ومخلصنا يسوع المسيح مثال لنا كيف نتألم... فبإرادته سمح لهم أن يقودوه حتى الموت، فنرى فيه صورة لكل صلاح وخلود. بذلك هو مثال لنا، نتبعه فنستطيع أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو.

البابا أثناسيوس الرسولي[526]

v قد تقولين: العدو مرعب وخطير لا يمكن أن يُحتمل. انظري إليه ثانية وقارنيه بصورة أخرى فتتعلمي أن تحتقريه. فإن الاتهامات والشتائم والتوبيخات والتعييرات التي يصبها الأعداء مع خططهم هي أشبه بثوب مهلهل وصوف أصابه العث [9]... لهذا لا يتعبك شيء مما يحدث؛ كفي عن طلب معونة هذا الإنسان أو ذاك، وأن تجري وراء الظلال، إنما بإلحاح إدعي يسوع الذي تخدمينه، فإنه إذ يحني رأسه في لحظة من الزمن تنتهي كل الشرور.

القديس يوحنا الذهبي الفم[527]

v   اختار أن يحتمل كل هذه الأمور إنما لكي يُعزي المتألمين.

القديس أغسطينوس[528]

في نبوة صريحة واضحة تحدث إشعياء النبي عن أحداث الصليب فقال على لسان المخلص: "بذلت ظهري للضاربين، وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق" [6].

v   اظهرت ليّ تدبير تعطفك.

احتملت ظلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط، وخديك اهملتهما للّطم. لأجلي يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق.

اتيت إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب...

القداس الاغريغوري

v   ذاك الجاهل كيف تجاسر وتَفل في وجهه؟!

كيف تجاسرت أيها اللسان ان تنضح بالبصاق؟!...

كيف احتملِت أيتها الأرض هزء الابن؟!...

منظر مخوف، مملوء دهشة، أن يرى الإنسان الشمع قائمًا يتفل في وجه اللهيب...

وهذه أيضًا من أجل آدم حدثت، لأنه كان مستحقًا البصاق، لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل هذا كله!

قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق!...

مار يعقوب السروجي[529]

سلم السيد المسيح نفسه للآلام حتى الأعماق، محتملاً كل خزي وعار ليكمل طريق الطاعة عنا وباسمنا، معلنًا عجز الألم والعار عن تحطيم المؤمنين، مؤكدًا أن طريق الصليب ملوكي يدخل بنا إلى بره، إذ يقول: "عرفت أني لا أخزى، قريب هو الذي يبررني" [7-8]. يقول الرسول بولس: "الفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره" (رو 3: 25).

v   أما قوله "لإظهار بره" فماذا يعني؟... ليس فقط من جهة كونه بارًا، وإنما يجعل أولئك الممولئين بقروح الخطية النتنة ابرارًا...

إذًا لا تشك... لا ترفض برّ الله الذي هو ليس بأعمال (الناموس) إنما بالإيمان (الحيّ) وهو سهل ومفتوح للجميع.

القديس يوحنا الذهبي الفم[530]

3. دعوة للطاعة:

أطاع الرب لكي يدعونا إلى الطاعة، فصار مثالاً لنا، كما صار عونًا فيه نختفي فنسلك طريق الطاعة... إذ يقول: "من منكم خائف الرب سامع لصوت عبده، من الذي يسلك في الظلمات ولا نور له، فليتكل على إسم الرب ويستند إلى إلهه" [10].

كأن من يريد التمتع بنور الطاعة والاستماع لصوت الرب ومسيحه فليتكل عليه لينقذه من ظلمات العصيان.

يُشبه العصاة بالقادحين نارًا من عندياتهم [11] ليبخروا للرب بخورًا غريبًا، ليس بخور الطاعة الممتزجة بالحب، إنما بخور الأنانية والاتكال على الذات... لذا يليق بنا ألا نشعل نار بِرّنا الذاتي وحكمتنا البشرية إنما نتقبل نار روح الله القدوس واهب البر والطاعة للوصية.

v ليتنا لا نسير على ضوء نارنا [11] واللهيب الذي أشعلناه نحن، فانني أعرف نارًا مطهرة أرسلها المسيح على الأرض (لو 12: 49)، وهو نفسه بطريقة رمزية بدا نارًا تبدد ما هو مادي في العادات الرديئة. هذه النار يريد أن يلهبها بسرعة، إذ يشتاق أن يسرع بنا إلى صنع الصلاح.

القديس غريغوريوس النزينزى[531]

<<


 

الأصحاح الحادي والخمسون

الشعب المفدّي

في الأصحاح السابق ظهر السيد المسيح كمخلص أطاع الآب حتى الموت، لكي بطاعته يفدينا ويخلصنا من روح العصيان، واهبًا إيانا روح الطاعة به وفيه. الآن نجده في هذا الأصحاح يدعو شعبه للتمتع بالفداء كحياة إنجيلية مفرحة، حياة مقامة فيه، خلالها نتمتع بخروج مستمر تحت قيادته بروح الغلبة على قوات الظلمة... هذا هو سر كل تعزية.

1. دعوة للتمتع بعمل الفداء          [1-16].

2. سرّ سقوط أورشليم               [17-20].

3. قيام بعد السقوط                  [21-23].

1. دعوة للتمتع بعمل الفداء:

في هذه الدعوة تكررت كلمة "اسمعوا" أو "انصتوا" ثلاث مرات [1، 4، 7]. فإن كان "كلمة الله" قد سمع وأطاع وهو الخالق والديان والمشرع فبالأولى أن يتسم  شعبه بروح الطاعة... وكأنه لا يمكن لنا الدخول إلى الحياة الإنجيلية والتمتع بالخلاص المجاني ما لم نسمع وننصت ليعمل الرب فينا.

ما هو مضمون الدعوة؟

أ. تكرار كلمة "اسمعوا" تعني أن الدعوة في صميمها حث على الطاعة، طاعة الإيمان المملؤة ثقة في الله وحبًا.

v [الطاعة تقيم أصدقاء الله]. أنه يقول: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يو 14: 15)، لم يقل "اصنعوا معجزات" إنما ماذا قال؟ "احفظوا وصاياي".

مرة أخرى: "أنتم أصدقائي" (يو 15: 14) ليس عندما تخرجون شياطين بل "إن فعلتم ما أوصيتكم به" ... لنُجاهد أن نصير أصدقاء الله لا أن نبقى أعداء له.

القديس يوحنا الذهبي الفم[532]

ب. "اسمعوا ليّ أيها التابعون البرّ الطالبون الرب" [1]. بالطاعة يتحول الاستماع إلى سلوك عملي، أي اتباع البر أو السير في طريق برّ الله، أما غاية ذلك فهو طلب الرب والالتقاء به والاتحاد معه. هذا هو إيماننا، وهذه هي مسيحيتنا: استماع، طاعة، حياة، اتحاد مع الرب!

ج. الاقتداء بإيمان إبراهيم؛ "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم وإلى نقرة الجب التي منها حُفرتم، انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم، لأني دعوته وهو واحد و باركته واكثرته" [1-2].

كأنه يقول لهم إن كنتم تستصعبون الدعوة، قائلين كيف نسمع صوت الرب ونتبع بره ونطلبه في حياتنا؟ انظروا إلى أبيكم إبراهيم وسارة التي ولدتكم. لقد جاء إبراهيم من عائلة وثنية، بل كان العالم كله في ذلك الوقت قد انحرف عن معرفة الله، فجاء إبراهيم كما من صخر قاس ومن طين في نقرة جب، لم يسمع من والديه كلمة تعزية؛ ولا تسلم شريعة إلهية، ولا سنده كاهن أو نبي، ومع هذا إذ دعوته استجاب، كان واحدًا وحيدًا في إيمانه فباركته وأكثرته... وصار شعبي من نسله!

حقًا إن كنا نسلم بأن آدم مخلوق من التراب، ونحن قد جُبلنا من الصخر ليس لنا إحساس روحي، بل تمرغنا كما في وحل الجب فلا نيأس، لأن أبانا إبراهيم هو أيضًا من نسل آدم وقبل الدعوة وأطاع ونال المواعيد الإلهية في نسله.

كان إبراهيم شيخًا وسارة زوجته عاقرًا، كان رحمها كصخر بلا حياة، عاجز عن الإنجاب، لكن الله أقام من الحجارة أولادًا لإبراهيم.

v   يمكن لله أن يخرج من الحجارة أناسًا... فإن الطفل الذي يُحبل به في رحم متحجر يكون كمن وُلد من حجارة...

الآن في هذه النبوة [1-2] ترون أنه يُظهر لهم بأنه أقام منذ البداية أبًا بطريقة معجزية كما من حجارة، وما حدث قبلاً يمكن أن يتحقق الآن (مت 3: 5).

القديس يوحنا الذهبي الفم[533]

v يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت 3: 9). يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا.

القديس جيروم[534]

د. دعوة معزية إذ يحوّل الله خرائبها وصحاريها إلى جنة للرب أو إلى فردوس. هذا هو عمل الله في كنيسته، يهب ثمار روحه القدوس لشعبه فيصير الكل ملكوتًا مثمرًا في الروح. "فإن الرب قد عزى صهيون، عزى كل خربها ويجعل بريتها كعدن وباديتها كجنة الرب" [3].

كثيرًا ما تحدث سفر إشعياء عن عمل الله الخلاصي كإقامة لملكوت الله المثمر، وتحويل البرية بستانًا روحيًا (إش 32: 5)، يسكنها الحق (إش 32: 6)، تفرح وتتهلل بالله ساكنها (إش 35: 1) الخ... الذي يُقيم منها فردوسًا وسماءً.

تطلع القديس يوحنا الذهبي الفم إلى الكنيسة خاصة عند ممارستها ليتورجيا الأفخارستيا (القداس الإلهي) كسماء، قائلاً: [هي أعلى من السماء وأكثر اتساعًا من المسكونة[535]. يتحدث على لسان السيد المسيح، فيقول:

"لقد غرستك في الفردوس، والشيطان طردك!

انظري، ها أنا اغرسك فيّ!

إني اسندك فلا يعود يقوى الشيطان على الاقتراب منك.

لا أرفعك إلى السماء، بل إلى هنا حيث رب السماء.

أحملك في داخلي أنا رب السماء!" [536]].

يقول القديس اكليمندس الاسكندري[537]: [إن الكنيسة الأرضية هي أيقونة الكنيسة السماوية، لهذا نُصلي كي تتحقق إرادة الله على الأرض كما في السماء. كما يقول: [إن سجلت نفسك كأحد أعضاء شعب الله تصير السماء مدينتك والله هو مشرعك[538]].

هـ. دعوة للفرح والبهجة؛ "الفرح والابتهاج يوجدان فيها؛ الحمد وصوت الترنم" [3]. هذا الخط واضح في السفر كله بكونه سفر الخلاص، يعلن عن قيام ملكوت الفرح الداخلي والترنم والتسبيح بلا انقطاع.

عندما زار القديس يوحنا كاسيان مصر، هاله أن يجد صحاريها وقُراها من الإسكندرية حتى أسوان قد امتلأت بالرهبان، لا يُسمع منهم إلاَّ صوت التسبيح غير المنقطع، حتى حسب نفسه أنه في السماء، متساءلاً: ألعل هؤلاء ملائكة أرضيون أم هم بشر سمائيون؟!.

هذه هي سمة الكنيسة الحقيقية: فرح داخلي لا ينقطع!

ينعكس هذا الفرح على كل حياة الكنيسة، وقد لاحظت مدام بوتشر أنه لم توجد أيقونة واحدة في كنائس مصر القديمة الفقيرة تحمل صورة شهيد يتعذب أو في ألم، ولا صورة للجحيم والعذابات، إنما كل الأيقونات يشع فيها روح الفرح والرجاء، حتى الشهداء تراهم فرحين يتطلعون نحو السماء، ناظرين إلى إكليل مجدهم.

انعكس الفرح على العبادة ففي كل يوم تقريبًا تحتفل الكنيسة بعيد سيدي أو عيد أحد الأنبياء أو الرسل أو السمائيين أو الشهداء الخ... وكأن الكنيسة تخلق جوًا من الفرح الروحي وسط متاعب هذه الحياة، فيختبر أولادها تعزيات الروح القدس وفرحه السماوي؛ فيعيش المؤمن يشارك السمائيين ليتورجياتهم وتهليلاتهم الهادئة المبهجة بغير انقطاع.

إحدى علامات الفرح البارزة في الكنيسة أن الكتاب المقدس - خاصة الأناجيل- أثناء الليتورجيات لا يُقرأ وإنما يُسبح به بنغم يملأ النفس تعزية. وقد شهد مستر ليدر الكاتب الإنجليزي المعروف في بداية القرن التاسع عشر عند زيارته مصر أن مجرد سماع الإنجيل أثناء القداس الإلهي في الكنيسة القبطية له أثر على النفس.

و. دعوة للكرازة، فإن من ينعم بفرح الخلاص لا يقدر أن يصمت عن الشهادة للحياة الإنجيلية، إنما يحمل شريعة الرب وإنجيله "نورًا للشعوب" [4]، مؤكدًا للكل أن الحياة في المسيح ليست ببعيدة ولا مستحيلة، فإن برّ المسيح قريب إلى كل قلب [5]، وذراعيه مبسوطتان بالحب على الصليب للشعوب، بكونه رجاء الكل [5].

الكرازة أو الشهادة لعمل المسيح الخلاصي من صميم حياة كل مسيحي، وليست من عمل الكاهن وحده، لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[ليس شيء تافه مثل مسيحي لا يهتم بخلاص الآخرين.

لا تقل إني فقير، فإن فلسي الأرملة يخجلانك. وبطرس أيضًا قال: "ليس ليّ فضة ولا ذهب"، وبولس كان فقيرًا حتى أنه كثيرًا ما عانى من الجوع.

لا تحتج بظروفك القاسية، فإنهم هم أيضًا كانوا في ظروف قاسية.

لا تحتج بجهلك، فقد كانوا غير متعلمين.

ربما تكون عبدًا هاربًا، انسيموس أيضًا كان هذا!

قد تكون مريضًا، تيموثاوس كان كذلك!

كل أحد يقدر أن يُعين أخاه حتى ولو بالإرادة الصالحة، إن لم تكن لديه القدرة أن يفعل شيئًا...

لا تقل أنك لا تستطيع أن تؤثر على الآخرين، فإنك مادمت مسيحيًا يستحيل إلاَّ أن تكون ذا تأثير... فإن هذا هو جوهر المسيحي.

إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئًا للآخرين يكون في قولك هذا تناقض، وذلك كالقول بأن الشمس لا تقدر أن تضيء[539]].

ز. دعوة لخلاص أبدي يتعدى السموات والأرض؛ "ارفعوا إلى السموات عيونكم، وانظروا إلى الأرض من تحت، فإن السموات كالدخان تضمحل والأرض كالثوب تُبلى، وسكانها كالبعوض يموتون، أما خلاصي فإلى الأبد يكون وبري لا يُنقض" [6].

نقض السموات والأرض مع بقاء الخلاص إلى الأبد، إنما يُشير إلى صلب الإنسان القديم للتمتع بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. يلزم أن تزول السموات القديمة والأرض القديمة فينا لنتمتع بالسموات الجديدة والأرض الجديدة التي سكانها ليس كالبعوض يموتون وإنما يسكنها برّ الرب الأبدي.

إن كانت السموات تُشير إلى النفس والأرض إلى الجسد، فإن اضمحلال السموات وبلاء الأرض يعنيان تحطيم أعمال الإنسان القديم بالنسبة للنفس كما للجسد، لتقديس نفوسنا وأجسادنا بكوننا الخلقة الجديدة المتجددة كل يوم بعمل روح الله القدوس.

أما قوله "وسكانها كالبعوض يموتون" [6] فيُشير إلى ضعف أعمال الإنسان القديمة، إنها كالبعوض تموت! أما أعمال الإنسان الجديد فهي برّ المسيح الذي لا ينقض، أو هي الحب الذي لا يسقط أبدًا.

ح. دعوة جادة وشجاعة لا تضطرب أمام مقاومة الناس؛ "لا تخافوا من تعيير الناس، ومن شتائمهم لا ترتاعوا، لأنه كالثوب يأكلهم العث، وكالصوف يأكلهم السوس، أما برّي فإلى الأبد يكون، وخلاصي إلى دور الأدوار" [7-8].

من يرفع نظره إلى المخلص الأبدي لا يخشى تصرفات الناس ومقاومتهم فإنها تبطل وتنتهي أما خلاصنا فيبقى أبديًا.

الإنسان الروحي الحيّ يتطلع إلى إنسانه القديم الذي خلعه في مياه المعمودية كثوب قد بلى، وكبعوض قد مات في ضعف، أما تعييرات الناس وشتائمهم فكثوب يأكله العث وكصوف يأكله السوس! إنها أمور زمنية بالية لن تبقى كثيرًا، نحتملها بلا اضطراب، فإننا بهذا نُشارك مخلصنا الذي احتمل التعييرات والإهانات بسرور من أجلنا. قابل الشر بالحب، محتملاً ضعفات الأشرار.

v   لا تطفئ النار بنار أخرى وإنما بالماء.

v   ليس ما يصد صانعي الشر عن شرهم مثل مقابلة المضرور ما يصيبه من ضرر برقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم[540]

ط. دعوة للتمتع بالحياة المقامة الغالبة للموت والمحطمة للتنين القاتل. "استيقظي استيقظي إلبسي قوة يا ذراع الرب، استيقظي كما في أيام القدم كما في الأدوار القديمة. ألستِ أنتِ القاطعة رهب الطاعنة التنين؟!" [9].

الكنيسة هي "ذراع الرب" التي تلبس قوة قيامته فتستيقظ كما من نوم الموت. لتقم الكنيسة كلها سواء الذين جاءوا من أصل يهودي أو أممي، لذا يُكرر كلمة "استيقظي" مرتين.

الله واهب النصرة أعطاها قديمًا قوة فغلبت مصر (الاسم الشعري رهب كما سبق فرأينا) حينما أنقذها من يد فرعون الذي غرق في مياه بحر سوف كتنين مطعون عاجز عن الحياة. الرب نفسه هو الذي يهب كنيسته في العهد الجديد قوة قيامته لا لتغلب فرعون بل قوات الظلمة، ولا لتجد لها طريقًا في وسط البحر وإنما لتعبر إلى السموات عينها.

v   الآن إذ بطل الموت (بقيامة السيد المسيح)، وانهدمت مملكة الشيطان امتلأ الكل فرحًا وسعادة.

البابا أثناسيوس الرسولي[541]

ى. دعوة للتمتع بالله نفسه كمعزٍ؛ "أنا أنا هو معزيكم" (إش 59: 12)، مع عدم طلب التعزيات البشرية ولا التخوف من مضايقات البشر، لأن حياتهم إنما هي كالعشب (إش 59: 12).

خلال تمتعنا بتعزيات الله يلزمنا ألا نخاف الإنسان لأنه زائل، ومضايقاته أيضًا زائلة، إن اضطربنا منه نعيش في فزع كل يوم [14] مع أنه لا يوجد ما يستحق ذلك.

لقد حل اليأس بالمأسورين وظنوا أنهم يموتون في السبي، لكن الله أكد لهم: "سريعًا يُطلق المنحنى (المأسورين) ولا يموت في الجب (في السبي) ولا يعدم خبزه" [14]. يليق بهم أن ينتظروا وعد الله ولا ييأسوا قط. إن كانت مملكة بابل قد أغرقتهم كالبحر فإن المخلص رب الجنود قادر أن يزعج بابل: "وأنا الرب إلهك مزعج البحر فتعج لججه، رب الجنود اسمه" (إش 49: 15).

2. سرّ سقوط أورشليم:

بعد أن قدم هذه الدعوة المفرحة للتمتع بالحياة الجديدة في الرب، أراد توضيح سرّ سَبي أورشليم حتى تدرك ضعفاتها وتقوم من سقطاتها. لذا بدأ بالقول: "انهضي انهضي قومي يا أورشليم" [17]. فما يكشفه من ضعفات أصابتها لا يعني به التشهير إنما هو كشف عن الجراحات لمعالجتها، وتوضيح لسرّ السقوط كي تنهض وتقوم. أما ضعفاتها فتتلخص في شُربها "من يد الرب كأس غضبه ثقل كأس الترنح شربتِ" [17].

كانت العادة أن يقدم للمحكوم عليهم بالإعدام كأس من خمر شديد حتى يترنحوا قبل تنفيذ الحكم؛ هكذا شربت أورشليم من يد الرب كأس غضبه على خطاياها لتدرك أنها سقطت تحت العقوبة لا بأسرها لبابل وإنما بأسرها تحت حكم الموت لأن خطاياها قد سبتها وأفقدتها وعيها.

لقد شربت بإرادتها من كأس العصيان فترنحت، ولم تجد من بينها من يمسك بيدها، صارت كأم يحتقرها أولادها دون أن يخجلوا. صار الذين يرثون لحالها هم "الخراب والانسحاق والجوع والسيف" [19].

3. قيام بعد سقوط:

مع كل كشف للضعف أو للشر يفتح الرب باب الرجاء للخلاص. لهذا بعدما كشف لها عن سرّ سقوطها لا في السبي البابلي بل في سبي الخطية وشربها من كأس غضب الله لتترنح، عاد يؤكد لها أنه يعفو عنها، ليُسلم الكأس لمضايقيها الذين قالوا لنفسها "انحني لنعبر، فوضعت كالأرض ظهرها وكالزقاق للعابرين". كانت العادة أن يمر الغالبون بأقدامهم على أعناق المهزومين. لهذا أمرها الغالبون أن تلقى بنفسها على الأرض ليسير العدو على ظهرها كزقاق ضيق يعبرون فيه. لقد عاشت في مذلة لأنها تركت الله وعصته... الآن يغفر لها ويُحررها!

<<


 

الأصحاح الثاني والخمسون

بهجَة الخلاص

بعدما أعلن عن دعوته الجامعة للتمتع بعمل الخلاص الفريد كشف عن ضعفات شعبه التي بسببها ذاقوا المرارة، الآن وقد فتح لهم باب الرجاء على مصراعيه يتحدث عن بهجة الخلاص وروعته.

1. البسي ثياب جمالك      [1-2].

2. خلاص مجاني           [3-6].

3. بشارة مفرحة            [7-10].

4. اعتزال الشر             [11-12].

5. مجد عبد الرب           [13-15].

1. البسي ثياب جمالك:

"استيقظي استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة، لأنه لا يعود يدخلك في ما بعد أغلف ولا نجس، انتفضي من التراب، قومي اجلسي يا أورشليم، انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون" [1-2].

بينما يؤكد النبي عودة الشعب من السبي بكرامة لم يكن يتوقعها إذ به يتحدث عن عودة البشرية إلى مكانها الأول، رجوعها إلى مدينة الله الروحية وتمتعها ببهائه الفائق لتعيش حرة من كل نجاسة كما أراد الله لها...

الله يحب الإنسان ويشتاق أن يدخل به إلى الأمجاد ليعيش في حياة قدسية مكرمة ومجيدة، لهذا جاءت الدعوة هنا للتمتع بالبركات الإلهية التالية:

أ. الحياة المقامة المجيدة: "استيقظي استيقظي"، فقد انحدرت كما إلى القبر لتضطجع وسط الظلمة ويحل بها الفساد. هذا هو حال إسرائيل في بابل حيث فقدوا كل رجاء في العودة إلى بلادهم وتمتعهم بالحرية، فحسبوا أنفسهم كأموات. هذا هو حال كل إنسان أسرته الخطية فانهارت حياته الداخلية وفقد الإرادة الصالحة والقدرة على التمتع بالحياة القدسية ليصير أشبه بميت يحل به الفساد. أنه محتاج إلى من يوقظه من موت الخطية، ويهبه الحياة الجديدة المقامة.

يقول الرسول: "لذلك يقول: استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14). "وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع" (أف 2: 6).

الآن قد جاء المخلص إلى كل نفس ساقطة ومهانة ليُناجيها قائلاً: "مررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب، فبسطت ذيلي عليك" (حز 16: 8)... ماذا يعني بسط ذيله عليها إلاَّ قبولها عروسًا له تتحد معه وتتمتع بحياته المقامة؟! جاءها كعريس لتجد فيه "القيامة" فتستيقظ كما من الموت الأبدي. هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح" (رو 5: 17).

هكذا تتحد النفس بالعريس واهب الحياة فتخلع عنها الأكفان وترتدي ثوب العرس: "البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة" [1]. يقول لها: "البستك مطرزه ونعلتك بالتخس وأزرتك بالكتان وكسوتك بزًا، وحليتك بالحلي... وجَملتِ جدًا جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب" (حز 16: 10-14). ما هو هذا اللباس الذي سكب عليها بهاء الرب فجمُلت جدًا جدًا وصلحت أن تكون ملكة إلاَّ شخص المسيح نفسه الذي نختفي فيه كقول الرسول: "قد لبستم المسيح" (غل 1: 27).

v يليق بالكنيسة كلها أن تتهلل مسبحة السيد المسيح على مثال النسوة القديسات حينما تحققن قيامة الرب، هذا الذي أيقظ البشرية من النوم، إذ أعطاها الحياة وملأها بنور الإيمان.

القديس إيرونيموس[542]

v   اليوم هو "عيد القيامة"، وإنه ليّ لبداية جديدة.

v لقد مسحني السرّ الإلهي... الذي يحضرني إلى هذا اليوم العظيم المشرق، واهبًا عونًا لضعفي، فيعطيني ذاك الذي قام من الأموات - في مثل هذا اليوم- حياة لنفسي أيضًا، ويلبسني الإنسان الجديد (إف 4: 23-24)، ويجعلني من الخليقة الجديدة من هؤلاء الذين وُلدوا من الله... فأكون مستعدًا أن أموت معه وأقوم أيضًا معه...

بالأمس (الجمعة العظيمة) ذُبح الحمل ورُشت القوائم بدمه... وعبر الملاك المهلك بسيفه المهلك مرتعبًا وخائفًا... لأننا محفوظون بالدم الثمين.

بالأمس قد صُلبت مع المسيح، واليوم أنا ممجد فيه!

بالأمس مُت معه، واليوم وُهبت حياة معه!

بالأمس دُفنت معه، واليوم أقوم معه!...

من استطاع أن يتفهم هذا السرّ العظيم في المسيح وما صنعه لأجلنا ولم يُعطِ المسيح نفسه فهو لم يعطه شيئًا!

القديس غريغوريوس النزينزى[543]

ب. تصير مدينة مقدسة لا يعود يدخلها أغلف ولا نجس، أي لا يدوسها بعد الغرباء. كمدينة الله تتقدس من كل نجاسة لتحمل طبيعة الحياة السماوية اللائقة بالملك السماوي.

v   الآن يا أحبائي... قد ذُبح الشيطان، ذاك الطاغية الذي هو ضد العالم كله، فنحن لا نقترب من عيد زمني بل من عيد دائم سماوي... 

الآن بطل الموت، وانهدمت مملكة الشيطان، لذلك امتلأ كل شيء بالفرح والسعادة...

يلزمنا أن نقترب إلى العيد هكذا لا بثوب مدنس، بل أن تلتحف نفوسنا بأثواب طاهرة. يلزمنا أن نلبس ربنا يسوع (رو 13: 4)، حتى نستطيع أن نحتفل بالعيد معه.

الآن نحن نلبسه عندما نحب الفضيلة ونبغض الشر؛ عندما نُدرب أنفسنا على العفة ونُميت شهواتنا؛ عندما نحب البرّ لا الإثم؛ عندما نُكرم القناعة، ويكون لنا العقل الراسخ؛ عندما لا ننسى الفقير بل نفتح أبوابنا لجميع البشر؛ عندما نعين الضعفاء وننبذ الكبرياء.

البابا أثناسيوس الرسولي[544]

ج. تنتفض من التراب، إذ لا تعود تتعلق النفس بالزمنيات وإنما تطلب ملكوت الله وبره أولاً وهذه كلها تزاد لها. تحيا منطلقة نحو الأبدية متحررة من رباطات العالم.

د. تقوم كملكة لتجلس على كرسي المُلك [2]، بعدما كانت أَمَة وعبدة أسيرة تجلس في التراب تخدم سادتها في مذلة وهوان، تقوم إلى يمين الملك السماوي. وكما يقول المرتل: "جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير" (مز 45: 9).

هـ. التمتع بالحرية: "انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون" [2]. بعدما كانت مربوطة من عنقها لتُسحب كإحدى الحيوانات في السبي انحلت هذه الربط وعادت إليها كرامة الحرية لتعيش سيدة نفسها، صاحبة سلطان داخلي. إن كانت الخطية تذل الإنسان لتسحبه كما تشاء، تلهو به كألعوبة في يدي عدو الخير، ففي المسيح يسوع يعيش الإنسان ملكًا (رؤ 1: 6)، يحمل سلطانًا على قلبه وفكره وأحاسيسه وجسده.

في اختصار يقوم الإنسان من موت الخطية، يخلع أكفانه ويلبس السيد المسيح نفسه ثوبًا أبديًا، يرفض كل نجاسة ليحمل برّ المسيح فيه، ينتفض من تراب محبة الأرضيات لتحلق نفسه في السمويات، يقوم من المذلة ليجلس عن يمين الله ليتمتع بشركة الأمجاد. تُفك قيوده الداخلية لينعم بحرية مجد أولاد الله.

2. خلاص مجاني:

"فإنه هكذا قال الرب: مجانًا بُعْتُم وبلا فضة تُفكون" [3]. لم يبع الله شعبه لبابل، إنما هم الذين باعوا أنفسهم بأنفسهم خلال تركهم الله وعصيانهم له، فسلمهم لهم. لم ينالوا شيئًا مقابل ذلك ولا نال الله شيئًا، لأن بابل لم تشكر الله الذي سلمهم هذا الشعب كأسرى بل جدفوا عليه. كأن الله لا يود تسليمهم لبابل لكنهم ألزموه ببيعهم أنفسهم للخطية والرجاسات الوثنية.

لقد سبق فنزل شعب الله إلى مصر وتغرب هناك وأذله فرعون؛ ومع ذلك لم يتعلم فباع نفسه لآشور الذي ظلمه بلا سبب أو بلا إثارة من جهة الشعب ضد آشور... لهذا يتدخل الله ليُخلص شعبه ويتمجد إسمه القدوس.

نحن أيضًا سلمنا أنفسنا لسلطان الخطية واستعبدنا أنفسنا لعدو الخير بلا ثمن... الآن تقدم المخلص ليفكنا مجانًا، لا بذهب أوفضة وإنما بدمه الثمين (رؤ 5: 9).

3. بشارة مفرحة:

جاءت البشارة برد الشعب عن السبي من قبل الرب نفسه الذي ملك على شعبه [7]، فارتفعت أصوات التسبيح والترنم، لا من أجل رجوعهم إلى بلادهم وإنما من أجل "رجوع الرب إلى صهيون" [8]. جاء بنفسه ليُعزي شعبه، ويشمر ذراع قدسه للعمل لإصلاح ما حلّ بشعبه ومدينته من خراب، ليعلن علانية "أمام عيون كل الأمم" [10] لتمجده كل أطراف الأرض.

جاء الحديث بالأكثر عن البشارة المفرحة الخاصة بإنجيل الخلاص:

"ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون: قد ملك إلهك" [7]. ما هما هاتان القدمان الجميلتان إلاَّ كنيسة العهد الجديد التي تنطق خلال كلمة الله (الجبال) لتُبشر بالإنجيل وتعلن أن ربنا يسوع قد ملك على خشبة وأنه أقامنا معه؟!

v يرى (إشعياء) أنه ما أجمل وما أليق كرازة الرسل السالكين في (الرب) القائل "أنا هو الطريق"، ممتدحًا أقدام السالكين في الطريق العقلي الذي ليسوع المسيح، فأنه خلال هذا الباب يدخلون إلى الله (الآب). إنهم يبشرون بالأخبار السارة، هؤلاء الذين اقدامهم جميلة إذ صار لهم يسوع (طريقًا لأقدامهم وسرًا لجمالهم).

العلامة أوريجانوس[545]

v عندما يكرزون لنا بإنجيل هذا السلام الذي سبق فتنبأ عنه: "ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخير" [7]، يبدأ كل واحد منا أن يكون ابنًا للسلام بطاعته وإيمانه بهذا الإنجيل، فإنه يتبرر بالإيمان ينال سلامًا مع الله[546].

v   ما هما قدما الرب؟ أنهما الإنجيليون القديسون[547]!.

v   خلال أقدام البشر الجميلة المخبرة بالصالحات صارت قلوب البشرية طريقًا مفتوحًا للرب[548].

القديس أغسطينوس

4. اعتزال الشر:

بروح النبوة رأى إشعياء الكهنة حاملي آنية الرب التي أخذها نبوخذ نصَّر والتي استعملها بيلشاصَّر في الوليمة باستخفاف (عز 1: 7-11)، في موكب مهيب استغرق حوالي أربعة شهور.

كشف النبي عن سرّ مهابة هذا الموكب ألا وهو:

أ. من الجانب السلبي: اعتزال الشر والخروج المستمر من أسر الخطية؛ "اعتزلوا اعتزلوا، اخرجوا من هناك، لا تمسوا نجسًا؛ اخرجوا من وسطها، تطهروا يا حاملي آنية الرب" [11]. دعوة للخروج المستمر كقول الرسول: "لذلك أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب، ولا تمسوا نجسًا فأقبلكم، وأكون لكم أبًا وأنتم تكونون ليّ بنين وبنات" (2 كو 6: 17-18).

v ينصح بولس قائلاً: "اعزلوا الخبيث من بينكم"، "حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل" (1 كو 5: 13، 2). إنه أمر مرعب، ومرعب حقًا، هو مجمع الأشرار، فإن وباءهم ينتقل بسرعة ويؤثر على من يتعاملون معهم كمن هم مرضى... "فإن المعاشرات الرديئة تُفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33)... ليته لا يكون لأحد صديق شرير.

القديس يوحنا الذهبي الفم[549]

ب. من الجانب الإيجابي: قبول الله نفسه قائدًا للموكب، لهذا نخرج في هدوء وطمأنينة واثقين من قدرة قائدنا وحمايته لنا كل الطريق؛ "لانكم لا تخرجون بالعجلة، ولا تذهبون هاربين؛ لأن الرب سائر أمامكم وإله إسرائيل يجمع ساقتكم" [12].

5. مجد عبد الرب:

إذ أوصى أن يقود الرب المخلص الموكب، قدم لنا صورة عن مجد المخلص الذي صار عبدًا ليتمجد لحسابنا وباسمنا، وقد فسر اليهود القدامى هذا النص على أنه خاص بالمسيا.

أ. "هوذا عبدي": صار الكلمة جسدًا، وحُسب عبدًا للآب كنائب عن البشرية، العبد الذي يطيع فنُحسب فيه مطيعين لله.

ب. "يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جدًا" [13]، هو حكمة الله، من أجلنا قبل روح الحكمة والفهم يستقر عليه (إش 11: 2) مع كونه هو روحه القدوس الغير منفصل عنه.

ج. منظره على الصليب أثار دهشة السمائيين والأرضيين: "كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مُفْسدًا أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم" [14]. هذا ما سيعلنه باكثر وضوح في الأصحاح التالي: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه..." (إش 53: 2-3).

د. خلال هذا المنظر المؤلم كذبيحة مرفوعة على الصليب نضح بدمه على الأمم فقدّسهم له، وسد أفواه ملوك (ربما يعنى قوات الظلمة) إذ أبصروا خلاصًا لم يكونوا يدركونه من قبل.

<<

 

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الثالث والخمسون

المسيح المصلوب

يعتبر هذا الأصحاح من أروع الأصحاحات المحببة لدى المؤمنين لأنه يكشف عن سر الصليب وقوته، حيث بسط الرب يديه بالحب العملي ليخلص البشرية، كما سبق فقال: "وأخلصكم بذراع ممدودة" (خر 6: 6).

تحدث عن منظر المخلص أنه "كذا مُفْسَدًا أكثر من الرجل" (إش52: 14)، لكن خلال هذا المنظر المؤلم نضح بحبه ودمه على أمم كثيرين ففداهم (إش 52: 15). هذا ما يعلنه هذا الأصحاح بكل وضوح. وكما يقول القديس أكليمندس الروماني: [المسيح هو مسيح المتواضعين لا المتعجرفين على قطيعه. فإن صولجان عظمة الله، ربنا يسوع المسيح لم يأتِ في موكب الكبرياء والزهو، مع أنه كان قادرًا أن يفعل هذا، لكنه جاء في اتضاع كما أعلن عنه الروح القدس[550]].

1. الصليب سرّ فائق                 [1].

2. الصليب عار وخزي               [2-3].

3. الصليب فداء وخلاص             [4-12].

1. الصليب سرّ فائق:

يفتتح النبي حديثه عن الصليب قائلاً: "من صدق خبرنا؟! ولمن استعلنت ذراع الرب؟!" [1].

إن كان معاصرو إشعياء النبي لم يستطيعوا قبول النبوات الخاصة بظهور كورش لرد الشعب من السبي البابلي فكيف يقدرون أن يصدقوا أمر الصليب؟! حقًا إنه سرّ عجيب يقف أمامه السمائيون والأرضيون في دهشة إذ يرون ذراع الرب قد استعلنت خلال التجسد لكي يبسط الرب يديه على الصليب ليحتضن الأمم، واهبًا إياهم قوة قيامته وبهجتها خلال شركتهم آلامه وصلبه.

v   أن الله، ابن الله، ذراع الرب يحتمل آلامًا كهذه!

القديس كيرلس الأورشليمي[551]

يبقى موضوع استعلان ذراع الرب أو تجسد كلمة الله موضوع دهش الخليقة السماوية والأرضية، كيف يصير الكلمة جسدًا‍؟!

v   بأي كلمات نبارك الله، وأي شكر يمكننا أن نقدمه له؟!...

لقد أحبنا، حتى أنه وهو الكائن الأزلي، الأقدم من كل المسكونة ذاتها صار في السن أصغر من كثير من خدامه في العالم!

كطفل كان يصيح في طفولة غير متكلمة وهو "الكلمة" الذي بدونه تعجز كل فصاحة البشر عن الكلام!

أنظر يا إنسان ماذا صار الله من أجلك؟!...

مع كونك إنسانًا أردت أن تكون إلها فضللت! وهو مع كونه الله أراد أن يكون إنسانًا لكي يرد ذاك الذي ضل!

الكبرياء الإنسانية هبطت بك أسفل، لكي ما بالاتضاع الإلهي وحده ترتفع إلى فوق!

القديس أغسطينوس[552]

v   لم يستطع أحد أن يتكلم عن أزليتك، فلأتكلم عن مجيئك يا معلمي بالدهش...

الحب جذبك لتأتي إلى بلدنا من أجلنا... صرت معنا ومنا وأنت ربنا!

هوذا عمانوئيل معنا بجوارنا، ومن أجل هذا تكلمت الألسن غير المستأهلة لك...

القديس يعقوب السروجي[553]

بقوله "ولمن استعلنت ذراع الرب؟!" [1] يعني ظهور السيد المسيح ليس فقط خلال التاريخ، الأمر الذي يُذهل الخليقة كلها، وإنما ظهوره في حياتنا الشخصية أو تجليه المستمر في القلب كمصدر شبع داخلي.

v   ذراع الرب هو المسيح، فلا تنسه! لا تجعل (الأعداء الروحيين) يفرحون قائلين: إنما يوجد المسيحيون إلى حين![554].

v   "ولمن استعلنت ذراع الرب؟!"

باعطائك مسيحه يهبك ذراعه، وباعطائك ذراعه يهبك مسيحه.

إنه يقود (الإنسان) إلى الطريق بقيادته إلى مسيحه. ويقوده إلى مسيحه بقيادته إلى الطريق، والمسيح هو الحق[555].

v   "تفتح يدك فتشبع خيرًا" (مز 104: 28).

ماذا يعني فتح يدك يارب؟ المسيح هو يدك. "لمن استعلنت ذراع الرب؟!" إنها تفتح عندما تُستعلن، فإن الإعلان هو انفتاح. "تفتح يدك فتشبع خيرًا"؛ عندما تعلن عن مسيحك تشبع خيرًا[556].

القديس أغسطينوس

مسيحنا - ذراع الآب -  قد استعلن لنا لكي نتمتع به كسرّ حياتنا، قائلين: "فإن الحياة قد أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1 يو 1: 2).

2. الصليب عار وخزي:

جاء الرب المخلص كغصن ينبت قدام إسرائيل وكجذر من أرض يابسة لذلك استخف به الشعب، وخاصته لم تقبله.

"نبت قدامه كفرخ" [2]، إذ جاء من نسل داود كنبتة صغيرة، كغصن وهو خالق الكرمة وموجدها. جاء مختفيًا، في اتضاع، لذا رُمز إليه بالعليقة الملتهبة نارًا التي تبدو نباتًا ضعيفًا لا قوة له، لكنه بلاهوته نار متقدة!

جاء "قدام" إسرائيل بكونه الراعي الذي يتقدم قطيعه!

"وكعرق من أرض يابسة" [2]؛ جاء ظهوره بطريقة غير متوقعة، فقد ظن اليهود أن يروا المسيا ملكًا عظيمًا ذا سلطان، قادرًا أن يُحطم الإمبراطورية الرومانية ويقيم دولة تسود العالم؛ أما هو فجاء كجذرٍ مختفٍ في أرض جافة لا يتوقع أحد أنه ينبت ويأتي بثمر. جاء من أرض يابسة إذ ولد من القديسة مريم المخطوبة ليوسف النجار، وكان كلاهما فقيرين؛ "افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9).

جاء السيد المسيح كعْرقٍ من أرض يابسة، إذ كان اليهود في ذلك الحين في حالة جفاف شديد، جاء وسط اليبوسة ليقيم من البرية فردوسًا. قالت عنه العروس: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين" (نش 2: 3).

"لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به" [2-3].

هنا ينتقل النبي من منظر التجسد إلى منظر الصليب؛ في التجسد رآه نبتة صغيرة من نسل داود، وجذرًا من أرض يابسة، جاء كابن للبشر حين كانت البشرية كلها بما فيها شعب الله في يبوسة تامة، وجاء من عائلة فقيرة حتى قال نثنائيل: أمن الناصرة يخرج شيء صالح؟! الآن يتطلع النبي إلى منظر الصليب، فيراه بلا صورة، بلا جمال، بلا منظر، محتقر لا يجسر أحد أن يقترب إليه، رجل أحزان، نخفي وجوهنا ونسترها عن رؤيته بسبب الحزن الشديد.

v ليس له شكل ولا جمال في أعين اليهود، أما بالنسبة لداود فهو أبرع جمالاً من بني البشر (مز 45: 2). على الجبل (أثناء التجلي) كان بهيًا ومضيئًا أكثر من الشمس (مت 17: 2)، مشيرًا إلينا نحو سره المستقبل.

القديس غريغوريوس النزينزي[557]

v ذاك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنه الملك من داخل (مز 45: 2).

القديس أغسطينوس[558]

3. الصليب فداء وخلاص:

بعد أن تحدث عن الصليب من الخارج دخل بنا إلى الأعماق لنكتشف سره وقوته كذبيحة أثم وكفارة عن خطايانا، إذ يقول:

"لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً" [4]. ما حمله ليس أحزانه ولا أوجاعه إنما هي أحزاننا وهمومنا وجراحاتنا...

ما يحمله إنما هو ثقل خطايانا التي انحنى بإرادته ليحملها بحبه في جسده عنا.

v لقد حمل خطايانا واحتمل أمراضنا ومع هذا لم يُعانِ من شيء يحتاج إلى علاج، فقد جُرب في كل شيء مثلنا ولم يكن فيه خطية. من يضطهد النور الذي يضيء في الظلمة لا يقدر أن يغلبه[559].

v   لقد سُحق وجُرح لكنه شَفى كل مرض وكل ضعف[560].

القديس غريغوريوس النزنيزي

v   لا تخجل من المصلوب بل بالحرى تفتخر به قائلاً: خطايانا حملها، أحزاننا تحملها وبجراحاته شُفينا.

القديس كيرلس الأورشليمي[561]

حمل السيد المسيح أحزاننا كما شاهدناه في بستان جثسيماني وهو يشرب كأسنا حتى النهاية، في كل مرارتها، إذ صلى لأبيه قائلاً: "يا أبتاه إن لم يكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك" (مت 26: 42). لقد أخذ بطرس وابني زبدي ليروه قد أبتدأ يحزن ويكتئب، قائلاً لهم: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38).

"الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" (2 كو 5: 21)، إذ قدم نفسه ذبيحة إثم يحمل خطايانا وآثامنا ويكفر عنها. "وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه [لولا احتماله التأديب عنا لما تمتعنا بالسلام] وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا" [5-6].

v   سلم الرب جسده للموت لكي نتقدس خلال مغفرة الخطايا التي تتحقق برش دمه...

يلزمنا أن نشكر الرب من الأعماق لأنه أخبرنا عن الأمور الماضية، وأعطانا حكمة بخصوص الأمور الحاضرة، ولم يتركنا بغير فهم بخصوص الأمور المستقبلة.

الرسالة إلى برناباس[562]

v   إننا نتنقى بدمه الثمين الذي يُطهرنا من كل خطية، دمه الذي لا يصرخ للنقمة مثل دم هابيل (عب 12: 24).

البابا أثناسيوس الرسولي[563]

v ليتنا نُذكّرِ أنفسنا نفع الإيمان الحقيقي. فإنه من المفيد ليّ أن أعرف أن المسيح حمل ضعفاتي لأجلي، وخضع  لآلام جسدي؛ حتى انه من أجلي- أي لأجل كل واحد - صار خطية ولعنة (2 كو 5: 21؛ غل 3: 13).

من أجلي اتضع وخضع!...

صار لعنة - لا من جهة لاهوته بل من جهة ناسوته - إذ هو مكتوب "ملعون كل من عُلق على خشبة" (غلا 3: 13).

بالجسد علق، ولهذا صار لعنة، ذاك الذي حمل لعنتنا!

بكى حتى لا تبكي أيها الإنسان كثيرًا!

يا له من علاج مجيد! أن تكون لنا تعزية المسيح.

لقد احتمل هذه الأمور بصبر عجيب من أجلنا... ونحن حقًا لا نقدر أن نحتمل الصبر العادي من أجل أسمه.

هوذا دموعه تغسلنا وبكاؤه يُنظفنا!

القديس أمبروسيوس[564]

v   بالموت أقام الموتى من الموت، إذ حمل اللعنة مخلصًا إيانا منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم[565]

v   بموت البار الذي تم بمحض اختياره، نزع موت الخطاة الذي حدث بالضرورة كحكم نستحقه.

القديس أغسطينوس[566]

"ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" [7].

يتحدث النبي هنا في صيغة الماضي وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه هي عادة الأنبياء في القديم أن يتحدثوا عن المستقبل كما عن الماضي[567]].

v   بالتأكيد تتحدث النبوة بأكثر وضوح عن الرب يسوع عندما قيل "مثل حمل سيق إلى الذبح" [7] (بكونه فصحنا).

لقد مُسحت جبهتك بعلامة (دمه) وأيضًا القائمتان، إذ حمل كل المسيحيين ذات العلامة.

القديس أغسطينوس[568]

v عندما دخل (بيلاطس ورجال الدين) في حوار الواحد مع الآخرين كان في سلامة، محققًا قول النبي: "لم يفتح فاه، وفي اتضاعه انتزع حكمه" [7-8] (الترجمة السبعينية).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لاق به أن يكون صامتًا أثناء آلامه، ولكنه لا يكون صامتًا في الدينونة.

جاء لكي يُحاكَم، ذاك الذي يأتي بعد ذلك ديانًا، لهذا سيأتي بسلطان ليدين، ذاك الذي في اتضاع عظيم حُكم عليه[569].

v   لقد احتمل الشر بصبر، إذ كان يجلب البر فيما بعد[570].

v   إذ أُقتيد كذبيحة "أمام جازيه لم يفتح فاه"، وعندما صُلب ودفن كان دائمًا إله الآلهة الخفي[571].

القديس أغسطينوس

v   ما جُلد صمت! ولما صُلب صلى لأجل صالبيه! بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟! كأس الخلاص آخذ وادعو اسم الرب.

القديس أيرونيموس[572]

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح صمت أثناء محاكمته والاستهزاء به لأنه أخفى لاهوته حتى يتمموا ما أرادوه، أما في مجيئه الأخير ليُدين "فيُعطي صوته صوت قوة" (مز 68: 33) "لا يصمت" (مز 50: 3)، إذ يعلن لاهوته.

"وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي" [8].

v   "في جيله من يقصه" [8]. لقد وُلد أزليًا... وُلد من الآب بلا زمن، ووُلد من البتول في ملء الأزمنة.

القديس أغسطينوس[573]

"وجُعل مع الأشرار قبره ومع غنى عند موته، على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" [9].

v   صلبوه مع لصوص، محققين النبوة لا إراديًا. ما فعلوه لإهانته حسب للحق لكي تدرك قوة النبوة العظيمة...

حاول الشيطان أن يلقي بحجاب على ما حدث لكنه عجز، لأنه الثلاثة صلبوا أما  يسوع فوحده تمجّد حتى نُدرك سلطانه على الكل. لقد حدثت معجزات عندما سُمر الثلاثة على الصلبان، لكن أحدًا ما لم ينسب ما حدث للاثنين الآخرين بل ليسوع وحده. هكذا أُحبطت خطة الشيطان تمامًا وارتد الكل على رأسه فقد خلص واحد من اللصين، هذا الذي لم يسيء إلى مجد الصليب بل ساهم فيه ليس بقليل. فإن تغيير لص وهو على الصليب وجذبه إلى الفردوس ليس بأقل من زلزلة الصخور.

القديس يوحنا الذهبي الفم[574]

يرى القديس أغسطينوس أن النبوة "وجُعل مع الأشرار قبره" قد تحققت بإقامة حراس أشرار عند قبر السيد المسيح قبلوا رشوة ليكذبوا قائلين "إن تلاميذه أتوا وسرقوه ونحن نيام" (مت 28: 13). لقد نطقوا كذبًا فشهدوا عن قيامته، إذ ما داموا نيامًا فكيف عرفوا أن تلاميذه سرقوه؟![575]. لقد شهدوا أن جسده ليس في القبر أما اتهامهم سرقة الجسد فهو أمر لا يقبله العقل.

"من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصى مع أثمه وهو حمل خطية كثيِريِن وشفع في المذنبين" [12].

v إن كان من أجلك ومن أجل خطاياك أُحصى مع أثمة فلتكن حافظًا للناموس لأجله. اعبد ذاك الذي عُلق من أجلك حتى وإن كنت أنت معلقًا... أشترِ خلاصك بموتك وأدخل مع يسوع إلى الفردوس لتعرف من أين سقطت (رؤ 2: 5).

القديس غريغوريوس النزينزي[576]

v   إنه يشفع فينا كل يوم غاسلاً أقدامنا، ونحن أيضًا نحتاج إلى غسل أقدامنا يوميًا بسلوكنا بالحق بخطوات روحية، فنعرف الصلاة الربانية، قائلين:

"واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12).

القديس أغسطينوس[577]

<<

الأصحاح الرابع والخمسون

دعوة الكنيسة للترنم

بعدما تحدث عن آلام المسيح المخّلصة يدعو الكنيسة لحياة التسبيح والفرح، فقد وجدت عريسها السماوي الذي يهبها خصوبة روحية وثمرًا متكاثرًا عوض العقر وعدم الاثمار. رفعها من المذلة  إلى مجد أولاد الله، ومن الفساد إلى بره السماوي. واهبًا إياها نصرة على كل قوات العدو.

1. تسبيح من أجل الإثمار                      [1-3].

2. تسبيح من أجل عريس السماوي            [4-10].

3. تسبيح من أجل تجديدها                     [11-13].

4. تسبيح من أجل نصرتها                     [14-17].

1. تسبيح من أجل الإثمار:

"ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب" [1].

يرى العلامة أوريجانوس أن البعل أو الزوج هنا هو الناموس[578] الذي ارتبط به الشعب القديم كزوج، وكان يليق به أن يُقدم ثمرًا متكاثرًا، بينما حُرمت الأمم منه لكنها إذ اتحدت بالسيد المسيح خلال الإيمان به أنجبت أولادًا مقدسين للرب.

يقارن القديس أغسطينوس[579] بين كنيسة العهد القديم وكنيسة العهد الجديد، الأولى تزوجت بالناموس فصارت مع أولادها في عبودية لأنها كانت تطلب البركات الزمنية، أما الثانية فهي تتعبد لله من أجله هو ليكون هو الكل في الكل، خدمتها حرة تخص أولاد المرأة الحرة لا الجارية، هذه كانت قبلاً عاقرًا ولم يكن لها أولاد أما الآن فصار لها أولاد كثيرون أكثر مما كان للأولى... هذا يهبها فرحًا وترنمًا.

ما نقوله عن كنيسة العهد الجديد ككل نقوله عن كل نفس ترتبط بها، فانه مهما كانت حياتنا الماضية عقيمة وجافة فإن مراحم الرب المتسعة قادرة أن تهبنا ثمارًا روحية

للنفس (بنين) وللجسد (بنات)، بقبولنا الصليب وتمتعنا بالقيامة معه.

v جاء الناموس يعمل ليجعل الناس أبرارًا لكنه لم يستطع، فجاء (المسيح) وفتح طريق البر بالإيمان، وبهذا حقق ما اشتهاه الناموس. ما لم يستطع الناموس أن يحققه بالحرف حققه هو بالإيمان.

القديس يوحنا الذهبي الفم[580]

 

v   تمتد الكنيسة يمينًا ويسارًا فلا تعود تذكر عار ترملها[581].

v لقد دُعيت أورشليم، لكن أورشليم الأولى رفضت أن تسمع، فقيل لها: "هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا..." (مت 23: 38). أما تلك التي كُتب عنها: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد"... فلم تحتقر الذي دعاها. إنه يرسل لها مطرًا ويهبها ثمرًا...

دعا الكنيسة من كل العالم بعد قيامته، فلا تعود ضعيفة على الصليب بل قوية في السماء[582].

v تتحقق تلك النبوة التي يتحدث فيها إشعياء على لسانك إلى كنيستك، مدينتك المقدسة، العاقر التي لها أولاد وهي مستوحشة أكثر من تلك التي لها زوج. فقد قيل لها بالحق: "افرحي أيتها العاقر التي لم تلد..." أكثر من الأمة اليهودية التي لها زوج بتسلمها الناموس، واكثر من تلك التي لها ملك منظور. فإنَّ ملكك أنتِ مخفي، ولكِ أولاد كثيرون من العريس الخفي[583].

القديس أغسطينوس

ما هي نتيجة هذا الإثمار؟

أ. "اوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك؛ لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أممًا ويُعْمِرُ مدنًا خربة" [2-3].

تطلع النبي إلى كنيسة العهد الجديد كخيمة اجتماع مع الرب وقد جاء إليها أعداد بلا حصر من اليمين (اليهود) ومن اليسار (الأمم) في فيض لا ينقطع حتى ضاق الموضع جدًا فطلب توسيع مكان الخيمة وبسط الشقق المصنوعة منها واطالة اطنابها... فإنها تمتد لتصير الأرض للرب ولمسيحه؛ إنها تحول أممًا وثنية إلى مقادس للرب، وتعمر مدنًا خربة إلى

مساكن مقدسة لشعب الله.

هذه هي صورة النفس التي تلتقي بالصليب، تصير بالحق خيمة الرب التي يتسع قلبها يومًا فيومًا ليحمل صورة المخلص محب البشر. يفتح أعماقه للصالحين (الذين من اليمين) والطالحين (الذين من اليسار) لكي يضم بالحب كل نفس إلى حياة الشركة مع الله في ابنه بالروح القدس. كأن عمل الصليب المثمر هو سكب روح الحب فينا لنشارك المصلوب حبه؛ نبسط أذرع قلوبنا لنحتضن الكل، ليتحقق فينا قوله الإلهي: "ليعلم الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض" (يو 13: 35).

إن كان الصليب قد فتح أبواب الرجاء أمام كل الأمم بالحب الإلهي فإن شهادتنا للمصلوب لن تتحقق مادامت خيمة قلوبنا ضيقة وأبوابها مغلقة وأطنابها قصيرة وأوتادها متراخية... لنَهَب قلوبنا للمصلوب فيقيمها مملكة حبه المتسع لكل البشرية الدائمة النمو!

كثيرًا ما نُدين الآخرين كمدن خربة مع أنه كان يليق بنا أن نُدين أنفسنا لأننا لم نحمل حب المصلوب فينا الذي يعمر المدن الخربة!

v لا يليق بالإنسان أن يهتم بنفسه فقط بل يلزمه أن يهتم بالآخرين أيضًا... فإنه أي فائدة لمصباح لا يضيء للجالسين في الظلمة؟! وأي نفع للمسيحي الذي لا يفيد غيره، ولا يرد أحدًا إلى الفضيلة؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم[584]

2. تسبيح من أجل العريس السماوي:

إن كان الصليب عارًا، يتعثر فيه اليهود ويحسبه الأمم جهالة (1 كو 1: 23)، لكننا نحمل ثمره فندركه "قوة الله وحكمته" ولا نستحي منه (غل 6: 14). لهذا يقول النبي: "لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنكِ لا تستحين، فانك تنسين خزى صباكِ وعار ترملك لا تذكرينه بعد" [4]. عند الصليب تلتقي النفس بعريسها واهب الحياة غالب الموت فتنسى ترملها القديم وخزى صباها إذ عاشت زمانًا طويلاً كوحيدة متروكة ليس من يملأ فراغ قلبها. تطلعها للعريس المصلوب يشبع كل أعماقها الداخلية فلا تبالي بسخرية بنات أورشليم الرافضات الخلاص، بل في قوة الحب تقول: "أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحق ألاَّ تُيقظن ولا تُنّبِهن الحبيب حتى يشاء" (نش 3: 5).

يقول لنا القديس يوحنا الذهبي الفم حوارًا بين العريس السماوي والنفس البشرية، جاء فيه:

[عظيم هو مهري!... جاء وأخذني، وعّين لي مهر، قائلاً: اعطيكِ غناي!

هل فقدتِ الفردوس؟ أرده لك...

ومع ذلك لم يعطني المهر كله هنا؛ لماذا؟

لكي اهبه لكِ عندما تدخلين الموضع الملوكي.

هل أنتِ جئتِ إليّ؟ لا، بل أنا الذي جئت إليكِ... لا لكي تمكثي في موضعك، وإنما لكي آخذك معي وارجع بكِ. فلا تطلبي مني المهر وأنتِ هنا في هذه الحياة، بل كوني مملوءة رجاءً وإيمانًا[585]].

هذا هو سر فرحنا، وهذا هو موضع تسبيحنا الذي لا ينقطع. لقد حوّل الصليب ترملنا إلى عرس فريد فيه نتحد مع الرب نفسه، "لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه، ووليّك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى، لأنك كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب وكزوجة الصبا إذا رُذلك قال إلهك" [5-6].

كنا في عار كإمرأة قد هجرها رجلها فانكسرت نفسها بالخزى والعار، رذلها بسبب زناها ورجاساتها، وها هي تصير عروسًا لرب الجنود لقدوس إسرائيل إله كل الأرض يسوع المسيح.

إذ تلتقي بعريسها وتنعم بأمجاده تنسى فترة ترملها بكل مرارتها فتحسب الماضي كله بالنسبة لها أقل من لحظة أو طرفة عين. نعمة رب المجد وإحساناته التي تجعلنا معه وتوحّدنا مع ابيه تجعلنا ندرك بفرح كلماته لنا: "لُحيْظة تَركتُك وبمراحم عظيمة سأجمعك، بفيضان الغضب حجبتُ وجهي عنكِ لحظةَ وبإحسانٍ أبديٍّ أرحمُك قال وليُّك الرب" [7-8].

أمام مراحم الله الأبدية نحسب كل أيام ضيقنا أشبه بلحيظة عبرت لندخل الأمجاد السماوية. أما قولـه "سأجمعك" فهي تعني جمع الكنيسة المقدسة معًا من كل الأمم والشعوب والألسنة كجسد واحد للرأس، أو كعروس واحدة لعريسها السماوي. أيضا فيها يجتمع المؤمنون معًا، كل رجال العهد القديم مع رجال العهد الجديد، وفيها يجتمع السمائيون مع الأرضيين، ويجتمع الكهنة مع الشعب الخ... هذا كله لن يتحقق ما لم يجتمع الإنسان مع نفسه ككل حيث تخضع النفس مع الجسد بكل حواسه ومشاعره والعقل مع القلب والمواهب الخ... فيصير بكُلّيته مقدسًا للرب.

هذا الحب الزوجي بين المسيح والنفس البشرية أبديّ لا يزول؛ فكما قدم الله وعدًا لنوح ألا يغرق العالم بالطوفان خلال غضبه على البشرية [9] هكذا يهبنا الرب وعدًا ألا يفارقنا قط أو ينزع رحمته عنا، إذ يقول: "فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنكِ وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمكِ الرب" [10].

في اختصار اختارنا عروسًا له نازعا عار ترملنا، مؤكدًا حبه لنا ورحمته علينا، مقدمًا لنا وعودًا أكيدة متجددة أبدية. أقامنا من بيت الزنا وغسلنا وقدسنا عروسًا له يدخل بنا إلى سمواته كملكة تجلس عن يمينه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الله يرغب في الزانية، فماذا يفعل؟ إنه لا يقودها إلى العلا وهي زانية، فهو لا يُريد أن يدخل بها إلى السماء وهي على هذا الحال، إنما نزل إليها. نزل إلى الأرض مادامت تعجز هي عن الصعود إلى فوق. جاء إلى الزانية ولم يخجل من أن يمسك بها وهي في سكرها...[586]].

3. تسبيح من أجل تجديدها:

سرّ تسبيحنا إننا كنا كعاقر وهبنا الله كثرة من البنين، وكمستوحشة متروكة وجدت الرب نفسه عريسًا لها، وأيضًا كمدينة خربة قام الرب بتجديدها وإعادة بنائها.

"أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية هأنذا أبني بالأثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك، واجعل شُرفك ياقوتًا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة" [11-12].

يا لها من صورة رائعة تكشف عما وصلت إليه البشرية من انحطاط وما حل بها من مجد فائق لا يُنطق به، كانت كمدينة خربة مهدمة، حُسبت في ذل وحل بها الاضطراب بواسطة العدو الذي سبى شعبها وافقدهم كل رجاء فصاروا بلا تعزية، الآن يقوم الرب ببنائها هكذا:

أ. يبني بالاثمد حجارتها، علامة القوة والمتانة. هذه الحجارة هي النفوس التي قبلت الإيمان بالمخلص فصارت حجارة حية في هيكل الرب، لا يقدر عدو الخير أن يُحطمها

أو ينتزعها!

ب. الأساس من الياقوت الأزرق. الأساس هو ربنا يسوع السماوي (الأزرق)، حجر الزاوية الذي يضم الكل معًا فيه.

ج. الشرُف من الياقوت الشفاف إشارة إلى مجد المؤمن الداخلي القائم على بر المسيح والحياة المقدسة فيه، ينعكس على الشرفات الخارجية.

 د. الأبواب التي من الحجارة البهرمانية، تُشير إلى تقديس الحواس واهتمامنا بها دون تحطيمها أو الاستخفاف بها.

هـ. كل التخوم حجارة كريمة تُشير إلى التقديس الكامل للنفس مع الجسد.

و. كل سكانها يُحسبون تلاميذ الرب وبنيها مملوئين سلامًا [13]، إذ يتتلمذ أعضاء الكنيسة المخلصين على يديْ الرب نفسه خلالها، يختفي أمامهم كل كاهن أو معلم ليروا الرب نفسه عاملاً في الجميع. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر كرامة الإيمان، إنه ليس من بشر ولا من إنسان إنما بواسطة الله يتعلمون هذا!... لا تعني البنوة هنا "كل" (كل بنيكِ تلاميذ الرب) بطريقة مطلقة، إنما تعني كل من لهم الإرادة. فإن المعلم يجلس مستعدًا أن يمنح ما لديه للجميع ويسكب تعليمه للكل[587]]. ويقول القديس أغسطينوس عن نعمة التعلم بواسطة الله: [تُدعى هذه النعمة "تعلمًا" فإن الله يعلم من يدعوهم حسب غرضه واهبًا إياهم أن يعرفوا ما يجب أن يفعلوه، وفي نفس الوقت أن يعملوا ما يعرفوه[588]]. وكأن التعلم بواسطة الله كعطية إلهية يحمل شقين متكاملين: المعرفة الروحية الحقة، التمتع بالعمل والممارسة لهذه المعرفة في حياتنا اليومية. يهبنا أن نعرف الحق ونحياه فيه!

خلال هذه التلمذة يتمتع بنو الكنيسة بسلام فائق: "وسلام بنيكِ كثيرًا" [13].

بجلوسنا عند قدمي المخلص نسمع صوته ونتمتع بإمكانياته لنمارس الحق فيه يهبنا سلام الروح الداخلي كعطية خاصة لبنيه.

وصف البابا أثناسيوس الرسولي القديس أنبا انطونيوس بعدما قضى فترة في نسكه الشديد، قائلاً: [جسده لم يتغير... أيضا مزاج نفسه بلا عيب، إذ لم تضيق نفسه كما من الحزن، ولا انغمست في لذة، ولا تأثرت بضحك أو يأس[589]].

v السلام هو الميراث الذي وعد به السيد تلاميذه قبل صلبه... قائلاً: "سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم". فمن أراد أن يكون وارثًا للسيد المسيح فليملك على سلام المسيح ويسكن فيه.

القديس أغسطينوس[590]

ز. سر سلام الكنيسة الكثير وبنيانها وقوتها هو برّ المسيح، إذ يقول: "بالبر تثبتين، بعيدة عن الظلم فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منكِ" [14]. يقول الرسول: "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا" (رو4: 25).

4. تسبيح من أجل نصرتها:  

ما يفرح قلب الكنيسة التي بناها الرب بنفسه واختارها عروسًا له وملكة سماوية، متلمذًا أولادها على يديه، واهبًا إياهم سلامه الفائق، مقدمًا لهم برّه عاملاً فيهم ليعيشوا بالبر ويرفضوا كل شر وظلم، إنها في ذات الوقت تُقاوم من قوات الظلمة مجتمعة فيهبها الرب نصرة عليهم وغلبة حتى على الموت.

أ. اتحاد قوات الظلمة ضدها: "ها انهم يجتمعون اجتماعًا ليس من عندي" [15]... يتشاورون ويعملون معًا ضد كنيسة المسيح كما اجتمعت قوى الشر قبلاً تطلب صلب عريسها فتحول ظلمهم إلى خلاص للعالم، وأخرج الله من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة.

ب. اتحادهم معا يسقطهم تحت قدمي الكنيسة: "من اجتمع عليكِ فإليكِ يسقط" [15].

ج. اجتماعهم هو بسماح إلهي: "وأنا خلقت المهلك ليخرب" [16]؛ لهذا لا نخشاه ولا نضطرب من شدة عنفه، فإنه في يد الخالق ممسوك به.

د. تنتهي حتمًا كل مقاومة وتكلل الكنيسة لتنال ميراثًا برًا أبديًا: "كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليكِ في القضاء تحكمين عليه. هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب" [17].

<<


 

الأصحاح الخامس والخمسون

دعوة عامة للخلاص

كشف الرب عن عمله في  الكنيسة التي أقامها من حالة الترمل إلى العرس الأبدي، ومن الخراب إلى مدينة الله الثمينة فائقة الجمال، والآن يفتح الرب أبوابها للجميع كي يأتوا إلى ينبوع المياه الحية ويشربوا ويرتووا ويجدوا طعامًا لائقًا يُناسب احتياجات الكل، ويدخلوا في عهد جديد أبدي. أمام هذه الدعوة يليق بالعطاش أن يُعلنوا عن تجاوبهم عمليًا بطلب الرب ورفض الشر مع التسليم الكامل بين يدي المخلص بفرح وتهليل قلب.

1. دعوة للخلاص          [1-5].

2.  تجاوب الإنسان         [6-13].

1. دعوة للخلاص:

جاءت الدعوة الإلهية للتمتع بخلاص الرب المجاني تحمل البنود التالية:

أ. دعوة عامة للعطاش: "أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا" [1]. إنها دعوة عامة للجميع، أبواب الكنيسة مفتوحة أمام الكل، ينصت إليها من يشعر بالاحتياج أي "العطاش". وكما قال الرب "طوبى للجياع والعطاش إلى البر فانهم يشبعون" (مت 5: 6).

كما سبق فكررنا أن المياه في الكتاب المقدس تُشير أحيانًا إلى الروح القدس الذي يعمل في مياه المعمودية؛ وكأن الدعوة هنا موجهة إلى الجميع للتمتع بالعماد مجانًا.

يتحدث القديس غريغوريوس النزينزى عن عطية العماد قائلاً: [لا تتردد مهما كانت الرحلة طويلة، إن كانت بالبحر أو بالبر مادامت العطية مُقدمة لك، مهما كانت العوائق كثيرة أو قليلة فإن إشعياء يدعوك: "أيها العطاش جميعًا هلموا..." يا لسرعة مراحم الله، يا لسهولة العهد! إنك تنال هذه البركة بمجرد أن تُريدها. انه يقبل رغبتك ذاتها كثمن عظيم. انه يتعطّش إلى عطشك، ويروي كل الراغبين في السرّ. يقدم لطفًا لكل السائلين لطفًا. إنه مستعد للعطاء بسخاء، يفرح بالعطاء أكثر من فرح نائليه[591]].

ب. عطاء مشبع للكل، هذه العطية المجانية التي لا تُشترى بفضة ولا بثمن تقدم لكل إنسان احتياجاته؛ فيجد الكبار خمرًا يفرحهم والصغار لبنًا يسندهم.

الخمر الروحي الذي يتمتع به الكبار يُشير إلى حالة الفرح التي يتمتع بها البالغون في القامة الروحية، فتتلذذ نفوسهم بدسم الرب [2]. وكما يقول الشيخ الروحاني: [طوبى للحامل في قلبه ذكرك في كل وقت، لأن نفسه تسكر دائمًا بحلاوتك].

اللبن الروحي المقدم للصغار يُشير إلى ترفق الله بالمبتدئين، فيُقدم لهم ما يناسب معدتهم الروحية حتى ينموا وينضجوا؛ يعرف كيف يُقدم لكل واحد ما هو لبنيانه وسلامه وشبعه واروائه.

هكذا لا يشعر أحد بالحرمان بل كما قيل: "كلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم" [2].

v   أما تريدون الشبع؟ وكيف يكون ذلك؟

يشتاق الجسد إلى الشبع، لكن يعود إليه الجوع مرة أخرى بعد الهضم، لذلك يقول السيد المسيح: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا" (لو 4: 13)...

إذن ليتنا نجوع ونعطش إلى البر، لكي ما نشبع منه...

ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش حتى يكون له الطعام والشراب المناسبين له.

لقد قال (الرب): "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41). هذا هو خبز الجياع.

ليتنا نشتاق أيضًا إلى الشرب كالظمأى، "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز 36: 9)[592].

v   طوبى لمن نسى حديث العالم بحديثه معك، لأن منك تكتمل كل احتياجاته.         

أنت هو أكله وشربه!...

أنت أعطيت روح ابنك في قلبه، والروح أعطاه دالة أن يطلب منك كل ما لك، مثلما يطلب الابن من أبيه! معك حديثه في كل حين، لأنه لا يعلم له أبًا غيرك! [593].

الشيخ الروحاني

v   آه! إنني لن أشبع إلاَّ عندما يتجلى مجدك قدامي!...

من يمتلكك تشبع كل رغباته!

لكن يا لبشاعة بؤسي! ويحي يا إلهي، فإن قلبي يميل إلى الهروب منك؛ الهروب منك أنت أيها الغني الحقيقي والفرح الحقيقي، لكي يتبع العالم الذي ليس فيه إلاَّ الحزن والألم.

القديس أغسطينوس[594]

v   ليكونوا بالأكثر محتاجين كي يستحقوا أن يشبعوا، لئلا بينما هم يظهرون التخمة المتعجرفة يُحرمون من الخبز الذي يهب حياة صحية.

"اطلبوا الرب" أيها المحتاجون والجياع والعطاش، فانه هو الخبز الحيّ النازل من السماء (يو 6: 33، 51).

"اطلبوا الرب فتحيون". أنتم تطلبون الخبز لكي يعيش جسدكم، والرب يطلبكم لكي تحيا نفوسكم.

القديس أغسطينوس[595]

v   ["مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن" (تك 49: 12)].

عيناه حمراوان بالخمر، هاتان هما شعبه الروحي الذي يسكر بكأسه؛ وأسنانه بيضاء أكثر من البن الذي هو الكلمات التي يرضعها الأطفال الذين لم يتأهلوا للطعام القوي كقول الرسول (1 كو 3: 2؛ 1 بط 2: 2).

القديس أغسطينوس[596]

v لتسكر، ولكن كن حذرًا من المصدر. إن كانت تشرب بكثرة من كأس الرب الرائعة فسيُرى سُكرك في أعمالك، ويظهر في حبك القدسي للبر، وأخيرًا في تغرُّب ذهنك عن الأرضيات إلى السمويات.

القديس أغسطينوس[597]

لنتقدم إذن إلى مسيحنا ونشترِ خمره ولبنه مجانًا حسب وعده ودعوته.

ج. دخـول في عهد أبدي لإقامة مملكة داود السـاقطة حسـب الوعد الإلهي الصادق؛ "وأقطع لكم عهدًا أبديًا، مراحم داود الصادقة" [3]. خلال هذا العهد نصير ملوكًا (رؤ 5: 10) منتسبين لملك الملوك الذي قيل عنه "هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب، رئيسًا وموصيًا للشعوب" [4]. هو الملك واضع شريعة العهد الجديد والوصية الجديدة لا لشعب معين بل لكل الشعوب.

د. قبول الأمم الوثنية الراجعة إلى الله بالإيمان: "ها أمة لا تعرفها تدعوها وأمة لم تعرفك تركض إليك من أجل الرب إلهك وقدوس إسرائيل لأنه قد مجدك" [5].

لم يكن هذا الأمر مقبولاً لدى الشعب القديم، بل وحتى بعد انفتاح الباب أمام الأمم بقيت الكنيسة في العالم كله إلى قرون في دهشة أمام حب الله للبشرية كلها، يجتذبهم من الوثنية ورجاستها ليعلنوا مجد الله. في عجب يقول القديس أغسطينوس: [كيف دخلت الأمم إلى الإيمان هكذا سريعًا؟!... نسألهم: ماذا تريدون؟ يجيبون: "معرفة مجد الله"[598]].

2. تجاوب الإنسان:

أمام هذه الدعوة العامة المجانية المقدسة للعطاش يليق بالإنسان أن يعلن تجاوبه معها وقبوله لها عمليًا بالوسائط التالية:

أ. الصلاة أو طلب الله للالتقاء معه: "أطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب" [6].

إن كان الله قد أحبنا أولاً، نزل إلينا ليعلن أنه ليس ببعيد عنا إنما على أبواب قلوبنا يقرعها لنفتح له ويدخل فيها (رؤ 3: 20)، فإنه يليق بنا أن نطلبه سائلين إياه أن يتسلم مفاتيح قلوبنا لكي يفتح فيدخل ويغلق فلا يشاركه أحد في قلوبنا، بكونه "يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح".

إعلان قبولنا لحب الله خلال الصلاة هو تجاوب الحب بالحب، وإعلان النفس عن رغبتها في عريسها الفريد الذي يطلب يدها أبديًا.

ب. التوبة: "ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" [7].

ماذا تعني التوبة إلاَّ الإعلان عن قبول النور دون الظلمة، والمسيح دون بليعال (2 كو 6: 14)؟!

التوبة هي الطريق الذي مهد به القديس يوحنا المعمدان للسيد المسيح، والذي كرز به التلاميذ لتهيئة البشرية لقبول ملكوته في داخلهم!

ج. الاتكال على حكمة الله والثقة في خطته وتدابيره نحونا، إذ يقول: "لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب، لأنه كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم" [8].

إيماننا بالعريس السماوي يستلزم الاتكال عليه بثقة في إمكانياته كقدير كُلّي الحكمة والحب، يعرف كيف يخطط لعروسه، لبنيانها وخلاصها، حتى إن بدت خطته قاسية وتدابيره مُرّة.

د. الارتواء بكلمة الرب واهبة الثمر: "لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعًا للزارع وخبزًا للآكل هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع فارغة، بل تعمل ما سررت به وتنجح في ما أرسلتها له" [10-11].

لقد نزل كلمة الله متجسدًا ليروي الطبيعة البشرية بدمه كمطر فريد قادر أن يُعيد خلقتها ويُجددها، محولاً إياها من برية قاحلة تسكنها الوحوش العنيفة إلى فردوس مثمر يسكنه الثالوث القدوس ويتهلل به السمائيون وأيضًا الأرضيون. هكذا يليق بنا أيضًا أن نقبل كلمة الله المكتوبة لا للدراسة العقلانية البحتة وإنما كحياة مُعاشة تُعطي ثمرًا إلهيًا.

هـ. التسبيح الدائم علامة قبول العريس قلبيًا والتجاوب معه داخليًا؛ "لأنكم بفرح تخرجون وبسلام تُحضرون، الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنمًا وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي" [12].

الخروج بفرح إنما يعني خروج النفس من "الأنا"، واتساعها بالحب لحساب عريسها وكل أحبائه، اتساعها للسمائيين والأرضيين... تخرج لكي تعود بالكل في سلام ومصالحة مع الله والملائكة والبشر. هذا الحب المتسع يخلق جوًا من الفرح خلاله تترنم الجبال والتلال أي جماعة المؤمنين المحيطين بك، إذ يرون عُرسًا أبديًا قائمًا في داخلك. أما شجر الحقل الذي يُصفق بالأيادي فيعني أن الفرح لا يكون باللسان فحسب وإنما يُعلن بالعمل (بالأيادي)...

و. ثمر إيجابي متكاثر، فلا يكفي انتزاع الشوك والقريس وإنما يلزم ظهور السرو والآس علامة ختمنا باسم الرب واهب الثمر الروحي. بمعنى آخر قبولنا لدعوته لا يعني تركنا للشر فحسب وإنما صنعنا برّ المسيح وممارستنا حياته القدسية المثمرة بعمل  روحه القدوس فينا.  

<<


 

الأصحاح السادس والخمسون

بيت الصلاة لكل الشعوب

قدم الله دعوة جماعية للتمتع بالخلاص المجاني معلنًا التزام الإنسان بالتجاوب مع الدعوة عمليًا، والآن يقدم الله كنيسته بيت الله المفتوح لكل الشعوب. لا يظن أحد في نفسه انه "ابن الغريب" أي من نسل عابدي الأوثان بل يُحسب نفسه مُفرزا لخدمة الرب والتعبد له، ولا يُحسب إنسان أنه خصي أو شجرة يابسة بل هو عمود في بيت الرب.      

ليس عند الله محاباة؛ يفتح بيته للجميع، يأتيه الغرباء قابلو الإيمان، ويُحرم منه الذين نالوا الشريعة والنبوات لكنهم جحدوه.

1. بيت الصلاة لكل الشعوب [1-8].

2. رفض جاحدي الإيمان             [9-12].

1. بيت الصلاة لكل الشعوب:

في الأصحاح السابق كانت الدعوة لجميع العطاش (إش 55: 1)؛ لليهود والأمم، للعطاش والجياع، للعمي والصم الخ... لكي ينهلوا من ينابيع إنجيل الخلاص المجاني وعطية الروح المقدمة لكنيسة العهد الجديد. الآن إذ خشى أن يتراجع أحد عن العطية حاسبًا نفسه غريبًا ابن غريب لأنه ولد من عائلة وثنية جاحدة للإيمان، أو لأنه عقيم بالطبيعة لكونه خصيًا أو شجرة يابسة، لهذا أخذ يُشجع الكل للدخول من أبواب مراحم الله المتسعة:

أ. خلاص الرب ليس ببعيد، "لأنه قريب مجيء خلاصي واستعلان بري" [1]. فمن جهة الزمن لم يكن باقيًا سوى سبعة قرون لمجيء السيد المسيح مخلص العالم، أي حوالي 700 سنة، وألف سنة عند الرب كيوم واحد (مز 90: 4). أما ما هو أهم فإن خلاص الرب قريب من كل أحد، لأن الكلمة في داخل القلب، وصليب الرب ممكن إعلانه في كل نفس. وكما قال القديس أغسطينوس: [لغباوتي كنت أبحث عنك خارجًا... وكنت أنت في داخلي عميقًا أعمق من عمقي وعاليًا أعلى من علوي].

طريق خلاصنا في أعماقنا لأنه وهب لنا روح الله القدس وعضويتنا في جسد واحد السيد المسيح خلال المعمودية... فصرنا مسكنًا لله وهيكلاً له، لهذا يقول الرسول: "الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك" (رو 10: 8).

عندما يتحدث مار افرام السرياني عن ميلاد رب المجد يسوع يوجه أنظارنا إلى داخلنا حيث اقترب الرب إلينا وجاء ليحل بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17).

v ليزين كل إنسان أبواب قلبه في هذا العيد، فإن الروح القدس يشتاق أن يدخل ويسكن في القلب ويقدسه. إنه يطوف على كل الأبواب لكي يرى أين يدخل!

لتبتهج أبواب القلب في هذا العيد مع أبواب الكنائس، حتى يفرح الإله القدوس في الهيكل المقدس، وتتهلل أفواه الأطفال بالتسبيح، ويبتهج المسيح في عيده كجبار.

مار افرام السرياني[599]

ب. بقوله "احفظوا الحق وأجروا العدل، لأنه قريب مجيء خلاصي واستعلان بري" [1] يكشف عن مفهوم الفضيلة. فإننا نلتزم أن نحفظ الحق وان نمارس العدل، أي نسلك حسب الوصية الإلهية التي هي حق وعدل وهذا أمر صعب بل مستحيل على الطبيعة البشرية في ذاتها. أما إن أعلن الخلاص في القلب وتجلى بّر المسيح فتصير الوصية سهلة وممكنة بل طبيعية وعذبة، لأن الذي يتممها هو الله الساكن فينا والعامل بروحه فينا.

الفضيلة عند القديس يوحنا كاسيان [هي التي خلالها نُقدم ملكوت القلب للمسيح[600]].

إننا نسلمه القلب لكي يعمل فيه فيحولنا إلى شبهه ومثاله. يقول العلامة أوريجانوس: [إننا خُلقنا على صورة المسيح، لهذا فالفضائل في نظره هي أن نصير واحدًا معه، هو نفسه الفضائل التي نقتنيها[601]]. [هو العدل والحكمة والحق في ذات الوقت. لذلك فمن يُمارس هذه الفضائل بحق يكون شريكًا حقيقيًا في الطبيعة الإلهية[602]].

يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [يُدعى الله حبًا وسلامًا، بهذه الأسماء يحثنا أن نتشكل حسب هذه الفضائل التي هي سماته[603]].

الفضيلة هي عمل الله في مؤمنيه قابلي دعوته والمتجاوبين مع محبته:

v   ألا نلاحظ انه ليس شيء ما نفعله بدون المسيح[604].

v   لا نقدر أن نجري في طريق الله إلاَّ محمولين على أجنحة الروح[605].

v   ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما انه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[606].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   الله قدوس ويقدس، الله بار ويبرر.

القديس أغسطينوس[607]

ج. هذه العطية الإلهية مجانية لكنها لا تُعطى قسرًا ولا للمتراخين وإنما للمتجاوبين معها عمليًا. "طوبى للإنسان الذي يعمل هذا وابن الإنسان الذي يتمسك به، الحافظ السبت لئلا ينجسه والحافظ يده من كل عمل شر" [2]. فإن كان الله قد وهبنا قيامته أو حياته المقامة "سبتًا"، أي راحة لنفوسنا، فيليق بنا أن نعيش هذه الحياة ونحفظها، ولا نعيش في شقاء الموت وفساده. لنحفظ يدنا من ممارسة كل عمل شرير حتى لا نخضع لموت الخطية بل نبقى في الرب "سبتنا" الحقيقي.

سبتنا الحقيقي هو ربنا يسوع الذبيح القائم من الأموات، فيه يجد الآب راحته (سبته) من جهتنا إذ نتبرر فيه ونحسب أولادًا له؛ وفيه نجد راحتنا إذ نجد فيه موضعًا في حضن الآب.    

v   نصير نحن أنفسنا اليوم السابع (سبتًا) عندما نمتلئ ببركات الله وتقديسه ونُفعم بها.

القديس أغسطينوس[608]

د. تحويل الغرباء إلى أبناء بيت الله: "فلا يتكلم ابن الغريب الذي اقترن بالرب قائلاً: إفرازًا أفرزني الرب من شعبه" [3]. إنما يتمتعون بالعهد الإلهي، لهم حق العبادة وخدمة بيت الرب. "وأبناء الغريب الذين يقترنون بالرب ليخدموه وليحبوا اسم الرب ليكونوا له عبيدًا كل الذين يحفظون السبت لئلا ينجسوه ويتمسكون بعهدي" [6].

ماذا يعني قبول الغرباء كأبناء بيت الرب والتمسك بالعهد الإلهي؟ انه تمتع بالاتحاد مع السيد المسيح، للدخول إلى المقادس السماوية بلا عائق، كأبناء مقدسين فيه وكأعضاء جسده، لهم حق الاتحاد مع الآب بالروح القدس خلال دم العهد، دم السيد المسيح الكفاري.

انفتاح باب الخلاص أمام الغرباء لكي يصيروا أبناء الله، لهم حق العبادة، كما الخدمة يُعطي رجاء للجميع وكما يقول القديس هيبوليتس:

[يظهر "الكلمة" حنوه مع عدم محاباته للوجوه...

يحب أن يُعلّم الجاهل، وان يرد المخطئ إلى الطريق الحقيقي.

بسهولة يجده الذين يعيشون في الإيمان، والذين لهم العين الطاهرة والقلب المقدس، الذين يرغبون أن يقرعوا الباب؛ فانه يفتح الباب سريعًا.          

انه لا يطرد أحدًا من خدامه كمن هو غير مستحق للأسرار الإلهية.

لا يكرم الغني اكثر من الفقير، ولا يحتقر الفقير بسبب فقره.

لا يزدري بالبربري ولا يرفض الخَصِىّ كمن هو ليس برجل [3-4].

لا يبغض الإناث بسبب عصيان المرأة في البداية (حواء)، ولا يرفض الذكور بسبب عصيان الرجل.

إنه يطلب الجميع، ويرغب في خلاص الكل، مشتاقًا أن يجعل الكل أبناء الله، داعيًا كل القديسين كرجل واحد كامل[609]].

هـ. يهب الخصيان أبناء: "ولا يقل الخَصِيّ: ها أنا شجرة يابسة" [3]. لم يكن يُسمح للخصيان جسديًا أن يُضموا إلى الكهنوت (لا 21: 20) ولا أن يشتركوا مع الشعب في المحافل... (تث 23: 1).

الآن إذ انفتحت أبواب مراحم الله لا يوجد في كنيسة الله خصي روحي، إذ ليس بينهم عقيم بل الكل مُتئم (نش 4: 2)... الكل  يشهد لله ويأتي بأبناء له. كأن التقاءنا بالرب لا يقف عند حقنا في دخول بيته والتمتع بعهده إنما يهبنا قوة الشهادة له والإثمار.

لقد وعد الله شعبه إن أطاع "مباركًا تكون فوق جميع الشعوب. لا يكن عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك" (تث 7: 14).

و. يقيم المؤمنين أبطالاً وتبقى ذكراهم خالدة أبديًا حتى في السماء. "إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نُصبا واسمًا أفضل من البنين والبنات، وأعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" [5]. يا للعجب فقد جاء الرب إلينا متجسدًا لكي يموت في أرضنا ويقوم ليرفعنا إلى بيته السماوي خالدين لا يقدر الموت أن يُحطمنا، بل تصير أسماؤنا منقوشة في كتاب الله وعلى كفه أبديًا.        

سرّ خلود اسمنا في البيت الإلهي السماوي هو اتحادنا بالسيد المسيح، بكوننا الحجارة الحية القائمة على حجر الزاوية. "مبنيين كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح، لذلك يتضمن أيضًا في الكتاب هأنذا أضع في صهيون حجر زاوية مختارًا كريمًا، والذي يؤمن به لن يخزى" (1 بط 2: 5-6).

ز. التمتع بعبادة مفرحة لنا وموضع سرور الآب: "وآتى بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي لأن بيتي بيت الصلاة يُدعى لكل الشعوب" [7].

ماذا يعني هذا إلاَّ تمتعنا بالعبادة لا كواجب نلتزم به أو شكليات وإنما كارتفاع مفرح على جبل الرب المقدس وابتهاج ببيت الرب السماوي، كبيت صلاة نقدم حياتنا محرقة حب وذبيحة مقدسة ملتحمة بذبيحة المسيح القدوس، نتهلل نحن ويقبلها الآب بكونها حاملة رائحة المسيح الذكية، موضع سروره. يقول العلامة ترتليان: [تخرج هذه الذبيحة من كل قلب، وتتغذى على الإيمان، وتراعى الحق. تدخل في براءة ونقاوة، في عفة، وتتزين بالحب. يلزمنا أن نحرسها بعظمة الأعمال الصالحة، مقدمين مزامير وتسابيح على مذبح الله لننال كل الأشياء منه[610]].

ح. انفتاح بيت الرب أمام كل الشعوب من بينهم منفيو إسرائيل. ربما قصد بالمنفيين هنا عودة الساقطين أيضا من المسيحيين (إسرائيل الجديد)، فإن أبواب بيت الرب مفتوحة للكل حتى بالنسبة للمؤمنين الذين سقطوا أو انحرفوا، إذ رفضت بعض الهراطقة قبولهم. وقد كتب القديس كبريانوس رائعين في هذا الأمر تحت عنوان التوبة.

هكذا يُقدم لنا هذا الأصحاح صورة حية عن كنيسة العهد الجديد، سماتها: إنها بيت صلاة أي موضع التقاء الله مع الناس حيث ننعم بشركة حية مع الله القريب منا، الذي يُقيم مسكنه فينا [1]. هي مسكن الحق والعدل، مادمنا نتحد بمسيحنا البار والقادر أن يُبرر الفجّار، مقدمًا لهم نفسه حقًا وعدلاً وبرًا وحبًا [1]. سمة هذا البيت تقديس الإرادة الحرة: أبوابه مفتوحة للجميع بلا استثناء لكن دون قهر أو إلزام [2-3]، من يدخله يُنزع عنه التغرب عن الله ويصير من أهل بيت الله، أما من يرغب في البقاء خارجًا فليس من يلزمه بالدخول. داخل هذا البيت يصير الكل كأشجار مثمرة لا تعرف اليبوسة [3]، لأنه بيت الرب وفردوسه المثمر. من يسكنه يحيا مع مخلصه في أمجاده إلى الأبد فيُنقش اسمه في السماء ويُقام له نصب تذكاري لا يتحطم [5]. في الداخل فرح أبدي لا ينقطع وعبادة مقدسة علوية ملائكية (إش 57: 7). أخيرًا فانه بيت الرحمة، من خرج منه لا تُغلق الأبواب في وجهه بل تبقى أحضان الرب تنتظر عودته.

2. رفض جاحدي الإيمان:

إن كان بيت الرب مفتوحًا للجميع حتى بالنسبة للمؤمنين الساقطين، أيا كان سقوطهم، لكن الدخول إليه هو خلال "التوبة".

من يبقى في جحوده إنما يبقى خارج بيت الرب، ليس تحت رعاية، يتعرض حتمًا للوحوش المفترسة وسط الوعر الخارجي الذي اختاره.

يتطلع النبي إلى رافضي الإيمان ليرى مراقبيهم عُمْيًا كلهم بلا معرفة روحية   [10] إذ لا ينعمون بعطية الروح القدس واهب الاستنارة؛ صاروا ككلاب عاجزة عن النبح، لا تقدر أن تنطق حتى بكلمة للبنيان لخلاص القطيع، متهاونون ومتراخون: "حالمون مضطجعون محبو النوم" [10]. رُعاتهم ككلاب تأكل ولا تنبح، تهتم بالربح القبيح لا بنفع الشعب، أي طماعون لا يفهمون الحب الرعوي الباذل [11]. يسكرون ويلهون، بل ويدعون الآخرين ليشاركوهم سكرهم وترفهم، حاسبين أن حياة اللهو والترف تدوم إلى الغد بل ويتوقعون ترفًا أكثر مما هم عليه.

هذه هي صورة الرعاية الفاقدة للحب الإلهي الحق.

بينما في بداية هذا الأصحاح يفتح الرب بيته الروحي لكل الشعوب بلا تمييز، داعيًا الغرباء للتمتع بالاقتراب منه والاتحاد معه لنوال شركة أمجاده الأبدية، يطلب حتى الساقطين أن يرجعوا إليه لينعموا بحبه، إذ به يقابل ذلك بأنانية بعض الرعاة الذين تقوقعوا حول "الأنا  ego"، ليغلقوا أبواب مراحم الله في وجوه الناس، يطلبون ما هو للذتهم الوقتية على حساب خلاص الآخرين.

<<

 

 


 

الأصحاح السابع والخمسون

الرجاسات كعائق للخلاص

بعدما تحدث عن دعوة الله المجانية لكل العطاش كي يشربوا من ينابيع الخلاص، وانفتاح بيت الرب للعبادة السماوية المفرحة حتى لا يشعر أحد أنه غريب أو عقيم يقدم لنا في الأصحاحات (57 - 59) عوائق التمتع بعمل الله الخلاصي والدخول إلى بيت الرب.

في هذا الأصحاح يركز على الرجاسات أو الزنا الروحي كعائق، فاتحًا أبواب الرجاء أمام الراجعين إليه.

1. موت الصديق                        [1-2].

2.  إدانة الأشرار                       [3-13].

3. بركات الرجوع إلى الله                [14-21].

1. موت الصديق:

"باد الصِّدّيق وليس أحد يضع ذلك في قلبه، ورجال الإحسان يُضمُّون وليس من يفطن بأنه من وجه الشر يُضم الصِّدّيق. يدخل السلام، يستريحون في مضاجعهم، السالك باستقامة" [1-2].

هنا يتحدث النبي عما يحل بأولاد الله عبر الأجيال إذ يسقطون تحت ضيقات كثيرة بلا سبب، مجروحين كمخلصهم حتى في بيوت أحبائهم (زك 13: 6)، يجدون عداوة حتى من أهل بيتهم (مت 10: 36). لكن النبي يتحدث هنا بالأكثر عن عصر منسي الملك الذي سفك دماء بريئة كثيرة (2 مل 21، 2 أي 33) حتى اشتهى الأبرار الموت وحسبوه راحة مما رأوه بأعينهم. وينطبق ذلك بأكثر وضوحًا في أيام الدجال أو ضد المسيح حيث يملك إنسان الخطية في هيكل الرب ويضطهد الكنيسة (2 تس 2: 4 الخ.)، حتى يُقال: "من هو مثل الوحش؟! من يستطيع أن يحاربه؟!" (رؤ 13: 4)، "وأُعطى أن يصنع حربًا مع القديسين ويغلبهم وأُعطى سلطانًا على كل قبيلة ولسان وأمة... هنا صبر القديسين وإيمانهم" (رؤ 13: 7، 10). أمام هذا المرّ يُقال: "من وجه الشر يُضم الصِّدّيق" [2].

إذ يُباد الصّديقون أو يُضطهدون ويقتلون لا يفكر أحد في ذلك، إذ يعيش الأشرار في لهو كأطفال صغار بلا فهم يموت والدوهم والمحبون الذين يخدمونهم وهم لا يدرون، أما الصديقون فيفرحون بالموت حاسبين ذلك إفراجًا عن نفوسهم من الجو القاتل للنفس، جو الشر البغيض.

v   "في رسالته إلى أرملة شابة".

حقا لو أنه هلك بالكلية أو انتهى أمره تمامًا، لكان ذلك كارثة عظمى، وكان الأمر محزنًا. لكن إن كان كل ما في الأمر أنه أبحر إلى ميناء هادئ وقام برحلة إلى الله الذي هو بالحق ملكه، لهذا يلزمنا ألا نحزن بل نفرح. فإن هذا الموت ليس موتًا، إنما هو نوع من الهجرة والانتقال من سيئ إلى أحسن، من الأرض إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة بل ويكون مع الله رب الملائكة ورؤساء الملائكة... الآن هو في أمان وهدوء عظيم.

v لو كان زوجك سالكًا مثل أولئك الذين يعيشون في حياة مخجلة لا ترضى الله كان بالأولى لك أن تنوحي وتبكي، ليس فقط عند انتقاله، بل حتى أثناء وجوده حيًا هنا. ولكن بقدر ما هو من أصدقاء الله يلزمنا أن نُسر به، ليس فقط وهو حيّ هنا بل وعندما يرقد مستريحًا أيضًا... استمعي إلى ما يقوله الرسول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (فى 1: 23).

القديس يوحنا الذهبي الفم[611]

v   يا له من نفع نقتنيه بخروجنا من هذا العالم!

إذ حزن التلاميذ عندما أعلن لهم المسيح معلم خلاصنا ومعلم أعمالنا الصالحة انه سينطلق قال لهم: "لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب" (يو 14: 28)؛ معلمًا إيانا أن نفرح عند رحيل أحد أحبائنا من هذا العالم ولا نحزن، متذكرين حقًا قول الرسول الطوباوي بولس: "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (فى 1: 21)؛ حاسبين في الموت أعظم ربح... فبالموت نترك الأتعاب المؤلمة ونتخلص من أنياب الشيطان السامة لنذهب إلى دعوة المسيح لنا، متهللين بالخلاص الأبدي.

الشهيد كبريانوس[612]

v   يخاف من الموت من ينتظر بعد الموت موتًا آخر[613].

v   بالموت يهرب الأولاد من الضيقات التي تفوق طاقتهم، نائلين سعادة جزاء صبرهم وبراءتهم[614].

الشهيد كبريانوس

يرى القديس أغسطينوس أن ما ورد هنا بخصوص موت الصديق دون أن يفطن أحد يُشير إلى السيد المسيح الذي أراد الأشرار إبادته بالصلب ولم يدركوا انه قد سمح بذلك لكي يُخّلِص ما قد هلك وباد. وكما يقول الرسول بولس: "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8)[615].

2. إدانة الأشرار:

يُعاني الصديقون من الأشرار، لكن ماذا يقدر الأشرار أن يفعلوا بهم؟ فإنه حتى الموت يحسبه الأبرار عطية إلهية خلالها يعبرون من الجو القاتم لينعموا باللقاء مع عريس نفوسهم المفرح. أما الأشرار فيستدعيهم الرب للمحاكمة، خلالها يتم الآتي:

أ. يحمل الأشرار عدة ألقاب من بينها:

* أبناء الساحرة: لقد رفضت الأمة كلها كلمات الأنبياء الصادقة والتجأت إلى السحر والعِرَافة للتعرف على المستقبل وطلب المشورة؛ هذا يُحسب رفضًا للانتساب لله وقبول البنوة لإبليس وأعماله الشريرة، فحُسب الأشرار بني الساحرة الساخرة بالله [4].

* نسل الفاسق والزانية [3]: لا علاقة لهم بالحياة البارة لا من جهة الأب ولا من جهة الأم، الأب فاسق والأم زانية؛ هكذا حلّ الفساد بالكل: الرجال والنساء.

لقد افتخروا بأن الله أبوهم وصهيون أمهم، لكن رجاساتهم كشفت عن حقيقتهم أنهم تركوا الانتساب إلى الله وكنيسته لينتسبوا للشرير ومملكته. يقول الإنجيلي: "قالوا له: إننا لم نولد من زنى، لنا أب واحد وهو الله؛ فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت... أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون

أن تعملوا، ذاك كان قتّالاً للناس من البدء... كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 41-44).

* أولاد المعصية [4]، لأنهم رفضوا الطاعة لله والاستجابة لإعلاناته النبوية ووصاياه.

* نسل الكذب [5]؛ يعالجون أخطاءهم بالكذب والخداع، عوض الصراحة والوضوح.

ب. انغماسهم في عبادة الأصنام باندفاع شديد ليقيموا أصنامًا ويوقدوا تحت كل شجرة خضراء ويقدموا أطفالهم ذبائح بشرية يحرقونهم لحساب البعل والعشتاروت [5]. هذه الصورة البشعة التي فيها أعلن البشر جحودهم لله ولأطفالهم لا زالت قائمة بصورة أو أخرى حتى اليوم، فعوض أن نشكره من أجل عطاياه (الشجر الأخضر) نقدم أحيانًا قلوبنا ملتهبة شرًا لحساب إبليس ومملكته كوقائد نجسة مقامة في القلوب، وعوض رعايتنا لحياتنا الداخلية لننعم بثمار روحية للنفس والجسد، أي ننجب أولادًا وبنات في قلوبنا تسبح الله نقدم طاقات النفس والجسد كذبائح بشرية لحساب عدو الخير.

ج. ممارستهم الشر في الوديان [6] كما على الجبال العالية [7] وفي البيوت [8]... كأن الشر غير مرتبط بالمكان ولا بالظروف وإنما بالقلب الذي انحرف عن خالقه وأراد الاستقلال عنه.

لعله أراد أيضًا تأكيد أن الأشرار في عدم حيائهم يصنعون الشر علانية وخفية، في الأماكن العامة كما داخل البيوت.

د. يشبه الأشرار بإمرأة زانية لا تشبع من الشر بل توسع مضطجعها [8] لتقبل  الدخول في عهد مع كل أحد، وتتحد مع أي إنسان، عوض اتحادها مع الله كعريس وحيد لنفسها تقيم معه عهدًا أبديًا. لقد أحبت الأشرار لا لأشخاصهم، إنما لأجل الاضطجاع معها كفرصة لإشباع شهوات الجسد [8].

هـ. قدمت تذكارات - رسومات أو تماثيل - لمن ترتكب معهم الشر؛ عوض التوبة تفتخر بالشر. ربما عنى بالتذكارات إقامة التماثيل الوثنية كزنا روحي، والارتباط بآلهة غريبة عوض الله بعلها، أو لأن الزنا التحم بالوثنية في حياتها.

و. تجملت ودهنت نفسها بالأطياب وبعثت رُسلا إلى الملك ليرتكب معها الشر فتنحدر إلى الهاوية [9]. ربما عنى بالملك هنا فرعون الذي أرسلوا إليه لكي ينقذهم من آشور، فحسب الله هذا العمل زنًا روحيًا، بكونه اتكالاً على الذراع البشري عوض الثقة بالله.

إرسالها للملك يُشير إلى التحامها بالسلطة، كما سيحدث في أيام الدجال حيث يلتحم العمل الديني المنحرف بالسلطة الزمنية، فتصير مقاومة الكنيسة خلال التجديف مع استخدام العنف ضدها.

ز. تسعى نحو الشر باجتهاد في أسفار كثيرة حتى يحل بها العياء دون أن تيأس، فبسبب شهوة الشر لا تضعف ولا تمل [10].

ح. ترتكب الشر دون خوف الله رجلها؛ فإنها لم تستجب لا لتهديداته، إذ لم تحمل مخافة الرب [11]، ولا أيضًا لتشجيعه إياها بإبراز أعمالها الصالحة [12].

ط. اتكالها على محبيها وعاشقيها كجموع معجبة بها، فإذا بهم جميعًا يُحملون معها كما بريح أو يطيرون بنفخة فلا يوجدون.

ربما عنى بمحبيها الآلهة الوثنية إذ صارت تصرخ إليها دون أن تجد تجاوبًا منهم، لأنهم عاجزون عن تقديم الخلاص؛ يُبددها الرب معهم كريح وكنفخة سريعة.

3. بركات الرجوع إلى الله:

مع ما ارتكبوه من فساد وزنا روحي فإن الله ينتظر رجوعهم إليه بالتوبة ليهبهم البركات التالية:

أ. يرثون الأرض كطريق يعبرون به إلى الميراث الأبدي. وكما يقول الرب: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت 5: 5)، وجاء في المزمور "لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض" (مز 37: 9). "أما المتوكل عليّ فيملك الأرض ويرث جبل قدسي. ويقول:اعدوا اعدوا، هيئوا الطريق" [13-14].

إن كانت الأرض هنا تُشير إلى كنعان وجبل قدس الرب تُشير إلى صهيون، فان التوبة تهب الإنسان تمتعًا بالبركات الإلهية في هذا العالم كعربون لأورشليم السماوية.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[616] أن الله وعدنا بمهر سماوي: "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان" (1 كو 2: 9) [لقد عين هذه كمهر وهي: الخلود، تسبيح الملائكة، التخلص من الموت، التحرر من الخطية، ميراث الملكوت الذي ثروته عظيمة هكذا، البر، التقديس، الخلاص من الشرور الحاضرة، اكتشاف البركات المستقبلة. عظيم هو مهري!... هدايا الخطبة هي البركات الحاضرة التي تشوّقنا إلى البركات

المقبلة، أما المهر بكماله فيُعطى في الحياة الأخرى].

إن كانت "الأرض" تُشير إلى الجسد فان العربون الذي نناله هنا هو أن نملك الجسد أي نحمل سلطانًا عليه لنحيا مقدسين في الجسد بروح الله الساكن فينا.       

بقوله "اعدوا، اعدوا، هيئوا الطريق" [14]، إنما يعني قبولنا المسيح مخلصنا بكونه "الطريق"، به وفيه ننعم بالميراث الأبدي.

ب. نزع العثرة، إذ يُقال: "ارفعوا المعثرة من طريق شعبي" [14].

ج. سكنى الله في وسطهم إذ يُحسبون جبل الله المرتفع المقدس [15]. بقدر ما يتضعون في أعين أنفسهم يرفعهم الله ويحسبهم أهلاً لسكناه، إذ يُقال: "اسكن... مع المنسحق والمتواضع الروح لأحييّ روح المتواضعين ولأحييّ قلب المنسحقين" [15].

v إنه بعيد عن المتكبر، قريب من المتواضع؛ "لأن الرب عالٍ ويرى المتواضع" (مز 138: 6). لا يظن المتكبرون في أنفسهم أنهم غير منظورين، "أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 138: 6). لقد رأى الفريسي من بعيد، إذ افتخر بذاته، أما العشار فكان قريبًا منه ليعينه لانه اعترف (بخطاياه) (لو 18: 9-14).

القديس أغسطينوس[617]

v الكبرياء وإن رافقه البر والأصوام وتقديم العشور، فإن مركبته تتقهقر، وأما اتضاع الروح، وإن رافقته الخطية لكنه يسبق حصان الفريسي، ولو كان الذي يقوده فقيرًا!

القديس يوحنا الذهبي الفم[618]

د. إن كان الله كمؤدِّب يغضب على الشرير لكنه هو خالق النفوس الذي يشتهي خلاصها ورجوعها إليه، لذا لا يُخاصم إلى الأبد ولا يغضب إلى الدهر، إنما يُريد عودة لكل إليه ليشفي كل ضعف ويقود الشعب بنفسه ويرد لهم تعزياته، إذ يقول:

"لأني لا أخاصم إلى الأبد ولا أغضب إلى الدهر" [16]. وكما يقول القديس أغسطينوس أن ما نُعانيه من متاعب هنا هـو بسـبب غضب الله (على خطـايانا) حتى نتوب[619].

يكمل الحـديث هكذا: "لأن الروح يُغشى عليها أمامي والنسمات التي صنعتها"

[16]... الله الذي خلق النفوس البشرية لن يتركها بل يشتاق ويعمل لخلاصها.

"من أجل أثم مكسبه غضبت وضربته،

استترت وغضبت فذهب عاصيًا في طريق قلبه،

رأيت طرقه وسأشفيه أقوده وارد تعزيات له ولنائحيه" [17-18].

ما يحل به من ضربات هو غضب إلهي، فان الله في محبته يستتر ويغضب ليضرب أولاده إلى حين. ربما عنى بالاستتار هنا أنه لا يحتمل أن يرى أولاده تحت الألم والضيق لذا يكون كمن يضرب ويستتر إلى لحيظة حتى يجتذب بالتعب أولاده. لذا يؤكد أنه وإن بدا كمن استتر لكن عينيه على طرق المودِّبين بواسطته حتى يشفيهم ويقودهم بنفسه ويعوض نوحهم بتعزيات إلهية. حب إلهي أبوي فائق!

v   إن عانيت من شر فاحتملته بلطف تُنزع عنك كل الشرور[620].

v هكذا هو حب الله المترفق. أنه لن ينزع وجهه عن التوبة الصادقة، فإنه حتى وإن كان الإنسان قد اندفع إلى الشر حتى النهاية عينها إذ يختار الرجوع إلى الحياة الفاضلة يقبله الله ويرحب به ويعمل كل ما هو لإصلاحه ويرده إلى حالته الأولى[621].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هـ. يفيض عليهم بسلام مضاعف بينما يمتلئ الأشرار اضطرابًا، إذ يقول: "خالقًا ثمر الشفتين؛ سلام سلام للبعيد وللقريب، قال الرب وسأشفيه؛ أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ ويقذف مياهه حمأة وطينًا، ليس سلام (فرح) "قال إلهي للأشرار" [19-21].

يدعو البعيدين (غير المؤمنين) والقريبين (المؤمنين الساقطين) لكي يأتوا بالتوبة إليه لينالوا سلامًا مضاعفًا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [وعد الرب بالتعزية الحقيقية في كلمات إشعياء: "أعطيه تعزية حقيقية، سلامًا فوق سلام" [17] ( LXX). بدون هذه التعزية يجد الناس أنفسهم وسط بهجة أرضية هي أنحلال أكثر منها راحة[622]]. وأيضًا: [ما يدعوه الشرير فرحًا ليس بفرح[623]].

<<


 

الأصحاح الثامن والخمسون

الصّوم المرفوض

بعدما تحدث عن الزنا المرتبط برفض الله والتعبد للأوثان كعائق عن التمتع بخلاص الله والسكنى في بيت الله ينتقل إلى شكلية العبادة كعائق آخر، خاصة في الصوم وحفظ السبت.

1. عبادة رياء              [1-2].

2. الصوم المرفوض        [3-5].

3. الصوم المقبول [6-7].

4. ثمار العبادة الحقة       [8-12].

5. حفظ السبت              [13-14].

1. عبادة الرياء:

إن كان الالتصاق بعبدة الأوثان أثار روح الفساد والعصيان في حياة الشعب، فأقاموا عبادة الأصنام تحت كل شجرة خضراء وفي كل وادٍ وعلى الجبال والتلال علانية وارتكبوا الزنا ومارسوا الرجاسات وقدموا أطفالهم ذبائح بشرية، لكن ما هو أخطر أنهم خلطوا هذا الشر العظيم بعبادة الله الحيّ ارضاء لضمائرهم. هذا هو أخطر عدو يواجه المتدينيين ويُعثر الناس في معرفة الله: الرياء أو التستر على الشر والفساد بشكليات العبادة دون التوبة الصادقة.

الآن يطلب الله من النبي أن يتكلم علانية وبصوت عالٍ كبوق يفضح ضعفاتهم ويعلن عن تعدياتهم وخطاياهم، أي يكشف جراحاتهم حتى لا تهدأ ضمائرهم خلال عبادة مملوءة رياء. وكأنه بالطبيب الذي يكشف عن الجراحات أو الأمراض الخفية لعلاجها في أعماقها.

يقول الرب: "نادِ بصوت عالٍ. لا تمسك. ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم وبيت يعقوب بخطاياهم" [1].

في العهد الجديد أرسل لنا ربنا يسوع روحه القدوس "يُبكت العالم على خطية" (يو 16: 8)، أي يكشف للنفس في أعماقها جراحاتها الخفية ويثيرها للتوبة عوض التستر على الجراحات فتفسد الجسد وتهلكه.

كشف الخطية أو فضحها لا يعني رفض الله لشعبه أو تخليه عنهم بل على العكس علامة حب لهم لهذا يقول: "أخبر شعبي... وبيت يعقوب" [1]، دون تملق من جانبك نحوهم، بل نادِ بصوت عالٍ ولا تتوقف.

عندما تحدث عن عبادة الأوثان أو الزنا أو إجازة أولادهم النار كذبائح بشرية لم يطلب الله من النبي أن يُنادي بصوت عالٍ كما ببوق لأنها خطايا واضحة لكنه إذ يتحدث عن الرياء يطلب ذلك، لأنها خطية خفية تتسلل إلى نفوس المتعبدين، يصعب على الإنسان اكتشافها. لهذا عندما وبخ الرب الزناة أو العشارين كان غالبًا ما يتحدث معهم فرادى دون جرح لمشاعرهم، أما مع القيادات المرائية فكانت كلماته حازمة وأحاديثه علانية.

لقد تستر الشعب بالمظاهر الخارجية مثل:

أ. الصلاة الظاهرة والمستمرة: "وإياي يطلبون يوماُ فيومًا" [2].

ب. الابتهاج بالمعرفة الروحية العقلانية: "ويُسرّون بمعرفة طرقي كأمة علمت برًا ولم تترك قضاء إلهها" [2]؛ أي يواظبون على دراسة الكتاب وحضور الاجتماعات كما لقوم عادة، أو كما ابتهج هيرودس بسماعه يوحنا المعمدان.

ج. يُظهرون غيرة نحو ممارسة العدل والتقوى [2].     

د. "يُسرون بالتقرب إلى الله" [2]، أي التظاهر بأنهم قريبون من الله، يتعبدون له ويعرفون أحكامه وقضاءه.

2. الصوم المرفوض:

"يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟" [3]. ويُجيب على هذا بالآتي:       

أ. "ها إنكم في يوم صومكم تُوجدون مسرة وبكل أشغالكم تُسخِّرون" [3]. لقد ظن الفريسي أن الله يُسر به لأنه يصوم يومين في الأسبوع (لو 18: 12)، وهؤلاء أيضًا يمارسون الصوم لكنهم يصنعون كل ما يسرهم لا ما يسر الله، علامة ذلك أنهم على خلاف الناموس لا يعطون فرصة للعاملين عندهم للراحة ومشاركتهم أصوامهم وعبادتهم بل يسخرونهم من أجل الطمع ومحبة الاقتناء والغنى.

الله لا يُريد صومنا عن الطعام مجردًا، إنما يرافقه صوم النفس عن محبة العالم والطمع، الأمر الذي يظهر جليًا في معاملاتنا مع الغير. بمعنى آخر يليق بنا أن نضبط نفوسنا مع ضبط بطوننا.

ربما عنى" بالمسرة" هنا ليس فقط النفع المادي وإنما إشباع الملذات الجسدية عوض العفة.

ب. "ها انكم للخصومة والنزاع تصومون، ولتضربوا بتكْمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء" [4]. عوض أن يُدين الإنسان نفسه ويلومها يوم صومه، يدخل في خصومة مع الغير ويدينه، لهذا لا يقبل الله صومه ولا يسمع صوته في العلاء. هذا ما حدث عندما أراد آخاب ملك إسرائيل وإيزابل أن يسلبنا حقل نابوت اليزرعيلي، إذ خططت إيزابل لقتله ظلمًا وطلبت من الشيوخ والأشراف أن ينادوا بصوم (1 مل 21: 9، 12).

في الوقت الذي فيه يمارسون الصوم يجمع الإنسان يده ليلكم أخيه ظلمًا عوض تقديم أعمال المحبة. لذلك يقول الأنبا يوساب الأبحّ: [لا تصم بالخبز والملح وأنت تأكل لحوم الناس بالدينونة والمذمة. لا تقل إني صائم صومًا "نظيفًا" وأنت متسخ بكل الذنوب].

ج. "أَمِثْل هذا يكون صوم اختاره؟! يومًا يذلل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحًا ورمادًا؟! هل تسمى هذا صومًا ويومًا مقبولاً للرب؟!" [5].

حسن للإنسان أن يربط الصوم بالتذلل والنسك، لكنه إن توقف عند المظهر الخارجي فقد جوهره. كان يليق بالصائم أن يتذلل تائبًا عن خطاياه، شاعرًا بضعفاته، فيمارس الإتضاع في قلبه جنبًا إلى جنب مع تذللـه، لا أن يحمل الصورة الفريسية، كقول الرب: "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فأنهم يُغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم" (مت 6: 16).

3. الصوم المقبول:

أ. تقديم أعمال المحبة عوض طلب المسرة الذاتية [3] وتسخير الغير لحسابنا. الصوم هو بذل "الأنا" وصلبها لكي يحيا المسيح "الحب" فينا، فنحمل سمات محبته ونمارس عمله كأعضاء جسده. هذا هو الصوم في مفهومه الإيجابي. "أليس هذا صومًا اختاره: حل قيود الشر؛ فك عقد النير، واطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نير؟! أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك؟! إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك؟!" [6-7].

ما أجمل القول "لا تتغاضى عن لحمك"، وكأن الصائم إذ يُصلب مع المسيح يدرك أن لحم الآخرين هو لحمه، حين يحل القيود إنما يحل قيود نفسه، حاسبًا نفسه مقيدًا مع المقيدين (عب 13: 3)، مسجونًا مع كل سجين، جائعًا ومسكينًا وتائهًا وعريانًا مع من يعانون من هذه الأمور. بالصوم يحب الآخرين كنفسه، بكونهم أعضاء بعضهم لبعض، أو أعضاء تعمل معًا في جسد واحد للرأس الواحد ربنا يسوع.

v لا يُحسب الصوم صالحًا بطبيعته الذاتية، إنما يصير صالحًا ومسرًا للرب بالأعمال الأخرى. مرة أخرى، يمكن أن يُعتبر الصوم- خلال الظروف المحيطة - ليس باطلاً فحسب بل ومكروهًا بالحق كقول الرب: "عندما تصومون لا أسمع لصلواتكم".

الأب ثيوناس[624]

v علمهم أن يكسروا خبزهم للجائع، وأن يضموا الفقراء الذين بلا مأوى، وأن يكسوا العُراة، ولا يتجاهلوا من هم من دمهم. والآن ينالون على وجه الخصوص نفعًا من احتياجنا (بتقديمهم العطاء) أكثر من نفعهم بخيراتنا.

القديس غريغوريوس النزينزي[625]

v   سمعت من إشعياء: "اكسر خبزك للجائع" (إش 57: 5)؛ فلا تظن أن الصوم كاف بذاته.

يضبط الصوم نفسك لكنه لا ينعش الآخرين. ضيقك لنفسك ينفعك إن كان فيه تعزية للغير. ها أنت تجحد نفسك؛ انظر من الذي أعطيته ما قد حرمت نفسك عنه؟!... كم فقير شبع من الإفطار الذي حرمت نفسك عنه؟!

القديس أغسطينوس[626]

4. ثمار العبادة الحقة:

أ. التمتع بالنور الإلهي: "حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك" [8]. إذ يمارس الإنسان الصوم بصورته الإيجابية إنما يتمتع بالاتحاد مع الآب خلال ابنه الوحيد بروحه القدوس، فيصير الله "النور الحقيقي" مشرقًا فيه كنوره الخاص به. "يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر" [10].

صورة رائعة للصوم المرتبط بالعطاء والبذل لحساب الغير خلال اتحادنا بالله محب البشر. إن كان المساكين والمتألمون يشعرون وسط مرارتهم كمن هم في ظلمة فإن عمل المحبة النابع عن قلب متسع يكون كإشراقة الشمس التي تُبدد الظلمة. هذا النور لا ينبع عن مظهر العطاء الخارجي إنما عن تجلي رب المجد في القلب المحب. وكما يقول رب المجد: "أنتم نور العالم... فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 14، 16).

الصوم المرتبط بالحب النابع من القلب حيث مملكة المسيح قائمة والمترجم بالسلوك العملي يلتحم مع صوم السيد المسيح فيتقدس ويُقبل لدى الآب.

ب. التمتع بصحة الروح والنفس والجسد، "وتنبت صحتك سريعًا" [8]؛ "وينشط عظامك فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" [8، 11]. ما هي العظام التي تنشط إلاَّ صحة النفس التي تتمتع بعظام الإيمان الذي يسند حياة الإنسان كلها؟!

كأن الصوم المقدس يعين الجسد، وقد ثبت علميًا أن الصوم بفترة الانقطاع مع الامتناع عن الدسم مفيد صحيًا؛ كما هو مفيد للنفس التي بالصوم تخضع في اتضاع لله ليُثبتها وينميها في الإيمان ليقيم منها فردوسه الذي لا تجف مياه أنهاره وينابيعه.

ج. التمتع بالله كقائد للنفس وكمصدر مجدها الداخلي وبّرها: "ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك" [8]؛ "يقودك الرب على الدوام" [11].

د. استجابة الصلاة: "حينئذ تدعو فيجيب الرب، تستغيث فيقول هأنذا" [9]. مادمنا في اصوامنا نتطلع لا إلى الشكل الخارجي إنما إلى انفتاح القلب لله خلال قدسية الحياة واتساعه بالحب نحو البشر، لهذا يفرح الله بمثل هذا الصوم، معلنًا ذلك خلال استجابته للصلاة.

v   أتُريد أن ترفع صلاتك إلى الله؟ ليكن لها جناحًا العطاء والصوم!

القديس أغسطينوس[627]

v يسمع الله ليّ سريعًا لأنني لا أطلب السعادة الأرضية، بل تعلمت الاحتمال المقدس من العهد الجديد؛ فلا اطلب الأرض ولا خيراتها ولا الصحة الزمنية ولا الغلبة على الأعداء ولا الغنى ولا المراكز الزمنية...

القديس أغسطينوس[628]

هـ. حالة شبع داخلي: "ويشبع في الجدوب (القفار) نفسك" [11]. بذواتنا نحن قفار وجدوب، لكننا إذ بالحب نٌشبع الجياع يشبعنا الله من عندياته بالرغم من العجز التام لإمكانياتنا.

و. بناء الآخرين: "ومنك تبني الخرب القديمة. تقيم أساسات دور فدور فيسمونك مرمم الثغرة مرجع السالك للسكنى" [12]. حينما تمتد أيدينا إلى العمل بالله في الأمور الصغيرة كالعطاء المادي أو تعزية الحزانى الخ... يهبنا ما هو أعظم أن نكون علة بناء حياة الغير الداخلية كمسكن مقدس للرب.

5. حفظ السبت:

بعدما قدم صورة حية عن الصوم المقبول كشف لنا عن حفظ السبت بالمفهوم الروحي الحق بكونه راحة روحية في الرب، مطالبًا إيانا بالآتي:

أ. "رددت عن السبت رجلك عن عمل مسرتك يوم قدسي" [13]. إن كان السبت هو يوم الرب المقدس لذا يليق فيه الكف عن إشباع المسرات أو الملذات الجسدية لنمارس الحياة القدسية.

ب. التمتع باللذة والسرور في الرب يكرّم صاحب السبت ويمجده [13]... وكأن السبت ليس حرمانًا بل شبع داخلي وفرح، خلاله يحملنا الرب كما على مرتفعات الأرض لنحلق في السمويات ويطعمنا مِن مَنِّ الميراث الأبدي [14].

<<

 

 

الأصحاح التاسع والخمسون

عصياننا يحجب الخلاص عنا

في الأصحاح 57 يتحدث عن الزنا الملتحم بالوثنية كعائق للتمتع بعمل الله الخلاصي المجاني، وفي الأصحاح 58 يتحدث عن الرياء كداء خطير يصيب المتدينين، والآن في هذا الأصحاح يتحدث عن العصيان لله كعائق.

1. الخطايا الحاجبة وجه الرب        [1-8].

2. أثر الخطايا                        [9-15].

3. الحاجة إلى الله المخلص          [16-21].

1. الخطايا الحاجبة وجه الرب:

"ها أن يد الرب لم تُقصر عن أن تُخلص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع؛ بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" [1-2].

من جهة الرب فهو القدير لا تقصر يده عن أن تخلص وهو الآب المحب لا تثقل أذنه عن سماع صوت أولاده، إنما العيب كله في الإنسان الذي صارت آثامه - عصيانه للرب- حجابًا يفصل بين الله والإنسان، أفسدت عيني الإنسان فلم يعد يرى وجه الله، وأفسدت صوته فلم يعد لائقًا كي يسمعه الرب. الله يُريد أن يُخلِص وقادر على ذلك لكنه لا يلزمنا قسرًا، فتقف معاصينا وشرورنا عائقًا عن التمتع به وبخلاصه.

v   مادام هذا هو السبب الذي يجعلنا بعيدين عن الله، فلننزع هذا الحاجز البغيض الذي يُحرمنا من الاقتراب منه.

القديس يوحنا الذهبي الفم[629]

v   خطيرة هي كل خطية لأنها تحزن الله.

الأب ثيوفان الناسك[630]

ماذا تعني الآثام والخطايا التي تفصلنا عن الله وتستر وجهه عنا؟ إنها رفض لناموس الله ورغبة لخروج الإنسان خارج دائرة ملكوته، إذ يقول الرسول: "والخطية هي التعدي" (1 يو 3: 5). هي رفض لله نفسه ولملكوته وناموسه وصورته التي خُلقنا عليها... هذا هو ما يحزن قلب الله.

بمعنى آخر، خطايانا وآثامنا ليست فقط مجرد تصرفات معينة وإنما هي مؤشر عن حالة النفس الداخلية ومركزها بالنسبة لله... إذ تظن أن في الالتصاق معه نوعًا من العبودية والحرمان، فتُريد الخلاص منه والتحرر من وصاياه، معبرة عن ذلك بوسيلة أو أخرى. لهذا يصوّر لنا الكتاب المقدس الخطية أحيانًا ككائن مقاوم لله، فيقول الرسول: "دخلت الخطية إلى العالم" (رو 5: 12).

عمل الخطية - دستور مملكة إبليس- انتزاع البشرية عن مملكة الله وحرمانهم من الالتقاء بأبيهم والتمتع بانعكاس صورته عليهم والشركة في الطبيعة الإلهية، أما برّ المسيح فعمله سحب النفوس المخدوعة إلى ملكوت الله لتستر صلاحها وتتمثل بابن الله وتشاركه سماته ومجده.

إن كانت الخطية هي "حالة النفس" ومركزها لكنها تُترجم بتصرفات داخلية في القلب والفكر والأحاسيس كما بتصرفات خارجية بالكلمات والعمل.

يقول القديس كبريانوس:

[لقد قُدمت حقيقة الأمر بفم النبي بروح إلهي... أن الله يستطيع أن يمنع الأشياء المقاومة لكن استحقاقات الخطاة الشريرة تمنع تقديمه العون...

لتُحصى خطاياكم ومعاصيكم، لتؤخذ في الاعتبار جراحات ضمائركم، ليكف كل واحد منكم عن التذمر على الله وعلينا، إن حسب نفسه مستحقًا ما يُعاني منه[631]].

يعدد النبي هنا مجموعة من الخطايا سبق أن ارتكبها الشعب، ولا يزال يسقط فيها كثير من البشر:

أ. القتل أو العنف: "لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم" [3]. إن كان "الله محبة"، دستوره الحنو والترفق والرأفة، فإن الخطية دستورها البغضة والعنف والقتل ظلمًا. لهذا إذ أراد الرب أن يقتلع مملكة الخطية من جذورها قال: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل... وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم" (مت 5: 21-22).

ب. الكذب: "شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر" [3]. إذ رفضوا الله وانتسبوا لمملكة إبليس حملوا سماتها وهي العنف ومعه الكذب والتضليل، فقد دعى عدو الخير "كذاب وأبو الكذاب" (يو8: 44)، "المضلّ". فإن كان السيد المسيح هو "الحق" فعدو الخير هو "الكذاب" و البطلان".

الكذب هو دستور مملكة إبليس لهذا يُحذرنا منه الكتاب المقدس:

"كراهة الرب شفتا كذب، أما العاملون بالصدق فرضاه" (أم 12: 22).

"كل كذب ليس من الحق" (1 يو 2: 21).

"الفم الذي يكذب يقتل النفس" (حك 1: 11).

v   كل إنسان متكبر مخادع، وكل مخادع كذاب. يعاني البشر من نطقهم بالخداع، مع أنه يمكنهم أن ينطقوا بالحق بسهولة تامة.

القديس أغسطينوس[632]

ج. المحاباة: "ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق" [3]. أنهم يمارسون دستور مَلِكهم، ألا وهو الظلم ومحاباة الوجوه. أما ثمر أعمالهم الظالمة فهو هلاك الآخرين دون نفع لهم. يشبهون سيدة تحبل لا بجنين بشري يُفرح قلبها عند ولادته، إنما تعاني الأمرين من آلام الحمل والطلق، تحبل تعبًا شديدًا لتنجب إثما يهلكها ويهلك من هم حولها. "قد حبلوا بتعب وولدوا إثمًا" [4]، وكما يقول المرتل: "هوذا يَمْخَضُ بالإثم، حمل تعبًا وولد كذبًا" (مز 7: 14).

التشبيه الثاني أنهم صاروا كأفعى تقدم بيضًا لكنه يفقس ما يميت لا ما يشبع ويسند [5].

التشبيه الثالث أنهم كالعنكبوت الذي ينسج خيوطًا لا تستر بل تصطاد الحشرات [5-6].

في التشبيهات الثلاثة السابقة يوجد عنصر مشترك هو "الخداع"، الأول تظهر المرأة حاملاً يُنتظر أن تُنجب طفلاً فتلد إثمًا، والثاني يظهر البيض ليأكل الإنسان ويشبع فيفقس أفعى قاتلة، والثالث يرى الإنسان نسيجًا دقيقًا رائعًا لكنه من صنع العنكبوت لا يستر العُرى إنما يصطاد حشرات ليقتلها. هذه هي التشبيهات التي يُقدمها عمن يحكمون بالظلم تحت أسم العادلة.

د. أما ما هو أخطر، أن ما يرتكبونه من آثام مذكورة هنا أو غير واردة لا يسقطون فيها عن ضعف لا أراديًا إنما يجرون إليها بأنفسهم، ويسرعون نحو ارتكابها كمن يبتهج بها [7].

2. أثر الخطايا:

أ. الحرمان من الاقتراب نحو الله "الحق": "من أجل ذلك ابتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل" [5].

 

قبول الخطية قبول للبطلان ورفض الحق، أي دخول في مملكة إبليس وتعدي على مملكة الله.

v   يا لشقائي... لقد انتابتني حماقات جمة، ومع أنك  أنت هو الحق غير أنني لم أطلب منك المشورة[633].

v   عندما انفصلت عنك يا إلهي لم أعد بعد موجودًا، صرت كلا شيء...[634].

القديس أغسطينوس

ب. "الانغماس في الظلمة: " ننتظر نورًا فإذا ظلام، ضياءً فنسير في ظلام دامس" [9].

v   يا لشقائي... لقد داست عليّ الظلمة، ومع أنك أنت النور، إلاَّ أنني حجبت وجهي عنك![635].

v أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يُضييء لأولادك حتى لا يتعثروا! أما الذين هم خارج عنك، فإنهم يسلكون في الظلام ويعيشون فيه؟...

كل من يبتعد عنك أيها النور الحقيقي يتوغل في ظلام الخطية، وإذ تُحيط به الظلمة لا يقدر أن يميز الفخاخ المنصوبة له على طول الطريق![636].

القديس أغسطينوس

ج. فقدان البصيرة، بلا قيادة واعية روحية: "نتلمس الحائط كعُمي وكالذي بلا أعين نتجسس، قد عَثْرنا في الظهر كما في العتمة، في الضباب كموتى" [10]. لقد أشرق السيد المسيح شمس البر وصرنا كمن في الظهيرة لكن بسبب فقدان البصيرة تعثّر البعض كمن هم في ظلمة؛ حجب لاهوته كما في ضباب الجسد وفي عدم إيمان سقط الجاحدون كالموتى.

د. صراخ بلا نفع؛ يُصلي الكبار بصوت عالٍ فيزأرون، والصغار يهدرون كالحمام، فلا يوجد لهم خلاص [11]؛ ليس لسبب آخر غير تمسكهم بالعصيان المستمر والمتزايد، فصار رفيقًا للإنسان، يرتكبه عن معرفة [12].

بمعنى آخر لا يكفون عن الصلاة، لكن بلا جدوى لأنها لا تنبع عن قلب مخلص في اشتياقه نحو الله، وفي إيمانه بعمل الله في حياته، وفي سلوكه الروحي. إن كان الله في محبته يشتاق أن يستجيب لصلوات الإنسان وطلباته قبلما يُعِبّر عنها الإنسان بلسانه لكن الإنسان بشره وعدم إيمانه يفقد التمتع بهذه العطية الإلهية.

v   قد تأكد تمامًا أن صلاته لن تُستجاب! من هو هذا البائس؟ ذاك الذي يُصلي ولا يؤمن أنه سيحصل على جواب.

مالقديس يوحنا كاسيان

هـ. الانحراف أو الحيدان عن الله بتمسكنا بالكذب وفقدان روح الصدق والاستقامة [14-15].

3. الحاجة إلى الله المخلص:

ساء الأمر جدًا، لكن الله خالق الإنسان المهتم به ومحبوبه لا يقف متفرجًا. "فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل. فرأى أنه ليس إنسان وتحير من أنه ليس شفيع، فخلَّصت ذراعه لنفسه وبرّه هو عَضَدَه" [15-16].

v   بسبب هذا الانفصال أُرسل الشفيع لكي ينزع الخطية عن العالم التي بها انفصلنا عنه كأعداء، وذلك لكي نتصالح معه ونتحول من أعداء إلى أبناء.

القديس أغسطينوس[637]

إذ لا يوجد شفيع يقدر على مصالحتنا مع الله نزل الرب نفسه، وكما يقول القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس: [لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا نبيًا أئتمنته على خلاصنا بل أنت وحدك تجسدت وتأنست واشبهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها[638]...].

ماذا فعل الشفيع الكفاري بنا؟

أ. تقدم المعركة كقائد لنا ونائب عن البشرية، يهبها النصرة والغلبة ببره وسلطانه: "فلبس البرّ كدرع وخوذة الخلاص على رأسه؛ ولبس ثياب الانتقام كلباس، واكتسى بالغيرة كرداء، حسب الأعمال هكذا يُجازي مبغضيه..." [17-18]. عوض الخطية التي ارتبطنا بها فحطمتنا لبس بره الإلهي درعًا لنا، وعوض الهلاك الذي حل بنا ارتدى الخلاص خوذة على رأسه، وعوض الضعف أو الانهيار الذي سقطنا فيه قام ينتقم من إبليس وكل ملائكته، يرد عليهم شرهم فيفقدون سلطانهم على الأمم في المغرب أو المشرق. يتمجد المخلص في الشعوب والأمم إذ يهبهم نصرة حتى على العدو الذي يفيض كنهر جارف لكن الرب كما بنفخة روحه القدوس يوقف فيضه [19].

ب. أقام كنيسته، صهيون الجديدة كمركز للتوبة [20]، أقامها مستشفى للمرضى وليس محكمة للقضاء والادانة، إذ يقول: "ويأتي الفادي إلى صهيون، وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب" [20].

v   اللطف (بالضعفاء والخطاة) هو الفضيلة الوحيدة التي تسعى نحو نمو الكنيسة، الأمر الذي يطلبه الرب ثمنًا لدمه.

 اللطف هو اقتداء بحنان السماء نحو البشر، يهدف نحو خلاص الجميع[639].

v ليتنا لا نضحك على خطية أحد بل نحزن، لأنه مكتوب: "لا تشمتي بيّ ياعدوتي، إذ سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور..." (مى 7: 8-9). لم يقل هذا بلا جدوى، لأن من يشمت بالساقطين إنما يكون قد أبتهج بنصرة الشيطان. لذلك بالحرى يلزمنا أن نحزن عندما نسمع عن هلاك شخص مات المسيح لأجله[640].

الشهيد كبريانوس

ج. إقامة عهد جديد مع البشرية [21] مع تأكيد لتحقيق الوعود الإلهية.

<<

 


 

الأصحاح الستون

المدينة المنيرة

بعدما تعرض للعقبات التي تحول عن تمتع الإنسان بالخلاص (إش 57 - 59) يُقدم لنا في نهاية السفر صورة مبهجة ورائعة عن بناء مدينة الرب الجديدة (60 - 66).

هنا (إش 60) يُقدم لنا صورة رائعة لكنيسة العهد الجديد كمدينة الرب صهيون المنيرة، أيقونة السماء.

1. مدينة منيرة             [1-2].

2. جذّابة للأمم             [3-9].

3. مدينة مجيدة             [10-22].

1. مدينة منيرة:

سبق أن أكّد الرب أنه يقوم بنفسه بالخلاص ويفدي صهيون، مقيمًا عهده الجديد معها (إش 59: 15-21). الآن إذ قدم السيد المسيح خلاصه على الصليب، وأعلن الآب قبوله بالقيامة التي هي ليست عطية خارجية عن السيد المسيح إذ هو نفسه القيامة (يو 11: 25)، له سلطان أن يضع نفسه وله سلطان أن يأخذها (يو 10: 18)، يطلب من كنيسة العهد الجديد أن تتمتع بحياة فاديها كحياة مقامة لا موضع للظلام فيها.

"قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليكِ، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم، أما عليكِ فيشرق الرب، ومجده عليكِ يُرى" [2].

عندما عاد اليهود من السبي حسبوا أنفسهم كمن قاموا من الموت، وتمتعوا بنور الحياة والحرية بعد سبعين عامًا من المذلة كما في ظلمة القبر. أما كنيسة العهد الجديد فقد تمتعت بما هو أعظم، اتحادها بالنور الحقيقي كعريس أبدي يُقيم منها عروسًا تحمل نوره وبهاءه ومجده. وكما قال الرب عن نفسه "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12)، دعى تلاميذه نور العالم (مت 5: 14)، إذ يحملونه فيهم.

ما هو سرّ استنارة الكنيسة؟

قيامة الرب التي قدمت لنا الحياة الجديدة التي لن يغلبها الموت، ولا تقدر الظلمة أن تقتنصها ولا القبر أن يُحطمها. لذلك يقول الرسول: "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات

فيضيئ لك المسيح" (أف 5: 14).

لما كان العماد هو تمتع بقيامة المسيح فينا لذا دُعي هذا السر "استنارة".

v   إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نُتبنى، وإذ نُتبنى نكمل...

يُدعى هذا الفعل بأسماء كثيرة اعني نعمة واستنارة وكمالاً وحميمًا... فهو استنارة إذ به نرى النور القدوس الخلاصي، أعني أننا به نشخص إلى الله بوضوح.

القديس اكليمنضس الاسكندري[641]

v   الاستنارة وهي المعمودية... هي معينة الضعفاء ... مساهمة النور... انتفاض الظلمة.

الاستنارة مركب يسير تجاه الله؛ مسايرة المسيح، أُس الدين، تمام العقل!

الاستنارة مفتاح الملكوت واستعادة الحياة.

القديس غريغوريوس النزينزى[642]

v   المعمودية هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها!

مار يعقوب السروجي[643]

هكذا إذ نقبل الاتحاد مع ربنا يسوع المسيح المصلوب ندفن معه في المعمودية ونقوم حاملين إمكانية الحياة الجديدة، لنحيا كما يليق كأبناء للنور، وأعضاء جسد المسيح القدوس. لا يليق بنا أن ننزل بعد إلى ظلمة الخطية، ولا أن نعتذر بضعفنا البشري لأننا نحمل فينا نور الرب ويشرق علينا مجده. لا نصير بعد أرضًا مظلمة بل سماء تحتضن مجد الله وبهاءه.

هذه هي سمة الكنيسة كحياة جديدة في المسيح، الساكن فيها، يشرق عليها ببره الإلهي، فيقال عنا: "فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 16).

 

v   عندما يمارسون الإلهيات وينطقون بها، ويعيشون الحياة الإلهية، هازمين قساوة القلب ومتمتعين بسلام البر، يلاحقهم مجد عظيم في كنيسة المسيح.

القديس أغسطينوس[644]

إذ جاء السيد المسيح إلى العالم ليقتني البشرية عروسًا له يسكب مجده وبهاءه في داخلها؛ يهبها روحه القدوس لكي يُزينها ويُجمِلّها لتتهيأ بالمجد الداخلي للعرس السماوي الأبدي. فيُقال لها: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك وأنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له... كل مجدٌ ابنة الملك في خدرها" (مز 45: 10-13).

2. جذابة للأمم:

مجد الله الداخلي في النفس جذّاب، يقتنص النفوس لمملكته الروحية. فأنه إذ تصير كنيسة العهد الجديد مدينة منيرة تجتذب الأمم، وكما يقول الرب نفسه: "أنتم نور العالم، لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضئ لجميع الذين في البيت، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 14-16). هذا تحقيق لما جاء في إشعياء النبي: "فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك" [3].

تصير الكنيسة كعريسها عمود نور الحق الذي يقود الأمم في طريق الرب ويقيم فيهم ملوكًا روحيين أصحاب سلطان داخلي.

تتطلع الكنيسة حواليها لتنظر من كل جانب عمل الله العجيب، يجتذب من كل الأمم أولادًا وبنات لها، يأتون من بعيد ليصيروا أهل بيت الرب المكرمين، المحمولين على الأيدي [14].

تظهر قوة المسيح القائم من الأموات في حياة كنيسته بتحويل الطاقات (ثروة الأمم) لحساب ملكوته، إذ قيل لعروسه: "حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبكِ ويتسع لأنه تحوَّل إليكِ ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم" [5]...

ما هي ثروة أو غنى الأمم التي تتقدس لحساب كنيسة المسيح؟

أ. ثروة البحر [5]، أي الأسماك واللؤلؤ. لقد حسب آباء الكنيسة الأولى السيد المسيح هو "السمكة" (أخسوس)، وأما المؤمنون فهم السمك الذي يعيش مع السيد المسيح وفيه (حز 47: 9). يقول العلامة ترتليان: [نحن السمك الصغير بحسب سمكتنا يسوع المسيح قد وُلدنا في المياه، ولا نكون في أمان بطريق ما غير بقائنا في المياه على الدوام[645]].

ب. ذهب ولبان تحمله الجمال من مديان وشبا لا للتجارة، لكنه يُقدم هدية لصهيون. كما قدم المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا للسيد المسيح علامة ملكه وأنه إله يُقدم البخور، ومتألم؛ هكذا يصير أعضاء جسده ملوكًا يقدمون اللبان كبخور طيب للمخلص.

ج. تقديم ذبائح مقبولة لخدمة بيت الرب وزينته [7-8]، هذه الذبائح هي حياتنا وأجسادنا وكل طاقاتنا التي تلتحم بالذبيح الفريد، فتصير محرقات حب مرفوعة خلال الصليب. يقول الرسول: "فاطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1). تقدماتنا للرب هي "نفوسنا" ذاتها كقول القديس جيروم[646].

د. لعل أجمل ما نقدمه لصهيون هو تمتعنا بالقدرة على الطيران كسحاب يحملنا روح الرب نحو السمويات فنعيش مع مسيحنا في أمجاده كما في بيتنا الخاص. "من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟!" [8].

سيأتي الرب في اليوم الأخير على سحاب (مت 24: 30)، يأتي محمولاً على قديسيه السحاب الخفيف المنير (إش 19: 1)... كأن تشبيهنا بالسحاب يعني أننا صرنا عرشًا نحمل مسيحنا؛ أما تشبيهنا بالحمام فيعني أننا صرنا روحيين، لأن الروح القدس ظهر أثناء عماد الرب كحمامة. بمعنى آخر أن ارتباطنا بكنيسة الله يصيّرنا عرشًا للرب حاملين ثمار روحه القدوس.

جاء في الترجمة السبعينية: "من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام مع صغارهم؟!" يرى القديس غريغوريوس النيصي أن هذه العبارة النبوية تعلن من بعيد عن الكنيسة القادمة بأطفالها المملوئين جمالاً الكثيري العدد[647].

يقارن القديس غريغوريوس النيصي بين أولاد الكنيسة الحقيقيين الذين في خفة الروح يطيرون كالحمام و السحاب وبين الأشرار الذين بسبب ثقل الخطية يغطسون كما في مياه عميقة. [يسير الواحد خفيفًا بما فيه الكفاية بينما يغطس الآخر في مياه عميقة. لأن الفضيلة خفيفة تطفو، وكل الذين يعيشون في طريقها يطيرون كالسحاب ومثل الحمام مع صغارهم كقول إشعياء؛ وأما الخطية فثقيلة؛ وكما يقول نبي آخر أنها تجلس على وزنة من الرصاص (زك 5: 7)[648]].

هـ. الفضة مع الذهب [9]. إن كانت الفضة تُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6) فان الذهب يُشير إلى الحياة السماوية النقية؛ وكأن غنى الكنيسة القادمة من الأمم يكمن في تمسكها بكلمة الله وتمتعها بالفكر السماوي.

3. مدينة مجيدة:

أ. "وبنو الغريب يبنون أسواركِ وملوكهم يخدمونك" [10]. يُشير هنا إلى كورش الغريب الجنس الذي أمر برجوع المسبيين وأعطى نحميا التسهيلات لبناء السور.

الله في محبته يستخدم كل الطاقات الغريبة لحساب بناء ملكوته، مقدمًا كل صلاح من أجل كنيسته؛ وهذا هو مجد الكنيسة الحق: تقديس كل عمل!

ب. جمال الكنيسة ينصب في فتح أبوابها دائمًا، "نهارًا وليلاً لا تغلق" [11]. لا ترد خاطئًا ولا تجرح مشاعره؛ تحمل قلبًا متسعًا بالحب كعريسها نحو الجميع.

إنها كسفينة نوح أبوابها متسعة، قبلت نوح وعائلته والحيوانات والطيور الخ... من كان بداخلها خلص، أما من رفض فهلك. "لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد وخرابًا تخرب الأمم" [12]. وكما يقول الشهيد كبريانوس: [إنه لا خلاص خارج الكنيسة].

ج. "مجد لبنان إليكِ يأتي، السرو والسنديان والشربين معًا لزينة مكان مقدسي وأُمجد موضع رجليّ" [13]. لقد عُرفت لبنان بشجرها الممتاز، لذا تحول ثروتها الخشبية لاستخدامها في تزيين هيكل الرب. صورة رائعة لتحويل الطاقات الخاملة أو التي أُسيء استخدامها لحساب هيكل الرب.

د. التمتع بسلطان روحي حيث تخضع قوات الظلمة تحت أقدام المؤمنين. "وبنو الذين قهروكِ يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين أهانوكِ يسجدون لدى باطن قدميكِ ويدعونك مدينة الرب صهيون قدوس إسرائيل" [14]. حتى عدو الخير بكل طاقاته يشهد للمؤمنين أنهم مدينة الله المقدسة. لا يستطيع الأشرار إلاَّ أن يشهدوا لأولاد الله عن قدسية حياتهم حتى في لحظات اضطهادهم لهم.

هـ. تمتعها بالفرح الدائم الأبدي: "عوضًا عن كونكِ مهجورة ومُبغَضة بلا عابر بك أجعلك فخرًا أبديًا فرح دور فدور" [15]. هذا هو فخرها الأبدي أنها ليست بعد مهجورة ولا تعاني من حالة فراغ أو عزلة أو بغضة الغير لها بل تمتلئ فرحًا فتصير مجيدة إلى الأبد.

و. يهبها الله أكثر مما تطلب وفوق ما تسأل، فإن سألت نحاسًا يهبها ذهبًا، وأن طلبت حديدًا يهبها فضة وعوض الخشب يُقدم لها نحاسًا، وبدل الحجارة حديدًا... هكذا تجد في الله شبعها الداخلي وأيضًا سرّ غناها الروحي وشبع كل احتياجاتها.

ز. يسكن العدل فيها لذلك "لا يُسمع بعد ظلم في أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك بل تُسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا" [18]. كل إنسان يجد فيها خلاصه وسرّ تسبيحه وفرحه، لأن الله العادل فيها يهب عدلاً وبرًا، ولا يسمح بظلم أو خراب أو سحق أن يُمارس في داخلها.

ح. بكونها أيقونة السماء لا تحتاج إلى شمس أو قمر لإضاءتها "بل الرب يكون لكِ نورًا أبديًا وإلهك زينتك" [19].

ط. التمتع بالحياة البارة [21].

ي. التمتع بقوة الله الفائقة "الصغير يصير ألفًا، والحقير أمة قوية" [22]. الإنسان بذاته يُحسب صغيرًا أما كعضو في جسد المسيح فيُحسب ألفًا أي سماويًا، لأن رقم 1000 يُشير إلى السماء. خارج المسيح يحسب حقيرًا يلهو به عدو الخير وتحطمه الخطية، أما في المسيح يسوع فيصير أمة قوية. يصير "أمة" إذ يحمل طاقات مقدسة للروح والجسد تعمل معًا بانسجام وفي وحدة، تحمل قوة روح الرب فيها.

هكذا يُقدم لنا هذا الأصحاح صورة حية عن كنيسة السيد المسيح بكونها المدينة المنيرة الحاملة إشراقات السيد المسيح فيها، تجتذب الأمم والشعوب خلال مجدها الداخلي، وتقدس كل طاقاتها وإمكانياتهم التي أساءوا استخدامها تفتح أبوابها أمام الجميع بالحب، ويفتح الرب أبوابه أمامها ليهبها أكثر مما تطلب وفوق ما تسأل، يهبها بره وعدله وقوته وجماله ونوره فلا يُعوزها شيء!

<<

 


 

الأصحاح الحادي والستون

الحيَاة الجديدة

يقدم لنا السيد المسيح برنامجًا حيًا لعمله الخلاصي فقد جاء من أجل المساكين ومنكسري القلب والمسبيين وكل النائحين ليهب عزاءً ومجدًا خلال التجديد الذي يهبه للمؤمنين به ليقيمهم كهنة وملوكًا له ويختارهم عروسُـًا روحية مقدسة له.

1. برنامج المسيح الخلاصي         [1-3].

2. الحياة الكنسية الجديدة             [4-6].

3. الحياة الكنسية المجيدة             [7-9].

4. حياة زوجية مفرحة               [10-11].

1. برنامج المسيح الخلاصي:

يقدم لنا السيد المسيح على لسان إشعياء النبي برنامجًا حيًا عن عمله الخلاصي، يعرضه في إيجاز مع عمق، وهو:

1. تمتع البشرية بالروح القدس الذي يُجدد الطبيعة البشرية ويغنيها، ينزع عنها فسادها ويهبها الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع فتنعم بشركة الحياة الإلهية... هذه العطية قُدمت لنا في شخص السيد المسيح القائل: "روح السيد الرب عليّ" [1]. كما سبق فقلنا في تفسير الأصحاح الحادي عشر أن الروح القدس هو روح الابن، ليس غريبًا عن المسيح، لكنه بالتجسد قبل حلوله عليه باسم الكنيسة ولحساب المؤمنون به:

v لقد فارق الروح القدس الإنسان لأنه لم يكن قادرًا على أن يحل في الفساد، ولكن الآن ظهر إنسان جديد بين البشر وهو وحده الذي يجعل عودة الروح ممكنة، لأن هذا الإنسان بدون خطيئة.

v لقد وعد الله أن يعطي الروح مرة ثانية للبشرية... ولم تكن هناك طريقة أخرى يمكن بها إعادة هذه النعمة إلى الإنسانية بدون مفارقة سوى في يسوع المسيح... إنها عودة أبدية سببها حالة الاستقرار والثبات.

v   لقد منح المسيح الروح القدس لناسوته، وبذلك جعل الروح يتآلف من جديد مع طبيعتنا.

v إن عودة الروح القدس للإنسان في المسيح، الإله المتجسد، آدم الثاني، عودة أبدية. فالروح القدس حلّ على آدم الثاني لبرِّه. والبرّ في المسيح برّ ثابت، لأن اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح ثابت... وهذا ضمان ثابت للبشرية واستقرارها في الحياة الجديدة.

القديس كيرلس الكبير[649]

v   اسم "المسيح" يحمل ضمنًا ذاك الذي يمسح والممسوح والمسحة ذاتها. الآب هو الذي يمسح، والابن يُمسح، والروح هو المسحة.

القديس إيريناؤس[650]

v أضاء الروح القدس في كمال وجوده عليه، فالشبيه يستقر بالشبيه. أما بالنسبة لكم فبعدما صعدتم من جرن المياه المقدسة وُهبت لكم المسحة التي هي رمز لما مُسح به المسيح؛ هذا هو الروح القدس.

القديس كيرلس الأورشليمي[651]

إذ دُفع إلى السيد المسيح سفر إشعياء قرأ هذا الفصل، "ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس... فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم" (لو 4: 17-21).

2. جاء السيد المسيح ليُفرِّح قلوب المساكين بإنجيل خلاصه، ويعصب منكسري القلوب ويهب حريته للمسبيين... حاسبًا مجيئه سنة يوبيل حقيقية مقبولة لدى الرب وواهبة عزاء للنائحين (إش 61: 2، لا 25: 9، 40).

3. مجيئه "يوم انتقام لإلهنا" [2]، حيث حطّم سلطان قوات الظلمة، إبليس وملائكته وأعماله الشريرة.

4. يُقيم الرب المؤمنين كأشجار برّ أو غروس الرب في الفردوس الإلهي [3]، تحمل جمالاً عوض الرماد، ودهن فرح عوض النوح، ورداء تسبيح عوض الروح اليائسة؛ أي يسكب علينا جماله وفرحه وتسبيحه عوض المذلة والنوح واليأس!

2. الحياة الكنسية الجديدة:

رسالة السيد المسيح الذي مسحه الآب ليبشر للمساكين هي "تجديد المدن الخربة" التي صارت موحشة عبر الأجيال. لقد صارت الطبيعة البشرية في كل الأجيال أشبه بالمدن الخربة تحتاج إلى هدم وإعادة بناء. هذا هو عمل الله الخالق الذي يُقيم ملكوته فينا، فيحوّلنا بروحه القدوس من مسكن للخطية والشر إلى مقدس للرب. أما الأجانب الذين يرعون غنمنا، وبنو الغريب الذين يقومون بحراسة أرضنا والعمل ككرامين في حديقتنا، فهم طاقات النفس الداخلية ودوافعها التي صارت كمن هي أجنبية وغريبة عن الرب وملكوته. إنها تخضع من جديد فلا تصير عثرة في طريق خلاصنا بل على العكس معينًا للنفس تسندها في جهادها. وذلك كما فعل الشعب العبراني قديمًا حين حملوا الذهب والفضة والثياب الفاخرة من المصريين واستخدموها في إقامة خيمة الاجتماع بدلاً من استخدامها في عبادة الأوثان في مصر[652].

يقول: "تُدعَون كهنة للرب" [6]، ذلك لأننا إذ نحمل الطبيعة الجديدة خلال المعمودية نصير روحيًا كهنة، نرفع أيدينا للصلاة ونقدم أجسادنا ذبيحة حب مقبولة لدى الآب. هذا الكهنوت يدعوه القديس أيرونيموس "الكهنوت الشعبي Laic Priesthood"[653].

3. الحياة الكنسية المجيدة:

يهب الله كنيسته فيضًا من المجد الداخلي والتعزيات السماوية والفرح الدائم.

أ. مكافأة مضاعفة عوض المتاعب القديمة: "عوضًا عن خزيكم ضعفان، وعوضًا عن الخجل يبتهجون بنصيبهم، لذلك يرثون في أرضهم ضعفين" [7].

ما هي المكافأة المضاعفة التي نتمتع بها عوضًا عن خزينا؟ التمتع بغفران خطايانا، ونوال برّ المسيح؛ بمعنى آخر نزع خزى الخطية والتمتع بمجد المسيح فينا؛ العفو عنا كعبيد عصاة وقبولنا كأبناء لله في المسيح يسوع الابن الوحيد الجنس.

لم يقف عمل المسيح الكفاري عند إيفاء الدين الذي أثقل كاهلنا، وإنما قدم لنا بره لنشاركه مجده؛ يقول الرسول: "لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 3-4).

لعله أيضًا يقصد بالميراث المضاعف القيامتين: القيامة الأولى التي ننالها هنا في حياتنا الزمنية إذ ننعم بالحياة المقامة، والقيامة الثانية حين يأتي رب المجد على السحاب لنقوم معه ونوجد معه في المجد. وكما يقول القديس أغسطينوس: [نحن الذين متنا موتًا مزدوجًا (موت النفس والجسد)، نقوم قيامة مزدوجة. حتى الآن نحن قمنا قيامة واحدة، وهي القيامة من الخطية، لأننا دُفنا معه في المعمودية، وقمنا معه خلال المعمودية بالقيامة. هذه القيامة هي الخلاص من خطايانا؛ وأما القيامة الأخرى فهي قيامة الجسد. هو أعطانا القيامة العظمى، وها نحن ننتظر الأقل! القيامة الأولى أعظم من الثانية، إذ خلاصنا من خطايانا أعظم من قيامة الجسد[654]].

إن كانت سمة مملكة إبليس الأنانية التي تجلب الكراهية فأن خزينا الذي سقطنا فيه هو اتسامنا بالأنانية القاتلة، عوض هذا الخزي صار لنا الميراث المضاعف أي الحب من جانبيه المتكاملين، حب الله وحب القريب. وكأن عمل المسيح فينا أن يُحطم الأنا ليهبنا حبًا فائقًا لله ولخليقته.

ب. "بهجة أبدية تكون لهم" [7]؛ مادامت الحياة الكنسية هنا هي عربون الحياة السماوية، تتسم بالمجد المضاعف عوض الخزى، وبالحب عوض الأنانية... فإنها تحمل بهذا طبيعة الفرح والبهجة! سرّ فرحنا أننا نحمل مسيحنا فينا، ليُقيم ملكوته السماوي المفرح في أعماقنا.

ج. "وأقطع لهم عهدًا أبديًا" [8]... كثيرًا ما يكرر سفر إشعياء الحديث عن هذا العهد بين الله وكنيسته المعلن في جسد المسيح المصلوب كسرّ مصالحة أبدية.

د. بركة في ثمارهم الروحية كما نسلهم: "ويُعرف بين الأمم نسلهم، وذريتهم وسط الشعوب، كل الذين يرونهم أنهم نسل باركه الرب" [9]...

ما هو هذا النسل المبارك الذي يعرفه الأمم؟

لا يقصد أولادنا حسب الجسد، وإنما بالأكثر الذين يتتلمذون للرب خلالنا، والذين يتعرفون على الخلاص وينالون الميلاد الجديد خلال شهادتنا الحية لإنجيل خلاصنا.

وربما عنى بالنسل والذرية الأعمال المقدسة التي هي ثمار روح الله القدوس فينا، وعطية نعمته المجانية في حياتنا.

4. حياة زوجية مفرحة:

الحياة الكنسية الحقة هي حياة عرس دائم مملوء فرحًا وبهجة بلا انقطاع، خلاله نرتدي ثوب الخلاص كثوب العرس الأبدي، أو كثوب كهنوتي عام...

"فرحًا أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ مثل عريس يتزين بعمامة (تاج) ومثل عروس تتزين بحُليها" [10].

في بعض الكنائس التقليدية يردد الكاهن العبارة السابقة عند ارتدائه الثياب الكهنوتية للاشتراك في قداس الأفخارستيا، حاسبًا أنه يتقدم لسرّ الأفخارستيا كما إلى عرس مفرح، يحتاج إلى ارتداء ثياب الخلاص الخفية ورداء البر وزينة الروح... ما هو هذا الثوب إلاَّ السيد المسيح نفسه؟! يلبسه المؤمنون عند تمتعهم بمياه المعمودية (غل 3: 27).

v   حقًا المسيح هو زينة العروس، هذا الذي هو الكائن والذي كان والذي يأتي، المبارك الآن وإلى الأبد، أمين.

القديس غريغوريوس النيسي[655]

v الآن (بعد العماد) إذ خلعتم ثيابكم القديمة ولبستم الثياب البيضاء روحيًا، يليق بكم أن تستمروا في ارتداء ما هو أبيض. بالطبع لا نقصد بهذا أن تلبسوا ثوبًا أبيض على الدوام، إنما أن تلتحفوا بثياب بيضاء بالحق، مضيئة روحيًا، فتقولون مع الطوباوي إشعياء: "تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص..."[656].

v   احفظوا اليوم المقدس، مرتدين ثوب الخلاص، يسوع المسيح[657].

القديس كيرلس الأورشليمي

لقد أوضح النبي ماذا يعني بثياب الخلاص، قائلاً: "لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها، وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًّا وتسبيحًا أمام كل الأمم" [11]، وكأن ثياب الخلاص هو برّ المسيح وتسبيحه الذي يهبه لنا عطية مجانية من عندياته.

<<

 


 

الأصحاح الثاني والستون

الكنيسة عروس المسيح

يعلن الله عن غيرته على صهيون الجديدة، كنيسة العهد الجديد، بقبولها عروسًا مقدسة تحمل اسمًا جديدًا، وتتمتع بمجد عريسها السماوي، يحرسها بجنوده السماويين ويجعل من حياتها سرّ فرح وتهليل للبشرية...

1. اسم جديد وحياة مجيدة            [1-3].

2. عروس سماوية                  [4-5].

3. حراسة مع تهليل                 [6-9].

4. تهيئة الطريق لها                 [10-12].

1. اسم جديد وحياة مجيدة:

"من أجل صهيون لا أسكت ومن أجل أورشليم لا أهدأ حتى يخرج برّها كضياء، وخلاصها كمصباح يتقد، فترى الأمم برّك، وكل الأمم مجدك، وتسمين باسم جديد يُعيّنه فم الرب" [1-2].

المتحدث هنا هو كلمة الله الذي تحتل الكنيسة مركز قلبه، فقد جاء إلى العالم ليخطبها لنفسه عروسًا أبدية. إن كان بوعز لم يهدأ حتى يتمم أمر زواجه براعوث  الأممية (را 3: 18)، فإن السيد المسيح لا يتوقف عن العمل الدائم حتى يضم إلى نفسه الكنيسة التي اقتناها بدمه الثمين عروسًا له. إنه شمس البر الذي يشرق عليها فتحمل بره برًا لها. وتتمتع بالبهاء وتصير مصباحًا روحيًا لا تقدر كل رياح العالم أن تطفئه. يُناجيها قائلاً: "وجملتِ جدًا جدًا فصلحتِ لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد المسيح" (حز 16: 13-14).

يهبها السيد المسيح بهاءه داخلها ومجده مجدًا لها فتتمتع بالتجديد الذي يشمل حتى الاسم علامة التجديد الكامل: "وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب". فإنه إذ جاء السيد المسيح وقدم لنا بروحه القدوس تجديدًا حملنا اسمه كاسم جديد وصرنا "مسيحيين". لهذا كان المدافعون الأولون مثل الفيلسوف أثيناغوراس يقول: [إن الاتهام الحقيقي الذي كان موجهًا ضد المسيحيين هو اتهام "الاسم". فكان الاضطهاد عنيفًا ضدهم ليس لأجل جريمة ارتكبوها،

وإنما لأجل الاسم الذي حملوه.

تمتعت كنيسة العهد الجديد بالانتساب إلى اسم المخلص كمصدر حيّ للتمتع ببره الفائق كسرّ جمال لها: "وتكونين إكليل جمال بيد الرب، وتاجًا ملكيًا بكف إلهكِ" [3]. يدعوها الرب "إكليل جمال" و "تاجًا ملوكيًا" لا لتوضع على رأس الرب لأنه لا يحتاج إلى كرامة إضافية، إنما هي في يده؛ هي عمل يديه، مجدها من صنعه هو. يعتز بها ويبقى هو الرأس وهي جسده المجيد.

2. عروس سماوية:

أحد الأسماء الجديدة التي تمتعت بها الكنيسة هي "عروس المسيح". "لا يُقال بعد لكِ مهجورة، ولا يُقال بعد لأرضك موحشة، بل تدعين حفصيبة وأرضك تُدعى بعولة، لأن الرب يُسر بك وأرضك تصير ذات بعل؛ لأنه كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك، وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك" [4-5].

خارج المسيح المخلص كانت تدعى "مهجورة" و"موحشة"، كأرض قفر بلا حياة ولا ثمر وكفتاة هجرها الكل فصارت نفسًا خربة يُحطمها الشعور بالعزلة والترك. الآن بالمسيح صارت عروسًا أبدية سماوية لذا حملت لقبين مكرمين عوض الاسمين القديمين: "حفصيبة" وتعني "مسرتي بها" و"بعولة" أي "ذات البعل" أو "متزوجة"؛ صارت موضع سرور الله تعيش في حضن عريسها السماوي.

يحب بنوها أرضها ويعملون بسرور وبهجة كأنهم متزوجون الكنيسة، يعملون لحسابها لا كعبيد ولا كأجراء ينتظرون المكافأة وإنما كبعل يُسر بعروسه يطلب راحتها وترفها... هذه هي سمة أولاد الله الذين بفرح يكرسون قلوبهم وأفكارهم وطاقاتهم للعمل في كنيسة المسيح.

يلاحظ أن هذه العروس فريدة وعجيبة من جهة الآتي:

أ. أنها عذراء وأم لها بنين في نفس الوقت، الأمر الذي لن يتحقق في حياة أية فتاة، لكنه تحقق في القديسة العذراء مريم والدة الإله. فقد ولدت يسوع رب المجد وبقيت دائمة البتولية، لأن ابنها واهب البتولية، فصارت العضو الأمثل في الكنيسة.

كنيستنا عذراء عفيفة (2 كو 11: 2)، وهي أم المؤمنين في نفس الوقت.

نحن أيضًا إذ نتقبل العضوية الكنسية تصير نفوسنا في الداخل بتولاً عفيفة، وبالحب تحمل نوعًا من الأمومة نحو البشر.

v   يلزم أن تكون بتوليتكم روحية...

حقًا لا يقدر كثيرون أن يكونوا بتوليين حسب الجسد، لكن يلتزم كل مؤمن أن يكون بتولاً حسب الروح.

إذن تيقظي يا نفسي، واحرصي على بتوليتك.

v   أم السيد المسيح عذراء، وعروسه "الكنيسة" عذراء أيضًا.

القديس أمبروسيوس[658]

v   النعمة جعلت العذراء أمًا ولم تحل بتوليتها.

الأب ثيؤدسيوس أسقف أنقرة[659]

ب. بقوله: "كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك" [5]، يكشف عن وحدة الكنيسة فقد حسب كل أولادها أشبه بشاب واحد، لأن الجميع يعيشون بهدف واحد وغاية واحدة هي الاتحاد مع الآب في ابنه يسوع المسيح بالروح القدس. ومن ناحية أخرى يوضح أنه لا يعني الزواج بالمفهوم الجسداني، لأنه لا يليق بالأولاد أن يتزوجوا أمهم، إنما يعني تعلق أبناء الله بعروسه الكنيسة واتحادهم بها. أخيرًا تشبيه أبناء الكنيسة بالشاب يعني اتسامهم بالشبوبية الدائمة، حيث لا تلحق بهم شيخوخة ولا يصيبهم ضعف.

ج. بقوله: "وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك" [5]، يكشف عن اتسام الكنيسة بالفرح الدائم، وعن بقائها في حالة عرس دائم فيه يشتاق الطرفان كل نحو الآخر. بمعنى آخر لا يَقْدَم العُرس ولا يخضع للزمن، إنما يبقى عرسًا دائمًا أبديًا.

والعجيب أنه في طقس الكنيسة القبطية توجّه الأنظار أثناء قداس الزواج نحو الكنيسة كعروس المسيح، وأيضًا نحو القديسة مريم كمثال حيّ للتمتع بعرس داخلي مع السيد المسيح. ففي نهاية خدمة هذا القداس يتغنى الشمامسة بهذا النشيد:

"السلام للعروس المضيئة،

أم الذي يضيئ،

السلام للتي قبلت إليها الكلمة الكائن في أحشائها،

السلام للتي هي أكرم من الشاروبيم،

السلام للتي ولدت لنا مخلص أنفسنا...".

3. حراسة مع التهليل: 

عانى اليهود من السبي فحسبوا أنفسهم كزوجة هجرها رجلها أو أرض صارت قفرًا وها هو الرب يردهم ليصيروا أبناء عاملين في أرضهم (بلدهم). لكن ربما خشي البعض من التعرض للسبي مرة أخرى، لهذا يؤكد الرب حراسته لشعبه الراجع إليه.

إن كان عدو الخير قد أسرنا في أرضه، وحرمنا من أرض الموعد، ومن التمتع بالمقدسات السماوية، الآن بالصليب صرنا عروسًا للرب، ورجعنا كما إلى الفردوس كبيت خاص بنا أو كمدينة مقدسة نسكن فيها مع إلهنا الذي يُقيم حراسة مشددة يَقِظة عند أسوارنا تُراقب العدو ليل نهار بلا توقف [6].

من هم هؤلاء الحراس الذين يقيمهم الرب على كنيسته إلاَّ خدامه الأمناء اليقظين، خاصة بروح الصلاة الدائمة مع العمل الرعوي المملوء حبًا. هذا ما نلمسه في خدمة الرسول بولس القائل: "لذلك اسهروا متذكرين إني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد" (أع 20: 31). وأيضًا في خدمة صموئيل النبي القائل: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12: 23). هكذا تلتحم الصلاة الدائمة مع الحب والتعليم المستمر بكونها جميعًا عمل حراسة لمدينة الرب.

في حياة الإنسان المسيحي الحق صاحب المعرفة الروحية العملية – الغنوسي- يلزم إقامة حراسة مستمرة داخلية، عبرّ عنها القديس اكليمندس الإسكندري بقوله: [يليق بالغنوسي أن يتأمل في الله قدر المستطاع[660]].

ما أروع العبارة: "يا ذاكري الرب لا تسكتوا، ولا تدعوه يسكت" [6-7]. هكذا يدعونا الرب أن نذكره على الدوام ولا نسكت فيستجيب هو أيضًا ولا يسكت؛ نذكره فيذكرنا، فإنه مشتاق أن يُدخلنا معه في معاملات قوية ومستمرة، طالبًا أن يُثبتا كأورشليمه المجيدة، ويجعل منا "تسبيحة في الأرض" [7]. كل من يتطلع إلينا أو يتلامس معنا يتمتع بأيقونة السماء، الفرح الداخلي الحق.

يهبنا الله أن نتمتع بثمر روحه القدوس من قمح وخمر ولا يغتصبه العدو منا. ما هو القمح إلاَّ التمتع بالشركة مع المسيح السنبلة الفريدة؟! وما هو الخمر إلاَّ عطية الروح القدس واهب الفرح؟! كأن سهرنا في الرب يحفظ شركتنا مع الله في المسيح يسوع قمحنا السماوي

بواسطة روحه القدوس الخمر الفريد.

4. تهيئة الطريق لها:

تهيئة الطريق للرب في حياتنا هو تهيئة لطريقنا نحن في سمواته. هو يعبر إلى أبواب قلوبنا ليحملنا إلى أبوابه الدهرية. أقام صليبه راية حب لنا لكي نجتاز بها المعركة الروحية وننال المكافأة السماوية. لذا قيل: "أعبروا أعبروا بالأبواب، هيئوا طريق الشعب، اعدوا اعدوا السبيل، نقوه من الحجارة، ارفعوا الراية للشعب. هوذا الرب قد أخبر إلى أقصى الأرض؛ قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آت ها أجرته معه وجزاؤه أمامه" [10-11].

لقد جاء القديس يوحنا المعمدان يُهيئ الطريق للرب (مت 3: 3)، أما الذي يعمل حقيقة والذي يُكافئ فهو مخلص الكنيسة.

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث والستون

المسيح دائس المعصَرة

ظهرت الكنيسة في الأصحاح السابق كعروس تتمتع بانتسابها لله مخلصها وعريسها، الآن يقدم لنا صورة للعريس الذي يبذل حياته من أجل عروسه.

1. المسيح المصلوب                          [1-6].

2. تسبحة من أجل إحسانات الرب             [7-9].

3. تذكير الله بأعماله القديمة معهم            [10-14].

4. صلاة التوبة                                [15-19].

1. المسيح المصلوب:

في يوم خراب أورشليم على يديْ بابل وقف بنو آدوم شامتين بل وقاموا بدور إيجابي ضد أورشليم بإلقاء القبض على الهاربين لتسليمهم أسرى، ودخولهم بغنائمهم للرعي في أورشليم الخ... لهذا يصرخ المرتل قائلاً: "أذكر يارب لبني آدوم يوم أورشليم القائلين: هُدّوا هُدّوا حتى إلى أساسها" (مز 137: 7)؛ كما يقول عوبديا النبي: "من أجل ظُلمك لأخيك يعقوب يغشاك الخزى وتنقرض إلى الأبد، يوم وقفت مقابله، يوم سَبَتِ الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضًا كواحد منهم" (عو 10: 11).

يشير آدوم (تعني ترابًا ومحبًا لسفك الدماء) إلى عدو الخير إبليس لهذا يظهر المخلص كقادم من آدوم بثياب حمر في جلاله وعظمته؛ غلب العدو وداسه كما في معصرة ليهب شعبه نصرة وخلاصًا.

"من ذا الآتي من آدوم بثياب حمر من بصرة؟! هذا البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوته؟! أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص" [1].

تطلع النبي إلى المخلص وقد ارتفع على الصليب محطمًا آدوم الحقيقي وواهبًا نصرة وبهاء لمؤمنيه، فصار يسأله:

من أنت؟

من أين أنت قادم؟

ما هو حالك؟

ما هو عملك؟ وما هو هدفك؟

فمن جهة شخصه يقول: "أنا المتكلم بالبر العظيم الخلاص" [1]. كثيرون يتكلمون بالبر ويجيدون الحديث عنه، حتى بعض القادة الدينيين في ذلك الحين كانوا قادرين على التعليم بخصوص البر. أما المخلص- ربنا يسوع - فهو الوحيد القادر أن يتحدث بالبر "العظيم الخلاص"، أي البر العملي الذي يهب خلاصًا من الأعداء وتمتعًا بالأبدية. هو وحده البار الذي لم يعرف خطية (2 كو 5: 21)، حمل خطايانا في جسده ليكفر عنها بدمه المبذول، مقدمًا لنا بره برًا لنا. إنه فريد في بره، فمن جانب: هو وحده الذي بلا عيب مطلقًا، ومن الجانب الآخر قادر أن يبرر الآخرين. أنه البار الذي يُسر الآب به، يحملنا فيه لنحسب نحن أيضًا موضع سروره.

يتكلم السيد المسيح عن برّ لا بفمه فقط وإنما بكل كيانه وحياته التي بذلها بإرادته المقدسة خلال حبه الإلهي لأجل تبريرنا، ليُصلح من حال طبيعتنا الفاسدة ويهبها شركة الطبيعة الإلهية (2 بط 1: 4).

من جهة الموقع رآه قادمًا من "آدوم" التي تعني "ترابًا" أو "دمًا". وكأن الرب جاء إلى حيث سقطنا، إلى آدوم، حيث عدنا إلى ترابنا لكي يحول ترابنا إلى سماء. لقد قيل لنا "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19)، الآن إذ نزل مخلصنا السماوي إلى أرضنا لنتحد معه نسمع الصوت الإلهي: "لأنك سماء وإلى سماء تعود". هذا هو برّ المسيح الذي يرفعنا كما من المزبلة ليُقيمنا في سمواته.

من جانب آخر فإننا إذ صرنا "أدوم" (= دم) محبين للقتال أو مبغضين للغير، فإن مسيحنا جاء إلى أرض المعركة ليغتصبنا من عدو الخير المحب لسفك الدماء لكي يتسع قلبنا بالحب والبذل!

من جهة عمله يقول: "قد دستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" [3]. دخل المعركة - معركة الصليب - وحده، وكما قال لتلاميذه: "وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (يو 16: 32).

لباسه محمر وثيابه كدائس المعصرة [2]، إذ ألبسوه ثوبًا قرمزيًا (مز 15: 17) ليسخروا به. كما تُشير إلى أن جسده كله قد أفاض دمًا من الجراحات الواهبة الشفاء (إش 53: 5). هذا البذل هو سرّ جمال فائق يدركه من اختبر الصليب كقوة الله للخلاص، لهذا قيل

"البهي بملابسه" [1].

v   صنع تدبيرًا رائعًا للجسد المتألم، فقد تزين بالآلام وتمجد باللاهوت، فإنه ليس أكثر من ذلك عذوبة وجمالاً.

القديس غريغوريوس النزينزي[661]

ما فعله إنما بوحي حبه العظيم وغيرته نحو عروسه إذ أراد أن يُحررها من العدو إبليس ويهبها التمتع بسنة اليوبيل الدائمة أو التحرر غير المنقطع [4].

2. تسبحة عن إحسانات الرب:

لم يجد النبي ما يمكن للكنيسة العروس المفدية بالدم أن تقدمه مقابل إحسانات الله الدائمة والتي تجلت في أعمق صورها على الصليب سوى التسبيح له.

لم يقدم الله إحساناته من أجل مقابل ما،  إنما من أجل مراحمه وكثرة إحساناته، متطلعًا إلينا إننا شعبه وبنوه؛ يُشاركنا ضيقنا وآلامنا. "في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته (المخلص) خلصهم" [9]. إنه حب عجيب!

3. تذكير الله لأعماله القديمة:

إن كان الإنسان في غباوته يأخذ موقفًا مضادًا من خالقه وفاديه، فإن الله في محبته يذكر أعماله القديمة معهم كيف راعاهم خلال موسى، وكيف حل في وسطهم بروحه القدوس. شق أمامهم المياه ليتمجد اسمه فيهم... لا يزال الله هو هو في حب يود أن يقود شعبه بنفسه!

حقًا إنه يؤدبهم على موقفهم العدائي لكنه يبقى منتظرًا عودتهم، هذا ما عناه بقوله: "ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه فتحول لهم عدوًا وهو حاربهم، ثم ذكر الأيام القديمة الخ..." [10-11].

v إن كنا نصلي ونردد المزامير قدامه في كبرياء بطريقة نقدية، في زهو، إن كنا نتمم الخدمة بتشتيت فكر ليس فقط لا يصغي إلينا بل ويسلمنا للشرير... يرتد ليصير خصمًا يُحاربنا؛ بمعنى آخر يسحبنا من حضرته ويسلمنا للشيطان لتأديبنا حتى نتوقف عن التجديف (1 تي 1: 20).

الأب مارتيروس السرياني[662]

4. صلاة وتوبة:

حين نسقط في الشر ونقف كمعادين لله، يبقى الله منتظرًا توبتنا. فلا نبرر أخطاءنا إنما نستدر حبه وغيرته نحونا بكونه أبانا الذي يعرفنا أكثر من إبراهيم أب المؤمنين وإسرائيل نفسه [16].

"تطلع من السموات وانظر من مسكن قدسك ومجدك" [15]. هكذا يشعر الخاطئ كأنه قد دنّس الأرض بخطيته ورجاسته، وكأن الله قد فارق الأرض ليبقى في السماء حيث مقدسه ومجده، لهذا يستدر مراحم الله، طالبًا منه أن يتطلع من سمواته الطاهرة نحو النفس الساقطة والمشتاقة إلى الرجوع إليه والتمتع بحضرته.

ربما جاء هذا الشعور كوليد لما حل بهيكل الرب من خراب، فقد رأى حزقيال النبي مجد الرب يُفارق الهيكل والمدينة "أورشليم" بل والأرض كلها، إذ يقول: "وخرج مجد الرب من على عتبة البيت ووقف على الكروبيم، فرفعت الكروبيم أجنحتها وصعدت عن الأرض قدَّام عيني" (حز 10: 18-19).

"أين غيرتك؟... ومراحمك نحوي قد امتنعت" [15]. تقوم التوبة على أساس اكتشاف غيرة الرب نحو أولاده وحبه الفائق العميق "زفير أحشائك" ومراحمه نحو الإنسان مهما كانت ضعفاته. كما تقوم على إدراكه بنوته له (تث 32: 6؛ إش 63: 16).

"لماذا أضللتنا يارب عن طرقك؟! قسَّيتَ قلوبنا عن مخافتك؟! ارجع من أجل عبيدك أسباط ميراثك" [17]. واضح هنا أن التائب لا يعني إلقاء اللوم على الله، إنما بعدما اكتشف أبوة الله في الحال يُعاتبه، بأنه كان ينتظر أن نعمته تسنده. حقًا لقد أخطأ وتمادى في الخطأ فأسلمه الله لذهنه المرفوض، وتركه لقساوة قلبه (رو 1: 28)،  الآن يطلب نعمته حتى لا يضل عن طريق الرب ولا يبقى في قساوة القلب. هذا ما عناه المرتل بقوله: "بكل قلبي طلبتك، لا تضلني عن وصاياك" (مز 119: 10).

حين يدخل الإنسان تحت التأديب يشعر بالمرارة لذلك يقف معاتبًا الله بكل وسيلة، تارة يسأله ألا يسمح بعد أن يتركه في فساد ذهنه وقساوة قلبه، وأخرى يسترحمه من أجل قديسيه المباركين الذين يطلبون عن البشرية [17]، وأخيرًا يسأله أن يسرع بالنجدة إذ طالت مدة التأديب. هذا ما عبّر عنه النبي بالقول: "إلى قليل امتلك شعب قدسك، مضايقونا داسوا مقدسك، قد كنا منذ زمان كالذين لم تحكم عليهم ولم يُدع عليهم باسمك" [18-19]. لقد حسبوا المدة التي امتلك فيها الشعب الهيكل "قدس الرب" قليلة مع أنها تبلغ حوالي 400 عام من بناء الهيكل حتى السبي، أما مدة السبي (70 سنة) فحسبوها طويلة للغاية بسبب مرارتها، إذ يقولون "كنا منذ زمان...". صاروا تحت السبي مثلهم كسائر الأمم كأن الله ليس حاكما عليهم ينقذهم من هذا المُرّ، وكأن اسمه لم يدع عليهم...

إذ ذاقوا مرارة السبي اشتاقوا أن يملك الرب عليهم ويدعو اسمه عليهم حتى يخلصهم.

<<

 


 

الأصحاح الرابع والستون

تضرع من أجل مجيء المسيّا

يحاول بعض الدارسين أن يفسروا حديث إشعياء النبي هنا - كما في كثير من الأصحاحات - على أنه يخص مجيء السيد المسيح الثاني ليملك ألف سنة قبل حدوث الضيقة العظيمة. لكن من الواضح أن النبي يتحدث هنا عن مجيء المسيح للخلاص الذي تحقق على الصليب، ولا يزال يتحقق عمليًا في قلب كل مؤمن جائع إلى الرب.

1. نزول المسيا من السماء                    [1-3].

2. بركات انتظار المسيا              [4-5].

3. اعتراف بالخطايا                  [6-12].

1. نزول المسيا من السماء:

"ليتك تشق السموات وتنزل، من حضرتك تتزلزل الجبال؛ كما تشعل النار الهشيم وتجعل النار المياه تغلي لتعرَّف أعداءك اسمك، لترتعد الأمم من حضرتك" [1-2].

يرى بعض المفسرين أن الحديث هنا خاص بالسيد المسيح عندما ينزل من السماء علانية ليُقيم مملكته على الأرض ألف عام، يملك ويهزم مقاوميه وأعداءه وكل الأمم الخ... على خلاف مجيئه الأول الذي كان مخفيًا في أحشاء البتول، لا يصيح ولا يسمع أحد صوته الخ...

لست أريد الحديث هنا عن الملك الألفي إذ تعرضت له في تفسير الأصحاح 19 من سفر الرؤيا، إنما ما أود تأكيده أن نصوص إشعياء النبي لا تُفهم بطريقة حرفية، لأن مسيحنا ملك روحي، رفض أن يملك ماديًا، حاسبًا تجسده الإلهي نزولاً كما من السماء ليلتقي بنا؛ كنا كالجبال في قسوة حياتنا فتزلزلت أعماقنا، أشعل ما في داخلنا من هشيم الشر، وجعل المياه الباردة فينا تغلي بالحب، واهبًا إيانا نصرة على أعداء اسمه، لا خلال حروب منظورة وإنما خلال الإيمان العامل بالمحبة.

من أجل الخلاص من السبي أو الضيقات يكفي أن يطلب الإنسان من الله أن يتطلع من السموات وينظر من مسكن قدسه ومجده (إش 63: 15)، وإن كان الله مالئ السموات والأرض بلاهوته... أما من أجل خلاصنا من خطايانا وعودتنا إلى الأحضان الأبوية فالأمر

يحتاج إلى شق السموات ونزول كلمة الله إلى أرضنا [1]. وكما قال السيد المسيح عن نفسه.

* "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني... أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو 6: 38: 40). نزل من السماء ليحقق الطاعة عوض آدم الساقط في العصيان، مقدمًا مشيئة الآب التي هي واحدة مع مشيئته. أما مشيئة الآب فهي تحقيق الخلاص والقيامة برؤية الابن إيمانيًا والثبوت فيه.

* "ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3: 13).

وقال عنه القديس يوحنا المعمدان: "الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع" (يو 3: 31).

يسبح القديس مار افرآم السرياني كلمة الله الذي شقّ السموات ونزل قائلاً:

[مبارك هذا الذي بتجسده اشترى لطبيعتنا البشرية حياة!

مبارك هذا الذي ختم نفوسنا وزينها وخطبها لنفسه عروسًا!

مبارك هذا الذي جعل جسدنا خيمة لطبيعته غير المنظورة!...

المجد لذاك الذي نظر إلينا كيف إننا قبلنا أن نشابه الوحوش في هياجنا وجشعنا، فنزل إلينا وصار واحدًا منا حتى نصير نحن سمائيين!...[663]].

تطلع داود النبي إلى التجسد الإلهي فقال: "طأطأ السموات ونزل" (مز 18: 9).

يرى البعض أن بقوله "ليتك تشق السموات وتنزل، من حضرتك تتزلزل الجبال" [1] يعني أن الشعب وسط ضيقته شعر كأن الله قد حجب وجهه عنهم بالسحاب: "الرب سكن في الضباب" (2 إى 6: 1)؛ "السحاب ستر له فلا يُرى" (أى 22: 14). وكأنهم يصرخون أن كانت خطايانا قد حجبتك وراء السحاب، وحجبت عنا إدراك أسرار مقاصدك؛ فإنه ليس من يقدر أن يُصلح الأمر سواك. نحن لا نقدر أن نصعد إليك، أما أنت فتشق الحجاب وتنزل إلينا. لا يكفي أن تنظر إلينا من سمواتك، نحن في حاجة إلى حلولك وسطنا.

"تتزلزل الجبال" [1]، إن كانت الجبال الصلدة قد ارتجفت في سيناء حين التقى الله بموسى (خر 19: 17-18)، وانشقت الجبال وانكسرت الصخور أمام الرب لما كلم ايليا (1 مل 19: 11)، فمن يقدر أن يقف أمامه؟! الله وحده القادر أن يحل كل مشاكلنا، فيزلزل إنساننا القديم ويُحطم جبروت شرّنا ليُقيم مملكته في داخلنا. إن كان إبليس وكل جنوده وملائكته بأعمالهم الشريرة وخداعاتهم كالجبال، فإن الرب يُزلزل مملكتهم بالصليب، وإن كانوا كالهشيم (أشبه بالقش الهش الجاف الذي لا يصلح إلاَّ وقيدًا)  فان الله يُهلكهم بالنار.

إننا في حاجة إلى نزول الرب إلينا لأن أعداءنا الذين كالجبال هم أعداء إسمه، يقاوموننا لينتزعونا عن ملكوته أو ينتزعوا اسمه وملكوته من داخلنا.

مقاومة الأعداء - إبليس وجنوده - مهما بلغ عنفها تصير كهشيم يحرقه الله بالنار لا ليُبدد المقاومة فحسب وإنما ليحولها للخير، إذ يستخدم هذه النيران في تسخين مياه قلبنا الباردة فتغلي حبًا وغيرة مقدسة [2]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى إبليس يمكن أن يكون سبب نفع لن إن فهمناه... هذا واضح في حالة أيوب. ويمكن أن نتعلم هذا أيضًا من بولس، إذ يكتب بخصوص الزاني قائلاً: "أن يُسلم هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي يخلص الروح" (1 كو 5: 5). انظروا حتى الشيطان قد صار سبب خلاص، لا بطبيعته، ولكن بمهارة الرسول كالطبيب الذي بحية ليستخرج منها دواء[664]].

2. بركات انتظار المسيا:

كما عاش الأنبياء مترقبين مجيء المسيا للخلاص، نحن نبقى دومًا ننتظره ليملك لا على الأرض إنما في قلوبنا على حياتنا الداخلية كي يحملنا إلى شركة مجده؛ نرى ما أعده الله لنا، نمتلئ فرحًا ببره العامل فينا. يقول النبي: "منذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا. لم تَر عينٌ إلهًا غيرك يصنع لمن ينتظره الفرِحَ الصانع البرّ..." [4-5].

إن كانت أعمال الله منذ القدم عجيبة لكنه لم يُسمع قط ولم يُر مثلما صنع الرب مع البشرية خلال اعماله الخلاصية، فقد خرج كما من السماء ليلاقي الخطاة بالفرح صانعًا البر في حياتهم، واهبًا إياهم أمجادًا داخلية كعربون للمجد الأبدي.

يعلق القديس هيبوليتس على هذه العبارة النبوية قائلاً على لسان السيد المسيح: [ادخلوا إلى الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. تمتعوا إلى الأبد بما يوهب لكم بواسطة أبي الذي في السموات والروح القدس المحيي. أي فم يقدر أن يخبر عن هذه البركات التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب إنسان، الأمور التي أعدها الله لمحبيه (إش 64: 4؛ 1 كو 2: 9)؟ لقد سمعتم عن الفرح غير المنقطع! لقد سمعتهم عن الملكوت غير المتغير! لقد تعلمتم الآن عن وليمة البركات التي بلا نهاية! [665]].

3. اعتراف بالخطايا:

تبقى نفوسنا دائمًا متهللة من أجل أعمال الله الخلاصية الفائقة، منتظرين دائمًا التلاقي المستمر معه لينزع عار خطايانا ويعلن مجد بره فينا. أما طريق هذا اللقاء فهو:

أ. الاعتراف بالخطايا: "ها أنت سخطت إذ أخطأنا" [5]. يقول القديس كبريانوس: [حسنة هي التوبة! فإن لم يكن لها موضع في قلبك فستخسر نعمة الغسل التي نلتها في المعمودية منذ أمد بعيد، فإنه من الأفضل أن يكون لنا ثوب نصلحه عن ألا يكون لنا ثوب نرتديه، ولكن إذ أُعد لنا الثوب مرة فيجب أن يتجدد...[666]]. ويقول القديس يوحنا الدرجي: [التوبة تُجدد المعمودية، ابرام عقد مع الله على حياة ثانية[667]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هل أخطأت؟ قل لله: "أني أخطأت" أي تعب في هذا؟...[668]].

ب. إدراكنا عجز البر الذاتي عن خلاصنا: "وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عِدة كل أعمال برنا وقد ذبلنا كورقة وآثامنا كريح تحملنا" [6]. وكما يقول الأب مرتيروس السرياني: [كل كياننا الداخلي مُبتلع عند رؤيتنا له (دا 10: 8)، بسبب مهابته تصمت أفواهنا. عندما ننال قليلاً من القوة للتحدث معه تلومنا ضمائرنا، وإذ نرى أننا قد أخطأنا وأثمنا في حضرته (مز 106: 6). إن تصورنا أننا صرنا في موضع الأبرار فكل برنا كخرقة الطامث (خر 36: 17)، فله تُنسب الغلبة أما لنا فخزى الوجوه والعار (باروخ 1: 15) [669]].

يوضح لنا الأب ثيوناس كيف تتحول اعمالنا الصالحة إلى رداءة إن أتكلنا على برنا الذاتي، فأن برنا يُحسب كخرقة الطامث إن قوبل بالبر الإلهي[670].

ج. إدراك أبوة الله الحانية والغافرة للخطايا: "والآن يارب أنت أبونا؛ نحن الطين وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك. لا تسخط كل السخط..." [8-9].

يقدم الله نفسه لنا أبًا وعريسًا وصديقًا وراعيًا باذلاً... لكي يجتذب كل نفس بالتوبة إليه. وتحمل كنيسته ذات السمة لكي تحتضن الكل بالحب لينعموا بخلاص الله العجيب. ففي رسالة إلى راهب ساقط يقول القديس باسيليوس الكبير:

[إنني أحزن عليك، لأنه أي كاهن لا ينتحب عندما يسمع هذا؟!...

أي خادم للمذبح لا يقرع صدره؟!

أي "علماني" لا ينكسر خاطره؟!

أي ناسك لا يحزن؟!...

إنك حطمت الجميع دفعة واحدة، دفعة واحدة استهنت بالكل...

تذكر الراعي الصالح الذي يتبعك ويناجيك...

أرجوك ألا تتردد في أن تأتي إليّ بسبب أي اعتبار أرضي، فإني أنتحب إذ أجد ميّتي، أُلازمه وأبكيه من أجل "خراب بنت شعبي" (إش 22: 4).

هوذا الكل مستعد للترحيب بك! الكل يُساهمون معك في جهادك فلا تتراجع...

إنه وقت للخلاص، إنه زمن للاصلاح!

كن منبسط الأسارير ولا تيأس، فإنها ليست (الكنيسة) شريعة لتُدين الخاطئ بلا رحمة، بل (لها) شريعة رحمة تنزع العقوبة وتنتظر الإصلاح.

هوذا الأبواب لم تُغلق بعد، العريس يسمع...

أشفق على نفسك وعلينا نحن جميعًا في ربنا يسوع المسيح[671]].

د. تُذكرنا أننا شعبه المنتسب إليه [9].

هـ. اعترافنا بما حل بنا من خراب، فقد صرنا برية قاحلة، واشتعلت النيران في داخلنا، وتشوهت كل المقادس الداخلية.

<<

 


 

الأصحاح الخامس والستون

السموات الجديدة والأرض الجديدة

يطالبنا الله أن نحمل شوقًا نحو نزوله إلينا وحلوله في داخلنا، معترفين بأعماله الخلاصية الفائقة في حياتنا مع اعترافنا بآثامنا وعجز كل برّ ذاتي فينا، الآن يعلن دعوته للأمم بغير محاباة ليتمتع الكل بالحياة الجديدة فيه، والتي يُحرم منها الجاحدون أيا كان جنسهم.

1. عودة الأمم                                 [1].

2. جحود شعبه                                [2-7].

3. اهتمامه بالبقية                             [8-10].

4. مقارنة بين المؤمنين والجاحدين            [11-16].

5. السموات الجديدة والأرض الجديدة [17-25].

1. دعوة الأمم:

"أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبوني، قلت هأنذا لأمة لم تُسم بإسمي" [1]. واضح هنا أن الحديث خاص بقبول الأمم التي لم تعرف الله ولا طلبته قبلاً ولا حملت اسمه، لكنها آمنت بالمخلص فتمتعت بما حرم شعب الله نفسه بنفسه منه.

تحدث القديس بولس عن دعوة الأمم ورفض الجاحدين من اليهود في رسالته إلى أهل رومية (رو 9: 11)، مستشهدًا بالعبارة النبوية الواردة هنا (رو 10: 20-21). فقد أصغى الله إلى الأمم التي لم تسأله، ووجده هؤلاء الذين لم يطلبوه، لأننا ونحن أعداء صالحنا مع الآب. أحب البشرية كلها قبلما تحبه، واختارنا قبلما نعرفه أو نطلبه. لقد أمال قلوبنا إليه إذ بادرنا بالحب قبلما يُدعى اسمه علينا.

 

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هل سمع إسرائيل ولم يفهم؟ إن كانت الأمم الوثنية قد سمعت وأدركت الإيمان فكم بالحرى كان يليق باليهود الذين أعطاهم الله منذ القدم كل العلامات التي تستهدف إزالة الغشاوة عن عيونهم[672]].

v من هم الذين لم يبحثوا عنه؟ من هم الذين لم يسألوا عنه؟ بالتأكيد ليس اليهود بل الذين هم من الأمم التي لم تعرفه، هؤلاء وصفهم موسى بالكلمات: "ليسوا شعبًا"، "أمة غبية"؛ وعلى

ذات الأساس يُشير إليهم هنا من جهة جهلهم الزائد.

إنه عار عظيم للغاية أن الذين لم يطلبوه وجدوه، والذين بحثوا عنه فقدوه (بعدم إيمانهم).

القديس يوحنا الذهبي الفم[673]

v   من هو هذا الذي أُعلن عنه (ووجدته الأمم) إلاَّ كلمة الآب، عندما أرسله الآب، وفيه للناس القوة الصادرة عنه؟!

القديس هيبوليتس[674]

2. جحود شعبه:

"بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره" لقد بسط الرب يديه على الصليب بالحب ليحتضن الكل ويهبهم حياة الغلبة كما بسط موسى النبي يديه أثناء المعركة ضد عماليق كرمز لعمل المسيح الخلاصي[675].

بسط الرب يديه من جانبه منتظرًا أن نستجيب لهذا العمل بطلبه كل يوم كما يقول القديس بفنوتيوس[676] .

أما سرّ رفض الله شعبه فهو:

أ. تمردهم [2]، طالبين السير حسب أهوائهم الذاتية لا حسب فكر الله. 

ب. كسرهم للشريعة، وانحرافهم نحو العبادات الوثنية [3-4].

ج. اتكالهم على البرّ الذاتي [5].      

يرى القديس أغسطينوس أن جحد الإيمان بالرب هو موت، فقد شاهدوا معجزات المخلص بأعينهم ولم يحيوا خلالها بل بقوا كما في حالة موت[677].

3. اهتمامه بالبقية:

إن كان الشعب ككل قد أخذ موقف الجحود لكن هناك بقية مقدسة للرب مثل التلاميذ والرسل والمريمات وزكا العشار ولاوي الخ... هذه القلة المقدسة لا تهلك بل تكون بركة. "هكذا قال الرب: كما إن السُلاف يوجد في العنقود فيقول قائل لا تهلكه لأن فيه بركة، هكذا أعمل لأجل عبيدي حتى لا أهلك الكل" [8].

بين المقاومين وُجد مختارون للرب، عبيد له، يطلبونه [10].

4. مقارنة بين المؤمنين والجاحدين:

أ. ظن بعض تاركي الرب أنهم ينجون بإقامة ولائم وثنية تتسم بالترف والسكر، ولم يدركوا أنهم صاروا كغنم للذبح [11-12].

ب. غالبًا ما يظن الجاحدون أنهم يعيشون في ترف بلا حرمان، لكن سرعان ما يشبع المؤمنون ويجوع الجاحدون، يفرح الأولون ويحزن الآخرون. يتمتع المؤمنون بحياة التسبيح والتهليل الداخلي بينما ينكسر قلب الجاحدين [13-15].

ج. يتعرض المؤمنون للضيقات لكنهم ينالون بركة الله الحق حتى وهم على الأرض فينسون متاعبهم وسط تعزيات الله وبركته [16].

5. السموات الجديدة والأرض الجديدة:

يقدم لنا إشعياء النبي صورة رائعة عن عمل السيد المسيح الخالق لإقامة كنيسة العهد الجديد. لقد أقام سموات جديدة وأرضًا جديدة [17]؛ أقام تجديدًا حقيقيًا للنفس (السموات) وللجسد (الأرض)، فصارت النفس والجسد معًا في انسجام، إذ خضع كلاهما لروحه القدوس. انتهى الصراع القديم بين شهوات النفس وشهوات الجسد، ودخلنا بالروح القدس إلى حياة الفرح الروحي والبهجة السماوية، إذ امتلأت حياتنا بثمر الروح القدس من محبة وفرح وسلام (غلا 5: 22). نفرح نحن كعروس مقدسة متجددة بعريسها، ويفرح هو بنا، إذ يقول: "فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي" [19]. إنها فرحة الحب المشترك!

في هذه الحياة الجديدة التي صارت لنا في المعمودية تتحول الذئاب إلى حملان فيرعى الذئب مع الحمل، وتتحطم طبيعة الافتراس والشراسة فيأكل الأسد مع البقر. أما الحيات فلا تؤذي ولا تُهلك من عرف بنوته لله وعاش بإمكانيات الحياة التي صارت له[678]]. 

أما سمات هذه الحياة الجديدة فهي:

أ. لا نعود نذكر الحياة الأولى ولا تخطر على بالنا، لأن فيض بركة الرب تمتص كل طاقاتنا [17].

ب. حياة فرح وابتهاج دائم أبدي [18-19]، لا يسمع فيها صوت بكاء أو صراخ.

ج. ليس فيها إنسان يحمل عجز الطفولة أو الشيخوخة، بل يتمتع الكل بالنضوج الروحي [20].

د. مملوءة بركات: يبنون بيوتًا روحيًا يسكنون فيها مع الله ويغرسون كرومًا ليشبعوا من ثمار الروح [21].

هـ. لا يغتصب العدو (إبليس) موضعًا فيهم [23].

و. مملؤون سلامًا، لا يحل بهم الرعب [13].

ز. يستجيب الرب صلواتهم قبلما ينطقون بها: "ويكون أنيّ قبلما يدعون أنا أُجيب وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" [24].

ح. تغيير الطبيعة بانتزاع روح العداوة والتمتع بروح الحب والوحدة حتى بين الذئب والحمل، الأسد والبقر، الحية والإنسان! يأتي البشر من أمم متباينة اتسمت بعضها بالشراسة، وصار الكل شعبًا واحدًا تحت قيادة روح الله القدوس.

<<

 

 


 

الأصحاح السادس والستون

أورشليم الجديدة

اختتم هذا السفر الإنجيلي بالكشف عن أورشليم الجديدة التي أقيمت بالسيد المسيح بعدما هدم الحرف القاتل الذي ارتبط بالشكليات المفسدة لحياتنا الداخلية وعلاقتنا مع الله.

1. فساد العبادة الشكلية                        [1-4].

2. التمييز بين الشكليين والجادِّين في العبادة   [5-9].

3. أورشليم الجديدة                            [10-24].

1. فساد العبادة الشكلية:

كثيرًا ما اتكل اليهود على وجود الهيكل في أورشليم كمصدر أمان لهم، مهما كانت حياتهم أو علاقتهم بالرب. لهذا يوبخهم الرب قائلا: "السموات كرسيّ والأرض موطئ قدمي، أين البيت الذي تبنون ليّ؟ وأين مكان راحتي؟" [1].

إن كان الله في محبته للإنسان سمح أن يبنى له بيتًا، إنما من قبيل تنازل الله ليعلن حلوله في وسطنا. الله لا تهمه الحجارة والمباني الضخمة إنما يسكن في "المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامه" [راجع 2]. لقد أدرك سليمان الحكيم هذه الحقيقة لهذا صلى في يوم تدشين الهيكل، قائلاً: "لأنه هل يسكن الله حقًا على الأرض؟! هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت" (1 مل 8: 27).

v   لقد قبل بالحقيقة الهيكل الذي دُعى "هيكل أورشليم" بيتًا له أو محلته، ليس عن احتياج إليه وإنما لكي إذ تنظرون إليه تقدمون نفوسكم له.

القديس يوستين[679]

v تُرى ما هو هذا المسكن الذي يتذكره داود فيسكب نفسه عليه (مز 42: 2)، مشتهيًا هذا البيت في حب قوي حتى الموت؟ هل هو المسكن المصنوع من جلد وبوص واسمانجوني وارجوان؟! لاشك أن نظرة داود مختلفة عن ذلك تمامًا...

أنزع عنك كل فكر أرضي، وتعال سرْ، في الطريق الذي يفتحه لك الأنبياء والرسل وفوق الكل سِر في كلمة الله من كل قلبك وبكل فهمك، لتصعد إلى السماء وتتأمل روعة المسكن الأبدي الذي أوضح لك موسى مجرد ظله.

العلامة أوريجانوس[680]

v   كنيسة الله هي السماء![681]

v   "نفس البار كرسي الحكمة"... الأبرار هم الكراسي[682] .

v   لقد صرت سماءً، فهل تخاف الأرض؟...

لذلك متى صار لك كمال المعرفة، وصار لك الحب، تصبح عرش الله وسماءً. فإن السماء التي نتطلع إليها بأعيننا هذه ليست بثمينة جدًا أمام الله. نفوسنا المقدسة هي سماء الله؛ أذهان الملائكة وكل الخدام هي سماء الله[683].

القديس أغسطينوس

الكنيسة هي الدخول في الصخرة كما فعل موسى النبي لكي يرى مجد الله، هذه الصخرة هي المسيح. نثبت فيه بروح الاتضاع مع الانسحاق فننعم بالسكنى الإلهية، لهذا قيل: "وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" [2].

v   أتريد أن تكون موضعًا للرب؟ كن مسكينا بالروح ومنسحقًا ومرتعدًا عند كلمة الله، فيتحقق لك ما تطلبه[684].

v   لترتعب قلوبنا عندما يتطلع الله إلينا فيستقر فيها[685].

القديس أغسطينوس

v   لنرتعب من كلماته لكي يبنينا على الدوام.

القديس يوحنا الذهبي الفم[686]

v يليق بنا أن نحرص بأن نكون في الطريق الضيق المستقيم، طريق التسبيح والمجد، حيث يليق بكل المسيحيين أن يمارسوا السلام والإتضاع وهدوء الحياة الصالحة حسب كلمة الرب الذي لا ينظر إلاَّ إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامه [2].

القديس كبريانوس[687]

هكذا بالاتضاع وانسحاق القلب وخشية كلماته يتطلع إلينا الرب، ويسكن فينا، ويحولنا إلى سمواته المقدسة. أما من ينشغل بالشكليات في العبادة بروح الرياء والكبرياء، فإن الله لا يجد فيه راحة وتصير عبادته مكرهة أمامه. يَشتم الله الذبائح رائحة قتل ونجاسة وعبادة أوثان، إذ يقول: "من يذبح ثورًا فهو قاتل إنسان. من يذبح شاة فهو ناحر كلب، من يُصعِد تقدمة يصعد دم خنزير. من أحرق لبانًا فهو مُباركٌ وثنًا" [3]. وكما يقول الحكيم: "ذبيحة الأشرار مكرهة الرب وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 15: 8).

v الذبائح (الحيوانية) لا تقدس الإنسان، لأن الله لا يحتاج إلى ذبيحة، إنما ضمير مقدمها هو الذي يُقدس الذبيحة متى كان طاهرًا، وبهذا يحرك الله ليقبل التقدمة.

القديس إيريناؤس[688]

أما ثمرة الانشغال في الشكليات بلا روح فهو الدخول في متاعب بلا تعزية، وعوض أن يُطمئنهم الرب قائلاً لكل واحد منهم: "لا تخف لأني معك؛ دعوتك باسمك أنت ليّ" (إش 43: 1)، يقول لهم: "هم اختاروا طرقهم وبمكرهاتهم سُرت أنفسهم، فأنا أيضًا أختار مصائبهم، ومخاوفهم أجلبها عليهم، من أجل أني دعوتُ فلم يكن مجيب، تكلمتُ فلم يسمعوا بل عملوا القبيح في عينيَّ واختاروا ما لم أُسرَّ به" [3-4].

هم يختارون الطريق الشرير ويسرون بالرجاسات المكروهة من الرب، لذلك يتركهم الله لاختيارهم فيسقطون تحت مصائب يجلبها عليهم... هي ثمرة طبيعية لتصرفاتهم. يرفضون دعوته ولا يسمعون لصوته لذلك لا يسمع إلى صلواتهم ولا يستجيب إلى طلباتهم. يشربون من ذات الكأس التي ملأوها.

2. التمييز بين الشكليين والجادين في العبادة:

إن كان الشكليون في العبادة يعانون من المتاعب بلا تعزية، فأنه على العكس الجادون في حياتهم، المرتعدون من كلمة الرب يتعرضون للاضطهاد حتى الطـرد لكنهم

يتمتعون بفرح حقيقي.

"اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي: ليتمجد الرب، فيظهر لفرحكم، وأما هم فيَخْزَوْنَ" [5]. هذا ما حدث عندما أبغض اليهود تلاميذ الرب ورسله وطردوهم تحت ستار الغيرة على مجد الله والناموس الموسوي، لكن فرح التلاميذ وخزى المضطهدون. أشار السيد المسيح إلى ذلك بقوله: "سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يو 16: 2).

أما ثمر الضيق الذي حل على رجال كنيسة العهد الجديد من إخوتهم فهو خراب الهيكل على يدي تيطس، إذ قيل هنا: "صوت ضجيج من المدينة، صوت من الهيكل، صوت الرب مجازيًا أعداءه" [6].

انتهت المقاومة بخراب الهيكل، أما هيكل كنيسة العهد الجديد فأُقيم في كل قلب يحمل ثمرًا هو تجلي رب المجد يسوع في الحياة الداخلية لكل مؤمن. يحدثنا النبي هنا عن نشأة هذه الكنيسة بطريقة فائقة، قائلاً: "قبل أن يأخذها الطلق ولدت، قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكرًا. من سمع مثل هذا؟ من رأى مثل هذا؟" [7-8]. ما هذه الولادة إلاَّ تجلي السيد المسيح في حياة المؤمنين.

يتطلع آباء الكنيسة إلى حياة المسيحي الروحية بعد عماده كحالة نمو للمسيح نفسه في داخل قلوبهم التي تتسم بالأمومة له[689].

v  كما يتشكل الطفل في الرحم، هكذا يبدو ليّ أن كلمة الله يتشكل في قلب النفس التي تقبلت نعمة المعمودية لتدرك في داخلها كلمة الإيمان الأكثر مجدًا وأكثر وضوحًا[690].

v  يبدو أنه من الخطأ أن نتحدث عن تجسد ابن الله من القديسة العذراء ولا نُشير إلى تجسده أيضًا في الكنيسة... إذ يليق بكل واحد منا أن يعرف مجيء ابن الله في الجسد بواسطة العذراء الطاهرة، وفي نفس الوقت أن يدرك مجيئه بالروح في كل واحد منا[691].

العلامة أوريجانوس

v  ما حدث لمريم التي بلا عيب حين أشرق فيها كمال اللاهوت الذي في المسيح يتحقق في كل نفس تمارس البتولية كمنهج لها. حقًا لا يعود يأتي السيد ليحل حلولاً جسديًا "فإننا لسنا نعرفه بعد حسب الجسد" (2 كو 5: 6)، إنما يسكن فينا روحيًا، ويحضر معه أباه كما أخبرنا في الإنجيل...

v  بهذا يستطيع كل مسيحي أن يصير أمًا لذاك الذي هو جوهريًا كل شيء، إذ يقول ربنا نفسه: "من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات فهذا هو أمي" (مر 3: 25، مت 12: 5).

القديس غيرغوريوس اسقف نيصص[692]

v      (كل مسيحي) يحبل بالله في قلبه.

القديس أغسطينوس[693]

v  يُنادي النفس التي تبدأ في الاتجاه نحو السيد المسيح هكذا: "يا مريم"، أي تتقبل اسم المرأة التي حملت به في أحشائها، إذ تلده النفس بمفهوم روحي[694].

v     احرص أن تُتمم مشيئة الآب لكي تكون أمًا للمسيح (مر 3: 25)[695].

القديس أمبروسيوس

لقد وُلدت الكنيسة الجامعة بقوة كما في يوم واحد، إذ قيل: "هل تمخَضُ بلادٌ في يومٍ واحدٍ؟ أو تولد أمةٌ دفعةً واحدةٌ؟" [8]، إذ وُلدت في يوم العنصرة ونمت بسرعة عجيبة.

3. أورشليم الجديدة:

يختتم النبي حديثه بالكشف عن أورشليم الجديدة:

أ. تفيض فرحًا وبهجة على محبيها النائحين عليها بسبب ما تُعانيه من ضيقات [10]. من الخارج آلام ومتاعب، ومن الداخل فيض فرح حتى على الغير.

ب. تفيض شبعًا للجميع، تهب الأطفال تعزيات كما من لبن ثدييها، بينما تهب الكبار من عصير ولذة دُرّة مجدها.

ج. فيض سلام كنهر، ومجد عظيم كسيل جارف. "لأنه هكذا قال الرب: هأنذا أدير عليها سلامًا كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضَعُون، وعلى الأيدي تُحملون، وعلى الركبتين تُدللون" [12].

الله نفسه يدير السلام على كنيسته كما يسقي الفلاح حقله، يرويه من ينابيع سلامه كما من نهر لا ينضب، ويفيض عليها المجد.

v  في وعده للصالحين يقول أنه سيفيض عليهم نهر سلام، بمعنى يفيض عليهم بأعظم إمكانية. بهذا السلام ننتعش... ويشبع الكل منه، لانه سيفيض حتى على الأجساد الأرضية بسلام عدم الفساد والخلود... كأن الله يسكب (نفسه) من الأمور العلوية إلى الدنيا، ويجعل البشر مساوين للملائكة.

القديس أغسطينوس[696]

د. مصدر تعزية إلهية: "كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا وفي أورشليم تعزون" [13]. الله أب يهب الكنيسة أمومة ليس فقط نحو المؤمنين أبنائها وإنما نحو كل بشر، تحمل قلبًا متسعًا كعريسها لتفيض حبًا على الجميع.

بكونها أمًا تقدم تعزية لأبنائها خاصة المتألمين وحاملي الصليب، هذه التعزية ليست من عندياتها، إنما هي عطية الروح القدس الساكن فيها... لذا يقول الرب "هكذا أعزيكم أنا" [3].

بالنسبة لرجال العهد القديم وجدوا تعزيتهم في أورشليم من جانبين: أنهم رجعوا عن السبي، وأن الله يسكن في وسطهم. أما في العهد الجديد فيهبنا الروح القدس تعزياته بالغلبة على العدو محطم حريتنا وقبولنا مسكنًا للثالوث القدوس.

"فتَروْنَ وتفرح قلوبكم وتزهو عظامكم كالعشب وتُعرف يد الرب عند عبيده ويحنَق على أعدائه" [14]. نرى الصليب، إذ فيه ظهرت الحياة، وتُعرف يد الرب أي يُكشف عن شخص السيد المسيح بكونه يد الآب... إذ به تحقق حب الله الآب عمليًا خلال ذبيحة الصليب. في الكنيسة ننعم بهذا فتتهلل قلوبنا فرحًا، وتزهو عظام إيماننا. هذه هي تعزيتنا في الرب خلال كنيسته: يهبنا فرح القلب  السماوي واتساعه بالحب وينمي إيماننا (العظام بكونها مركز الجسم).

هـ. مصدر للطهارة: "الذين يقدسون ويطهرون أنفسهم في الجنات وراء واحدٍ في الوسط آكلين لحم الخنزير والرجس والجُرَذ يفنون معًا يقول الرب" [17]؛ "كما يُحضِرُ بنو إسرائيل تقدمة في إناء طاهر إلى بيت الرب" [20].

و. تعلن مجد الله وسط الأمم [18-20].

ز. مدينة كهنوتية: "وأتخذ أيضًا منهم كهنة ولاويين قال الرب" [21].

ح. مدينة أبدية: "هكذا يَثبُتُ نسلكم واسمكم" [22].

ط. شعب دائم التعبد: "ويكون من هلال إلى هلال ومن سبت إلى سبت أن كل ذي جسد يأتي ليسجد أمامي قال الرب" [23].

ى. ليس بينهم هالك... إنما يتحقق الهلاك خارج أورشليم الحقيقية. "ويخرجون ويَروْنَ جثث الناس الذين عصوا عليّ لأن دودهم لا يموت ونارهم لا تُطفأ، ويكونون رَذالةٌ لكل ذي جسد" [24].

<<


 

[1] J. Vernon McGee: Isaiah, 1982, p. 7.

[2] أنطون يعقوب: تفسير نبوات إشعياء، 1949، ص 8.

[3] H. A. Ironaide: Expositary notes on the Prophet Isaiah, 1985, p. 3.

[4] See: Epistle of Barnabas; St. Justin: Apology 1, dial. With Trypho.

[5] Harry Bultema: Commentary on Isaiah, Michigan 1981, p. 19.

[6] Ibid, 1.

[7] Origen: Comm. On Is. 3:6-12; St. Justin: Dial with Trypho.

[8] J. Bultema, p. 12-15.

  The New Century Bible Comm.: R. E. Clements, Isaiah 1-39, 1988, p. 9-11.

[9] H. Bultema, p. 3.

[10] Ibid, p. 10-11.

[11] The New international Comm. On the O.T., Book of Isaiah 1-39, John N. Oswalt, 1986, p. 28.

[12] H. Bultema, p. 4.

[13] Ibid, p. 5-6.

[14] القس لوقا سيداروس: تأملات في سفر إشعياء، ج 1، مقدمة للقمص بيشوي كامل، ص 5.

[15] Oswalt, p. 29.

[16] Ibid, p. 53.

[17] H. Bultema, p.20.

[18] Oswalt, p. 33.

[19] Ibid, p. 39.

[20] C. R. North: Isaiah 40-55, 1981, p. 29-30.

[21] C. R. North: The Suffering Servant in Deutro-Isaiah:

  An Historical and Critical Study, 1956, p. 192-219.

[22] Oswalt, p. 51.

[23] Ironside, p. 8.

[24] Cf. Augustine: Sermons on the Liturgical Seasons, trans. By M. S. Muldowney: The Fathers of the Church, vol. 38 (N. Y. 1959), p. 80-81.

[25] Bultema, p. 363.

[26] Antiq. 11:1:2.

[27] Oswalt, p. 21.

[28] The Unity of Isaiah in the Light of Statistical Linguistics, Hildeshein 1973, p. 274-7.

[29] Cf. E. G. Young: Who wrote Isaiah?1958, p. 58-60.

[30] L. L. Adam& A. C. Rincher: The popular Critical View of the Isaiah Problem in the Light of Statistical Style Analysis, Computer Studies 4, 1973, 149-157.

[31] للاستفاضة في هذا الشأن (في الكتب العربية) راجع انطون يعقوب: تفسير نبوات إشعياء/ ص 25، 26، وبالإنجليزية   H. Bultema, p. 368/371..

[32] In Hebr. Hom. 23:8.

[33] Stromata 4:26.

[34] The Coptic Liturge of St. Gregory.

[35] On Jealousy and Enby 14.

[36] Adv. Haer.

[37] Fest. Letters 8.

[38] On the Ascention of Chirst.

[39] In John hom. 50:2.

[40] Ibid, p. 80-1.

[41] On Ps. 78.

[42] Paed. 19.

[43] Ibid, p. 2:8.

[44] On Virginity 18.

[45] In Exod. Hom. 6.

[46] Cat. Lect. 12:7.

[47] Cat. Lect.

[48] Comm. On John, Book 10-18.

[49] Comm. On Matt. Book 14:19.

[50] Institutes 4:38.

[51] Adv. Haer. 4:17:1.

[52] Frag. 38.

[53] Stromata 2:16.

[54] Fest. Letters 6.

[55] Ep. Of Barnabas 2.

[56] In John Book 10:11.

[57] Fest. Letters 12.

[58] Dial. With Trypho 32.

[59] Fest . Letters 12.

[60] Dial with Trypho 12.

[61] Justin: Apology 1:61: Greg. Naz. Oration on the Holy Lights 20: Cyril of Jerusalem: Cat. Lect. 1:1 etc.

[62] In John Hom. 70:2.

[63] Cat. Lect. 1:1.

[64] The Great Catechism 40.

[65] Cassian: Conf. 7:4.

[66] On Ps. 104.

[67] Ep. 1:8,9.

[68] In John hom. 70:3.

[69] In Heb. Hom 12:7.

[70] Ibid.

[71] Exhort. To Heath 10.

[72] Who is the rich that shall be saved? 39.

[73] In Hebr. Hom 12:7.

[74] Ad pop. P.G. 49:66,67.

[75] In John 1:5.

[76] Stromata 1:19.

[77] Comm. On Matt. Book 12:4.

[78] Adv. Haer 4:12:1.

[79] In Defense of His Flight to Pontus 46.

[80] Adv. Haer. 4:1:6.

[81] On Ps. Hom 51.

[82] Ep. 118:1P 22:39.

[83] Ep. 7:5.

[84] Comm. On John Book, 1 2:1.

[85] Ironside, p. 18,19.   Bultema, p. 50,51.

[86] Sermons On N.T. Lessons, 39:2.

[87] In 1John, hom, 1:13.

[88] City of God 10:22.

[89] In John tr. 6:9.

[90] City of God 18:54.

[91] In Num. Hom 3.

[92] Apology 1:39.

[93] Dial, with Trypho 135.

[94] In Matt. Hom 2:10.

[95] In Num. Hom 1.

[96] Dial. With Trypho 133.

[97] Cat. Lect, 13:12.

[98] In 1 Tim. Hom. 8:3.

[99] In 1 Tim. Hom 8.

[100] Ibid.

[101] Bultema, p. 70.

[102] Oration on the Holy Baptism 38.

[103] Adv. Haer. 4:22:1

[104] Paed. 3:9

[105] Ibid

[106] In Heb. Hom. 28:3

[107] In Eph. Hom. 5.

[108] In Lue.20:9-19.

[109] Catena Aurea. St. Mark Ch. 12.

[110] Ep. 74:5.

[111] In Luc. 20:9-19.

[112] Adv. Haer. 4:36:2.

[113] On John tr. 80:1.

[114] In Ps. 80.

[115] Cat. Lect. 13:29.

[116] Stromata 4:12.

[117] See St. Iren. Adv Haer. 3:17:3.

[118] In Heb. Hom. 10:2.

[119] Serm. On N.T. Lessons 1.

[120] In Ps. 77.

[121] In Matt. Hom. 48:8.

[122] In John tr. 80:1.

[123] On Ps. 119.

[124] On the Trinity 11:6.

[125] Paed. 3:12.

[126] In Gal. Hom. 1.

[127] In John hom 15:1.

[128] In Isai. Hom. 2:2.

[129] راجع للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1988، ص 299.

[130] المرجع السابق، ص 32.

[131] The author: Church, House of God, 1982, p. 333.

[132] Gregory Dix: The Shape of the Liturgy, p. 237.

[133] Greg. Nyssa: Adv. Eunomius 2:14.

[134] Ibid 1:23.

[135] Bultema, p. 93.

[136] Ep. 1:34.

[137] Conc. The Statues, hom. 7:9.

[138] On Ps. 50.

[139] St. Cassian: Conf. 23:17.

[140] Ibid.

[141] In John tr. 53:6.

[142] Adv. Haer. 3:19:1.

[143] للمؤلف: ستعود بقوة أعظم، 1967، ص 5.

[144] On the Trinity 7:6:12.

[145] Ibid 15:2.

[146] Reply to Faustus and Manichacan 12:46.

[147] Ibid 4:2.

[148] Sermons on the N.T. Lessons 39:4.

[149] Stromata 4:21.

[150] Adv. Haer. 3:21:6.

[151] Against Marcionists and Manichaeans 3.

[152] Apology 1:33.

[153] J.B. Carol: Mariology, 1955, vol. 1, p. 51.

  Cf. Fr. T. Malaty: St. Mary in the Orthodox Concept, ch. 1.

[154] Adv. Haer 4:33:12.

[155] Comm. on Luke 2:57.

[156] Hymn 3 on Nativity.

[157] PG. 76:15-18.

[158] Bultema, p. 112.

[159] Ep. 164:7.

[160] Instructuions to Catechumens 2:2.

[161] In Heb. Hom. 4:5.

[162] Cat. Lect. 1:6.

[163] In Eph. Hom 20.

[164] On the Words of the Gospel, Or. 37:2.

[165] On the Theophany, Or, 38:2.

[166] On Ps. 88.

[167] Comm, on John, Book 2:21.

[168] Ep. 61:3.

[169] Of Christian Faith 3:84.

[170] Comm, on John, Book 1:42.

[171] Apology 1:35

[172] Ccontra Celsus 1.

[173] Comm, in Rom. 5:6.

[174] In John hom, 81:1.

[175] Stromata 5:1.

[176] Contra Celsus 6:67.

[177] Cat. Lect. 12:24.

[178] راجع للمؤلف: رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، 1985، 205

[179] In Rom. Hom. 17.

[180] In 2 Cor,2.

[181] City of God 18:33.

[182] Apology 1:32.

[183] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981، ص 215.

[184] De Bapt. Christii.

[185] Oration 5 on the Holy Spirit, 29.

[186] Strom. 4:6.

[187] Hom. 18:10.

[188] Bultema, p. 149.

[189] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981، ص 130.

[190] للمؤلف: قاموس آباء الكنيسة وقديسيها، ج 1 1986، ص113

[191] On Repentance 1.

[192] PG. 33:333A, 428 A..

[193] PG. 61:418.

[194] PG. 46. 429C.

[195] On Eutropius, hom 2.

[196] Ep. To the fallen Theodore, 2.

[197] القمص سمعان السرياني: سيرة وأقوال مار آفرام السرياني، 1988، ص 123.

[198] Cassian: Conf. 7:32.

[199] Bultema, p. 158.

[200] Institutionss 5:2.

[201] Whitaker: Documents of the Baptismal Liturgy, p. 37, 40.

[202] للمؤلف: الكنيسة تحبك، للقديس يوحنا الذهبي الفم، 1968 المقدمة.

[203] Bultema, ch. 14.

[204] On Eutropius, hom. 2.

[205] PG. 33:333A.

[206] PG. 33:357A.

[207] هل للشيطان سلطان عليك؟ للقديس يوحنا الذهبي الفم، ص62.

[208] Institutions 12:4.

[209] Ibid 12:8.

[210] القمص سمعان السرياني: سيرة وأقوال مار آفرام السرياني، 1988، ص 132-133.

[211] On Nativity, hymn 1.

[212] On Virginity 11.

[213] Cf. R.E. Clements: The New Century Bible Commentary, Isaiah 1-39, 1987, p. 152.

[214] Ibid 152.

[215] Ser. On N.T. Lessons 6:9.

[216] المطران أبيفانيوس: الأماني الذهبية من مقالات إكليل القديسين يوحنا الذهبي الفم، 1972، ص 49.

 

[217] New International Comm, on the O.T., Isaiah 1-39, p. 338-9.

[218] Cf. Bultema, p. 177.

[219] In Rom, hom 20.

[220] On Ps, hom, 23.

[221] Ironside: The Prophet Isaiah, 1985, p. 99; The New Westminster Dict, of the Bible: Arcor.

قاموس الكتاب المقدس: عروعير.

 

[222] On Nativity, hymn 2.

[223] للمؤلف: الحب الرعوي، ص 45.

[224] In Matt. In Gen. PG. 57:30; 53:228.

[225] In Paralyt. PG. 51:51.

[226] In Act. PG. 60:124.

[227] C.F. Keil: Comm, on the O.T., vol 7, p. 343.

[228] J.N. Oswalt: The Book of Isaiah, p. 352.

[229] Cf. Oswalt, p. 353.

[230] Ibid 351, n. 1.

[231] Ironside: The Prophet Isaiah, p. 103/4.

[232] Oswalt, p. 359.

[233] Ibid.

[234] Ibid.

[235] Cassian: Conf 5:5,6.

[236] Serm, on N.T. Lessons 1; On the Holy Trinity 4:13.

[237] Fr. T. Malaty: Introduction to the Coptic Orthodox Church, Ottawa 1088, ch 1.

[238] للمؤلف: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية، أتاوا، كندا، ص 5-6.

[239] Bultema, p. 195.

[240] للمؤلف: آباء مدرسة الإسكندرية الأولون.

[241] للمؤلف: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، 1986ا، ص 14.

[242] On Nativity, hymn 2.

[243] Bultema, p. 204.

[244] Ibid.

[245] In Hebr. Hom 23:9.

[246] Ibid.

[247] On Ps. 65.

[248] On Ps. 126.

[249] H. Bultema, p. 216.

[250] Ibid 216-7.

[251] الإنجيل بحسب لوقا، 1985، ص 589- 590.

[252] Comm, on Luke, hom 131.

[253] In Evang, hom 39.

[254] Fest. Ep. 7.

[255] Bultema p. 221-2.

[256] راجع تفسيرنا الروح القدس}يا يوحنا اللاهوتي، 1979، ص 42-43.

[257] In Joan, book 5:4.

[258] للمؤلف: حزقيال، 1981، ص 176-180.

[259] PL. 25:24,.

[260] H. Bultema, p. 226.

[261] Ibid 227.

[262] Cassian: Conf. 6:6.

[263] Against Arians 1:14.

[264] In Defense of His Flight to Pontus.

[265] Adv. Haer. 3:20:3.

[266] De Sacram. 5:12,13.

[267] De Trinit. PG. 39:708C.

[268] In 1Cor. Hom 24.

[269] Ep. 63:11.

[270] Myst. 43.

[271] Cat. Hom 15:20.

[272] Ibid 13:12; 16:30.

[273] Fr. Malaty: Christ in the Eucharist, 1985, book 1, ch. 6.

[274] PG. 33:841C.

[275] J.J. Collins: Collegeville Bible comm.. 13, Isaia p. 59.

[276] On Ps. 55.

[277] City of God 11:1.

[278] On Ps. 24.

[279] للمؤلف: الحب الإلهي، 727-729.

[280] City of God 19:26,27.

[281] الحب الإلهي، ص965.

[282] On Ps. 16.

[283] On Ps. 16.

[284] In Loan, hom 12.

[285] On the Holy Trinity 14:19:25.

[286] On the Spirit and the letter, ch. 37.

[287] St. Chrysostom: In Heb. Hom 5:5; the Paralytic let down through the roof 6.

[288] On Ps. 48.

[289] On the Holy Virginity 39.

[290] Ep. 36:31.

[291] Incar, of the Word 31.

[292] الحب الإلهي، ص467-468

[293] الحب الإلهي، ص469.

[294] Whitacker: Documents of the Baptismal Liturgy, p. 37, 39.

[295] الحب الإلهي، ص480.

[296] Paed. 1;9.

[297] Contra Arians 2:42; 3:24.

[298] R.E. Clements: The New Century Bible comm.., Isaiah, p. 220.

[299] الحب الإلهي، ص432-433.

[300] الحب الإلهي، ص366.

[301] Adv. Haer. 4:4:1.

[302] Ironside: The Prophet Isaiah, p. 167.

[303] الحب الإلهي، ص378-380.

[304] Demonstration 4 on Prayer, 4.

[305] St. Augustine: Sermons on N.T. Lessons 1:14,15.

[306] In Luc. Serm. 134.

[307] On Ps. 118.

[308] Jamieson, Fausset and Brown: Comm. On the Whole Bible, p. 543.

[309] قاموس الكتاب المقدس، ص530.

[310] Ironside: The Prophet Isaiah, ch, 29.

[311] Jamieson, p. 544.

[312] للمؤلف: هل للشيطان سلطان عليك؟ ليوحنا ذهبي الفم ص62.

[313] In Matt. Hom 55.

[314] In Rom. Hom. 19.

[315] In Matt. Book 11:11.

[316] Instr. 1:9.

[317] On Ps, 49.

[318] Ibid 38.

[319] Ep. 1:15.

[320] Adv Eumon 1:37.

[321] Martyrius: Book of Perfection 5.

[322] قاموس الكتاب المقدس، ص285.

[323] Dialogue sur l' ame et les passions 4; trans. I. Hausherr, Orientalia Christiana Analecta 120, Rome 1938, 99

[324] Ep. to Olympias 10:2.

[325] In Jer. Hom.6:3.

[326] Sel. Ps. 119:85.

[327] De Baptismo 2.

[328] PG. 46:416C.

[329] De Mortuis. PG. 46:529A.

[330] De hominis opificio. PG. 44:237B.

[331] Ibid 161AB; In Christ; resurrectionem 3.

[332] Contra Eunom. 4. PG. 45:637A.B.

[333] On Ps. 146.

[334] سفر التكوين، 1988م، ص377.

[335] To Eutropius, hom.2.

[336] الحب الإلهي، ص50.

[337]الحب الإلهي، ص70-75.

[338] الحب الإلهي، ص38-40.

[339] ميمر عن المعمودية المقدسة.

[340] الحب الإلهي، ص80-83.

[341] On the Holy Baptism 27.

[342] J.J. Collins, p. 73.

[343] للمؤلف: هل للشيطان سلطان عليك؟ ليوحنا ذهبي الفم، ص73 الخ.

[344] In Matt. PG. 58:592.

[345] In Gen. PG. 53:76, 77.

[346] In Rom. PG. 60:499.

[347] Cf. St. Cassian: Conf. 11:13.

[348] De verb Habents.

[349] Apology 2:11:2.

[350] Oratio 42:12.

[351] Origen: Fragmenta in Joannem, IX.

[352] Cf. Henri Crouzel: Theologie de l'image de Dieu chez Origene, Paris 1,956,239ff.

[353] Cf. Ironside: The Prophet Isaiah, ch 34.

[354] On Ps. 8.

[355] De Principiis, Pref. 8.

[356] Bultema, ch 34.

[357] Bultema, p. 318.

[358] On the Baptism of Christ.

[359] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981م، ص131.

[360] المرجع السابق، ص131.

[361] Sermon 5.

[362] In Heb. Hom. 30:2.

[363] Serm. on N.T. Lessons 16:3,4.

[364] On Matt. Book 11:18.

[365] On Ps. 46.

[366] Cat. Lect. 5:4.

[367] In Hebr. Hom.6:10.

[368] Ibid 23:9.

[369] للمؤلف: هل للشيطان سلطان عليك؟ للقديس يوحنا الذهبي الفم، مقال 3.

[370] In 2 Tim. Hom. 8.

[371] On Ps. 71.

[372] De Anno Sermo 4; PG. 54:666.

[373] Cf. Tomas' Spidlik: The Spirituality of the Christian East, 1986, P.307. Nacertanye christianskago nravoucenija (Christian Moral Teaching),       Moscow 1895, p. 122.

[374] Ibid. 406.

[375] Cf. Spidlik: Theophane la Recluse, p. 240.

[376] Ibid 241.

[377] The histories of the Monks who lived in the Desert of Egypt.

للمؤلف: قاموس آباء الكنيسة وقديسيها، العهد الجديد 1 1986، ص40.

[378] In Librum Jesu Neve, hom. 8:4.

[379] De Principiis 3:21.

[380] Bultema, p. 344/5.

[381] R.E. Clements, p. 291.

[382] The Literal meaning of Genesis 6:17.

[383] Expos. In Ps. 4:4; PG. 55:44 ff.

[384] Demonstration 4, on Prayer 1,8,9.

[385] The Syriac Fathers on Prayer and the Spiritual life, p.  36.

[386] Ibid p. 219.

[387] In Joan. Hom 12:3.

[388] Ad Autolyeus 1:1-7; PG. 66:1024-36.

[389] Dwar. Ep. 7.

[390] Ibid 8.

[391] The Syriac Fathers p.249.

[392] Ibid p. 229.

[393] Fragments from Comm. On the prophet Isaiah, 1.

[394] In John hom. 3,5.

[395] In Ezech. 9:2 PG. 13:734 CD.

[396] In John hom 16:4.

[397] Comm. On John, book 2:26.

[398] On St. Luke, Serm. 6.

[399] To whom who had invited Him, 8.

[400] Comm. On Luke 3:1-5.   ترجمة مدام عايدة حنا بسطا  

[401] In Luke hom 21.

[402] On the Soul and its origin.

[403] On Ps. 52.

[404] Ibid 103.

[405] Ibid 62.

[406] On the Catechising of the Uninstructed 16:24.

[407] Ep. To Olympias 1:1.

[408] Adv. Haer. 5:33:4.

[409] Against Eunom. 2:12.

[410] Institutes 8:3.

[411] العناية الإلهية للقديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة عايدة حنا بسطا، ص19.

[412] المرجع السابق، ص8-9.

[413] Against Eunom. 2:11.

[414] للمؤلف: الحب الإلهي، ص836-837.

[415] Demon. 4 on Prayer, 7.

[416] Hymn of Faith 20:9.

[417] The book of Perfection 43,45,82.

[418] Ibid 46:47.

[419] Bultema, p. 390.

[420] R.N. Whybray: New Century Bible Comm., Isaiah 40-60; p. 61.

[421] Ep. 1:10.

[422] Theolog. Orations 4:3.

[423] Bultema, p. 396.

[424] On Ps. 22.

[425] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981م، ص13.

[426] In Matt. PG. 58:79C.

[427] راجع للمؤلف: الإنجيل بحسب متى، 1987م، ص273-275.

[428] City of God 20:30.

[429] الحب الإلهي، ص866.

[430] De Spirit. Sanct. 15 .

[431] On Ps. 4.

[432] On Ps. 43.

[433] الحب الإلهي، ص62.

[434] Apophthegmanta. Poemen. 84.

[435] On Repentance.

[436] Bultema. P. 404.

[437] Justin: Dial. with Trypho 122.

[438] Ibid 65.

[439] Fr. Malaty: Christ in the Eucharist, book 1 (The Mystery of the New Testament).

[440] PG. 81:128B.

[441] . On Ps. 43.

[442] الحب الإلهي، ص70-71.

[443] الحب الإلهي، ص75.

[444] De Incarn. 8,9.

[445] Ibid 54.

[446] Orat. Against Arians, Disc, 3:19.

(See our book: The Coptic Orthodox Church as a church as a church of Erudition and Theology, 1986, p. 82-83.)

[447] In joan; in Rom,; PG. 59:79; 60:466.

[448] In 2 Cor; 1 Tim.; PG. 61:477-480; 62:536-7.

[449] In Rom.; PG. 60:477.

[450] الحب الإلهي، ص15-18.

[451] الحب الإلهي، ص467.

[452] On Modesty 16.

[453] Ep. 63.

[454] Bultemore, ch. 43.

[455] In John hom 19:2.

[456] Adv. Haer. 4:5:1.

[457] Fr. M.F. Wahba: The Doctrine of Sanctification in St. Athanasius' Paschal letters, 1988, 77;

Fl Syr 14:4; p. 543; cf De Inc. 1:4 ;p. 36: 20:1, p. 47 ; Con. Gen. 1:5, p. 4.

[458] Fl Syr 10:4, p. 528; cf 1:1, p. 506.

[459] الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، س13.

[460] Book of Perfection, 40.

[461] Adv. Haer 4:17:3.

[462] Resisting the Temptation of the Devil, hom 2,6.

[463] Letters to the Fallen Theodore. 1:15.

[464] In 1 Cor. Hom. 11.

[465] In 2 Cor. Hom 5.

[466] In Heb. Hom 14:7.

[467]  In Zek. Hom 6:5.

[468] In Joan 5:2.

[469] ميمر عن المعمودية.

[470] Comm. On Cant. 3:1.

[471] Ep. To Furia 54.

[472] In Matt. PG. 57:99,80.

[473] On the Holy Spirit 9:22.

[474] Cat. Lect: Pref., 1:4.

[475] R.N. Whybray: The New Century Bible Comm., Isaiah 40-46, p. 104.

[476] قاموس الكتاب المقدس، ص795-796.

[477] On Ps. 110.

[478] In John hom 9:1 (St. Chrysostom).

[479] That Demons do not govern the World, hom 1:15.

[480] Conf. 6:6.

[481] On Ps.85.

[482] Ibid.

[483] الحب الإلهي، ص233-234.

[484] In Hebr. Hom 17:4.

[485] In John hom 17:1.

[486] Ibid 18:1.

[487] الحب الإلهي، ص421.

[488] الحب الإلهي، ص429.

[489] الحب الإلهي، ص167، 170.

[490] A.J. Wensinck: Mystical Treatises, St.Isaac Syrian, p. 219.

[491] الحب الإلهي، ص730 الخ.

[492] الحب الإلهي، ص432.

[493] الحب الإلهي، ص70، 74.

[494] In Hebr. 29:33.

[495] Ep. 118:1.

[496] On Ps. 89.

[497] On Ps. 116.

[498] On Ps. Hom. 51.

[499] Pasch. Ep. 2,3.

[500] On Ps. 138.

[501] Comm. On Cant., Serm 4.

[502] In John, book 1:36.

[503] Comm. On Cant. 3;8.

[504] On Pa. 38..

[505] On Ps. 144.

[506] In John 1:37.

[507] In John, Book 1:37.

[508] الحب الإلهي، ص71، 74-75.

[509] On Ps. 118.

[510] On Ps. 166.

[511] Letter to Hesychius, 25.

[512] Ibid 26.

[513] Ibid 27.

[514] Ibid 29.

[515] Ibid 30.

[516] Ibid 22.

[517] Pasch. Letters 6.

[518] Cassian: Conf. 13:17.

[519] On Providence. 6.    ترجمة مدام عايدة حنا بسطا

[520] Cassian: Conf. 24:24.

[521] In Matt. Book 14:17.

[522] In John hom. 68:2.

[523] On Providence, 6.

[524] In 1 Cor. Hom 7.

[525] In 2 Cor. Hom 2.

[526] Pasc. Letters 8.

[527] To Olympias, 1:2.

[528] On Ps. 92.

[529] الحب الإلهي، 424.

[530] الحب الإلهي، ص424-425.

[531] Oration on the Holy Baptism 40:36.

[532] In Hebr. Hom 24:8.

[533] In Matt. Hom 11:3.

[534] In Matt. 3:9.

[535] الكنيسة تحبك، ص42.

[536] De poen PG. 49-336.

[537] Strom. 4:8:66.

[538] Prot, 10:108.

[539] An Acts hom 20:4 ; PG. 60:162.

[540] In MRR. HOM 18:1.

[541] الحب الإلهي، ص644.

[542] الحب الإلهي، ص638.

[543] الحب الإلهي، ص654- 657.

[544] الحب الإلهي، ص643-644.

[545] On John 1:11.

[546] On Rebuke and Grace, St. John Chrysostom 46.

[547] On Ps. 52.

[548] On Ps.68.

[549] In John hom 57:3.

[550] Ep. 1:16.

[551] Cat, Lect, 13:13.

[552] الحب الإلهي، ص341-342.

[553] الحب الإلهي، ص244.

[554] On Ps. 71.

[555] On Ps 86.

[556] On Ps 104.

[557] On the Son, 19.

[558] On the Good, Widowhood, 23.

[559] Orat. On Easter, 2:13.

[560] Orat, On the Son, 20.

[561] Cat. Lect. 13:34.

[562] Ep. To Barnabas,  ch5.

[563] Pasch. Ep. 1.

[564] الحب الإلهي، ص421-422.

[565] الحب الإلهي، ص423.

[566] الحب الإلهي، ص426.

[567] In John hom 13:3.

[568] On the Catechizing of the Uninstructed.

[569] On Ps. 38.

[570] On Ps. 45.

[571] On Ps. 50.

[572] الحب الإلهي، ص246.

[573] On the Creed, 8.

[574] In John hom 85:1.

[575] On Ps. 38.

[576] Orat. On Easter, 34.

[577] In Joan tr. 56:4

[578] Comm. On Matt. 10:23.

[579] Against 2 Letters of the Palagians 3:13.

[580] In Matt. Hom 16.

[581] On Ps. 89.

[582] On Ps. 102.

[583] On Ps. 59.

[584] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1988، ص 211.

[585] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1988، ص 215.

[586] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1988، ص 213.

[587] In John hom 46:1

[588] On the Grace of Christ 13.

[589] Vita Antonii 14

[590] الحب الإلهي، ص 960.

[591] On Holy Baptism 28.

[592] الحب الإلهي، ص 45-46.

[593] الحب الإلهي، ص 51.

[594] الحب الإلهي، ص 46-47.

[595] On Ps. 70.

[596] City of God 16:41.

[597] On Ps. 104.

[598] On Ps. 135.

[599] Hymns on Nativity 4.

[600] Collationes 1:13.

[601] Fragm. In Joan 1X.

[602] See Henri Crouzel: Théologie de I’image de Dieu chez Origène. Paris 1956, p. 239 ff.

{See T. Spidik: The Spirituality of the Christian East, p. 291}.

[603] Carminum Liber 1.11.9, r 19ff; PG. 37:668.

{See T. Spidik, p. 291}.

[604] In Eph. Hom 1.

[605] In Matt., In Gen. PG. 57:30; 53:228.

[606] In Paralyt. PG. 51:51.

[607] City of God 17:4.

[608] City of God 22:30.

[609] Treat. On Christ and Antichrist, 3.

[610] On Prayer, 28.

[611] للمؤلف: رسالة إلى أرملة شابة، للقديس يوحنا الذهبي الفم.

[612] الحب الإلهي، ص 519.

[613] الحب الإلهي، ص 521.

[614] الحب الإلهي، ص 522.

[615] On Ps. 82.

[616] للمؤلف: الكنيسة تحبك، للقديس يوحنا الذهبي الفم، 1968، ص 61 الخ.

[617] On Ps. 40.

[618] Lowliness of Mind.

[619] On Ps. 77.

[620] In 1 Cor. Hom 23.

[621] Letters to the Fallen Theodore. 1:6.

[622] Ep. 130:3.

[623] On Ps. 97.

[624] Cassian: Conf. 21:14.

[625] On His Father’s Silence, 20.

[626] On Ps. 43.

[627] Ibid.

[628] Ibid 138.

[629] To the Fallen Theodore, 1:8.

[630] Tomas Spidlik: The Spirituality of the Christian East, p. 187.

[631] Treat. 5:11.

[632] On Ps. 140.

[633] الحب الإلهي، ص 169.

[634] الحب الإلهي، ص 171.

[635] الحب الإلهي، ص 167.

[636] الحب الإلهي، ص 71.

[637] Against 2 Letters of the Pelagians 4.8.

[638] The Coptic Liturgy of St. Gregory the Theologian.

[639] On Repentance 1.

[640] Ibid 2.

[641] Kay’s Writings of Clement of Alexandria, p. 437.

[642] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981م، ص 83.

[643] ميمر عن المعمودية المقدسة.

[644] City of God 5:14.

[645] للمؤلف: الكنيسة بيت الله، 1979م، ص 311-314.

[646] On Ps. Hom 23.

[647] On the Baptism of Christ.

[648] . On Virginity 18.

[649] القمص متياس فريد: التجسد والروح القدس، 1981، ص 10.

[650] Adv. Haer 3:18:3.

[651] On Myst. 3:1.

[652] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981م، ص 14.

[653] The Eialogue against Luciferians.

[654] الحب الإلهي، ص 683.

[655] On the Baptism of Christ.

[656] On the Myst. 4:8.

[657] . Ibid 5:10.

[658] De Virginibus 1:5:22. PL. 19:195.

[659] On the Nativity of our Saviour 2.

[660] Strom 4:26.

[661] Orat. On Easter 35.

[662] Book of Perfection 77.

[663] On Nativity hymn 2.

[664] للمؤلف: هل للشيطان سلطان عليك؟ ليوحنا ذهبي الفم، ص61.

[665] Anti-Niciene Frs, bol 5, p. 253.

[666] On Repentance, 2.

[667] Ladder 5; PG. 88:764B.

[668] De Paenitentia 2:2, PG 49:285.

[669] Book of perfection, 10.

[670] St. Cassian: Conf. 23:4.

[671] Ep. 44.

[672] In Rom. Hom 18.

[673] Ibid.

[674] Against the Heresy of One Noetus 12.

[675] See Ep. Of Barnabas 12; St. Justin Apol. 1:35.

[676] St. Sassian Conf, 3:22.

[677] On Ps. 88.

[678] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، 1981م، ص 14-15.

[679] Dial with Trypho, 32.

[680] In Exod. Hom 9.

[681] Serm. On N.T. Lessons 7:6.

[682] On Ps. 122.

[683] On Ps. 99..

[684] On Ps. 132.

[685] On Ps. 104.

[686] In John hom 7:1.

[687] Ep. 6:3.

[688] Adv. Haer. 4:18:3.

[689] Hugo Rahner: our Lady and the Church, p. 72.

[690] In Exod. Hom. 10:4.

[691] De Sargiusga 8:2.

[692] De Virginitate 2:13; PG. 46:324, 380.

[693] Sermon 181:4.

[694] De Virginitate 4:20 ; PL. 16:271.

[695] Comm. On Luke 10:25 ; Pl. 15:1810.

[696] City of God 20:21.

 

الصفحة الرئيسية