أستير
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
فقدت وشتى عرشها لتملك أستير، الفتاة اليتيمة الوالدين، المولودة في أرض السبي، لكي يستخدمها الله لخلاص شعبه من مؤامرة هامان العاتي التي كادت أن تفتك بكل الشعب في ولايات مادي وفارس.
إنها قصة واقعية عاشها الشعب كله، وهي قصة شخصية تمس حياة كل مؤمن حقيقي، إذ يخلع من قلبه وشتى الملكة صاحبة السلطان لتقوم أستير المتضعة وتملك عوضًا عنها، لا من أجل غناها أوحسبها وإنما حسب غنى نعمة الله الفائقة التي تنزع عنا يتمنا الداخلي ليكون الله نفسه أبًا لنا، الكنيسة السماوية أمنا، ونُحسب ملوكًا في الرب، وننعم بالنصرة على هامان الحقيقي، إبليس.
لعل وشتى تمثل حرفية الناموس في تشامخها، فليمت فينا الحرف وليقم فينا روح العهد الجديد، وتملك أستير (الكنيسة) داخلنا، قائلين مع الرسول: "فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الأضمحلال" (عب 8: 13). فسفر أستير هو سفر إعلان شيخوخة الحرف القاتل وإعلان روح العهد الجديد الذي يهب خلاصًا وحياة.
القمص تادرس يعقوب ملطي
|
الأصحاح السادس (الله يمجد مردخاي) |
|
- الباب الأول الأصحاحات [1-2] |
الأصحاح السابع (نهَاية هَامَان) |
|
الأصحاح الأول (وشتى تفقد ملكها) |
|
- الباب الثالث الأصحاحات [8-10] |
الأصحاح الثاني (أستير تصير ملكة) |
|
|
- الباب الثاني الأصحاحات [3-7] |
|
الأصحاح الثامن (الإستعداد للعيد) |
الأصحاح الثالث (هامَان ومقاومته للشعب) |
|
الأصحاح التاسع (إقَامة العيدُ) |
الأصحاح الرابع (مردخاي يحث أستير) |
|
الأصحاح العاشر (عظمة مردخاي) |
الأصحاح الخامس (أستير تدعو الملك للوليمة) |
|
|
يُقال أن إسم "أستير" من أصل هندي قديم معناه "سيدة صغيرة"، إنتقل إلى الفارسية ليعني "كوكبًا" ويبدوا أنها حملت هذا الإسم بعد اختيارها ملكة[1]. أما إسمها العبري "هدسة" فيطلق على شجرة اللآس.
أستير هي إبنة ابيجائيل الذي يُرجح أن يكون من سبط بنيامين وُلدت في أرض السبي، أحضرها مردخاي إبن عمها الذي تبناها إلى "شوشن" عاصمة فارس (إيران).
جاء في التلمود أن كاتب هذا السفر هو المجمع العظيم (الذي يرأسه عزرا). ويرى القديس أغسطينوس أنه من وضع عزرا الكاتب، بينما يُرجح الكثير من الآباء ما نادى به يوسيفوس المؤرخ اليهودي أنه من وضع مردخاي نفسه، من بين هؤلاء الآباء القديس أكليمندس السكندري.
يظهر من السفر نفسه أنه كُتب في عصر أحشويروش (زركسيس 486- 465 ق.م) بفترة قصيرة، إذ يتحدث عن الملك بصيغة الماضي، وفي نفس الوقت يكتب بدقة عن تفاصيل خاصة بأثاثات القصر بشوشن، القصر الذي دمرته النيران بعد اغتيال الملك بأربعين عامًا (425 ق.م)، فالكاتب رأى القصر بنفسه وسجل هذه الأمور الدقيقة.
هذا ويظهر من السفر أن الكاتب يهودي عاش في بلاد فارس، له إلمام تام بأسماء مستشاري الملك وتفاصيل القصر الملكي، كما إستخدم كلمات فارسية.
تشكك البعض في قانونية هذا السفر وحججهم في ذلك:
أولاً: الحجة الرئيسية أن تكرر إسم الملك الوثني بكثرة مع عدم ذكر إسم الله نهائيًا (فيما عدا تتمة أستير التي سنتحدث عنها)، كما لم ترد فيه صلاة أو تطبيق شريعة اليهود. ويُرد على ذلك أن هذا السفر لا يمكن أن يكون كاتبه غير مؤمن بالله، وأن من يقرأه يزداد إيمانًا به. فإن كان لم يذكر إسم الله لكنه قدم صورة رائعة عن رعاية الله بشعبه حتى وهم في أرض السبي يرفضون العودة إلى أورشليم.
يعلل البعض عدم ذكر الله هنا علامة إنحجاب وجهه عنهم (تث 31: 8) بسبب رفضهم العودة مع زربابل، مفضلين الإهتمام بمصالحهم الخاصة وتجارتهم عن أورشليم والهيكل. يقول إدوارد يانج: [شعب الله في يده، وإذ كانوا هم بعيدين عن وطنهم وليسوا في أرض الموعد لهذا لم يشر إلى إسم الله[2]].
ويعلل البعض عدم ذكر إسم الله أن القصة استخرجت من مستندات القصر الفارسي(2: 3).
ثانيًا: يعترض البعض على تاريخية القصة، متطلعين لها كقصة رمزية، وحجتهم في هذا أن الملك زركسيس لم يُذكر عنه أنه تزوج بملكة غير أمستريس Amestris، التي أشار إليها هيرودت كملكة عام 479 ق.م[3] أي في السنة السابعة لملكه. ويُرد على ذلك أن عدم ذكر التاريخ لإقامة ملكة أخرى لا ينفي وجودها، خاصة وأن وشتى الملكة تركت الملك في السنة الثالثة لملكه (1: 3) قبيل ذهابه للحرب مع اليونان وملكت أستير بعد عودته في السنة السابعة (2: 16) وبقيت ملكة حتى السنة الثانية عشر من ملكه (3: 7، 5: 3)، فإن كان زركسيس بقى ملكًا 20 عامًا فلا نعلم ماذا كان الموقف في السنوات الثمانية الأخيرة لملكه، فلعله قد ماتت أستير وعادت وشتى إلى الملك.
هذا ويرى كثير من الدارسين أن كلمة "وشتى" ليس إسم الملكة وإنما كان لقبًا خاصًا بها بسبب جمالها الفائق وتعلق الملك بها... فلعله كانت هي بعينها أمستريس، دعاها الملك بلقب وشتى. وإذ سبقت الملكة أستير وغالبًا ما عادت مرة أخرى بعد أن حقق الرب رسالة أستير بإنقاذ شعبها، لهذا ذكرها المؤرخون كملكة وزوجة زركسيس. أما ذكرها كملكة في السنة السابعة لملكه، فلأنه حتى بداية السنة السابعة لم تكن أستير قد أُختيرت، فتبقى وشتى أو أمستريس ملكة في عيني المؤرخين حتى وإن كان الملك لم يُقابلها بعد رفضها الدعوة في السنة الثالثة لملكه، إذ لم تُطرد من القصر حتى تم إختيار أستير.
ثالثًا: يعترض البعض على السفر لوجود بعض مبالغات مثل عدم معرفة الملك لجنس أستير، إصدار أمر الإبادة على أن يتحقق بعد 11 شهرًا، المبلغ الذي عرضه هامان (عشرة آلاف وزنة من الفضة)... ويرد على ذلك أن الكثير من الحقائق إن عرضت تبدو للبعض بأنه مبالغ فيها. فمن جهة جنس أستير فإن الملك إهتم بجملها ولم يسأل عن جنسها ربما لأنها ولدت في السبي تتحدث بالغة السائدة هناك بطلاقة ولم تظهر ملامحة أنها يهودية خاصة إن كان الملك يلتقي بها وهو مخمور. أما تحقيق الإبادة بعد 11 شهرًا، فلأن المملكة متسعة جدًا ووسائل الإنتقال غير سريعة وقد أراد هامان أن يمعن في الإنتقام فتكون شاملة في كل المملكة في يوم واحد، كما جاء ذلك بعد سؤال العرافين ليحددوا له اليوم المناسب لتحقيق خطته فلا تفشل (3: 7). أما بالنسبة للمبلغ الذي يدفعه هامان فهو يمثل حوالي ثلثي إيراد المملكة الفارسية في عام، وكان هامان يأمل أن يغتصب ممتلكات اليهود ويجمع ثروتهم فيغتني جدًا ويقدم هذا المبلغ للإمبراطور ليعوضه عن خسائره في حربه ضد اليونان.
بجانب الرد على الإعتراضات فهناك دلائل على قانونية السفر وتاريخية القصة، نذكر منها:
أ. يُشير السفر إلى تاريخية الحوادث ويؤيدها بتواريخ واضحة حسب التقويم الفارسي (2: 23؛ 6: 1؛ 10: 2).
ب. يُقدم لنا السفر وصفًا دقيقًا وحيًا للعادات الفارسية والأحوال السائدة وبخاصة في شوشن (1: 5، 10،14؛ 2: 9، 21، 23؛ 3: 7، 12، 13؛ 4: 6، 11؛ 5: 4؛ 8: 8).
ج. الوصف الذي ينعت به أحشويروش يطابق ما نعرفه تاريخياً عن أخلاق الملك زركسيس الذي ملك سنة 486 ق.م حتي 465 ق.م[4]، من حدة طبع وتقلب في الأهواء، وخلاعة. وجاءت وليمته في السنة الثالثة من حكمه تطابق تاريخياً اعـداده للحرب ضد اليونان، إذ كان من عادة ملوك الفرس أن يأخذوا مثل هذه القرارات في وسط الولائم والخلاعة. وإذ عاد في ربيع السنة السابعة من حكمه من حملته ضد اليونان -كما جاء في تاريخ هيرودت- أقام الوليمة الخاصة بأستير.
د. يُقدم لنا السفر تفسيرًا مقبولاً لنشأة عيد الفوريم الذي كان يُمارس في عصر يوسيفوس في كل أنحاء العالم المعروف في ذلك الحين، وقد عُرف هذا العيد في أيام المكابيين عام 160ق.م (2 مك 15: 36) ودُعى بعيد مردخاي. فإن كان عيد الفوريم حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها فما هو سرّ نشأته؟
هـ. أُكتشفت حديثًا نقوش فارسية ذُكر فيها إسم مردخاي كأحد رجال البلاط الفارسي أثناء حكم زركسيس مما يؤيد تاريخية السفر.
و. يسرد السفر حوادث القصة بدقة فائقة مبينًا كل الظروف المحيطة ذاكرًا أسماء رجال البلاط الفارسي وأمرائه (1: 10، 14)، فلا يمكن أن تكون قصة رمزية بل حقيقة تاريخية.
ز. يقبل اليهود هذا السفر كسفر قانوني.
تمت أحداث هذه القصة في الفترة ما بين الرجوع الأول إلى أورشليم تحت رائاسة زربابل والرجوع الثاني تحت رائاسة عزرا، وكأن الله في عمله الخلاصي يعلن رعايته حتى للذين رفضوا الرجوع مع زربابل.
أما أحشويروش المذكور هنا فهو زركسيس بن داريوس، وكما قلنا أنه يحمل ذات السمات التي عرفت عنه، والوليمتان تتفقان مع إستعداده للقيام بحملة ضد اليونان وقد فشل فيها والأخرى بعد عودته ليحيا في الخلاعة وينسى أتعاب الحملة وخسائرها.
أما جوهر القصة فهو أن هامان رئيس وزراء مملكة مادي وفارس قد استصدر أمرًا ملوكيًا بإبادة اليهود الموجودين في كل المملكة، لكن عين الله الساهرة دبرت خلاصهم على يدّى إستير الملكة ومردخاي، وصُلب هامان على الخشبة التي كان قد أعدها لمردخاي وتمجد الله في شعبه، وتحقق قول المرتل: "الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرق عليه أسنانه، الرب يضحك به، لأنه رأى أن يومه آتِ" (مز 37: 12-13).
يمكننا تسمية هذا السفر بسفر الولائم الثلاث، وليمة أحشويروش التي تمثل فرح العالم الزائل، و ليمة أستير الخفية التي تمثل وليمة الصليب المحطمة لإبليس (هامان)، وليمة الفوريم التي تمثل وليمة القيامة العامة المفرحة.
1. وليمة أحشويروش [1-2].
2. وليمة أستير [3-7].
3. وليمة الفوريم [8-10].
جاء في الترجمة السبعينية تتمة للسفر لم ترد في النص العبري، أغلبها نصوص صلوات ورسائل وأحلام، وقد جعلها القديس جيروم كملحق في نهاية السفر في ترجمته اللاتينية للسفر. وقد ضمت التتمة الآتي: حلم مردخاي (ص 11)، المؤامرة ضد الملك (ص 12)، المرسوم الملكي ضد اليهود (ص 13)، صلاة مردخاي (13: 8-17)، صلاة أستير (ص 14)، طلبة مردخاي من أستير (ص 15)، طلبة أستير من أحشويروش (ص 15)، المرسوم الملكي لصالح اليهود (ص 16).
الباب الأول
وليمة أحشويرش
ص 1-2
v وشتى تفقد ملكها [ص 1].
v أستير تصير ملكة [ص 2].
وشتى تفقد ملكها
أقام أحشويروش الملك وليمة عظيمة يستعرض فيها مجده وغناه ويمارس فيها الخلاعة، فأفقدته الخمر وعيه [10]، وخسر زوجته الملكة بسبب اشتعال غضبه [12] وقبوله مشورة السكرى [16]... لكن يد الله العجيبة حولت هذا الشر إلى أداة يحقق بها الله خطة خلاص شعبه بأقامة أستير عوض وشتى. بمعنى آخر بينما إبليس يهيئ هامان للإبادة كان الله يعد أستير للخلاص.
1. وليمة أحشويروش [1-9].
2. الملك يطلب الملكة [10-12].
3. نزع المُلك عن وشتى [13-22].
1. وليمة أحشويروش:
تعاظمت مملكة مادي وفارس وهزمت مملكة بابل فصار اليهود الذين سبوا إلى بابل تحت حكم فارس. وقد بلغ إتساع نطاق هذه المملكة أنها احتملت 127 كورة (دولية) تمتد من الهند إلى كوش [1]، أي إلى النوبة وكردفان جنوب مصر وشمال أثيوبيا. من بين هذه الكور كورة مصر التي احتلها الإمبراطور زركسيس بعد أن فشل والده في اغتصابها.
قلنا أن أحشويروش [1] يُقصد به الملك زركسيس بن داريوس، وإذ لُقب أكثر من ملك بأسم أحشويروش يرى بعض الدارسين أن هذه الكلمة لا تعني إسم الملك وإنما هي لقب خاص بملوك فارس مثل القول "فرعون" على ملك مصر.
أراد الملك اظهار غنى مجد ملكة ووقار جلال عظمته [4] فصنع وليمتين عظيمتين: الأولى أمتدت 180 يومًا؛ لعلة كان يقيم وليمة يومية لكل كورة على حدة مع ولائم خاصة بالرؤساء معًا أو ربما شملت هذه المدن فترة إعداد الوليمتين الطويلة؛ أما الوليمة الثانية "فأقيمت لجميع الشعب من الكبير إلى الصغير وليمة سبعة أيام في دار جنة قصر الملك" [5].
لعله أعد هاتين الوليمتين استعدادًا لتدبير خطة الحرب ضد اليونان إذ يقول هيرودت أن الفرس اعتادوا أخذ قراراتهم في مثل هذه الولائم.
وصف الكتاب الوليمة بدقة في تفاصيل، فذكر أنها اقُيمت في شوشن القصر، أما "شوشن" أو "سوسه" فهي عاصمة عيلام منذ حوالي سنة 3000 ق.م، كانت مقرًا للملك كدرلعومر (تك 14: 1)، استولى عليها ملكوك مادي وفارس، وجعلوا منها عاصمة بجانب بابل واكباتانا، وكان الملوك يفضلون البقاء فيها خاصة في فترة الشتاء. أقيمت الوليمة الأولى للرؤساء على ما يبدو داخل القصر، أما الثانية التي ضمت كل الشعب المقيم في القصر وملحقاته (يبدو أنه كان منفصلاً عن المدينة نفسها (9: 12-13) فأقيمت في حديقة القصر، حيث وجدت مظال (أنسجة) بيضاء وخضراء وأسمانجونية وهي الألوان الملكية في فارس، وقد عُلقت هذه المظال بحبال من بز (كتان أبيض) وارجوان في حلقات من فضة وأعمدة من رخام، تستخدم هذه المظال للوقاية من حرارة الشمس. وكانت الأسرة مرصعة بالذهب والفضة على مجزع أي على أرضية بلاط، من بهت (حجر أبيض يتلألأ) ومرمر ودر ورخام أسود. أما أهم ملامح الوليمة فهو الشرب من الخمر الملكي حيث وُجد بكثرة "حسب كرم الملك" [7]، لكنه ترك حرية الشرب لاختيار كل إنسان.
في الوقت الذي فيه أقام الملك هذه الوليمة، أقامت أيضًا الملكة وليمة للنساء في بيت الملك.
2. الملك يطلب الملكة:
"في اليوم السابع لما طاب قلب الملك بالخمر قال لمهومان وبزثا وحربونا وبغثا وأبغثا وزيثار وكركس الخصيان السبعة الذين كانوا يخدمون بين يدي الملك أحشويروش أن يأتوا بوشتى الملكة إلى أمام الملك بتاج المُلك ليُرى الشعوب والرؤساء جمالها لأنها كانت حسنة المنظر" [10-11].
طاب قلب الملك بالخمر، ففقد إتزانه، وفي حماقة طلب من خصيانه السبعة أن يأتوا بالملكة ليظهر جمالها للشعوب والرؤساء. هنا كلمة "خصي" لا تعني المعنى الحرفي أي الرجل المخصي، وإنما هو لقب كان يُعطى لأصحاب الأعمال الملوكية في مصر وفارس، فرئيس الشرطة فوطيفار دُعى "خصي فرعون" (تك 39: 1)، وهكذا رئيس سقاة فرعون، ورئيس خبازيه (تك 40: 2)... فالخصيان السبعة هم الرجال المؤتمنون على الأعمال الملوكية ولهم حظوة الخدم أمام الملك.
طاب قلب الملك بالخمر فنطق بأمور ملتوية كقول الحكيم: "لا تنظر إلى الخمر إذا إحمرت حين تُظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان... قلبك ينطق بأمور ملتوية" (أم 23: 31-32)، "ليس للملوك أن يشربوا خمرًا ولا للعظماء المسكر لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة" (أم 32: 4-5).
إن كنا في المسيح يسوع صرنا ملوكًا (رؤ 1: 6؛ 5: 10) فلا يليق بنا أن نسكر بخمر محبة هذا العالم وملذاته لئلا ننسى شريعة السماء ونفقد عملنا الملوكي اللائق، ونطلب "وشتى" الداخلية لتظهر جمالها أمام الشعوب والرؤساء، أي نقدم أعمال البر والفضائل لنوال مجد بشري ولاستعراض مظهري عوض أن تكون ملكتنا في داخلنا لا تكشف جمالها إلاَّ على عريسها ربنا يسوع!
إن كان الله قد أقام الإنسان كملك روحي، فإنه يليق به ألاَّ يطلب زوجته الملكة لإستعراض جمالها بل يبقيها في بيت النساء تقيم الوليمة للنساء، فيفرحن بها ويخضعن لها. بمعنى آخر لتبقى أجسادنا (الزوجة) خاضعة للنفس (الملك) مختفية في تصرفاتها الملوكية، تعيش بروح الخضوع للنفس لكي تبقى مقدسة في الرب تشارك النفس مجدها وكرامتها الملوكية. لقد أحب بولس الرسول "وشتى" أي جسده الملوكي في الرب وتركها في بيت النساء، حين قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27)، "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب إلى كنيسته، أي كملك نحو الملكة. لتعرف النفس مركزها القيادي بالروح القدس، وليعرف الجسد مركزه كمعين للنفس وشريك معها النصرة ويحرم الإنسان بكليته من المجد الملوكي الأبدي.
أراد الملك إبراز جمال الملكة "لأنها كانت حسنة المنظر"، ولم يدرك أنه باستعراض جمالها تفقد مهابتها وتشوه صورتها، لهذا أكدّ ربنا يسوع إلتزامنا بعدم إستعراضنا لملكتنا الداخلية، إذ يقول: "لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية" (مت 6: 4). تبقى وشتى في بيت النساء عندما نقدم العبادة لله لا بقصد الظهور أمام الناس وإنما بغلق أبوابنا الداخلية ودخولنا إلى الخفاء نلتقي مع عريسنا غير المنظور، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الله نفسه غير منظور لذا يود أن تكون صلاتك أيضًا غير المنظورة[5]]، كما يقول: [الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب (المنظورة)[6]].
3. نزع المُلك عن وشتى:
إذ رفضت الملكة الحضور "إغتاظ الملك جدًا وإشتعل غضبه فيّه" [12]، وهكذا إنقلب إلى النقيض من حب شديد وإعجاب بزوجته الملكة إلى نيران غضب مشتعلة فيّه من جهتها.
إستشار الملك الحكماء والعارفين بالأزمنة (ربما يعني السحرة وأصحاب العرافة) [13]، والعارفين بالسنة والقضاء...، وإذ يبدو وجود خلافات بين الملكة ومموكان أحد هؤلاء المستشارين للملك، بالغ في الأمر وحسب ما فعلته وشتى إساءة لا إلى الملك والرؤساء فحسب بل وكل رجال مملكته، إذ تسمع النساء بما حدث فيحتقرون رجالهن، وطلب منه أن يُنزع المُلك منها ويعطى لمن هي أحسن منها [19].
لقد حسب مموكان في تصرف وشتى كسر لقانون الطبيعة وقانون الأسرة، فيفقد الرجل سلطته على زوجته، وتحتقر الزوجة رجلها، وظن أن القوانين هي التي تسند الرجل وتهبه السلطان. لعل هذا التصرف يكشف عن شعور داخلي كان يجتاز في حياة الرجال في ذلك العصر، وهو العجز عن السيطرة والقيادة للأسرة ولم يدركوا أن القيادة الحكيمة لا تستمد قوتها من قوانين وأوامر وإنما بروح الحب الباذل، إذ يقول الرسول: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها... وأما أنتم الأفراد فليحب كل واحد إمرأته هكذا كنفسه" (أف 5: 25، 33).
يقول مموكان: ليكون كل رجل متسلطًا في بيته ويتكلم بذلك بلسان شعبه" [22]، وبمعنى أنه إن تزوج رجل إمرأة من جنس آخر، يلتزم البيت أن يتكلم بلغة الرجل لا المرأة. هذه هي صورة الحياة الأسرية في ذهن رجال فارس، ولم يدركوا أن اللغة التي تسود البيت يجب أن تكون لغة الحب القادر أن يأسر المحبوبين. ليس بين الزوجة والزوج صراع على السلطة وإنما يليق أن يوجد بينهما شوق نحو البذل العامل بالمحبة الداخلية وإدراك لوحدة الحياة والفكر.
لقد أحب أحشويروش وشتى لأجل جمالها وحسبها وغناها، وفي غضبه تشاور مع الآخرين في أمرها، أما نحن فنتقبل الزوجة (أو الزوج) من يدّ الله ليهبنا روح الوحدة فيه مقدسًا العلاقة الأسرية التي لا تنحل. وكما يقول العلامة ترتليان: [كيف أستطيع أن أصف سعادة الزواج الذي تقره الكنيسة، ويثبته القربان، وتختمه البركة، وتذيعه الملائكة، ويعلن الآب شرعيته؟![7]].
أستير تصير ملكة
خُلعت وشتى عن المُلك لتملك أستير عوضًا عنها؛ وكأن الأولى تمثل حرفية الناموس التي يلزم نزعتها لتقدم النعمة المجانية روح الإنجيل فينا فتملك أستير رمز كنيسة العهد الجديد.
1. الحاجة إلى ملكة جديدة [1-4].
2. أستير المسبية [5-11].
3. أستير الملكة [12-20].
4. مردخاي ينقذ الملك [21-23].
1. الحاجة إلى ملكة جديدة:
"بعد هذه الأمور لما خمد غضب الملك أحشويروش ذكر وشتى وما عملته وما خُتم به عليها، فقال غلمان الملك الذين يخدمونه: ليطلب الملك فتيات عذارى حسنات المنظر، وليوكل وكلاء في كل بلاد مملكته ليجتمعوا كل الفتيات العذارى الحسنات المنظر إلى شوشن القصر إلى بيت النساء إلى يد هيجاي خصي الملك حارس النساء وليعطين أدهان عطرهن، والفتاة التي تحسن في عيني الملك فلتملك مكان وشتى" [1-3].
لقد خمد غضب الملك وتذكر وشتى وربما كان يمكنه العفو عنها، لكن خاف المشيرون لئلا تنتقم منهم بسبب مشورتهم للملك فأسرعوا بتحريضه على إختيار زوجة جميلة. ويُقال أن الملك كان في العادة يختار زوجته من فتيات الرؤساء، لكن إذ خشى الرجال أن يظن الملك أنهم دفعوه لطرد وشتى لمصلحة شخصية حاولوا أظهار حسن نيتهم بأن يختار الملك الفتاة الجميلة من أية كورة أو أي جنس، إذ يجتمعون له الفتيات الحسنات من كل المملكة. بهذا أرادوا تقديم علاج لطرد شتى باحلال إنسانة جميلة عوضًا عنها. وكما يقول القديس جيروم: [كان فلاسفة العالم ينزعون شهوة قديمة ببث شهوة جديدة، يخلعون مسمارًا بتثبيت آخر. على هذا الأساس عمل سبعة رؤساء فارس مع الملك أحشويروش، إذ نزعوا تأسفه على وشتى الملكة بأثارته لحب عذارى أخريات. إنهم يشفون خطأ بآخر، وخطية بخطية أخرى، أما نحن فيليق بنا أن نغلب أخطاءنا بتعليمنا حب الفضائل المضادة. وكما يقول المرتل: "حد عن الشر واصنع الخير، أطلب السلامة واسع وراءها" (مز 34: 14). فإن لم نكره الشر لا نقدر أن نحب الخير؛ بل بالحرى لنفعل الخير إن أردنا ترك الشر؛ لنطلب السلام إن أردنا تجنب الحرب[8]].
إستغل الروساء ضعف شخصية الملك[9] وحبه للخلاعة فأخمدوا حنينه نحو وشتى بتقديم الفتيات الجميلات إلى بيت النساء فيختار حسب هواه.
إن أخذنا بالتفسير الرمزي أو الروحي نسأل من هم هؤلاء الغلمان الذين يخدمونه ويسألونه من أجل أقامة ملكة جديدة عوض وشتى إلاَّ رجال الإيمان من العهد القديم من بطاركة وأنبياء وملوك وكهنة وعلمانيين عاشوا تحت ظل الناموس (وشتى)، وأدركوا أنه لا خلاص لهم بالناموس خاصة في حرفيته إذ "وُجدت الوصية (الناموس) التي للحياة هي نفسها ليّ للموت، لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني" (رو 7: 10-11). فالناموس أظهر الخطية وفضحها (رو 7: 12) وأكدّ موت الإنسان عوض أن يسند ويعالج ويخلص، لهذا كان رجال العهد القديم يترقبون بفرح مجئ "المسيا" المخلص ليقيم أستير ملكة خلال نعمة الإنجيل المجانية، وكما يقول الرب نفسه: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56).
طلب الغلمان أن تُجمع الفتيات العذارى الحسنات المنظر من كل المملكة إلى شوشن القصر، وكأنهم برجال العهد القديم الذين رأوا كنيسة العهد الجديد وقد ضمت في عضويتها أبناء من كل الأمم والشعوب ودخلت بهم إلى بيت العذارى في قصر المسيح، أي الكنيسة التي دُعيت "كنيسة الأبكار" (عب 12: 23)، لتعلن عذراويتها الروحية وجمالها الداخلي بكونها "كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب" (أف 5: 27). لقد اشتهى المؤمنون أن يروا هذه العذراء المقدسة وهي كعروس للملك، وكما يقول الرسول بولس: "لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2).
2. أستير المسبية:
إذ خُلعت وشتى عن المُلك حوّل الله هذا الأمر لخلاص شعبه باقامة أستير المولودة في أرض السبي والتي قام إبن عمها مردخاي بتربيتها– ملكة عوضًا عن وشتى.
تحدث الكتاب عن مردخاي الذي كان يعمل في شوشن القصر، وهو يهودي سُبى من أورشليم في أيام يكنيا ملك يهوذا بواسطة نبوخذ نصر ملك بابل. والأمر الذي يلفت أنظارنا أن البطل الخفي في قصة أستير هو "مردخاي" الذي إتسم بالأمانة في تربيته لأستير وأرشاداته لها، وأمانته في عمله لدى الملك الغريب الجنس منفذًا حياته من مؤامرة شريرة، كما إمتاز بالتصرف الروحي العميق المملوء إيمانًا وثقة في عمل الله.
قلنا أن وشتى تُشير إلى حرفية الناموس التي يجب أن تنزع من القلب لكي تملك نعمة العهد الجديد فتظهر أستير (كنيسة العهد الجديد) ملكة، أما ملامح وظروف أستير فجاءت مطابقة لكنيسة العهد الجديد من جوانب متعددة، نذكر منها:
أولاً: وُلدت أستير في أرض السبي، حُرمت من أرض الموعد والهيكل بكل طقوسه الجميلة، وكأنها تمثل جماعة الأمم الذين سقطوا تحت سبي إبليس، حرموا من بركات الله الروحية والتمتع بهيلكه... لكن الله أقامهم من هذا السبي وجعلهم ملوكًا روحيين، إذ جاء السيد المسيح لتحريرهم، كما يقول بإشعياء: "أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق" (إش 61: 1).
يقول القديس أُغسطينوس: [نزعت سبينا، لا بتحريرنا من أيدي البرابرة... وإنما من أعمالنا الشريرة ومن خطايانا التي بها سيطر إبليس علينا، فمن يتحرر من خطاياه لا يعود رئيس الخطاة (إبليس) يسيطر عليه]، كما يقول: [لتعترف أنك مسبي فتستحق أن تتحرر، فمن لا يعرف عدوه كيف يحث محرره؟[10]].
ثانيًا: "لم يكن لها أب ولا أم" [7]، آي يتيمة الوالدين. هذه هي سمة الكنيسة حين حققت دعوة الله لإبراهيم: "إذهب... من بيت أبيك" (تك 12: 1). لنترك أبانا القديم، إبليس، وأمنا الأولى أي محبة العالم، ليكون الرب نفسه ابانا السماوي والكنيسة السماوية أمنا. لقد سأل الرب اليهود أن يتيتموا من أبيهم الشرير حين قال لهم: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44). ويتحدث القديس أُغسطينوس عن ترك الأمم لأبيهم القديم، قائلاً: [جاء الأمم من عند أبيهم الشيطان وجحدوا بنوتهم له[11]].
ثالثًا: "كانت الفتاة جميلة الصورة وحسنة المنظر" [7]... يرى العريس السماوي في عروسه الملكة جمالاً سكبه هو عليها، إذ يقول لها: "وخرج لكِ إسم في الأمم لجمالكِ، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب" (حز 16: 14). إن كان ماضينا مشين بسواد الخطية لكننا في اعتزاز نقول" "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش 1: 5). وكما يقول القديس أمبروسيوس: [إذ لبست تلك الثياب خلال جرن المعمودية تقول في نشيد الأناشيد "أنا سوداء وجميلة (كاملة) يا بنات أورشليم". إنيّ سوداء خلال الضعف البشري، كاملة خلال سرّ الإيمان[12]].
رابعًا: "نقلها (هيجاي) مع فتياتها إلى أحسن مكان في بيت النساء، ولم تخبر أستير عن شعبها وجنسها" [9-10].
كان هيجان حارسًا لبيت العذارى، وشعشغار حارسًا للسراري [14]، أما أستير فدخلت بيت العذارى، ووُضعت في أفضل موضع فيه، إذ أدرك أنها ستجد نعمة في عيني الملك وتُقام ملكة. ما هو هذا الموضع إلاَّ "البنوة لله" التي صارت لنا كعطية الروح القدس لنا في المسيح يسوع الإبن وحيد الجنس. ففيه إرتفعنا إلى حضن أبيه لنوجد معه كأبناء له.
لم تخبر أستير عن شعبها وجنسها كمشورة مردخاي، فالنفس إذ تنعم بالبنوة لله وتصير ملكة تحيا على مستوى سماوي، ويصير لها جنس فائق لا تستطيع اللغة أن تعبر عنه. إنها تعيش في صمت، لا صمت العجز القائم على إنغلاق القلب، وإنما صمت الحب المنفتح على السماء يتأمل أعمال الله بفرح مجيد لا ينطق به.
خامسًا: إتضاعها. فقد إتسمت أستير بروح الطاعة والخضوع لمربيها مردخاي حتى بعد أن جلست كملكة على أعظم عرش في ذلك الحين، إذ قيل: "وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده" [20].
3. أستير الملكة:
إذ عاد زركسيس من حملته ضد اليونان مهزومًا إنشغل باختيار الملكة الجديدة، ويبدو أن ما تم من إستعدادات مع العذارى كان قبل مجيئه من المعركة وليس بعد مجيئه، إذ بقيت العذارى سنة كاملة يستعدن للقاء مع الملك. ويروي لنا السفر الإستعدادات التي قُدمت لأستير وهي:
أولاً: كملت أيام تعطرها، "ستة أشهر بزيت المّر وستة أشهر بالأطياب وأدهان تعطر النساء" [12]. ماذا تعني الستة أشهر التي تعطرت فيها بزيت المرّ إلاَّ قبولها الدفن مع عريسها المسيح المدفون وقد طُيب بالمرّ... إنها تبقى ستة أشهر، ورقم 6 يُشير إلى أيام الخليقة، أي تبقى تحمل الآلام وتدفن مع عريسها كل أيام غربتها حتى يتم كمالها الروحي وتلتقي في اليوم السابع مع الرب وجهًا لوجه. وكما تدفن مع الرب هكذا تقوم معه، إذ تُشير الأطياب والأدهان إلى رائحة القيامة المبهجة. إذًا لنتألم معه وندفن معه ونقوم أيضًا معه! هذا هو طريق البلوغ إلى الإكليل السماوي. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بكم ألاَّ تقلقكم هذه الآلام بل بالحرى تفرحكم... هكذا يليق بنا أن نسلك الطريق حتى نشاركه في المجد والكرامة... ما أمجد الآلام! بها نتشبه بموته![13]].
ثانيًا: "وكل ما قالت عنه أُعطى لها للدخول معها من بيت النساء إلى بيت الملك" [13]. تحمل العذراء معها كل ما تريده من بيت النساء (العذارى)، فإنها إذ تنطلق إلى عريسها الملك السماوي تحمل ما قد جمعته هنا من مقدسات كالحب والنقاوة والفكر السماوي، تحمله علامة حب لعريسها مما قدمه هو إليها أيام غربتها على الأرض، أي تقدم له مما أعطاها.
ثالثًا: "كانت أستير تنال نعمة في عيني كل من رآها" [15]. هذا هو رصيدها الحقيقي: نعمة الله المجانية التي تقيم النفس وترتفع بها حتى تصلح لمملكة (حز 16: 13)، فتجد نعمة في أعين الكل... هذه هي نعمة الله التي تسند الإنسان في جهاده، والتي قال عنها القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[14]].
رابعًا: "أُخذت أستير في الشهر العاشر هو شهر طيبيت في السنة السابعة لملكة" [16]. لا يمكن إقامة أستير كملكة إلاَّ في الشهر العاشر في السنة السابعة. الشهر العاشر يُشير إلى تكميل الناموس (10 وصايا)، الذي يتحقق خلال إتحادنا في المسيح الذي وحده لم يكسر الناموس، أما السنة السابعة فتُشير إلى كمال الإنجيل. وكأن تمتعنا بالملكوت يتحقق بقبولنا الناموس روحيًا في الرب خلال نعمة الإنجيل.
خامسًا: "وعمل الملك وليمة عظيمة لجميع رؤسائه وعبيده، وليمة أستير، عمل راحة للبلاد، وأعطى عطايا حسب كرم الملك" [19]. لقد أنسته أستير متاعب معركته مع اليونان وخسارته الفادحة، وتحولت حياته إلى فرح، معطيًا راحـة للبلاد أي
اعفاء من الجزية لمدة عام أو اعفاء من التجنيد...
وضع الملك التاج بيديه على رأسها [17]، إذ لا تستطيع النفس أن تملك إلاَّ بالمسيح يسوع الذي يتوجها بأكليل مجده، ويقيم وليمة باسمها تفرح قلب السمائيين، وتكون راحة إذ يحسب الرب إكليلها سبتًا مباركًا وعيدًا مفرحًا، أما عطاياه التي حسب كرم الملك فهي تقديم ذاته لنا كعريس نحمله فينا. هو العاطي والعطية، لا يبخل علينا بنفسه بل بفرح بقبولنا له، لنقول: "حبيبي ليّ وأنا له الراعي بين السوسن" (نش 2: 16). وكما يناجيه القديس أُغسطينوس، قائلاً: [تسهر عليَّ، وكأنك قد نسيت الخليقة كلها! تهبني عطاياك، كآنيّ وحدي موضوع حبك[15]].
4. مردخاي ينقذ الملك:
إتسم مردخاي بالأمانة، فكان أمينًا في حياته الخاصة، كما في تربيته لأستير، وفي خدمته للملك كما في حبه لشعبه.
عرف مردخاي أن خصيين حارسي الباب يدبران مؤامرة لأغتيال الملك فأخبر أستير التي أخبرت الملك، وإذ فحص الأمر وتحقق منه صلبهما على خشبة، وكتب الأمر في كتاب أخبار الأيام الخاص بملوك الفرس.
في تتمة أستير [12] يروي لنا أن الملك قدم هبات لمردخاي، لكن فيما بعد إذ طار النوم من الملك وقرأ ما سبق أن كتبه حسب أن ما ناله مردخاي كلا شيء (6: 1-11)، وأراد تكريمه بصورة فائقة. ونحن أيضًا إذ نجاهد هنا من أجل خلاص إخوتنا من العقاب الأبدي يحسبه الرب دينًا، مع أنه هو العامل فينا ومعنا، فيهبنا بركات ونعم، لكن هذا كله يحسبه كلا شيء عندما يتوجنا بأكليل الحياة الأبدية ويدخلنا إلى شركة أمجاده لنحيا معه وجهًا لوجه في حضن الآب.
الباب الثاني
وليمة أستير
ص 3-7
v هامان ومقاومته للشـعب [ص 3].
v مردخـاي يحـث أسـتير [ص 4].
v أستير تدعو الملك للوليمة [ص 5].
v الله يمجـد مـردخـاي [ص 6].
v نهـــاية هـامــان [ص 7].
هامَان ومقاومته للشعب
إرتفع هامان فصار كرسيه فوق كراسي جميع الرؤساء الذين معه [1]... وإذ كبر في عيني نفسه حمل سمة إبليس المتعجرف إذ صار قتالاً لا يستريح إلاَّ بسفك الدم. وإذ أحكم تدبير المؤامرة للقتل والإبادة جلس يشرب ويلهو.
1. هامان ومردخاي [1-6].
2. المرسوم الملكي بالإبادة [7-14].
3. الملك وهامان يشربان [15].
1. هامان ومردخاي :
"هامان" إسم أحد الآلهة الرئيسية في عيلام التي إستولت عليها مملكة مادي وفارس وجعلتها إحدى ولاياتها، وأقامت من عاصمتها "شوشن" أو "سوسه" عاصمة يقيم بها ملوك الفرس في الشتاء.
جاء هامان الأجاجي من نسل عماليق (1 صم 15: 3، 9) الذين استهتر شاول بأمرهم ولم يحرمهم، فجاء منهم من كاد أن يُبيد الشعب كله في يوم واحد. بهذا يمثل هامان الخطية التي يستهين بها الإنسان ويستهتر في إقتلاعها فتعرض حياته كلها للخطر في الوقت المناسب.
"عظم الملك أحشويروش هامان بن همداثا الأجاجي ورقاه وجعل كرسيه فوق جميع الرؤساء الذين معه، فكان كل عبيد الملك الذين بباب الملك يجثون ويسجدون لهامان" [1-2].
كان هامان قد نال كرامة عظيمة فوق الجميع فكبر في عيني نفسه، فأراد أن يخضع الكل له ويسجدون لعبادته. كأنه يحمل روح سيده – إبليس– الذي أراد أن يقيم من نفسه إلهًا، لهذا عندما امتنع مردخاي اليهودي عن السجود له [2] "إمتلأ هامان غضبًا" [5]، "وإزدرى في عينيه أن يمد يده إلى مردخاي وحده لأنهم أخبروه عن شعب مردخاي فطلب هامان أن يهلك جميع اليهود الذين في مملكة أحشويروش شعب مردخاي" [6].
حقًا لقد اعتاد اليهود أن يسجدوا أمام ملوكهم للتكريم (2 صم 14: 4؛ 18: 26؛
1 مل 1: 16)، لكن الفارسيين كانوا يقدمون العبادة لملوكهم لهذا رفض المؤمنون الإشتراك معهم في هذا العمل[16]. ولمل سُئلّ مردخاي عن عدم سجوده "أخبرهم بأنه يهودي" [4] لا يجوز له الإشتراك معهم في هذا العمل.
ليس عجيبًا أن يطلب هامان ابادة كل الشعب، فإنه إذ يمثل إبليس بينما يرمز مردخاي للسيد المسيح، فإن عدو الخير لا يطيق شعب المسيح، بكونه مملكة الله.
هنا نقف قليلاً لنرى مردخاي كرمز للسيد المسيح، الذي بسببه أراد هامان (إبليس) إبادة كل شعبه. يقول الأب أفراهات[17] بأنه كما كان مردخاي يضطهده هامان الشرير، هكذا كان الشعب الشرير يضطهد السيد المسيح. وكما صلى مردخاي من أجل شعبه ليخلصهم من هامان، يشفع السيد المسيح عن شعبه (بدمه) ليخلصهم من إبليس. وكما خلص مردخاي من مضطهده لم يستطيع المضطهدون أن ينتصروا على السيد المسيح. وكما جلس مردخاي في المسوح وأنقذ شعبه، هكذا نزل كلمة الله وحمل جسدنا كما في المسوح وفي إتضاع خلصنا. بمردخاي صارت أستير مرضية لدى الملك عوض وشتى، وبالمسيح يسوع صارت كنيسة العهد الجديد موضع رضى الآب عوض المجمع اليهودي. وكما حث مردخاي أستير على الصوم مع فتياتها هكذا يحث السيد المسيح كنيسته بكل أولادها على الصوم. أخيرًا نال مردخي مجد هامان، ونودى قدامه: "هكذا يُصنع بالرجل الذي يُسر الملك بأنه يكرمه" (6: 11) وأما يسوع المسيح فتمجد بالمجد الذي له منذ الأزل وقد شهد له الحراس: "حقًا كان هذا إبن الله" (مت 27: 54).
اكتشف هامان أن ما يفعله مردخاي لا يقوم على عداوة شخصية وإنما على أساس روحي تقوى لهذا ظن أنه لا علاج لهذه المشكلة إلاَّ بإبادة الشعب كله.
يرى القديس جيروم أن كلمة "هامان" تعني (ظلمًا)؛ الآن إذ اشتعلت نيران الظلم غضبًا فإنها إنما تحرق ذاتها، إذ يقول: [هامان الذي يعني (ظلمًا) احترق بالنار التي أشعلها بنفسه[18]].
هنا يليق بنا أن نؤكد أن ما فعله مردخاي من عدم سجود لهامان لم يكن عن كراهية أو عداوة في داخل قلبه ولا عن كبرياء، وإنما كما قال في صلاته الواردة في تتمة أستير: "إنك تعرف كل شيء وتعلم أنيّ لا تكبرًا ولا إحتقارًا ولا رغبة في شيء من الكرامة فعلت هذا أنيّ لم أسجد لهامان العاتي، فإني مستعد أن أقبل حتى آثار قدميه عن طيب نفس لأجل نجاة إسرائيل، ولكن خفت أن أحول كرامة إلهي إلى إنسان وأعبد أحدًا سوى إلهي" (13: 12-14).
إنه لا يستنكف أن يقبل آثار قدمي هامان لأجل خلاص إخوته، هكذا يتسع قلبه حبًا ويمتلئ إتضاعًا، لكنه لا يقبل أن يعبد غير الله!
2. المرسوم الملكي بالإبادة:
إذ حسب هامان الإهانة التي لحقت به من مردخاي لا يُكفر عنها قتل شخص واحد إنما طلب إبادة الشعب اليهودي كله، ففي إبريل عام 474 ق.م أي بعد حوالي 4 سنوات من تتويج أستير سأل هامان العرافين والسحرة أن يلقوا فورًا أي قرعة ليحددوا اليوم المناسب لإبادة هذا الشعب حتى لا تفشل خطته، فحددوه باليوم الثالث عشر من الشهر الأخير من السنة (شهر آذار)، وبهذا أعطوه مهلة طويلة وكافية لتحقيق هدفه في يوم واحد في كل أرجاء المملكة.
التقى هامان بالملك وأثاره ضد الشعب بإتهامهم أنهم كاسري السنن ولا يستحقوا إلاََََّ الإبادة، وقدم عشرة آلاف وزنة من الفضة ثمنًا لهذا العمل، وكما قلنا أنه كان يود جمع ثروات كل اليهود فيغتني ويقدم هذا المبلغ للملك ربما ليعوضه هن خسائره منذ سنوات قلية في حربه ضد اليونان، أو مقابل خسائره عن الجزية التي كان يدفعها اليهود، إذ عُرف اليهود بالغنى المبالغ فيه حتى في أرض السبي، ففي الإكتشافات الحديثة وجدت أسماء يهودية كثيرة تقوم بأعمال الصيارفة في منطقة بابل في فترة السبي[19].
سلم الملك خاتمه لهامان، وقال له: "الفضة أُعطيت لك والشعب أيضًا لتفعل به ما يحسن في عينيك" [11]. هكذا كان الملك يثق في هامان ويحبه حتى سلمه الخاتم يكتب ما يشاء، حتى الفضة التي عرض هامان أن يقدمها للملك كتعويض تنازل عنها له، وأما الشعب كله فبين يديه يفعل به كيفما شاء... وبالفعل "أرسلت الكتابات بيد السعاة إلى كل بلدان الملك لإهلاك وقتل وابادة جميع اليهود من الغلام إلى الشيخ والأطفال والنساء في يوم واحد في الثالث عشر من الشهر الثاني عشر أي آذار وأن يسلبوا غنيمتهم" [13]. إنها صورة خفيفة للحكم الذي صدر علينا بسبب حسد هامان (إبليس) فصار الجميع بلا إستثناء تحت حكم الموت، حتى أن كل من ينظر إلى نفسه يضع مناحة عظيمة ويبكي نهارًا وليلاً (4: 3). وكما يقول الرسول: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا إجتاز الموت إلى جميع الناس" (رو 5: 12).
هذا الحكم المرّ ينقلب على هامان وأتباعه خلال مردخاي وأستير ويصير خلاصًا وفرحًا وعيدًا لكل الشعب. هكذا إن كنا بإبليس سقطنا تحت حكم الموت فبالمسيح يسوع (مردخاي الحقيقي) تمتعت أستير وشعبها (الكنيسة) بالخلاص والفرح والعيد السماوي بينما انهار إبليس وكل جنوده تحت الصليب. وكما يقول الرسول: "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيّه" (كو 2: 14-15).
3. الملك وهامان يشربان:
كان للملك أذن واحدة يسمع بها لهامان دون أن يستفسر عن الجانب الآخر. فلم يفحص الأمر بنفسه بل سلم كل شيء في يد هامان. وإذ خشى هامان لئلا يتراجع الملك ويدرك الأمر صار يشرب معه فيلتهي الملك بملذاته على حساب شعبه.
قدم لنا "تتمة أستير" الواردة في الترجمة السبعينية صورة من المرسوم الملكي المُرسل بإسم أحشويروس موجهًا إلى كل الولايات أو الكور المئة سبع وعشرين كورة، وقد جاء مطابقًا للحديث المذكور في هذا الأصحاح بين هامان والملك، أهم ما جاء فيه:
أولاً: إتهم اليهود بالجحود كأناس يحسن إليهم الملك، ويقابلون الإحسان بمخالفة السنن، واعتبر أن هلاكهم فيه سلام للبلدان كلها، إذ يقول: "حتى إذا هبط أولئك الناس الخبثاء إلى الجحيم في يوم واحد يرد إلى مملكتنا السلام الذي أقلقوه" (13: 7).
ثانيًا: دُعي هامان بالرجل الثاني بعد الملك وأن الملك يكرمه بمنزلة أب، لذا يلتزم الكل بمشورته الخاصة بإبادة هذا الشعب العدو، هم ونسائهم وأولادهم. هنا نقف قليلاً عند دعوة هامان "بأب" فإنه يمثل إبليس الذي يقدم لتابعيه أبوة شريرة، وكما قال السيد المسيح لليهود الأشرار: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44). فكما يقدم لنا الله أبوته فنحمل كأبناء سمات أبينا وننعم بشركة مجده الأبدي، هكذا يقدم عدو الخير إبليس أبوته لتابعيه ليحملوا سماته ويشاركونه هلاكه الأبدي.
مردخاي يحث أستير
إذ سمع مردخاي بما فعله هامان التزم بالتصرف الروحي الحكيم، إذ لبس المسوح وتذلل أمام الله وقدم الصلوات كما طالب أستير بالصوم والتذلل مع الإلتقاء بالملك وكشف خطة هامان. هكذا يسند الصلوات بإنسحاق القلب دون أن يهمل العمل بروح الحكمة البناءة.
1. تذلل مردخاي [1-3].
2. حزن أستير وبعث هتاخ له [4-9].
3. رسائل بين أستير ومردخاي [10-17].
1. تذلل مردخاي:
"ولما علم مردخاي كل عُمل شق مردخاي ثيابه ولبس مسحًا برماد وخرج إلى وسط المدينة وصرخ صرخة عظيمة مُرّة، وجاء إلى قدام باب الملك لأنه لا يدخل أحد باب الملك وهو لابس مسحًا، وفي كل كورة حيثما وصل إليها أمر الملك وسنته كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب، وانفرش مسح ورماد لكثيريم" [1-3].
إذ علم مردخاي بما فعله هامان شق ثيابه علامة الحزن الشديد كما فعل رأوبين حينما رجع إلى البئر ولم يجد يوسف أخاه (تك 37: 29)، ولبس المسوح علامة انسحاق قلبه وتذلله وصرخ صرخة مرّة فقد أدرك أن ما حلّ بشعبه كان بسببه... هذا وقد تمتع مردخاي بقلب متسع بحب أخوته فلا يطيق أن يرى آلامهم. إنه كنحميا الذي سمع الأخبار المؤلمة في أورشليم فقال: "جلست وبكيت ونحت أيامًا وصمت وصليت أمام إله السماء" (نح 1: 4). وحمل الرسول بولس ذات القلب حين قال: "أقول الصدق في المسيح ولا وضميري شاهد ليّ بالروح القدس، أن ليّ حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع، فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 1-3).
إن كان مردخاي يمثل السيد المسيح، فطريق الخلاص إنما بدأ بشق مردخاي ثيابه ولبس المسوح وخروجه إلى المدينة ليصرخ صرخة مرّة تهز أبواب السماء، فتخلص أستير الملكة وشعبها من الابادة. هكذا خلع السيد المسيح مجده مخليًا ذاته من أجلنا (تمزيق الثياب)، حاملاً جسدنا (لبس المسوح)، وحالاً في وسطنا على أرضنا (خروجه إلى المدينة) وصرخ على الصليب ليسلم روحه من أجل خلاصنا. وكما يقول الأب أفراهات: [إذ جلس مردخاي والتحف بالمسوح أنقذ أستير وشعبها من السيف، إذ لبس المسيح جسدًا... خلص الكنيسة وأولادها من الموت[20]].
في كل كورة وصل إليها أمر الملك تحولت حياة اليهود إلى مناحة وصوم وبكاء كما فرش الكثيرون المسوح ممتثلين بمردخاي... إنها صورة حية للمؤمنين الذين يتأملون يوم الرب العظيم وإذ يدركون عمل الخطية فيهم ينوحون مقدمين توبة صادقة ليغتصبوا مراحم الرب.
أخيرًا جاء مردخاي إلى قدام باب الملك لكنه لم يدخل بسبب المسوح؛ هكذا كان الملوك يعيشون في قصورهم لا يريدون أن يلتقوا بالمتألمين والمظلومين إذ يهتموا براحتهم النفسية دون مبالاة بالشعب. أغلقوا الأبواب أمام لابس المسوح لكي ينزل ملك الملوك نفسه لابسًا المسوح، ويشاركهم آلامهم، وينطلق بهم بروحه القدوس لا إلى باب الملك أو داخل قصره، وإنما إلى حضن الآب عينه. هكذا أغلق العظماء أبواب قصورهم في وجه المحتاجين لينزل العظيم إليهم ويحملهم إلى سمواته.
2. حزن أستير وبعث هتاخ له:
إغتمت أستير جدًا لما سمعت بما فعله مردخاي، إذ أرسلت إليه ثيابًا لم يقبل أن ينزع محسه عنه. فأرسلت إليه هتاخ أحد الخصيان الذي بين يديها، فأخبره مردخاي بكل ما فعله هامان وأعطاه صورة من أمر الملك وطلب منه أن يوصي أستير أن تدخل إلى الملك وتتضرع إليه وتطلب منه لأجل شعبها.
إن كان في تذلل أمام الله لبس مردخاي المسوح ففي شجاعة أعلن حزنه وسط المدينة ولم يخف مرارة نفسه، عندما سألته الملكة أن يلبس ثيابًا أرسلتها إليه رفض. أرسلت إليه هتاخ الذي يبدو أنه كان يهوديًا، إذ جاء عنه في الترجوم الثاني أنه عمل إسمًا آخر "دانيال". ولهذا السبب حدثه مردخاي بصراحة كاملة وسأله أن يعلن الأمر لأستير أن تتدخل بالتقائها مع الملك.
3. رسائل بين أستير ومردخاي:
إذ أخبر هتاخ أستير بكلام مردخاي، أرسلت إليه تقول بأنها لم تُدع لتدخل عند الملك هذه الثلاثين يومًا، فإن دخلت تُقتل ما لم يمد الملك قضيب الذهب فتحيا. أما هو فعاد يخبرها: "لا تفتكري في نفسك إنكِ تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود، لأنكِ إن سكتِ سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، وأما أنت وبيت أبيكِ فتبيدون. ومن يعلم أن كنت لوقت مثل هذا وصلتِ إلى الملك" [13-14].
إن كان مردخاي قد مزق ثيابه ولبس المسوح وصرخ صرخة مرة في وسط المدينة، ليس يأسًا ولا فقدان رجاء وإنما تذللاً أمام الله إيمانًا به أنه قادر أن يعمل، وحثًا لشعبه أن يشترك معه في الإنسحاق أمام الله... هذا ما كشفته كلماته لأستير فقد آمن أن الخلاص قادم لا محالة، بأسير أو بغيرها الله يعمل، إذ يقول لها: "لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر". وكأنه يقول لها: الله لا يعدم الوسيلة، فسيخلص على كل حال، لكنني أخشى أن تخسري إكليلك فلعله أرسلك إلى هذا الموضع ليعمل بك فتتمتعين بالإكليل.
ليتنا في وقت التجربة نكون كمردخاي تؤمن أن الخلاص قادم لا محالة، والله لابد وأن ينقذ، لكنه ليتنا نخرج من التجربة غالبين ومنتصرين لا محطمين وخاسرين. إن آمنا بعمل الله تنتهي التجربة ونكون قد كُللنا في عينيه، فنقتني لأنفسنا ربحًا على مستوى سماوي.
أكد مردخاي لأستير أن أحداث حياتها ليست مجموعة من الصدف ولا هي ثمرة جهاد بشري محض، إنما هي خطة إلهية لمجد الله وبنيان الكنيسة ونمو حياة أستير الروحية. هكذا آمن يوسف عندما قال لاخوته الذين سلموه للعبودية: "لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتمومي إلى هنا؛ لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم" (تك 45: 5)... فإن كانت أستير قد صارت ملكة أو يوسف بيع كعبد، فالله سيد التاريخ إنما يدخل بهما إلى حيث يمجداه لحساب الجماعة المقدسة كلها.
كشف لها مردخاي أن تخرج من دائرة التفكير الضيق، فلا تفكر في حياتها أو موتها، لأن ما يصيب شعبها يمس حياتها وحياة بيت أبيها، إذ يقول لها: "لا تفتكري أنكِ تنجين في بيت الملك". وفي نفس الوقت أكدّ لها أن العمل الذي تقوم به يقوم به الله نفسه فهو سيخلص حتمًا، فإن مدت يدها للعمل فالله نفسه كأب ملتزم بالعمل... فلا تخف.
ليتنا نعمل دائمًا منطلقين من دائرة الأنا، مدركين أن عمل الله الروحي لن يفشل، وأن يده قادرة على الخلاص إن سلمنا حياتنا بين يديه.
إن كان مردخاي واجه استير بصراحة وشجاعة لينزع عنها كل خوف، ففي اتضاع قبلت الملكة رسالته وكانت إجابتها تكشف عن قلب متسع بالحب الفائق، إذ قالت: "أذهب أجمع جميع اليهود الموجودين في شوشن وصوموا من جهتي ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً ونهارًا، وأنا أيضًا وجواري نصوم كذلك، وهكذا أدخل إلى الملك خلاف السُنة، فإذا هلكت هلكت" [16].
أحبت أستير شعبها، فقدمت حياتها للموت من أجلهم: "فإذا هلكت هلكت". فمع كونها ملكة عظيمة جميلة المنظر، في مقتبل عمرها، محبوبة من رجلها، لكنها قبلت أن تدخل إليه دون أن يدعوها وهي تعلم وحشيته لا يعرف الرحمة حتى على أصدقائه فعندما توسل إليه ليسياس أن يعفي إبنه الأكبر من الحرب مقدمًا أبناءه الخمسة الآخرين ما كان منه إلاَّّ إن شطر الولد شطرين وطلب من الجند أن يسيروا على جثمانه بأقدامهم حتى يعرف الكل حزمه وصرامته.
عرضت حياتها للهلاك بإيمان، فلم تلق باللوم على مردخاي ولا إتهمته بالكبرياء لعدم خضوعه لهامان، وإنما بإيمان حيّ أدركت أن خطاياها هي وكل شعبها هي السبب، إذ نسمع في صلاتها التي جاءت في تتمة أستير تقول: "إنا قد خطئنا أمامك ولذلك أسلمتنا إلى أيدي أعدائنا، لأنّا عبدنا آلهتهم وأنت عادل يارب" (14: 6-7)... بالإيمان عرفت مفتاح الخلاص: الاعتراف بالخطايا والرجوع إلى الله المخلص.
لم تفكر أستير بطريقة بشرية زمنية، فلم تهتم كيف تتزين وتتطيب لتجتذب الملك، ولا طلبت من مردخاي أن يدبر لها مؤامرة ضد هامان لكنها عرفت أن الخلاص من الله فلجأت إلى الصوم والصلاة، وطلبت أن يشترك معها مردخاي وسائر اليهود الذين في مدينة شوشن (سوسة) كما إشتركت جواريها معها... وهنا نقف عند شركة جواريها معها في صومها عن الأكل والشرب ثلاثة أيام وصلواتها ففي هذا كشف عن حياة أستير معهم، كانت تعيش معهم لا كآمرة ناهية وإنما كأم تهتم بخلاصهن، حملن معها روح الورع والتقوى، لذلك شاركن إياها في ضيقتها بفكر روحي لائق! ليتنا نهتم حتى بالخدم، فنحن مسئولون عن خلاصهم كأخوة لنا يشاركوننا العضوية في الجسد الواحد.
كان لزامًا أن تدخل أستير إلى الملك، لكنها أرادت أن تدخل إلى قلبه بالله الذي وحده في يده قلب الملك (أم 21: 1) فلجأت إليه بالصوم والصلاة حتى يغير طبيعته الحجرية، ويفتح أبوابه لها، فتدخل مع الرب نفسه ليخلصها مع شعبها. في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [أستير بأصوامها حركت الملك المتعجرف[21]]. كما يقول القديس أكلميندس الروماني: [إذ كانت أستير كاملة في الإيمان عرضت نفسها لخطر ليس بأقل (من يهوديت)، لكي تنقذ أسباط إسرائيل الإثنى عشر من هلاك أكيد. فقد توسلت بالصوم والاتضاع إلى الله الأبدي الذي يرى كل شيء، وهو إذ رأى اتضاع روحها خلص الشعب الذي من أجله عرضت نفسها للموت[22]]. وجاء في كتاب (الدساتير للرسل القديسين): "بالصوم هربت أستير ومردخاي ويهوديت من مكائد هولفيرنوس وهامان الشريران"[23].
بحب كامل لشعبها وثقة كاملة في الله العامل في حياة المتضعين صامت أستير وإنطلقت بشجاعة للعمل قائلة: "فإذا هلكت هلكت"، ليس عدم إيمان بخلاص الله، وإنما بحب مستعدة أن تهلك ليحيا الشعب، وتموت هي من أجل إخواتها. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [لماذا عرضت أستير حياتها للموت ولم تخف غضب الملك المتوحش؟ أليس لكي تخلص شعبها من الموت، الأمر اللائق المملوء فضيلة![24]].
لقد حملت أستير روح الثلاث فتية الذين قالوا: "هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلاَّ (حتى إن متنا جسديًا) فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دا 3: 17-18).
طلبت الصوم إنقطاعيًا من كل أكل وشرب ثلاثة أيام، وكأنها أرادت أن تدخل مع الرب في قبره لتقوم معه في اليوم الثالث. لقد أمنت بالقادر أن يقيمها هي وشعبها من الموت. كأنها شاركت يونان رمز المسيح فدخلت في جوف الحوت تعاين دفن السيد المسيح وإحتماله الموت عن شعبه لتخرج تكرز ببشارة الحياة.
جاء في تتمة أستير (ص 14) أنها خلعت ثياب الملك ولبست ثيابًا للحزن والبكاء وعوض الأطياب المختلفة ألقت على رأسها رمادًا وذللت جسدها بالصوم وكانت تنتف شعر رأسها، ووقفت تتضرع إلى الله معترفة بخطاياها هي وشعبها، وتذكره بمواعيده وأعماله مع آبائها، وتسأله أن ينظر إلى مذلة شعبه وضيقته بأيدي الوثنيين.
آمنت أستير أن الله هو الذي يتكلم على فمها لتخترق الكلمات قلب هذا الأسد المتوحش، إذ قالت: "إلق في فمي كلامًا مرصفًا بحضرة ذاك الأسد وحوّل قلبه إلى بغض عدونا لكي يهلك هو وسائر المتواطئين معه" [13]. فإنها لا تقتنص قلب الملك بجمالها ولا بتدليلها ولا بحكمتها الذاتية إنما بالله الذي يتكلم في فمها ويعمل في قلب هذا الأسد. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أنقذت أستير كل شعب اليهود عندما أوشك على الهلاك التام باستخدامها هذه الوسيلة (الصلاة)!... لقد سألت الله الرحوم أن يذهب معها إلى الملك، وقدمت له صلواتها، إذا قالت: "إلق في فمي كلامًا مقبولاً..."[25]].
في صلاتها كشفت أستير عن حياتها الداخلية، فقد عاشت كملكة عظيمة صاحبة مجد وكرامة أما قلبها فكان بسيطًا للغاية لم يدخله شيء من كرامة هذا العالم وملذاته. وكما قالت: "أنت عالم بضرورتي وأنيّ أكره سمة أُبهتي ومجدي التي أحملها على رأسي أيام بروزي وأمقتها كفرصة الطامث ولا أحملها في أيام قراري، وأنيّ لم آكل على مائدة هامان ولا لذذت بوليمة الملك ولم أشرب خمر السكب، ولم أفرح أنا أمتك منذ نقلت إلى ههنا إلى اليوم إلاَّ بك أيها الرب إله إبراهيم" (14: 16- 18).
هكذا عاشت في القصر كملكة لكنها تدرك أنها إمرأة أسيرة، إكليلها في عينها كخرقة الطامث لا تشتهيه بل تثتثقله، لم تأكل مع هامان الرجل الثاني بعد الملك ولا وجدت لذه في مائدة الملك، ولا إشتركت في شرب الخمر المقدم كسكيب للآلهة، ولم يفرحها أحد سوى إله إبراهيم!
وهذا يفسر لنا كيف أنها حين دخلت إلى الملك قبل إختيارها "لم تطلب شيئًا إلاَّ ما قال عنه هيجاي خصي الملك" (2: 15)، إذ لم يتعلق قلبها بشيء حتى تاج المُلك!
لقد قدم لنا القديس أُغسطينوس أستير مثلاً للذين هم في منصب ولهم مراكز سامية وكبرى ومنهمكون في الأعمال العامة لكن قلبهم منفتح على السماء، إذ يقول: [من هذا النوع السيدة القديسة أستير التي مع كونها زوجة الملك لكنها عرضت حياتها للخطر مستشفعة عن شعبها، إذ صلت قالت بأن الزينة الملوكية بالنسبة لها كخرقة الطامث[26]].
وحين إمتدح القديس جيروم إحدى المكرسات الحديثات للرب، قال: [صارت تبغض كل لباس بهي، وصرخت للرب مثل أستير: "أنت عالم بضرورتي وأنيّ أكره سمة أُبهتي ومجدي – أي الإكليل الذي لبسته كملكة – وأمقتها كفرصة الطامث"[27]].
أستير تدعو الملك للوليمة
إذ صامت أستير مع جواريها ومردخاي وكل يهود شوشن في تذلل أمام الله وبدموع إنطلقت أستير إلى الملك متكئة على صدر إلهها لكي تدعو الملك وهامان إلى وليمة خاصة... هي في الحقيقة وليمة الصليب التي خلالها خلص شعب الله وهلك هامان (إبليس).
1. أستير تقابل الملك [1-2].
2. دعوة الملك وهامان للوليمة [3-8].
3. هامان يعد الصليب [9-14].
1. أستير تقابل الملك:
"وفي اليوم الثالث لبست أستير ثيابًا ملكية ووقفت في دار بيت الملك الداخلية مقابل بيت الملك، والملك جالس على كرسي ملكه في بيت الملك مقابل مدخل البيت" [1].
أعدت أستير نفسها لهذا اللقاء بالصوم والتذلل مع الصلاة وجاءت تلتقي مع الملك في اليوم الثالث لتدعوه مع هامان إلى وليمة تعدها لهما. لقد رأي كثير من الآباء أن رقم "3" يُشير إلى القيامة[28]، فإن كانت وليمة أستير تُشير إلى وليمة الصليب التي أعدها الرب ليخلص شعبه ويصلب إبليس وكل أعماله الشريرة، فإنها إنطلقت إلى هذه الوليمة بروح القيامة. بمعنى آخر إن كانت هذه الوليمة تُشير إلى الصليب، فإن ما أصاب هامان من هلاك إنما هو بصليب الرب القائم من الأموات. على الصليب هلك هامان الحقيقي أي إبليس لأن المرتفع على الصليب هو "القيامة" بعينه (يو 11: 25).
إنطلقت أستير إلى الملك كما إلى الصليب خلال قوة قيامة الرب، لذلك خلعت المسوح ولبست الثياب الملكية، إذ آمنت بالله الذي يُقيم المسكين من المزبلة.
يقدم لنا تتمة أستير صورة رائعة تفصيلية عن لقاء أستير مع الملك (ص 15)، فيذكر أنها إذ خلعت ثياب حدادها ولبست ملابس مجدها استدعت مدبر الكل ومخلص الجميع الله [5]. وكأنها تعلن أنها من أجله خلعت المسوح ولأجله لبست المجد، وانها لن تنطق للعمل بدونه. إستدعته ليكون مرافقًا لها، لا بل ليكون في قلبها ويتكلم على لسانها، بل تكون هي مختفية فيه حتى يطلق سهامه في قلب الملك ليحوله من القسوة إلى الحب. لقد استدعت الله مخلص الجميع إذ عرفت "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله" (أم 21: 1).
إنطلقت أستير معها جاريتان، تستند على واحد كأنها لم تستطيع أن تقف لتنعمها وترفهها والأخرى تتبعها ترفع أذيالها... وكانت مشرقة اللون في ريعان جمالها ووجهها أنيس ومحبوب جدًا. دخلت كل الأبواب بابًا بابًا ثم وقفت قبالة الملك حيث كان جالسًا على عرشه بلباس المُلك مزينًا بالذهب والجواهر ومنظره رهيب فرفع عينيه وأظهر غضب قلبه باشتعال عينيه فسقطت الملكة واستحال لون وجهها إلى صفرة واتكأت رأسها على الجارية استرخاءً، فحوّل الله روح الملك إلى الحلم فأسرع ونهض عن العرش مشفقًا وضمها بذراعيه حتى ثابت إلى نفسها وكان يلاطفها بهذا الكلام: "مالك يا أستير أنا أخوك لا تخافي إنكِ لا تموتين إنما الشريعة ليست عليكِ ولكن على العامة، هلمى والمسي الصولجان". وإذ لم تزل ساكنة أخذ صولجان الذهب وجعله على عنقها وقلبها، وقال: "لماذا لا تُكلمينني؟!" فأجابت وقالت: "إنيّ رأيتك يا سيدي كأنك ملاك الله فاضطرب قلبي هيبة من مجدك، لأنك عجيب جدًا يا سيدي ووجهك مملوء نعمة". وفيما هي تتكلم سقطت ثانية وكاد يغشى عليها، فاضطرب الملك وكان جميع أعوانه يلاطفونها.
إنه لقاء عجيب يكشف عن لقاء الكنيسة الحية المختفية في المسيح يسوع القائم من الأموات مع الآب لتنعم بحبه وأحضانه الأبدية.
أقول ما أحوجنا أن ننطلق مع أستير في اليوم الثالث، حاملين في دخلنا قوة قيامة الرب التي تنزع حدادنا وتهبنا أمجادًا داخلية وثيابًا ملوكية تليق بلقائنا مع الرب السماوي. لننطلق معها ويكون معنًا أيضًا جاريتان نتكئ على الواحدة وتحمل الأخرى أذيالنا؛ كما حمل كلمة الله الناسوت كجارية له فظهر في صورة الضعف وهو ملك الملوك، لكن بقى الناسوت – الجارية الأخرى – من وراء يخضع لعمله الإلهي في إنسجام... هكذا مع الفارق لنتكئ على الجسد كجارية يخضع لنفوسنا في الرب، وليكن الجسد وراءنا يسير على خطوات الروح ويخدمها ولا يكون متسلطًا عليها يحركها بشهواته وملذاته الزمنية.
لنسير مع أستير التي بدت كخائرة، وكأنها تسقط تحت الصليب مع مسيحها، تشرب معه كأس آلامه وتشاركه شبه موته لتحمل قوة قيامته.
لنكن كأستير، تختفي في الله مخلصنا، فتدخل من باب إلى باب حتى تبلغ حضرة الملك. هكذا يدخل بنا كلمة الله من قوة إلى قوة (مز 84: 7)، وينطلق بنا من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، فتنفتح أمامنا الأبواب الدهرية من أجله (مز 24: 7).
أخيرًا إذ دخلت إلى الملك لاطفها: "يا أستير أنا أخوكِ لا تخافي، إنك لا تموتين إنما الشريعة ليست عليك ولكن على العامة". ألسنا نسمع ذات الكلمات حين ندخل حضن الآب فنجد الإبن أخًا بكرًا لنا، يشفع فينا لننعم بشركة أمجاده فلا نخاف الدينونة لأننا لا نموت. وكما يقول الرسول بولس في جرأة: "من سيشتكي على مختاري الله؟! الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟! المسيح هو الذي مات بل بالحرى قام أيضًا الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا" (رو 8: 32-34).
لقد ضم الملك أستير بين ذراعيه ووضع صولجان الذهب على عنقها، هكذا يضمنا الآب في حضنه ويقيمنا كملكة بالصليب (صولجان الذهب) الذي قبلناه حاملينه مع الرب على عنقنا.
أما قولها أنها رأته كملاك الله فاضطرب قلبها من هيبة مجده فيحمل رمزًا للكنيسة التي تعاين أسرار الله وتنظر وجهه وتدخل في هيام حب أبدي لا ينقطع، وتبقى كل أبديتها تتأمله بحب ممتزج مهابة!
الآن نردد ما قاله القديس أُغسطينوس: [ألم يحقق الله لها ما سألته (14: 13) إذ عمل في قلب الملك... سمع لها فغيّر قلبه بقوة خفية فعالة حتى قبل أن يسمع توسلاتها[29]].
2. دعوة الملك وهامان للوليمة:
يقول المؤرخ هيرودت[30] أن ملوك مادي كانوا يرفضون دخول أحد إلى حجرة العرش ما لم يُستدع، لابراز مهابتهم وخشيتهم، وفي نفس الوقت حماية لأنفسهم من أي أغتيال. أما أستير فلم تدخل فقط إلى حيث العرش إنما دخلت إلى قلب الملك الذي ضمها بين ذراعية وأخذ يلاطفها ويسألها: "مالك يا أستير الملكة؟ وما هي طلبتك؟ إلى نصف الملكة تعطى لك! [3]. لم يكن يتوقع الملك إجابة أستير: "إن سؤلي وطلبتي، إن وجدت نعمة في عيني الملك وإذا حسن عند الملك أن يُعطي سؤلي وتقضي طلبتي أن يأتي الملك وهامان إلى الوليمة التي أعملها لهما وغدًا أفعل حسب أمر الملك" [7-8].
لا نعرف لماذا أجلت أستير طلبتها في وقت وعدها فيه الملك أن يهبها حتى إلى نصف المملكة، هل شعرت بشيء من الخوف فأرادت أن تستجمع شجاعتها بالصلاة طوال اليوم، أو لعلها بحكمتها لم ترد أن تتعجل الطلب حتى لا يشعر الملك أنها قد ضغطت عليه واستغلت حبه لها؟! إنما نعرف تفسيرًا أهم كان يجب أن تؤجل الحديث إلى غد حتى يمتلئ كأس شر هامان ويصنع الصليب لمردخاي [14] حتى يُصلب هو عليه. يدّ الله قد دفعتها للتأجيل حتى تتحقق خطة الله الخلاصية في أروع صورها، يتمجد مردخاي بمذلة هامان حيث كان ينادي قدامه في ساحة المدينة "هكذا يُصنع للرجل الذي يسر الملك بأن يكرمه" (6: 11)، ويعد هامان الخشبة لنفسه.
كان تأجيل الطلب على ما يبدو باعلان إلهي إن لم يكن بصورة ملموسة فبعمل الله في قلبها وعلى لسانها كما طلبت هي أن يعطيها كلام حكمة... وخلال هذا التأجيل أسرع الله بتمجيد مردخاي بعد أن نزع الله النوم من عيني الملك (ص 6) وأسرع هامان إلى إشعال النار لحرق نفسه.
أما لماذا طلبت هامان أن يحضر مع الملك، وكانت هذه هي المرة الأولى التي فيها سألته أن يأكل هامان معهما، كما يظهر من فرح هامان نفسه وقوله لعائلته وأحبائه: "حتى أن أستير الملكة لم تُدخل مع الملك إلى الوليمة التي عملتها إلاَّ إياي، وأنا غدًا مدعو إليها مع الملك" [12]، فربما لأنها إذ أرادت أن تشتكيه للملك لم تقبل أن تفعل ذلك من ورائه، بل مواجهة معه. لقد أرادت أن تضرب بحجر عصفورين: ترضي الملك بمجئ هامان المحبوب جدًا لديه، وفي نفس الوقت تشتكي هامان أمام الملك في حضرته.
على أي الأحوال إن كانت هذه الوليمة هي وليمة الصليب التى تقيمها الكنيسة عند الجلجثة إنما لتدعو الملك فيفرح بثمر كنيسته المتألمة القائمة من الأموات، ويحضر هامان ليُحكم عليه بالصليب ويفقد كل سطوته. وكما يقول القديس جيروم: [إنه على الصليب إرتفع المسيح مصلوبًا حسب الجسد، لكنه صلب إبليس وحطّم سلطانه.
3. هامان يعد الصليب:
"خرج هامان في ذلك اليوم فرحًا وطيب القلب" [9]، إذ حسب هذا المتكبر الذي
لا يفكر إلاَّ في نفسه أن الملكة ترغب في تكريمه لمصاحبته للملك في الوليمة، ولم يعلم أنها دعته لدينونته، شأنه شأن المعجبين بأنفسهم المخادعين لذواتهم، وكما قيل لأدوم: "أنت محتقر جدًا، تكبر قلبك قد خدعك" (عو 2: 3).
خرج فرحًا وطيب القلب، لكن فرحه لم يدم إلاَّ لحظات فعند الباب قبل خروجه من القصر رأى مردخاي لا يسجد له فامتلأ غيظًا... وهكذا جمع هامان أهل بيته وأحباءه ليعلن لهم غناه وكرامته، قائلاً: "وكل هذا لا يساوي عندي شيئًا كلما أرى مردخاي اليهودي جالسًا في باب الملك" [13]. إنه لا يطيق أن يرى مرخاي جالسًا في باب الملك حتى لو دُعى هو إلى وليمة الملك. هذا هو فكر إبليس نحو أولاد الله إذ لا يطيقك أحدًا منهم يجلس في باب ملك الملوك، حاسبًا هذا خسارة له.
لنتأمل شخص مردخاي الذي قدم أصوامًا وتذللاً وصرخ بمرارة في وسط المدينة، لنجده يعود إلى القصر بعد فترة التذلل، ولا ينحني بالسجود لهامان، فهو لا يقبل أن يسترضي إنسانًا على حساب الحق ولا يُقدم لإنسان ما يليق بالله وحده.
وإذ كان هامان قد فقد سلامه أشارت عليه زوجته وكل أحبائه أن يعملوا خشبة إرتفاعها خمسين ذراعًا لكي يطلب في الصباح صلب مردخاي قبل دخوله إلى الوليمة، وعمل هامان الخشبة.
صنع هامان الخشبة كما أعد إبليس الصليب خلال أعوانه، وإذ ظن هامان أنه يصلب مردخاي صُلب هو عليها، وهكذا إذ حسب إبليس أنه يتخلص من السيد المسيح بالصليب إذا بإبليس نفسه يُصلب خفية فاقدًا سلطانه على مؤمني الرب (كو 2: 14-15).
لقد صنع صليبًا إرتفاعه 50 ذراعًا حتى يستطيع أن ينعم برؤية مردخاي مصلوبًا وهو في القصر من بعيد فيشفي غليله. لكن رقم 50 يحمل معنى رمزيًا، فهو يُشير إلى الحرية، إذ في اليوبيل (السنة الخمسين) ينعم اليهود على العبيد بالعتق كما تتحرر الأرض وترد إلى أصحابها[31]... وبالصليب تحررت البشرية المؤمنة من هامان الحقيقي. ففي الصليب ترى مسيحها يفتح ذراعيه لكي يضم العالم كله – من اليهود والأمم – ليعتقهم من أسر إبليس وينطلق بهم إلى حضن أبيه.
الله يمجد مردخاي
في أمانة وبحب صادق تذلل مردخاي أمام الله وحث أستير على العمل بطريقة روحية، إذ عاد إلى عمله في القصر لم يتراجع عن سلوكه الروحي التقوي إذ لم يسجد لهامان. قضى هامان الليلة كلها يعد الصليب ليتشفي في مردخاي، لكن الله نزع النوم أيضًا عن عيني الملك حتى يتمجد مردخاي ويبطل عمل هامان.
1. الملك يذكر أعمال مردخاي [1-3].
2. الملك يستشير هامان [4-9].
3. هامان يسقط أمام مردخاي [10-11].
4. إنهيار هامان [12-14].
1. الملك يذكر أعمال مردخاي:
"وفي تلك الليلة طار نوم الملك فأمر أن يؤتي بسفر تذكار أخبار الأيام فقرئت أمام الملك، فوجد مكتوبًا ما أخبر به مردخاي عن بغثانا وترش خصيي الملك حارسي الباب اللذين طلبا أن يمدا أيديهما إلى الملك أحشويروش. فقال الملك: أية كرامة وعظمة عملت لمردخاي لأجل هذا؟ فقال غلمان الملك الذين يخدمونه: لم يعمل معه شيء" [1-3].
إنه لتوقيت عجيب، فبينما كانت أستير تعد الوليمة ولم يكن سهلاً عليها أن تهاجم هامان المحبوب لدى الملك، وكان هامان يسهر الليلة كلها يعد لمردخاي صليبًا ضخمًا، كان الله يستخدم كل الأحداث معًا لتحقيق خطته الخلاصية في أروع صورة. فما لم يستطع مردخاي وأستير عمله قام به الرب نفسه إذ نزع النوم عن عينيه حتى يحثه على مكافأة مردخاي من أجل أمانته في العمل وإنقاذ حياته.
هنا يليق بنا أن نقف قليلاً فنرى صلوات مردخاي تُستجاب في الوقت المناسب وحين أقول صلواته لا أقصد مجرد الكلمات الخارجية من فمه، وإنما حياته كلها. فكل عمل روحي وكل أمانة وكل تقديس يحول حياتنا إلى صلوات مقبولة لدى الله. فما فعله مردخاي منذ سنوات حين خدم الملك بأمانة وانقذه من المؤامرة الرديئة إنما كان صلاة لله نفسه الذي يقبل كل عمل روحي وأمانة كرائحة بخور طيبة. بهذا نفهم قول المرتل: "أما أنا فصلاة" (مز 109: 4)، مدركين أن كل عضو في جسدنا وكل عاطفة وأحساس إنما يكون بتقديسه وجهاده في الرب أشبه بلسان عملي يفتح أبواب السماء ليدخل بنا إلى حضرة الله. فالبار صلاته تقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16)، لأن ما ينطق به لسانه من طلبات يخرج متناسقًا مع ما تعلنه حياته كلها بكونها صلاة. وعلى العكس صلاة الأشرار مكرهة أمام الرب، لأنه ينطق بشيء بينما تنطق حياته بشيء آخر فيكون نشاذًا لا يستريح له الرب.
إستجاب الرب لصلوات مردخاي التي قدمها بحياته العملية كما بلسانه، فبينما كان هامان يحكم خطته ليهوى بمردخاي حتى التراب، إذا بالله "يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملكهم كرسي المجد، لأن للرب أعمدة الأرض" (1 صم 2: 8).
طار النوم من عيني الملك، وإذ تذكر أعمال مردخاي وسأل عن مكافأته حسب ما ناله كلا شيء ولم يستريح في قلبه حتى يرد له الحب بالحب. لقد أدرك أنه انقذ حياته، فأية مكافأة تليق أمام هذا العمل؟! حقًا إن كان هذا هو إحساس ملك عُرف بالوحشية فماذا يليق بنا أن نرد الله مقابل محبته إذ خلصنا من خطايانا المهلكة، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان مردخاي هذا عندما تذكر الملك خدماته صارت نافعة له وبسببها إرتفع إلى مجد عظيم هكذا، فكم بالحرى يليق بنا أن نكون شاكرين لله ونقدم له بفيض كل ما لنا عندما نذكر غفرانه لخطايانا التي ارتكبناها ضده وما قدمه لنا من صلاح؟![32]].
2. الملك يستشير هامان:
جاء هامان في الصباح المبكر بعد ليلة ربما قضاها كلها مع النجارين في عمل الصليب، وإذ أراد مقابلة الملك ليستأذنه في صلب مردخاي حتى ينعم بالسلام الداخلي قبل تمتعه بوليمة أستير، وجد الملك نفسه يطلبه ليستشيره، قائلاً له: "ماذا يُعمل لرجل يُسر الملك أن يكرمه؟ فقال هامان في قلبه: من يُسر الملك بأن يكرمه أكثر منيّ؟!" [6]. وفي كبرياء قلبه ظن أنه ليس من إنسان يحبه الملك مثله، فبالغ في التكريم جدًا، ولم يدرك أنه "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم 16: 18)، وأنه "تأتي الكبرياء فيأتي الهوان، ومع المتواضعين حكمة" (أم 11: 2). وكما يقول الأب مار إسحق السرياني: [المجد الزمني يشبه صخرة مختفية في البحر، لا يعرفها البحار قبل أن تصطدم بها سفينة ويتمزق قاعها وتمتلئ ماءً[33]].
بالغ في التكريم فطلب أن يلبس المحبوب من الملك الثوب الملوكي ويركب فرس الملك وتتوج رأس الفرس بتاج كعادة الأشوريين والفارسيين، وأن يُنادي أمامه في ساحة المدينة: هكذا يُصنع بالرجل الذي يُسر الملك بأن يكرمه.
لقد حمل هامان روح إبليس الذي كرمه الله – قبل السقوط – فكان كاروبًا مع أعلى الطغمات السمائية، وفي كبرياء أراد أن يختلس ما لله لحساب نفسه[34]، هكذا أراد هامان أن يختلس ثوب الملك وفرسه وكرامته!
3. هامان يسقط أمام مردخاي:
سقطت كلمات الملك على أُذني هامان كصاعقة حين قال له: "أفعل هكذا لمردخاي اليهودي الجالس في بيت الملك، لا يسقط شيء من جميع ما قلته" [10]. فإن كان هامان لا يطيق مردخاي بسبب جنسيته وانتسابه لله، فها هو الملك يمجده ويكرمه ملقبًا إياه "اليهودي"، ولعله عرف ذلك خلال مناقشته بخصوص مكافأته.
يا للعجب تذلل مردخاي فرفعه الملك إلى كرامة فائقة، وتكبر قلب هامان فهوى إلى تحت قدميه. من أجل تذلل مردخاي فارتفع لكي ينقذ حياتهم ويحول يوم هلاكهم القاتم إلى عيد الفوريم المفرح، وأما هامان فبتشجيع أحبائه تكبر فسقط وهلك مع بنيه وكل عائلته.
ماذا نرى في مردخاي الممجد إلاَّ عمل المسيح الممجد الذي رفعنا معه إلى مجده بعد أن تذلل من أجلنا وصرخ بسببنا على الصليب صرخة مرّة. لبس مردخاي الثوب الملكي أما السيد المسيح فأعطانا ذاته لكي نلبسه (غل 3: 27) فنختفي فيه. ركب مردخاي فرسًا ملوكيًا أما السيد المسيح فوهبنا نعمته الإلهية لتحملنا من مجد إلى مجد وتنطلق بنا إلى حضن أبيه. نال مردخاي تاج الملك أما السيد المسيح فوهبنا فيه شركة الطبيعة الإلهية وجعلنا ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو 8: 27)، فيه صرنا موضع سرور الآب، وكان يُنادي أمامنا: "هكذا يفعل بالرجل الذي يُسر الملك بأن يكرمه".
بقدر ما تمجد مردخاي هوى هامان أمامه حتى صار تحت قدميه، وكما يقول الأب أفراهات: [وطأ مردخاي عنق هامان مضطهده، وداس يسوع على أعدائه بقدميه[35]].
4. إنهيار هامان:
"ورجع مردخاي إلى باب الملك، وأما هامان فأسرع إلى بيته نائحًا ومغطي الرأس" [12].
إذ كُرم مردخاي في ساحة المدينة ونال مجدًا لم يكن يتوقعه أحد عاد إلى بيت الملك مرفوع الرأس، أما هامان الذي كان يسجد له الكل فخجل ورجع إلى بيته نائحًا ومغطي الرأس. وكانت تغطيه الرأس بالنسبة للرجل علامة الحزن الشديد والعار، فعندما هرب داود من أمام إبنه أبشالوم "كان يصعد باكيًا، ورأسه مغطى، ويمشي حافيًا، وجميع الشعب الذي معه غطوا كل واحد رأسه" (2 صم 15: 30). وعندما خزى أشراف يهوذا بسبب القحط الشديد ورجوعهم من الأجباب بأوان فارغة غطوا رؤوسهم (إر 14: 3).
على كلٍ عاد مردخاي إلى بيت الملك كأنه بيته الخاص به، إذ أعلن الملك أنه المحبوب لديه، وعاد هامان إلى بيته مملوءًا عارًا وخريًا. وكأن مردخاي يُشير إلى النفس الممجدة في الرب الغالبة بالروح القدس فإنها تنطلق إلى السموات "بيت الملك" كما لو كانت بيتها ومسكنها الخاص، أما النفس الشريرة الساقطة كهامان فلا ترجع إلى الحياة الفردوسية إنما تسرع إلى بيتها، أي إلى (الأنا)، فتحيا متقوقعة حول ذاتها، مملوءة حزنًا وخزيًا. تعيش بغطاء الرأس، فتضع برقعًا على عقلها كي لا ينطلق ليرى الإلهيات ويعاين السموات ويسبح في الأبديات.
عاد هامان إلى بيته ليلتقي مع زرش زوجته وحكمائه (السحرة) ليعلنوا له سقوطه، فيحطموا نفسه بالأكثر، إذ قالوا له: "إذا كان مردخاي الذي إبتدأت تسقط قدامه من نسل اليهود فلا تقدر عليه بل تسقط قدامه سقوطًا..." [13]. لعلهم تنبأوا له بما سيحل به، أو لعلهم أدركوا أن ما كانوا يحلمون به طوال الليل قد إنقلب راسًا على عقب وهذا لن يكون محض صدفة إنما تحقق بيد خفية قوية. هنا شعروا أن ما حدث اليوم إنما هو بداية انهيار لهامان وسقوط حتى النهاية، لذا لم يستطيعوا أن يقدموا له كلمة تشجيع أو رجاء.
يبدو أن هذه الكلمات حطمته حتى صار متراخيًا في الذهاب إلى وليمة أستير، إذ قيل: "وفيما هم يكلمونه وصل خصيان الملك وأسرعوا للإتيان بهامان إلى الوليمة التي عملتها أستير" [14].
خرج هامان إلى الوليمة بروح مغايرة لما كان عليه حين تلقى الدعوة بالأمس، إذ صار كغنمة تُساق إلى الذبح. حقًا "مخيف هو الوقوع في يد الله الحيّ" (عب 10: 31)، وكما يقول المرتل: "تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم؛ معروف هو الرب، قضاءً أمضى، الشرير يعلق بعمل يديه" (مز 9: 15-16).
نهَاية هَامَان
في وليمة أستير نرى صورة حية لوليمة الصليب التي فيها تنعم أستير الحقيقية (الكنيسة) بالخلاص من الهلاك والقتل والابادة [4]، وفيها ينكشف هامان الحقيقي (إبليس) فيسقط تحت قدميها في مذلة ويُغطي وجهه ويُسحب إلى الصليب حيث يفقد سلطانه بل وحياته.
1. الملك وهامان يشربان [1].
2. رضى الملك عن أستير [2-4].
3. كشف هامان الرديء [5-6].
4. مذلة هامان أمام أستير [7-8].
5. صلب هامان [9-10].
1. الملك وهامان يشربان:
"فجاء الملك وهامان ليشربان عند أستير الملكة" [1].
ما هي هذه الوليمة التي قدمتها أستير ليشرب فيها الملك وهامان إلاَّ وليمة الصليب التي تقدمها الكنيسة للملك، أي لله، الذي يُسر بذبيحة المخلص ويشتمها رائحة سرور؛ لذلك يُصلي الكاهن: "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة"[36].
إن كان الملك بفرح شرب في وليمة الصليب واشتم رائحة حب إبنه الحبيب فقد شرب هامان في ذات الوليمة كأس غضب الله عليه وعلى أعماله الشريرة. الوليمة التي أبهجت قلب الله بكنيسته حطمت إبليس وكشفت خداعاته ونزعت سلطانه.
2. رضى الملك على أستير:
إذ دخل الملك إلى الوليمة وشرب من محبة أستير له، قال لها: "ما هو سؤلك يا أستير الملكة فيعطى لك؟ وما هي طلبتك؟ ولو إلى نصف المملكة تُقضى" [2]. إنه يناديها باسمها، ويسألها أن تطلب ولو إلى نصف مملكته، إذ حسبها له، شريكه معه في مجده. وفي نفس الوقت يدعوها "الملكة" ليذكرها بمركزها الملوكي فمن حقها أن تطلب بدالة وجرأة لتنال قلب الملك ومجده أيضًا.
إنها مشاعر الله وكلماته لكل نفس، يُناديها بإسمها كعروسه الخاص به وحده، ويدعوها ملكة حتى تدخل إلى عرش نعمته بثقة (عب 4: 16)، ويسألها أن تفرح قلبه بسؤالها إياه أن تأخذ ولو إلى نصف مملكته. لهذا يحث السيد تلاميذه: "إلى الآن لم تطلبوا شيئًا بإسمي، أطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً" (يو 16: 24).
الله يشتاق أن تسأله كل نفس لتنال، فإنه يود أن يهبها حتى ذاته ويجعلها وارثة تنعم بشركة أمجاده. أمام هذا الحب الإلهي الفائق ماذا تطلب الكنيسة أو النفس البشرية كعضوة في الكنيسة؟ إنها كأستير لا تطلب مالاً ولا كرامة ولا بركة أرضية، إنما طلبت من أجل خلاص نفسها وخلاص إخوتها، إذ قالت: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك أيها الملك وإذا حسن عند الملك فلتعط ليّ نفسي بسؤلي وشعبي بطلبتي، لأننا قد بعنا أنا وشعبي للهلاك والقتل والابادة، ولو بعنا عبيدًا أو إماء لكنت سكت مع أن العدو لا يعوض عن خسارة الملك" [3-5].
ماذا تطلب أستير وقد تعرضت حياتها وحياة شعبها للهلاك والقتل والإبادة؟!
هنا تبرز أستير كأم حقيقية تحتضن بالحب كل إخوتها، تعمل وتطلب من أجل خلاص الجميع. لم تقف في سلبية أمام إخوتها، وإنما تذللت وصلت وجاهدت حتى النهاية من أجل خلاصهم. فالحياة الإيمانية تنطق بالإنسان خارج الأنا ليعيش بفم مفتوح وقلب متسع للجميع (2 كو 6: 11). هذا ما أعلنه الرسول حين قال: "فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون، قلبنا متسع... لذلك أقول كما لأولادي كونوا أنتم أيضًا متسعون" (2 كو 6: 11، 13). وبنفس الروح يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يجعل الإنسان مثل المسيح كاهتمامه بقريبه[37]]، [لا أقدر أن أصدق خلاص إنسان لا يعمل من أجل خلاص أخيه[38]]، [ليس شيء تافهًا مثل مسيحي لا يهتم بخلاص الآخرين... كل أحد يقدر أن يعين أخاه حتى ولو بالإرادة الصالحة إن لم يكن له في قدرته أن يفعل شيئًا... إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئًا للآخرين يكون في قولك هذا تناقضًا، وذلك كالقول أن الشمس لا تقدر أن تهب ضوءًا[39]].
3. كشف هامان الرديء:
إذ سأل الملك عن العدو الذي باع أستير وشعبها للهلاك والقتل والابادة، قالت: "هو رجل خصم وعدو هذا هامان الردي، فإرتاع أمام الملك والملكة" [6].
إن كان عمل وليمة الصليب الأول هو خلاص أستير (الكنيسة) وشعبها، فهذا لن يتحقق إلاَّ بفضيحة هامان الردي وفقدانه كل سلطان ليقف مرتاعًا أمام الله والكنيسة المقدسة. وكما يقول القديس بولس: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جبارًا ظافرًا بهم فيّه (في الصليب)" (كو 2: 15). يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الصليب، قائلاً: [به لم تعد الشياطين مرعبة بل تافهة ومزدرى بها. به لم يعد الموت موتًا بل رقادًا، فقد إنطرح الذي يُحاربنا تحت أقدامنا[40]].
4. مذلة هامان أمام أستير:
إن كان الصليب قد فضح الشيطان وكسر شوكته وأفسد الموت الذي جلبه على الإنسان، وصار منطرحًا تحت قدمي المخلص، فقد دخل في مذلة أمام الإنسان الذي يملك بدونه. هذا المفهوم إنكشف في سقوط هامان عند قدمي أستير الجالسة على السرير كعادة الشرق قديمًا في الولائم... وإذ كان الملك قد خرج إلى جنة القصر ربما ليفكر ماذا يعمل، عاد ليجد هامان هكذا في مذلة يتوسل وهو متواقع على السرير فقال: "هل أيضًا يكبس الملكة معي في البيت؟!" [8]. إنه لم يشك في شيء إذ يعرف مرارة نفس هامان في تلك اللحظة، لكن كلماته هذه إنما جاءت لتعبر عن ثورته الداخلية... كانت مؤشرًا للواقفين عن غضب الملك ووضع نهاية لحياة هامان.
ما قاله الملك: "هل أيضًا يكبس الملكة معي في البيت؟!" إنما تعلن عن نظرة الله إلى هامان الحقيقي أي إبليس الذي يدخل إلى قلب المؤمن ليغتصب النفس من يد الله وحضنه، وكأنه بهامان الذي يود أن يسحب أستير من حضن الملك ويغتصبها! الله إله غيور، لا يطيق أن يدخل العدو إلى بيته، ويغتصب عروسه من بين يديه!
5. صلب هامان:
إذ أعلن غضبه على هامان، "غطوا وجه هامان. فقال حربونا واحد من الخصيان الذين بين يدي الملك: هوذا الخشبة أيضًا التي عملها هامان لمردخاي الذي تكلم بالخير نحو الملك قائمة في بيت هامان ارتفاعها خمسون ذراعًا، فقال الملك: أصلبوه عليها" [8-10].
هكذا بعدل صُلب هامان على ذات الخشبة التي عدها ظلمًا لمردخاي، وكما قيل: "الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه" (أم 11: 8)، "الشرير فدية الصديق ومكان المستقيمين الغادر" (أم 21: 18)، "الشرير يعلق بعمل يديه؛ في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم" (مز 9: 15-16). "كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو 15)، "بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم" (مت 7: 2).
لقد تهلل الشيطان بالصليب وأثار أعوانه لتحقيقه، ولم يدرك أن ما يفعله إنما يرتد عليه. وكما يقول القديس جيروم: [على الصليب خزى الشيطان وكل جيشه، بالتأكيد صلب المسيح جسديًا وإذا به يصلب الشياطين على الصليب[41]].
وليمة الفوريمُ
ص 8-10
v مقدمة في عيد الفوريم
v الإستعداد للعيد [ص 8].
v إقامة العيد [ص 9].
v عظمة مردخاي [ص 10].
كلمة "فوريم" هي جمع "فور" وتعني (قرعة). وقد اُقيم عيد الفوريم تذكارًا لعمل الله الفائق مع شعبه، إذ انقذه من المذبحة العامة التي أعدها هامان ضد اليهود في الإمبراطورية الفارسية بعد أن ألقى السحرة (الحكماء) القرعة وحددوا لهامان اليوم المناسب لتنفيذ المذبحة وهو اليوم الثالث عشر من الشهر الثاني عشر أي آذار (فبراير - مارس).
إذ خلص الله شعبه على يد مردخاي وأستير تحول يوم المذبحة إلى يوم لهلاك أعدائهم، وعوض الخزي تمتعوا بالمجد، فعيد اليهود بهذا العيد في يومي الرابع عشر والخامس عشر من هذا الشهر. وكان هذا العيد يمارس في أيام المكابيين في القرن الثاني ق.م بإسم "يوم مردخاي" (2 مك 15: 37). وذكر يوسيفوس المؤرخ أنه في أيامه كان اليهود يحفظون هذا العيد في العالم كله[42].
ويتلخص طقس هذا العيد في الآتي[43]:
1. يصوم اليهود في اليوم الثالث عشر من شهر آزار، فإن كان سبتًا يبدأون بيوم 11 من الشهر.
2. في المساء حيث يبدأ اليوم الجديد حسب الطقس اليهودي، يجتمع اليهود في مجامعهم في العالم، وبعد تقديم الصلاة المسائية يقرأون سفر أستير.
عند ذكرهم إسم هامان أثناء قراءة السفر، يصرخ كل المصلين، قائلين: "ليُمح إسمه"، أو "سيُبيد إسم الشرير"!
كانت أسماء أبناء هامان تتلى بسرعة في نفس واحد إشارة إلى صلبهم معًا.
3. يعود الشعب إلى المجمع في اليوم التالي لإتمام فرائض العيد الدينية ثم يصرفون النهار بابتهاج وفرح أمام الرب، وكان الأغنياء يقدمون عطايا للفقراء.
الإستعداد للعيد
تحوّلت المذبحة العامة لليهود إلى عيد مفرح يمتد في حياتهم إلى أجيال وقد هيأ الله لهذا العيد الأحداث التي تمت بعد وليمة أستير، جميعها تكشف عن مفهوم العيد الحقيقي للفوريم.
1. أستير وبيت هامان [1].
2. مردخاي وخاتم الملك [2].
3. امتثال أستير أمام الملك [3-4].
4. إصدار المرسوم الملكي الجديد [5-14].
5. مردخاي الممجد وشعبه [15-17].
1. أستير وبيت هامان:
"في ذلك اليوم أعطى الملك أحشويروش لأستير الملكة بيت هامان عدو اليهود" [1].
لقد طلب هامان من أعوانه أن يلقوا قرعة ليحددوا يومًا يرث فيه هامان كل ما لليهود بعد أن يقتلهم، فإذا بهامان يُسلم للموت ويعطى الملك بيته في يدي أستير اليهودية.
إن كان هامان الحقيقي، إبليس، قد وضع في قلبه أن يغتصب قلب الإنسان ويرثه بعد أن يحطمه ويهلكه، فخلال وليمة الصليب استولى الإنسان على مركز الشيطان قبل السقوط، وصار كمن قد دخل إلى الطغمات السماوية كواحد منها. ويرى بعض الآباء أن الطغمات السماوية سبع بجانب الشاروبيم والسيرافيم، وقد صار الإنسان أشبه بالطغمة العاشرة عوض إبليس الذي كان كوكب الصبح القائم في حضرة الله. سقط العدو إلى الهاوية ليقوم الإنسان ويرتفع إلى السماء ويملك عوض العدو الساقط!
إن كان الشيطان قد أقام نفسه رئيسًا لهذا العالم باغراءات الخطية (يو 12: 31)، مغتصبًا بيت الإنسان الذي وهبه لنا الله لنسكن فيه بسلطان، فخلال وليمة الصليب لم يسترد الإنسان بيته فحسب إنما إرتفع بالرب إلى الفردوس. في هذا يحدث القديس غريغوريوس النيسي طالبي العماد، قائلاً: [إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون. إنكم تشاركون آدم أباكم الأول في نفيه. والآن يُفتح الباب وتعودون من حيث خرجتم[44]].
إن كان عيد الفوريم هو عيد إبطال قرعة هامان لإبادة المؤمنين، ليعلن الرب أنهم نصيبه، وارثو بيت العدو الساقط، ومتمتعون بالدخول إلى السماء عينها.
2. مردخاي وخاتم الملك:
"ونزع الملك خاتمه الذي أخذه من هامان وأعطاه لمردخاي" [2].
عندما عاد الإبن الضال إلى أبيه قال الأب: "إجعلوا خاتمًا في يده" (لو 15: 22)، علامة البنوة الحقة وتأكيد لسلطانه البنوي. هكذا يتمتع المؤمن – مردخاي – بخاتم الملك كقول الإنجيلي: "كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون بإسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يو 1: 13). هذا هو الخاتم الملكي "السلطان البنوي" الذي نناله بالروح القدس في مياه المعمودية. لهذا تحدث آباء كثيرون عن المعمودية كختم للنفس، مثل القديس أكليمندس الروماني[45]، وهرماس[46]، والعلامة ترتليان[47]، والقديس يوحنا الذهبي الفم[48]. يقول القديس أغسطينوس عن هذا الختم: [تمسك بما نلته فإنه لن يتغير، إنه وسم ملكي[49]]. بهذا الختم ندخل في ملكية الله كقول الأب ثيؤدور المصيصي: [العلامة التي تتسمون بها الآن إنما هي علامة أنكم قد صرتم قطيع المسيح[50]]. بهذا الختم أيضًا ندخل في الجندية الروحية، وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم[51]].
بهذا الختم إذ ننعم بسلطان البنوة فنحيا في ملكية الله كأولاد له، ونعيش مجاهدين روحيًا كجنود له ننعم بالعيد الأبدي، إذ نرث المجد الذي لا يفنى. وكما يقول الرسول: "الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله، فإن كنا أولادًا فإننا ورثة الله، ووارثون مع المسيح" (رو 8: 16-17).
3. إمتثال أستير أمام الملك:
إن كان مردخاي قد نال ختم الملك علامة التمتع بالعيد الأبدي، فإن أستير تمتعت بالإمتثال أمام الملك، هذا الإمتثال في حضرته هو "العيد" الحق، حيث تنعم الكنيسة بمعية الله، وسكناه في داخلها، ودخولها إلى حضنه.
يقول الكتاب: "ثم عادت أستير وتكلمت أمام الملك وسقطت عند رجليه وبكت وتضرعت إلى أن يزيل شر هامان الأجاجي وتدبيره الذي دبره على اليهود، فمد الملك لأستير قضيب الذهب، فقامت أستير ووقفت أمام الملك" [3-4].
العيد الحقيقي هو لقاء مع الرب أو وقوف قدامه، إنه قيام بعد سقوط كقول الكتاب عن أستير: "سقطت عند رجليه... فمد الملك لأستير قضيب الذهب فقامت...". بمعنى آخر العيد هو دخول إلى خبرة القيامة خلال الصليب (القضيب الذهبي).
ليتنا ننطلق مع أستير إلى الملك وفي إنسحاق نعلن سقوطنا عند رجليه لنبكي معها ونتضرع من أجل مرارة تدابير إبليس ضدنا، ليمد الرب يده خلال صليبه السماوي واهب الحياة، فنقوم ونوجد معه أبديًا.
4. إصدار المرسوم الملكي الجديد:
بهامان صدر المرسوم الأول الذي فيه كان الحكم بالموت والآن بمردخاي وأستير، خلال وليمة أستير أي وليمة الصليب، تمزق المرسوم الأول (كو 2: 15) وصدر لحسابنا مرسومًا جديدًا فيه تعلن بنوتنا لله وهلاك أعدائنا (إبليس وجنوده).
ما أجمل كلملت أستير (الكنيسة) للملك وهي تشفع في شعبها: "لأنني كيف أستطيع أن أرى الشر الذي يصيب شعبي؟ وكيف أستطيع أن أرى هلاك جنسي"؟ [6]. هذه هي مشاعر الكنيسة نحو كل نفس، مشاعر الرعاة والرعية وأيضًا فالكل ملتهب بحب خلاص الآخرين. هذه المشاعر قد تجسمت في كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم الذي لا يكف عن الصلاة والعمل من أجل خلاص كل نفس. فمن كلماته: [ليس شيء أحب إليَّ أكثر منكم، لا، ولا حتى النور! إنيّ أود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر – إن أمكن – من أجل توبة نفوسكم. عزيز عليَّ جدًا خلاصكم، أكثر من النور نفسه!... لأنه ماذا تفيدنيّ أشعة الشمس إن أظلم الحزن عيني بسببكم؟!... أي رجاء يكون ليّ إن كنتم لا تتقدمون؟! وعلى العكس أي يأس يقدر أن يدخل إليَّ مادمتم نامين؟! فإننيّ إذ أسمع عنكم أخبارًا مفرحة أبدو كمن قد صار ليّ أجنحة... تمحوا فرحي! هذا هو كل ثقل صلواتي، إنيّ مشتاق إلى نموكم... إنيّ أحبكم، حتى أذوب فيكم، وتكونون ليّ كل شيء، إبي وأمي وإخوتي وأولادي[52]].
خلال هذا الحب الذي قدمه مردخاي وأستير صدر المرسوم الملكي الجديد، ورد نصه في تتمة أستير (ص 16)، جاء فيه:
أولاً: دينونة هامان كمتكبر: "إن كثيرين يسيئون إتخاذ المجد الممنوح لهم فيتكبرون" [2]. ففي المنشور السابق كان أحشويروش يحسب هامان أبًا له، والآن يدينه كمتكبر. هكذا إذ نسقط في الخطية نحسب العدو أبًا، لكن بعد وليمة الصليب إنفضحت حقيقته كخليقة متكبرة أساءت عطية الله لها.
ثانيًا: حسب الملك أن ما أصاب الشعب أصابه هو شخصيًا [3-12] وأن هامان أراد خداع العظماء والرؤساء الذين أقامهم الملك. هكذا بالصليب يحسب الرب كل مقاومة إبليس لنا وكل خداع إنما يوجهه إلى مملكته وتمس الله نفسه بكوننا له.
ثالثًا: دعا الشعب: "هم بنو الله العلي العظيم الحيّ إلى الأبد، الذي بإحسانه سلم المُلك إلى آبائنا وإلينا وما برح محفوظًا إلى اليوم" [16]. هكذا خلال الأحداث لمس الملك الوثني يد الله، فصارت التجربة سرّ بركة، حتى ترك الكثيرون الوثنية وآمنوا بالله الحيّ. فإن كان اليهود قد خلصوا من الإبادة حسب الجسد، فإن الكثيرين من الوثنيين خلصوا من موت العبادة الوثنية.
5. مردخاي الممجد:
"وخرج مردخاي من أمام الملك بلباس ملكي اسمانجوني وأبيض وتاج عظيم من ذهب وحلة من بزّ وأرجوان وكانت مدينة شوشن متهللة وفرحة" [15].
لم يكن ممكنًا لمدينة شوشن أن ينزع عنها ثياب الحداد وتدخل إلى حياة التهليل والفرح ما لم يتمجد مردخاي أولاً أمام الملك ويرتدي الباس الملوكي والتاج الذهبي والحلة التي من البزّ والأرجوان. هكذا ما كان يمكن للكنيسة أن تتمتع بالتهليل السماوي والفرح الروحي ما لم يتمجد عريسها المسيح يسوع، فيرتفع إلى أبيه، وكما أنه من أجلنا أخلى ذاته فمن أجلنا أيضًا تمجد لكي يمجدنا معه، فنلبس معه الثوب الملكي الاسمانجوني وأبيض، أي الثوب السماوي (الاسمانجوني) النقي (أبيض). بالمسيح يسوع نصير ملوكًا (رؤ 1: 6) نلبس الطبيعة السماوية المملوءة نقاوة. به أيضًا نتمتع بالتاج السماوي (الذهبي)، ونلبس حلة البر (البزّ) الملوكية (الأرجوان لباس الملوك).
إذ تمجد مردخاي "كان لليهود نور وفرح وبهجة وكرامة... كثيرون من شعوب الأرض تهودوا لأن رعب اليهود وقع عليهم" [16-17]. هكذا إذ تمجد السيد المسيح بالمجد الذي له من الأزل، تتمتع الكنيسة بالنور أي الإستنارة، وبهجة الروح، والكرامة الداخلية...
هنا إذ تتمجد الكنيسة بالمسيح الممجد نذكر الحلم الذي رآه مردخاي في تتمة أستير وتفسيره (تكملة ص 10، ص 11). فقد رأى مردخاي كأن أصواتًا وضوضاء ورعودًا وزلازل في الأرض، وإذا بتنينين عظيمين متهيئان للإقتتال، وقد تهيجت الأمم وصرخ الأبرار إلى الله وإذا ينبوع صغير تكاثر فصار نهرًا عظيمًا وفاض بمياه كثيرة ثم إنقلب فصار نورًا وشمسًا. ما هذه الأصوات إلاَّ أصوات الناموس ورموز العهد القديم التي سبقت مجيء الكلمة لتعلن الحرب الروحية القائمة لا بين هامان ومردخاي (التنينين العظيمين) وإنما بين الشيطان والسيد المسيح، وهذا الينبوع الصغير الذي هو أستير فصار عظيمًا على الشعب وصار نورًا وشمسًا إنما يُشير إلى الكنيسة التي إنطلقت خلال السيد المسيح الذي بتجسده إتضع فصار كينبوع صغير حتى يفيض علينا بروحه القدوس ويشرق فينا ببهاء لاهوته بكونه نور العالم وشمس البر.
لقد حمل الحلم تفسيرًا لأحداث الخلاص في أيام أستير، وحمل تفسيرًا رمزيًا لأحداث الخلاص الحقيقي الذي تحقق بالسيد المسيح نفسه.
إقَامة العيدُ
إذ كان اليوم الثالث عشر محددًا لابادة اليهود تحول الحزن إلى فرح، إذ قتل اليهود أعداءهم في ذات اليوم، وصار اليومان الرابع عشر والخامس عشر عيدًا مفرحًا يعيده اليهود سنويًا:
1. غلبة اليهود وتسلطهم [1-10].
2. أستير تضاعف الضربة [11-19].
3. مردخاي يؤسس العيد [20-32].
1. غلبة اليهود وتسلطهم:
إذ وصل إلى كل الكور منشوران ملكيان أحدهما أرسله هامان من شوشن القصر بتاريخ 13 من الشهر الأول فيه يطلب قتل اليهود وابادتهم، والثاني أرسله مردخاي من شوشن القصر أيضًا بتاريخ 23 من الشهر الثالث يخول لليهود السلطة بأن يشهروا السيف ضد أعدائهم دفاعًا عن أنفسهم، فقد حل يوم 13 من الشهر الثاني عشر واعتزم أعداء اليهود على محاربتهم استنادًا على المنشور الأول، أما اليهود فاستندوا على المنشور الثاني وقاموا بمحاربتهم فأعطاهم الرب مهابة إذ "لم يقف أحد قدامهم لأن رعبهم سقط على جميع الشعوب، وكان رؤساء البلدان والمرازبة والولاة وعمال الملك ساعدوا اليهود لأن رعب مردخاي سقط عليهم" [2-3].
إن كان العدو (إبليس) يهيج على الكنيسة، لكنه فيما يظن أنه قادر على الغلبة ينهزم تحت قدميها، وكما يقول الرب نفسه: "أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت 16: 18)، كما يقول لكنيسة فيلادلفيا: "هنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان من القائلين أنهم يهود وليسوا يهودًا بل يكذبون هنذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك ويعرفون أنيّ أنا أحببتك" (رؤ 3: 9).
أعد هامان الخشبة لمردخاي فصُلب هو عليها، وصلب أولاده العشرة أيضًا [14]، وإذ دبر إبادة كاملة للشعب هلك كل أتباعه!
لقد بدأ الأعداء بمقاومة اليهود بالرغم من علمهم بالمنشور الثاني، وأرادوا أن يتسلطوا عليهم [1]، فهجموا عليهم، وتحالف الكل لأذيتهم [2]، فكان ذلك لخزيهم. ويقول التقليد اليهودي أنه لم يقف أحد ضد هذا الشعب في ذلك الحين غير العمالقة الذين تقسى قلبهم كفرعون، كما صمم أبناء هامان على الأنتقام لدم أبيهم مهما كلفهم الأمر.
يقول الكتاب: "إجتمع اليهود في مدنهم في كل بلاد الملك أحشويروش ليمدوا أيديهم إلى طالبي أذيتهم فلم يقف أحد قدامهم لأن رعبهم سقط على جميع الشعوب" [2].
هذا التحرك الجماعي يحمل مفهومًا روحيًا يمس حياتنا في الرب، فاجتماع اليهود في مدنهم في كل بلاد الملك إنما يُشير إلى تكريس كل حواس الإنسان ودوافعه وطاقاته، كل موهبه في مكانها مادامت في بلاد الملك، أي خاضعة لملكوت الله، فتعمل جميعها معًا بروح واحد وفكر واحد لمقاومة إبليس بكل أفكاره واغراءاته التي تمثل عداوة تطلب إذيتنا. بهذا لا يقف أحد قدامنا، أي لا تقدر خطية أن تسيطر علينا مادام كل ما فينا هو للرب، ونصير في عيني إبليس مهوبين ومرعبين له.
يكمل الحديث هكذا: "وكل رؤساء البلدان والمرازبة (الوكلاء) والولاة وعمال الملك ساعدوا اليهود لأن رعب مردخاي سقط عليهم" [4].
إجتمع اليهود للعمل بروح واحد فكانوا مرعبين للعدو، وكان يسندهم أيضًا المسئولون بسبب مهابة مردخاي. أقول أنها صورة للجهاد الروحي، فاجتماع اليهود في مدنهم كما قلت يُشير إلى تحفز الحواس والطاقات الداخلية للجهاد الروحي خلال حياة التقديس، أما الرؤساء والوكلاء والولاة وعمال الملك فيشيرون إلى المساندة الخارجية للإنسان كمعاونة الطغمات السمائية وجماعة القديسين الراقدين في الرب وصلوات المجاهدين... فالإنسان الحيّ في الرب يحمل قوة في داخله وعونًا أيضًا خلال الجماعة المقدسة سواء على مستوى الراقدين أو المجاهدين، لذا يقول الرسول: "لذلك نحن أيضًا إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" (عب 12: 1).
إذ حمل الشعب قوة الروح ووحدتها في الداخل ومساندة إلهية من الخارج ضربوا أعداءهم... وبلغ عدد القتلى في شوشن القصر خمسمائة رجل، كما قُتل أولاد هامان العشر... ولم يمد الشعب يده للنهب بالرغم من سماح الملك لهم بذلك (8: 11). لعلهم أرادوا تأكيد نيتهم أمام الكل، أنهم لم يطمعوا ماديًا ولا إستخدموا منشور الملك لتحقيق أهداف خاصة إنما طلبوا نجاتهم. ولهذا السبب أيضًا لم يقتلوا الأطفال والنساء بالرغم من التصريح لهم بذلك (8: 11).
2. أستير تضاعف الضربة:
إذ عرض الملك على أستير عدد القتلى في شوشن القصر (خمسمائة رجل وأبناء هامان العشرة) طلبت منه أن يسمح لهم بقتل أعدائهم في اليوم التالي أيضًا مع صلب بني هامان على الخشبة. لم تطلب أستير هذا الأمر حبًا في سفك الدماء وإنما ربما أدركت أن العدو لأزال يدبر لهم الخطط لانجاح خطة هامان، فأرادت أن تضع للأمر نهاية، أما صلب بني هامان فليكون ذلك عبرة لمن تسول له نفسه أن يدبر شرًا.
على أي الأحوال، ما فعلته أستير يُشير إلى إلتزام المؤمن بضرب أعمال إبليس حتى النهاية، فلا يترك له بقية في داخل القصر (القلب) حتى لا يعود العدو ينهض ويحارب النفس من جديد. لنقطع من قصر حياتنا الداخلية كل جذر للخطية حتى يكون القصر مقدسًا لحساب الرب.
هذا بالنسبة لشوشن القصر أما بالنسبة لكل الكور فالتزمت بقرار الملك أن يكون الأنتقام في اليوم الثالث عشر وحده ولم يعط يومًا آخر.
3. مردخاي يؤسس العيد:
أرسل مردخاي إلى جميع اليهود في كل البلدان التابعة لمملكة فارس لكي يعيدوا في اليومين الرابع عشر والخامس عشر من شهر آزار من كل عام تذكارًا لعمل الرب معهم، وأن يقدموا عطايا وهبات للفقراء. فكما أهتم الرب بهم وأنقذ حياتهم، يهتم كل واحد بقريبه، ولا يتجاهل الفقير والمسكين... وقد دُعي هذا العيد بإسم "عيد الفوريم". وقد تحدثنا عن طقسه.
أرسلت أيضًا أستير مع مردخاي يؤكدان ضرورة الأحتفال بالعيد، كتسبحة شكر لله الذي يعمل لحساب أولاده. وكما يقول القديس جيروم: [أستير رمز الكنيسة عتقت شعبها من الخطر، وإذ ذبحت هامان الذي يعني إسمه (الظلم) سلمت للأجيال يومًا تذكاريًا وعيدًا عظيمًا[53]].
عظمة مردخاي
قدم لنا هذا الأصحاح صورة عن عظمة أحشويروش الذي خضعت له كور كثيرة تقدم له الجزية، وكان الرجل الثاني مردخاي "عظيمًا بين اليهود ومقبولاً عند كثرة إخوته طالبًا الخير لشعبه ومتكلمًا بالسلام لكل نسله" [3]. وكان سرّ عظمته هو إتساع قلبه بالحب لإخوته، وحديثه بالسلام من أجل أولاده. لقد صار سرّ بركة لجيلة وللأجيال المقبلة خلال محبته الفائقة.
إن كان الشعب كله قد تمجد بخلاصه من العدو، فمردخاي وهو لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين تمجد أكثر فأكثر.
وفي تتمة أستير يكمل هذا الأصحاح باستعراض حلم مردخاي الذي فيه أكد الله له أنه يعمل به وبأستير لخلاص إخوتهما، وقد سبق لنا الحديث عن هذا الحلم.
إلهنا الصالح الذي أعطى لأستير ومردخاي نعمة الفم المفتوح والقلب المتسع بالحب من أجل إخوتها يفتح قلوبنا لبنيان كل نفس لمجد الله!
[1] J.Raven: Introd. To O.T. P 312.
[2] Edward J. Young: An Introd. To the O.T. P 349.
[3] History 9: 108-113.
[4] Ibid 3: 97, 98, 7: 9.
[5] In Matt. Hom. 19: 4.
[6] Ibid 19: 3.
[7] To His wife 2: 9.
[8] Ep. 125: 4.
[9] Herod. His. 9: 108-113.
[10] On Ps. 85.
[11] On Ps. 11.
[12] De Myst. 7.
[13] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، ص 327.
[14] In Paralyt. PG 51: 51.
[15] للمؤلف: الحب الإلهي: ص 16، 16.
[16] Herodotus 7: 136.
[17] Demonstration 21, On Persection 20.
[18] Ep. 22: 21.
[19] D.J. Wiseman: Illustrations From Biblical Archaeology, P 76.
[20] Dem. 21. On Persecution 20.
[21] Ep. 63: 26.
[22] Ep. 1: 55.
[23] Constitution of the Holv Apostles 5: 20
[24] Duties of the Clergy 3: 2.
[25] Conc. Statues 3: 6.
[26] On Ps. 52.
[27] Ep. 130: 4.
[28] راجع تفسير يشوع 3: 3، خروج 5: 3.
[29] Against 2 letters of the Pelagians, ch 38 (20).
[30] Herodotus 1: 99; 3: 118.
[31] راجع تفسير الخروج.
[32] In Acts hom 38.
[33] A.J. Wensinck: Mystical Treatises St. Isaac Syrian, P 219.
[34] راجع تفسير حزقيال أصحاح 28.
[35] Dem. 21, On Persecution 20.
[36] القداس الإلهي: بخور السيد.
[37] In: Cor. Hom 25. PG 61: 208.
[38] De Sacer. 3: 10. PG 48: 686.
[39] In Acts hom 20: 4 PG 60: 162.
[40] In Matt. Hom 54: 7.
[41] On Ps, hom 21.
[42] Antiq. 11: 6, 3.
[43] New Westminister Dict. Of the Bible, P 782.
[44] PG 46: 416 C.
[45] Ep. 7: 6.
[46] Sheph. Sim 9: 6: 3.
[47] De Pudic 9: 9.
[48] In 2 Cor. Hom 3: 7.
[49] In Ioan, Tr 16.
[50] Cat. Hom 13: 17.
[51] PG 33: 333 A, 428 A.
[52] In Acts hom3.
[53] Ep. 53: 8.